المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌روضة الورد في أولية هذا الإمام الفرد - أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض - جـ ١

[المقري التلمساني]

الفصل: ‌روضة الورد في أولية هذا الإمام الفرد

‌روضة الورد في أولية هذا الإمام الفرد

أقول وعلى الله أعتمد ومن بحر كرمه أستمد: هذه ترجمة نذكر فيها أصله ومحتده وأوليته ومولده.

قال الشيخ الإمام الرحال أبو عبد الله محمّد بن جابر الوادي آشي الملقب بشمس الدين رحمه الله ورضى عنه: هو عياض بن موسى بن عياض بن عمرون بن موسى بن عياض بن محمّد أبن عبد الله بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي. هكذا ذكر نسبه الشيخ أبو القاسم الملاحي. وعمرون ثبت عنده بنون بعد الواو.

ووقع في نعجم أصحاب الصدفي للإمام الشهير القاضي ابى عبد الله محمّد بن عبد الله القضاعي المعروف بابن الأبار عمرو دون نون.

قلت: ونحوه لابن خاتمة في الكتاب المسمى " مزية المرية على غيرها من البلاد الأندلسية ".

وقال الشيخ أبو القاسم بن الملجوم: إجتاز علينا القاضي عياض عند انصرافه من سبته قاصدا إلى الحضرة زائرا لأبي بداره عشية يوم الأثنين الثامن لرجب سنة ثلاث وأربعين وخمس

ص: 23

مائة وفي هذه العشية استجزته وسألته عن نسبه فقال لي: إنما أحفظ: عياض بن موسى بن عياض بن عمرون بن موسى بن عياض. وأحفظ أيضاً بعد ذلك: محمد بن عبد الله بن موسى بن عياض. ولا أعرف أن محمدا هذا هو أبو عياض أو بينهما أحد. انتهى كلام أبن الملجوم.

وقوله اجتاز علينا يعني بمدينة فاس وقوله قاصدا إلى الحضرة يعني مراكش.

وأفادني الشيخ العارف المتبتل الرباني البركة سيدي حسين الزرويلي أبقى الله بركاته وأدام وجوده والنفع به: أن القاضي عياض رضي الله عنه لمّا دخل الحضرة الفاسية حاطها الله نزل بدار أبن الغرديس التغلبي بزنقة حجامة حسبما أشار إليه أبن الأحمر ولم تزل هذه الدار إلى الآن بيد أولاد أبن الغرديس.

وقال نجل عياض الشيخ الإمام أبو عبد الله محمّد بن عياض قاضي دانية على ما قال أبن خلكان وقاضي غرناطة على ما قال أبن قنفذ وغيره. ولعله تولى القضاء فيهما معا رحمه الله المتوفى سنة خمس وسبعين وخمس مائة:

ص: 24

" كان أبي يقول: لا أدري: هل محمّد والد عياض أو بينهما رجل؟ فهو جده " انتهى.

وهو مثل ما حكى أبن الملجوم عن عياض كما سبق قريبا.

ورأيت في تاريخ الشمس أبن خلكان المسمى " وفيات الأعيان " في تعداد آباء القاضي عياض خلاف ما سبق ولا أدري هل ذلك تحريف من الناسخ أو هو من المؤلف؟ ونصه: " عياض بن موسى بن عياض بن موسى بن عياض بن محمّد بن موسى بن عياض اليحصبي ". انتهى.

فأنت تراه قد أسقط عمرون فيما بين عياض وموسى وأسقط أيضاً عبد الله فيما بين محمّد وموسى.

وقد وافق في إسقاط عبد الله الشيخ العلامة أبن خاتمة في " مزية المرية " فأنه قال في باب العين ما نصه: " ومن الغرباء: عياض بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى بن عياض بن محمّد بن موسى بن عياض اليحصبي ". انتهى.

