الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حاله
قال أبن الأحمر: " هو شاعر الدنيا وعلم المفرد والثنيا وكتاب الأرض إلى يوم العرض لا يدافع مدحه في الكتاب ولا يجنح فيه إلى العتب آخر من تقدم في الماضي وسيف مقولة ليس بالكهام إذ هو الماضي وإلاّ فانظر كلام الكتاب الأول من العصبة كيف كان فيهم بالإفادة صاحب القصبة للبراعة باليراعة وبه اسكت صائلهم وما حمدت بكرهم وأصائلهم المشوبة بالحلاوة الممكنة من مفاصل الطلاوة وهو نفيس العدوتين ورئيس الدولتين بالاطلاع على العلوم العقلية والإمتاع بالفهوم النقلية لكن صل لسانه في الهجاء لسع ونجاد نظاقة في ذلك اتسع حتى صدمني وعلى القول فيه أقدمني بسبب هجوه في أبن عمي ملك الصعق الأندلسي سلطان ذلك الوطن في النفر الجنسي المعظم في الملوك بالقول الجني والإنسي ثم صفحت عنه صفحة القادر الوارد من مياه الظفر غير الصادر لأنَّ مثلي لا يليق به إظهار العورات ولا يجمل به تتتبع العثرات اتباعا للشرع في تحريم الغيبة وضربا عن الكريهة وإثباتا لحظوظ النقيبة الرغيبة فما ضره لو اشتغل بذنوبه وتأسف على ما شرب من ماء الهجو بذنوبه. وقد قال بعض الناس: من تعرض للأعراض أرسى عرضه هدفا لسهام الأغراض ". انتهى كلام أبن الأحمر.
وقال غيره: تقلد الكتابة أيام السلطان أبي الحجاج في أخريات دولته بعد
شيخه أبن الجياب.
قال أبن الصباغ العقيلي: " كان أبو الحسن بن الجياب رئيس كتاب الأندلس وهم رؤساء غيرهم واختص به الوزارتين أبو عبد الله بن الخطيب اختصاصا تاما وأورثته رتبته من بعده وعهد بها إليه مشيرا بذلك على من استشاره من أعلام الحجاب عند حضوره عمره. وتدرب بذكائه حتى استحق أزمته فأنسى بحسن سياسته شيخه المذكور ونال التي لا فوقها من الحظوة وبعد الصيت وسعادة البخت.
اتفق له يوما بعد ما عزم النصراني على ورود البلاد وضاقت به الصدور فأنشد أبن الجياب بديها بمحضر الكتاب:
هذا العدو قد طغى
…
وقد تعدى وبغى
وقال لابن الخطيب: أجز أبا عبد الله فأنشده بديها:
وأظهر السلم وقد
…
أسر حسوا في أرتغا
فبلغ الرحمن سي
…
في النصر فيه ما ابتغى
ورده رد ثمود
…
والفصيل قد رغا
حتى يرى وليمة
…
لكل مرهوب الثغا
فقال أبن الجياب: هكذا وإلاّ فلا وعجب الحاضرون من هذه البديهة ". انتهى كلام أبن الصباغ.
ولمّا توفي أبو الحجاج ازدادت منزلة أبن الخطيب عند ابنه أبي عبد الله إلى أن كانت عليه الدائرة فقبض على أبن الخطيب وعلى أملاكه ثم تخلص منها نكبة مصحفية بشفاعة السلطان المستعين بالله أبي سالم إبراهيم أبن السلطان الشهير الكبير أبي الحسن المريني صاحب المغربو كان تحريك عزائم السلطان ابى سالم للشفاعة فيه بسعاية الغالبع دولته الحاجب الرئس الخطيب الراحل أبي عبد الله بن مرزوق. ولمّا تخلص لبن الخطيب من هذه الأنشوطة لحق بسلطانه أبي عبد الله كما نذكره قريبا وورد صحبته المغرب واستقر أبو عبد الله بن الخطيب بسلا تحت الجراية التامة متكلفا خدمة ضريح الملوك من بني مرين ليمت باب إلى صاحب الملك من بينهم كما يقضي له ما بقي من مآربه بالأندلس بشفاعة غير مردودة وفي أثناء هذه المدة كان يتطوف ببلاد المغرب مثل مراكش وأنظارها. ثم لمّا رجع مخدومة لغرناطة عاد هو في صحبة أولاده فألقى مقاليد رياسته وأزمة سياسته ورقاه إلى الذروة
التي لا فوقها ثم سم الخدمة وتسخط النعمة وأضمر الفرار عندما سمع بأن الملك استوثق للسلطان أبي فارس بن أبي الحسن المريني وأنّه ملك تلمستان فأظهر الذهاب إلى تفقد أحوال بعض الثغور فكان آخر عهد الأندلس به وخرج بتلمستان واهتزت دولة السلطان أبي فارس لقدومه ثم كان من أمه ما سنذكره.
ولنورد بعض تفضيل لمّا سبق الإلمام به وما لم يسبق فنقول: قال في كتابه المسمى باللمحة البدرية في الدولة النصرية عند ذكره خلع السلطان أبي عبد الله وقيام الأمير إسماعيل عليه وذلك في شهر رمضان المعظم من عام ستين وسبع مائة ما نصه:
" وكان السلطان أبو عبد الله عند تنصير الأمر إليه قد ألزم أخاه إسماعيل قصرا من قصور أبيه بجوار داره مرفها عليه متممة وظائفه له وأسكن معه أمه وأخواته منها وقد أستأثر يوم وفاة والده بمال جم من خزائنه الكائنة في بيتها فوجدت السبيل إلى السعي لولدها فجعل تواصل زيارة ابنتها التي عقد لها الوالد مع أبن عمه الرئيس أبي الوليد أبن الرئيس أبي عبد الله المبايع له بأندروش أبن الرئيس أبي السعيد جدهم الذي تجمعهم جرثومته وشمر المهر المذكور عن ساعد عزمه وجده وهو على ما هو من الإقدام ومداخلة ذؤبان الرجال واستعان بمن آسفه الدولة وهفت به الأطماع فتألف منها زهاء مائة قصدوا جهة
من جهات القلعة متسنمين شفا صعب المرتقي واتخذوا آلة تدرك ذروته لصعود بنية كانت عن التمام وكسبوا حرسيا بأعلاه بما اقتضى صماته فاستووا به ونزلوا إلى القلعة سحر الليلة الثامنة والعشرين من شهر رمضان عام ستين وسبع مائة فاستظهروا بالمشاعل والصراخ وعالجوا دار الحاجب رضوان ففضوا أغلاقها ودخلوا فقتلوه بين أهله وولده وانتهبوا ما اشتملت عله داره وأسرعت طائفة مع الرئيس فاستخرجت الأمير المستقل إسماعيل وأركبته وقرعت الطبول ونودي بدعوته وقد كان أخوه السلطان متحولا بولده إلى سكنى الجنة المنسوبة إلى العريف لصق داره وهي المثل المضروب في الظل الممدودة والماء المسكوب والنسيم البليل يفصل بينها وبين معقل الملك السور المنيع والخندق المصنوع فما راعه إلاّ النداء والعجيج وأصوات الطبول وهب إلى الدخول إلى القلعة. فألفها قد أخذت دونه شعائها كلها ونقابها وقذفته الحراب ورشقته السهام فرجع أدراجه وسدده الله في مخل الحيرة ودس له عرق الفحول من قومه فامتطى صهوة فرس كان مرتبطا عنده وصار لوجهه فأعيا المتبع وصبح مدينة وادي آش ولم يشعر حافظ قصبتها إلاّ به وقد تولج عليها فالتف بها أهلها وأعطوه صفتهم بالذب عنه فكان أملك بها وتجهزت الحشود إلى منازلته وقد جدد
أخوه المتغلب على ملكه عقد السلم مع طاغية قشتالة باحتياجه إلى سلم المسلمين لجراء فتنة بينه وبين البرجلونيين من أمته واغتبط به أهل المدينة فذبوا عنه ورضوا بهلاك عمتهم دونه واستمرت الحال إلى يوم عيد النحر من عام التاريخ ووصله رسول صاحب المغرب مستنزلا منها ومستدعيا إلى حضرته لمّا عز عن إمساكها. وراسل ملك الروم فلم يجد عند من معول فانصرف ثانية يوم عيد النحر المذكور وتبعه الجمع الوافر من أهل المدينة خيلا ورجالا إلى مربلة من ساحل إجازته. وكان وصوله إلى مدينة فاس مصحبا من البر والكرامة بما لا مزيد عله في السادس من شهر محرم فاتح عام واحد وستين وسبع مائة وركب السلطان للقائه ونزل إليه عند ما سلم عليه وبالغ في الحفاية به.
