الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رجع إلى ذكر الشريف
وكان الشريف المذكور يصنع أنواع المطاعم الرفيعة، ويتبسط في ألوانها، ويطعمها الغني والفقير، والقوي والضعيف، ممن يحضر مجالسه أو يأتي إليه، وبالجملة فهو قطب الجود الذي عليه المدار، وإمام الأدب الذي لا يجاريه الرضي ولا مهيار؛ ومن نظمه وقد ساير قاضي الجماعة بحضرة غرناطة، أبا البركات البلفيقي الشهير بابن الحاج السلمي، ومن ولد العباس بن مرداس رضي الله عنه، زمن الشبيبة في بعض أسفاره ببر الأندلس، فلما أنتهبا إلى قرية بزليانة وأدركهما النصب، واشتد عليهما حر الهجير، نزولا وأكلا من باكر التين الذي هنالك، وشربا من ذلك الماء العذب، واستلقى أبو البركات على ظهره تحت شجرة مستظلا بظلها، ثم التفت إلى الشريف وقال:
ماذا تقول، فدتك النفس في حالي
…
يفنى زماني في حل وترحال
وارتج عليه فقال لأبي العباس: أجز؛ فقال بديها:
كذا النفوس اللواتي العز يصبها
…
ترضى بمقام دون آمال
دعها تجوب الفيافي والقفار إلى
…
أنَّ تبلغ السؤال أو تفنى بتجوال
وكان عطاء هذا السيد الشريف المرسوم له من بيت المال، ثلاثين ديناراً من الذهب العين في رأس كل شهر، وهو خاتمة الشرفاء العظام بمدينة سبتة. ولهؤلاء الشرفاء بمدينة سبتة نحو الثلاثين قبراً، في روضتهم المنسوبة إليهم، بالجانب الشرقي من رابطة الفصال. وهؤلاء الشرفاء من ذرية أبي الطاهر الذي خرج من جزيرة صقلية، وكانت لهم بسبتة وجاهة وسيادة، وجلالة ومجادة؛ لمكان بيتهم الشريف، ونسبهم العالي المنيف؛ ما منهم واحد إلاّ غذاه العلم بلبانه، والأدب ببيانه. وولى منهم قضاء بلدهم سبتة رجلان، لم يطلع مثلهما الملوان؛ تقى وعلماً، وأناة وحلما؛ وأولهما القاضي أبو الشرف الرفيع، والثاني ابنه القاضي أبو الحسن علي. وكم نشأ عن هذا الأصل الطاهر من جهبذ تحرير، وعالم ماهر؛ وسخى جواد، له إلى الإعطاء ارتياح وإلى الكرم استناد؛ وناهيك بخاتمهم أبي العباس المذكور.
وكان فائدة مضرب الميناء لهذا الشريف الحسيني، دون أنَّ يشكره غيره، وكان له بضرب أويات يوم يضرب فيه، ويومان لبيت المال،
وكانت عادة عامل المضارب، الناظر في فوائدها وما تحتاج إليه من نفقة وآلة، أنَّ يأمر رجاله وأعوانه، حين يقعد النواتية الكيس، بالوقوف إليه، والدفاع عنه، بعد أنَّ يحضر الشهود، خفراً وضبطاً لمّا يحصل من فائدة المضرب المالي في يوميه؛ فإذا كان يوم السيد الشريف يأمر رجاله وخادمه وأعلاجه الإسلاميين، بإباحة المضرب للمساكين، وتفريق الحوت على من لا يصل إليه، ممن يحضر متنزها، إما لحفظ مروءة، وإما لغير ذلك. ولا يزال الناظر من قبله، وهو القائد فارح أحد أعلاجه، واقفاً على حصانه، وقد أحاطت به رجاله، إلى أنَّ يرضى كل من يحضر، وما فضل عن ذلك فهو له. وأما السيد الشريف فلا يحضر، إذ همته أرفع من ذلك، وقدره أعظم، ومكانته بسبته مكانته، بحيث يأتي إليه في الموضع الذي أعده لجلوسه برياضة الذي بالصفارين صبيحة كل يوم صاحب القصبة، كائنا من كان، مسلماً عليه، ثم ينصرف، ثم يأتي الوالي على قبض الجباية مسلماً، ثم ينصرف بعد تقبيل قدمه، ثم يأتي صاحب الشرطة، وكذا جميع أمراء سبتة، إلاّ القاضي، لمكان خطته، فيعامل كلا بما يستحق من إكرام وإهانة، وإغلاظ ومجاملة، فلا يتخلف أحد عن غرضه، ولا يصدر إلاّ عن رأيه ونظره. وهذا كله مع النصيحة للمسلمين، وجلب المنفعة لهم بالقول والفعل، وإطعام الطعام الذي لا يقدر عليه الأمير فمن دونه، ورفع المظالم، ومنح الجاه، إلى غير ذلك، نفعه الله. فكان من حكمة الله عز وجل وبركته أهل البيت،
وفضل الجود والكرم ومكارم الأخلاق، وإيصال المنفعة للعباد، أنَّ يخرج في اليوم الذي له بالمضرب من الحوت، أي نوع كان من الجاري، أضعاف ما يخرج في اليومين، ويحصل له من الفائدة أكثر مما يحصل لمتولي النظر فيهما، فيتصل بيده من فائدة يومه خمس مائة الدينار وسبع المائة، وربما يزيد، وقد انتهى في بعض الأحيان إلى ألفي دينار في اليوم، حسبما يسنيه الله عز وجل؛ هذا بهد العادة التي عودها نفسه النفيسة، من الإيثار والبذل، للسرى والنذل. ولم تكن له همة، رحمه الله، في احتكار المال وجمعه، بل يصرف ذلك كله في إطعام الطعام، الخاص والعام، وفي تشديد البنيان، والإنفاق على الفعلة والصناع والخدام، وآثاره ومصانعه بداخل سبتة وخارجها شهادة بذلك مدى الأيام؛ وكم في أثناء هذا التصرف من مؤاساة الفقير، وإعانة الضعيف، وإغاثة الملهوف، برفع لازم أو وظيف، حسبما هو معلوم معروف منقول.
وكان ملوك بني مرين يعتنون له أتم اعتناء، ويبادرون إلى موافقة أغراضه، وقبول شفاعته، وما يتلقاه حين وروده على حضرتهم فاس إلاّ الملك بنفسه، إلى غير ذلك من مناقبه رضي الله عنه، ونفعنا به، وبسلفه الطاهر.
قلت: وإنّما ذكرت التعريف بهذا الشريف الفياض، تفاؤلا بالابتداء به بعد عياض، لأني اشترط إني أخرج من الشيء إلى ما يناسبه، فبدأت
في ذلك بهذا السيد الشريف، الذي عظمت مجادته، وكرمت مناسبه، وزكت مآثره، وعلت مناصبه؛ والأعمال بالنيات، والله يبلغنا في الدارين غاية الأمنيات.
وبعد أنَّ بلغت سبته ما ذكرناه من أحوالها، وبقيت مدة آمنة من شرور الدنيا وأهوالها، وأطلعت في سمائها نجومها، كانت علومها للمردة وجومها؛ كعياض المؤلف فيه هذا الكتاب، وهؤلاء الشرفاء الذين لا يمترى في فضلهم ولا يرتاب، وبنى العز في المشاهير الذين برزوا في ميدان السبق على الخاصة والجماهير؛ وحازوا رياسة الدين والدنيا، وفازوا بالمكانة السامية والمرتبة العليا؛ وغيرهم ممن لا يحصى كثره، ممن كان لهم تقديم وأثرة، عدا عليها الدهر بعدوانه، وسقط شرفها من إيوانه؛ واستولى عليها العدو الكافر، في قضية يطول شرحها، وعظم على أهل الإيمان قرحها، وأعضل أطبائها الملوك إلى الآن جرحها، ولم يزل بنفوس المؤمنين شجوها وبرحها.
أخبرني الفقيه الطيب العدل الفرضي، سيدي أبو القاسم بن محمّد الوزير الغساني رحمه الله: أنّه لمّا دخل سبته، حين وجهه أمير المؤمنين، مولانا المنصور، رحمه الله، إليها في شأن فداء الكفار المأخوذين بالغزوة الشهيرة، ذهب إلى المدرسة التي كان بناها أحد ملوك بني مرين رحمهم الله، وأظنه أبا عنان،
وهي من أجلّ المدارس وأعظمها، فرأى في محرابها ناقوساً وصليباً، قال: فساءني ذلك، فرفعت بصري فإذا كتابة بخط رائق، في تلك النقوش فوق ذلك الناقوس، فيها قوله تعالى:) شهد الله أنّه لا إله إلاّ هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم إنَّ الدين عند الله الإسلام (. وكان ذلك الكتب قديماً فيها من جملة ما كتب المسلمون بها حين بناها، على ما جرت به عادة الملوك من كتب الآيات القرآنية في النقوش بالزليج والمرمر. قال لي رحمه الله: فتعجبت من ذلك الاتفاق، وسلاني ذلك بعض التسلى، وإلى الله ترجع الأمور.
وكان أخذ سبتة، أعادها الله، سنة تسع وعشرون وثمان مائة. بعد ما استولى العدو الكافر على معظم بلاد الأندلس، مثل قرطبة، ومرسية، وطليطلة، وبلنسية، وغيرها، مما يطول تعداده.
وقد قال بعض الشعراء حين أخذت طليطلة، وكانت من أوّل ما اخذ من القواعد العظام، يخاطب أهل الأندلس:
يأهل أندلس شدوا رحالكم
…
فما المقام بها إلاّ من الغلط
السلك ينثر من أطرافه وأرى
…
سلك الجزيرة منثور من الوسط
من جاور الشر لا يأمن بوائقه
…
كيف الحياة مع الحيات في سفط
ولله در الإمام العلامة خاتمة أدباء الأندلس، أبي الطيب صالح أبن شريف الزندي رحمه الله إذ قال بلاد الأندلس، ويبعث العزائم ويحركها من أهل الإسلام لنصرة الدين، وإنقياد البلاد من يد الكافرين، ولسان الحال ينشده " لقد أسمعت لو ناديت حياً ".
لكل شيء إذا ما تم نقصان
…
فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شهدتاها دول
…
من سرة زمن ساءته أزمان
وهذه الدار لا تبقى إلى أحد
…
ولا يدوم على حالٍ لها شان
يمزق الدهر حتما كل سابغة
…
إذا نبت مشرفيات وخرصان
وينتضى كل سيف للفناء ولو
…
كان أبن ذي يزن والغمدان غمدان
أين الملوك ذوو التيجان من يمن
…
وأين منهم أكاليل وتيجان
وأين ما شداه شداد في إرم
…
وأين ما ساسه في الفرس ساسان
وأين ما حازه قارون من ذهبٍ
…
وأين عاد وشداد وقحطان
أتى على الكل أمر لا مرد له
…
حتى قضوا فكان القوم ما كانوا
وصار ما كان من ملك ومن ملك
…
كما يحكى عن خيال الطيف وسنان
دار الزمان على داراً وقاتله
…
وأم كسرى فما آواه إيوان
كأنما الصعب لم يسهل له سبب
…
يوما ولا ملك الدنيا سليمان
فجائع الدهر أنواع منوعة وللزمان مسران وأحزان
وللحوادث سلوان يهونها
…
وما لمّا حل بالإسلام سلوان
دهى الجزيرة أمر لا عزاء له
…
هوى له أحد وانهد ثهلان
أصابها العين في الإسلام فارتزئت
…
حتى خلت منه أقطار وبلدان
فاسأل بلنسية ما شأن مرسيةٍ
…
وأين شاطبة أم أين جيان
وأين قرطبة دار العلوم فكم
…
كم عالم قد سما فيه له شأن
وأين حمص وما تحويه من نزهٍ
…
ونهرها العذب فياض وملآن
قواعد كن أركان البلاد فما
…
عسى البقاء لم تبق أركان
تبكي الحيفة البيضاء من أسفٍ
…
كما بكى لفراق الإلف هيمان
على ديار من الإسلام خاليةٍ
…
قد أسلمت ولها بالكفر عمران
حيث المساجد قد صارت كنائس ما
…
فيهن إلاّ نواقيس وصلبان
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة
…
حتى المنابر ترثى وهي عيدان
يا غفلان وله في الدهر موعظة
…
إنَّ كنت في سنة فالدهر يقظان
وماشياً مرحا يلهيه موطنه
…
أبعد حمص تغر المرء أوطان
تلك المصيبة أنست ما تقدمها
…
وما لها مع طول الهر نسيانُ
يا أيّها الملك البيضاء رايته
…
أدرك بسيفك أهل الكفر لا كانوا
يا راكبين عتاق الخيل ضامرة
…
كأنها في مجال السبق عقبانُ
وحاملين سيوف الهند مرهفةً
…
كأنها في ظلام النقع نيرانُ
وراتعين وراء البحر في دعةٍ
…
لهم بأوطانهم عزٌ وسلطانُ
أعندكم نبأ من أهل أندلس
…
فقد سرى بحديث القوم ركبانُ
كم يستغيث بنو المستضعفين وهم
…
أسرى وقتلى فما يعتز إنسانُ
ماذا التقاطع في الإسلام بينكم
…
وانتم يا عباد الله إخوانُ
ألا نفوس أبيات لها همم
…
أما على الخير أنصارٌ وأعوانُ
يا من لذة قوم بعد عزهم
…
أحال حالهم كفر وطغيانُ
بالأمس كانوا ملوكاً في منازلهم
…
واليوم هم في بلاد الكفر عبدانُ
فلو ترهم حيارى لا دليل لهم
…
عليهم من ثياب الذل ألوانُ
ولو رأيت بكاهم عند بيعهم
…
لهالك الأمر واستهوتك أحزانُ
يا رُبَّ أم وطفلٍ حيل بينهما
…
كما تفرق أرواح وأبدانُ
وطفلةٍ ما رأتها الشمس إذ برزت
…
كأنها هي ياقوت ومرجانُ
يقودها العلج للمكروه مكرهة
…
والعين باكية والقلب حيرانُ
لمثل هذا يذوب القلب من كمد
…
إن كان في القلب إسلام وإيمانُ
انتهى وكان السيخ الإمام العلامة الفقيه الوزير الكاتب أبو يحيى بن عاصم صاحب الشرح على تحفة أبيه، رحم الله الجميع، عند ما رأى اختلال أمر الجزيرة أعادها الله وأخذ النصارى دمرهم الله لمعظمها، ولم يبق إذ ذاك بيد المسلمين إلاّ غرناطة، وما يقرب منها، مع وقوع فتن بين ملوك بني نصر حينئذ ثم أفضى الملك إلى بعضهم، بعد تمحيص وأمور يطول بيانها، ألف كتابا سماه:" جنة الرضى، في التسليم لمّا قدر الله وقضى " وهو كتاب جدا غريب، رأيت بعضه بتلمسان، ونقلت منه ما نصه: " من استقرأ التواريخ المنصوصة، وأخبار الملوك المقصوصة، علم أنَّ النصارى دمرهم الله لم يدركوا في المسلمين ثارا، ولم يرحضوا عن أنفسهم عارا، ولم يخربوا من الجزيرة منازلا وديارا، ولم يستولوا عليها بلادا جامعة وأمصارا، إلاّ بعد تمكينهم لأسباب الخلاف، واجتهدوا في وقوع الافتراق، بين المسلمين والاختلاف؛ وتضربهم بالمكر والخديعة بين ملوك
الجزيرة؛ وتحريشهم بالكيد والخلابة بين حماتها في الفتن المبيرة؛ ومهما كانت الكلمة مؤتلفة، والأهواء لا مفترقة، والعلماء بمعاناة اتفاق القلوب إلى الله مزدلفة؛ فالحرب إذ ذاك سجال، ولله إقامة الجهاد في سبيله رجال، وللممانعة في غرض المافعة ميدان رحب ومجال وروية وارتحال.
ثم قال: وتطاولت الأيام ما بين مهانة ومقاطعة؛ ولا أمل للطاغية إلاّ في التمرس بالإسلام والمسلمين، وإعمال الحيلة على المؤمنين، وإضمار المكيدة للموحدين، واستبطان الخديعة للمجاهدين؛ وهو يظهر أنّه ساع للوطن في العاقبة الحسنى، وأنّه المصلحة لخاصتهم وجمهورهم؛ وهو يسر حسواً في ارتغائه، ويعمل الحيلة في التماس هلك الوطن وابتغائه. فتباً لعقول تقبل مثل هذا المحال، وتصدق هذا الكذب بوجه أو حال؛ وليت المغرور الذي يقبل هذا لو فكر في نفسه، وعرض هذا المسموع على مدركات حسه، وراجع أوليات عقله وتجريبات حدسه، وقاس عدوه الذي لا ترجى مودته على أبناء جنسه؛ فأنا أناشده الله هل بات قط بمصالح النصارى وسلطانهم مهتما، وأصبح من خطب طرقهم مغتما؛ ونظر المفكر في العاقبة الحسنة، أو قصد لهم قصد
المدبر في المعيشة المستحسنة؛ أو خطر على قلبيه أن يحفظ في سبيل القربة أربابهم وصلبانهم، أو عمر ضميره من تمكين عزهم بما ترضاه أحبارهم ورهبانهم؛ فإن لم يكن ممن يدين بدينهم الخبيث ولم يشرب قلبه حب التثليث؛ ويكون صادق اللهجة منصفا عند قيام الحجة؛ فسيعترف أنَّ ذلك لم يخطر له قط على خاطر ولا مر له ببال، وأنَّ عكس ذلك هو الذي كان به ذا اغتباط وبفعلة ذا اهتبال، وإنَّ نسب لذلك المعنى فهو عليه أثقل من الجبال، وأشد على قلبه من وقع النبال؛ هذا وعقده التوحيد، وصلاته التحميد؛ وملته الغراء وشريعته البيضاء ودينه الحنيف القويم، ونبيه الرءوف الرحيم، وكتابه القرآن الحكيم، ومطلوبه بالهداية الصراط المستقيم؛ فكيف نعتقد هذه المزية الكبرى، والمنقبة الشهرى؛ لمن عقده التثليث، ودينه المليث؛ ومعبوده الصليب، وغافر ذنبه القسيس؛ وربه عيسى المسيح ونظره ليس البين ولا الصحيح، وإن ذلك الرب قد ضرج بالدماء، وسقى الخل عوض الماء؛ وأن اليهود قد قتلته مصلوبا، وأدركته مطلوبا وقهرته
مغلوباً؛ وأنّه جزع من الموت وخاف إلى سوى ذلك مما يناسب هذه الأقاويل السخاف فكيف يرجى من هؤلاء الكفرة من الخير مثقال الذرة أو يطمع منهم في جلب المنفعة أو دفع المضرة اللهم أحفظ علينا العقل والدين واسلك بنا سبيل المهتدين " انتهى.
ومنه أيضاً ما نصه: " كانت خزانة هذه الدار النصرية مشتملة على كل نفيسة من الياقوت ويتيمة من الجوهر وفريدة من الزمرد وثمينة من الفيروز وفاخر من الآلة ونادر من الأمتعة فمن عقود فذة وسلوك جمة وأقراط تفضل على قرطى مارية نفاسة فائقة وحسنا رائقا ومن سيوف شواذ في الإبداع غرائب في الإعجاب منسوبات الصفائح في الطبع خالصة الحلى من التبر ومن دروع مقدرة السرد متلاحمة النسج واقية للبأس في يوم الحرب مشهورة النسبة إلى داود نبي الله ومن جواشن سباغة اللباسة وذهبية الحلي
هندية الضرب ديباجية الثوب ومن بيضات عسجدية الطوق جوهرية التنضيد زبرجدية التقسيم ياقوتية المركز ومن مناطق لجينية الصوغ عريضة الشكل مزججة الصفح ومن درق لمطية مصمتة المسام لينة المجسة معروفة المنعة صافية الأديم ومن قسى ناصعة الصبغة هلالية الخلقة منعطفة الجوانب زارية بالحواجب إلى آلات فاخرة من أتوار نحاسية ومناور بلورية وطيافير دمشقية وسبحات زجاجية وصحاف صينية وأكواب عراقية وأقداح طباشيرية وسوى
ذلك مما لا يحيط به الوصف، ولا يستوفيه العد؛ وكل ذلك ألهبه شواظ الفتنة، والتقمه تيار الخلاف والفرقة، فرزئت الدار منه بما يتعذر إتيان الدهور بمثله، وتقتصر ديار الملوك المؤثلة عن بعضه فضلا عن كله ". انتهى.
وسنذكر من كلامه رحمه الله بعد هذا، زيادة على ما جلبناه الآن، والله المستعان.
وكانت غرناطة منتهى الآمال، ووسطى قلادة الأمصار، ولم تزل محاسنها مجلوة على منصة الدهور والأعصار. وقد استولى وصفها لسان الدين الوزير أبو عبد الله بن الخطيب في كتاب الإحاطة، ويرحم الله القائل:
غرناطة ما لها نظير
…
ما مصر ما الشام ما العراق؟
ما هي إلاّ العروس تجلى
…
والأرض من جملة الصداق
قال الفقيه الأديب أبو عبد الله بن محمّد بن أحمد بن الحداد الشهير بالوادي آشى، نزيل تلمسان:
كان على ظهر النسخة الرائقة الجمال، والفائقة الكمال، من الإحاطة، في تاريخ غرانطة، المحبسة على المدرسة اليوسفيه، من الحضرة العليه، بخط قاضي الجماعة، ومنفذ الأحكام الشرعية المطاعة، صدر البلغاء، وعلم العلماء، ووحيد الكبراء، وأصيل الحسباء، الوزير المعظم أبي يحيى بن عاصم رحمه الله، ما نصه:
" الحمد لله، الاستدلال بالأثر على المؤثر مما سلمه الإعلام، وشهدت به العقول الراجحة والأحلام، وهو الحجة المعتمدة حين تتفضل الألباب، وتتقصر الأفهام، وبه الاستمساك إنَّ طرقت الشكوك، أو عرضت الأوهام. وحسبك بما يسلم في هذا المقام المتعالى من الأدلة، وما يعتمد في هذا المجال المتضايق من البراهين المستقلة؛ فتحقيق أنَّ يتلقى هذا النوع من الاستدلال فيما دون الفن المشار إليه بالقبول، ويستقبل المهتدي لاستنباطه لمّا فيه من التبادر إلى الأفهام والتسابق للعقول؛ وإذا ثبت أنَّ المستدل بهذه الأدلة سالك على سواء سبيل، ومنتمٍ من صحة النظير إلى أكرم قبيل، فلا خفاء إنَّ كتاب " الإحاطة " للشيخ الرئيس ذي الوزارتين أبي عبد الله بن الخطيب رحمه الله، من أثر هذه الدولة النصرية أدامها الله بكل اعتبار، ومآثرها التي هي عبرة لأولي الألباب، وذكرى لأولي الأبصار.
أما الأول فلأن الأنباء التي أظهرت صحتها، وأوضحت حجتها، وشرفت مقصدها، وكرمت مصعدها، وإنّما هي مناقب ملوكها الكرام، ومكارم خلفائها الأعلام، وأخبار من اشتملت عليه دولتهم الشريفة من صدور حملة السيوف والأقلام؛ وأفذاذ حفظة الدين والدنيا، والشرف والعليا، والملك والإسلام؛ أو ما يرجع إلى مفاخر حضرة الملك، وينظم نظم الجمان في ذلك السلك، من حضانة قلعتها، وأصالة منعتها؛
وقديم اختطاطها، وكريم جهادها ورباطها؛ وحسن ترتيبها ووضعها، وما اشتمل عليه من مقاصد الأنس أهل ربعها؛ وما سوى هذه الأقسام الثلاثة فمن قبيل القليل، ومما يرجع إلى شرف الحضرة، ممن انتابها من أهل الفضل الواضح والمجد الأثيل.
وأما ثانياً فإنَّ راسم آياتها المتلوه، ومبدع محاسنها المجلوة، وناقل صورتها من الفعل إلى القوه، وإنّما هو حسنة من حسنات هذه الدولة النصرية الكريمة، ونشأة من نشأت جودها الشامل النعمة، الهامل الديمة، فما ظهر عليه من كمالات الأوصاف، على الإنصاف، فأخلاف هذه المكارم النصرية أرضعته، وعنايتها الجميلة أسمته، فوق الكواكب ورفعته؛ وإليها ينسب إحسان إنَّ انتسب، منشؤه الذي عظم فيه قدره، بل افقه الذي اشرق فيه بدره؛ والتشريفات السلطانية هي التي فتقت اللهى باللهى، وأحلت من مراق العز فوق السها؛ وأمكنت الأيدي من الذخائر والأعلاق، وطوقت المنن كالقلائد في الأعناق؛ وقلدت الرياسة والأقلام أعلام؛ فبهرت أنواع المحاسن، وورد معين البلاغة غير المطرق ولا الآسن؛ وبرعت التواليف، في الفنون المتعددة، واشتهرت التصانيف، ومنها هذا التصنيف المشار إليه، لمّا له
من الأذمة المتأكدة. وإذا ظهر هذا الاستدلال، وأوضح البيان ما كتمه الإجمال، فلنفضح الآن بما قصد، ولنلحق من انجم السعادة ما رصد، وذلك أن لمولاي أمير المؤمنين، المجاهد في سبيل رب العالمين، الغالب بالله، المؤيد بنصره أبي عبد الله، محمد بن الخلفاء النصريين أيده الله ونصره، وسنى له الفتح المبين ويسره مآثر لم يسبق إليها، ومكارم لم يجر أحد ممن وسم بالكرم عليها، لجلالة قدرها، وضخامة أمرها، من ذلك هذا للقصد الذي آثر لها كالكتاب المذكور وسواه مما هو أحد وفذلك في معناه؛ عقد جميعها التحبيس على أهل العلم والطلبة بحضرته العلية هنالك، ليشتمل به الامتناع، ويعم به الانتفاع؛ والله ينفع بهذا القصد الكريم، ويتولى المثوبة على هذا العقد الجسيم.
وهذه النسخة في أثنى عشر سفراً، متفقة الخط والعمل، أكتتب هذا على ظهر الأول منها بتاريخ رجب الفرد، عام تسعة وعشرين وثمان مائة، عرف الله بركته بمنة، آمين ". انتهى.