على إنَّ أبن خلكان وغيره من المشارقة ربما يقع لهم الغلط في تاريخ أهل المغرب لبعد الديار ولغير ذلك مما لا يخفى على ممارس علم التاريخ كما إنَّ كثيرا من المغاربة لا يحررون تاريخ المشارقة لمّا ذكرناه ولذا قال شيخ الإسلام أبن حجر في تأليفه المسمى " إنباء الغمر بأنباء العمر " حين عرف

ص: 25

بشيخه ولي الدين بن خلدون الحضرمي المغربي قاضي القضاة المالكية بالديار المصرية، وهو صاحب التاريخ الكبير المشهور، الموسوم " ديوان العبر، وكتاب المبتدأ والخبر، في تاريخ العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر " ما نصه: " وصنف التاريخ الكبير في سبع مجلدات ضخمة، ظهرت فيه فضائله، وأبان فيه عن براعته، ولم يكن مطلعا على الأخبار على جلتها، ولا سيما أخبار المشرق وهذا بين لمن نظر في كلامه ". انتهى.

وأين هذا الكلام وقول الشيخ شمس الدين البغدادي في الشيخ ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون المذكور، رحم الله تعالى الجميع:

قاضي القضاة لبن خلدون أتى عجبا

تاريخه مخبر عن سائر الدولِ

وليس بدعا ولا في الله ممتنعا

أن يجمع العلم الكلي في رجلِ

وبالجملة فما ذكرنا أولا في تعداد آباء القضي عياض، رحمه الله، هو الذي

ص: 26

عليه المعول، وعليه اعتمد ولده، وأبن الملجم، وابن بشكوال، وأبن جابر وأبن الخطيب في " الإحاطة " وغير واحد؛ وكفى بهؤلاء حجة. وناهيك بولده وأبن الملجم الذي أخذ ذلك من لفظه، حسبما سبق آنفاً؛ وهو الصواب الذي لا يعدل عنه، والله تعالى اعلم.

واليحصبي، بضم الصاد وكسرها، وزاد بعضهم فتحها ونحوه لابن خلكان؛ واقتصر بعضهم على الكسر قائلا: وهو الصواب بناء على أنها اعني القبيلة، يحصب بكسر الصاد، كتغلب. ولا اشك أنَّ النسب إليه إن كان بكسر الصاد: يحصبي بالكسر كتغلبي؛ وأما ضم الصاد في النسب فهو مبني على أن " يحصب " بضم الصاد في الحي. قال أبن سيده في محكمه: ويحصب: قبيلة، وإنّما هي يحصب، يعني بضم الصاد، نقلت من قولك: حصبه بالحصى يحصبه؛ قال أبن جابر: وليس بالقوي ويحصب: من حمير وهو يحصب بن مدرك حسبيما هو مذكور في كتب الأنساب.

قال القاضي أبو عبد الله محمد بن القاضي أبي الفضل عياض:

ص: 27

" استقر اجدادنا في القديم بجهة بسطة، من بلاد الندلس، ثم انتقلوا إلى مدينة فاس، وكان لهم استقرار بالقيروان، فلا أدري أكان قبل استقرارهم بالأندلس أم بعده؟ ولذلك يقول عبد الله بن حكيم:

وكانت لهم بالقيروان مآثر

عليها لمحض الحق أوضح برهانِ

قال: وكان " عمرون " والد جد أبي، رحمه الله على جميعهم، رجلاً خيرا صالحا، من أهل القرآن، حج إحدى عشرة حجة وغزا مع أبن أبي عامر غزوات كثيرة، وانتقل من مدينة فاس إلى مدينة سبته، بعد دخول بني عبيد الغرب، وكان سبب ذلك أنّه كان له ة لأبيه نباهة بمدينة فاس، فأخذ أبن أبي عامر رهنا من أعيان مدينة فاس فأخذ فيهم أخوي " عمرون ": عيسى والقاسم، فخرج عمرون إلى مدينة سبتة، ليقرب من أخبارهما بمدينة قرطبة، فاستحسن سكنى مدينة سبتة، وكان موسراً، فاشترى بها أرضاً وهي المعروفة بالمنارة فبنى في بعضها مسجداً وفي بعضها دارا حبسها على المسجد وهو حتى الآن منسوب اليه، وحبس الأرض للدفن، ولم يزل منقطعا في ذلك المسجد إلى أن مات رحمه الله سنة سبع وتسعين وثلاث مائة. وولد له قبل وفاته بيسير ابنه عياض ثم ولد لعيلض ابنه موسى ثم ولد لموسى ابنه

ص: 28

عياض أبي رحمهم الله أجمعين؛ وذلك فيما رايته بخطه في النصف من شعبان عام ستّة وسبعين وأربع مائة بسبتة " انتهى.