وكانت قد لحق به مفلتا من شرك النكبة التي استأصلت المال وأوهمت سوء الحال بشفاعة السلطان أبي سالم قدس الله روحه فقمت بين يديه في المحفل المشهود يومئذ وأنشدته:
سلا هل لديها من مخبرة ذكر
…
وهل أعشب الوادي ونم به الزهر
وهل باكر الوسمي دارا على اللوى
…
عفت آيها إلاّ التوهم والذكر
بلادي التي عاطيت مشمولة الهوى
…
بأكنافها والعيش فينان مخضر
وجوى الذي ربي جناحي وكره
…
فها أنا ذا مالي جناح ولا وكر
نبت بي لاعن جفوة وملالة
…
ولا نسخ الوصل الهني بها هجر
ولكني الدنيا قليل متاعها
…
ولذاتها دأبا تزور وتزور
فمن لي بقرب العهد منها ودونها
…
مدى طال حتى يومه عندنا شهر
ولله علينا من رآنا وللأسى ضرام له في كل جارحة جمر
وقد بددت در الدموع يد النوى
…
وللشوق أَشجان يضيق لها الصدر
بكينا على نهر الشروب عشية
…
فعاد أجاجا بعدنا ذلك النهر
أقول لأظعاني وقد غالها السرى
…
وآنسها الحادي وأوحشها الزجر
رويدك بعد العسر يسر أنَّ أبشري
…
بأنجاز وعد الله قد ذهب العسر
ولله فينا سر غيب ربما
…
أتى النفع من حال أريد بها الضر
وإنَّ تخن الأيام لم تخن النهى
…
وإنَّ يخذل الأقوام لم يخذل الصبر
وإنَّ عركت مني الحظوب مجربا
…
نقابا تساوى عنده الحلو والمر
فقد عجمت عوداً صليبا على الردى
…
وعزما كما تمضي المهندة البتر
إذا أنت بالبيضاء قررت منزلي
…
فلا اللحم حل ما حييت ولا الظهر
زجرنا بإبراهيم برء همومنا
…
فلما رأينا وجهه صدق الزجر
بمنتخب من آل يعقوب كلما
…
دجا الخطب لم يكذب لعزمته فجر
تناقلت الركبان طيب حديثه
…
فلما رأته صدق الخبر الخبرَ
ندى لو حواه البحر لذ مذاقه
…
ولم مده أبداً جزر
وبأس غدا يرتاع من خوفه الردى
…
وترفل في أثوابه الفتكه البكر
أطاعته حتى العصم في قنن الربا
…
وهشت إلى تأميله الأنجم الزهر
قصدناك يا خير الملوك على النوى
…
لتنصفنا مما جنى عبدك الدهر
كففنا بك الأيام عن غوائلها
…
وقد رابنا منها التعسف والكبر
وعذنا بذاك المجد فانصرم الردى
…
ولذنا بذاك العز فانهزم الذعر
ولمّا أتينا البحر يرهب موجه
…
ذكرنا نداك الغمر فاحتقر البحر
خلافتك العظمى ومن لم يدن بها
…
فإيمانه لغو وعرفانه نكر
ووصفك يهدي المدح قصد صوابه
…
إذا ضل في أوصاف من دونك الشعر
دعتك قلوب المؤمنين واخلصت
…
وقد طاب منها السر لله والهجر
ومدت إلى الله الأكف ضراعة
…
فقال لهن الله قد قضى الأمر
وألبسها النعمى ببيعتك التي
…
لها الطائر الميمون والمحتد الحر
فأصبح ثغر الثغر بيسم ضاحكا
…
وقد كان مما نابه ليس يفتر
وأمنت بالسلم البلاد وأهلها
…
فلا ظبة تعرى ولا روعة تعرو
وقد كان مولانا أبوك مصرحا
…
بأنك في أبنائه الولد البر
وكنت خليقاً بالإمارة بعده
…
على الفور لكن كل شيء له قدر
وأوحشت من دار الخلافة هالة
…
أقامت زمانا لا يلوح بها البدر
فرد عليك الله حقك إذ قضى
…
بأن تشمل النعمى وينسدل الستر
وقاد إليك الملك رفقا بخلقه
…
وقد عدموا ركن الإمامة واضطروا
وزادك بالتمحيص عزا ورفعةً
…
وأجرا ولولا السبك ما عرف التبر
وأنت الذي تدعى إذا دهم الردى
…
وأنت الذي ترجى إذا أخلف القطر
وأنت إذا جار الزمان محكم
…
لك النقض والإبرام والنهى والأمر
وهذا أبن نصر قد أتى وجناحه
…
مهيض ومن علياك يلتمس الجبر
غريب يرجى منك ما أنت أهله
…
فإنَّ كنت تبغي الفخر قد جاءك الفخر
ففز يا أمير المسلمين ببيعة
…
موثقة قد حل عروقها الغدر
ومثلك من يرعى الدخيل ومن دعا
…
بيا لمرين جاءه العز والنصر
وخذ يا إمام الحق بالحق ثأره
…
ففي ضمن ما تأتى به العز والأجر
وأنت لها يا ناصر الحق فلتقم
…
بحق فما زيد يرجى ولا عمرو
فإنَّ قيل مال مالك الدهر وافر
…
وإنَّ قيل جيش عندك العسكر المجر
يكف باب العادي ويحيا الهدى ويبني بك الإسلام ما هدم الكفر
أعده إلى أوطانه عنك راضياً
…
وطوقه نعماك التي مالها حصر
وعاجل قلوب الناس فيه بجبرها
…
فقد صدهم عنه التغلب والقهر
وهم يرقبون الفعل منك وصفقة
…
تحاولها يمناك ما بعدها خسر
مرامك سهل لا تؤودك كلفة
…
سوى ما إنَّ له في العلا خطر
وما العمر إلاّ زينة مستعارة
…
ترد ولكن الثناء هو العمر
ومن باع ما يفني باق مخلد
…
فقد انجح المسعى وقد ربح التجر
ومن دون ما تبغيه يا ملك الهدى
…
جياد المذكى والمحجلة الغر
وراد وشقر واضحات شياتها
…
فأجسامها تبر وأرجلها در
وشهب إذا ما ضمرت يوم غارةٍ
…
مطهمة غارت بها الأنجم الزهر
وأسد رجال من مرين مخيفة
…
عمائمها بيض وآسالها سمر
عليها من الماذى كل مفاضة
…
تدافع في أعطافها اللجج الخضر
هم القوم إنَّ هبوا لكشف ملمة
…
فلا الملتقى صب ولا المرتقى وعر
إذا سئلوا أعطوا وإنَّ نوزعوا سطوا
…
وإنَّ واعدوا وفوا وإنَّ عاهدوا بروا
وإنَّ مدحوا أهتزوا ارتياحا كأنهم
…
نشاوى تمشت في معاطفهم خمر
وإنَّ سمعوا العوراء فروا بأنفس
…
حرام على هماتها في الوغى الفر
وتبسم ما بين الوشيج ثغورهم
…
وما بين قضب الدوح يبتسم الزهر
أمولاي غاضت فكرتي وتبدلت
…
طباعي فلا طبع يعين ولا فكر
ولولا حنان منك داركتني به
…
وأحييتني لم تبق عين ولا أثر
فأوجدت مني فائتاً أي فائت
…
وأنشرت ميتا ضم أشلاءه قبر
بدأت بفضل لم أكن لعظيمة
…
بأهل فجل اللطف وانفرج الصدر
وطوقتني النعمى المضاعفة التي
…
يقل عليها مني الحمد والشكر
وأنت بتتميم الصنائع كافل
…
إلى أنَّ يعود الجاه والعز والوفر
جزاك الذي أسنى مقامك عصمة يفك بها عانٍ وينعش مضطر
إذا نحن أثنينا عليك بمدحة
…
فهيهات يحصى الرمل أو يحصر القطر
ولكننا نأتى بما نستطيعه ومن بذل المجهود حق له العذر
فلا تسأل عن امتعاض وانتقاض، وسداد أنحاء في التأثر لنا وأغراض، والله غالب على أمره.
وفي صبيحة يوم السبت السابع عشر من شهر شوال عام اثنين وستين وسبع مائة كان انصرافه إلى الأندلس، وقد ألح صاحب قشتالة في طلبه، وترجح الرأي على قصده، فقعد السلطان بقبة العرض من جنة المصارة، وبرز الناس وقد أسمعهم البيرح، واستحضرت البنود، والطبول والآلة، وألبس خلعة الملك، وقيدت له مراكبه فاستقل، وقد التف عليه كل من جلا عن الأندلس من لدن الكائنة في جملة كثيفة، ورئي من رقة الناس وإجهاشهم وعلو أصواتهم بالدعاء ما قدم به العهد، إذ كان مظنة ذلك سكوناً وعطافاً وقربا، قد ظله الله بوارق الرحمة، وعطف عليه وشاج المحبة، إلى كونه مظلوم العقد، منزع الحق، فتبعته الخواطر وحميت عليه الأنفس، وانصرف لوجهته؛ وهو الآن برندة مستقل بها وبجهاتها، ومقتنع برسم سلطانها وقد قام له برسم الوزارة الشيخ القائد أبو الحسن علي بن يوسف بن كماشة الحضرمي، وبكتابه الفقيه أبو عبد الله بن زمرك، وقد استفاض عنه الحزم والتدرب والتيقظ للأمور والمعرفة بوجوه المصالح ما لا ينكر، كان الله له ولنا بفضله. انتهى كلام أبن الخطيب في اللمحة البدرية.