وقال الوزير أبو يحيى بن عاصم المذكور، قدس الله روحه الطيبة، وسقى مثواه غيث رحمته الصيبة، في كتابه المسمى ب " الروض الأريض، في ترجمة شموس العصر، من ملوك بني نصر "، في اسم الغني بالله محمّد بن يوسف بن إسماعيل أبن فرج بن نصر الخزرجي، بعد كلام ما نصه:
" كان قد جرى عليه التمحيص الذي أزعجه عن وطنه، إلى الدار البيضاء بالمغرب من إيالة بني مرين، فأفاده الحنكة والتجربة هذه اليسيرة التي وقف شيوخها على تحقيقها، وانتهجوا واضح طريقها، وبلغتنا منقولة بألسنة صدقهم، معبراً عنها في عرف التخاطب بالعادة، فلم يكن الوزير الكيس، والرئيس الجهبذ يجريان من الاستقامة على قانون، ولا يطردان من الصواب على أسلوب، إلاّ بالمحافظة على ما رسم من القواعد، والمطابقة لمّا ثبت من العوائد، وكان ذوو نبل من هذه الطبقة، وأولو الحذق من أرباب هذه المهن السياسية، يتعجبون من صحة اختيارها لمّا رسم، وجوده تمييزه لمّا قعد، ويرون المفسدة بالخروج عنها ضربة لازب، وأنَّ الاستمرار على مراسمها آكد واجب؛ فيتحرونها بالالتزام كما تتحرى السنن، ويتوخونها بالإقامة كما تتوخى الفرائض، وسواء تبادر لهم معناها ففهموه، أو خفي عليهم وجه رسمها فجهلوه ".
حدثني شيخنا القاضي أبو العباس أحمد بن أبي القاسم الحسني: أنَّ الرئيس أبا عبد الله بن زمرك دخل على الشيخ ذي الوزارتين أبي عبد الله بن الخطيب يستأذنه في جملة مسائل، مما يتوقف عادة على إذن الوزير، وكان معظمها فيما يرجع إلى مصلحة الرئيس أبي عبد الله. قال الشريف: فأمضاها كلها له، ما عدا واحدة منها تضمنت نقص عادة مستمرة، فقال له ذو الوزارتين
أبن الخطيب: لا والله يا رئيس أبا عبد الله، لا آذن لك في هذا، لأنا ما استقمنا في هذه الديار إلاّ بحفظ العوائد.
ثم قال صاحب الروض: فلما تأذن الله تعالى للدولة بالاضطراب، واستحكم الوهن بتمكن الأسباب، عدل عن هذه القواعد الراسخة، واستخف بتلك القوانين الثابتة؛ فنشأ من المفاسد ما أعوز رفعه، وتعدد وتره وشفعه، واستحكم ضرره حتى لم يمكن دفعه، وتعذر فيه الدواء الذي يرجى نفعه، وكان قد صحبه من الجد ما سنى آماله، وانجح بأذن الله أقواله وأعماله؛ فكان يجري الأمر على رسم من السياسة واضح، ونطر من الآراء السديدة راجح؛ ثم يحفه من الجد السياج لا يفارقه، إلى تمام الغاية المطلوبة من حصوله، وتمكن مقتضى الإرادة السلطانية من فروعه وأصوله.
انتهى كلام أبن عاصم، وإنّما أتيت به لغرابته. وقال أبو عبيد البكري رحمه الله:" الأندلس شامية في طيبها وهوائها، يمانية في اعتدال استوائها، هندية في عطرها وذكائها، أهوازية في عظم جبايتها، صينية في جواهر معادنها، عدنية في منافع سواجلها، فيها آثار عظيمة لليونانيين ".
قال ذو الوزارتين أبو عبد الله بن الخطيب: خص الله بلاد الأندلس من الريع، وغدق السقيا، ولذاذة الأقوات، وفراهة الحيوان، ودرور الفواكه، وكثرة المياه، وتبحر العمران، وجودة اللباس، وشرف الآنية وكثرة السلاح، وصحة الهواء، وابيضاض ألوان الإنسان، ونبل الأذهان، وقبول الصنائع، وشهامة الطباع، ونفوذ الإدراك، وإحكام التمدن والاعتمار، بما حرمه الكثير من الأقطار، مما سواها.
ثم قال: وحديث الفتح، وما فتح الله على الإسلام من المنح، وأخبار ما أفاء الله من خير، على موسى من نصير، وكتب من جهاد، لطارق بن زياد، مملول قصاص وأوراق، وحديث أفول وإشراق، وإرعاد وإبراق؛ وعظم امتشاش. وآلة معلقة في دكان قشاش. انتهى.
ولا خفاء بما كان لملوك المسلمين بالأندلس والعداوة على النصارى. دمرهم الله من الاستطالة والغلبة، حتى وقع التخاذل والتدابر، فأنعكس الأمر. وقد حكي غير واحد أنَّ دن جناحه بن دن افنش، استنصر على أبيه بالسلطان المجاهد أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق المريني، ولاذ به، ورهن عنده تاجه ذخيرة النصارى، ولقيه بصخرة عباد، من أحواز رنده، فسلم عليه،
ويقال إنَّ أمير المسلمين لمّا فرغ من ذلك، طلب بلسان زناتة الماء، ليغسل يده به من قبلة الفنش، أو مصافحته.
أبن الخطيب:
" والشيء يذكر بالشيء، فأثبت حكاية اتفقت بسبب ذلك، استدعى بها الدعاء ممن يحسن عنده موقعها، وهي أنَّ اليهودي الحكيم أبن زرزار، على عهد ملك النصارى، حفيد هذا الفنش المذكور، وصل إلينا بغرناطة في بعض جوائجه، وحخل إلى بدار سكناي، مجاوراً لقصر السلطان بحمراء غرناطة، وعندي القاضي اليوم بغرنطة وغيرها من أهل الدولة، وبيده كتاب من سلطان المغرب محمّد بن أبي عبد الرحمن بن السلطان الكبير المولى أبي الحسن، وكان محمّد هذا قد فر إلى صاحب قشتالة، واستدعى من قبله إلى الملك، فسهل له ذلك، وشرط عليه ما شاء، وربما وصله خطابه بما لم يقنعه في إطرائه، فقال لي: مولاي السلطان دن بطرة يسلم عليك، ويقول لك: انظر مخاطبة هذا الشخص، وكان بالأمس كلباً من كلاب بابه، حتى ترى خسارة الكرامة فيه، فأخذت الكتاب من يده، وقرأته وقلت له: ابلغه عني أنَّ هذا الكلام ما جرك إليه إلاّ خلو بابك من الشيوخ، الذين يعرفونك بالكلاب والأسود، وبمن تغسل الأيدي منهم إذا قبلوها، فتعلم من الكلب الذي تغسل اليد منه، ومن لا، وأنَّ جد هذا الولد هو الذي قبل جدك يده،
واستدعى الماء ليغسل يديه منه بمحضر النصارى والمسلمين؛ ونسبة الجد إلى الجد كنسبة الحفيد إلى الحفيد؛ وكونه لجأ إلى بلادك بعار عليه، وأنت معرض إلى اللجإ إليه، فيكافئك بأضعاف ما عاملته به. فقام أبن الحسن المستقصي يبكي ويقبل يدي، ويصفني بولي الله، وكذلك من حضرني. وتوجه إلى المغرب رسولا، فقص على بني مرين خبر ما شاهد مني وسمعه؛ وبالحضرة اليوم ممن تلقى منه ذلك كثير، جعل الله ذلك خالصاً لوجهه ". انتهى.
ولمّا تقلص ظل الإسلام بالجزيرة، أعداها الله للإسلام، واسترد الكفار، دمرهم الله، أكثر أمصارها وقراها، على وجه العنوة والصلح والاستسلام، ويستنهضون عزماتهم من كل الأمصار. فمن ذلك ما كتب به الكاتب الرئيس أبو عبد الله بن زمرك رحمه الله لمّا نزل المسلمون بآخر مرج غرناطة، متوجهين لفج خير: " أعلموا أنا نذكر لكم ما لا يغيب عن أديانكم وأحسابكم، إنَّ هذا الجهاد وليمة دعا الله عباده إليها، وحضهم عليها، فالآيات في المصاحف مسطوره، والأحاديث مشهورة، لبيع النفوس فيها من الرحمن، وبذل المهج رغبة في حصول ثواب الملك والديان، ينزل الله فيها الملائكة المسومين. وتفرح الحور العين، وتسح الرحمة من رب العالمين، ويباهي الله ملائكته بالمجاهدين؛ وقد
تضافرت على ذلك النصوص، وكفى شرفا الفوز بمحبة الله في قوله) إنَّ الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص (؛ فينبغي فيه الاستغفار من سالف الذنوب، وتطهير السرائر والقلوب، واجتماع الأيدي والكلمة في مرضات علام الغيوب ".
وابلغ منه ما كتب به ذو الوزارتين أبو عبد الله بن الخطيب في الحث على الجهاد، والترغيب فيه، وهو:" أيها الناس، رحمكم الله، إخوانكم المسلمون قد دهم العدو قصمه الله ساحتهم، ورام الكفر قبحه الله استباحهم؛ وزحفت أحزاب الطواغيت عليهم، ومدينة الصليب ذراعيه إليهم؛ وأيديهم بعزة الله أقوى، وانتم المؤمنون أهل البر والتقوى؛ وهو دينكم فانصروه، وجواركم القريب فلا تحفزوه، وسبيل الرشد قد وضح فلتبصروه. والجهاد، فقد تعين الجار الجار، فقد قرر الشرع حقه وبين الله اللهَ في الإسلام، الله اللهً في أمة محمّد عليه السلام؛ الله اللهَ في المساجد المعمورة بذكر الله، الله اللهَ في وطن الجهاد في سبيل الله، قد استغاث بكم الدين فأغيثوه، قد تأكد عهد الله وحاشاكم أنَّ تنكثوه؛ أعينوا إخوانكم بما أمكن من الإعانة، أعنكم الله عند الشدائد، جددوا عوائد الخير، يصل الله لكم ميل العوائد؛ صلوا رحم الكلمة، وآسوا أنفسكم وأموالكم تلك الطوائف المسلمة؛ كتاب الله بين أيديكم، وألسنة الآيات تناديكم، وسنة رسول الله) قائمة فيكم، والله يقول فيه:) يأيها الذين آمنوا هل أذلكم على تجارة تنجيكم (. ومما صح عنه قوله: " من اغبرت قدماه في سبيل
الله حرمها الله على النار ". " لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم ".) ومن جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا (. أدركوا رمق الدين قبل أن يفوت بادروا عليل الإسلام قبل أن يموت احفظوا وجوهكم مع الله يوم يسألكم عن عباده جاهدوا في الله بالألسن والأموال حق جهاده:
ماذا يكون جوابكم لنبيكم
…
وطريق هذا العذر غير ممهد
إن قال لم فرطتم في أمتي
…
وتركتوهم للعدو المعتدي
تالله أن العقوبة لم تخف
…
لكفى من وجه ذاك السيد
اللهم اعطف علينا قلوب العباد اللهم بث لنا الحمية في البلاد اللهم دافع
المربني نص محل الحاجة لنا منها: " ولا شك عند عاقل أنكم إن انحلت عروة تأميلكم أو أعرضتم عن ذلك الوطن استولت عليه يد عدوه ". انتهى.
فكتب بطرته أبو عبد الله الوادي آشي المذكور ما نصه: " كذلك وقع آخر الأمر. وكان الاستيلاء على غرناطة آخر ما بقي من بلاد اللأندلس للإسلام في محرم عام سبة وتسعين وثمان مائة فرحم الله أبن الخطيب العاقل اللبيب وغفر له برحمته ". انتهى كلام الوادي آشي.
على أنه يظهر في كلام بعضهم أن الصلح كان في محرم ودخول الجيش القصبة الحمراء كان في ربيع فلا منافاة والله أعلم.
ورأيت بخط الإمام الوانشريشي سيدي عبد الواحد رحمه الله ما نصه: " استولى العدو على جبل الفتح سنة ستّة وستين وثمان مائة وعلى الحمة تاسع المحرم يوم الخميس عام سبعة وثمانين وثمان مائة وفي عام خمسة وتسعين وثمان مائة استولى العدو على جميع بلاد الأندلس ما عدا غرناطة وبشرتها وكان قبله في عام اثنين وتسعين استولى على مالقة في رمضان منه وفي عام سبعة وتسعين استولى على غرناطة ". انتهى.
ولمّا دخل النصارى إلى الحمراء خرج أميرها أبو عبد الله بن محمّد بن أبي الحسن علي النصري واشترط المسلمون على العدو الكافر شروطا أظهر قبولها وبسط لهم جناح العدل حتى بلغت بزعمهم نفوسهم مأمولها وكان من جملتها أن من شاء البقاء عنده أقام في ظل الأمان مكرما ومن أراد الخروج إلى بر العدوة أنزل بأي بلاد شاء منها من غير أن يعطي كراء ولا مغرما وأظهر للمسلمين العناية والاحترام حتى كان النصارى يحسدونهم على ذلك ويقولون لهم: أنتم عند ملوكنا أعز وأكرم منا ووضع عنهم المغارم حيلة منه وكيدا ليغرهم بذلك ويثبطهم على الجواز. فوقع الطمع لكثير من الناس وظنوا أن ذلك البرق ليس بخلب فاشترى كثير من المقيمين الرباع العظيمة ممن أراد الذهاب للعدوة بأرخص الأثمان وأمر لعنه الله بانتقال سلطة غرناطة أبي عبد الله إلى قرية أدرش من قرى البشرة فارتحل أبو عبد الله بعياله وحشمه وأقام بها ينتظر ما يؤمر به ثم ظهر للطاغية أن يجيزه إلى العداوة فأمر بالجواز وأعد له المراكب العظيمة وركب معه كثير من المسلمين ممن أراد الجواز حتى نزلوا بمليلة من ريف المغرب ثم ارتحل السلطان أبو عبد الله إلى مدينة فاس حرمها الله وما زال أعقابه بها إلى الآن من جملة الضعفاء السؤال عبد الملك الطويل العريض فسبحان المعز المذل المانح المانع لا إله إلاّ هو.
وكان خلع أبيه أبي الحسن يوم الأحد ثالث جمادى الأخرى من عام تسعين وثمان مائة، خلعه أخوه، ودخل أبو عبد الله المذكور، أبن أبي الحسن بض البيازين سادس عشر شوال عام واحد وتسعين، وافتك ملك أبيه من يد عمه، وتوفى رحمه الله بفاس عام أربعة وعشرين، وتسع مائة، ودفن بإزاء المصلى، خارج باب الشريعة، وخلف ولين، اسم أحدهما يوسف، والآخر محمّد وعقبه بها الآن بها كما ذكرناه والله وارق الأرض ومن عليها والله خير الوارثين.
وكان من قدر الله تعالى أنهم لمّا وصلوا مدينة فاس أصاب الناس بها شدة عظيمة من الجوع والغلاء والطاعون حتى فر كثير منها بسبب ذلك ورجع بعض أهل الأندلس إلى بلادهم فأخبروا بتلك الشدة فتقاعس من أراد الجواز وعزموا على الإقامة والدجن ولم يجز النصارى أحد بعد ذلك إلاّ بالكراء والمغرم وعشر المال فلما رأى الطاغية أن الناس قد تركوا الجواز وعزموا على الاستيطان والمقام في الوطن أخذ في نقض الشروط التي اشترط عليه المسلمون أول مرة ولم يزل ينقضها فصلا فصلا إلى أن نقض جميعها وزالت حرمة المسلمين وأدركهم الهوان والذلة واستطال عليهم النصارى وفرضت عليهم المغارم الثقيلة وقطع عنهم الأذان في الصوامع وأمرهم بالخروج من غرناطة إلى الأرباط والقرى فخرجوا أذلة صاغرين ثم بعد ذلك دعاهم إلى التنصر وأكرههم عليهم وذلك سنة أربع وتسع مائة فدخلوا فيه كرها وصارت الأندلس كلها
دار كفر ولم يبق من يجهر بكلمة التوحيد والأذان وجعلت في المساجد والمآذن النواقيس والصلبان بعد ذكر الله تعالى وتلاوة القرآن فإنا لله وإنا إليه راجعون لا راد لمّا قضاه الله الملك الديان.
وقد رأيت لبعضهم رسالة ببعض شرح ذلك ونصها: " وتعرفنا من غير ما طريق وعلى لسان غير فريق أن قطر الأندلس نظر الله إليه عاد بنوره عليه طرق أهله خطب لم يجر في سالف الدهر وذلك أنهم أكرهوا بالقتل إن يقع منهم النطق بما يقتضي في الظاهر الكفر ولم يقبل منهم الأشر وكان الابتداء في ذلك من أهل غرناطة جدد الله رسمها وأعاد إلى بلاد المسلمين أسمها وخصوصا أهل واسطتها لقلة الناس وكونهم من الرعية الدهماء مع عدم العصبية بسبب اختلاف الأجناس علم النصارى دمرهم الله بأن من يقي بها من المسلمين إنما هم إسارا في أيديهم وعيال عليهم وبعد أن انتزعوا منهم الأسلحة والمعاقل وعتوا فيهم بالخروج والجلاء فلم يبق من المسلمين طائل ونقض اللعين طاغية النصارى عهوده ونشر بمحض الغدر بنوده من غير معذرة لفقها ولا كذبة من معرض العذر نمقها إلاّ أعجاز من الكفر وصدورا من الغيض والمكر وخالص لغدر جمعها وفرقها وكان الطاغية إذا ذاك باشبيلية جبرها الله وجعل بها قدره ووقى المسلمين والإسلام شره وبعد أن كان قبل قد انسل إلى غرناطة انسلال
القطا إلى الماء وطلع إليها طلوع الرقيب على خلوات الأحباء وأمر بإخلاء الأرباض وأذن بالسفر في البحر للأبعاض ولم يحضر من الأجفان إلاّ القليل وما كان قصده إلاّ التفريق والتهويل على ما عهد من غدر النصارى وطغيانهم وفعلهم الذميم مع المسلمين وثورانهم والإعلان بمحنتهم والحرص على ارتدادهم وفتنتهم وأقام بعد انصرافه عنها وخروجه منها بأشبيلية مديدة وعقاربه لأشياعه من النصارى بغرناطة تدب وتسري ونفسه الخبيث بالعاب تفري ثم انتقل عن الواسطة للبيازين حيث الحمية والنصرة الإيمانية ومع السراجة والنحية والعقل الرصين والدين المتين فجعل صعبها ذلولا وأعاد للكفر كرها من كان بحضرتها وتمتع أحزاب الشيطان قصمهم الله بنضرتها نسأل الله تعالى أن يجعل تمتعه قليلا ".
وزيادة الخبر: " أن الطاغية قشتالة وأرغون قصمه الله صدم غرناطة صدمة وأكره على الكفر من بقي بها من الأمة بعد أن هيض جناحهم وركدت رياحهم وجعل بعد جنده الخاسر على جميع جهات الأندلس ينثال والطاغية يزدهي في الكفر ويختال ودين الإسلام تنثر بالأندلس نجومه وتطمس معالمه ورسومه فلوا رأيتم ما صنع الكفر بالإسلام بالأندلس لكان
كان مسلم يندبه ويبكيه فقد عبث البلاء برسومه وعفى على أقماره ونجمه ولو حضرتم من جبر بالقتل على الإسلام وتوعد بالنكال والمهالك العظام ومن كان يعذب في الله بأنواع العذاب ويدخل به من الشدة في باب ويخرج من باب لأنساكم مصرعه وساءكم مفظعه وسيوف النصارى إذ ذلك على رؤوس الشرذمة القليلة من المسلمين مسلوله وأفواه الذاهلين محلوله وهم يقولون ليس لأحد بالتنصر أن يمطل ولا يلبث حينا ولا يمهل وهم يكابدون تلك الأهوال ويطلبون لطف الله في كل حال ". انتهى.
وكان جمعة من علماء الأندلس خرجوا إلى تلمستان منهم القاضي الشهير أبو عبد الله بن الأزرق صاحب الشرح العجيب على مختصر خليل وكتاب السياسة الملخص من مقدمة تاريخ أبن خلدون وفيه زيادات بديعات وكتاب روضة الأعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام وغير ذلك وأرتحل من تلمستان إلى المشرق وسنلم بذكر. ومنهم بنو داود المذكورون في فهرسة الشيخ أبن غازي وهؤلاء خرجوا من الأندلس قبل أخذ غرناطة ولكن لمّا رأوا استطالة العدو عليها وأنّه آخذها لا محالة قوضوا رحالهم عنها فنزلوا بتلمستان المحروسة وأخذة الحضرة الغرناطية بعد ارتحالهم بقريب رحمهم الله. ومنهم الفقيه الأديب حائز قصب السبق في كثرة النسخ والكتابة أبو عبد الله محمّد بن الحداد الشهير بالوادي آشي وسنذكره إن شاء الله رحم
الله الجميع. وممن خرج بفاس من العلماء أبو لعباس البقي ثم رجع إلى غرناطة وقضيته معروفة.