والسبتي: نسبة إلى سبتة، مدينة بساحل بحر الزقاق، مشهورة واختلف في سبب تسميتها فقيل لانقطاعها في البحر من قولك: سبت النعل: إذا قطعتها وقيل لأنَّ مخطها هو سبت بن حام بن نوح وإلى هذا الأخير ينظر قول لسان الدين الوزير الشهير، العلامة أبو عبد الله بن الخطيب السلماني الغرناطي، رحمه الله من قصيدة:

حييت يا مختط سبت بن نوح

بكل مزن يغتدى أو يروح

مغني أبي الفضل على الذي

أضحت برياه رياض تفوح

وفيها يقول الأديب أبو الحكم مالك بن المرحل، من قصيدة طويلة بديعة جدا، مطلعها:

سلام على سبتة المغرب

أخية مكة أو يثربِ

وفي مدحها يقول أيضاً رحمه الله:

اخطر على سبتة وانظر إلى جمالها تصبو إلى حسنهِ

كأنها عود غناء وقد

ألقى في البحر على بطنهِ

وقال الحجاري في المسهب: " أوّل من سكن بر الدوة وبر الأندلس من نوح بعد الطوفان سبت واندلس ابنا يافث بن نوح فنزل سبت في ىخر المعمور من بر العدوة،

ص: 29

وبنى له منزلا في موضع سبتة فدعيت باسمه، وتناسلت منه قبائل البربر، واتسعت في بر العدوة إلى أن بلغت إلى فلسطين، وكان ملكهم يسمى جالوت، وكان مجوسيا، وهزمه طالوت، وقتله داود، فانضمت البربر عن فلسطين وعن الديار المصرية واقتصرت من برقة إلى آخر المعمور؛ وسكن أخوه أندلس مقابلا له في انتهاء المعمور فعرفت باسمه " انتهى.

وأكثر بلاد العدوة في الإقليم الثالث، وفيه حضرتها مراكش وما قارب منها الأندلس كسبتة وما قرب منها في الإقليم الرابع.

قال أبن سعيد: " ولا نطالب في هذا البر بما صنعناه في الأندلس فأهل الأندلس إما عرب أو متعربون، قد توارثوا قوام اللسان وحافظوا عليه وأهل بر العدوة أما بربر أو متبربرون ". انتهى.

وفي وصفها يقول لسان الدين بن الخطيب في مقامة وصف البلدان: " قلت: فمدينة سبتة؟ قال: تلك عروس المجلي، وثنية الصباح الأجلى؛

ص: 30

تبرجت تبرج العقيلة، ونظرت وجهها من البحر في المرآة الصقيلة، واختص ميزان حسناتها بالأعمال الثقيلة؛ وإذا قامت بيض أسوارها وكان جبل بليونش في جوارها وتهيم الخواطر بين أنجادها وأغوارها؛ إلى الميناء الفلكية، والمراقي الملكية. والركية الزكية غير المنزورة ولا البلكية ذات الوقود الجزل، المعد للأزل، والقصور المقصورة على الجد والهزل؛ والوجوه الزهر السحن، المضنون بها عن المحن؛ دار الناشبة، والحامية المضرمة للحرب المناشبة؛ والأسطول المرهوب، المحظور الألهوب والسلاح المكتوب المحسوب، والأثر المعروف المنسوب؛ كرسي الأمراء والشراف والوسيطة، لخامس أقاليم البسيطة، فلا حظ لها في الأنحراف؛