وقد عرفت أنّه في ذلك التاريخ لم يكن دخل السلطان غرناطة، ولم يلحق به أبن الخطيب حتى دخلها.
وقد ذكر ولي الدين بن خلدون هذه الواقعة في تاريخه الكبير وأحسن سردها فقال في ترجمة أيام السلطان أبي سالم ما نصه: الخبر عن خلع أبن الأحمر صاحب غرناطة ومقتل رضوان ومقدمه على السلطان لمّا هلك السلطان أبو الحجاج سنة خمس وخمسين وسبع مائة ونصب ابنه محمّد للأمر واستبد عليه رضوان مولى أبيه وكان قد رشح ابنه الأصغر إسماعيل بما ألقى عليه وعلى أمه من محبته فلما عدلوا بالأمر عنه حجبوه ببعض قصورهم وكان له صهرا من أبن عمه إسماعيل بن الرئيس أبي سعيد فكان يدعوه سرا إلى القيام بأمره حتى أمكنته فرصة في الدولة بخروج السلطان إلى بعض متنزهاته برياضه فصعد سور الحمراء ليلة سبع وعشرين لرمضان من سنة ستين في بعض أوشاب جمعهم من الطغام وعمد إلى دار الحاجب رضوان فاقتحم عليه الدار وقتله بين حرمه وبناته وقربوا إلى إسماعيل فرسه فركب فأدخلوه القصر وأعلنوا بيعته وقرعوا طبولهم بسور الحمراء وفر السلطان من مكانه بمتنزهه فلحق بوادي آش وغدا الخاصة والعامة على إسماعيل فبايعوه واستند على هذا الرئيس أبن عمه فخلعه لأشهر من بيعته واستقل
بسلطان الأندلس. ولمّا لحق السلطان أبو عبد الله محمّد بوادي آش بعد مقتل حاجبه رضوان واتصل الخبر بسلطان المولى أبي سالم امتعض لمهلك رضوان وخلع السلطان رعيا لمّا سلف له في جوارهم وأزعج لحينه أبا القاسم الشريف من أهل مجلسه لاستقدامه فوصل إلى الأندلس وعقد مع أهل الدولة على إجازة المخلوع من وادي أش إلى المغرب وأطلق من اعتقلهم الوزير الكاتب أبا عبد الله أبن الخطيب كانوا اعتقلوه لأول أمرهم لمّا كان رديفا للحاجب رضوان وركنا لدولة المخلوع فأوصى المولى أبو سالم إليهم بإطلاقه فأطلقوه ولحق مع الرسول أبي القاسم الشريف بسلطانه المخلوع بوادي آش للإجازة إلى المغرب وأجاز لذي القعدة من سنته وقدم على السلطان بفاس وأجل قدومه وركب للقائه ودخل به إلى مجلس ملكه وقد احتفل ترتيبه وغص بالمشيخة والعلية ووقف وزيره أبن الخطيب فأنشد السلطان قصيدته الرائية يستصرخه لسلطانه ويستحثه لمظاهرته على أمره واستعطف واسترحم بما أبكى الناس شفقة له ورحمة.
ثم سرد ولي الدين بن خلدون القصيدة التي قدمنا ذكرها إلى آخرها قال: ثم انفض المجلس وانصرف أبن الأحمر إلى نزله وقد فرشت له القصور وقربت الجياد بالمراكب الذهبية وبعث إليه بالكسى الفاخرة ورتبت الجرايات له ولمواليه من المعلوجي وبطانته من الصنائع وحفظ عليه رسم سلطانه في الراكب والراجل ولم يفقد من ألقاب ملكه إلاّ الآلة
أدبا مع السلطان واستقر في جملته إلى أن كان من لحاقه بالأندلس وارتجاع ملكه سنة ثلاث وستين ما نحن نذكره.
انتهى كلام أبن خلدون وفيه بعض مخالفة يسيرة لكلام أبن الخطيب في اللمحة البدرية.
ولا بد أن نسرد كلام أبن خلدون في شأن أبن الخطيب إذ ذكره في ترجمة السلطان أبي الفارس أبن السلطان أبي الحسن المريني بما نصه: الخبر عن قدوم الوزير أبن الخطيب على السلطان بتلمستان نازعا إليه عن سلطانه أبن الأحمر صاحب الأندلس أصل هذا الرجل من لوشة على مرحلة من غرناطة في الشمال من البسيط الذي فيه ساحاتها المسمى بالمرج على وادي شنجيل ويقال شنبيل المخترق في ذلك البسيط من الجنوب إلى الشمال كان بها له سلف معدود في وزرائها وانتقل أبوه عبد الله إلى غرناطة واستخدم لملوك بني الأحمر واستعمل على مخازن الطعام ونشأ ابنه محمّد بغرناطة وقرأ وتأدب على مشيختها واختص بصحبة الحكيم المشهور يحيى بن هذيل وأخذ عنه العلوم الفلسفية وبرز في الطب وانتحل الأدب وأخذ عن أشياخها وامتلأ حوض السلطان من نظمه
ونثره مع انتقاء الجيد منه ونبغ في الشعر والترسيل بحيث لا يجاري فيهما وامتدح السلطان أبا الحجاج من ملوك بني الأحمر لعصره وملأ الدنيا بمدائحه وانتشرت في الآفاق فرقاه السلطان إلى خدمته وأثبته في ديوان الكتاب ببابه مرؤوسا بأبي الحسن بن الجياد شيخ العدوتين في النظم والنثر وسائر العلوم الأدبية وكاتب السلطان بغرناطة من لدن أيام محمّد المخلوع من سلفه عندما قتل وزيره محمّد بن الحكيم المستبد عليه كما مر في أخبارهم. فاستبد أبن الجياد برياسة الكتاب من يومئذ إلى أن هلك في الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين وسبع مائة فولى السلطان أبو الحجاج يومئذ محمّد أبن الخطيب رياس الكتاب ببابه مثناة بالوزارة ولقبه بها فاستقل بذلك وصدرت عنه غرائب من الترسيل في مكاتبات جيرانهم من ملوك العدوة ثم دخله السلطان في تولية العمال على يده بالمشارطات فجمع له بها أموالا وبلغ به في المغالطة إلى حيث لم يبلغ بأحد ممن قبله وسفر عنه إلى السلطان أبي عنان ملك بني مرين بالعداوة معزيا بأبيه السلطان أبي الحسن فجلى في أغراض سفارته. ثم هلك السلطان أبو الحجاج سنة خمس وخمسين عدا عليه بعض الزعانف يوم الفطر بالمسجد في سجوده للصلاة وطعنه فأشواه وفاظ لوقته وتعاورت سيوف الموالي المعلوجي هذا القاتل فمزقوه أشلاء
وبويع ابنه محمّد بالأمر لوقته وقام بأمره مولاهم رضوان الراسخ القدم في قيادة عساكرهم وكفالة الأصاغر من ملوكهم واستبد بالدولة وأفرد أبن الخطيب بوزارته. كما كان لأبيه واتخذ لكتابته غيره وجعل أبن الخطيب رديفا له في أمره ومشاركا في استبداده معه فجرت الدولة على أحسن حال وأقوم طريقة ثم بعثوا الوزير أبن الخطيب سفيرا إلى السلطان أبي عنان مستمدين له على عدوهم الطاغية على عادتهم مع سلفه فلما قدم على السلطان ومثل بين يديه تقدم الوفد الذين معه من وزراء الأندلس وفقهائها واستأذنه في إنشاد شعره قدمه بين يدي نجواه فأذن له وأنشد وهو قائم:
خليفة الله ساعد القدر
…
علاك ما لاح في الدجى قمر
ودافعت عنك كف قدرته
…
ما ليس يستطيع دفعه البشر
وجهك في النائبات بدر ذجي
…
لنا وفي المحل كفك المطر
والناس طرا بأرض أندلس
…
لولاك ما أوطنوا ولا عمروا
وجملة الأمر أنّه وطن
…
في غير علياك ما له وطر
ومن به مذ وصلت حبلهم
…
ما جحدوا نعمة ولا كفروا
وقد أهمتهم بأنفسهم
…
فوجهوني إليك وانتظروا
فاهتز السلطان لهذه الأبيات وأذن له في الجلوس وقال له قبل أن يجلس
ما ترجع إليهم إلاّ بجميع طلباتهم ثم أثقل كاهلهم بالإحسان وردهم بجميع ما طلبوه. وقال شيخنا القاضي أبو القاسم الشريف وكان معه في ذلك الوفد: لم نسمع بسفير قضى سفارته قبل أن يسلم على السلطان إلاّ هذا.