ولا بأس أن نورد كتاب السلطان أبي عبد الله محمّد بن الأحمر المخلوع المذكور الذي بعث به لصاحب فاس في ذلك العهد تمهيدا لعذره وتوطئة لمقصده وتطارحا على تلك الأبواب وتملقا وتمسكا بذلك الجناب وتعلقا وهو في الغاية الفصاحة والبلاغة من إنشاء الفقيه الأديب الشاعر الناظم الناثر الكتب المجيد البارع البليغ أبي عبد الله محمّد بن عبد الله العربي العقيلي رحمه الله وسماه بالروض العاطر الأنفاس في التوسل إلى المولى الإمام سلطان فاس ونصه بعد الافتتاح:
مولى الملوك ملوك العرب والعجم
…
رعيا لمّا مثله يرعى من الذم
بك استجار ونعم الجار أنت لمن
…
حار الزمان عليه جور منتقم
حتى غدا ملكه بالرغم مستلبا
…
وأفظع الخطب ما يأتي على الرغم
حكم من الله حتملا مرد لم
…
وهل مرد لحكم منه منحتم
وهي الليالي وقاك الله صولتها
…
تصول حتى على الآساد في الأجم
كنا ملوكا لنا في أرضنا دول
…
نمنا بها تحت أفنان من النغم
فأيقظتنا سهام للردى صيب
…
يرمى بأفجع حتف من بهن رمي
فلا تنم تحت ظل الملك نومتنا
…
وأي ملك بظل الملك لم ينم
يبكي عليه الذي قد كان يعرفه
…
بأدمع مزجت أمواهها بدم
كذلك الدهر لم يبرح كما زعموا
…
يشم بو الصغار الأنف ذا الشمم
وصل أواصر قد كانت اشتبكت
…
فالملك بين ملوك الأرض كالرحم
وأبسط لنا الخلق المرجو باسطه
…
واعطف ولا تنحرف وأعذر ولا تلم
لا تأخذنا بأقوال الوشاة ولم
…
نذنب ولو كثرت أقوال ذي الوخم
فما أطقنا دفاعا للقضاء وما
…
أرادت أنفسنا ما حل من نقم
ولا ركوبا بإزعاج لسابحة
…
في زاخر بأكف الموج ملتطم
والمرء ما لم يعنه الله أضيع من
…
طفل تشكي بفقد الأم في اليتم
وكل ما كان غير الله يحرسه
…
فإن محروسه لحم على وضم
كن كالسمؤل إذ سار الهمام له
…
في جحفل كسواد الليل مرتكم
فلم يبح أدرع الكندي وهو يرى
…
أن ابنه البر قد أشفى على الرجم
أو كالمعلى مع الضليل الأروع إذ
…
أجاره من أعاريب ومن عجم
وصار يشكره شكرا يكافئ ما
…
أسدى إليه من الآلام والنعم
ولا تعاتب على أشياء قد قدرت
…
وخط مسطورها في اللوح بالقلم
وعد عما مضى إذ لا ارتجاع له
…
وعد أحرارنا في جملة الخدم
إيه حنانيك يا بن الأكرمين على
…
ضيف ألم بفاس غير محتشم
فأنت أنت ولولا أنت ما نهضت
…
بنا إليها خطا الوخادة الرسم
رحماك يا رحما ينمي إلى رحما
…
في النفس والأهل والأتباع والحشم
فكم مواقف صدق في الجهاد لنا
…
والخيل عالك الأشداق للجم
والسيف يخضب بالحمر من علق
…
ما ابيض من سبل وأسود من لمم
ولا ترى صدر عضب غير منقصف
…
ولا ترى متن لدن غير منحطم
حتى هينا بدهيا لا اقتدار بها
…
سوى على الصون للأطفال والحرم
فقال من لم يشاهدها فربتما
…
يخال جامحها يقتاد بالخطم
هيهات لو زبنته الحرب كان بها
…
أعيا يدا من يد جالت على زلم
تالله ما أضمرت غشا ضمارنا
…
ولا طوت صحة منها على سقم
لكن طلبنا من الأمر الذي طلبت
…
ولاتنا قبلنا في الأعصر الدهم
فحاننا عنده الجد الخئون ومن
…
تقعد به نكبات الدهر لم يقم
فاسود ما اخضر من عيش دهته عدا
…
بالأسمر اللدن أو بالأبيض الخدم
وشتت البين شملا كان منتظما
…
والبين أقطع للموصول من جلم
فرب مبنى شديد قد أناخ به
…
ركب البلا فقرته أدمع الديم
قمنا لديه أصيلانا نسائله
…
أيا جوابا وما بالربع من أرم
وما ظننا بإن نبق إلى زمن
…
نرى به غرر الأحباب كالحمم
لكن رضا بالقضا الجاري وإن طويت
…
منا الضلوع على برح من الألم
لبيك يا من دعانا نحو حضرته
…
دعاء إبراهيم الحجاج للحرم
وأعط الأمن الذي رصت قواعده
…
على أساس وفاء غير منهدم
خليفة الله وافاك العبيد فكن
…
في كل فضل وطول عند ظنهم
وبين أسلافنا ما قد علمت به
…
من اعتقاد بحكم الإرث مقتسم
وأنت منهم كأصل مطلع غصنا
…
أو كالشراك الذي قد قُدَّ من أدم
وقد خطوت خطاهم في مآثرهم
…
فلم يذموا إذن فيها ولم تذم
وصيت مولى الورى الشيخ الإمام غدا
…
في الناس أشهر من نار على علم
سلالة الأمراء الجلة الكبارا
…
العليلة الظهراء القادة البهم
بنو مرين ليوث في عرين أبوا
…
رؤيا قرين لهم في البأس والكرم
النازلين من البيضاء وسط حمى
…
أحمى من الأبلق السامي ومن إرم
والجائسين بجهم الخيل كل ذرى
…
والدعسين بسمر الخط كل كمي
يريك فارسهم إن هز عامله
…
في مأزق بلظى الهيجاء مضطرم
ليثا على أجدل عار من أجنحة
…
يسطو بأرقم لداغ بغير فم
في اللام يدغم من عساله ألفا
…
ولم نجد ألفا أصلا بمدغم
أهل الحفيظة يوم الروع يحفظهم
…
من عصمة الله ما يربى على العصم
بأس تطير شرار منه محرقة
…
لكل مدرع بالحزم محتزم
هم بطائفة التثليث قد فتكوا
…
كمثل ما يفتك السرحان بالغنم
وإن يلثمهم يوم الوغى رهج
…
أنسوك ما ذكروه عن ذوى اللثم
تضئ آراؤهم في كل معضلة
…
إضاءة السراج في داج من الظلم
هذا ولو من حيا ذاب محتشم
…
لذاب منهم حياء كل محتشم
طابت مدائحهم إذ طابت أنفسهم
…
فاشتاقت النسمات أسما من النسم
لله درهم والسحب باخلة
…
بدرهن على الأنعام والنعم
بحيث الأفق من لون حمرته
…
كالشيب يخضب بالحناء والكتم
هناك تنهل أيديهم بصوب حيا
…
يحيى بالاجداث ما فيها من الرمم
وإن بيتي زيادة طالما ذكروا
…
إذا ألمت أحاديث بذكرهم
أحلام عاد وأجساد مطهرة
…
من العقمة والآفات والأثم
يرون حقا عليهم حفظ جارهم
…
فلم يضر نازل فيهم ولم يضم
فروعه بالدواهي لا يراع ولا
…
يغنم منها بما يعرو من الغنم
هم البحار سماحا غير أن بها
…
ما قد أناف على الأطواد من همم
وليس يسلم من حتفه محاربها
…
حتى يكون إليهم ملقى السلم
كم فيهم من أمير أوحد ندس
…
يقرطس الغرض المقصود بالفهم
ولا كسبط أبى حسون من حسنت
…
أمداحه حسن ما فيه من الشيم
هذا كم أبن أبي زكري الهمام فقل
…
في اصله المنتقى من مجده العمم
خليفة الله حقا في خليقته
…
كنائب ناب في حكم عن الحكم
مهما تنر قسمات منه نيرة
…
تنل بنان له ما جل من نعم
فوجهه بدجى وكفه بجدا
…
أبهق من الزهر أو أندى من الديم
وفضله وله الفضل المبين جرى
…
كجري الأمثال في الأقطار والأمم
وجوده المتوالى للبرية ما
…
وجوده بينها طرا بمنهدم
إذا ابتغت نعما منه العفاة له
…
لم سمعوا كلمة منه سوى نعم
وإن يعبس زمان في وجوههم
…
لم يبصروا غير وجه منه مبتسم
وجه تبين سمات المكرمات به
…
كما تبين سمات الصدق في الكلم
وراحة لم تزل في كل آونة
…
في نيلها راحة الشاكي من العدم
لله ما التزمته من نوافله
…
أيام لا فرض مفروض بملتزم
أنسى الخلائف في حلم وفي شرف
…
وفي سخاء وفي علم وفي فهم
فجاز معتمدا منهم ومعتضدا
…
وامتاز عن قائم منهم ومعتصم
وناصر الدين في الإقبال فاق وفي
…
محبة العلم أزرى بابنه الحكم
أفعال أعدائه معتلة أبدا
…
متى يرم جزمها بالحذف تنجزم
فويل أهل الفلا من حية ذكر
…
للمتلئب اللهام المجر ملتقم
رامو عداوة من إن شاء غادرهم
…
مثل الأحاديث عن عاد وعن إرم
فسوف يأكل من جيشه لجب
…
بكل قرم إلى لحمانهم قرم
وإن الأعراب إذ ساروا لغابته
…
لسائرون إلى لقم على لقم
وهم كما قاله ماض: أرى قدمي
…
بسعيه نحو حتفي قد أراق دمي
فقل إذن للمناوي الناوي الآن الأذى
…
ياغر غرك ما أبصرت في الحلم
له صوارم لو ناجتك السنها
…
لبشرتك بعمر منك منصرم
وإن روحك عن قرب سيقبضه
…
قبض المسلم ما قد حاز من سلم
فهو الذي ما له ند يشابهه
…
من كل متصف بالدهي متسم
يدبر الأمر تدبيرا يخلصه
…
مما عسى أن يرى فيه من الوهم
ويبصر الغيب لحظ الذهن منه إذا
…
تعمى أدراجه ألحاظ كل عم
وينعم النظر المفضى بناظره
…
لصوب وجه صواب واضح اللقم
ذو منطق لم تزل تجلوا نتائجه
…
عن مبطل بخصم المبطل الخصم
ومسمع ليس يصغي للوشاة فلم
…
ينفق لديه الذي عنهم إليه نمي
فعقله لا توازيه العقول وهل
…
يوازن الطود ما قد طال من أكم
إيه جميع الورى من بدو أو حضر
…
نداء مرتيط بالنصح مرتسم
شدوا وجدوا ولا تعنوا ولا تهنوا
…
قد لفها الليل بالواقة الحطم
هذا الأمير المريني السعيد له
…
سعد يؤيده في كل مصطدم
قد أقسمت أنه المنصور ألسنة
…
من نخبة الاوليا مبرورة القسم
فشيعوه ووالوه تروا عجبا
…
وتظفروا معه بالأجر والغنم
والحمد لله إذ أبقى خلافته
…
كهفا لنا من يخيم فيه لم يرم
حرز حريز وعز قائم وندى
…
غمر دراك بلا من ولا سأم
دامت ودام لها سعد يساعدها
…
في كل مبتدأ منه ومختتم
فالله عز أسمه قد زانها بحلى
…
من غر امداحه كالدر في النظم
الواهب الألف بعد الألف من ذهب
…
كالجمر يلمع في مستوقد الضرم
والفاعل لم يهمم به أحد
…
والقائل القول فيه حكمة الحكم
ذاكم هو الشيخ فاعجب أنّه هرم
…
جودا وحاشاه أن يعزى إلى هرم
وحسبنا أن أيدينا به أعتصمت
…
من حبله بوثيق غير منفصم
فما محالفه يوما بمضطهد
…
ولا موالفه يوما بمهتضم
ولا موافيه في جهد بمطرح
…
ولا مصافيه في ود بمتهم
ولا محيا محيه بمنكسف
…
ولا راجاء مرجيه بمنخرم
وما تكرمه سرا بمنكشف
…
ولا تنكره جهرا بمكتتم
وليس لامح مرآه بمكتئب
…
وليس راضع جدواه بمنفطم
ولا مقبل يمناه الكريمة في
…
محل ممتهن بل دست محترم
وما وسيلتنا العظمى إليه سوى
…
ما ليس ينكر ما فيها من العظم
وإنّما هي وما أدراك ما هي من
…
وسيلة ردها أدهى من الرضم
نبينا المصطفى الهادي بخير هدى
…
محمّد خير خلق الله كلهم
داعي الورى من أولى خيم وأهل قرى
…
إلى طريق الرشاد لأحب أمم
عليه منا صلاة ما ذكرت
…
أمن تذكر الجيران بذي سلم
وما تشفع فيها بالشفيع له
…
دخيل حرمته العلياء في الحرم
" ربنا ظلمنا أنفسنا وإنَّ لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ".
" أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا أنت خير الراحمين ". " ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ". " ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأنَّ الكافرين لا مولى لهم ". " نعم المولى ونعم النصير ".
أما بعد حمد الله الذي لا يحمد على السراء والضراء سواه؛ والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمّد، الذي طلع طلوع الفجر بل البدر فلاح، يدعوا إلى سبيل كل فلاح، أولى قلوب غافلة، ونفوس سواه؛ والرضا عن أصحابه، وعترته الأكرمين وأحزابه، الذين تلقوا بالقبول ما أورده عليهم من أوامر ونواه، وعزروه ونصروه في حالي قربه ونواه.
فيا مولانا، الذي أولانا من النعم ما أولانا؛ لا حط الله تعالى لكم من العزة رواقا، ولا أذوى لدوحة دولتكزم أغضانا ولا أرواقا؛ ولا زالت مخضرة العود، متبسمة عن زهرات البشائر متحفة بثمرات السعود، ممطورة
بسحاب البركات المتداركات دون بروق ولا رعود: هذا مقام العائذ بمقامكم، المتعلق بأسباب ذمامكم لعواطف قلوبكم، وعوارق إنعامكم، المقبل الأرض تحت أقدامكم، المتلجلج اللسان عند محاولة مفاتحة كلامكم؛ وماذا الذي يقول من وجهة خجل، وفؤاده وجل، وقضيته المقضية عن التنصل والاعتذار تجل، بيد أني أقول لكم لربى، واجترائي عليه أكثر وإجرامي إليه أكبر: اللهم لا برئ فأعتذر، ولا قوي فأنتصر، لكني مستقيل مستنيل مستعتب مستغفر؛ " وما أبرئ نفسي، إنَّ النفس أمارة بالسوء ". هذا على طريق التنزل والاتصاف، بما تقتضيه الحال ممن يتحيز إلى الإنصاف؛ وأما على وجهة التحقيق، فأقول ما قالته الأم ابنة الصديق:" والله إني لأعلم أني بما يقوله الناس، والله يعلم إني منه بريئة، ولأقولن ما لم يكن، ولئن أنكرت ما تقولون لا تصدقونني، فأقول ما قاله أبو يوسف: صبر جميل، والله المستعان على ما تصفون ".
على إني لا أنكر عيوبي، فأنا معدن العيوب، ولا أجحد ذنوبي، فأنا
جبل الذنوب، إلى الله أشكو عجري وبجري، وسقطاتي وغلطاتي. نعم، كل شيء ولا ما يقوله المتقول، المشنع المهول، الناطق بفم الشيطان المسول. ومن أمثالهم:" سبني واصدق ". ولا تفتر ولا تخلق؛ فمثلى كان يفعل أمثالها، ويحمل من الأوزار المضاعفة أحمالها، ويهلك نفسه ويحبط أعمالها؛ عياذاً بالله من خسران الدين، وإيثار الجاحدين والمعتدين، قد ضللت إذن وما أنا من المهتدين. وأيم الله لو علمت شعرة في فودي تميل تميل إلى تلك الجهة لقلعتها، بل لقطفت ما تحت عمامتي من هامتي وقطعتها؛ غير أنَّ الرعاء في كل وقت وأوان، للملك أعدائه وعليه أحزاب وأعوان، كان أحمق وأجهل من أبن ثروان، أو أعقل من أشج بني مروان؛ ورب متهم برئ، ومسربل بسربال وهو منه عري؛ وفي الأحاديث صحيح وسقم، ومن التراكيب المنطقية منتج وعقيم، ولكن ثم ميزان عقل، تعتبر به أوزان النقل؛ وعلى الراجح الاعتماد، ثم إشاعة الإحماد، المتصل المتماد؛ وللمرجوع الأطراح، ثم الذم الصراح، بعد النفض من الراح؛ وأكثر ما تسمعه الكذب، وطبع جمهور الخلق إلا من
عصمة الله إليه منجذب؛ ولقد قذفنا من الأباطيل بأحجار، ورمينا بما لا يرمى به الكفار، فضلا عن الفجار؛ وجرى من الأمر المنقول عن لسان زيد وعمرو، مالكم منه حفظ الجبار؛ وإذا عظم الإنكاء، فعلى تكأة التجلد الاتكاء؛ أكثر المكثرون، وجهد في تعثيرنا المتعثرون؛ ورومنا عن قوس واحده، ونظمونا في سلك الملاحده؛ أكفر أيضاً كفرا! غفراً اللهم غفرا، أعد نظراً يا عبد قيس، فليس الأمر على ما خيل لك ليس، وهل زدنا على طلبنا حقنا، ممن رام محقه ومحقنا؟ فطاردنا في سبيله عداة كانوا لنا غائظين؛ فأنفتق علينا فتق، لم يمكنا له رتق: وما كنا للغيب حافظين.
وبعد، فاسأل أهل الحل والعقد، والتميز والنقد؛ فعند جهينتهم تلق الخبر يقينا، وقد رضينا بحكمهم يوثمنا قيوبقنا، أو يبرئنا فيقينا. إيه يا من أشرب إلى ملامنا، وقدح حتى في إسلامنا؛ رويداً رويداً، فقد وجدت قوة وأيداً؛ ويحك، لنما طال لسانك علينا، وامتد بالسوء إلينا، لأن الزمن لنا مصغر، ولك مكبر، والأمر عليك مقبل، وعنا مدبر، كما قاله كاتب الحجاج المدبر.
وعلى الجملة، فهبنا صرنا إلى التسليم مقالك جدلا، وذهبنا فأقررنا بالخطأ في كل وردٍ وصدر، فالله در القائل: إنَّ كنت أخطأت فما أخطأ القدر وكأنا بمعتسف إذا وصل إلى هنا، وعدم إنصافه يعلمه الهنا؛ قد أزور متجانفا، ثم افتر متافنا، وجعل يتمثل بقولهم:" إذا عيروا قالوا مقادير قدرت "
وبقولهم: " المرء يعجز لا محالة "؛ فيعارض الحق بالباطل، والحالي بالعاطل، وينزع بقول القائل:" رُبَّ مسمع هائل، وليس تحته من طائل ". وقد فرغنا أوّل أمس من جوابه، وتركنا الضغن يلصق حرارة
الجوى به؛ وسنلم الآن بما يوسعه تسكينا، ويقطعه تبكيتا. فنقول له: ناشدك الله تعالى، هل اتفق لك قط وعرض، خروج أمر ما على القصد منك فيه والغرض؛ مع اجتهادك أثناءه في إصدارك وإيرادك، في وقعه على وفق اقتراحك ومرادك؟ أو جميع ما تزاوله بإرادتك، لا يقع إلا مطابقا لإرادتك؟ أو كل ما تقصده وتنويه، تحرزه كما تشاء وتحويه؟ فلابد أن يقر اضطراراً. بان مطلوبه يشذ عنه مراراً، بل كثيرا ما يفلت صيده من أشراكه، ويطلبه فيعجز عن إدراكه؛ فنقول: ومسألتنا من هذا القبيل: أيها النبيه النبيل؛ ثم نسرد له من الأحاديث النبوية ماشينا، مما يسايرنا في غرضنا منه ويماشينا، كقوله) :" كل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكيس ". وقوله أيضاً: " لو اجتمع أهل السماوات وأهل الأرض على أن ينفعوك بشيء، لم يقض الله لك، ولم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يقض الله عليك، لم يقدروا عليه ". أو كما قال) . فأخلق به أن يلوذ بأكناف الإحجام، يزم على نفثة فيه كأنما ألجم بألجام؛ حينئذ نقول له، والحق قد أبان وجهه وجلاه، وقهره بحجته وعلاه: ليس لك من الأمر شيء قل إن الأمر كله لله. وفي محاجة آدم موسى ما يقطع لسان الخصم، ويرحض عن أثوب أعراضنا ما عسى أنَّ يعلق بها من درن الوصم؛ وكيفما كانت الحال، وإن أساء الرأي والانتحال، ووقعنا في أوجال وأوحال؛ فثل عرشنا، وطويت فرشنا، ونكس لواؤنا، وملك مثوانا، فنحن من سوانا؛ وفي الشر خيار،
ويد اللطائف تكسر من صولة الأغيار؛ فحتى الآن لم نفقد من اللطيف تعالى لطفاً، ولا عمدنا أدوات أدعية تعطف بلا مهلة على جملتنا المقطوعة جمل النعم الموصولة عطفا؛ وإلا فتلك بغداد دار السلام، ومتبوأ الإسلام، المحفوف بفرسان السيوف والأقلام؛ مثابة الخلافة العباسية، ومقر العلماء والفضلاء أولى السير الأويسية، والعقول الإياسية؛ وقد نوزلت بالجيوش ونزلت، وزوولت بالخزوف وزلزلت، وتحيف جوانبها وداخلها كفار التتار عنوة بالسيف، ولا تسل إذ ذاك عن كيف؛ أيام تجلت عروس المنيه، كاشفة عن ساقها مبدية، وجرت الدماء في الشوارع والطرق كالأنهار والأودية، وقيد الأئمة والقضاة تحت ظلال السيوف منتصاة عمائمهم في رقابهم والأردية؛ وللنجيع سيول، تخوضها الخيول؛ فتخضبها إلى أرساغها، وتهم ظماؤها، فتنكل عن تجرعها ومساغها؛ فطاح عاصمها ومستعصمها، وراح ولم يغد ظالمها ومتظلمها؛ وخربت مساجدها وديارها، وأصطلم بالحسام أشرارها وخيارها؛ فلم يبق من جمهور أهلها عين تطرف، حسما عرفت أو حسما تعرف؛ فلا تكن متشكشكا متوقفا؛ فحديث تلك الواقعة الشنعاء أشهر عند
المؤرخين من قفا؛ فأين تلك الجحافل، والآراء المدارة في المحافل؛ حين أراد الله تعالى بإدالة الكفر، ولم تجد ولا قلامة ظفر؛ إذن فمن سلمت له نفسه التي هي رأس ماله، وعياله وأطفاله، واللذان هما من أعظم آماله؛ وكل أو جل أو أقل رياشه، وأسباب معاشه، الكفيلة بإنتهاضه، وانتعاشه؛ ثم وجد مع ذلك سبيلا إلى الخلاص، في حال مياسرة ومساهلة، دون تصب وأعتياض، بعد ما ظن كل الظن أن لا محيد ولا مناص؛ فما أحقه حينئذ وأولاه، أن يحمد خالقه ورازقه ومولاه؛ على ما أسداه إليه من رفد وخيره، ومعافاته مما أبتلي به كثير من غيره؛ ويرضى بكل إيراد وإصدار، وتتصرف فيهما الأحكام الإلهية والأقدار، فالدهر غدار، والدنيا دار مشحونه بالأكدار؛ والقضاء لا يرد، ولا يصد؛ ولا يغلب، ولا يطلب؛ والدائرات تدور، ولا بد من نقص وكمال للبدور؛ والعبد مطيع لا مطاع، وليس يطاع إلا بالمستطاع، والخالق القدير جلت قدرته في خليقته علم غيب، للأذهان عن مداه انقطاع؛ ومالي والتكلف لمّا لا احتاج إليه من هذا القول، بين يدي ذي الجلالة والمجادة والفضل والطول: فله من العقل الأرجح من الخلق والأسجح، ما لا تلتاط معه تمتي بصفره، ولا تنفق عنده وشاية الواشي، لا عد من نفره، ولا فاز قدحه بظفره؛ والموالي يعلم الدنيا تلعب باللاعب، وتجر براحتها إلى المتاعب؛ وقديماً للأكياس من الناس خدعت، وانحرفت عن وصالهم ما كانوا وقطعت،
وفعلت بهم ما فعلت، بيسار الكواعب التي جببت وجدعت، ولئن رهصت وهصرت
فقد نبهت وبصرت، ولئن قرعت ومعضت، لقد أرشدت ووعظت؛ ويا ويلنا من تنكرها لنا بمرة، ورمينا لنا في غمرة أي غمرة؛ أيام قبلت لنا ظهر المجن، وغيم أفقها المصحى وأدجن، فسرعان ما عاينا حبالها منها ما لم نحسب كما تقوم الساعة بغتة؛ فمن استعاذ من شيء، فليستعذ مما صرنا إليه، من الحور بعد الكور، والانحطاط من النجد إلى الغور:
فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا
…
إذا نحن فيهم سوقة نتنصف
فأف لدينا لا يدوم نعيمها
…
تقلب تاراتٍ بنا وتصرف
وأبيها لقد أرهقتنا إرهاقاً، وجرعتنا ن صاب الأوصاب كأساً دهقا؛ ولم نفزع إلى غير بابكم المنيع الجناب، والمنفتح حين سدت الأبواب، ولم نلبس غير لباس نعماكم حين خلعنا ما ألبسنا الملك من الأثواب؛ وإلى أمه يلجأ الطفل لجأ اللهفان، وعند الشدائد تمتاز السيوف من الأجفان. ووجه الله تعالى
يبقى، وكل من عليها فإنَّ، وإلى هنا ينتهي القائل ثم يقول: حسبي هذا وكفان، ولا ريب من اشتمال العلم الكريم، على ما تعارفته الملوك بينها في الحديث والقديم، من الأخذ باليد عند زلة القدم، وقرع الأسنان وعض البنان من الندم، دينا به تدنيت حتى مع اختلاف الأديان، وعادة أطرد فيهم على تعاقب الأزمان والأحيان.
ولقد عرض علينا صاحب قشتالة مواضع معتبرة، خير فيها وأعطى من أمانه، المؤكد فيه بأيمانه، ما يقنع النفوس ويكفيها. فلم نر ونحن من سلالة الأحمر، مجاورة الصفرة، ولاسوغ لنا الإيمان الإقامة بين ظهراني الكفر؛ ما وجدنا على ذلك مندوحة ولو شاسعة، وأمنا المطالب المشاغب حمة شرٍ لنا لا سعة؛ وأدكرنا أي إدكار، قول الله تعالى المنكر لذلك غاية الإنكار:" ألم تكن أرض الله واسعة "؛ وقول الرسول عليه الصلاة والسلام، المبالغ في ذلك بأبلغ الكلام:" أنا برئ من مؤمن مع كافر لا تتراءى نارهما "؛ وقول الشاعر الحاث على حث المطية، المتثاقلة عن السير في طريق منحاتها البطيه:
وما أنا والتلدد نحو نجد
…
وقد غضت تهامة بالرجال
ووصلت أيضاً إلينا، من الشرق كتب كريمة المقاصد لدينا؛ تستدعي الانحياز إلى تلك الجنبات، وتتضمن ما لا مزيد عليه من الرغبات؛ فلم نختر إلاّ دارنا، التي كانت دار آبائنا من قبلنا، ولم نرتض الانضواء إلاّ لمن بحبله وصل حبلنا، وبريش نبله ريش نبلنا؛ إدلالاً على محل إخاء متوارث عن كلالة، وامتثالاً لوصاة أجداد لأنظارهم وأقدارهم أصالة وجلاله؛ إذ قد روينا عمن سلف من أسلافنا، في الإيصاء لمن يخلف بعدهم من أخلافنا؛ ألا يبتغوا إذا دهمهم داهم بالحضرة المرينية بدلا، ولا يجدوا الفجاج، وركبنا إلى بحر الفرات ظهر بحر الأجاج؛ فلا غرو أن نرد منه على ما يقر العين، ويشفي النفس الشاكية من ألم البين، ومن توصل هذا التوصل، وتوسل بمثل ذلك التوسل؛ تطارحاً على سدة أمير المؤمنين المحارب للمحاربين، والمؤمن للمستأمنين؛ غير حليق الحقيق، بأن يسوغ أصفى مشاربه، ويبلغ أوفى مآربه؛ على توالي الأيام والشهور والسنين، ويخلص من الثبور إلى الحبور، ويخرج من الظلمات إلى النور خروج الجنين؛ ولعل شاع سعادته يفيض علينا، ونفحة قبول إقباله تسرى إلينا؛ فتخامرنا أريحية تحمنا على أن نبادر، لإنشاد قول الشريف الرضي في الخليفة القادر:
عطفا أمير المؤمنين فأننا
…
في دوحة العلياء لا نتفرق
ما بيننا يوم الفخار تفاوت
…
أبداً كلانا في المعالي معرق
إلاّ الخلافة ميزتك فأنني
…
أنا عاطل منها وأنت مطوق
لا، بل الأحرى بنا والأحجى، والإنجاح لسعينا والارجى؛ أنَّ نعدل عن هذا المنهاج، ويقوم وافدنا بين يدي علاه مقام الخاضع المتواضع الضعيف المحتاج، وينشد ما قال في الشيرازي أبن الحجاج:
الناس يفدونك اضطراراً
…
منهم وأفديتك باختياري
وبعضهم في جوار بعض
…
وأنت حتى أموت جاري
فعش لخبزي وعش لمائي
…
وعش لداري وأهل داري
ونستوهب من المنان الوهاب تعالى وجلت أسماؤه، وتعاظمت نعماؤه؛ رحمة تجعل في يد الهداية أعنتنا، وعصمة تكون في مواقف المخاوف جنتنا؛ وقبولا يعطف علينا نوافر القلوب، وصنعاً يسني لنا كل مرغوب ومطلوب، ونسأله، وطالما بلغ السائل سؤلاً ومأمولا، متابا صادقا على موضوع الندم ممولا، ثم عزاء حسناً وصبراً جميلا، عن أرض أورثها من شاء من عباده لهم ومديلا، وسادلا عليهم من ستور الإملاء الطويلة سدولا، " سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ". فلينظر الطائر الوسواس المرفرف مطيراً، كان ذلك في الكتاب مسطوراً، ولم نستطع عن مورده صدوراً، وكان أمر الله قدراً مقدوراً.
ألا، وإنَّ لله سبحانه في مقامكم العلى الذي أيده وأعانه، سراً من النصر، يترجم عنه لسان من النصل، وترجع فروع البشائر الصادقة، بالفتوحات المتلاحقة، من قاعدته المتأصلة إلى أصل، فبمثله يجب اللياذ والعياذ؛ ولشبهه يحق الالتجاء والارتجاء. ولأمر ما آثرنا واخترناه، بعد أنَّ استرشدنا الله تعالى واستخرناه، ومنه جل جلاله نرغب أنَّ يخير لنا ولجميع المسلمين، ويؤوينا من حمايته ووقايته إلى معقل، وجانب رفيع، آمين، آمين، آمين.
