المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حاله أكرمه الله: - أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض - جـ ١

[المقري التلمساني]

الفصل: ‌حاله أكرمه الله:

أتى من المشرق إلى المغرب، واستوطن بشبوكة وهو شريف ويوسف أبوه كان رحمه الله جميل الوجه جدا شاعرا مجيدا فقيها وبرز عدلا في سماط شهود فاس واستخدمه أمير المؤمنين المتوكل على الله أبو عنان المريني شاهد في دار صناعته وأحمد والد يوسف كان فقيها صوفيا ومحمّد والد أحمد كان فقيها صالحا ويوسف والد محمّد كان فقيها عالما صالحا مكاشفا مجاب الدعوة من أمل الطبقة العليا في الصلاح وأبو على الله كتب الوثيقة بشهود فاس.

‌حاله أكرمه الله:

هو فارس القريض وحامل لوائه الطويل العريض وله وجه وسيم وحياء جسيم وسمو همته لم يبلغ إنسان ولم ولم يسمع بمثلها في سالف الأزمان ويؤثر عزة نفسه على هواه ويختار مهيع السمو على ما ساه وأنشدني لنسه يمدح أمير المؤمنين أبا فارس عبد العزيز المريني بعد قتل لوزيره المتغلب على أمره عمر بن عبد الله بن علي الياباني وحرضه على قتال الشيخ أبي ثابت عامر بن محمّد بن علي الهنتاتي صاحب جبل هنتاتة من حوز مراكش حين خرج عليه به بالسلطان المعتمد على الله أبي الفضل محمّد بن أخي السلطان عبد العزيز هذا:

أبان في حبه ما قال عاذله

دمع جرى فوق صفح الخد هامله

فبات من وطأة التفريق ذا وجل

يستنجد الصبر عونا وهو خاذله

صب إذا ما بدا بالرقمتين له

وميض برق الحمى هاجت بلابله

يبكي لمنزل أنس بان آهله

وظاعن عنه عنه قد شطت منازله

يا حسن عصر بهم قضيته زمنا

رقت حواشيه إذ رقت أصالته

ص: 292

كأن صوب دموعي بعد بعدهم

سيب الملك إذا وافاه سائله

عبد العزيز الذي عزت بدولته

مراتب الحق والتاحت دلائله

وأصبح الملك في أمن وفي دعة

من الذي كان عالته غوائله

عادت بعيد لنا نضارته

فعاد يافعا واشتد كاهله

كالروض باكره طل على ظمأ

وجاده بعد ذلك الطل وابله

هو الإمام الذي من أم ساحته

جادت عليه بجدواها أنامله

ومن تخلف جهلا عن إجابته

سارت إليه على علم صواهله

قل للذي عنه أقضيته جرائمه

وعقلته عن العليا معاقله

زر حضرة الملك الميمون طالعه

تحظ بما أنت في دنياك آمله

فطبعه الصفح والمعروف شيمته

والحلم والصون والتقوى شمائله

أبلغ جميع العدا أن سوف يشملهم

من الظبي كل ماضي الحد فاصله

هذا المليك أتاهم في كتائبه

لنسخ آجالهم تنضي رواجله

بكل خرق طويل الباع متئد

مقصر عمر من تلقى مناصله

وجحفل فيه سمر الخط مشرعة

قد حجبت أنجم الشعري قساطله

سيعلم الغمر عقبي ما جناه إذا

كلت مواضيه وانفضت كلاكله

وحاط بالجبل البحر المحيط ولا

حت فوق أرؤسهم منه جداوله

فانهض إليهم أمير المؤمنين فقد

أعطيت كل المنى فيما تحاوله

من ذا ينازل جيشا أنت قائده

يوم الكريمة أو من ذا يناضله

ص: 293

إلاّ ترى المارق الرعيد حين عتا

وأضمر المكر صادته حبائله

ظن الضنين بأن يسمو ويعلو في

دنيا سمت وعلت فيها بواطله

قادرته الصعاد الزرق منجدلا

فوق الصعيد تناديه جنادله

دنياه تضحك من أحواله عجبا

به وفي الحي تبكيه أرامله

فليهن دين الهدى من بعد مدته

أن أنت يا ذا المحايا المطلق كافله

ينتصب قط في الدنيا لواء علا

إلاّ ومن آل عبد الحق حامله

مولاي مولاي دم ما عشت مصطبا

علا وفخرا عزا لا تزايله

إن سار جيشك فالتأكيد يقدمه النصر عاجله يقفوه آجله

انتهى كلام أبن الأحمر.

وأقارب هذا الشريف الشبوكي لم يزالوا إلى الآن ولهم مصاهرة مع ولينا الفقيه المحدث الحاج الرحال البركة القدوة الصالح الناصح أبي عبد الله سيدي محمّد بن الولي الصالح سيدي أبي بكر بن محمّد صاحب الدلا أبقى الله علاهم وألهم على ما أولاهم.

ولنرجع إلى أبن الخطيب فنقول: وقال رحمه الله وقد شاهد بجبل هنتاتة محمّد وفاة السلطان أبي الحسن المريني حيث أصابه طارق الأجل الذي فصل الخطة وأصمت الدعوة ورفع المنازعة وعاينه مرفها عن الابتذال بالسكنى مفترشا بالحصباء مقصدا بالابتهال والدعاء فلم يبرح يوم زيارة محل وفاته أن قال:

ص: 294

يا حسنها من أربع وديار

أضحت لباغي الأمن دار قرار

وجبال عز لا تذل أنوفها

إلاّ لعز الواحد القهار

ومقر توحيد وأس خلافة

آثارها تني عن الأخبار

ما كنت أحسب أن أنهار الندى

تجري بها جملة الأنهار

ما كنت أحسب أن أنوار الحجا

تلتاح في قنن وفي أحجار

مجت جوانبها البرود وإن تكن

شبت بها الأعداء جذوة نار

هدت بناها سبيل وفائها

فكأنها صرعى بغير عقار

لمّا توعدها على المجد العدا

رضيت بعيث النار لا بالعار

عمرت بجبلة عامر وأعزها

عبد العزيز بمرهف بتار

فرسا رهان أحرزا قصب الندى

والبأس في طلق وفي مضمار

ورثا عن الندب الكبير أبيهما

محض الوفاء ورفعة المقدار

وكذا الفروع تطول وهي شبيهة

بالأصل في ورق وفي أثمار

أزرت وجوه الصيد من هنتاتة

فب جوها بمطالع الأقمار

لله أي قبيلة تركت لها الن

ظراء دعوى الفخر يوم فخار

نصرت أمير المؤمنين وملكه

قد أسلمته عزائم الأنصار

وارت عليا عندما ذهب الردى

والروع بالأسماع والأبصار

تخاذل الجيش اللهام وأصبح الَ

أبطال بين تقاعد وفرار

ص: 295

كفرت صنائعه فيمن دارها

مستظهرا منها بعز جوار

وأقام بين ظهورها لا يتقى

وقع الردى وقد ارتمى بشرار

فكأنها الأنصار لمّا آنست

فيما تقادم غربة المختار

لمّا غدا لحظا وهم أجفانه

نابت شفارهم عن الأشفار

حتى دعاه الله بين بيوتهم

فأجاب ممتثلا لأمر الباري

لو كان يمنع من قضار الله ما

خلصت إليه نوافذ الأقدار

قد كان يأمل أن يكافئ بعض ما

أولوه لولا قاطع الأعمار

ما كان يقنعه لو امتد المدى

إلاّ القيام بحقها من دار

فيعيد ذلك الماء ذائب فضه

ويعيد ذاك الترب تبر نضار

حتى تفوز على النوى أوطانها

من ملكه بحلائل الأوطار

حتى يلوح على وجوه وجوههم

أثر العناية ساطع الأنوار

ويسوغ الأمل القصي كرامها

من غير ما ثنيا ولا استعصار

ما كان يرضى الشمس أو بدر الدجدى

عن درهم فيهم ولا دينار

أو أن يتوج أو يقلد هامها

ونحورها بأهلة ودرارى

حق على المولى ابنه إيثار ما

بذلوه من نصر ومن إيثار

فلمثلها ذخر الجزاء ومثله

من لا يضيع صنائع الأحرار

وهو الذي يقضي الديون وبره

يرضيه في علن وفي إسرار

ص: 296

حتى تحج محلة رفعوا بها

علم الوفاء لاعين النظار

فيصير منها البيت بيتا ثانيا

للطائفين إليه أي بدار

تغنى قلوب القوم عن هدى به

ودموعهم تكفي لرمي جمار

حييت من دار تكفل سعيها الَ

محمود بالزلفى وعقبى الدار

وضفت عليك من الإله عناية

ما كَرّ ليل فيك إثر نهار

وقال رحمه الله حين زار بخارج أغمات قبر المعتمد بالله أبي القاسم أبن عباد أمير حمص وقرطبة والجزيرة وما إلى ذلك الصقع الغربي ونصه كلامه الذي رتبه في ذلك أنه قال: وقفت على قبر المعتمد بالله بمدينة أغمات في حركة راحلة أعملتها إلى الجهات المراكشية باعثها لقاء الصالحين ومشاهدة الآثار عام واحد وستين وسبع مائة وهو بمقبرة اغمات في نشر من الأرض قد حفت به سدرة وإلى جنبه قبر اعتماد حظيته مولاة رميك وعليهما هيئة التغرب ومعاناة الخمول من بعد الملك فلا تملك العين دمعها عند رؤيتهما فأنشدت في الحال:

قد زرت قبرك عن طوع بأغمات

رأيت ذلك من أولى المهمات

لم لا أزورك يا أندى الملوك يدا

ويا سراج الليالي المدلهمات

وأنت من لو تخطى الدهر مصرعه

إلى حياتي لجادت فيه أبياتي

أناف قبرك في هضب يميزه

فتنتحيه حفيات التحيات

كرمت حيا وميتا واشتهرت علا

فأنت سلطان أحياء وأموات

ص: 297

مائ مثلك في ماض ومعتقدي

أن لا يرى الدهر في حال ولا آتي

وقال رحمه الله مخاطبا أحمد بن يوسف حفيد الولي الصالح سيدي أبي محمّد صالح النائم في ظل صيته رحمهم الله:

يا حفيد الولي يا وارث الفخ

رْ الذي نال مقال وحال

لك يا أحمد بن يوسف جبنا

كل قفر يعني أكف الرحال

ولمّا خرج رحمه الله من آسفي سار إلى منزل ينسب لأبي خدو فيه رجل من بني المنسوب إليه اسمه يعقوب قال في نفاضة الجراب فألطف وأجزل وآنس في الليل وطلبني بتذكرة تثبت عندي معرفته فكتب له:

نزلنا على يعقوب نجل أبي خدو

فعرفنا الفضل الذي ما له حدّثني

وقابلنا بالبشر واحتفل القرى

فلم يبق لحم ننله ولا زبد

يحق علينا أن نقوم بحقه

ويلقاه منا البر والشكر والحمد

وقال يخاطب السلطان:

أنت للمسلمين خير عماد

وملاذ وأي حرز حريز

لو رأى ما شرعت للخلق فيه

عمر الفاضل أبن عبد العزيز

لجرى ملكك المبارك خيرا

وقصى بالسيوف والتبريز

فاشكر الله ما استطعت بفعل

وبقول مطول أو وجيز

ص: 298

كل ملك يرى بصحبة أهل الْ

علم قد باء بالمحل العزيز

فإذا ما ظفرت منهم بإكسير

ملأت البلاد من إبريز

والبرايا تبيد والملك يفنى

أين كسرى الملوك مع أبرويز

وقال: أنشدت أبني عبد الله وقد وصل لزيارتي من الباب السلطاني حيث جرايته ووظيفته وانجر حديثما فقد بغرناطة في شجون الكلام:

يا بني عبد الإله احتسابا

عن أثاث ومنزل وعقار

كيف يأسي على خسارة جزة

من يرى الكل في سبيل الخسار

هدف لا تنى سهام الليالي

عن سباق تجاهه وبدار

واحد طائش وثان مصيب

ليس ينجى منها اشتمال حذار

غير ذي الدار صرف الهم فيها

فمناخ الرحيل ليس بدار

وقال: أنشدته وأمرته بحفظه والتأدب به واللهج نحكمته:

إذا ذهبت بيمينك لا تضيع

زمانك في البكاء على المصيبه

ويسراك اتنم فالقوس ترمي

وما تدري أرشقتها قريبه

وما بغريبة نوب الليالي

ولكن النجاة هي الغريبه

وقال رحمه الله:

يأهل هذا القطر ساعده القطر

بليت فدلوني لمن يرفع الأمر

تشاغلت بالدنيا ونمت مفرطا

وفي شغلي أو نومتي سرق العمر

وقال رحمه الله:

مالي أذهب نفسي في مطالبها

والنفس تأنف تأنف تهذيبي وتهذي بي

ص: 299

إذا استعنت على دهري بتجربة

تأبى المقادير تجريبي ويجري بي

وقال رحمه الله موريا حين أكل مشرف الدار القابض أي أخذ ماله:

مشرف دار الملك ما باله

منتفخ الجوف شكا نافضا

فقيل لي ليس به علة

لكنه قد أكل القابضا

وقال رحمه الله:

يا نفس لا تصغي إلى سلوى

كم أخلف الموعود عرقوب

وأنت يا قلبي وصاك إب

راهيم بالحزن ويعقوب

قال: وقلت في رأس الغادر بالدولة حين عرض علي:

في غير حفظ الله من هامة

هام بها الشيطان في كل واد

ما تركت حمدا ولا رحمة

في فم إنسان ولا فؤاد

وقال رحمه الله:

يا كواكب الحسن يا معناه يا قمره

يا روضه المتناهي الريع يا ثمره

أمرتني بسلو عنك ممتنع

مأمور حسنك لمّا يقض ما أمره

وقال رحمه الله في السعيد أبي بكر أبن السلطان أبي عنان:

أميرا كأن قمير الدجا

أفاض الضياء على صفحتيه

تملأ قلبي من حبه

غداة نظرت بعيني إليه

فلا بسط الدهر كف الردى

لذاك الشخيص وذاك الوجيه

ص: 300

وقال عندما انصرف عنه ابنه إلى مدينة فاس، لإقامة رسمه من الخدمة قال: وأشجاني انصرافه لوقوع قرحه على قرح، والمستعان الله:

بان اليوم الخميس قرة عيني

حسبي الله أي موقف بين

لو جنى موقف النوى حين حي

حان يوم الوداع والله حيني

ضايقني صروف هذي الليالي

وأطالت همي وأولت بديني

وطن نازح وشمل شتيت

كيف يبقى معذب بين ذين؟

يا الهي أدرك بلطفك ضعفي

إن ما أشتكيه ليس بهين

قال: وخاطبت أسيادة الخطيبية مع طيفور طعام:

تعلم طيفوري خلال السميه

وإن كان منسوبا إلى غير بسطام

وجاء فقير الوقت لابس خرقة

فليس براض غير صحبة صوام

فديتك لا تردده عنك مخيبا

ودرسه يا مولاي قصة بلعام

قال: وكتبت إلى أسياد الخطيبية ووصل ولدها إلى سلا ومنعني عن لقائه عذر من مرض وكان نزوله بزاوية النساك:

صدني عن لقاء نجلك عذر

يمنع الجسم عن تمام العباده

واختصرت القرى لأن حط رحلا

في محل الغنى ودار الزهاده

ص: 301

ولو إني احتفلت لم يعن الدهر

ولا نلت بعض بعض أراده

وعلى كل حالة قصوري

عادت إذ قبولك العذر عاده

لا عدمت الرضا من الله والحسنى

كما نص وحيه والزيادة

وقال يخاطبه من ضريح السلطان أبي الحسن بشالة لا استنهاض عزيمته في قضاء غرضه:

برئت لله من حولي ومن حيلي

إن نام عني ولي فهو خير ولي

أصبحت مالي من عطف أؤمله

من غيره في مهمات ولا بدل

ما كنت أحسب أن أرمي بقاصية

للهجر أقطع فيها جانب الأمل

من بعد ما خلصت نحوي الشفاعة ما

بين الفلا والدجى والبيض والأسل

إن كنت لست بأهل للذي طمحت

إليه نفسي وأهوى نحوه أملي

فكيف يلغى ولا ترعى وسيلته

دخيل قبر أمير المسلمين علي

من بعد ما اشتهرت حالي به وسرت

بها الركائب في سهل وفي حبل

والرسل تترى ولا تخفى نتائجها

عند التأمل من قول ولا عمل

ولا لليلي من صبح أطلعه

كأن همي قد مدّ الدجنة لي

لو أنني يا بن مرزوق عقدت يدي

وكان محتكما في خيرة الدول

لكان ركبي قد أفضى إلى فرج

وكان حزني قد أوفى على جذل

ألممت بالعتب لم أحذر مواقعه

" أنا الغريق فما خوفي من البلل "

ولست أجحد ما خولت من نعم

لكنها النفس لا تنفك عن الأمل

ولست أيأس من وعد وعدت به

إنما " خلق الإنسان من عجل "

ص: 302

وقال رحمه الله يخاطب السلطان أبا الحجاج:

مولاي إنَّ الشعر ديوان حكمة

يفيد الغني والعز والجاه من كانا

وقد وجد المختار في الحفل منصتا

له وحبا كعبا عليه وحسانا

وفيما رواه الناقلون وأثبتوا

بذلك ديواننا صحيحا فديوانا

بأن أبا بكر خليفته الرضا

وفاروق الأدنى إليه وعثمانا

لهم في ضروب القول إذ هم فحوله

خطاب وشعر يستقران تبيانا

وفاض على أهل القريض نوالهم

فروض روض القول سحا وتهتانا

وأنت أحق الناس إن تفعل التي

بها فعل المختار دينا وإيمانا

فما زلت تهدي في البرية هديه

وتفضي بما يرضيه سرا وإعلانا

وإن قيل قدر المرء ما هو محسن

فصنعة نظم القول أرفعه شانا

وقال رحمه الله في فن التورية:

بنفسي حبيب في ثناياه " بارق "

ولكنها للواردين عذاب

إذا كان لي منه الوصل " حاجر "

فمعي " ععقيق " بالجفون مذاب

وقال:

عذبت قلبي بالهوى فقيامه

في نار هجرك دائما وقعوده

ولقد عهدت القلب وهو موحد

فعلام يقضي في العذاب خلوده

وقال في التجنيس:

دعوتك للود الذي جنباته

تداعت مبانيها وهمت بأن تهي

ص: 303

وقلت لعهد الوصل والقرب بعدما

تناءى أأسلو عن حياتي وأنت هي

ومن شام من جو الشبيبة بارقا

ولم تنهه عنه النهى كيف ينتهي؟

وقال أيضاً:

ناديت دمعي إذ جد الرحيل بهم

والقلب من فرق التوديع قد وجبا

سقطت يا دمع من عيني غداة نأى

عني الحبيب ولم تقض الذي وجبا

وقال موريا:

كتبت بدمع عيني صفح خدي

وقد منع الكرى هجر الخليل

وراب الحاضرين فقلت هذا

كتاب العين ينسب للخليل

وتذكرت بهذا قول الشيخ أبي حيان:

سبق الدمع بالمسير المطايا

إذ نوى من أحب عني نقله

وأجاد السطور في صفحة الخد

ولم لا يجيد وهو أبن مقله

والبيت الثاني أدرت ولكن أبن الخطيب قد قصد تورية أخرى لم يقصدها أبو حيان وكلاهما قد أحسن في توريته.

وقال أبن الخطيب:

ولمّا رأت عزمي على السرى

وقد رابها صدري على موقف البين

أتت بصحاح الجوهر دموعها

فعارضت من دمعي بمختصر العين

وقال أيضاً:

بحق ما بيننا يا ساكني القصبه

ردوا علي حياتي فهي مختصبه

ماذا جنيتم على قلبي ببينكم

وانتم الأهل والأحباب والعصبه

ص: 304

وقال عفا الله عنه:

مضجعي فيك عن قتادة يروي

وروي عن أبي الزناد فؤادي

وكذا النوم شاعر فيك أمسي

من دموعي يهيم في كل وادي

وقال رحمه الله:

حين ساروا عني وقد خنقتني

عبارات قد أعربت عن ولوعي

صحت من ينصر الغريب فلما

لم أجد ناصرا بلعت دموعي

وقال عفا الله عنه:

قال لي والدموع تنهل سحبا

في عراض من الخدود محول

بك ما بي فقلت مولاي عفا

كَ المعافي من عبرتي ونحولي

أنا جفني القريح يروي عن الأعمش

والجفن منك عن مكحول

وقال وقد جلس السلطان في يوم شديد البرد للسلام:

جلس المولى لتسليم الورى

ولفصل البرد في الجو احتكام

فإذا ما سألوا عن يومنا

قلت هذا اليوم برد وسلام

وقال رحمه الله تعالى:

يا أبي بدر غزاني

مستبيحا سرح صدري

فأنا اليوم شهيد ال

حب من غزوة بدر

وقال:

أشكوا لمبسمه الحريق وقد حمى

عني لماه المشتهى ورحيقه

يا ريقه حيرتني ومطلتني

ما أنت إلاّ بارد يا ريقه

ص: 305

وقال فيمن ركب البحر وماد:

ركب السفينة واستقل بأفقها

فكأنما ركب الهلال الفرقد

وشكو إليَّ بميدهم فأجبتهم

لا غرو أن ماد القضيب الأملد

وقال أيضاً:

يا مالكي بخلال

تهدي إلى الفكر حيره

أضرمت قلبي نارا

يا مالك بن نويره

وقال عندما خرج السلطان أبن الأحمر من فاس متوجها إلى الأندلس لطلب حقه:

ولمّا حثثت السير والله حاكم

لملكك في الدنيا بعز وفي الأخرى

حكى فرس الشطرنج طرفك لا يرى

ينقل من بيضاء إلا إلى حمرا

وقال رحمه الله تعالى:

تعجلت وخط الشيب في زمن الصبا

لخوضي خمار الهم في طلب المجد

فمهما رأيتم شيبة في المفارقي

فلا تنكروها إنها شيبة الحمد

وقال رضي الله عنه:

يا من تقلد للعلاء سلوكا

والفضل أضحى نهجه مسلوكا

كاتبتني متفضلا فملكتني

لا زلت منك مكاتبا مملوكا

ص: 306

وقال عفا الله عنه:

أجاد يراع الحسن خط عذاره

وأودعه السر المصون الذي يدري

ولم يفتقر فيه لختم وطابع

فمبسمه أغناه عن طابع السر

وقال في رجل حلف واقسم أنه ذو مال وأمانة وطلب من السلطان الخدمة:

حلفت لهم بأنك ذو يسار

وذوثقة وبر في اليمين

ليستندلوا بحفظ مال

فتأكل باليسار وباليمين

وقال في الفخر:

ما ضرني أن لم أكن متقدما

فالسبق يعرف أخر المضمار

ولئن غدا ربع البلاغة بلقعا

فلرب كنز في أساس جدار

وقال في مديح السلطان أبي الحجاج:

في مصر قلبي من خزائن يوسف

حب وعير مدائحي تمتاره

حليت شعري باسمه فكأنه

في كل قطر حله ديناره

وقال يخاطب ابنه السلطان أبا عبد الله:

قالوا لخدمته دعاك محمّد

فكرتها وزهدت في التنويه

فأجبتهم أنا والمهيمن كاره

في خدمة المولى محب فيه

ومن قوله في غرناطة:

أحبك يا مغنى الكمال بواجب

وأقطع في أوصافك الغر أوقاتي

تقسم منك الترب قومي وجيرتي

ففي الظهر أحيائي وفي البطن أمواتي

ص: 307

وقال في غرض ينحو به نحو المشارقة:

رموا بالسلو حليف الغرام

وأدمعه كالحيا الهاطل

أعوذ بعزك يا سيدي

لذلي من دعوة الباطل

وقال أيضا:

يا ليل طلت ولم تجد بتبسم

وأريتني خلق العبوس النادم

هلا رحمت تغربي وتفرقي

لله ما أقساك باب الرجل بن الخادم

وقال في سكين الأضاحي للسلطان أبي الحجاج رحمه الله:

لي الفضل أن شاهدتني واختبرتني

على كل مصقول الغرارين مرهف

كفاني فخرا أن تراني قائما

بسنة إبراهيم في كف يوسف

وقال في مروحة سلطانية:

كأني قوس الشمس عند طلوعها

وقد قدمت من قلبها نسمة الفخر

وإلاّ كما هبت بمحتدم الوغى

بنصر ولكن من بنود بني نصر

وقال يخاطب شيخه أبن الجياب:

بين السهام وبين كتبك نسبة

فيها يصاب من العدو المقتل

وإذا أردت لها زيادة نسبة

هذي وهذي في الكناية تجعل

وقال يتغزل وفيه معنى غريب:

إن اللحاظ هي السيوف حقيقة

ومن استراب فحجتي تكفيه

لم يدع غمد السيف جفنا باطلا

إلاّ لشبه اللحظ يغمد فيه

قيل أحسن منه قول غيره:

إنَّ العيون النجل أمضى موقعا

من كل هندي وكل يمان

ص: 308

فضل العيون على السيوف بأنها

قتلت ولم تخرج من الأجفان

وأصل ما قاله أبن الخطيب قول الآخر:

بين السيوف وعينيه مشاركة

من أجلها قيل للأغماد أجفان

وقال أبن الخطيب أيضاً في البراغيث:

بتنا نكابد هم القحط ليتنا

وأنجد السهد والكرب البراغيثا

وكان يحمل ما كنا نكابده

من المشقة لو أن البراغيثا

وقال خالد البلوي صاحب الرحلة وقد استكثر من سرقة كتاب " البرق الشامي " للعماد الأصبهاني:

خليلي إن يلف اجتماع بخالد

فقولا له قولا ولن تعدوا الحقا

سرقت العماد الأصبهاني برقة

وكيف ترى في شاعر سرق البرقا؟

وقال في المنجانة:

تأمل في المنجان منقطعا

يجري وقدره عمرا منك منتهيا

والله لو كان وادي الرمل ينجده

ما كان كامله إلاّ وقد ذهبا

وقال:

أقول لعاذلي لمّا نهاني

وقد وجد المقالة إذ جفاني

علمت بأنه مر التجني

وفاتك أنه حلو اللسان

ص: 309

وقال في غرض صوفي:

لا تنكروا أن كنت قد أحببتكم

أو أنني استولى على هواكم

طوعا وكرها ما ترون فإنني

طفت الوجود فما وجدت سواكم

وقال يمدح وفيه تورية:

وإن نظرت إلى لآلاء غرته

يوم الهياج رأيت الشمس في الأسد

ونسب إليه الحافظ أبو على التنسي رحمه الله قصيدة يخرج منها أكثر من ثلاث مائة بيت ونسبها غير التنسي إلى بعض المشارقة فالله أعلم وهي:

داء ثوى بفؤادي شفة سقم

لمحنتي من دوائي الهم والكمد

يوم النوى حل في قلبي لم ألم

وحرقتني وبلائي فيه بالرصد

توجعي من جوى شبت حرارته

مع العنا رثى لي فيه ذو الحسد

أصل الهوى ملبسي وجدا بهه عدم

لمهجتي من رشا بالحسن منفرد

تتبعي وجه من تزهو نضارته

إذا انثنى قاتلي عمدا بلا قود

مهدي الجوى مولع بالهجر منتقم

ما حيلتي قد كوى قلبي مع الكبد

لمصرعي معتد تحلو مرارته

يا قومنا آخذ نحو الردى بيدي

قلبي كوى ملك في النفس محتم

لقصتي فهو سولى وهو معتمدي

مروعي قمر تسبي إشارته

إذا رنا ساطع الأنوار في البلد

ص: 310

هد القوى حسن كالبدر مبتسم

لفتنتي موهن عند النوى جلدي

مودعي النار قد شبت زيارته

لمّا جنى مورثي وجدا مع الأبد

قلت: وعندي أنها بعيدة من نفس أبن الخطيب مع أن الحافظ التنسي نسبها له وغيره لبعض المشارقة وذكر التنسي أنه يخرج منها ثلاث مائة بيت ونيف ستون بيتا والله ولي التوفيق.

ثم وقفت بعد هذا على كراسة من بعض تآليف الصفدي بخطه وعبر فيها أنها لبعض المشارقة وأورد القطعة مع تقديم وتأخير فأردت أن أذكره إتماما للفائدة ونصه: صالح بن أحمد بن عثمان صلاح الدين القواس الشاعر الخلاطي ثم البعلبكي توفي سنة ثلاث وعشرين وسبع مائة كان رجلاً خيرا متواضعا صحب الفقراء وسافر الكثير وكان يعبر الرؤيا قال الصفدي: أنشدني من لفظه الشيخ الحافظ الذهبي قال: أنشدني المذكور قصيدته السائرة ذات الأوزان وهي:

داء ثوى بفؤادي شفه سقم

لمحنتي من دواعي الهم والكمد

بأضلعي لهب تذكو شرارته

من الضنى في محل الروح من الجسد

يوم النوى ظل النوى في قلبي به ألم

وحرقتي وبلائي فيه بالرصد

توجعي من جوى شبت حرارته

مع العنا قد رثى لي فيه ذو الحسد

أصل الهوى ملبسي وجدي به عدم

لمهجتي من رشا بالحسن منفرد

ص: 311

تتبعي وجه من تزهو نضارته

لمّا جنى مورثي وجدا مع الأبد

هد القوى حسن كالبدر مبتسم

لفتنتي موهن عند النوى جلدي

مروعي قمر تسبي إشارته

إذا رنا ساطع الأنوار في البلد

مهدي الجوى مولع بالهجر منتقم

ما حيلتي قد كوى قلبي مع الكبد

لمصرعي معتد تحلو مرارته

يا قومنا آخذ نحو الردى بيدي

قلبي كوى ملك في النفس محتم

لقصتي فهو سولى وهو معتمدي

تتبعي وجه من تزهو نضارته

إذا انثنى قاتلي عمدا بلا قود

قال الصفدي: قلت: هذه القصيدة تقرأ على ثلاث مائة وستين وجها.

وقال في المشيب:

إني لمبلي بالهوى من بعدما

للوخظ بالفودين أي دبيب

لبس البياض وحل ذروة منبر

مني ووالي الوعظ فعل خطيب

وكتب ببعض الحيطان لمّا أجاز بسبته:

أقمنا برهة ثم ارتحلنا

كذلك الدهر حالا بعد حال

وكل بداية فإلى انتهاء

وكان إقامة فإلى ارتحال

ومن سام الزمان دوام أمر

فقد وقف الرجاء على المحال

وقد قدمنا بعض هذه المقطوعات على غير هذا الوجه.

وقال مما يكتب في طاق الماء بباب القبة:

أنا طاق تزهو بي الأيام

تعبت في بدائعي الأفهام

ص: 312

وتباديت للنواظر محرا

باً كأن الإناء في إمام

واقف للصلاة حتى إذا ما

جئت للشراب حان مني السلام

وقال في ذلك أيضاً:

يا صانعي لله ما أحكمته

فلأنت بين العالمين رئيس

أحكمت تاجي يوم صغت رقوشه

فصبت إليه مفارق ورءوس

وأقمت في محرابه فكأنه

محلى إناء الماء فيه عروس

وكتب إليه شيخه أبن الجياب بقوله:

أيا كتابي إذا ما جئت مالقة

دار المكارم من ثني ووحدان

فلا تسلم على ربع بذي سلم

بها وسلم على الربع لسلمان

فأجابه أبن الخطيب بقوله:

يا ليت شعري هل يقضي تألفنا

ويثني الشوق عن غاياته الثاني

أو هل يحن على نفسي معذبها

أو هل يرق لقلبي قلبي الثاني

وقال رحمه الله:

عد عن كيت وكيت

ما عليها غير ميت

كيف ترجى حالة البق

يا لمصباح وريت

وقال رحمه الله:

والله ما جان على ماله

أو جاهد من ذاد عن عرضه

ص: 313

والناس في خير وفي ضده

هم شهداء الله في أرضه

وقال رحمه الله: ومما قلته من الموشحات التي أنفرد باختراعها الأندلسيون وطمس الآن رسمها:

رب ليل ظفرت بالبدر

ونجوم السماء لم تدر

حفظ الله ليلنا ورعى

أي شمل من الهوى جمعا

غفل الدهر والرقيب معا

ليت نهر النهار لم يجر

حكم الله لي على الفجر

علل النفس يا أخا العرب

بحيث أحلى من الضرب

في هوى من وصاله أربي

كلما مر ذكر من تدري

قلت يا برده على صدري

صاح لا تهتم بأمر غد

وأجز صرفها يدا بيد

بين نهر وبلبل غرد

وغصون تميد من سكر

أعلنت يا غمام بالشكر

يا مرادي ومنتهي أملي

هاتها عسجدية الحلل

حلت الشمس منزل الحمل

وينود الربيع في النشر

والصبا عنبرية النشر

ص: 314

غرة الصبح هذه وضحت

وقيان الغصون قد صدحت

وكأن الصبا إذا نفحت

وهفا طيبها عن الحصر

مدحة في علا بني نصر

هم ملوك الورى بلا ثنيا

مهدوا الدين زينوا الدنيا

وحمى الله منهم العليا

بالإمام المرفع الخطر

والغمام المبارك القطر

إنما يوسف إمام هدى

حاز في المعلومات كل مدى

قل لدهر بملكه سعدا

افتخر جملة على الدهر

كافتخار الربيع بالزهر

يا عماد العلا والمجد

أطلع العيد طالع السعد

ووفي الفتح فيه بالوعد

وتجلت فيه على القصر

غرر من طلائع النصر

فتناهت من حسنها البهج

بحياة النفوس والمهج

واستمعها ودع مقال شجي

قسما بالهوى لذي حجر

ما لليل المشوق من فجر

ومن بديع موشحاته رحمه الله قوله:

كم ليوم الفراق من غصة

في فؤاد العميد

نرفع الأمر فيه والقصة

للمولى الحميد

ص: 315

رحل الركب يقطع البيدا

بسفين النياق

كل وجناء تتلع الجيدا

وتبذ الرفاق

حسبت ليلة القا عيدا

فهي ذات اشتياق

صائمات لا تقبل الرخصة

قبل فطر وعيد

فهي مذ أملته مختصه

بجهاد جهيد

ومنها وهو آخرها:

يا إمام العلا والفخر

ذا السنا البهيج

هاكها لا عدمت في الدهر

آملا يرتجى

عارضت قول بائع التمر

بمقال شج

غربوك الجمال يا حفصة

من مكان بعيد

من سجلمات ومن قفصة

وبلاد الجريد

ومن بديع نظمه رحمه الله في مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم هذه القصيدة المشهورة وهي:

سل ما لسلمى بنار الهجر تكويني

وحبها في الحشي من قبل تكويني

وفي معناها تمنيت المنى فغدا

تغلبي كئيبا ببلواه يناجيني

وفي قباب قبا قامت لنا بقبا

طرازها مذهب في الحسن تزيين

لمّا انثنت في الحلى تزهو ببهجتها

وبالغزالة تزري والسراحين

لمّا تفننت في أفنان قامتها

تفننت بفنون الصد تفنيني

ويحسب الصب يسليني محبتها

هيهات لو أن جم النار يصليني

النار في كبدي والشوق يقليني

والقرب ينشرني والبعد يطويني

ص: 316

وركن صبري تخلى في الغرام وقد

تمكن الحب في أي تمكين

وقد رأيت ميسري عز مطالبه والطرف والظرف يبكيني ويكويني

حالي لرفع الضم منجزم

بالكسر عل برشف الضم تحييني

يا صاح عج بالحمى وانزل بهم سحراً

وأنظر لعجب أثيلاث البساتين

وفوق سفح العميق عج لترى

جآذر الحي بين الخرد العين

ومل على أثلاث ألبان منعطفاً

وحي سلعا وسل عن حال مسكين

ثم أت جزعاً وجز عن حي كاظمة

واقر السلام على خير النبيين

محمّد المصطفى المختار من ظهرت

آياته فتسلى كل جاء بالدين

ومن شهاب بدا من نوره رجمت

والماء من كفه يزري بجيحون

وهو الذي اختاره الباري وأرسله

برا رءوفاً رحيماً بالمساكين

إنَّ سار في الرمل لم يظهر أثر

وإنَّ علا الصخر كالطين

كأنَّ بالرمل ما بالصخر بالصخر من جلد

شوقا وبالصخر ما بالرمل من لين

وفي الصحيحين أنَّ الجذع حن له

والعذاق أنَّ إليه أي تأنين

وقد سمعنا بأن الطير خاطبته

في منطق مفصح من غير تلكين

والظبي والضب جاءا يشهدان بان

لا شيء أعظم من ويسين

فكيف أحسن مدحا في محاسنه

لكن لي قبولا منه يكفيني

أقبل الأرض إجلالا لهيبته

وألم الترب عل الوصل يحيني

وقد أقول أبن حمدان أتى

منديا بفؤاد منه محزون

يا أكرم الخلق من عرب ومن عجم

وأحسن الناس من حسن وتزيين

ص: 317

إني أتيتك فاقبلني بيدي

ومن لهيب لظى وسجين

وقد مدحتك فارحمني وجد فعسى

من هول يوم اللقاء والحشر تنجيني

وكن شفيعي من النيران يا أملي

ولعل أحظى بأجر غير ممنون

صلى عليك إله العرش ما غردت

حمائم فوق أغصان البساتين

صلى عليك إله العرش وما وفدت

نويقة لحمي الأطلال تبريني

صلى عليك إله العرش ما هطلت

مدامع السحب أو عين المحبين

صلى عليك إله العرش ما ضحكت

مباسم الزهر في ثغر الأفانين

وألفُ ألفِ صلاة لا نفاد لها

مضروبة في ثمان ألف تسعين

عليك يا خير خلق الله قاطبة

وألف ألف سلام في ثمانين

وآلك الغر والأصحاب كلهم

وتابعيهم ليوم الحشر والدين

ما عطر الروض في الأسحار صبا

وفاح تسر خزامى منه نسرين

وما شدا منشد صب لفرط جوي

سل ما لسلمى بنار الهجر تكويني

وقال رحمه الله:

لبسنا فلم نبل الزمان وأبلانا

يتابع أخرانا على الغي أولانا

ونغتر بالآمال والعمر ينقضي

فما كان بالرجعى إلى الله أولانا

وماذا عسى أنَّ ينظر الدهر ما عسى

فما انقاد للزجر وللزجر الحنيث ولا لانا

جزينا صنيع الله شر جزائه

فلم نزع ما من سابق الفضل أولانا

فيا رب عاملنا بما أنت أهله

من العفو واجبر صدعنا أنت مولانا

انتهى.

ص: 318

ولنقتصر من نظمه على هذا القدر، فانه طويل عريض، وإنّما أطلت النفس في ترجمة أبن الخطيب، رحمه الله، علما مني بأن الذين رغبوا في تأليف هذا الموضوع، لهم تشوف إلى أنباء أبن الخطيب، وكلامه وجيلة أحواله ليست عندهم، وإنما يحفظون بعض نظمه ونثره، ولا يدرون ابتداء أمره وانتهاءه، وقد حكي غير واحد أنّه رئ رحمه الله بعد موته، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي بسبب بيتين، وهما:

يا مصطفى من قبل نشأة آدم

والكون لم تفتح له أغلاق

أيروم مخلوق ثناءك بعد ما

أثنى على أخلاق

وقد رأيت على هذين البيتين تخميسا لا بأس به، لأبي عبد الله بن جابر الغساني المكناسي، رحمه الله، وهو:

يا سائر لضريح خير العالم

ينتهى إليه مقال صب هائم

بالله ناد وقل مقالة عالم

يا مصطفى من قبل نشأة آدم

والكون لم تفتح له إغلاق

بثناك قد شهدت ملائكة السما

والله قد صلى عليك وسلما

يا مجتبي ومعظماً ومكرماً

أيروم مخلوق ثناء بعد ما

أثنى على أخلاقك الخلاق

انتهى.

وأولاد أبن الخطيب رحمه الله ثلاثة: عبد الله، ومحمّد، وعلي. وكلهم حدث عن أبيه وعن أبن الجياب، وعلى منهم هو صاحب السلطان أحمد المرني الملقب بالمستنصر.

ص: 319

وحكى أنّه حضر معه في بستان، سح فيه ماء المذاكرة الهتان؛ وقد أبدى الأصيل شواهد الأصفرار، وأزمع النهار لمّا قدم الليل على الفرار؛ فقال المستنصر لمّا لأنَّ جانبه، وسالت بين سرحان البستان جداوله ومذانبه:

يا فاس وأيم الله ذو شغفٍ

في كل ربع له معناه يسبيني

وقد أنست بقرب منك يا أملي

ونظرة فيكم بالأنس تحسيني

فأجابه على بن الخطيب بقوله العذب المصيب:

لا أوحش الله ربعا أنت زائره

يا بهجة الملك والدنيا مع الدين

يا أحمد الحمد أبقاك الإله لنا

فخرا وسلطان السلاطين

وأما عبد الله فقد كتب بالعودتين، عن ملوك الحضرتين. وأما محمّد فقد نال حظاً من التصوف، ولم يكن له إلى خدمة الملوك تشوف.

ولا بد أنَّ نلم بوصية أبن الخطيب، رحمه الله، لأولاده المذكورين، لمّا فيها من الحكم والوصايا النافعة لمن عمل بها، وهي:

الحمد لله الذي لا يروعه الحمام المرقوب، إذا شم نجمه المثقوب، ولا يبغته الأجل المكتوب، ولا يفجوه الفراق المعتوب، ملهم الهدى الذي تطئن به القلوب، وموضح السبيل المطلوب، وجاعل النصيحة الصريحة في قسم الوجوب، لا سيما للولي المحبوب، والولد المنسوب، القائل في كتابه المعجز الأسلوب، " أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب "، " ووصي بها إبراهيم بنيه يعقوب "؛ والصلاة

ص: 320

والسلام على سيدنا ومولانا محمّد رسوله اكرم على نوره جيوب الغيوب، وأشرف من خلعت عليه حلل المهابة والعصمة، فلا تقتحمه العيون ولا تصمه العيوب، والرضا عن آله وأصحابه المثابرين على سبيل الاستقامة بالهوى المغلوب

والأمل المسلوب، والاقتداء الموصل للمرغوب، والعز والأمن من اللغوب. وبعد، فإني لمّا علاني المشيب بغمته، وقادني الكبر في رمته، وادكرت الشباب بعد أمته لمّا أضفت، وندمت بعد الفطام على ما رضعت؛ وتأكد وجوب نصحي لمن لزمني رعيه، وتعلق سعيه، وأملت أنَّ تتغذى إلى ثمرات استقامته، وأنا رهين فوات، وفي أموات، ويأمن العثور في الطريق التي اقتضت عثاري، إنَّ سلك وعسى ألا يكون ذلك على آثاري: فقلت أخاطب الثلاثة الولد؛ بعد الضراعة إلى الله توفيقهم، وإيضاح طريقهم، وجمع تفريقهم؛ وأنَّ يمن على فيهم بحسن الخلف، والتلافي من قبل، وأنَّ يرزق خلفهم التمسك بهدي السلف؛ فهو ولي ذلك والهادي إلى خير المسالك. اعلموا هداكم من بأنواره يهتدي الضلال، وبرضاه ترفع الأغلال، وبالتماس قربه يحصل الكمال؛ إذا ذهب المال، وأخلفت الآمال، والتبرات من يمينها. الشمال؛ أني مودكم وإنَّ سالمني الدرى، ومفارقكم وإنَّ طال المدى، وما عدا