ومكثت دولتهم هذه بالأندلس خمس سنين ثم ثار بهم محمّد الرئيس أبن عم السلطان شركه في جده الرئيس أبي سعيد وتحين خروج السلطان إلى متنزهه خارج الحمراء وتسوروا دار الملك المعروفة بالحمراء وكبس رضوان في بيته فقتله ونصب للملك إسماعيل أبي الحجاج بما كان صهره على شقيقته وكان معتقلا بالحمراء فأخرجه وبايع له وقام بأمره مستبدا عليه وأحس السلطان محمّد بقرع الطبول وهو بالبستان فركب ناجيا إلى وادي آش وضبطها بالخبر إلى السلطان أبي سالم إثر ما استولى على ملك آبائه بالمغرب وقد كان مثواه أيام أخيه أبي عنان عندهم بالأندلس واعتقل الرئيس القائم بالدولة هذا الوزير أبن الخطيب وضيق عليه في محسبه وكانت بينه وبين الخطيب أبن مرزوق مودة استحكمت أيام مقامعه بالأندلس وكان غالبا على هوى السلطان أبي سالم فزين له استدعاء هذا السلطان المخلوع من وادي آش يعده زبونا على أهل الأندلس ويكف به عادية القرابة المرشحين هناك متى طمحوا إلى ملك المغرب فقبل ذلك منه وخاطب أهل الأندلس في تسهيل طريقه من وادي آش إليه وبعث من أهل مجلسه الشريف أبا القاسم التلمساني وحمله مع ذلك الشفاعة في أبن الخطيب وحل معتقله فأطلق وصحب الشريف أبا القاسم إلى وادي آش وسار في ركاب سلطانه وقدموا على
السلطان أبي سالم فهتز لقدوم أبي الأحمر وركب في الموكب لتلقيه وأجلسه إزاء كرسيه وأنشد أبن الخطيب قصيدته كما مر يستصرخ السلطان لنصره فوعده وكان يوما مشهودا وقد مر ذكره ثم أكرم مثواه وأرغد نزله ووفر أرزاق القادمين في ركابه وأرغد عيش أبن الخطيب في الجراية والإقطاع. ثم استأنس واستأذن السلطان في التجوال بجبهات مراكش والوقوف على آثر الملك بها فأذن له وكتب إلى العمال بإتحافه فتباروا في ذلك وحصل منه على حظ وعندما مر بسلا إثر قفوله من سفره دخل مقبرة الملوك بشالة ووقف على قبر السلطان أبي الحسن وأنشد قصيدته على روي الراء الموصولة يرثيه ويستجير به في استرجاع ضياعه بغرناطة مطلعها:
إن بان منزله وشطت داره
…
قامتمقام عيانه أخباره
قسم زمانك عبرة أو عبرة
…
هذا ثراه وهذه آثاره
فكتب السلطان أبو سالم في ذلك إلى أهل الأندلس بالشفاعة فشفعوه واستقر هو بسلا منتبذا عن سلطانه طول مقامه بالعدوة. ثم عاد السلطان محمّد المخلوع إلى ملكه بالأندلس سنة ثلاثة وستين وبعث عن مخلفه بفاس من الأهل والوالد والقائم بالدولة يومئذ عمر بن عبد الله بن علي فاستقدم أبن الخطيب من سلا وبعثهم لنظره فسر السلطان لقدومه ورده إلى منزلته كما كان مع رضوان كفله وكان عثمان بن يحيى بن عمر شيخ الغزاة وأبن أشياخهم قد لحق بالطاغية في ركب أبيه عندما أحس بالشر من الرئيس
صاحب غرناطة وأجاز يحيى من هنالك إلى العداوة وأقام عثمان بدار الحرب فصحب السلطان في مثوى اغترابه هنالك وتقلب في مذاهب خدمته وانحرفوا عن الطاغية بعد ما يئسوا من الفتح على يده فتحولوا عنه إلى ثغور بلادهم وخاطبوا الوزير عمر بن هب في أن يمكنهم من بعض الثغور الغريبة التي لطاغيتهم بالأندلس يرتقبون منها الفتح وخاطبني السلطان المخلوع في ذلك وكانت بيني وبين عمر بن عبد الله أذمة مرعية وخاصة متأكدة فوفيت للسلطان بذلك من عمر بن عبد الله وحملته على أن يرد عليه مدينة زندة إذ هي من تراث سلفه فقبل إشارتي في ذلك وتسوغها السلطان المخلوع ونزل بها وعثمان بن يحيى في جملته وهو المقدم في بطانته ثم غزوا منها مالقة فكانت ركابا للفتح وملكها السلطان واستولى بعدها على دار ملكه بغرناطة وعيمان بن يحيى متقدم القوم في الدولة عريق في المخالصة وله على السلطان دالة واستبداد على هواه. فلما وصل أبن الخطيب بأهل السلطان وولده وأعاده إلى مكنه في الدولة من علو يده وقبول اشارته أدركته الغيرة من عثمان ونكر على السلطان الأستكفاء به وأراه التخوف من هؤلاء الأعياض فحذره السلطان وأخذ في التدبير عليه حتى نكبه وأباه وإخوته في رمضان سنة أربع وستين وأودعهم المطبق ثم غربهم بعد ذلك وخلا لابن الخطيب
الجو وغلب على هوى السلطان ودفع إليه تدبير الدولة وخلط بنيه بندمائه ولعل خلوته وانفراد أبن الخطيب بالحل والعقد وانصرفت إليه الوجوه وعلقت به الآمال وغشى بابه الخاصة والكافة وغصت به بطانة السلطان وطشيته فتفننوا في السعايات فيه وقد صم السلطان عن قبولهم ونمى الخبر بذلك إلى أبن الخطيب فشمر عن ساعده في التفويض واستخدم للسلطان عبد العزيز أبن السلطان أبي الحسن ملك الغدوة يومئذ في القبض على أبن عمه عبد الرحمن أبن أبي يفلوس أبن السلطان أبي علي كانوا قد نصبوه شيخا على الأندلس لمّا أجاز من العدوة بعد ما جاس خلالها لطلب الملك وأضرم بها نار الفتنة في كل ناحية وأحسن دفاعه الوزير عمر بن عبد الله القائم يومئذ بدولة بني مرين فاضطر إلى الإجازة إلى الأندلس فأجاز هو ووزيره مسعود بن ماساي ونزلوا على السلطان المخلوع عام سبعة وستين فأكرم نزلهم وتوفى على بن بدر الدين شيخ الغزاة فقدم عبد الرحمن مكانه. وكان السلطان عبد العزيز قد استبد بملكه بعد مقتل الوزير عمر بن عبد الله غص بما فعله السلطان المخلوع من ذلك وتوقع انتقاض أمره منهم ووقف على مخاطبات من عبد الرحمن يسر بها في بني مرين فجزع لذلك وداخله أبن الخطيب في اعتقاله أبن يفلوسن وابن ماساي وإراحة نفسه من شغبهم على أن يكون له المكان من دولته متى نزع إليه فأجابه إلى ذلك وكتب له العهد بخطه على يد سفيره إلى الأندلس وكاتبه أبن يحيى بن أبي مدين وأغرى أبن الخطيب سلطانه بالقبض على أبن يفلوسن بن ماساي فقبض عليهم واعتقلهم وفي خلال ذلك استحكمت نفرة أبن الخطيب لمّا بلغه من البطانة
من القدح فيه والسعاية وربما تخيل السلطان مال إلى قبوله وأنهم قد أحفظوه عليه فأجمع التحول عن الأندلس إلى المغرب واستأذن السلطان في تفقد الثغور الغربية وسار إليها في لمة من فرسانه ومعه أبنه علي الذي كان خاصة للسلطان وذهب لطيته فلما حاذى جبل الفتح فرضة المجازة إلى العدوة مال إليه وسرح اذنه بين يديه فخرج قائد الجبل لتلقيه. وقد كان السلطان عبد العزيز أوعز إليه بذلك وجهز له الأسطول من حينه فأجاز إلى سبتة وتلقاه ولاتها بأنواع التكرمة وامتثال المراسم ثم سار لقصد السلطان فقدم عله سنة ثلاث وسبعين بمقامه تلمستان فهتزت له الدولة وأركب السلطان خاصته لتلقيه وأحله لمجلسه بمحل الأمن والغبطة ومن دولته بمكان التنويه والعز وأخرج لوقته كتابه أبا يحيى بن أبي مدين سفيرا إلى صاحب
الأندلس في أهله وولده فجاء بهم على أكمل حالت الأمن والتكرمة ثم أكثر المنافسون له في شأنه وأعزوا سلطانه بتتبع عثراته وإبداء ما كان كامنا في نفسه من سقطاته وإحصاء معايبه وشاع على ألسنة أعدائه كلمات منسوبة إلى الزندقة أحصوها عليه ونسبوها إليه ورفعت إلى قاضي الحضرة أبي الحسن بن الحسن فإسترعاها وسجل عليه بالزندقة وراجع صاحب الأندلس رأيه فيه وبعث القاضي أبن الحسن إلى السلطان عبد العزيز في الانتقام منه بتلك السجلات وإمضاء حكم الله فيه فصم على ذلك وأنف لذمته أن تخفر ولجواره أن يرد وقال لهم: هلا انتقمتم منه عندكم وانتم عالمون بما كان عليه وأما أنا فلا يخلص إليه بذلك أحد ما كان في جواري ثم وفر
الجراية والإقطاع له ولبنيه، ولمن جاء من أهل الأندلس في جملته. فلما هلك السلطان عبد العزيز سنة أربع وسبعين، ورجع بنو مرين إلى المغرب، وتركوا تلمسان، سار هو في ركاب الوزير أبي بكر بن غازي، القائم، فنزل بفاس، واستكثر من شراء الضياع، وتأنق في بناء المساكن، واغتراس الجنات، وحفظ عليه القائم بالدولة الرسوم التي رسمها له السلطان المتوفى، واتصلت حاله على ذلك، إلى أنَّ ما نذكره.