نرجو أنَّ يكون ربنا، الذي هو في جميع الأمور حسبنا؛ قد خار لنا حيث أرشدنا وهدانا، وساقنا توفيقه وحدانا؛ إلى الاستجارة بملك حفي، كريم وفي؛ أعز جارا من أبي داود، وأحمى أنفا من الحارث بن عباد. يشهد بذلك الداني والقاصي والحاضر والبائد، إنَّ أغاث ملهوفا فما الأسود أبن قنان يذكر، وإنَّ أتعش حشاشة هالك فما كعب بن مامة على فعله وحده يشكر
جليسه كجليس القعقاع بن شور، ومذكراه كمذكر سفيان المنتسب من الرباب إلى ثور، إلى التحلى بأمهات الفضائل، التي أضدادها أمهات الرذائل؛ وهي الثلاث: الحكمة والعدل والعفة، التي تشملها الثلاث: الأقوال، والأفعال، والشمائل؛ وينشأ منها ما شئت من عزم وحزم، وعلم وحلم، وتيقظ وتحفظ، واتقاء وارتقاء، وصول وطول، وسماح ونائل؛ فبور حلاه المشرق، يفتخر المغرب على المشرق؛ وبمحتده السامي خطره في الأخطار، وبيته الذي ذكره في النباهة والنجابة قد طار، يباهي جميع ملوك الجهات والأقطار، وكيف لا وهو الرفيع المنتهى والنجار، الراضع من الطهارة صفو ألبان، الناشئ من السراوة وسط أحجار، في ضثضئ المجد، وبحبوح الكرم، وسراوة أسرة المملكة التي أكنافها حرم، وذؤابة الشرف التي مجاذبها لم ترم؛ من معشر أي معشر، بخلو إن وهبوا ما دون أعمارهم، وجنوا إن لم يحملوا سوى ذمارهم، وبنو مرين، وما أدراك ما بنو مرين:
سم العداة وآفة الجزر
النازلون بكل معترك
…
والطيبون معاقد الأزر
لهم من الهفوات أنتفاء، وعندهم من السير النبوية أكتفاء؛ وانتسبوا إلى برين قيس، فخرجوا في البر عن القيس؛ ما لهم القديم المعروف، وقد نفد في سبيل المعروف، وحديثهم الذي ناقلته رجال الزحوف، من طرق القنا والسيوف، على الحسن من المقاصد موقوف؛ تحمد من صغيرهم وكبيرهم، ذابلهم ولدنهم، فلله آباء أنجبوهم، وأمهات ولدنهم: شم الأنوف من الطراز الأول إليهم في الشدائد الاستناد، وعليهم في الأزمات المعول، ولهم في الوفاء والصفاء والاحتفاء، والعناية والحماية والرعاية، الخطو الواسع، والباع الأطول، كأنما عناهم بقوله جرول:
أولئك قوم إنَّ بنوا أحسنوا البنى
…
وإنَّ عاهدوا وفوا وإنَّ عقدوا شدوا
وإنَّ كانت النعماء فيهم جزوابها
…
وإنَّ أنعموا لا كدروها ولا كدوا
وتعذلني أبناء سعد عليهم
…
وما قلت إلاّ بالتي علمت سعد
وبقوله الوثيق مبناه، البليغ معناه:
قوم إذا عقودا عقداً لجارهم
…
شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
يزيحون عن النزيل كل نازح قاصم، وليس له منهم عائب ولا واصم، فهم أحق بما قاله في منقر قيس بن عاصم:
لا يفطنون لعيب جارهم
…
وهم لحفظ جواره فطن
حلاهم هذه الغريزة التي ليست باستكراه ولا جعل، أمير المؤمنين، دام نصره، قسيمهم فيها حذو النعل بالنعل، ثم هو عليهم وعلى من سواهم بالأوصاف الملوكية مستعل؛ ارفض مونهم منه عن غيث ملث يمحوا أثار اللزبه، وانشق غيلهم منه عن ليث ضار منقبض على براثنه للوثبة، فقل
لسكان الفلا: لا تغرنكم أعدادكم وأمدادكم، فلا يبالي السرحان المواشي، سواء مشى إليها النقلاى أو الجفلى؛ بل يصدمهم صدمة تحطم منهم كل عرنين، ثم يبتلع بعد أشلائهم المعفره ابتلاء التنين: فهو هو كما عرفوه، وعهدوه وألفوه؛ أخو المنايا، وأبن جلا وطلاع الثنايا، مجتمع أشده؛ قد أحتنكت سنه وبان رشده جاد مجد محتزم بحزام من الحزم، مشمر عن ساهد الجد:
لا يشرب الماء إلاّ من قليب دمٍ
…
ولا يبيت له جار على وجل
أسدى القلب أدمى الرواء، لابس جلد النمر لذوي العناد والنواء:
وليس بشاوي عليه دمامة
…
إذا ما سعى يسعى بقوس واسهم
ولكنه يسعى عليه مفاضة
…
دلاص كأعيان الجراد المنظم
فالنجاء النجاء سامعين له طائعين، والوحاء الوحاء، لا حقين به خاضعين قبل أنَّ تساقوا إليه مقرنين في الأصفاد، ويعيا الفداء بنفائس النفوس والأموال على الفاد؛ حينئذ يعض ذو الجهل والفدامه، على يديه حسرة وندامة، إذا رأى أبطال الجنود، تحت خوافق الرايات والبنود، قد لفحتم نار ليست يذات خمود، وأخذتم صاعقة الذين من قبلهم: عاد وثمود، زعقات سبطات تؤز الكتائب أزاً، وهمزاً محققاً للخيل بعد المد المشبع للأعنة همزاً، وسلاُ للهندية سلا وهزا للخطية هزا، حتى يقول النسر: هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً. ثق الخليفة بذلك في كل من رام أذى رعيتك أو أذاك، فتلك عادة الله سبحانه وتعالى في ذوي الشقاق والنفاق، الذين يشقون عصا المسلمين، ويقطعون طريق الوفاق؛ وينصبون حبائل البغي والفساد في جميع النواحي والآفاق؛ فلن يجعلهم الله عز وجل من الآمنين، أنى وكيف وقد أفسدوا وخانوا؟ وهو سبحانه لا يصلح عمل المفسدين، ولا يهدي كيد الخائنين.
وها نحن قد وجهنا إلى كعبه مجدكم وجوه صلوات التقديس والتعظيم، بعد ما زينا معاطفها بأستعطافكم بدر ثناء أبهى من در العقد النظيم؛ منتظمين
في سلك أوليائكم؛ متشرفين بخدمة عليائكم؛ ولا فقد عزة ولا عدمها، من قصد مثابتكم العزيزة وخدمها؛ وإنَّ المترامي على سنائكم، لجدير بحرمتكم واعتنائكم؛ وكل ملهوف تبوأ من كنفكم حصنا حصينا، عاش بقية عمره محروسا من الضيم مصونا؛ وقد قيل في بعض الكلام: من قعدت به نكاية الأيام، أقامته إغاثة الكرام؛ ومولانا أيده الله تعالى ولي ما يزفه إلينا من مكرمة بكر، ويصنعه لنا من صنيع حافل يخلد في صحائف حسن الذكر، ويروى معنعن حديث حمده وشكره طرس عن قلم عن بنان عن لسان عن فكر؛ وغيره من نيام عن ذلك فيوقظ، ويسترسل مع الغفلة حتى يذكر ويوعظ؛ وما عهد منذ وجد إلا سريعا إلى داعي الندى والتكرم، بريئاً من الضجر بالمطالبة والتبرم؛ حافظ للجار الذي أوصى النبي) بحفظه، مستغفرا وسعه في رعيه المستمر ولحظه، آخذاً من حسن الثناء في جميع الأوقات والآناء بحظه:
فهو من دوحة السنا فرع عز
…
ليس يحتاج مجتنيه لهز
كفه في الإمحال أغزر وبل
…
وذراه في الخوف أمنع حرز
حلمه يسفر أسمه لك عنه
…
فتفهم يا مدعي الفهم لغزى
لا تسله شيئاً ولا تستنله
…
نظرة منه فيك تغنى وتجزى
فنداه هو الفرات الذي قد
…
عام فيه الأنام عوم الإوز
وحماه هو المنيع الذي تر
…
جع عنه الخطوب مرجع عجز
فدعوا ذهنه يزاول قولي
…
فهو أدرك بما تضمن رمزي
دام يحيى بكل صنع ومن
…
ويعافي من كل بؤس ورجز
وكأنا به قد عمل على شاكلة جلاله من ظلاله وتمهيد خلاله وتلقى ورودنا بحسن تهلله واستهلاله وتأنيسنا بجميل قبوله وإقباله وإيرادنا على حوض كوثره المترع بزلاله. والله سبحانه يسعد مقامه العلي ويسعدنا به حله وارتحاله ومآله وحاله ويؤيد جنده المظفر ويؤدنا بتأيدنا على نزال عدوه واستنزاله وهز الذوابل لإطفاء ذباله وهو سبحانه وتعالى المسئول أن يريه قرة العين في نفسه وأهله وخدامه وأمواله وأنظاره وأعماله وكافة شئونه وأحواله. وأحق ما نصل بالسلام وأولى على المقام الجليل مقام الخيفة المولى أزكى الصلاة والسلام على خاتمة أنبياء اله وأرسله سيدنا ومولانا محمّد) وعلى جميع أصحابه وآله صلاة وسلاما دائمين أبدا موصلين بدوام الأبد واتصاله ضامنين لمجدها ومرددهما صلاح فاسد أعماله وبلوغ غاية آماله وذلك بمشيئة الله تعالى وإذنه وفضله وإفضاله. انتهى الكتاب وأوردته بطوله لمّا فيه من ذكرى واعتبار بما فعلته الدنيا مع الملوك الأعاظم الكبار ولأنَّ الكلام جر إليه والله تعالى الكفيل بخلاص من توكل عليه.
وصاحب هذا الإنشاء وصفة الإمام أبن داود بقوله: " الفقيه الخطيب الفاضل خاتمة الأدباء بالأندلس أبو عبد الله محمّد بن الفقيه الصالح أبي محمّد عبد الله العقيلي المعروف بالعربي.
ومن بديع نظمه هذه الأبيات:
جز بالبستانين والرياض فما
…
أبهج مرئيها وأجلاه
واعجب بها للبنات ولتلك في
…
أسفلها ناظر وأعلاها
وقدس الله عند ذلك وقل
…
سبحان لا اله إلاّ هو
ورأيت بخط أبن داود المذكور أنه وقع بينه أعني أبن داود وبين الفقيه المدرس أبي عبد الله محمّد بن أبي الفضل بن إبراهيم البسطي نزاع في مسألة نحوية قال: وطال فيها الكلام بن ما تقيد عني في غير هذا فقال: الفقيه الخطيب الأديب العلامة أبو عبد الله محمّد بن عبد الله العربي يروي بالقضية ويشير إلى قصة نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام:
ندد البسطي في مسألة
…
لابن داود وقد أحكمها
وقديما وقعت معضلة
…
وابنداود الذي فهمها
انتهى.
ومن نظم الشيخ الفقيه الأستاذ المقرئ الخطيب الفذ الأوحد سيدي
أبي العباس أحمد الدقون رحمه الله قصيدة في ندب الجزيرة تذكر النفوس بشجوها فترسل العيون دموعها الغزيرة افتتحها نصه: الحمد لله على كل حال والصلاة والسلام على سيدنا محمّد وعلى آله خير آل أما بعد فيقول خديم أهل الله تعالى عبيد الله أحمد بن محمّد الأندلسي الشهير بالدقون لطف الله به بمنه وكرمه: إنه لمّا غابت شمس الجزيرة الخضراء بأخذ الحمراء قرعت باب الندبة لمّا تقدم من الصحبه فقلت أبيات صدرت من قلب كئيب مبكية كل لبيب أريب وسميتها بالموعضة الغراء بأخذ الحمراء مبيحا لمن رغب فيها ولم يرغب عنها أو استحسن شيئا منها أن يحدث بها عني وذلك بعد إتقان لفظها وحفظها وفهم وعظها ولحظها وإن كنت لا أحسن أن أقول وربما أعزى بها إلى الفضول لكني لا أعدم المثيل وفي مثل هذا قيل:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها
…
كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
والله حسبي وعدتي وهو مقيل عثرتي. وهذا مطلع صباحها ومنبع افتتاحها:
أمنت من عكس آمال وأحوال
…
وعشت ما بين أعمام وأخوال
ولا ابتليت بما في القلب من نكد
…
فالجسم مشتغل من غير أشغال
وكيف لا وبقاع الدين خالية
…
من أرض أندلس من أجل أهوال
عمت فغمت قلوب المسلمين فيا
…
للمسلمين من أعداء وأنكال
جاشت بها من جيوش الكفر ما درست
…
بهم معالم أخيار وأقيال
أهل الشجاعة أهل العلم أهل تقى
…
أهل النفاسة في قول وأفعال
عنهم وفيهم أحاديث النبي بدت
…
وهم معاقل قول الله للتالي
رهبان ليل وفرسان نهار فمن
…
يلمم بساحاتهم يظفر بآمال
لا عيب فيهم سوى أن المضاف لهم
…
يسلو عن أهل وأوطان وأموال
فهل ترى بعد هذا النفس سائلة
…
وكيف تسأل عن وصف وعن حال
تالله لا زال ما في القلب من أسف
…
ولو أكن حليفة المنزل الخالي
أو يفتح الله في نصر يمن به
…
فالله باق يقي من كل محتال
قد رام إطفاء نور الله مجتهدا
…
وباذلا كل ما قد حاز من مال
سطى بجيش كموج البحر في عدد
…
نعم وفي عدد من رهط أبطال
مؤيدا باجمالع المصر يتبعه
…
شر الخلائق مسرور بإقبال
يسبي المسامع بالأنفاض مشبهة
…
وقع الصواعق في هد وزلزال
يبني ليهدم ما للإسلام شيده
…
والوصف يعجز من يدعي بقلقال
فهو المقاتل في الأبراج منتقل
…
إلف النحوس وتغير وترحال
فاستوطن المرج لا ينوي الرحيل ولا
…
يخشى المغيث بسهل أو بأجبال
والمسلمون من الأضغان قد ملئت
…
قلوبهم وأبوا تسديد أخلال
والحق مختلف والحمق مؤتلف
…
والكل منصرف عن نصر أبطال
وهم لديه كطير وهو ينتفه
…
والطير يرجو البقا مع كيد قتال
إذا تجرد من ريش يطير به
…
أضحى يدافع عن روح بأوصال
سدوا مسالك أرزاق ومنفعة
…
كدودة القز في نسج لسربال
ثم استغاثوا: ألا فرسان عادية
…
قال الصدى: لست ذا رمح ونبال
والصيف ضيعت ما أملت من لبن
…
ففارق الجبح من تدخين نحال
وارحل بنحلك نحو الغرب في كرم
…
من قبل وضعك في قيد وأغلال
فاستمكن الرعب في الأكباد واتفقت
…
بعد اختلاف على تأمين أرذال
واتل غرناطة الغراء قد عدمت
…
حب الحصيد ونصر الله والآل
كأنها الشمس في أفق العلى كسفت
…
فهل على طلل ترمى بأبطال؟
وهل تعود ليال قد سلفن بها
…
ونحن لا نشكي تنكيد ضلال؟
وهل يعود لها الدين الذي أنست
…
به وقد أيست من فتح أبدال؟
فأصبحوا لا ترى إلاّ مساكنهم
…
كمثل عاد وما عاد بأشكال
قد فرقوا كسبا في كل منزلة
…
وقد سبا من أيد أو عال
فلا المساجد بالتوحيد عامرة
…
إذ عمروها بناقوس وتمثال
ولا المنابر للواعظ بارزة
…
للأمر والنهي أو تذكير آجال
ولا المكاتب بالصبيان آنسة
…
تتلو القرآن بأسحار وأوصال
آه على الدين والدنيا وما نفعت
…
آه إذا صدرت من قلب بطال
أنا إلى الله والرجعي له وبه
…
تلق القلب في تصحيح إعلال
وكان ما كان والألطاف شاملة
…
لاحت بنقة نسوان وأطفال
فلنكرم الآن من ينزل بمنزلنا
…
فالدهر ذو دول فاسمع لأمثال
وإذ ولا قدرة تدني المنى فلهم
…
حق الجوار ولا توصف بإهمال
نلقاهم ولنا بشر ومعذرة
…
ورحمة يا حماة العم والخال
ولا نذد عن ورود الحوض وارده
…
ولا ندع قول ذي نصح وإجمال
إخوانكم رفعوا أيدي الضراعة مع
…
كسر القلوب فلا يلقوا بإخمال
وقل لوال تلطف في مغامرمهم
…
يلطف بك الله إذ تدعى لأحمال
هذا النذير جهرا جاء ينذرنا
…
والأذن في صمم عن قيل أو قال
ونحن في غفلة عما يراد بنا
…
نمشي على مهلة من طول إمهال
يأهل فاس أما في الغير موعضة
…
إن السعيد لموعوظ بأمثال
قل تعالوا إلى نصح وتذكرة
…
فالأمر جد فلا تصحب لمكسال
كيف الحياة إذا الحيَّات قد نفحت
…
على السواحل أو همت بإرسال
ولا سبيل إلى الترياق غير تقي
…
والحزم في سعة من قبل إعجال
والأخذ في جمع القلوب على
…
بذل النصيحة أو إبراء ادخال
والزهد في الدنيا وزخرفها
…
والأمر بالعرف مع تحسين مقوال
ولا ترم أمان الروم منزلة
…
خوفا على الدين أو بعدا من أنذال
فمن يبت في أمان الكب منتصبا
…
لسخط مولى ولا عذر بأثقال
واربأ بنفسك عن أرض تهان بها
…
فحيثما كنت لا تخشى من أقلال
فالموت عندي خير من حياة فتى
…
قد اكتسى بعد عز ثوب إذلال
والهجرة الآن قد عادت كما سبقت
…
فافهم تفاصيل أقوال وإجمال
واحتل بذهنك ولتسمع نصائح من
…
قد طب من حب لم يوصف بمحتال
في صدر سبع على التسعين زائدة
…
شمس الجزيرة غابت بعد إكمال
وبلغ الكلب ما قد شاء من أرب
…
إذ لم يجد ذائدا عن ديننا العالي
ليقضي الله أمرا كان قدره
…
والأمر لله في قول وأفعال
وقد عظمت ولو أسمعت لانتشرت
…
سحاب الدمع لم تقلع عن انزال
فاليشتغل كل مسكين بمهجته
…
والله يحفظنا من كل مهوال
ثم الصلاة على المختار سيدنا
…
محمّد والرضا عن آل أو تالي
ومما كتبه بعض أهل الجزيرة بعد استيلاء الكفر على جميعها للسلطان أبي يزيد خان العثماني رحمه الله ما نصه بعد سطر الافتتاح: الحضرة العلمية وصل الله سعادتها وأعلى كلمتها ومهد أقطارها وأعز أنصارها وأذل عداتها حضرة مولانا وعمدة ديننا ودنيانا السلطان الملك الناصر ناصر الدين والدنيا سلطان الإسلام والمسلمين قامع أعداء الله
الكافرين كهف الإسلام وناصر دين نبينا محمّد صلى الله عليه وسلم محي العدل ومنصف المظلوم ممن ظلم ملك العرب والعجم والترك والديلم ظل الله في أرضه القائم بسنته وفرضه ملك البرين وسلطان البحرين حامي الذمار وقامع الكفار مولانا وعمدتنا وكهفنا وغياثنا مولانا أبو يزيد لا زال ملكه موفور الأنصار مخلد المآثر والآثار مشهور المعالي والفخار مستأثرا من الحسنات بما يضاعف الله الأجر الجزيل في الدار الآخرة والثناء الجميل والنصر في هذه الدار ولا برحة عزماته العلية مختصة بفضائل الجهاد مجردة من أعداء الدين من بأسها ما يروي صدور السمر والصفاح وألسنة السلاح باذلة نفائس الذخائر في المواط التي تألف فيها الأخيار مفارقة الأرواح للأجساد سالكة سبيل السابقين الفائزين برضا الله وطاعته يوم يقوم الأشهاد:
سلام كريم دائم متجدد
…
أخص به مولي خير خليفة
سلام على مولاي ذي المجد والعلا
…
ومن ألبس الكفار ثوب المذلة
سلام على من وسع الله ملكه
…
وأيده بالنصر في كل وجهة
سلام على مولاي من دار ملكه
…
قسنطينة أكرم بها من مدينة
سلام على من زين الله ملك
…
بنجد وأترك من أهل الرعاية
سلام عليكم شرف الله قدركم
…
وزادكم ملكا على كل ملة
سلام على القاضي ومن كان مثله
…
من العلماء الأكرمين الأجلة
سلام على أهل الديانة والتقى
…
ومن كان ذا رأي من أهل المشورة
سلام عليكم من عبيد تخالفوا
…
بأندلس في أرض غربة
أحاط بهم بحر مثال الروم زاخر
…
وبحر عميق ذو ظلام ولجة
سلام عليك من عبيد أصابهم
…
مصاب عظيم يا لها من مصيبة
سلام عليكم من شيوخ تمزقت
…
شيوبهم بالنتف من بعد عرة
سلام عليكم من وجوه تكشفت
…
على جملة الأعلاج من بعد سترة
سلام عليكم من بنات عواتق
…
يسقهم اللباط قهرا لخلوة
سلام عليكم من عجائز أكرهت
…
على أكل خنزير ولحم لجيفة
نقبل نحن الكل أرض بساطكم
…
وندعو لكم بالخير كل ساعة
أدام الإله ملككم وحياتكم
…
وعافاكم من كل سوء ومحنة
وأيديكم بالنصر والظفر بالعدا
…
وأكنكم دار الرضا والكرمة
شكونا لكم يا مولاي ما قد أصابنا
…
من الضر والبلوى وعظم الرزية
غدرنا ونصرنا وبدل ديننا
…
ظلما وعوملنا بكل قبيحة
وكلنا على دين النبي محمّد
…
نقاتل عمال الصليب بنية
ونلقي أمورا في الجهاد عظيمة
…
بقتل وأسر ثم جوع وقلة
فجاءت علينا الروم من كل جانب
…
بسيل عظيم جملة بعد جملة
ومالوا علينا كالجراد بجمعهم
…
بجد وعزم من خيول وعدة
فكنا بطول الدهر نلقي جموعها
…
فنقتل فيها فرقة بعد فرقة
وفرسانهم تزداد في كل ساعة
…
وفرساننا في نقص وقلة
فلما ضعفنا خيموا في بلادنا
…
ومالوا علينا بلدة بعد بلدة
وجاءوا بأنفاط عظيم كثيرة
…
تهدم أسوار البلاد المنيعة
وشدوا عليها بالحسار بقوة
…
شهورا وأياما بجد وعزمة
فلما تفانت خيلنا ورجالنا
…
ولم نر من إخواننا من إغاثة
وقلت لنا الأقوات وأشتدت حالنا
…
أطعناهم بالكره خوف الفضيحة
وخوفا على أبنائنا وبناتنا
…
من أن يؤسروا أو يقتلوا شر قتلة
على أن نكون مثل من كان قبلنا
…
من الدجن من أهل البلاد القديمة
ونبقى في آذاننا وصلاتنا
…
ولا نتركن شيئا من أمر الشريعة
ومن شاء منا البحر جاز مؤمنا
…
بما شاء من مال أرض عدوة
إلى غير ذلك من شروط كثيرة
…
تزيد على الخمسين شرطا بخمسة
فقال لنا سلطانهم وكبيرهم
…
لكم ما شرطتم كملا بالزيادة
وأبدى لنا كتيا بعهد وموثق
…
وقال لنا هذا أماني وذمتي
فكونوا على أموالكم ودياركم
…
كما كنتم من قبل دون أذية
فلما دخلنا تحت عقد ذمامهم
…
بدا غدرهم فينا بنقض العزيمة
وخان عهودا كان قد غرنا بها
…
ونصرنا بعنف وسطوة
واحرق ما كانت لنا من مصاحفٍ
…
وخلطها بالزبل أو بالنجاسةِ
وكل كتاب كان في أمر ديننا
…
ففي النار ألقوه بهزءٍ وحقرة
ولم يتركوا فيها كتاباً لمسلم
…
ولا مصحفاً يخلي به للقراءة
ومن صام أو صلى ويعلم حاله
…
ففي النار يلقوه على كل حالة
ومن لو يجيء منا لموضع كفرهم
…
يعاقبه اللباط شر العقوبة
ويلطم خديه ويأخذ ماله
…
ويجعله في السجن في سوء حالة
وفي رمضان يفسدون صيامنا
…
بأكل وشرب مرة بعد مرة
وقدر أمرنا أن نسب نبينا
…
ولا نذكره في رخاء وشدة
وقد سمعوا قوما يغنون باسمه
…
فأدركهم منهم ألم المضرة
وعاقبهم حكامهم وولاتهم
…
بضرب وتغريم وسجن وذلة
ومن جاءه الموت ولم يحضر الذي
…
يذكرهم لم يدفنوه بحيلة
ويترك في زبل طريحاً مجدلا
…
كمثل حمار ميت أو بهيمة
إلى غير هذا من أمور كثيرة
…
قباح وأفعال غزار ردية
وقد بدلت أسماؤنا وتحولت
…
بغير رضاً منا وغير إرادة
فآهاً على تبديل دين محمد
…
بدين كلاب الروم شر البرية
وآهاً على أبنائنا وبناتنا
…
يروحون للبلاط في كل غدوة
يعلمون كفراً وزوراً وفرية
…
ولا يقدروا أن يمنعهم بحيلة
وآهاً على تلك المساجد سورت
…
مزابل للكفر بعد الطهارة
وآهاً على تلك الصوامع علقت
…
نواقيسهم فيها نظير الشهادة
وآهاً على تلك البلاد وحسنها
…
لقد أظلمت بالكفر اعظم ظلمة
وصار لعباد الصليب معاقلا
…
وقد أمنوا فيها وقوع الإغارة
وصرنا عبيداً لا أسارى فنفتدى
…
ولا مسلمين نطقهم بالشهادة
فلو أبصرت عيناك ما صار حالنا
…
إليه لجادت بالدموع الغزيرة
فيا ويلنا ويا بؤس ما قد أصابنا
…
من الضر والبلوى وثوب المذلة
سألناك يا مولاي بالله ربنا
…
وبالمصطفى المختار خير البرية
وبالسادة الأخيار آل محمد
…
وأصحابه أكرم بهم من صحابة
وبالسيد العباس عم نبينا
…
وسيبته البيضاء أفضل شيبة
وبالصالحين العارفين ربهم
…
وكل ولي فاضل ذي كرامة
عسى تنظروا فينا وفيما أصابنا
…
لعل إله العرش يأتي برحمة
فقولك مسموع وأمرك نافذ
…
وما قلت من شيء يكون بسرعة
ودين النصارى أصله تحت حكمكم
…
ومن ثم يأتيهم إلى كل كورة
فبالله يا مولاي منوا بفضلكم
…
علينا برأي أو كلام بحجة
فانتم أولو الأفضال والمجد والعلا
…
وغوث عباد الله في كل آفة
فسل بهم أعني المقيم برومةٍ
…
بماذا أجازوا الغدر بعد الأمانة؟
وما لهم مالوا علينا بغدرهم
…
بغير أذى منا وغير جريمة
وجنسهم المغلوب في حفظ ديننا
…
وأمن ملوك ذي وفاء أجلة
ولم يخرجوا من دينهم وديارهم
…
ولا نالهم غدر ولا هتك حرمة
ومن يعظ عهداً ثم يغدر بعهده
…
فذاك حرام الفعل في كل ملة
ولا سيما عند الملوك فإنه
…
قبيح شنيع لا يجوز بوجهة
وقد بلغ المكتوب منكم إليهم
…
فلم يعلموا منه جميعاً بكلمة
وما زادهم إلاّ اعتداء وجرأة
…
علينا وإقداما بكل مساءة
وقد بلغت أرسال مصر إليهم
…
وما نالهم غدر ولاهتك حرمة
وقالوا لتلك الرسل عنا بأننا
…
رضينا بدين الكفر من غير قهرة
وساقوا عقود الزور ممن أطاعهم
…
علينا لهذا القول أكبر فرية
ولكن خوف القتل والحرق ردنا
…
نقول كما قالوه من غير نية
ودين رسول الله ما زال عندنا
…
وتوحيدنا لله في كل لحظة
ووالله ما نرضى بتبديل ديننا
…
ولا بالذي قالوا من أمر الثلاثة
وإن زعموا أنا رضينا بدينهم
…
بغير أذى منهم لنا ومساءة
فسل وحرا عن أهلنا كيف أصبحوا
…
أسارى وقتلى تحت ذل ومهنة
وسل بلفيقا عن قضية أمرها
…
لقد مزقوا بالسيف من بعد حسرة
ومنيافة بالسيف مزق أهلها
…
كذا فعلوا أيضاً بأهل الشرة
وأندرش بالنار أحرق أهلها
…
بجامعهم صاروا جميعاً كفحمة
فما نحن يا مولاي نشكو إليك
…
فهذا الذي نلناه من شر فرقة
عسى ديننا يبقى لنا وصلاتنا
…
كما عاهدونا قبل نقض العزيمة
وإلا فيجلونا جميعاً من أرضهم
…
بأموالنا للغرب دار الأحبة
فإجلاؤنا خير لنا من مقامنا
…
على الكفر في عز على غير ملة
فهذا الذي نرجوه من عز جاهكم
…
ومن عندكم تقضى لنا كل حاجة
ومن عندكم نرجو زوال كروبنا
…
وما نلنا من سوء حال وذلة
فأنتم بحمد الله خير ملوكنا
…
وعزتكم تعلو على كل عزة
فنسأل مولانا دوام حياتكم
…
بملك وعز في سرور ونعمة
وتهدين أوطان ونصر على العدا
…
وكثرة أجناد ومال وثروة
وثم سلام الله تتلوه رحمة
…
عليكم مدى الأيام في كل ساعة
انتهت الرسالة بحمد اله، وكتبتها وإن كانت ألفاظها غير بليغة، تكميلا للفائدة، والله الهادي إلى سواء السبيل.