ص: 321

مما بدا؛ فكيف وأدوات السفر جمع، ومنادي الرحيل يسمع؛ ولا أقل للحبيب المودع من وصية محتضر، وعاجلة مقتصر، ورتيمة تعقد في خنصر، ونصيحة تكون نشيدة واعٍ ومبصر، تتكفل لكم بحسن العواقب من بعدي، وتوضح لكم في الشفقة والحنو قصدي، حسبما تضمن وعد الله من قبل وعدي، فهي أربكم الذي لا يتغير وقفه، ولا ينالكم المكروه ما رف عليكم سقفه، وكأني بشبابكم قد شاخ، وبراحلكم قد أناخ؛ وبنشاطكم قد كسل، واستبدل الصاب من العسل، ونصول الشيب تروع بأسل، لا بل السام من ليس حدب قد نسل، والمعاد اللحد ولا تسل؛ فبالأمس كنتم فراخ حجر، واليوم آباء عسكر مجر، وغدا شيوخ مضيعة وهجر؛ والقبور فاغره، والنفوس عن المألوفات صاغره؛ والدنيا بأهلها ساخرة، والأولى تعقبها آخره؛ والحازم من لم يتعظ به في أمر، وقال: بيدي عمرو، فاقتنوها من وصية في النصح قصية؛ وخصوا بها أولادكم إذا عقلوا، ليجدوها زادها إذا انتقلوا؛ وحسبي وحسبكم الله الذي لم يخلق الخلق هملا، ولكن ليبلوهم أيهم أحسن عملا؛ ولا رضى الدنيا منزلا، ولا لطف بمن أصبح عن فئة الخير منعزلا؛ ولتلقنوا تلقينا، وتعلموا علماً يقينا؛ أنكم لن تجدوا بعد أفرد بذني، ويفترش التراب جنبي؛ ويسح إنسكابي، وترهول عن المصلى ركابي؛ أحرص مني على سعادة إليكم تجلب، أو غاية كمال بسببكم ترتاد وتطلب؛ حتى لا يكون في الدين والدنيا أورف

ص: 322

منكم ظلا، ولا أشرف محلا ولا أغبط نهلا وعلا وأقل ما يوجب ذلك عليكم أن تصيخوا الى قولي الآذان وتتلمحوا صبح نصحى فقد بان وسأعيد عليكم وصية لقمان: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) وإذ قال لقمان لابنه وهو يعضه يا بني لا تشرك بالله إنَّ الشرك لظلم عظيم (.) يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر وأصبر على ما أصابك إنَّ ذلك من عزم الأمور. ولا تصعر خدك للناس ولا تمشي في إلاّ مرحا إنَّ الله لا يحب كل مختال فخور. وأقصد في مشيتك وأغضض من صوتك إنَّ أنكر الأصوات لصوت الحمير. (.

وأعيد وصية خليل الله وإسرائيله حسبما محكم تنزيله:) يا بن إنَّ الله أصطفى لكم الدين فلا تموتن إلاّ وانتم مسلمون (. والدين الذي ارتضاه واصطفاه وأكمله ووفاه وقرره مصطفاه من قبل أن يتوفاه إذا أعمل فيه افتقاد فهو عمل واعتقاد وكلاهما مقرر ومستمد من عقل أو نقل محرر والعقل متقدم وبناؤه مع رفض أخيه متهدم فالله واحد أحد فرد صمد ليس له والد ولا ولد تنزه عن المكان والزمان وسبق وجوده وجود الأكوان خالق الخلق وما يعملون والذي لا يسأل عن شيء وهم يسألون الحي العليم المدبر القدير ليس كمثله شيء وهو السميع البصير أرسل الرسل رحمة لتدعوا العباد إلى النجاة من الشقاء وتوجه الحجة في مصيرهم

ص: 323

إلى دار البقاء مؤيدة بالمعجزات التي لا تتصف أنوارها بالاختفاء ولا يجوز على تواترها دعوى الانتقاء ثم ختم ديوانهم بنبي ملتنا المرعية للهمل الشاهدة على الملل فتلخصت الطاعة وتبينت له الإمرة المطاعة ولم يبق بعده إلاّ ارتقاب الساعة ثم إن الله قبضه إذ كان بشرا وترك دينه يضم من الأمة نشرا فمن اتبعه لحق به ومن حاد عنه تورط في منتسبه وكانت نجاته على قدر سببه.

روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لم تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي فعضوا عليهما بالنواجذ ".

فاعلموا يا بني بوصية من ناص جاهد ومشفق شفقة والد واستشعروا حبه الذي توفرت دواعيه وعوا مراشد هدية يافوز واعيه وصلوا السبب بسببه وآمنوا بكل ما جاء به مجملا أو مفصلا على حسبه وأوجبوا التجلة لصحبه الذين اختارهم الله لصحبه واجعلوا محبتكم إياهم من توابع محبته واشملواهم بالتوفير وفضلوا منهم أولى الفضل الشهير وتبرءوا من العصبية التي لم يدعكم إليها داع ولا تع التشاجر بينهم أذن واع فهو عنوان السداد وعلامة سلامة الاعتقاد ثم اسحبوا فضل تعظيمهم على فقهاء الملة وأئمتها الجلة فهم صقلة نصولهم وفروع ناشئة على أصولهم وورثة رسولهم واعلموا إني قطعت في البحث زماني وجعلت النظر شاني منذ براني الله وأنشاني مع نبل يعترف به الشاني وإدراك يسلمه العقل الإنساني فلم أجد خابط ورق ولا مصيب عرق ولا

ص: 324

نازع خطام ولا متكلف فطام ولا مقتحم بحر طام إلاّ وغايته التي يقصدها قد فضلتها الشريعة وسبقتها وفرعت ثنيتها وارتقتها فعليكم بالتزام جادتها السابلة ومصاحبة رفقتها الكافلة والاهتداء بأقمارها غير الآفلة والله يقول وهو أصدق القائلين:) ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين (وقد علت شرائعه وراع الشكوك فلا تستنزلكم الدنيا عن الدين وابذلوا دون النفوس فعل المهتدين فلن ينفع متاع بعد الخلود في النار أبد الآبدين ولا يضر مفقود مع الفوز بالسعادة والله أصدق الواعدين ومتاع الحياة الدنيا أخس ما ورث الأولاد عن الوالدين اللهم قد بلغت فأنت خير الشاهدين فاحذروا المعاطب التي توجب في الشقاء الخلود وتستدعي شوه الوجوه ونضج الجلود واستعيذوا برضا الله من سخطه واربئوا بنفوسكم عن غمطه وارفعوا آمالكم عن القنوع بغرور قد خدع أسلافكم ولا تحمدوا على جيفة العرض الزائل ائتلافكم واقنعوا منه بما تيسر ولا تأسوا على ما فات وتعذر فإنما هي دجنة ينسخها المصباح وصفقة يتعقبها الخسار والرباح ودونكم عقيدة الإيمان فشدوا بالنواجذ عليها وكفكفوا الشبه أن تدنو إليها واعلموا أن الإخلال بشيء من ذلك خرق لا يرفؤه عمل وكل ما سوى الراعي همل وما بعد الرأس في صلاح الجسم أمل وتمسكوا بكتاب الله حفظا وتلاوة واجعلوا حمله على حمل التكليف علاوة وتفكروا في آياته ومعانيه وامتثلوا أموامره وانتهوا عن نواهيه ولا تتأولوه ولا تغلوا فيه وأشربوا قلوبكم حب

ص: 325

من أنزل على قلبه وأكثر من بواعث حبه وصونوا شعائر الله صون المحترم واحفظوا القواعد التي ينبنى عليها الإسلام حتى لا ينخرم.