انتهى كلام أبن خلدون وأكثره بلفظه.
قلت: وقد وقفت على كتاب القاضي أبي الحسن المذكور يخاطب به أبن الخطيب يعظه، ويشير إلى ما نشغل من البنيان، وفيه ما بين كلام أبن خلدون السابق وزيادة، وما يدل على ما ذكره أبن خلدون من أنّه سجل عليه بأمور منكرة، وعند الله تجتمع الخصوم، وقد أسقطت بعضه اختصاراً، ونص ما تعلق به الغرض قوله يخاطب الوزير أبن الخطيب: فشرعتم في الشراء، وتشديد البناء؛ وتركتم الاستعداد لهدام اللذات، هيهات هيهات؛ تبنون ما لا تسكنون مالا تأكلون، وتؤملون مالا تدركون؛ أينما تكونوا يدركم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة، فأين المهرب مما هو كائن! ونحن إنّما نتقلب في قدرة الطالب، شرقتم أو غربتم، والأيام تتقاضى الدين، وتنادي بالنفس الفرارة إلى أين إلى أين! نترك الكلام مع الناقد فيما ارتكبه من تزكية نفسه، وعد ما جلبه من مناقبه، ما عدا ما هدد به من حديد لسانه، خشية اندراجه في نمط من قال فيه رسول الله) :
" إنَّ من شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه ". ولا غيبة فيمن ألقى جلباب الحياء عن وجهه؛ ونرحمه على ما أبداه وأهداه من العيوب التي نسبها لأخيه، واستراح على قوله بها فيه، ونذكره على طريقة نصيحة الدين، بالحديث الثابت في الصحيح عن رسول الله) ، وهو قوله:" أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع! فقال: إنَّ المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته قبل أنَّ يقضى مت عليه أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار ". ويعلم الله أنَّ معنى هذا الحديث الثابت عن النذير الصادق، هو الذي حملني على نصحكم ومراجعتكم في كثير من الأمور، منها الإشارة عليكم بإذهاب عين ما كتبتم به في التاريخ وأمثاله، فإنكم نفعتم بما وقعتم فيه من الغيبة المحرمة أحياء وأمواتاً، لغير شيء حصل بيدكم، وضررتم نفسكم بما رتبتم من المطالبات بنص الكاتب والسنة قبلكم، والرضا بهذه الصفقة الخاسرة أمر بعيد من الدين والعقل. وقد قلت لكم غير ما مرة عن أطراسكم المسودة، بما دعوتم إليه من البدعة، والتلاعب بالشريعة: إنَّ حقها التخريق والتحريق، وإنَّ أطراها لكم فقد خدع نفسه وخدعكم، والله الشهيد بأني نصحتكم وما غششتكم، وليس هذا القول وإنَّ كان ثقيلا عليكم، بمخالف لمّا ذنبتم به من تقدم المواجهة بالملاطفة، والمعاملة بالمكارمة، فليست المداراة بقادحة في الدين، بل هي محمودة
وفي بعض الأحوال، مستحسنة على ما بينه من العلماء، إذ هي مقاربة في الكلام، أو مجاملة بأسباب الدنيا، لصلاحها أو صلاح الدين، وإنّما المذموم المداهنة، وهي بذل الدين لمجرد الدنيا به لتحصيلها؛ ومن خالط للضرورة مثلكم وزايله بأخلاقه، ونصحه مخاطبة ومكاتبة، واستدل له بكتاب الله وسنة رسول الله) على صحة مقالته، فقد سلم والحمد لله من مداهنته، وقام لله بما يجب عليه في حقكم من التحذير والإنكار، مع الإشفاق والوجل. وأكثرهم في كتابهم من المن بما ذكرتم أنكم صنعتم، وعلى تقدير الموافقة لكم، ليتكم فعلتم فسلمنا من المعرة وسلمتم، وجل القائل سبحانه:) قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم (. وقلما شاركتم أنتم في شيء إلاّ بأعراض حاصلة في يدكم، أو لأغراض دنيوية خاصة بكم، فالملام إذاً في الحقيقة إنّما هو متوجه إليكم. وأما ما أظهرتم بمقتضى حركاتكم، من التندم على فراق محلكم، والتعلل بأخبار قطركم وأهلكم، فتناقص منكم، وإنَّ كنتم فيه بغدركم:
أتبكي على لبنى وأنت تركتها
…
فكنت كآتٍ حتفه وهو طائع
وما كأنَّ ما منتك نفسك خاليا
…
تلاقي ولا كل الهوى أنت تابع
فلا تبكين في إثر شيء ندامة
…
إذا نزعته من يديك النوازع
وعلى أنَّ تأسفكم لمّا وقعتم فيه من الغدر لسلطانكم، والخروج لا لضرورة غالبة عن أوطانكم، من الواجب بكل اعتبار عليكم، سيما وقد مددتم إلى التمتع لغيرها عينيكم. ولو لم يكن لهذه الجزيرة الفريدة من الفضيلة إلاّ ما خصت به من بركة الرباط، ورحمة الجهاد، لكفاها فخراً على ما يجاورها من سائر البلاد، قال رسول الله) :" رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم سواه ". وقال عليه السلام: " الروحة يروحها العبد في سبيل الله والغدوة خير من الدنيا وما فيها ". وعلى كل تقدير فإذا لم يكن يا أخي فراركم من الأندلس إلى الله وحده بالتوبة المكملة والاستغفار، مع الانقطاع في أحد المواطن المكرمة المعظمة بالإجماع، وهي طيبة أو مكة أو بيت المقدس، فقد خسرتم صفقة رحلتكم، وتبين أنَّ لغير وجه الله العظيم كانت نية هجرتكم؛ اللهم إلاّ إنَّ كنتم قد لاحظتم مسألة الرجل الذي قتل مائة نفس، وسأل أعلم أهل الأرض، فأشار عليه بعد إزماع التوبة بمفارقة المواطن التي ارتكب فيها الذنوب، وأكتسب بها العيوب؛ فأمر آخر، مع أنَّ كلام العلماء في هذا الحديث معروف؛ ويقال لكم من الجواب الخاص بكم: فعليكم إذاً بترك القيل والقال، وكسر حربة الجدال والقتال، وقصر ما بقي من مدة العمر على الانشغال بصالح الأعمال. ووقعت في مكتوبكم كلمات اوردها النقد في قالب الاستهزاء والازدراء، والجهالة بمقادير الأشياء، منها: ريح صرصر، وهو لغة القرآن، وقاع قرقر: وهو لفظ سيد العرب والعجم محمّد) ، ثبت في الصحيح في باب التغليظ فيمن لا يؤدي زكاة ماله، " قيل: يا رسول الله، والبقر والغنم؟ قال: ولا صاحب بقر ولا غنم
لا يؤدي منها حقها، إلاّ إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئاً، تنطحه بقونها، وتطؤه بأظلافها ". الحديث الشهير. قال صاحب المعلم: بطح لها البقاع قرقر، أي ألقى على وجهه، والقاع: المستوى من الأرض، والقرقر: كذلك؛ هذا ما حض من الجواب. وبقي في مكتوبكم حشو كثير من كلام الإقذاع، وفحش بعيد من الحشمة والحياء، رأيت أنَّ من الصواب الإضراب عن ذكره، وصون اليد عن الاستعمال فيه، والظاهر أنّه إنّما صدر عنكم وانتم بحال مرض، فلا حرج فيه عليكم إن شاء الله، أجلكم، ومكن أمنكم، وسكن وجلكم، ومنه جل اسمه نسأل لي ولكم حسن الخاتمة، والفوز بالسعادة الدائمة، والسلام الأتم يعتمدكم، والرحمات والبركات من كتابه علي بن عبد الله بن الحسن، وفقه الله.