ص: 31

بصرة علوم اللسان وصنعاء الحلل الحسان وثمرة امتثال قوله " إنَّ الله يأمر بالعدل والإحسان " الأمينة على الأختزان، القويمة المكيال والميزان، محشر أنواع الحيتان، ومحط قوافل العصير والحرير والكتان، وكفاها السكنى ببليونش في فصول الأزمان، ووجود المسكن النبيهة بأرخص الأثمان؛ والمدفن المرحوم غير المزحوم، وخزانة كتب العلوم، والآثار المنبئة عن أصالة الحلوم؛ إلا أنها فاغرة الأفواه للجنوب للغيث المصبوب عرضة للرياح ذات الهبوب عديمة الحرث فقيرة من الحبوب ثغر تنبو فيه المضاجع بالجنوب وناهيك بحسنة تعد من الذنوب؛ فأحوال أهلها رقيقة، وتكلفهم ظاهر مهما ظهرت وليمة أو غنيمة، واقتصادهم لا تلتبس منه طريقة وأنساب نفقاتهم في تقدير الأرزاق عريقة؛ فهم يمصون البلالةمص المحاجم، ويجعلون الخبز في الولائم بعدد الجماعة، وفتنتهم ببلدهم فتنة الواجم بالبشير المهاجم، وراعي الجديب بالمطر السحيم؛ فلا يفضلون على مدينتهم مدينة الشك عندي في مكة والمدينة ". انتهى. قلت: ولعله عرض بقوله: " الشك عندي في مكة والمدجينة " بقول مالك بن المرحل: " أخية مكة أو يثرب " والله اعلم.

وكان لسان الدين بن الخطيب كثيرا ما ينزل في وجهاته المغربية عند الشريف الشهير، سيدي أبي العباس أحمد بن سيدي محمد أبن سيدي احمد،

ص: 32

أبن سيدي طاهر سيدي رفيع أبن سيدي علي المدعو بالمكين، أبن سيدي أحمد، أبن سيدي علي، أبن سيدي أبي الطاهر، أبن سيدي الحسين، أبن سيدي موهوب، أبن سيدي أحمد، أبن سيدي محمد، أبن سيدي طاهر، أبن سيدي الحسين، أبن مولانا علي، المعو بالهادي، أبن مولانا محمد، المدعو بالجواد، أبن مولانا علي الرضا أبن مولانا موسى، المدعو بالكاظم، أبن مولاي جعفر الصادق، أبن مولاي محمد الباقر بن زين العابدين علي، أبن ملانا الحسين الشهيد، أبن مولانا أمير المؤمنين، مولانا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ونفعنا ببركته هؤلاء السادات، الذين سردنا أسمائهم تبركاً بها.

قال صاحب كتاب " الكواكب الوقادة، في ذكر من دفن في سبتة من العلماء والصلحاء القادة ":

" كان هذا السيد الشريف يوسع أبن الخطيب إكراما، وكان من عادة الشريف المذكور أن يخرج إلى بساتينه في المصيف بقرية بليونش، كمنية العبا، وجنة الحافة، ويخرج في القبة السامية المطلة على البحر بجنة الحافة، ويجعل الطريق تحته، فإذا رأى جماعة سائرين من أي صنف كانوا، من التجار أو الغرباء أو البلديين، يوجه رجاله إليهم ويقدم لهم الطعام، ويرتاح إلى ذلك ويسر به ويؤنس كلاً بما يناسبه، من ذكر عيون أخبار بلده، وخاصة قطره، وما يجر إلى ذلك ويرجع اليه، من بديع الحكايات، ولطيف

ص: 33

النوادر؛ ثم يأمر بإدارته على تلك البستان، ورؤية ما بها من المصانع، ثم يبعث وراء آخرين، وينزل كل واحد منزلته، ويغيب عمن يخجله حضوره؛ ويغضى عن مداعبة إن وقعت، ويتجاهل الهفوة أن بدرت. وكان يخرج الوزير أبن الخطيب عند نزوله عنده إلى هذه القرية البليونشية.

ومن بديع نظم أبن الخطيب فيها:

بليونش أسنى الأماكن رفعة

وأجل أرض الله طراً شانا

هي جنة الدنيا التي من حلها

نال الرضا والروح والريحانا

قالوا القرود بها فقلت فضيلة

حيوانها قد قارب الإنسانا

وفيها يقول القاضي عياض:

بليونش جنة ولكن

طريقها يقطع النياطا

كجنة الخلد لا يراها

إلاّ الذي جاوز الصراطا

ونقلت من خط أبن حيان بعد كلام في سبتة ما نصه: " ومتنزهاتها أعظمها بليونش تحتوي على مياه عيون وأودية ومتنزهات، وأبنية عظيمة؛ وفيها من جميع الأشجار والثمار ".