وكان أهل الأندلس في عنفوان أمرهم في غاية البلاغة. حتى قال الرئيس أبن الجياب يفتخر بذلك:
أبى الله أن تكون اليد العليا
…
لأندلس من غير شرط ولا ثنيا
وإن هي عضتها نيوب نوائب
…
فصيرت الشهد المشور بها شربا
فما عدمت أهل البلاغة والحجا
…
يقيمون فيها السم للدين والدنيا
إذا خطبوا قاموا بكل بليغة
…
تجلي القلوب الغلف والأعين العميا
وإن شعروا جاءوا بكل غريبة
…
تخال النجوم النيرات لها حليا
فنسأل في الدنيا من الله سترة
…
علينا وفي الأخرى إذا حانت اللقيا
ولعمري لقد صدق قائل هذه الأبيات، فإن البلاغة لم تزل شمسها بالأندلس باهرة الإياة، ظاهرة الآيات إلى أن استولى عليها العدو وعطل
من أهل الإسلام الرواح إليها والغدو، وفي أهل بقية لسان ويراعة، وتصرف في فنون الإجادة وبراعة، وقد قصصنا عليك آنفاً الرسالة التي كتبها الملك المخلوع لصاحب المغرب فيما سردناه، واطلعت منها على ما يؤيد ما قلناه من الغرض الذي انتحيناه وأردناه: وقد كان ذلك الكتاب وطبقته تلقفوا كرة البلاغة من يد طبقة أخرى حازت معلى القداح، ويبرجت لها من الفصاحة كل خود رداح، كالفقيه الكاتب أبي عبد الله الشران، المبرز في أدواته على الأنداد والأقران، وكالأديب الشهير الفقيه عمر، الذي لم تزل أخباره إلى الآن سمر، وكفارس تلك الحلبة، الكاتب القاضي الرئيس، الوزير الفقيه، أبي يحيى بن عاصم، الذي حليت بعلومه اللبات والمعاصم، وغيرهم من الجهابذة النقاد، والأعلام الذين تخضع لهم المحاسن وتنقاد، إن جدوا وصلوا مقطوع الأسباب، وإن هزلوا، على عادة الأفاضل من مثل هذا الباب، ملكوا النفوس وسحروا الألباب؛ وقد سبق من كلام أبن عاصم ما يصحح ما ادعيناه ولنورد زيادة إذا أبصرنا المنصف المستفيد تقر عيناه، فنقول: أما الفقيه عمر فهو أشهر من نار على علم، وأزجاله ومنظوماته ومقاماته عند العامة محفوظة، وعند الخاصة مرفوضة، إلاّ القليل الذي يسمح في مثله لصاحب القلم، كمقامته التي سماها بتسريح المصال، إلى مقاتل الفصال، ونصها:
يا عماد السالكين، ومحط رحال المستفيدين والمتبركين وثمال الضعفاء والمساكين والمتروكين، في طريقتك يتنافس المتنافس، وعلى أعطافك تزهى العبارات وتروق الدلافس؛ وبكتابك تحيا جوامد الأفهام، وبمذبتك تشرد ذباب الأوهام؛ وفي زنبيلك يدس التالد والطارف، وبعصاك يهش على بدائع المعارف، الله في سالك، ضاقت عليه المسالك؛ وشاد رمي بالبعاد، أدركته متاعب الحرفة، وأقيم من صف أهل الضفة؛ فلا يجد نشاطاً على ما يتعاطى، ولا يلقى اغتباطاً، وإن حل زاوية أو نزل رباطاً؛ أقصى عن أهل القرب والتخصيص، وابتلى بمثل حالة برصيص؛ فأحيل عليك، وتوقفت إقامته على توبة بين يديك؛ فكاتبك استدعاء، واستوهب منك هداية ودعاء؛ ليسير ما سويت، ويتحمل عنك أشتات ما رويت؛ فيلقى الأكفاء الظرفاء عزيزاً، ويباهى بك كل من خاطبك مستجيراً، فاصرف إلى محيا الرضا، وأعد من إيناسك العهد الذي مضى، ولا تلقى معرضاً ولا معرضاً، واصغ إلى سمعك كما قدر الله وقضى:
تعال نجددها طريقة ساسان
…
وعض عليها ما توالى الجديدان
ونصرف إليها من مثار عزائم
…
ونحلف عليها من مؤكد أيمان
ونعقد على حكم الوفاء هواءنا
…
لنأمن من أقوال زور وبهتان
ونقسم على ألا نصدق واشياً
…
يروح ويغدو بين إثمٍ وعدوان
يطرق حوالينا ليفسد بيننا
…
بمنطق إنسان وخدعة شيطان
على أننا من عالم كلما بدا
…
تعوذ منه عالم الإنس والجان
وحاشاك أن تلفي عن الصلح معرضا
…
إلى الصلح آلت حرب عبس وذبيان
وإني أهمتني شئون كثيرة
…
وصلحك أولى ما أقدم من شاني
فأنت إمامي إن كلفت بمذهبٍ
…
وأنت دليلي إن صدعت ببرهان
سأرعاك في أهل العباءات كلما
…
رأيتك في أهل الطيالس ترعاني
ويا لابسي تلك العباءات أنها
…
لباس إمام في الطريقة دهقان
تفرقت الألوان منها إشارة
…
بأنك تأتي من حلاك بألوان
ويا بابي الفصال شيخ طريقة
…
خلوب لألباب لعوب بأذهان
إذا جاء في الثوب المحبر خلته
…
زنيبرة قد مدينة منها جناحان
فما تأمن الأبدان آفة لسعتها
…
وإن أقبلت في سابغاتٍ وأبدان
سأدعوك في حالات كيدي وكديتي
…
بشيخي ساسان وعمي هامان
وإن كان في الأنساب منا تباين
…
فما تنكر الآداب أنا نسيبان
ألا فادع لي في جنح ليلك دعوة
…
لتنجح آمالي ويرجح ميزاني
لك الطائر الميمون في كل وجهة
…
سريت إليها غير نكس ولا واني
فكم من فقير بائس قد عرفته
…
فرقت عليه نعمة ذات أفنان
وكم من رفيع الجاه أوليت أنسه
…
فعاش قرير العين مرتفع الشان
فلو كنت للفتح بن خاقان صاحبا
…
لمّا خانه المقدار في ليلة الخان
ولو لكنت لصابي صديقاً ملاطفاً
…
لمّا قبلت فيه مقالة بهتان
ولو كنت من عبد الحميد مقربا
…
لم هزم السفاح أشياع مروان
ولو كنت قد أرسلتها دعوة على
…
أبن مسلم ما حاز أرض خرسان
ولو كنت في يوم الغبيط مراسلا
…
لبسطام لم تهزم به آل شيبان
ولو كنت في حرب الأمين لطاهر
…
لمّا هان في يوم القاء أبن ماهان
ولو كنت في مغزى أبي يوسف لمّا
…
رماه بغدر عبده في تلمسان
ولو أنَّ كسرى يزدجرد عرفته
…
لمّا طاح مقتولا على يد طحان
ولو أنَّ لذريقاً وطئت بساطه
…
لمّا أثرت فيه مكيدة أليان
وفيما مضى في فاس أوضح شاهد
…
غني لدينا عن بيان وتبيان
ولمّا اغتنى منك السعيد بكاتب
…
رأى ما ابتغى من عز ملك وسلطان
فلا تنسى من أهل ودك إنني
…
أخاف الليالي أن تطوف فتنساني
ولا خير أن تجعل كفاء قصيدتي
…
كفاء أبن دراج على مدح خيران
فجد بدنانير ولا تكن التي
…
ألم بها الكندي في شعب بوان
فجودك فينا الغيث في رمل عالجٍ
…
وفضلك فينا الخير في دار عثمان
وما زلت من قبل السؤال مقابلا
…
مرادي بإحساب وقصدي بإحسان
ولا تنس أياما تقضت كريمة
…
بزاوية المحروق أو دار همدان
وتأليفنا فيها لقبض أتاوة
…
وإرغام مسنون وقسمة حلوان
وقد جلس الطرقون بالبعد مطرقا
…
يقول نصيبي أو أبوح بكتمان
عريف يلحاني إذا ما أتيته
…
ولم أنصرف عنكم بواجب الحان
وقد جمعت تلك الطريقة عندنا
…
أئمة حساب وأعلام كهان
إذا استنزلوا الأرواح عند الحلول تأرجحت
…
مجامرهم عن زعفران واوبان
وإن فتحوا الدارات في رد آبق
…
ثنت عزمه أوهام خوف وخذلان
فيحسب الله عز وجل الأرض حيث ارتمت به
…
ركائبه سرعان رجل وركبان
وقد عاشرنا أسرة كيموية
…
أقامت لدينا في مكان وإمكان
فلله من أعيان قوم تألفوا
…
على عقد سحر أو على قلب أعيان
ونحن على ما يغفر الله إنّما
…
نروح ونغدو من رباط إلى حان
مع الصبح نضيفها عباءة صفة
…
والليل ندليها زنانير رهبان
أتذكر في سفح العقاب مبيتكم
…
ثمانين شخصاً من إناث وذكران
لديكم من الألوان ما لم يجيء به
…
طهور أبن ذنون ولا عرس بوران
ثم ذكر خمسة أبيات أقذع فيها، فلذا تركتها، ثم قال:
فاقسم بالأيمان لولا تعففي
…
عن السوء لا نحلت عقيدة إيماني
فعد للذي كنا عليه فإنَّ لي
…
على الغير إن صاحبته حقد غيران
فمن يوم إذ صيرت ودي جانباً
…
وأعرضت عني ما تناطح عنزان
ولا روت الكتاب بعد نفران
…
محاورة من ثعلبان لسرحان
وما هو قصدي منك إلا إجازة
…
تخولني التفضيل ما بين خلاني
وإنك إن سخرت لي وأجزتني
…
لنعم ولياً صان ودي وجازاني
ولم لا ترويني وأنت أجل من
…
سقاني من قبل الرحيق فرواني
ولا تنس للدباغ نظما عرفته
…
فإنكما في ذلك النظم سيان
ومزدوجات ينسبون نظامها
…
إلى أبن شجاع في مديح أبن بطان
وألمم بشيء من خرافات عنتر
…
وألمع ببعض من حكايات سوسان
وإن كنت طالعت اليتيمة وانسى
…
بلامية في الفحش من نظم واساني
أجزني بكشف الدك أرضى وسيلة
…
وخير جليس في بساط ودكان
وناولني المصباح فهو لغربتي
…
ميسر أغراضي ورائد سلواني
وألحق به شمس المعارف إنني
…
أسائل عن إسناده كل إنسان
وقد كنت قبل اليوم عرفتني به
…
ولكنني أنسيته بعد عرفان
ولا بد يا أستاذ من أن تجيزني
…
ببدء أبن سبعين وفصل أبن رضوان
وكتب أبن أخلي كيف كنت فإنها
…
لوزن رقيق القول أكرم ميزان
ولا تنس ديوان الصبابة والصفا
…
لإخوان صدق في الصفا خير إخوان
وزهر رياض في صنوف أضاحك
…
وجبذ كساء في مكايد نسوان
كذاك فناولني كتاب حباحب
…
وزدني تعريفاً بها وببرجان
ولي أمل في أن أروي رسالة
…
مضمنة أخبار حي بن يقظان
وحبس على الكاس والكوز والعصا
…
فإنك مثر من عصي وكيزان
وصير لي الدلفاس أرفع لبسة
…
فقد جل قدري عن حرير وكتان
وقد رق طبعي وأعتراني خشية
…
يكاد بها روحي يفارق جثماني
وخل مفاتيح الطريقة في يدي
…
وسوغ لهم مزيدى ونقصاني
فإني لم أخدمك إلاّ بنية
…
وإني لم أتبعك إلاّ بإحسان
فكن لي بالأسرار افصح معلن
…
فإني قد أخلصت سري وإعلاني
انتهت المقامة. وأثبتها لأنها أخف ما رأيت من هزليات الفقيه عمر المالقي، رحمه الله وسامحه، ومثل هذا الهزل قد وقع لكثير من الأئمة على سبيل
الإحماض، ولم يعنوا غالباً إلاّ إظهار البلاغة والاقتدار، كما فعل الحريري وغير واحد، والأعمال بالنيات.
ومن نظم الفقيه عمر المذكور قوله عفا الله عنه:
إلى الله ربي أشتكي حالتي
…
عسى فرج يأتي بأفضل حالي
وما أسفي إلاّ لمالي أبيعه
…
وخائن مالي يشتري بمالي
ومن أبدع ما صدر عنه رحمه الله مقامة في أمر الوباء، رأيت أن أثبتها لغرابة منزعها، وإن كان بعض فصولها لا يجري على المشهور من مذاهب العلماء، ونصها:
إلى حمراء الملك وقلعته، ومقر العز ومنعته، ومطلع كل قمر نصري يخجل الأقمار بطلعته، أبقاها الله على تعاقب الزمان، منزل أمان ودار إيمان، وأمتعها بحياة الملك الخزرجي الإيمان، من موجبة إجلالها كما يجب، المعترفة بفضلها وشرفها وأنوار الشمس لا تحتجب، والواقفة عند إشارتها وطاعتها، فإن تأمر أمتثل وإن تدع أستجب، مالقة، المستمسكة بذمتها الوثيقة، المتشوفة إلى أخبارها تشوف المحبة الشفيقة، إلى ريحانة قلبها في الحقيقة، وإلى هذا يا سيدتي ويا عدتي، ويا ذخيرتي ويا عمدتي، أمتعنا الله وإياك بحياة من استنفذها من الورطات، وردنا إلى الصواب مما كان منا من الغلطات، مولانا الغالب بالله وحده، الموعود بعزيز النصر وقريب الفتح والله ميسر وعده.
سلام عليك يتعطر بذكر مولانا أمير المسلمين فوحه، وينشق
كالمسك الفتيت روحه، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد فإني أحمد الله الذي إذا استكفى بعزته كفى، وإذا استشفى بكلمته شفى، وإذا سئل بواسع رحمته عفا؛ واصلي على رسوله محمد الكريم المصطفى، وعلى آله وأصحابه، أكرم من نصح له وأخلص ووفى.
كتبته إليك يا سيدي عن نفس قلقة، ساهرة أرقه، حاذرة مشفقة، ملهبة بل محترقة؛ وإني اقسم عليك بالرب الذي كرمك بالعز وشرفك، وعرفك من لطائف الفرج بعد الشدة ما عرفك، أن تسعدني على تسكين لوعتي، وتأمين روعتي وتراجع رقادي بعد سهادي، وقضاء حاجة جلت في فؤادي، وتفهمي مراد إشارتي وإشارة مرادي.
ومبنى هذه الرسالة إليك على قولهم: " الشفيق مولع بسوء الظن "، ومن منن الله على عبده الوقاية من المتالف جل الله العظيم المن؛ وعلى قول المتنبي:
ربما ضر عاشق معشوقا
…
ومن البر ما يكون عقوقا
والمثل الأول لي والآخر لك، والله ييسر في حفظ مولانا أملي وأملك. وإني أتعجب من مساعتتك على إقامة مولانا بمنزل، هذا المرض به فاش، وهذا الهواء الفسد بين دياره جاء وماش، وسمعت أنَّ حديث السفر لمالقة اثقل عليك من حديث رقيب وعاذل وواش؛ وأنَّ الآراء في ذلك اختلف، ولم يرجع فيها إلى سنن تقدمت وعوائد سلفت؛ والأوائل من المؤمنين رحمهم الله ما تركوا شيئاً سدى، بل نصبوا كل طريق إلى النجاة علم هدى، وسمعت
يا سيدي أنَّ القضية عول على المقام والاستسلام، وخلوف فيها رأي الخليفة الرشيد لمّا تحول في مثلها عن سكنى دار السلام، بمحضر أركان الدين وأعلام الإسلام؛ وقد سمعت في الأجوبة الظريفة، ما صدر من قوله: أخشى أن أكون أول خليفة؛ وقد كنت يا سيدي أرتجي أن يكون لهذا المرض ارتفاع، أو يحصل بدخول فصل البرد انتفاع؛ فتركت الكتب منتظرة لذلك إلى أن تزايدت الحال وأنت على حالك، لا يمر الترحال بخاطرك ولا ببالك، وأنا أقول: أما واجب التسليم، لتقدير العزيز العليم؛ فمتأكد شرعاً، لا يضيق به المؤن ذرعاً؛ لكن ما يفعل المستسلم بالروح والجسد، إذا قيل له اهرب من الأسد؛ وقد أبصره مقبلا إليه، أو منقضا عليه؛ أنَّ يأخذ في تحفظه واحتراسه، أم يصبر لافتراسه؟ ومن قيل له في ظلم الليل: ارتفع عن هذا المكان تنج من السيل؛ أنَّ ينام في مكانه، أم يبادر إلى السلامة بجهد إمكانه؟ ومن نوى: هذه الخيل قد طلعت مغيرة، والرعاة في الجبال مستجيرة؛ فارفع غنمك قبل الاكتساح، فالوقت في انفساح؛ أيتركها تسرح، ولا يبرح؛ أم يرفعها لتسلم، مما تدرب وتعلم؟ وكذلك إذا قامت الرماة صفوفا وأصابت سهامهم من الخلق ألوفا؛ أيرجح الحق يباعداً أم وقوفاً؟ وكذلك أيضاً المنازل، التي تدوم بها الزلازل فأرضها في كل يوم تميد، ودهش القلوب بها حاضر عتيد أو الخسوف بها في يوم ينقض وفي يوم يزيد لا تسمع فيها إلا سقوط جدار، على ركن دار؛ وانفكاك الأركان، على السكان؛ وإخراج ميت، من تحت بيت؛ وسقوط سارية، على جارية؛ أيعزم على السكنى والاستيطان تحت هذه الحيطان؛ أم يؤخذ في الاحتيال،
بالخروج بالأطفال والعيال؟ يا سيدتي الحمراء، سألتك فاخبريني، وإن تحير فهمي فاعذريني ووصل إلي الكتاب الشريف، من جنان العريف؛ يذكر أن السلامة كانت به مستصحبة لمولانا ولناسه، وأن العافية كانت بهم منتشقة أنفاس رنده وآسه، ما عرضت به إلى طبيب حاجة ولا استدعى فيه المعاور للنظر في زجاجة؛ ولا لقول ولا عمل، ولا بلغ في الجساوة والقساوة أقل أمل؛ ولم ينتقص من الساكنين بهذا البستان، من عبيد مولانا السلطان، غير فتى من الخصيان، لا يساوي عشرة دراهم في سوق الفتيان، والجميع بحمد الله استمرت عافيتهم على استقامة، بطول أيام الإقامة؛ وعرفني أيضا جنان العريف في وافد كتابه، ووارد خطابه، أن رغبته كانت في انتقال مولانا نصره الله من صحيح هوائه، وسلسبيل مائه؛ ونفحة جنابه، وتلاعب النسيم العاطر بين قبابه. إلى مالقة حيث الجو الصقيل، والروض الذي يطيب به المقيل، والراحة التي تمتزج بالأرواح كما قيل؛ حيث العرف الأرج، والوادي المعرج والساحل الذي ينشرح به الصدر الحرج، حيث البنفسج يدير كئوس البهار، والياسمين نجوم طالعة بالنهار؛ حيث يتمازج طيب الزهر، بعرف الأترج ونفحات السحر حيث يشبه أنين السواني، حنين المتعشقات من الغواني، إذا حمد الصباح، وانفلق الإصباح؛ وعمرت صغار القوارب، ونادت بحرية الشباك:
إلى المضارب، وسالت أنوار المشارق على جوانب المغارب، ونادى محرك الجيش: ظهور الخيل، وصباح الخير، واستقبلوا الوادي الكبير لمصيد الأرانب والحوت والطير؛ شكر الله جنان العريف على ما قصد ونوى، وعلى ما اظهر من اتباع حق ومخالفة هوى، اعتماداً من أخبار الدول القديمة على ما حفظ وروى. وقال لي يا سيدتي انك وقفت مع الحديث المنصوص، الوارد في مثل هذا المرض على الخصوص؛ وفيه النهى عن الخروج من منازل هذا المرض على الخصوص؛ وفيه النهى عن الخروج من منازل هذا المرض ومواضعه، ومن القدوم على معتركاته ومصارعه؛ والحديث الصحيح، والرشد فيه قول صريح؛ ولكن للعلماء فيه أقوال طويلة التفصيل، وقد لخصها وبينها الإمام أبن رشد في كتابه الجامع من البيان والتحصيل؛ والاتفاق من الجميع أن النهى في هذا الحديث ليس بنهى تحريم، وإنّما هو على سبيل إرشاد وأدب وتعليم؛
فلا إثم ولا حرج، على من أقام ولا على من خرج. وقال عمرو بن العاص: الأفضل الخروج لأهل الفطنة، اتقاء من يؤدى إلى فتنه؛ وكفى بعمرو بن العاص حجة لمن أراد انتصارا، والكلام كثير، ولكني اختصرته اختصارا؛ وإن نظراً قدمه كثير من الصحابة ورجحه، لخليق بأن يقال فيه ما أسعده وما أنجحه! يا ليت تفقهي كله يكون من هذا القبيل، وجاريا على هذا السبيل، مستنداً إلى قول صحابي جليل، ومستدلاً بأرشد علم ودليل، ولو كان على خلاف المشهور من قول
خليل. وهنا يقال: ما في هذه القلة غير هذا الإغريل. يا سيدتي الحمراء؛ أراك في هذه القضية تفقهت فيما بينه عالم وذو علم، ومنعت مما ليس فيه حرج ولا إثم؛ ولو كنت حاضرة لكان لي معك حديث طويل، واحتجاج ينصره نص وتأويل. وسمعت أنك اشفقت من عظيم النفقة، وليس هذا موضع الشفقة؛ فالأمر ليس بغال، ولو يشترى بكل ذخيرة وكل مال؛ والأولى بالملامة، من يفضل شيئاً على السلامة. القمح يأكله السوس، والذهب تغنى عنه النفوس، فكيف يستعظمان فيما تؤمن به النفوس. وبلغني أنك قلت: مالقة ليس بها زرع، وبقليل المقام يضيق لها صدر وذرع وفلاحتها وحرثها ليس لهما أصل ولا فرع؛ وعز علي هذا الكلام وكنني سلمت والسلام؛ فإن سعري عن سعر غرناطة منحط، وفي لمحة بصر يضيق مني بالطعام في كثير من الأيام ساحل وشط، ولا يعلم أنه دامت لي شدة قط. لي في الاعتصام بالتوكل على الله ما يزيد على سبع مائة العام، ما اشغلت فيها فكراً ولا قلباً بادخار قوت ولا باحتكام طعام؛ أثق في اليوم والغد، بالرزق الرغد؛ تأتى به الرياح على الأعناق، ويفيض سيله على جوانب الدواوين وأكناف الأسواق، وتجلبه الأحباب والأعداء بإذن اللطيف الخبير الوهاب الرزاق.