وذلك بتاريخ أخريات جمادى الأولى من عام ثلاثة وسبعين وسبع مائة.
وقيد رحمه الله في مدرج طي هذا الكتاب ما نصه: يا أخي، أصلحنى الله وإياكم، وبقي من الحديث شيء، الصواب الخروج عنه لكم، إذ هذا أوانه، وتأخير البيان عن وقت الحاجة فيه ما فيه، وليكن البناء بعد أنَّ كان على أصل صحيح بحول الله، وحاصله:
أنكم عددتم ما شاركتم فيه بحسب الأوقات، وقطعتم بنسبة الأمور كلها لنفسكم، وأنها إنّما صدرت عن أمركم وبأذنكم، من غير مشاركة في شيء منها لكم، ثم مننتم بها المن القبيح، المبطل لعمل بركم، على تقدير
التسليم في فعله لكم، ورميتم غيركم بالتقصير في حاله كله، طريقة من يبصر القذى في عين أخيه ويدع الجذع في عينه، وأقصى ما تسنى للمحب أيام كونكم بالأندلس، تقلد كلفة قضاء الجماعة، وما كان إلاّ أنَّ وليتها بقضاء الله وقدره، فقد تبين لكل ذي عقل سليم أنّه لا موجد إلاّ الله، وإذا كان كذلك كان الخير والشر والطاعة والمعصية حاصلاً بإيجاده سبحانه وتخليقه وتكوينه، من غير عاضد له على تحصيل مراده ولا معين، ولكنه، جلت قدرته، وعد فاعل الخير بالثواب فضلا منه، وأوعد فاعل الشر بالعقاب عدلا منه، وكأني بكم تضحكون من تقرير هذه المقدمة، وما أحوجكم إلى تأملها بعين اليقين، فكابدت أيام تلك الولاية النكدة من الكناية، باستحقاركم للقضايا الشرعية، وتهاونكم بالأمور الدينية، ما يعظم الله به الأجر، وذلك في جملة مسائل، منها مسألة أبن الزبير المقتول على الزندقة بعد تقضي موجباته، على كره منكم؛ ومنها مسألة أبن أبي العيش المثقف في السجن على آرائه المضلة، التي كان منها دخوله على زوجه إثر تطليقه إياها بالثلاث، وزعمه أنَّ رسول الله) أمره بالمشافهة بالاستمتاع بها، فحملتم أحد ناسكم تناول إخراجه من الثقاف، ومن غير مبالاة بأحد؛ ومنها أنَّ أحد الفتيان المتعلقين بكم توجهت عليه مطالبة بدم القتيل، وسيق المدعي عليه للذبح بغير سكين، فما وسعتني بمقتضي الدين إلاّ حبسه على ما أحكمته السنة، فأنتقم لذلك، وسجنتم الطالب ولي الدم، وسرحتم الفتى المطلوب على الفور، إلى غير ذلك مما لا يسع الوقت شرحه، ولا يجمل بي ولا بكم
ذكره. والمسألة الأخرى أنتم توليتم كبرها، حتى جرى فيها القدر بما جرى من الانفصال، والحمد لله على كل حال. وأما الرمى بكذى وكذا مما لا علم لنا به بسببه، ولا عذر لكم من الحق في التكلم به، فشئ قلما يقع من البهتان، ممن كان يرجوا لقاء ربه، وكلامهم في المدح والهجو هو عندي من قبيل اللغو الذي نمر به كراما، والحمد لله فكثروا أو أقلوا من أي نوع شئتم، وانتم وما ترضونه لنفسكم، وما فهت لكم بما فهت من الكلام، إلاّ على جهة الإعلام، لا على جهة الانفعال، لمّا صدر أو يصدر عنكم من الأقوال، فمذهبي غير مذهبكم، وعندي ما ليس عندكم.
وكذلك رأيتم تكثرون في مخاطبتكم من لفظ الرقية في معرض الإنكار لوجود نفعها، والرمى بالمنقصة والحمق لمستعملها، ولو كنتم قد نظرتم في شيء من كتب السنة، وسير الأمة المسلمة، نظر مصدق، لمّا وسعكم إنكار ما أنكرتم، وكتبه بخط يدكم، فهو قادح كبير في عقيدة دينكم، فقد ثبت بالإجماع في سورة الفلق أنّه خاطب للنبي) ، وإنَّ المراد بها هو وآحاد أمته؛ وفي أمهات الإسلام الخمس أنَّ رسول الله) كان إذا اشتكى رقاه جبريل، فقال: بسم الله يبريك، ومن كل داء يشفيك، ومن شر حاسد إذا حسد، ومن شر كل ذي عين. وفي الصحيح أيضاً إنَّ أناساً من أصحاب رسول الله) كانوا في سفر، فروا بحي من أحياء العرب، فاستضافوهم فلم يضيفوهم، فقالوا: هل فيكم راق؟ فإنَّ سيد الحي لديغ أو مصاب: فقال رجل من القوم: نعم، فأتاه بفاتحة الكتاب، فبرئ الرجل، فأعطى قطيعا من
غنم، الحديث شهير. قال أهل العلم: فيه دليل على جواز اخذ الأجرة على الرقية والطب وتعليم القرآن، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وأبي ثور وجماعة من السلف، وفيه جواز المقارضة، وإنَّ كان ضد ذلك أحسن، وفي هذا القدر كفاية. وما رقيت قط أحداً على الوجه الذي ذكرتم، ولا إسترقيت، والحمد لله، وما حملني على تبين ما تبينته الآن لكم في المسألة، إلاّ إرادة الخير التام لجهتكم، والطمع في إصلاح باطنكم وظاهركم، فأبى أخاف عليكم من الإفصاح بالطعن في الشريعة، ورمى علمائها بالمنقصة، على عادتكم وعادة المستخف أبن هذيل سيخكم، منكر علم الجزيئات، القائل بعدم قدرة الرب على جمع الممكنات؛ وانتم قد انتقلتم إلى جوار أناس أعلام، قلما تجوز عليهم، حفظهم الله، المغالطات، فتأسركم شهادة العدول التي لا مدافع لكم فيها، وتقع الفضيحة، والدين النصيحة، أعاذنا الله من درك الشقاء، وشماتة الأعداء، وجهد البلاء. وكذلك أحذركم من الوقوع بما لا ينبغي في الجانب الرفيع، جناب سيد المرسلين، وقائد الغر المحجلين، صلوات الله وسلامه عليه، فانه نقل عنكم في هذا الباب أشياء منكرة، يكبر في نفوس التكلم بها، انتم تعاملونها، وهي التي زرعت في القلوب ما زرعت من بغضكم، وإيثار بعدم، مع استشعار الشفقة والوجل من وجه آخر عليكم ولولا أنكم سافرتم قبل تقلص ظل السلطنة عنكم، لكانت الأمة المسلمة، امتعاضاً لدينها ودنياها، قد برزت الجهات، لطلب الحق منكم، فليس يعلم أنّه صدر عن مثلكم من خدام الدول ما صدر عنكم، من البعث في الأبشار والأموال، وهتك الأعراض، وإفشاء الأسرار، وكشف الأستار، واستعمال المكر والحيل والغدر في غلب الأحوال، للشريف والمشروف، والخديم والمخدوم، ولو لم يكن في الوجود من الدلال على صحة ما رضيتم به لنفسكم، من
الاتسام بسوء العهد، وتجاوز المحض وكفران النعم والركون إلى ما تحصل من الحطام الزائل إلاّ عملكم مع سلطانكم ومولاكم وأبن مولاكم أيده الله بنصره وما ثبت من مقالاتكم السيئة فيه وفي الكثير من أهل قطره لكفاكم وصمة لا يغسل دنسها البحر ولا ينسى عارها الدهر فإنكم تركتموه أوّلاً بالمغرب عند تلون الزمان وذهبتم للكدية والأخذ بمقتضى المقامة الساسانية إلى أن استدعاه الملك وتخلص له بعد الجهد الأندلس فسقطتم عليه سقوط الذباب على الحلواء وضربتم وجوه رجاله بعضا ببعض حتى خلا لكم الجو وتمكن الأمر والنهي فهمزتم ولزمتم وجمعتم من المال ما جمعتم ثم وريتم بتفقد ثغر الجزيرة الخضراء مكرا منكم فلما بلغتم أرض الجبل انحرفتم عن الجادة وهربتم بأثقالكم الهروب الذي أنكه عليكم كل من بلغه حديثكم أو يبلغه إلى آخر الدهر في العدوتين من مؤمن وكافر وبر وفاجر فكيف يستقيم لكم بعد المعرفة بتصرفاتكم حازم أو يثق بكم في قول أو فعل صالح أو طالح. ولو كان قد بقي لكم من العقل ما تتفكرون به في الكيفية التي ختمتم بها عملكم بالأندلس من الزيادة في المغرم وغير ذلك مما لكم وزره ووزر من عمل بعدكم إلى يوم القيامة حسبما ثبت في الصحيح لحملكم على مواصلة الحزن وملازمة الأسف والندم على ما أوقعتم فيه نفسكم الأمارة من التورط والتنشب وأشطان الآمال ودسائس الشيطان ونعوذ بالله من شرور الأنفس وسيئات الأعمال.