ص: 34

وفيها يقول أبو الحجاج المنصفي:

بليونش شكلها بديع

أفع في قالب الجمالِ

فيها الذي ما رأته عيني

يوماً ولم يخطر ببالي

طريقها كالصدود لكن

تعقبه لذة الوصالِ

قال أبن رشيد: وأنشدني القاضي أبو عبد الله محمد بن أبي عبد الرحمن الكميلي قاضي أزمور فيها:

بليونش كلها عذاب

فالمشي في سبلها عقاب

يكنفها شامخ منيف

كأنه فوقها عقاب

وهذا الشامخ يعرف بجبل نوسى. وإليه أشار المنصفي في مخمسة: وطود موسى لها تاج تاج على الراس وبهذا الجبل متعبد مبارك، وبساحله مغطس المرجان، ومن عجائب هذا المتعبد أنَّ من دخله ممن ليس له أهلاً فانه يجد في عنقه صفعاً إلى اسفل الجبل؛ وهو مسيرة ثلاثة أميال، وهو من سبتة على تسعة اميال، وبهذا الجبل منشأ

ص: 35

القرود، وهو مستشرف على بعض الأندلس. وبسبتة مدرسة بناها أبو الحسن الشاري، ووقف بها كتبا عظيمة.

وبموضع يقال له التوتة يوجد كثير من اليلقوت الأحمر دقيق. ومن عجائبها أن البلارج لا تعشش فيها، وقلما تخطر عليها. ويقال أنها بناها سبت بن سام بن نوح وأنّه دعا لها باليمن والبركة ورووا في ذلك حديثا عن مالك عن نافع عن أبي عمر. قال عياض: وأبرأ أنا من عهدته، وقد خرجه في الغنية، ولذلك قال بعض الشعراء:

فكل جبار إذا ما طغى

وكان في طغيانه يسرفُ

أرسل الله إلى سبتةٍ

فكل جبار بها يقصفُ

أنشدها أبو عبد الله محمد بن حمادة البرنسي، خال أبي لأمه، في كتابه المسمى " المقتبس، في أخبار المغرب والأندلس ".

ومن نظم المنصفي في بليونش من قصيدة:

انظر إلى نضرة زهر الربا

كأنه وشى على كاعبِ

ومتع الطرف ببليونش

ومائها المنبعث الساكبِ

تشاركت والحسن في وصفها

تشارك العين مع الحاجبِ

ص: 36

وقد أرتنا اليوم من حسنها

ما لم يكن في زمن الحاجبِ

والحاجب: أحد ملوك سبتة؛ وله عمل أبن مرانة قصيدة في الكوائن والحوادث.

فعالة بالطبع في أهلها

ما تفعل القهوة بالشاربِ

تذكر الشيخ زمان الصبا

وتفسد التوبة للتائبِ

وله:

انظر إلى بهجة بليونش

وحسن ذاك المنظر اللامعِ

تحكى الثريا عندما أسرجت

بليلة الختمة في الجامعِ

ولمّا قفل السلطان الأشهر أبو عبد الله محمد بن يوسف بن الأحمر من المغرب، حين رجوعه إلى بلده مع قاضي حضرته غرناطة، أبي الحسن علي بن الحسن، المعروف بالنباهي شيخنا، ووزيره أبي عبد الله بن الخطيب، صنع له ضيافة ملوكية بالمنية، من قرية بليونش المشار إليها، حيث القصر هناك، وعنصر

ص: 37

الماء المختص بها. ومن هناك ركب البحر ليلا وذلك في جمادى الآخر من عام ثلاثة وستين وسبع مائة. وفي الحادي والعشرين من الشهر المذكور دخل دار ملكه حمراء غرناطة، وأكل من فضل هذه الضيافة معظم من كان بالقرية من قوي وضعيف ورفيع ووضيع.

وكان شيخنا القاضي أبو الحسن المذكور يثني عليه، ويعظمه تعظيما يليق بمثله، ويقول في أثناء حديثه: فعل أبو العباس الشريف صاحب سبتة كذا، وصنع كذا. ولم تزل حالته هذه، رحمه الله عليه، إلى أن أسن وأقعد، فلزم منزله ثلاث سنين، من غير أن ينقص ذلك من منصبه شيئاً ولا من انتفاع الناس به؛ وكان ابيض اللون، حسن الهيئة والملبس، يخضب بالحناء؛ وتوفي في زمانته وقد نيف على الثمانين، عام ستنة وسبعين وسبع مائة، وله الآن قرابة بمدينة فاس بقيد الحياة " انتهى كلام صاحب الكواكب الوقادة باختصار، وبعضه بالمعنى.