قالت النملة: افتخاري، بادخاري؛ قالت العصفورة: توسلي، بتوكلي؛ قالت النملة: أعتمد على الحب؛ قالت العصفورة: أتوكل على الرب. فلما جن الليل، اقبل السيل؛ فخرجت النملة بالعوم، وبقيت الحبوب بين الدوم؛ فنزلت العصفورة وسجدت، والتقطت من مدخر النملة كل ما وجدت؛ وقالت: خسر المحتكر، وربح طالب الرزق المبتكر، الكريم لا يفتخر بما يدخر.
وصح عندي أنَّ الوزير أعزه الله ليس عنده في هذا كله كلام ولا قول وأنَّ الأمر عنده مفروض إلى الرب الذي له القوة والحول. وسمعت يا سيدتي أنَّ هذا السقم، أعظم تأثيره إنّما هو في قطع الأكباد، من صغار الأولاد؛ الذين من فوق السبع ودون العشر، وهم في هذه السنين رياحين القلوب العاطرة النشر؛ وهذا إلى كتبي لك اعظم داع، فإنَّ الأولاد سوائم والوالد راع؛ والراعي لا يترك غنمه في الطريق سبع ضار، ولا قريباً من حريق نار؛ ومحن نشاهد الطير ينقل أفراخه من وكر إلى وكر، ويسترها بملتف الشجر إذا خاف عليها عادية جارح أو صاحب مكر؛ فكيف لا نقتدي في تأمين روعتنا بمن تقدم من الأكابر، ونقف في حامل السيل بأولادنا الأصاغر؛ فما عندك في هذا كله من القول ومن الجواب؟ وما يظهر لك من وجه الرأي والصواب؟ اكتبي بذلك كتاباً اعتمد عليه، وأستند إليه؛ وقبلي عني يد مولانا تقبيلا، ويا ليتني وجدت إلى ذلك سبيلا؛ وأخبريه أني في خدمته على نيتي الأولى، عاكفة على شكر منته الطولى؛ أدام الله حياطة البلاد والنفوس بحفظه وحياطته؛ وأسمعني البشارة
بقدومه ع محدث مالقة من حمراء غرناطة؛ ويحفظه في النفس والأولاد والملك والبلاد، بمنه وفضله.
وكتب بتاريخ ربيع الآخر عام أربعة وأربعين وثمان مائة. انتهت المقامة.
وكلام المذكور كثير، ومحله من عذوبة المنطق أثير؛ أعلى طبقة من نثره طريقة معريه، حسبما يظهر ذلك بالتأمل لنفوس بالإنصاف حرية؛ وله عدة تآليف أكثرها هزلية، ولذلك لم اجلب شيئاً منها سوى ما تقدم، مما يقتضي ما أصلناه من المزية، والفضيلة للبلاد الأندلسية.
ومن أحسن مقطوعاته التي تطرح بها على باب الكريم، وتطفل بها تطفل من لا يبرح عن باب سيده ولا يريم؛ ويرجى له بها كل جميل، والله لا يخيب ما أمله من تأميل قوله رحمه الله:
عقيدة دين الحق أن محمدا
…
له الفضل إطلاقاً على كل مخلوق
وإن سبقت رسل بكتب وبعثة
…
فما هو في مجد وفضل بمسبوق
فهذا إذا ما عشت أولى عقيدتي
…
وهذا إذا ما مت آخر منطوق
وقوله:
جئتك يا رب ولا عذر لي
…
وهل لعبد السوء من معذرة؟
أرجوك فيما أنت أهل له
…
فأنت أهل العفو والمغفرة
وقوله في مرضه:
يا سامعين الكلام مختلطا
…
نظماً ونثراً قلائداً ودرر
صلوا على المصطفى وسيلتنا
…
محمد وارحموا الفقيه عمر
وأما الكاتب الرئيس أبو عبد الله الشران، فهو الشيخ الفقيه الرئيس الصدر، العلامة العماد، الذخر الأرفع، العلم الأوحد، الأمجد الأسرى، الذي لا يجارى في الإنشاد والاختراع كلاماً جزلاً، وقولاً فصلاً، رئيس الكتبة بالحضرة العلية، أبو عبد الله أبن الشيخ الفاضل الماجد الأعز الأرفع الأوجه أبي إسحاق، كان حيا سنة سبع وثلاثين وثمان مائة. هذا كلام بعض الأندلسيين فيه.
وقال القلصادي في حقه: هو الفقيه الوجيه اللبيب اليقظ الأدرى، الأديب الأحظى، الرئيس النبيل الأرقى؛ وحيد عصره وأوانه، وفريد دهره وأقرانه، أبو عبد الله محمد الشران الغرناطي، تغمده الله برحمته.
وذكر هذا الشيخ القلصادي في طالعة شرحه لأرجوزة أبي عبد الله الشران المذكور، التي أولها:
بحمد خير الوارثين أبتدى
…
وبالسراج النبوي أهتدى
وهي أرجوزة عذبة النظم، سهلة المأخذ مختصرة في علم الفرائض.
ومن بديع نظم الكاتب أبي عبد الله الشران رحمه الله تعالى قوله:
فلا تمنع العين انهمالاً فأنه
…
غرام شجٍ إسناده غير مهمل
أحاديث ترويها الجفون عن الحشا
…
ويثبت منها مرسل بمسلسل
وقوله يخاطب الفقيه الصالح سيدي أحمد بن حرشون، وقد أهدى له قرص زعفران:
أهلا بقرص زعفران أطلعت
…
من حسنها للقلب باعث أنسه
حيا الخوص به وغير عجيبة
…
للبدر أن حيا بقرص شمسه
يا نيرا للمجد أهدي نيرا
…
كل امرئ إهداؤه من جنسه
لمّا اختفت شمسك عن ناظري
…
أرست منه مطر الدمع
وأقبلت ظلمة الليل النوى
…
فما ترى في رخصة الجمع
ز حكى الحافظ أبو عبد الله التنسي رحمه الله أنه لمّا صرف الفقيه أبو الفضل أبن جماعة عن رياسة الكتابة بغرناطة إلى قضاء الجماعة وولى مكانه صاحب الترجمة أبو عبد الله الشران لقي بعض رؤساء الدول جماعة يوما فقال له: يا سيدي إنَّ السر الذي عهدناه الحضر غاب عنها بغيبتك. فقال له: وكيف لا وقد تركتم الفضل المجموع وأخذتم الشر المكرر.
قم إنَّ أبن جماعة كان عنده إعذار فدعا أعيان البلد إليه ولم يدع الشران فكتب إليه الشران:
ماذا أعد المجد من أعذاره
…
في ترك دعوتنا إلى إعذاره
إن كان الرسم دون محضرنا اكتفى
…
لا بد أن يبقى على إعذاره
ثم قال الشيخ التنسي: والشران هذا ممن له باع مديد في الشعر وتصرف حسن. انتهى.
ومن بديع نظم الشران المذكور قوله رحمه الله:
دوام الحال من قضايا المحال
…
واللطف موجود على كل حال
والنصر بالصبر محلى الظبي
…
والجد بالجد مريش النبال
وعادة الأيام معهودة
…
حرب وسلم والليالي سجال
وما على الدهر انتقاد على
…
حال فإن لحال ذات انتقال
من لليالي بائتلاف وكم
…
من اعتبر باختلاف الليال
أخذ عطاء محنة محنة
…
تفرق جمع جلال جمال
حال انتظام وانتثار معا
…
كأنما هذي الليالي لآل
وهل سنى الصبح وجنح الدجى
…
لخقة الأضداد إلاّ مثال
والظلم الحلك على نورها
…
تدل والعسر بيسر يدال
والسيف قد يصدأ في غمده
…
ثم يجلى صفيحته الصقال
والمس بعد الغيم تجلى كما
…
للغيث من بعد القنوط انهمال
والفرج الموهوب ترجي به
…
لطائف لم تجر يوما ببال
فصابر الدهر بحاليه من
…
حلو ومر واعتدا واعتدال
فما للصبر على حالة
…
وإنما الصبر حلى الرجال
ولا يضيق صدرك من أزمة
…
ضاقت فصنع الله رحب المجال
إلى هنا توجد هذه القصيدة بأيدي الناس ورأيت بخط بعض الأخيار بعد هذا البيت زيادة كثيرة على ذلك منسوبة لصاحب القصيدة وهي لا تبعد من نفسه على إنَّ فيها إطاء. وها أنا أيضا أثبتها بجملتها لغرابتها وجزالتها ولاشتمالها على مديح المصطفى المجتبى) ونصها بعد قوله: " رحب المجال ":
وانظر بلطف العقل كم كربة
…
فرجها لطف كحل العقال
وكل إليه كل حاج فما
…
لذي حجا إلاّ عليه اتكال
وكل بدء فله غاية
…
وغاية الخطب الخطب الشديد انحلال
وكل عود فله آية
…
وأية العقل اعتبار المآل
وفي مآل الصبر عقبى الرضا
…
من فرج يدني وأجر ينال
عجبت للعبد الضعيف القوي
…
يغر بالرب الشديد المحال
يهوي على الآمال مسترسلا
…
طوع الهوى حيث أمالته مال
تخدعها النفس بتخييلها
…
وهل خيال النفس إلاّ خبال
يخال أن الأمر جار على
…
تدبيره هيهات مما يخال
الخلق والأمر لمن لم يزل
…
في ملكه الملك وما إن يزال
والفعل والترك دليل على
…
مراده والكل طوع انفعال
يعطي فلا منع ويقضي فلا
…
دفع ويمضي حكمه لا يبال
يدبر الأمر فعن أمره
…
تقدير ما في الكون سفل وعال
يضل يهدي حكمة أنفذت
…
فضلا وعدلا في هدى أو ضلال
وحكمة البارئ في حكمه
…
ما لمجال العقل فيها مجال
والرب لا يسأل عن فعله
…
قد قضى الأمر ففيم السؤال
فيا أخا الفكر اشتغالا بما
…
في غيره للفكر حق اشتغال
سلم ففي التسليم من كل ما
…
ينفذ تسليم وتنعيم بال
وارض بما فاتك أو نلته
…
فعكسه ما لك فيه مجال
وفوض الأمر إلى الحق لا
…
تركن من الدنيا لحال محال
فذو الحجا فيما اتقى وارتجى
…
بالعدل حال ومن العذل خال
يرضى بقسم الرب كل الرضا
…
في كل حال ما عن العهد حال
يرى خلال الشكر والصبر في
…
ما سر أو ساء أبر الخلال
فهو على الحالين قد نال من
…
مناه في الدارين اقصى منال
ما أقصر الدنيا على مرها
…
كال الظل ما أقصر مدّ الظلال
فافطن لها حزما ففي ظلها
…
ما قال حازم حيث قال
ما يقظات العيش إلاّ كرى
…
ولا مرائي العين إلاّ خيال
يا ليت شعري والمنى غبرة
…
والشعر قول ينافي الفعل
هل يستحيل العهد من صبوته
…
فقد مضى عهد الصبا واستحال
والشيب هل يقظني صبحه
…
فالنوم في ليل من اللهو طال
وكسرتي من عسرتي هل تقى
…
وعثرتي من عبرتي هل تقال
هذا زماني في تول وفي
…
عزمي توان والهوى في توال
حال من احتل
…
بدار البلا ولم يحدث نفسه بارتحال
يا رب ما المخلص من زلتي
…
لا عمل لا حجة لا احتيال
يا رب ما يلقاك مثلي به
…
عن طاعة لم ألقها بامتثال
يا رب لا أحمل حر الصبا
…
فكيف بالنار لضعفي احتمال
أو كيف عذري وقد أعذرت لي
…
بأخذ حذري من دواعي النكال
رحمتك اللهم فهي التي
…
لها على العاصين مثلي انثيال
ولا تعاملنا بأعمالنا
…
لكن رجا آمالنا صل ووال
وبامتداح المصطفى هب لنا
…
مآثم الفعل لبر المقال
فما سوى حبي للمصطفى
…
وسيلة لي بعرها اتصال
ذلك تجري وعلى فضله
…
طمعت في الفضل بلا رأس مال
فإن يفز قدحي بمدحي له
…
فقد يجل النور قدر الذبال
ورائد الغر الغوالي على
…
موثقة مما نوى من نوال
أعظم بأمداح نبي الهدى
…
حبل اعتلاق أو شفاء اعتلال
خير الورى من باد أو حاضر
…
أكرمهم من خاف أو ذي انتعال
فاديهم من فتكات الردى
…
هاديهم في هلكات الضلال
حاميهم بالعض ذا لا حمى
…
كاليهم في الخطب إذ ليس كال
منيلهم إذ لا جدى يرتجى
…
مقيلهم إذ لا عثار يقال
قريعهم في بقات العلا
…
شفيعهم في عرضات السؤال
مؤويهم من حوضه من صدى
…
مؤويهم من جاهه في ظلال
أطول من سال بسيب الندى
…
أصول من في الحق بالسيف صال
من خصه الله بخصل المدى
…
في كل ما عم الهدى من خصال
من باهر الحسن وفضل التقى
…
وحكمة النطق ومجد الفعال
حال من العلم بأسنى حلى
…
واف من الحلم بأزكى خلال
نور مبين صادق فارق
…
مبشر هاد ختام كمال
أبيض يستسقي الحيا بأسمه
…
كهف الأيامي لليتامى ثمال
الرحمة المهداة ضمن احتفا
…
والتعمة المسداة خلف احتفال
كم آية جلى لنا أو تلا
…
وغاية جلى بها دون تال
ذو العرش أسمى قدره فاسمه
…
في العرش مقرون مع اسم الجلال
وذكره رفع في ذكره
…
حمدا ليتلو مدحه كل تال
أعطاه دون الرسل خمسا كفت
…
يد امتنان العطايا الجزال
لم يبعث الرسل اشتمالا وفي
…
بعثته للثقلين اشتمال
وقسمة الأنفال حلا وما
…
من قبل كانت لنبي حلال
والأرض طهرا ومصلى لأنَّ
…
كان له كون بها واحتلال
والنصر بالرعب لشهر مدى
…
ينازل الأعداء قبل النزال
والنعمة الكبرى التي نالها
…
شفاعة الأخرى ونعم المنال
وليلة المعراج أسرى فما
…
اسرى واسنى شرفا في الليال
جال وجبريل أنيس له
…
من السماوات العلى حيث جال
حتى انتهى من سدرة المنتهى
…
إلى مقام لم ينله مقال
قال له الروح مقامي هنا
…
وأنت فاصعد لمقام الوصال
فقال: يا أنسى أفردتني
…
حيث دهتني مدهشات الجلال
فقال: كلا إنّما الأنس ما
…
أنت موال ولك الله والْ
طأ حضرة القدس اتصالا فما
…
أبيح منها لسوك اتصال
فزجه في النور زجا رأى
…
وراءه للحق نور الجمال
شاهد ما شاهد مما ارتقى
…
عن مبلغ العقل ووهم الخيال
فقال قوم بفؤاد رأى
…
وعالم بالعين والقلب قال
وليس ذا وهو محال على
…
حال مقام الحب مما يحال
حيث تدلى قاب قوسين أو أدنى نجيباً في ظلال الدلال
وبعد ما في النجم يتلى علا
…
ثم أتى والنجم في الأفق عال
وباحتمال الجسم والروح في
…
مسراه صح القول دون احتمال
وبانشقاق الصدر فقس
…
له انشقاق البدر عند اكتمال
لنسبة بينهما في الهدى والحسن والقرب وبعد المنال
فنور هذا كم جلا من دجى
…
ونور هذا كم هدى من ضلال
كلا بل الأنوار حيث انجلت
…
حسا ومعنى منه كلا تنال
لا نشقاق البدر من نوره
…
أبدى انشقاقاً وهو تغيير حال
شق هلالين على صفحتى
…
ظلمائه في كل شق هلال
والشطر منه لاستلام الثرى
…
بين يديه بالسلام استمال
بل اخجل البدر لنقصانه
…
فانحط منشقا لبدر انكمال
هم سألوها آية أعرضوا
…
عنها وقد جاءت وفاق السؤال
قالوا وقد جالوا بسحر أتي
…
فقالت هذا السحر سحر حلال
بل عجبوا من نكتة الكون أنَّ
…
أعطاه رب الكون ما منه سال
وهجرة بل وصلة للرضا
…
وربما نيل بهجر وصال
ضفا لحجب الستر دون العدا
…
في الدار والغار عليه انسدال
إذ غار بالحكمة نور الهدى
…
في الغار من غارة حزب الضلال
وما اختفي من خيفة بل لأن
…
تظهر أسرار معاني المعال
حيث ثنى بعد عنان الردى
…
سراقة عما سرى واستقال
هيل كثيب الطرف خسفاً به
…
عن كثب والصنع للطرف هال
أهوى كما أهوت بميلاده
…
من قصر كسرى الشرفات العوال
نسبة حال كان من سرها
…
أنَّ بسواريه غدا وهو حال
هناك هامت بالحمام العدا
…
فحام حوليه حمام فحال
فاطرد الكسر على جمعهم واطرد الفتح له صدق فال
والعنكبوت اعتمدوا حجة
…
خالوا بها الغيل من الليث خال
فأعجب لهم بالوهن استوثقوا
…
ظنا وللبرهان هم في جدال
ما أصدق الصديق في قوله
…
عدل لنا في حجج الصدق قال
أشفق لا حرصاً على نفسه
…
بل غار من علق نفيس يذال
يا أيها الصديق بشراك لا
…
تحزن وشم للنصر أمضى النصال
فحكمة العصمة إحرازها
…
ما بين أظفار الظبي والعوال
لله ما أشرفها عزة
…
ليس لغير الله منها ابتهال
نبوة لاحت براهينها
…
قطيعة ترغم أنف الجدال
وهل جدال في عُلى أوجبت
…
وآدم في طينه ذو انجدال
وإذ نجى في فلكه
…
كان على أنوار هذا اشتمال
كذا خليل الله في ناره
…
من نوره أهدى هدى الخلال
إذ قال جبريل له سل تنل
…
فقال علم الحال حسب السؤال
ونال إسماعيل منه الفدا
…
بالذبح أو إسحاق إنَّ صح نال
وهود استجلى لديه الهدى
…
ويوسف منها تحلى الجمال
وخلعة الإشراق منها أكتسى
…
بالطور موسى عند خلع النعال
والروح روح الله لاقى بها
…
بشرى تلقتها صدور الرجال
فيا له نور انتقاء بدا
…
في غرر الآباء منه انتقال
والشمس والبدر معاً والضحى والشهب منه أشرفت والهلال
ونوره أجلى، وبرهانه
…
أعلى، وكم من دونها من معال
تفجرت أنمله الندى
…
معنى وبالحس جرت بالزلال
وأنطق الطير بتصديقه
…
وأفصح الذئب به والغزال
وسبحت في راحتيه الحصى
…
وانهزم الجمع لحثو الرمال
والجذع إذ عوض من وصله
…
بفصله حن حنين الفصال
وهل إلى آياته منتهى
…
وعن غاياته النجم آل
فما بليغ بالغاً وصفه
…
يقصر عن ذاك المقام المقال
وبعد معبد نون أو منتهى
…
براءةٍ ماذا عسى أنَّ يقال
يا سيد الكونين فضلا به
…
قد ساد في الأولى ويوم المآل
يا سابق الرسل اصطفاء ويا
…
خاتمهم جمعا لمعنى الكمال
يا ملجأ الخلق ومنجاهم
…
إذا بهم ضاق انفساح المجال
يا من به نال المحب الرضا
…
ويا شفيعا في الذنوب الثقال
رحماك فينا يا بني الهدى
…
فلم تزل رحماك ذات انهمال
رحماك في أوطاننا راعها
…
من لحظك الأحمى بعين ابتهال
رحماك في سلطاننا واله
…
من نصرك الأمضى بأرضى نوال
رحماك في غربتنا كن لها
…
أنسا فإنَّ العهد بالأنس طال
رحماك في كربتنا حلها
…
منك بسر فهي رهن اعتقال
رحماك في عيلتنا أغنها
…
أنا على رفدك طرا عيال
رحماك في قلتنا زكها
…
زكاة تكثير لجاه ومال
صالت علينا بالوفور العدا
…
وهل على راجيك غوثا يصال
صالت بعد واعتداد معاً
…
وما على ذاك الحمى يستطال
خالت بأنا لا غياث لنا
…
حاشى غياث الخالق مما يخال
وبالغنى اختالت وما إنَّ لنا
…
في غير أفياء غناك اختيال
فأنت للخلق ملاذ الورى
…
والوزر الأحمى لدى ذي الجلال
صلى عليك الله نور الهدى
…
أزكى صلاة قرنت باتصال
انتهت القصيدة. ومن ذلك قوله رحمه الله:
لك يا فقيه وضعت خدى في الثرى
…
طمعا بوصلك منك غير مؤجل
فأجاب ذلك لا يجوز لأنه
…
عندي رباً من باب ضع وتعجل
وقوله:
لي سيد زار وما زرته
…
فمني النقص ومنه التمام
إنَّ يحتمل سهوى ففقه مضى
…
لأنني المأموم وهو الإمام
وطالما زار الغمام الثرى
…
ولم يزر قط الثرى للغمام
وقوله رحمه الله، وهو غاية في بابه:
بعثت بها ذكرى على ثقة إلى
…
مؤمل وعد من لقائك مرقوب
فما زلت فذا في رءوس ذوي العلى
…
وما وعد رأس مثل موعد عرقوب
وقوله:
عاب مني العداة شعراً وثغراً
…
رميا في الصبا بشيب وشين
قلت: لا عيب في ما دام فضل
…
في النهى واللسان والشفتين
وقوله:
قلت لمّا جبرت بالعاج ثغراً
…
ولقد رمت بالمحال احتجاجاً
صاح لا بأس أنَّ يعوج شبابي
…
تلافي أما ترى الثغر عاجا
وقوله:
أتراني أحوط الثغر ربطاً فأضحكت
…
وتاهت بثغر بالجفون يحاط
فقلت لخوف الحل منه ربطته
…
أينكر في الثغر المخوف رباط
وقوله:
إلهي لك الشكوى وحسبي رحمة
…
نداؤك في شكوى الخطوب إلهي
وحقك ما للهو أبدعت خلقي
…
وها أنا في غي البطالة لاهي
بنفسي وشيطاني ودنياي والهوى
…
فتنت ولكن أنت حسبي لاهي
ولنختم ما أردنا جلبه من نظمه الذي هو بحر لا ساحل له بقوله:
يا رب قلت وقولك الحق الذي
…
أحكمت: انك تستجيب لمن دعا
فاختم لعبدك بالرضا وأحكم له
…
بالستر في الدنيا وفي الآخرة معا
وأما الرئيس أبو يحيى بن عاصم فهو الإمام العلامة، الوزير الرئيس، والكاتب البليغ الجليل الخطيب الجامع الكامل، الشاعر المفلق الناثر، الحجة، والخاتمة رؤساء الأندلس بالاستحقاق، القاضي محمّد بن محمّد بن محمّد بن محمّد بن محمّد بن عاصم القيسي الأندلسي الغرناطي، قاضي الجماعة بها، كان رحمه الله تعالى من اكابر فقهائها وعلمائها، أخذ عن الإمام المحقق أبي الحسن بن سمعة، والإمام القاضي أبي القاسم بن سراج، الشيخ الراوية أبي عبد الله المنتوري، والإمام أبي عبد الله البياني وغيره من وذكر في شرحة تحفة والده أنّه ولى القضاء عام ثمان وثمانين وثمان مائة، وله عدة تآليف منها شرحه العجيب على تحفة والده في الأحكام، وهو كتاب نافع، فيه فقه متين، ونقل صحيح، وكانت بينه وبين عصريه الإمام مفتي غرناطة أبي عبد الله السرقسطي، مراجعات ومنازعات في مسائل فقهية. ومن تآليفه رحمه الله: كتاب جنة الرضى، في التسليم لمّا قدر الله وقضى؛ وكتاب الروض الأريض، كأنه ذيل به إحاطة أبن الخطيب،
وله غير ذلك، وسنذكر شيئاً من كلامه بعد هذا إن شاء الله تعالى. ومن أغرب ما صدر عنه، رضي الله عنه، قصيدة، تنفك منها قصيدتان أخريان بديعتان، إحداهما من المكتوب الأحمر، والأخرى من المكتوب بالأخضر، وكل واحدة من هاتين البنتين تلد موشحة، كما ستراه، وقد ألفيتها بخط بعض أعلام سبته، وهو الفقيه أبو عبد الله محمّد بن علي بن محمّد بن فرج، وجده محمّد بن فرج هو الذي نأتي بجملة من نظمه في النعل النبوية، عند ما نتعرض لذلك إن شاء الله تعالى، في محل هو انسب من هذا الموضع، وقد سقط من هذه القصيدة نحو ثلاثة أبيات، فعوضتها بغير ذلك السنن، على أنَّ بعض كلماتها لم تسقط إلى الطرف.