وأما قولكم عن فلان: أنّه كان حشرة في قشور اللوز وإن فلان كان
برغوثا في تراب الخيول فكلام سفساف يقال لكم من الجواب عليه: وأنتم يا هذا أين كنتم من خمسين سنة مثلا؟ خلق الله الخلق لا استظهارا بهم ولا استكثارا وأنشأهم كما قدر أحوالا وأطوارا واستخلفهم في الأرض بعد أمة أمما وبعد عصر أعصار وكلفهم شرائعه وأحكامه ولم يتركهم هملا وأمرهم ونهاهم ليبلوهم أيهم أحسن عملا إنَّ أكرمكم عند الله أنقاكم وبكل اعتبار فلا نعلم في نمط الطلبة تدريجا كان أسمح في تدريجكم ونبدأ من كذا فإنه كان كذا وكذا وأكثر أهل زمانه تخملا وتقللا في نفسه بالنسبة إلى منصبه كان الشيخ أبو الحسن بن الجياب ولكنه حين علم رحمه الله من نشأتكم وحالتكم ما علم نبذ مصاهرتكم وصرف عليكم صداقكم وكذلك فعلت بنت جزي زوج الرهيصي معكم حسبما هو مشهور في بلدكم وذكرتم أنكم مازلتم من أهل الغنى حيث نفرتم بذكر العرض وهو بفتح العين والراء: حطام الدنيا على ما حكى أبو عبيد قال أبو زيد: هو بسكون الراء: المال الذي لا ذهب فيه ولا فضة وأي مال خالص يعلم لكم أو لأبيكم بعد الخروج من الثقاف على ما كان قد تبقى عنده مثال مجبى قرية مترايل ثم من العدد الذي برز قبلكم أيام كانت أشغال الطعام بيدكم على ما شهد به الجمهور من أصحابكم وأما الفلاحة التي أشرتم إليها فلا حق لكم فيها إذ هي في الحقيقة لبيت مال المسلمين مع ما بيدكم على ما تقر في الفقهيات والمعدوم شرعا كالمعدوم حسا ولو قبل من أهل المعرفة بكم بعض مالديهم من سقطاتكم والقالي والقيل ولم يصر إلى دفع معرتها عنكم وجه التأويل لكانت مسألتكم ثانية لمسألة أبي الخير بل أبي الشر الحادثم أيام خلافة الحكم المسطورة في نوازل
أبي الأصبغ بن سهل فاعلموا ذلك ولا تهملوا إشارتي عليك قديما وحديثا بلزوم الصلوات وحضور الجماعات وفعل الخيرات والعمل على التخلص من التبعات إنَّ وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور.
وقلتم في كتابكم: أين الخطط المتوارثة عن الآباء والأجداد؟ وقد أذهب الله عنا ببركة الملة المحمدية غيبة الجاهلية في التفاخر بالآباء ولكنني أقول لكم على جهة المقابلة لكلامكم: إنْ كانت الإشارة إلى المجيب بهذا فمن المعلوم المتحق عند أفضل الناس أنه من حيث الأصالة أحد أماثل قطره. قال القاضي أبو عبد الله بن عسكر: وقد ذكر في كتابه من سلفى فلان بن فلان ما نصه: وبيته بيت قضاء وعلم وجلالة لم يزالوا يرثون ذلك كابرا عن كابر استقضى جده المنصور أبن أبي عامر. وقال غيره وغيره وبيدي من عهود الخلفاء وصكوك الأمراء المكتتبة بخطوط أيديهم من لدن فتح جزيرة الأندلس إلى هذا العهد القريب ما تقوم به الحجة القاطعة للسان الحاسد والجاحد والمنة لله وحده. وإن كانت الإشارة إلى غير من الأصحاب في الوقت حفظهم الله فكل واحد منهم إذا نظر إليه بعين الحق وجد أقرب منكم نسبا للخطط المعتبرة وأولى بميراثها بالفوض والتعصيب أو مساويا على فرض المسامحة لكم قال رسول الله) : المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره حرام دمه وماله وعرضه.
ونرجع إلى طريقة أخرى فنقول: من كان يا فلان من قومكم في عمود نسبكم فقيها مشهورا أو كاتبا قبلكم معروفا أو شاعرا مطبوعا أو رجلاً نبيها مذكورا ولو كان يا لوشي وكان لكان من الواجب الرجوع إلى التناصف
والتواصل والتواضع وترك التحاسد والتباغض والتقاطع إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم وأبدانكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.
وكذلك العجب كل العجب من تسمياتكم الخربات التي شرعتم في بنائها بدار السلامة وهيهات هيهات المعروف من الدنيا أنها دار بلاء وجلاء وعناء وفناء ولو لم يكن من الموعظة الواقعة بتلك الدار في الوقت إلاّ موت سعيدكم عند دخولها لأغناكم عن العلم اليقيني بمآلها وأظهر تم سرورا كثيرا بما قلتم إنكم نلتم حيث أنتم من الشهوات التي ذكرتم أن منها الإكثار من الأكل والخرق والقعود بإزاء جارية الماء على نطع الجلد والإمساك أولى بالجواب على هذا الفضل فلا خفاء بما فيه من الخسة والخباثة والخبث وبالجملة فسرور العاقل إنما ينبغي أن يكون بما يجمل تقديمه من زاد التقوى للدار الباقية فما العيش كما قال رسول الله) إلاّ عيش الآخرة فقدموا إن قبلتم وصاة الحبيب أو البغيض بعضا عسى أن يكون لكم ولا تخالفوا كيلا يكون عليكم هذا الذي قلته لكم وإن كان لدي من يقف عليه من نمط الكثير فهو في اعتبار المكان وما مر من الزمان في حيز اليسير وهو في نفسه قول حق وصدق ومستند أكثره كتاب الله وسنة محمّد رسول الله) وعلى سائر أنبيائه فاحمدوا الله العلي العظيم على تذكيركم به إذ هو مجري النصيحة الصريحة يسرني الله وإيام لليسرى وجعلنا ممن دكر فانتفع بالذكرى والسلام.
انتهى كلام القاضي أبي الحسن النباهي رحمه الله.
قلت: ولعل هذا الكلام وأشباهه هو الحامل لابن الخطيب على هجو القاضي
ابن الحسن المذكور في الكتيبة الكامنة حيث ذكره ولقبه بجعسوس ووصفه بما لا يليق ذكره ثم ألف في ذلك تأليف مختلفة مستقلا سماه بخلع الرسن في وصف القاضي أبن الحسن حسبما ألفيت ذلك بخط شيخنا القاضي سيدي عند الواحد الوانشريسي رحمه الله ولا يخلو كلام كل واحد منهما من تحامل على صاحبه والله يسمح لنا ولهما بجاه النبي) .