ومن نظم هذا الشريف، مما أمر به أن ينقش بالقبة المذكورة آنفاً في معنى الآستعاذة:

وثقت بالله ربي

وحسبي الله حسبي

والله كافٍ وواقٍ

ودافع كل خطب

ولست أخشى إذا ما

وثقت بالله ربي

بلغت فيها مرادي

منها مع صحبي

والخمس تفقأ عيناً

لكل حاسد ندبِ

ص: 38

وكان السلطان المرحوم أبو عنان فارس، أبن سلطان أبي الحسن المريني يجل هذا الشريف، ويعترف له بالفضل، ويعطيه العطاء الجزل، وكان يستدعيه كل سنة إلى حضرته فاس، لحضور المولد السعيد، الذي سنه ببلاد المغرب الشيخ أبو العباس العزفي، وتلك السنة إلى الآن بحسن نيته، واعتنائه بالجانب العلى، نفعه الله بذلك، ويخلع عليه الخلع الملوكية، ويعد له ديناراً مسكوكا يصنع بمدينة مراكش، زنته مائة دينار ذهباً، يدفع له ذلك مع جائزته، إلى غير ذلك مما كان يتحفه به، رحمه الله، ويصحبه في وجهته تلك من الضعفاء والتجار ما لا يحصى كثرة، ويتولى هو الإنفاق على الجميع من ماله، ويرفع عنهم اللوازم المخزنية، فكان التجار لأجل ذلك يرصدون وقت سفره وقفولته. وقدمه السلطان أبو عنان لمذكور ناظرا إلى بلده سبتة، وأمر صاحب قصبتها ألا يقطع أمراً إلاّ بمشورته، فكان العمال يخافونه ويشاورونه، فإذا رأى من أحدهم خروجا عن العادة، أو حيفا على الرعية، كتب إلى السلطان في شأنه، فيزله من فوره، ويعوضه بغيره. وكان يقول للسلطان: لعلك تحسبني خديما، لست كذلك، وإنّما نحن معشر أهل البيت شفعاء في الدنيا، وشفعاء في الآخرة. فكان أهل سبته في أيامه في عيش هني، ونعمة شاملة، بقي على هذه الحالة المرضية مدة عشرين سنة. وله بسبتة آثار تحكى الآثار العزفية، كالرياض

ص: 39

الأعظم، الذي إمام باب الميناء الأسفل الذي تأنق فيبنيانه وأبدع صنعته، وجلب إليه المياه بالدواليب حتى أوصله إلى القبة ذات الأعمدة، وكالرياض الذي بالصفارين، حيث كان قعوده مع خواص الناس وعامتهم.

قال صاحب الكواكب الوقادة: " سمعت أحد كتابه الخاص به، الملازم له ليلاً ونهاراً، مع مرور الأيام والسنين، يقول: ما أمرني قط سيدي ومولاي الشريف بكتب شيء مخالف للشرع، بل في رفع المظالم، وإنهاء الشفاعات، وتوجيه الأمانات، وما في معنى ذلك، مما ندب إليه الشرع، وحض عليه، ووعد بالثواب على فعله. وطالما سمعت الكاتب المذكور يقسم على ذلك، فنفعه الله به ". انتهى.

قلت: تذكرت بهذا الفعل الجميل ما كتب به على دواة أمير المؤمنين أبي عنان، رحمه الله، وهو:

أنا دواة فارس

أبي عنان المعتمد

حلفت من يكتب بي

بالواحد الفرد الصمد

أنَّ لا يمد مدة

في قطع رزق لأحد

وقد رأيت في هذا الأيام دواة في غاية ما يكون من الإتقان والصنعة والتذهيب، وفيها مكتوب البيتان الأخيران، وهي عند بعض أصحابنا الكتاب الحضرة الفاسية أحاطه الله وأظنها هي الدواة التي كانت لأبي عنان، والله اعلم.

ص: 40