ونص ما كتبه السبتي المذكور من نظم السيد الأستاذ العلم الصدر المفتي القاضي رئيس الكتاب، ومعدن السماحة، ومنبع الآداب يسدي أبي يحيى أبن عاصم رحمه الله ورضى عنه، يمدح السلطان العادل المقدس المنعم المرحوم المجاهد، أبا الحجاج يوسف بن نصر، قدس الله روحه، ونضر ضريحه، قال: ونقلتها من خط ناظمها رحمه الله. انتهى. وهذه هي القصيدة:
أما الهوى " ما كنت " مذ بان عهده
…
أهيم بلقيا من تناثر وده
رعى الله " لو أنصف " الصب في الهوى
…
لمّا فاض منه الدمع مذ بان صده
ولو جاد من " بعد المطال " بروزة
…
لمّا شب اشواقي وقلبي زنده
كما خان صبري يوم أصبح و " أصلى
…
لظى " زاد ماء من جفوني وقده
لذلك أسال الدمع كالدر مدمعي
…
من " الوجد " فاستولى على الجفن سهده
حكى لؤلؤاً من سلكه متناثرا
…
و " إلاّ ليم " قد تتابع مده
ذخرت الثمين القدر منه بمقلتي
…
وما زلت من خوف " الكنال " أعده
ولا عجب مذ أعوز القرب أنَّ غدا
…
و " كالقمر الزاهي " سناه وبعده
أيلحق باللقيا أو الوصل من يغو
…
ر " في نوره " بدر السماء وجنده
وصير جسمي للصبابة والتلا
…
قي يتم قلبي إذ تمكن وجده
أقطع أنفاسي " عليه كآبة "
…
والله من بدر لغيري سعده
فمن شعره " الليل البهيم " ومن سنى
…
مقبله للحسن نور يمده
بحكم " الدلال " الجور حكم جوره
…
ومن شأنه ألا قرين يرده
له معطف " مستحسن القد " ناعم
…
به علقت في الحب بالرغم أسده
رمى في فؤادي جمراً " ذكى " لهيبه
…
به ظبي أنس قد تلهب خده
فيعبق من نار الحيا عاطر " الشذا
…
كأني " بذاك الخال قد نم نده
ويبدو بآفاق الجمال هلاله
…
له " الليل فراعوا " الكواكب عقده
كأنَّ الظبي في مرتع الطرف لظه
…
كأنَّ " القنا في " اللين والفعل قده
يروق العيون العطف منه فشبهت
…
به قضب ألبان " اعتدال " وملده
ويا نعم ورد الخد لو جاز قطفه
…
وطيب رحيق الثغر لو حل ورده
يجول به ريق " شهي " يحيلني
…
إليه لظى في القلب قد شب وقده
ويحمي المحيا و " اللمى " بلواحظ
…
عن الدنف المغرى به فتصده
فلله من ريم ضلوعي كناسه
…
وروض يسقيه من الدمع عهده
ويمنع منه المستهام فما له
…
و " في لثمه " لو جاد باللثم قصده
وبالحسن منه يستبيح حمى النهى
…
و " كان المنى واليمن يحويه برده
ويلوي بديني في الهوى وهو موسر
…
له در ثغر " لو ينال " وعقده
أفي العدل أنَّ يحكم بتحريم ريقه
…
لأن " كان للشهد المعلل ورده
تخيلته لو نيل بالنهب في الكرى
…
" وما ذقته يشفي من السقم شهده
فأجنى كما شاء الوصال " رضابه "
…
ويجني على قلبي هواء وصده
ويشفي بذلك المبسم " العذب " ريقه
…
فؤادي إذ يشفي بلثمي خذه
وحلو " الجنى " مر الجفا باهر الس
…
نى له نهب هذا القلب قسرا ورده
بدا " في المثال " كالغزال محاسناً
…
وتخشاه أبطال العرين وأسده
وللحب يدعو لحظه الأوطف الورى
…
ألا هكذا قلب المشوق أقده
تملك رقى طرفه " مع سقمه "
…
وبالشرع في حكم الغرام يرده
وأظهر مكنون الهوى منذ جار في أل
…
معنى الذي قد طال في الحب جهده
وقد كان تحت الكتم عذرى ووجده
…
فأسهر منه ما اختفى قبل صده
ويحسبه في الحكم بالجور كالورى
…
وهل بالسليم القلب يحسب ضده
إذا بالظنون الكاذبات يناله
…
ينام فكم عم الليالي سهده
يلوح سناه للمشوق وقربه
…
عليه حرام إذ يحلل بعده
وفي مجتلاه الباهر الحسن والروا
…
حياتي، وشبه القتل للنفس فقده
وأنعش القلب بالإنصاف " مهما بدا " وإنَّ
…
أرى منه ظلماً عاود القلب وجده
ويبديه نور الحسن وهناً " لمقلتي "
…
ويخفيه فرع فاحم الوصف جعده
يميل على المشتاق بالهجر حكمة
…
فمنه استعار الميل عني قده
فيا هاجري والصد قاتل
…
وروض " نعيمي " في رضاك وخلده
أما والفتون البابلي وسحره
…
ليقنعني هزل " الوصال " وجده
ويا مقولي مالي سواك مؤزر
…
فخل الهوى وامدح لمن حق حمده
فصغ لؤلؤء من مدحي أبن ملوكنا
…
" إمام الورى " الباهي على الخلق رفده
من أورثه الملك المؤصل نصره
…
وأكسبه المجد المؤثل سعده
لباب العلى " قطب المعالي " وتاجها
…
وبدر أهدى الوضاح في الدهر سعده
به قد غدا ثغر " الهدى " وهو باسم
…
منير سناه مشرق الأفق سعده
وأضحى الكمال طوده فإنَّ أعتدى
…
على البدر نقص فالجبين يمده
ومهما عفا عاد الحجا وهو قائل
…
كذلك الحلم والصفح الذي أستعده
وبالشم يزرى عقله " الأرجح " الذي
…
لنحو المعالي والمجادة قصده
فمعنى الحلى تهديه للقلب ذاته
…
و " سر العلى " يبديه للعين مجده
ومن كفه غيث الندى وغمامه
…
ومعنى السماح المستماح ورغده
إذا انهل منه الواكف الثر للورى
…
فصفو الندى والجود قد لذلك ورده
تخال هتون البذل منهن زائلا
…
يكفيه برق الجلال ورعده
وكل نوال هامل من بنانه
…
فأقصى صفات الجود قد جاز جوده
وفيض نداه يشرح الحال إنه
…
يمد الحيا في السمح إذ يستمده
وفي غيثه الثجاج للمعتفي الغني
…
إذا بالأيادي منه يبدأ رفده
وللفضل والإحسان والبأس سبقه
…
وللملك والإسلام والعلم عضده
وأفعله عند استباق المدا شأت
…
وفعل ظباه بالكماة وجرده
له مشرفي دائم القطع للطلا
…
فكل كمي للعدا فيه فقد
وبين سكون في الندى من الحجا
…
وبين مضا بالقتال يعده
وزينه من قصده الجمع للعلا
…
كما زين السيف الصقيل فرنده
وحزم وعزم بين بكر وثيب
…
به المرهف الماضي يفلل حده
فيوم الندى الإسلام يسعد دهره
…
ويوم الوغى الإشراك يتعس جده
ومن بأسمه أضحى الحما متمنعاً
…
وللفخر منه صارم يستعده
وتمسي عداه كالحميم شرابهم
…
وما شيدوا في دهره فيهده
ويغدو الموالي في سرور وغبطة
…
من البشر أبكار وعون توده
قد اعتاد ترك الكافرين وشأنهم
…
لهيب وشأن هامل الدمع ورده
فأبطالهم رهن الفناء ومالهم
…
إلى البذل عقباه وبالسيف رده
ولم يبق إلاّ من حمى الحسن للعطا
…
وشفع في أحيائه منه خده
ولأصبح في العلياء كالبحر كفه
…
كما قد غدا مثل الجواهر رفده
فصوب الحيا في جوده برقه الظبي
…
يربك هشيم الكفر مما يقده
نداه المعين الثر قد نعم الهدى
…
ويشفي به حزب الضلال وجنده
وأحكم رفع الملك إذا نصب العدا
…
على حال ذل نال من ضل جهده
أيا سامي القدر الذي جل ذكره
…
ويا محرز المجد الذي عز نده
صفاتك في العيا عزيز منالها
…
لها كل طبع أحرز الفضل فرده
فما شئته من عزة الجار والحمى
…
وقد رسما فوق السملين مجده
وابعدت في وصف العلى عن مسابق
…
لها وتداني من نوالك رغده
وجودك فيه ذو الرجا مغرم فإن
…
حمى جوده ذم المهلب أزده
وكم من فنون يستمد بها الضحى
…
إذا ما تناءى لمنال ممده
وكم بات يتلو سورة الفتح عزمه
…
ويحكم مثل الأمر والنهى وجده
وأصبح باستحقاقه الحمد من أولى الذي
…
عدالة في الأحكام قد بان رشده
بعدل وإحسان قد آخت كليهما
…
حلاه كما آخى المهند غمده
وبأس وبطش يحميان حمى الهدى
…
فحتى لقد تلفى مع السرح أشده
وحلم وجودها تن ومكارم
…
علاهن كل الوصف عنها وجهده
وكيف ينال المدح أوصاف ماجد
…
يود العلا حينا وحينا توده
يعم بعفو خص بالذنب مطقه
…
وتهدي إلى الرشد المبين ألده
وللسيف نصر يا بن نصر على العدا
…
فساعة إذ يجلى جلي الكفر حده
وللملك عز أكسب الذل من بغي
…
فحاقت به من مؤلم القهر نكده
ففي ذمة العلياء تلك الحلا العلى
…
ولمّا بدت للدين أنجز وعده
أنرت بها من فاحم الظلم ما دجا
…
فلجت سعودهن للملك عضده
فزالت دجون الجور عن مطلع الهدى
…
فنور سناه في اقتبال وسعده
هو الملك لم تغطه إلا نزاره
…
بما ليس في إمكانها ومعده
وفي منتهاك الأشرف الصل للورى
…
دليل يحوز الشفع في المجد فرده
ويمناك يوم الجود ترب الحيا أغدت
…
ألا فهي أقسام السمح وحده
لك المرهف السفاح بالفتح مثنى
…
مع العلم الموعود بالنصر جنده
وجمعت شتى الجود في وتر راحة
…
فغيث الندى منها قد انهل عهده
فكم كامل الأوصاف والذات ماجد
…
إلى ذلك الهامي العميم مرده
علي يمين قلتها غير حانث
…
لجودك تنظم النوال ونضده
فقد عز في الدنيا له المثل في العلى
…
فما يوسف إلاّ الحيا طاب ورده
وأبن المسامي والمضاهي مجادة
…
لناصر دين الله والمجد مجده
سففي الفخر أضحى الفضل والمجد طبعه
…
وفي الدهر أمسى ليس يوجد نده
ومحتده السامي الكريم نجاره
…
يماثله في رفعة القدر بنده
فشتى الخلال العز جمعهن عنده
…
بما حاز من علم ودين يمده
ودونك الأعطاف تلعب بالنهى
…
فتسبى الحجا طورا وطورا ترده
هدية عبد مخلص لك قلبه
…
وفي تلكم الذات الكريمة وده
فالفاظها تحكي جمان دموعه
…
وقرطاسها يحكيه في اللون خده
قال جامع هذا التصنيف: أشار الرئيس أبو يحيى بهذا الشطر الأخير إلى الكاغد الأصفر الذي كانت فيه هذه القصيدة مكتتبة، ثم قال:
وأنقاسها من كل لون غريبها
…
وترتيبها من ذاته يستهده
فأكحلها من مقلتي أستميحه
…
وأحمرها من أدمعي أستمده
وأخضرها من طيب عيشي الذي مضى
…
لديك وأرجو بالرضا تسترده
وأعجب شيء أنها بكر فكرتي
…
وما بلغت معشار شهر نعده
وقد ولدت بنتين ثنتين مثلها
…
يروقك من معناها ما توده
وكلتاهما قد جردت من نظامها
…
موشحة كالسيف راق فرنده
فخذها ففيها للتواظر مسرح
…
ومن مدحك الحسن الذي تستمده
بقيت كما تهواه ما هبت الصبا
…
فمالت بها بان العذيب ورنده
انتهت القصيدة الفريدة، وهأنا أذكر البنتين اللتين ولدت، ثم أذكر ما ولدت كل واحدة منهما بحول الله وقوته.
فاما القصيدة الخارجة من المكتوب بالأخضر فهذا نصها، وتوشيحها ينتظم من المكتوب فيها بالأخضر وهي هذه:
تناثر الدمع من جفوني
…
كالدر من سلكه الثمين
مذ أعوز الوصل والتلاقي
…
من بدر حسن بلا قرين
علقت في الحب ظبي أنس
…
جماله مرتع العيون
وحل في القلب عن كناس
…
فماله يستبيح ديني
يحكم بالنهب في فؤادي
…
إذ ناله نهبه العرين
أهكذا الشرع في المعنى
…
العذري والحكم بالظنون
يحلل القتل منه ظلما
…
بالهجر والصد والفتون
مالي سوى مدحي أبن نصر
…
بدر الهدى المشرق الجبين
ذا الحلم والصفح والمعالي
…
غيث الندى الواكف الهتون
قد جاز في السمح والأيادي
…
سبق المدى دائم السكون
وقصده الجمع بين بكر
…
للفخر في دهره وعون
وشأنه البذل للعطايا
…
كالبحر في جوده المعين
نال من المجد كل طبع
…
وصف العلا فيه ذو فنون
وسور الحمد من حلاه
…
لقد تلاهن كل حين
تهدى إلى الرشد إذ تجلى
…
تلك الحلى فاحم الدجون
كأنها الشفع فهي مثنى
…
في وتر الأوصاف واليمين
قل له المثل والمضاهي
…
في الدهر في رفعة ودين
انتهت البنت الخضراء، وهذا نص بنتها الموشحة، المستخرجة من الأخضر:
تناثر الدمع، كالدر
…
مذ أعوز الوصل من بدر
علق في الحب
…
جماله
وحل في القلب
…
فماله
يحكم بالنهب
…
إذ ناله
أهكذا الشرع العذري
…
يحلل القتل بالهجر
ما لي سوى ودحي
…
بدر الهوى
ذا الحلم والصفح
…
غيث الندى
قد جاز في السمح
…
سبق المدى
وقصده الجمع للفخر
…
وشأنه البذل كالبحر
نال من المجد
…
وصف العلا
وسور الحمد
…
لقد تلا
تهدى إلى الرشد
…
تلك الحاى
كأنها الشفع في الوتر
…
قل لها المثل في الدهر
انتهت.
ويمكن أن تستخرج باختصار هكذا: تناثر الدمع، مذ أعوز الوصل علقت في الحب، وحل بالقلب، يحكم بالنهب أهكذا الشرع، يحلل القتل؟ مالي سوى مدحي، ذا الحلم والصفح، قد حاز في السمح وقصده الجمع، وشأنه البذل له من المجد، وسور الحمد، تهدي إلى الرشد كأنها الشفع، قل لها المثل انتهت.
وأما البنت الحمراء فهي الخارجة من المكتوب بالأحمر، وتوشيحها ينتظم من المكتوب فيها بالأحمر، وهذا نصها:
ما كنت لو أنصف بعد المطال
…
أصلى لظى الوجد الأليم النكال
كالقمر الزاهي في نوره
…
عليه كالليل البهيم الدلال
مستحس القد ذكى الشذا
…
كالليل فرعا والقنا في اعتدال
مورد الخد شهي اللمى
…
في لثمه كل المنى لو ينال
كأن للشهد وما ذقته
…
رضابه العذب الجني في المثال
ولحظه الأوطف مع سقمه
…
أسهر منه كالسليم الليل
وحسنه الباهر مهما بدا
…
لمقلتي منه نعيم الوصال
خل الهوى والمدح إمام الورى
…
قطب المعالي والهوى والكمال
طود الحجا الأرجح سر العلى
…
معنى اليماح والندى والجلال
نواله يشرح للمعتفى
…
فعل ظباه لبا لعدا في القتال
لسيفه المرهف يوم الوغى
…
أضحى الحمام كالحميم الموال
مرفع القدر عزيز الحمى
…
وقد تدانى جوده للمنال
ممثل الأمر والأحكام قد
…
حمى الهوى وجوده أن ينال
وخص بالنصر على من بغى
…
لمّا بدت سعوده في اقتبال
الملك الأشرف ترب الحيا
…
غيث الندى الهامي العميم النوال
يوسف الناصر دين الهدى
…
ذو الفضل والمجد الكريم الخلال
انتهت البنت الحمراء.
وهذا نص موشحتها، وهي بنتها، الخارجة منها من المكتوب بالأحمر:
ما كنت لو أنصف
…
أصلى لظى الوجد الأليم
كالقمر الزاهي
…
عليه كالليل البهيم
مستحسن القد
…
كالليل فرعاً والقنا
مورد الخد
…
في لثمه كل المنى
كأن للشهد
…
رضابه العذب الجني
ولحظه الأوطف
…
اسهر منه كالسليم
وحسنه الباهر
…
لمقلتي منه نعيم
خل الهوى والمداح
…
قطب المعالي والهوى
طود الحجا الأرجح
…
معنى السماح والندى
نواله يشرح
…
فعل ظباه بالعدى
لسيفه المرهف
…
أضحى الحمام كالحميم
فيترك الكافر
…
وقد غدا مثل الهشيم
مرفع القدر
…
وقد تدانى جوده
ممثل الأمر
…
حمى الهوى وجوده
وخص بالنصر
…
لمّا بدت سعوده
الملك الشرف
…
غيث الندى الهامي العميم
يوسف الناصر
…
ذو الفضل والمجد الكريم
ويمكن اختصارها أيضاً هكذا: ما كنت لو انصف، كالقمر الزاهر مستحسن القد، مورد الخد، كأن للشهد ولحظه الأوطف، وحسنه الباهر خل الهوى وامدح، طود الحجا الأرجح، نواله يشرح لسيفه المرهف، فيترك الكافر
مرفع القدر، ممثل الأمر، وخص بالنصر
الملك الأشرف، يوسف الناصر
قلت: وإنّما لم أجزم بهذه المختصرة لأجل أن الناظم صرح بأن كل واحدة من البنتين الحمراء والخضراء لم تلد إلاّ موشحة واحدة من البنتين، ولو ولدت موشحين لصرح بذلك، ولا شك أنَّ الموشحة غير المختصرة أتم معنى، وأكمل مساقا، فالأصوب الاقتصار عليها، وإن كان يمكن استخراج أكثر منها لمن تأمل حق التأمل، والله تعالى أعلم.
وعلى كل حال فقد أبدع هذا الرئيس في هذه القصيدة، وإن كان فيها بعض تكلف، وقصده ابداع من قصد صاحب عنوان الشرف الشامي، لأن هذا اخرج من الخارج شيئين على ما لا يخفى، غير أنَّ صاحب عنوان الشرف أطال، واستخرج أربعة علوم متباينة، من أول وهلة، وكلاهما قد أبدع رحمهما الله؛ ولم أتحقق: هل وقف أبن عاصم على كتاب عنوان الشرف، فاهتدى بأضوائه أم لا؟ والله تعالى أعلم.
ومن كتاب جنة الرضى له رحمه الله ما نصه:
" الحمد لله الذي عوض من الخلاف وفاقاً من الافتراق اجتماعا واتفاقا، وهيأ لأسواق الائتلاف برفع الخلاف نفاقا، ويسر لوطن الجهاد من توثير المهاد أرفاقا، وزين بأنجم المسعود من النصر الموعود آفاقاً، وعقد على جمع الكلمة من الأمة المسلمة إجتماعا وإصفاقاً. نجمده سبحانه وهو المحمود بجميع اللغات،
ونشكره على ما سنى من آمال على وفق الأمنية مبلغات، ونثني عليه بما أسدى من عوارف مخولات، ومواهب مسوغات؛ حمدا نستنكثر من درره النفيسة إنفاقا، وأمانته العظيمة فلا نابى من حمدها إشفاقا؛ ونشهد أنه الله لا إله إلاّ هو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد؛ شهادة نرفع لواءها المرنح العذبات خفاقا، فلا لاقي بعد هذه الشهادة لمقاصد السعادة إخفاقا؛ ونشهد أنَّ سيدنا ومولانا محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، ونبيه المصطفى وخليله؛ نبي الرحمة، ونور الظلمة، وشفيع الأمة، والمبعوث بالكتاب والحكمة، والمجموع له بين مزية السبق ومزية التتمة؛ شهادة تستحفظ بقاع الأرض أرفاقا، فلا تخشى معها القلوب، وقد حصل منها الغرض المطلوب، شكاً ولا نفاقا؛ ونصلي على النبي الكريم، المبعوث بالحق العظيم؛ صلاة نحل بها من عقلة الذكر وثاقا، ونؤكد بها القبول إذا عارض العمل المقبول ميثاقا؛ ونرضى عن آل محمد وصحبه، وعشيرته وحزبه، المختصين بالقربة، الفائزين بالرضا من ربه؛ أكرم الناس أعراقا، وأعظمهم من خشية الله إطراقا، وأبهرهم في مقامات الهداية إشراقا؛ ونستوهب منه التأييد والنصر، والفتح الذي تفوت عجائبه الحصر، والمنح الذي لا تعرف صلاته القصر؛ لهذه الخلافة الغالية، التي أطبقت على الإغضاء أحداقا، وأظهرت من احلم لمّا كان من مكنون العلم مصداقا؛ ونبتهل إلى الله في دوام أيامها، وإعلامها، وإمضاء ذابلها المرهوب وحسامها؛ حتى يتنفس الإسلام خناقها، وتسير بها الرفاق، وقد تهادتها الآفاق، وخداً وإعنلقا، وتخضع لها الجبابرة، والملوك القياصرة، رقابا وأعناقا؛ ونمد إليه
يد الافتقار، ونبسط كف الضراعة والاضطرار في كف الفتن عن هذا الوطن وكف الكفار عن هذه الديار وتيسير الفرج القريب لهذا القطر الغريب وتسهيل الصعب العسير لهذا الصعق النائي عن الولي والنصير فيجمع بين القلوب النافرة والنفوس المتنافرة افتراقا ويجعل دم العداة بسيوف الحماة الكماة مراقا ويتحف بأنبائه المعجبة وأخباره المغربة المطربة شاما وعراقا.
أما بعد فإن الله على كل شيء قدير وإنه بعباده لخبير بصير وهو لمن أهل نيته وأخلص طويته نعم المولى ونعم النصير بيده الرفع والخفض والبسط والقبض والرشد والغي والنشر والطي والمنح والمنع والضر والنفع والبطء والعجل والرزق والأجل والمسرة والمساءة والإحسان والإساءة والإدراك والفوت والحياة والموت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون فهو الفاعل في الحقيقة وتعالى الله عما يقول الآفكون وهو الكفيل بأن يظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون وإن في أحوال الوقت الداهية لذكرى لمن كان عنده قلباو ألقى السمع وهو شهيد وعبرة لمن تفهم قوله تعالى: إنَّ الله يفعل ما يشاء وإنَّ الله يحكم ما يريد فبينما الدسوت عامر والولاة آمرة والفئة مجموعة والدعوة مسموعة والإمرة مطاعة والأجوبة سمعا وطاعة إذا بالنعمة قد كفرت والذمة قد خفرت ".
ثم قال رحمه الله:
" والسعيد من اتعظ بغيره ولا يزيد المؤمن عمره إلاّ خيرا جعلنا الله ممن قضى بخيره وبينما الفرقة حاصلة والقطيعة فاصلة والمضرة واصلة والحبل
في انبتات والوطن في شتات والخلاف يمنع رعى متات والقلوب شتى من قوم أشتات والطاغية يمتطي لقصم الوطن وقضمه ويلحظه لحظ الخائف على هضمه والأخذ بكضمه ويتوقع الحسرة إن يأذن الله بجمع شمله ونظمه على رغم الشيطان ورغمه إذا بالقلوب قد ائتلفت والمتنافرة قد اجتمعت بعدما اختلفت والأفئدة بالألفة قد اقتربت إلى الله وازدلفت والمتضرعة إلى الله قد ابتهلت في إصلاح الحالة التي سلفت فألقت الحرب أوزارها وأدنت الفرقة النافرة مزارها وجلت الألفة الدينية أنوارها وأوضحت العصمة الشرعية آثارها ورفعة الوحشية الناشبة أضافرها وأعذارها وأرضت الخلافة الفلانية أنصارها وغضة الفئة المتضرعة أبصارها وأصلح الله أسرارها فتجمعت الأوطان بالطاعة والتزمت نصيحة الدين بأقصى الأستطاعة وتسابقت إلى لزوم السنة والجماعة وألقت إلى الإمامة الفلانية يد التسليم والضراعة فتقبلت فيئاتهم وأحمدت جيئاتهم وأسعدت آمالهم وارتضيت أعمالهم وكملت مطالبهم وتممت مآربهم قضيت حاجاتهم واستمعت مناجاتهم وألسنتهم بالدعاء قد انطلقت ووجهتهم إلى الخلوص قد صدقت وقلوبهم على جمع الكلمة قد اتفقت وأكفهم بهذه الإمامة الفلانية قد اعتلقت وكانت الإدالة في الوقت على عدو الدين قد ظهرت وبرقت ".
إلى أن قال رحمه الله تعالى: " وكفت بقدرة ربه القدرة القاهرة والعزة الباهرة من عدوان الطاغية غوائل بإعزاز دين الله الموعود بظهوره على الدين كله فواتح وأوائل. ومعلوم بالضرورة أن الله لطيف بعباده حسبما شهد بذلك برهان الوجود وإنَّ تعدوا نعمة الله لا تحصوها دليل على سوغ الكرم والجود وإنَّ من أعظم نعمه التي يعجز عن أداء شكرها وإن طالت آماد الأعمار ويتناغى في الثناء عليه في أمرها فلا يبلغون من ذلك معشار المعاشر وتتجارى الألسنة والأقلام في تقرير وصفها فلا تصل من ذلك إلى حدّثني يقنع ولا إلى مقدار وفي مثلها قال الله تعالى:) واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار (. وما ذلك إلاّ منة قدرها عظيم وخطرها جسيم وصراط العدل بها مستقيم وبها أمتن الله في قوله:) وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله (إلى:) حكيم (. فهل يستطاع شكر النعمة التي لا يكون إنفاق الأرض جميعها أهل قيمة أو يختلف اثنان بوجه أو حال في كون هذه النعمة عظيمة أو يتمارى أحد في كون جمع الكلمة في هذا الوطن الغريب منة ومنحة كريمة! ومن استقرأ التواريخ المنصوصة وأخبار الملوك المقصوصة علم أن النصارى دمرهم الله لم يدركوا في المسلمين ثارا ولم يرفعوا في أنفاسهم عارا ".