الله الله في الصلاة ذريعة التجلة وخاصة الملة وحاقنة الدم وغنى المستأجر المستخدم وأم العبادة وحافظة اسم المراقبة لعالم الغيب والشهادة والناهية عن الفحشاء والمنكر مهما عرض الشيطان عرضهما ووطأ للنفس الأمارة سماءها وأرضهما والوسيلة إلى بل الجوانح ببرود الذكر وإيصال تحفة الله إلى مريض الفكر وضابطة حسن العشرة من الجار وداعية المسالمة من الفجار والواسمة بسمة السلامة والشاهدة للعقد برفع الملامة وغاسول الطبع إذا شانه الطبع والخير الذي كل خير له تبع فاصبروا النفس على وظائفها بين إبداء وإعادة فالخير عادة ولا تفضلوا عليها الأشغال البدنية وتؤثروا على العلية الدنية فإنَّ أوقاتها المعنية بالانفلات تنبس والفلك بها من أجلكم لا يحبس وإذا قرنت بالشواغل فلها الجاه الأصيل والحكم الذي لا غيره الغدو والأصيل والوظائف بعد أداتها لا تفوت وأين حق من يموت من حق الحي الذي لا يموت؟ وأحكموا أوضاعها إذا أقمتموها وأتبعوها الموافل ما أطقتموها فبالإتقان تفاضلت الأعمال وبالمراعاة استحق الكمال

ص: 326

ولا شكر مع الإهمال ولا ربح مع إضاعة رأس المال وثابروا عليها الجماعات وبيوت الطاعات فهو أرفع للملام وأظهر لشرائع الإسلام وأبر بإقامة الفرض وأدعى إلى مساعدة البعض البعض.

والطهارة التي هي في تحصيلها سبب موصل لمشروطها محصل فاستوفوها والأعضاء نظفوها وميهها بغير أوصافها الحميدة فلا تضفوها والحجول والغرر فأطيعوها والنيات في كل ذلك فلا تهملوها فالبناء بأساسه والسيف برئاسه. واعلموا أن هذه الوضيفة من صلاة وطهور وذكر مجهور وغير مجهور تستغرق الأوقات وتنازع شتى الخواطر المفترقات فلا يضبطها إلاّ من ضبط نفسه بعقال وكان في درجة الرجولة ذا انتقال واستعرض صدأه وإن تراخى تقهقر الباع وسرقته الطباع وكان لمّا سواها أضيع فشمل الضياع.

والزكاة أختها الحبيبة ولدتها القريبة مفتاح السماحة بالعرض الزائل وشكران المسئول على الضد من درجة السائل وحق الله فيمال من أغناه لمن أجهده في المعاش وعناه من غير استحقاق مل يده وإخلاء يد أخيه ولا علة القدر الذي يخفيه وما لم ينله حظ فلا خير يه فاسمحوا بمتفرقاتها للحاضر لإخراجها واختيار عرضها ونتاجها واسحيوا من الله أن تبخلوا عليه ببعض ما بذل وخالفوا الشيطان كلما عذل واذكروا خروجكم إلى الوجود لا تملكون ولا تدرون أين تسلكون فوهب وأقدر وأورد

ص: 327

بفضله وأصدر ليرتب بكرمه الوسائل أو يقيم الحجج والدلائل فابتغوا إليه الوسيلة بماله واغتنموا رضاه ببعض نواله.

وصيام رمضان عبادة السر المقربة إلى زلفى الممحوضة لمن يعلم السر وأخفى مؤكدة بصيام الجوارح عن الآثام والقيام ببر القيام والاجتهاد وإيثار السهاد على المهاد وإن وسع الاعتكاف فهو من سننه المرعية ولواحقه الشرعية فبذلك تحسن الوجوه وتحصل النفوس من الرقة على ما ترجوه وتهذب الطباع ويمتد في ميدان الوسائل إلى الله الباع.

والحج مع الاستطاعة الركن الواجب والفرض على العين لا يحجبه الحاجب وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم قدره فيما فرض عن ربه وسنه وقال: ليس له جزاء عن الله إلاّ الجنة.

ويلحق بذلك الجهاد في سبيل الله وإن كانت لكم قوة عليه وغنى لديه فكونوا ممن يسمع نفيره ويطيعه وإن عجزتم فأطيعوا من يستطيعه.

هذه عمد الإسلام وفروضه ونقود مهره وعروضه فحافظوا عليها تعيشوا مبرورين وعلى من يناوئكم ظاهرين وتلقوا الله لا مبدلين ولا مغيرين ولا تضيعوا حقوق الله فتهلكوا مع الخاسرين.

واعلموا أن بالعلم تستكمل وظائف هذه الألقاب وتجلى محاسنها من بعد الانتقاب فعليكم بالعلم النافع دليلا بين يدي الشافع فالعلم مفتاح هذا الباب والموصل إلى اللباب والله عز وجل يقول:) هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب (. والعلم وسيلة النفوس

ص: 328

الشريفة إلى المطالب المنيفة وشرطه الخشية لله والخيفة وخاصة الملأ الأعلى وصفة الله في كتبه التي تتلى والسبيل في الآخرة إلى السعادة وفي الدنيا إلى التجلى عاده والذخر الذي قليله يشف وينفع وكثيره يعلىو يرقع لا يغصبه الغاصب ولا يسلبه العدو المناصب ولا يبتزه الدهر إذا مال ولا يستأثر به البحر إذا هال من لم ينله فهو ذليل وإن كثرت آماله وقليل وإن جم ماله وإن كان وقته قد فات اكتسابكم وتخطى حسابكم فالتمسوه لبنيكم واستدركوا منه ما خرج عن أيديكم واحملوهم على جمعه ودرسه واجعلوا طباعهم ثرى لغرسه واستهلوا ما ينالهم من تعب من جراه وسهر يهجر له الجفن كراه تعقدوا لهم ولاية عز لا تعزل وتحلوهم مثابة رافعة لا يحط فارعها ولا يستنزل واختاروا من العلوم التي ينفقها الوقت ما لا يناله في غيره المقت وخير العلوم علوم الشريعة وما نجم وما نجم بمنابتها المريعة من علوم لسان لا تستغرق الأعمار فصولها ولا يضايق ثمرات المعاد محصولها فإنما هي آلات لغير وأسباب إلى خير منها وخير فمن كان قابلا منها لازدياد وألفى فهمه ذا انقياد فليخص تجويد القرآن بتقديمه ثم حفظ الحديث ومعرفة صحيحه من سقيمه ثم الشروع في أصول الفقه فهو العلم العظيم المنة المهدي كنوز الكتاب والسنة ثم المسائل المنقولة عن العلماء الجلة والتدرب في طرق النظر وتصحيح الأدلة وهذه هي الغاية القصوى في الملة ومن قصر إدراكه عن هذا المرمى وتقاعد عن التي هي أسمى فليرو الحديث بعد تجويد الكتاب وإحكامه وليقرأ المسائل الفقهية على مذهب إمامه وإياكم والعلوم القديمة والفنون المهجورة الذميمة فأكثرها لا يفيد إلاّ تشكيكا ورأيا ركيكا ولا يثمر في

ص: 329

العاجلة إلاّ اقتحام العيون وتطريق الظنون وتطويق الاحتقار وسمة الصغار وخمول الأقدار والخسف من بعد الإبدار وجادة الشريعة أعرق في الاعتدال وأوفق من قطع العمر في الجدال هذا أبن رشد قاضي المصر ومفتيه وملتمس الرشد ومؤتيه عادت عليه بالسخطة الشنيعة وهو إمام الشريعة فلا سبيل إلى اقتحامها والتورط في ازدحامها ولا تخلطوا سامكم بحامكم إلاّ ما كان من حساب ومساحة وما يعود بجدوى فلاحة وعلاج يرجى على النفس والجسم براحة وما سوى ذلك فمحجور وضرم مسجور وممقوت مهجور.

وأمروا بالمعروف أمرا رفيقا وانهوا على المنكر نهيا حريا بالاعتدال حقيقا واغبطوا من كان سنة الغفلات مفيقا واجتنبوا ما تنهون عنه حتى لا تسلكوا منه طريقا وأطيع أمر من ولاه الله من أموركم أمرا ولا تقربوا من الفتنة جمرا ولا تدخلوا في الخلاف زيدا وعمرا.

وعليكم بالصدق فهو شعار المؤمنين وأهم ما أضرى عليه الآباء السنة البنين وأكرم منسوب إلى مذهبه ومن أكثر من شيء عرف به. وإياكم والكذب فهو العورة التي لا توارى والسوءة التي لا يرتاب في عارها ولا يتمارى وأقل عقوبات الكذب بين يدي ما أعد الله له من العذاب ألا يقبل صدقه إذا صدق ولا يعول عليه إن كان بالحق قد نطق.

وعليكم بالأمانة فالخيانة لوم وفي وجه الديانة كلوم ومن الشريعة التي

ص: 330

لا يعذر بجهلها أداء الأمانات إلى أهلها وحافظوا على الحشمة والصيانة ولا تجزوا من أقرضكم دين الخيانة ولا توجدوا للغدر قبولا ولا تقروا عليه طبعا مجبولا وأوفوا بالعهد إنَّ العهد كان مسئولا ولا تستأثروا بكنز ولا خزن ولا تذهبوا لغير مناصحة المسلمين في سهل ولا حزن ولا تبخسوا الناس أشياءهم في كيل أو وزن والله الله أن تعينوا في سفك الدماء ولو بالإشارة أو بالكلام أو ما يرجع إلى وظيفة الأقلام واعلموا أن الإنسان في فسحة ممتدة وسبيل الله غير منسده ما لم ينبذ إلى الله بأمانة ويغمس في الدم الحرام بيده أو لسانه قال الله في كتابه الذي هدى به سننا قويما وجلى من الجهل والضلال ليلا بهيما:) ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالد فيها وغضب الله عليه ولعنة وأعد له عذابا عظيما (.