وقال ولي الدين بن خلدون في تاريخه في موضع أخر ما نصه:
كان محمّد بن الأحمر المخلوع قد رجع من رندة إلى ملكه بغرناطة في جمادي من سنة ثلاث وستين وقتل له الطاغية عدوه الرئيس المنتزى على ملكهم حين هرب من غرناطة إليه وفاء بهد المخلوع واستوى على كرسيه واستقل بملكه ولحق به كاتبه وكاتب أبيه محمّد بن الخطيب فاستخلصه وعقد له على وزارته وفوض إليه القيام بملكه فستولى عليه وملك هواه وكانت عينه ممتدة إلى المغرب وسكناه إلى إن نزلت به آفة في رياسته فكان لذلك قدم السوابق والوسائل عند ملوكه وكان لأبناء السلطان أبي الحسن كلهم غيرة من ولد عمهم السلطان أبي علي ويخشونه على أمرهم ولمّا لحق الأمير عبد الله الرحمن بن أبي يفلوس بالأندلس اصطفاه أبن الخطيب واتخلصه لنجواه ورفع في الدولة وتبته وأعلى منزلته وحمل السلطان على أن عقد له على الغزاة المجاهدين من زنانة مكان بني عمه من الأعياض فكانت له آثار في الأضطلاع بها ولمّا استبد السلطان عبد العزيز بأمره واستقل بملكه وكان أبن الخطيب ساعيا في مرضاته عند سلطانه فدس إليه باعتقال عبد الرحمن
أبن أبي يفلوس ووزيره المطارد به مسعود بن ماسايو أدار أبن الخطيب في ذلك مكره وحمل السلطان عليهما إلى أن سطا بهما أبن الأحمر واعتقلهما سائر أيام السلطان عبد العزيز وتغير الجو بين أبن الأحمر ووزيره أبن الخطيب وأظلم وتنكر له فنزع عنه إلى عبد العزيز سلطان المغرب سنة ثنتين وسبعين لمّا قدم من الوسائل ومهد من السوابق فقبله السلطان وأحله في مجلسه محل الاصطفاء والقرب وخاطب أبن الأحمر في أهله وولده فبعثهم إليه واستقر في جملة السلطان. ثم تأكدت العداوة بينه وبين أبن الأحمر فرغب السلطان عبد العزيز في مل الأندلس وحمله عليه وتواعدوا في ذلك عند رجوعه من تلمستان إلى المغرب ونمى ذلك إلى أبن الأحمر فبعث إلى السلطان عبد العزيز بهدية لم يسمع بمثلها انتقى فيها من متاع الأندلس وماعونها وبالها الفارهة ومعلوجة السبى وجواريه وأوفد بها رسله يطلب إسلام وزيره أبن الخطيب إليه فأبى السلطان من ذلك ونكره. ولمّا هلك واستبد الوزير أبن غازي بالأمر تحيز إليه أبن الخطيب ودخله وخاطبه أبن الأحمر فيه بمثل ما خاطب السلطان عبد العزيز فلج واستنكف عن ذلك وأقبح الرد وانصرف رسوله إليه ود رهب سطوته فأنطلق أبن الأحمر لحينه عبد الرحمن بن أبي يفلوس وأركبه الاسطول وقذف به إلى ساحل بطوية ومع الوزير مسعود بن ماساي ونهض يعني أبن الأحمر إلى جبل الفتح فنازله بعساكره ونزل عبد الرحم ببطوية.
ثم ذكر أبن خلدون كلاما كثيرا تركته لطوله وملخصه: أن الوزير أبا بكر أبن غازي الذي كان معه أبن الخطيب ولي أبن عمه محمّد بن عثمان مدينة سبتة خوفا عليها من أبن الأحمر ونهض هو أعني الوزير إلى منازلة عبد الرحمن بن أبي يفلوس ببطوية إذ كانوا قج بايعوه فامتنع عليه وقاتله أياما ثم رجع إلى تازا ثم إلى فاس واستولى عبد الرحمن على تازا وبينما الوزير أو بكر بفاس يدبر الرأي إذ وصله الخبر بأن أبن عمه محمّد بن عثمان بايع السلطان أحمد بن أبي سالم وهو المعروف بذي الدولتين وهذه هي دولته الأولى وذلك إنَّ أبن عم الوزير وهو محمّد بن عثمان لمّا تولى سبتة كان أبن الأحمر قد طاول حصار جبل الفتح وأخذ بمخنقة وتكررت المراسلة بينه وبين محمد بن عثمان والعتاب فاستعتب له وقبح ما جاء به أبن عمه الوزير أبو بكر بن غازي من الاستغلاظ له في شأن أبن الخطيب وغيره فوجد أبن الأحمر بذلك السبيل إلى غرضه وداخله في البيعة لابن السلطان أبي سالم من الأبناء الذين كانوا بطنجة تحت الرقبة وإنَّ يقيمه للمسلمين سلطانا ولا يتركهم فوضى وهملا تحت ولاية الصبي الذي لم يبلغ ولا تصح ولايته شرعا وهو السعيد بن أبي فارس الذي بايعه الوزير أبي بكر بن غازي بتلمستان حين مات أبوه واستبد عليه واختص أبن الأحمر أحمد أبن أبي سالم من بين أولئك الأبناء لمّا سبق بينه وبين أبيه أبي سالم من المولاة. وكان أبن الأحمر اشترط على محمّد بن عثمان وحزبه شروطا منها أن ينزلوا له من جبل الفتح الذي هو محاصر له وأن يبعثوا له جميع أبناء الملوك من بني مرين ليكونوا تحت حوطته وأن يبعثوا إليه بالوزير أبن الخطيب متى قدروا
عليه فانعقد أمرهم على ذلك وتقبل محمّد بن عثمان شروطه وركب من سبتة إلى طنجة واستدعى أبي العباس أحمد من مكان اعتقاله فبايعه وحمل الناس على طاعته واستقدم أهل سبتة للبيعة وكتابتها فقدموا وبايعوا وخاطب أهل جبل الفتح فبايعوا وأفرج أبن الأحمر عنهم. وبعث إليه محمّد بن عثمان عن سلطانه بالنزول له عن جبل الفتح وخاطب أهله بالرجوع إلى طاعته فارتحل أبن الأحمر من مالقة إليه ودخله ومحا دعوة بني مرين مما وراء البحر وأهدى للسلطان أبي العباس وأمده بعسكره من غزاة الأندلس وكمل إليه مالا للإعانة على أمره. ولمّا وصل الخبر بهذا إلى الوزير أبي بكر بن غازي قامت عليه القيامة وكأنَّ أبن عمه محمّد بن عثمان كتب إليه يموه بأن هذا عن أمره فتبرأ من ذلك ولاطف أبن عمه أن ينقض ذلك الأمر فاعتل له بانعقاد البيعة لأبي العباس. وبينما الوزير أبو بكر ينتظر إجابة أبن عمه إلى ما رامه منه بلغه الخبر بأنه أشخص الأبناء المعتقلين كلهم بالأندلس وحصلوا تحت كفالة ابن الأحمر فوجم وأعرض عن أبن عمه ونهض إلى تازا لمحاصرة عبد الرحمن بن أبي يفلوس فاهتبل في غيبة أبن عمه محمّد بن عثمان ملك المغرب ووصله مدد السلطان أبن الأحمر من رجال الأندلس الناشبة نحو ستمائة وعسكر آخر من الغزاة. وبعث أبن الاحمر رسله إلى الأمير عبد الرحمن باتصال اليد مع أبن عمه السلطان أحمد ومظاهرته واجتماعهما على مل فاس وعقد بينهما الاتفاق على أن يختص عبد الرحمن بملك سلفه فتراضيا. وزحف محمّد بن عثمان وسلطه إلى فاس وبلغ الخبر إلى الوزير أبي بكر بمكانه من
تازا فانفض معسكره ورجع إلى فاس ونزل بكدية العرائس وانتهى السلطان أبو العباس أحمد إلى زرهون فصمد إليه الوزير بعسكره فاحتل مصافه ورجع إلى عقبة مفلولا وانتهب عسكره ودخل البلدة الجديدة البيضاء وجأجأ بالعرب أولاد الحسين فعسكروا بالزيتون ظاهر فاس فنهض إليهم الأمير عبد الرحمن من تازا بمن كان معه من العرب الأجلاف وشردهم إلى الصحراء وشارف السلطان أبو العباس أحمد بمجموعة من العرب وزناتها وبعثوا إلى ولي دولتهم ونزمار بن عريف بمكانه من قصره الذي اختطه بملوية فجاءهم وأطلعوه على كامن أسرارهم فأشار عليهم بالاجتماع والاتفاق فاجتمعوا بوادي النجا وتخالفوا ثم ارتحلوا إلى كدية العرائس في ذي القعدة من سنة خمس وسبعين وبرز إليهم الوزير بعساكر فانخزمت جموعه وأحيط به وخلص إلى البلد الجديد بعد غص الريق. واضطرب معسكر السلطان أبي العباس بكدية العرائس ونزل الأمير عبد الرحمن بإزائها وضربوا على البلد الجديد سياجا بالبناء للحصار وأنزلوا بها أنواع القتال والإرهاب ووصلوهم بمدد
السلطان أبن الأحمر فأحكموا الحصار وتحكموا في ضياع أبن الخطيب بفاس فهدموها وعاثوا فيها. ولمّا كان فاتح سنة ست وسبعين داخل محمّد بن عثمان عمه الوزير أبا بكر في النزول عن البلد الجديد والبيعة للسلطان لكون الحصار قد اشتد به ويئس وأعجزه المال فأجاب وأشترط عليهم الأمير