واجتناب الزنا وما يتعلق به من كرمت طباعه وامتد سبيل السعادة باعه ولو لم تتلق نور الذي لم يهد شعاعه فالحلال لم تضق عن الشهوات أنواعه ولا عدم إقناعه ومن غلبت عليه غرائز جهله فلينظر هذا يحي أن يزني بأهله؟ والله قد أعد للزاني عذابا وبيلا وقال:) ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا (.

والخمر أم الكبائر ومفتاح الجرائم والجرائر واللهو لم يجعله الله في الحياة شرطا والمحرم قد أغنى عنه بالحلال الذي سوغ وأعطى وقد تركها في الجاهلية أقوام لم يرضوا لعقولهم الفساد ولا لنفوسهم بالمضرة في مرضاة

ص: 331

الأجساد والله جعلها رجسا محرما على العباد وقرنها بالأنصاب والأزلام في مباينة السداد.

ولا تقربوا الربا فإنه من مناهي الدين والله تعالى يقول:) وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين (. وقال:) فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله (في الكتاب المبين. ولا تأكلوا مال أحد بغير حق يبيحه وانزعوا الطمع عن ذلك حتى تذهب ريحه والتمسوا الحلال يسعى فيه أحدكم على قدمه ولا يكل اختياره إلاّ للثقة من خدمة ولا تلجئوا إلى المتشابه إلاّ عند عدمه فهو في السلوك إلى الله أصل مشروط والمحافظ عليه مغبوط.

وإياكم والظلم فالظلم ممقوت بكل لسان مجاهر لله بصريح العصيان والظلم ظلمات يوم القيامة كما ورد في الصحاح الحسان والنميمة فساد وشتات لا يبقى عليه ممات وفي الحديث: " لا يدخل الجنة قتات ". واطرحوا الحسد فما ساد حسود وإياكم والغيبة فباب الخير عنها مسدود والبخل فما رئى البخيل وهو مودود وإياكم وما يعتذر منه فموقف الخزي لا تستقال عثراته ومظنات الفائح لا تؤمن غمراتها وتفقدوا أنفسكم مع الساعات وأفشوا السلام في الطرق والجماعات ورقوا على ذوي الزمانات والعاهات وتاجروا مع الله بالصداقة يربحكم في البضاعات وعولوا عليه وحده في الشدائد واذكروا المساكين إذا نصبتم الموائد وتقربوا إليهم باليسر من ماله واعلموا أن الخلق عيال الله وأحب الخلق إليه المحتاط لعياله وارعوا حقوق الجار

ص: 332

واذكروا ما ورد في ذلك من الآثار وتعاهدوا أولى الأرحام والوشائج البادية الالتحام واحذروا شهادة الزور فإنها تقطع الظهر وتفسد السر والجهر والرشا فإنها تحط الأقدار وتستدعي المذلة والصغار ولا تسامحوا في لعبة قمر ولا تشاركوا أولي البطالة في أمر وصونوا المواعد من الإخلاف والأيمان من حنث الأوغاد والأجلاف وحقوق الله من الازدراء والاستخفاف ولا تلهجوا بالآمال العجاف ولا تكلفوا بالكهانة والإرجاف واجعلوا العمر بين معاش ومعاد وخصوصية وابتدعاد واعلموا أن الله بمرصاد وأن الخلق بين زرع وحصاد وأقلوا بغير الحالة الباقية الهموم واحذروا القواطع عن السعادة كما تحذر السموم واعلموا أن الخير أو الشر في الدنيا محال أن يدوم وقابلوا بالصبر أذية المؤذين ولا تقارضوا مقالات الظالمين فالله لمن بغي عليه خير الناصرين ولا تستعظموا حوادث الأيام كلما نزلت ولا تضجعوا للأمراض إذا أعضلت فكل منقرض حقير وكل منقض وإن طال فقصير وانتظروا الفرج وانتشقوا من جناب الله الأرج وأوسعوا بالرجاء الجوانح واجنحوا إلى الخوف من الله فطوبى لعبد إليه جانح وتضرعوا إلى الله بالدعاء والجئوا إليه في البأساء والضراء وقابلوا نعم الله بالشكر الذي يقيد منها الشارد ويعذب الموارد وأسهموا منها للمساكين وأفضلوا عليهم وعينوا الحظوظ منها لديهم فمن الآثار: " يا عائشة أحسني جوار

ص: 333

نعم الله فإنها قلما زالت عن قوم فعادت إليهم ". ولا تطغكم النعم فتقصروا في شكرها وتلفكم الجهالة بكسرها وتتوهموا أن سعيكم جلبها وجدكم حلبها فالله خير الرازقيم والعقبة للمتقين ولا فعل إلاّ الله إذا نظر بعين اليقين. والله الله لا تنسوا الفضل بينكم ولا تذهبوا بذهابه زينكم وليلتزم كل منكم لأخيه ما يشتد به تواخيه بما أمكنه من إخلاص وبر ومراعاة في علانية وسر وللإنسانية مزية لا تجهل وحق لا يهمل وأظهروا التعاضد والتناصر وصلوا التعاهد والتزاور ترغموا بذلك الأعداء وتستكثروا الأوداء ولا تنافسوا في الحظوظ السخيفة ولا تهارشوا تهارش السباع على الجيفة واعلموا أنَّ المعروف يكدر بالامتنان وطاعة النساء شر ما افسد بين الإخوان فإذا أسديتم معروفا فلا تذكره وإذا برز قبح فاستروه وإذا أعظم النساء أمرا فاحقروه والله الله لا تنسوا مقارضة سجلى وبروا أهل مودتي من أجلي ومن رزق منكم مالا بهذا الوطن القلق المهاد الذي لا يصلح لغير الجهاد فلا يستهلك أجمع في العقار فيصبح عرضة للمذلة والاحتقار وساعيا لنفسه إن تغلب العدو على بلده في الافتضاح والافتقار ومعوقا عن الانتقال أمام النوب الثقال وإذا كان رزق العبد على المولى فالإجمال في الطلب أولى وازهدوا جهدكم في مصاحبة أهل الدنيا فخيرها لا يقوم بشرها ونفعها لا يفي بضرها وأعقاب ما تقدم شاهده والنواريخ لهذه الدعوى عاضدة ومن بلى منكم بها فليستظهر بسعة الاحتمال والتقلل من المال ويحذر معاداة الرجال ومزلات الإذلال وفساد الخيال ومداخلة العيال وإفشاء الأسرار وسكر الاغترار

ص: 334

وليصن الديانة ويؤثر الصمت ويلزم الأمانة ويسر من رضا الله على أوضح الطرق ومهما اشتبه عليه أمران قصد أقربهما إلى الحق وليقف في التماس أسباب الجلال وسمو القدر ورفعة الحال دون الكمال فما بعد الكمال غير النقصان والزعازع تسالم اللدن اللطيف من الأغصان. وإياكم وطلب الولايات رغبة واستجلابا واستظهارا على الحظوظ وغلابا فذلك ضرر بالمروءات والأقدار داع إلى الفضح والعار ومن امتحن منك بها اختيار أو جبر عليها إكراها وإيثار فليتلق

وظائفها بسعة صدره وليبذل من الخير فيها ما يشهد أنَّ قدرها دون قدره فالولايات فتنة ومحنة وأسر وإحنة وهي بين إخطاء سعادة وإخلال بعادة وتوقع عزل وإدالة رخاء بأزل وبيع جد من الدنيا بهزل ومزلة قدم واستتباع ندم ومآل العمر كله فوت ومعاد واقتراب من الله وابتعاد جعلكم الله ممن نفعه بالتصبير والتنبيه وممن لا ينقطع بسببه عمل أبيه.

هذه أسعدكم الله وصيتي التي أصدرتها وتجارتي التي لربحكم أدرتهم فتلقوها بالقبول لنصحها والاهتداء بضوء صبحها وبقدر ما أمضيت من فروعها واستغشيتم من دروعها اقتنيتم من المناقب الفاخرة وحصلتم على سعادة الدنيا والآخرة بقدر ما أضعتم من لآليها النفيسة القيم استكثرتم من بواعث الندم ومهما شئمتم إطالتها واستغزرتم مقالتها فاعلموا أن تقوى الله فذلك الحساب وضابط هذا الباب كان الله خليقي عليكم في كل حال فالدنيا مناخ ارتحال وتأميل الإقامة فرض محال فالموعد للالتقاء دار البقاء

ص: 335