قال الجامع الموضوع وفقه الله: قد قدمت هذا من كلام الرئيس أبن عاصم وهو قوله: " ومن استقرأ التواريخ المنصوصة فراجعه فيما سبق إلى قوله هناك: " وروية وارتجال ".
ثم قال هنا بإثره ما نصه: " إلى أن استقلت هذه الدولة الفلانية على قواعدها واستقرت بأحلامها الراجحة وأعلامها الشامخة واستمرت على قوانين من السياسة كانت ضابطة نشر المملكة عن الأفتراق واستظهرت أبناؤها الغر من الوفاء بشم اعتلقت بها أتم الاعتلاق فحفظ الله الدولة الفلانية إلاّ في الندرة ووقاها من ذلك الأمر الصعب بوقاية من الاكتساب ووقاية من القدر وتطاولت الأيام ما بين مهادنة ومقاطعة ".
وقال جامع الموضوع وفقه الله: راجع تمام هذا الكلام فيما قدمنها إلى قوله هنالك: " اللهم احفظ علينا العقل والدين واسلك بنا سبيل المهتدين ".
وقال هنا بإثره ما نصه: " وإنّما النعمة التي لا يقدر قدرها ولا يوفى شكرها هي التي تكلفت بتبينها تكييفات الأقدار وانجلت عن بيانها تدبيرات الفاعل المختار فجمع الله بها القلوب وهيأ الغرض المطلوب وتتابعت بيعات البلاد وتوافقت أهواء العباد وانتظم الملك جسما واحدا له روحا طاهرة واستقل الإسلام رسما ثابتا حكمه نص وعدله ظاهر وهدى الله المسلمين مع جمع الكلمة إلى القصد الشرعي ووفقهم إلى القيام بحكمه المحتوم وحقه المرعى فاتخاذ السلطان في مثل
هذه الأوطان واجب قياسا وسماعة وتعذر الخلافة في مثل هذه المسافة غير جائز إجماعا.
أيها الملأ المشتمل على الشرفاء الذين بتقديمهم يستنجز من البركة موعودها والعلماء الذين هم حفظة الشريعة الحنفية أن تتعدى حدودها والأشياخ الذين بجهادهم أستقر واجبها واستقام واجبها واستند عمودها والقواد الذين بحمايتها تقام أحكامها وتحاط أعلامها وتوفى عهودها والفرسان الذين هم حماتها وأنجادها وأنصارها وجندها والخاصة الذين بهم يرجح عملها وينجح أملها ويتم مقصودها.
تعلمون حقا إنَّ هذا الوطن الفلاني كان قد تعين للهلاك بسبب هذا الخلاف وتوقدت القلوب المشفقة حدوث الفاقرة بسبب هذا الأختلاف وإنَّ الشارع صلوات الله سلامه عليه يمنع من كل ما يؤدي إلى الفرقة بأتم الوجوه ويؤكد الترغيب والترهيب بكل ما يخافه المؤمن ويرجوه وأن الفقه المذهبي إذا حصلت البيعة في الأعناق وتحلت بها تحلي الحمام بالأطواق معروف ومعلوم وإنَّ اشتداده في سد باب الافتراق على العموم والإطلاق لازم محتوم والأقدار الإلهية قد هيأت قصد الألفة بلا كلفة ويسرت سبب الاتفاق بحكم الوفاق فأقبلوها نعمة مسداه وتحفة مهداه وشدوا عليها أيدي الضنة واعلموا ما فيها لله عليكم من منة وتعاقدوا على ألا تبقوا من الخلاف أثرا واتفقوا على القصد الذي يخلصكم عند الله سمعا ونظرا وفي هذا التيسر الذي ساعدت به الألطاف الخفية وساعفت به من قبل الرب الصنائع الحفية ما يتأكد
به الأعتبار ويرشد إلى أنّه أراد الله نفوذه وربك يخلق ما يشاء ويختار ومما يستكمل هذا القصد الذي أشرنا إليه ويستوفيه قول تاج الدين رحمه الله عليه: ما ترك من الجهل شيئا من أراد أن يظهر في الوجود غير ما أراد الله أن يظهر فيه.
وفرض على كل إنسان في نفسه ما طلبه به الشارع وعذبت فيه بالتفويض لحكم الله المشارع. فالواجب علينا أن نجتمع ونأتلف ونتفق ولا نختلف ونعتمد صريح الفقه أخذا وتركا ونتبع صحيح النقل الذي لا يدع ريبا ولا شكا ونسأل من الله الهداية إلى سبيل السلف الذين سبقوا ونعزم العزم على أمر الله في قوله:) واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا (.
وإنَّ أولى الناس في ذلك بإرهاف العزيمة وتوخي السبل المستقيمة والقيام بمضمون هذا الرسم المستقل والوفاء بتكميل قصد الكاتب فيه والممل لخواص الدولة الفلانية الذين لحقهم التمحيص والاختبار وتخولتهم بأبلغ الموعظة الأقضية والأقتدار وهم الذين ربحت منهم في هذه السوق والتجارة والمقصودون بالخطاب من باب إياك أعني واسمعي يا جارة وهم الممنون عليهم باسترجاع المغصوب المستحق والواقفون من انكسار القلوب والتنصل من الذنوب موقف الأولى به والأحق والمعنيون بقوله:) ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق (. ويختص منهم عماد الدولة وعميد الجملة بالحظ الأوفر مما يتضمنه هذا التأنيب ويستمنح من الله عقب التذكرة بهذه الموعظة:) وما يتذكر إلاّ من ينيب (.
فإنا إذا نظرنا إلى ما كان قد طرق من الابتلاء وشاهدنا ما كان معرضا للوقع من البلاء وراجعنا البصيرة في النعم التي كنا عنها مسلوبين والتربة التي كنا عليها مغلوبين والأبواب التي كنا عنها محجوبين والشرذمة التي كتابها مربوبين والأنفال التي كنا في عدد من يحيى رسومها محسوبين وقد سلط الله علينا كثيرا من الظلمة الذين أعناهم فعند ذلك لعناهم وأهاننا الذين كنا أكرمناهم جزاء لمّا احترمناهم فنسونا أحوج ما كنا إلى أن يذكرونا وخذلونا أفقر ما كنا إلى أن ينصرونا وأسلمونا أشد ما كنا فاقة إلى أن ينجدونا وتركونا أعظم ما كنا حاجة إلى أن يساعدونا وخانونا أظهر ما كنا اضطرارا إلى وفائهم وظاهروا علينا أتم ما كنا افتقارا إلى غناهم فلا شك إنَّ المؤاخذة كانت بسبب تلك الذنوب وأن الجناية هي التي أوجبت ما طرقنا من الخطوب فأزف العذب وعاد من أعدى الأعادي الأحباب وتبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا وتقطعت بهم الأسباب وكادت العقوبة العظيمة إنَّ تلحق والأخذة الربانية أن تمحق لولا أن الله تداركنا بالعفوا وتجاوز عن الهفوا وأنالكم من الإدالة ما كنتم تؤملون واستخلفكم في الأرض لينظر كيف تعملون. فلنجعل ما وعظنا الله به من تلك الأزمات نصب العين ولنتخذ حمده على ما مننا من الإنالة هجير الألسن ولنعلم أن ذلك التمحيص إنّما كان تنبيها من الله على ما عطلنا من حدوده وإيقاظا من الغفلة عن القيام بحقوقه والوفاء بعهوده ولنتحقق أن ما من الله به من جبر الأحوال وخلف
الأموال؛ واستقبال العز غضا جديدا، وصرف الهوان كان عذابا شديداً؛ إنّما هو إبلاغ في الحجة علينا، وأعذار بالموعظة إلينا؛ وربما عاهدنا الله لئن آتانا من فضله لنقصدن ولنكونن من الصالحين، أو لننزعن عما ارتكبنا من جرائر العاصين وجرائم الطالحين؛ فالوفاء حتما إن أردنا أنَّ نكون من المفلحين. وقلما أزف العذاب فرفع إلاّ عمن كان من الصالحين،) فلولا كانت قرية آمنت (إلى قوله:) إلى حين (؛ فلنقدر قدر هذا التدارك، الذي أخذ بأيدينا من مهاوي الانتقام، ولنتأمل موقع البلاء الذي أحلنا من تجديد النعمة بأسنى مقام؛ ولنحذر نسيان ما ذكرنا به، فلم نذكر تلك الشدائد بل نسيناها، ولا نفرح بما أوتينا فرح المغرور الذي لا يتراجع ولا يتناهى؛ فإنَّ في ذلك أمل الشيطان وسؤله، ولعن الله ومقته، قال الله تعالى:) فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء (إلى قوله:) بغته (.
اللهم هل بلغت، وبالغت في النصح وأبلغت، اللهم فأشهد. و " يا قوم إنَّ كان عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت "، وإليه أبرأ من حولي وتقصيري عما فيه قصرت، وعما عنه نكلت.
ثم قال رحمه الله:
" وإنَّ مولانا السلطان الملك الفاضل التالي الذاكر، العفيف الطاهر، المسترجع الصابر، المجاهد المصابر، المرابط المشاغر؛ أمير المسلين أبن نصر الخزرجي نسبأ السعدي منشأ النصري جدا وأبا، أيده الله على أعداء الدين، وجعله
من الأئمة المهتدين؛ ممن إذا جنى عليه غفر، لعلمنا به أنّه حليم والله آخذ بيده كلما عثر؛ فأرشدنا بذلك إلى أنّه كريم، وممن تطرقه الخطوب، وهو بالألطاف مصحوب، وتحدق إليه النوائب وهو من نظرها الشخزر محجوب، وممن جمع له الناس على أنَّ يخشاهم فزاده إيماناً، وقال: حسبي الله ونعم الوكيل، فانقلب بفضل من الله ونعمة، وممن صبر واسترجع في نقص الأموال والأنفس والثمرات، فبشر بصلوات من ربه ورحمة، فتمالأت على أذنيه أصناف من الناس في مرات متعددة، وإناء من الدهر متجدده، فأتعس الله جدودهم، وأضرع إليه خدودهم، وأرغم بحوله وقوته أنوفهم، ورد عنه بسيف من الأقدار رماحهم وسيوفهم، وأدنى لهم بأسباب مختلفة الأنواع حتوفهم: فمن آمن أخذ من مأمنه الذي كان يستند إليه ومن خائف قد أدهشه الروع فهو يحسب كل صحية عليه؛ فكأن ألسنة الأقدار تنهاهم عن منازعة الإرادة، وكأن واعظ الاعتبار يحذرهم من شقاقهم الكفيل له بالسعادة؛ وكأنَّ شاهد الحال يقول هذه إرادة الله قضاها، وسنته السابقة أنفذها وأمضاها، فمن المنازع فيما حكم الله به وقضى، ومن الساخط في المحل الذي يطلب فيه من الله الرضا؟ ولو كان استيلاؤه على الملك يقوة عصبيته، وإهلاك مناوئته عن البيعة غضبه؛ لارتاب في ذلك الناظر ووحد السبيل إلى الاحتياج المناظر، ولكنه طالما عورض في الملك فكبا معارضه لفيه، وأتيحت له النصرة محل لم يحسبها فيه؛ وشد ما احتال على نصرته غير واحد، فانعكست عليه حيلته؛ وتوسل إلى مكروهه، فطاحت في قليب الانقلاب عليه وسيلته؛ وبغى عليه غير ما مرة فنصره الله على من بغي عليه،
وابتغى بالسوء فرده الله على من سعى به إليه؛ ولعل ذلك لغيب عن العيان مكتوم، وحكم من الحكيم العليم محتوم؛ أو لأثر من الاختصاص قد علمه الله وليس لنا بمعلوم، أو لأمر قد تقاصرت عنه مدارك العقول، وكلت دونه رواجح الحلوم؛ ولهذه المعاني المقررة، والمقاصد المحرره، والمذاهب المفسر، والفوائد المسطرة، وغرائب أحاديثها المشتهرة، خص الملأ المقصود فيه بالتذكرة، والمعتمد منه بالإيقاظ والتبصرة؛ من أعضاد الدولة، وسيوف الصوله، وأولياء الخلوص الزكي الشيمة، وموالي النعمة الفلاية، وهم الذين خولتهم موعظته الحسنه، وأعجبتهم أغراضه المتعدده، ومقاصده المستحسنة؛ وعلموا أنه الحق، فسألوا من الله التوفيق إليه؛ والإرشاد إلى الاتصاف به والعمل عليه، والهداية إلى التماس رضا الله لديه، ووقفوا على ما هو لهم في هذا الكتاب منصوص، وأنَّ سلطانهم بمزية الدفاع عنه مخصوص، وأنّه قد تطابقت على إيثاره نصوص، واستوى في تسلم الطاعة له عموم وخصوص؛ فجددوا له البيعة الوثيقة، على ما أوجب في ذلك الحكم المشروع، وأعطوه على ذلك العهد الأكيد حسبما اتفقت عليه أصول وفروع؛ وعقدوا له مضمونها عقدا صحيحاً، وعهدوا على ما تقتضيه السنة صريحا؛ وشهدوا له فيه على أنفسهم انهم بالوفاء بها قائمون، ولشروطها المرعية حافظون؛ وعلى أحكامها الشرعية محافظون؛ وعلى ما بويع عليه رسول الله) من السمع والطاعة، ولزوم السنة والجماعة، وغمحاض النصيحة جهد الاستطاعة؛ فأيديهم في السلم والحرب صروفة في مرضاته، ونيتهم صادقه في مسنونات الوفاء ومفترضاته؛ ولقد شاهدوا الفرقة وما جنته، والفتنة وما فتنته، والألفة وما سنته، والهدنة
وما قربت من إصلاح وأدنته فليغتبطوا بها عهدا كريما وعقدا قد تضمن فضلا عظيما بل عميما واستلزمن إنعاما جسيما وليوفوا بها الوفاء الذي يوليهم بها نعيما مقيما ويدفع عنهم عذابا أليما فإنه عز وجل يقول: " فمن نكث " إلى قوله: " عظيما ". وقد بسطوا أكفهم إلى الله ضارعين وفي رحمته طامعين ولعظمته خاضعين ومن هيبته خاشعين ولخليفته طائعين وفي الخيرات مسارعين يدعونه رغبا ورهبا مستنزلين لرحمته بالإخلاص والإنابة واقفين على قدم الرجاء بباب الذي أمرهم بالدعاء ووعدهم بالإجابة ويسألونه خير ما قدره وقضاه والسلوك على ما فيه رضاه.
اللهم بابك قصدنا وقبولك أردنا وعلى فضلك اعتمدنا وإلى عزتك استندنا وفي مرضاتك اجتهدنا وبهدايتك استرشدنا فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين وأصلح شأننا كله اللهم إنا بك مستنصرون وبعزتك مستظهرون ولغناك مفتقرون ومن تقصيرنا مستعيذون ومن ذنوبنا مستغفرون ولشامل عفوك منتظرون وفي خف ألطافك مستبصرون ولعظيم انتقامك مستحضرون ولعميم صفحك مستشعرون فآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. اللم انصر من بايعناه سلطانا ومهد به بلادا وأوطانا وأرغم بتوخيه للحق طاغية وشيطانا وآتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا. اللهم اعمر بالمسرة ناديه وكاف عنا أياديه واكبت اللهم أعاديه وكن لنا وليا نصيرا فأنت نعم المولى ونعم النصير. وصل اللهم على سيدنا ومولانا محمّد النبي الأمي القرشي الهاشمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا فأنت اللطيف وأنت الخبير ".
انتهى ما أردت نقله من جنة الرضا للرئيس أبي يحيى بن عاصم رحمة الله عليه.
ورأيت بخط الوادي آشي ناقلا من كتابه المسمى بالروض الأريض ما نصه: أبن فتوح إبراهيم بن أحمد بن قتوح العقيلي يكنى أبا إسحاق العالم المتفنن صحبنا محقق نظائر وأستاذ فوائد تدريسه لجين ونضار كلا بل جواهر ويواقيت ومناسك هذى لها من السعادة مواقيت فحسب الطالب الموثق بفهمه المصروف للتحصيل مطالع مواقع سهمه أن يلازم حلقة تعليمية وإنَّ يشد يد الضنة بما يلقي من محصول تفهيمه فإكسير الإفادة إنما حصلة الوافدون من جابر صنعته وكيمياء السعادة إنما يلقاها الظافرون في نضرة روضة المخضل ونبعته وقرض الشعر مما يمكن دخوله تحت فرعه ويندرج تحت قدرة تصرفه بجنسه نوعه إلاّ أنّه لمّا يصدر منه عن قريحة كاتم وسالك من البخل به على طرف النقيض مما سلكه حاتم.
فمما علق بحفظي منه خطوبة أرجوزة صنفها في النجوم:
سبحان رافع السماء سقفا
…
ناصبها دلالة لا تخفى
مبدعها فلا ترى فروجا
…
مودعها الأفلاك والبروجا
انتهى. وإنما ذكرته لتعلم اصلاحه في كتاب الروض الأريض. وقد نقلت كلاما آخر منه فما سبق فراجعه ولو تتبعت ما حصل لدي من نظمه ونثره لطال الكتاب جدا.
وقد وقفت بتلمسان المحروسة على ظهير منشور سلطاني أصدر للرئيس أبن يحيى بن عاصم المذكور بتقديمه للنظر في أمور القضاء وغيره ونصه:
هذا الظهير كريم إليه أنهيت الظهائر شرفا عليا وبه تقررت المآثر برهانا جليا وراقت المفاخر قلائج وحليا وتميزت الأكابر الذين افتخرت بهم الأقلام والمحابر اختصاصا مولويا. فهو وإن تكاثرت المرسومات وتعددت وتوالت المنشورات وتجددت أكبر مرسوم تمم في الاعتقاد نظرا خطيرا وأحكم في التفويض أمرا كبيرا وأبرم في الأستخلاص عزما أبيا اعتمد بمسطورة العزيز واختص بمنشوره الذي تلقاه المين بالتعزيز من لم يزل بالتعظيم حقيقا وبالأكابر خليقا وبالإجلال حريا فهو شهير لم يزل في الشهرة سابقا هاد لم يزل بالهدى ناطقا بليغ لم يزل بالبلاغة دريا عظيم لم يزل بالنفوس معظما علم لم يزل في الأعلام مقدما. كريم لم يزل في الكرام سنيا اشتملت منه محافل الملك على العقد الثمين وحلت به المشهورة في الكنف المحوط والحرم الأمين فكان في مشكاة الأمور هاديا وفي ميدان المآثر جريا فإلى مقاماته تبلغ مقامات الإخلاص وإلى مرتبته تنتهي مراتب الاختصاص فيمن حاز فضلا وزين فعلا وشرف نديا واستكمل همما واستعمل قلما مشرفيا فلله ما أعلى قدر هذا الشرف الجامع بين المتلد والمطرف السابق في الفضل أمدا قصيا الحال من
الاصطفاء مظهرا، الفارع من العلا منبرا، الصاعد من العز كرسيا؛ حاز الفضل إرثاً وتعصيبا، واستوفى الكمال حظا ونصيبا؛ ثناء أرجه كالروض لو لم يكن الروض ذابلا، وهدياً نوره كالبدر لو لم يكن البدر آفلا، ومجداً علوه كالسها لو لم يكن السها خفيا؛ فما أشرف الملك الذي اصفاه، وكمل له حق التقريب ووفاه، وأحله قرارة التمكين، ومن باختصاصه بالمكان المكين، فسبق في ميدان التفويض وسما، ورأى من الأنظار الحميدة ما رأى، صادعاً بالحق إماماً علما، ومنها: ضحاً من الدين نهجاً أمما، هدياً من الواجب صرطاً سويا؛ بانياً للمجد صرحاً مشيدا، مشهداً للعدل قولً مؤيدا، مبرماً للخير سبباً قويا؛ فالله تعالى يصل لمقام هذا الملك الذي أطلع في سمائه بدراً دونه البدر وصدراً تلوذ به الصدور سعداً لا تماطله الأيام في تقاضيه، ومصراً يمضي به نصل الجهاد فلا يزال ماضيه، على الفتح مبنياً؛ ويولي له عزاً يذود عن حزم الدين، ويمنحه تأييداً يصبح في أعناق الكفر حديث سيفه قطعياً؛ أمر به مرسوماً عزيزاً لا تبلغ المرسومات إلى مداه، ولا تبدى بآثار الاختصاص مثل ما أبداه، عبد الله أمير المسلمين محمد الغالب بالله، أبن الأمير المقدس فلان أيد الله تعالى مقامه ونصر أعلامه، ويسر مرامه؛ لإمام الأئمة وعلم الأعلام وعماد دوي العقول والأحلام، وبركة حملة السيوف والأقلام، وقدوة رجال الدين وعلماء الإسلام؛ الشيخ الفقيه أبي يحيى أبن كبير العلماء شهير العظماء؛ حجة الأكابر والأعيان مصباح البلاغة والبيان؛ قاضي القضاة وإمامهم اوحد الجلة وطود شمامهم الشيخ الفقيه أبي بكر بن عاصم، أبقاه الله تعالى ومناطق الشكر له فصيحة اللسان، ومواهب الملك به معهودة الإحسان،
وقلائد الأيادي منه مقلدة بجيد كل إنسان قد تقرر والمفاخر لا تنسب إلاّ لبنتها، والفضائل لا تعتبر إلاّ بمن يشيد أركانها ويبنيها؛ والكمال لا يصفى شربه، إلاّ لمن يؤمن سربه؛ وإن هذا العلم الكبير، الذي لا يفي بوصفه التعبير؛ علم بآثاره يقتدى، وبأنظاره يهتدى؛ وبإشارته يستشهد، وبإرادته يسترشد؛ إذ لا أمد علو إلاّ وقد تخطاه، ولا مركب فضل إلاّ وقد تمطاه؛ ولا شارقة هدى إلاّ وقد جلاها، ولا لبة فخر إلا وقد حلاها؛ ولا نعمة إلاّ وقد اسداها، ولا سومة إلاّ وقد أبداها؛ لمّا له في دار الملك من الخصوصية العظمى، والمكانة التي تسوغ النعمى؛ والرتب التي تسمو العيون إلى مرتقاها، وتستقبلها النفوس، بالتعظيم وتتلقاها؛ حيث سر الملك مكتوم، وقرطاسه مختوم، وأمره محتوم؛ والأقلام قد روضت الطروس وهي ذاوية، وقسمت الأرزاق وهي طاوية؛ شقت ألسنتها فنطقت، وقطعت أرجلها فسبقت؛ ويبست فاثمرت إنعامها، ونكست فأظهرت قوامها؛ وخطت فأعطت، وكتبت فوهبت، ومشقت فدفقت، وأبرمت؛ فكم يسرت الجبر، وعقرت الهزبر؛ وشنقت المسامع وكفيت المطامع؛ وأقلت فيما ارتفع من الواضع، وأحلت لمّا امتنع من المواضع؛ فهي تنجز النعم، وتحجز النقم؛ وتبث المذاهب وتحث المواهب؛ وتروض المراد وتنهض المواد؛ وتحرس الأكناف، وتغرس الأشراف؛ ومضيغة لنداء هذا العماد الأعلى، طامحة لمكانه الذي سما واستعلى؛ فيما يملي عليها من البيان
الذي يقر له بالتفضل، الملك الضليل؛ ويشهد له بالإحسان، من البيان، الذي يقر له بالتفضيل، الملك الضليل؛ ويشهد له بالإحسان
لسان حسان؛ ويحكم له ببرى القوس حبيب بن أوس ويهيم بما من الأساليب عنده شاعر كندة؛ ويستمطر سحبه الثرة، فيصيح المعره؛ إلى منثور تزيل الفقر فقره، وتدر الرزق درره؛ لو أنهى إلى قس إياد لشكر في الصنيعة أياديه، واستمطر سحبه وغواديه، أو بلغ إلى سحبان اسحره، وما فارقه عشيته ولا سحره؛ ولو رآه الصابي لأبدى إليه من صبره ما أبدى؛ أو سمعه أبن عباد، لكان له عبداً؛ أو بلغ بديع الزمان لهجر بائعه، واستنزر بضاعئه؛ أو أتحف به البستي لاتخذه بستاناً، أو عرض على عبد الحميد لأحمد من صوبه هتانا؛ فأعظم به من عالٍ لا ترقى ثنيته، ولا تحاز مزيته؛ ولا يرجم أفقه، ولا يكتم حقه؛ ولا ينام له عن اكتساب الحمد ناظر، ولا ينقاس به في الفضل مناظر؛ وهل تقاس الأجادل بالبغاث، أو الحقائق بالأضغاث؛ ألا وإنَّ بيته هو البيت الذي طلع في أفقه كل كوكب وقاد ممن رسخ به للعلوم اتقاء واتقاد، وتراءى به للمدارك وانتقاد؛ فأعظم بهم أعلاما وصدورا، وأهلة وبدورا؛ خلدت ذكرهم الدواوين المسطرة، وسرت في محامدهم الأنفس المعطرة، إلى أن مشا في سمائهم هذا الأوحد، الذي شهرة فضله لا تجحد؛ فكان قمرهم الأزهر، ونيرهم الأظهر؛ ووسيطة عقدهم الأنفس، ونتيجة مجدهم الأقعس؛ فأبعد في المناقب آماده، ورفع الفخر وأقام عماده؛ وبنى على الأساس المشيدة، وجرى لإدراك تلك الغايات البعيدة؛ فسبق وجلى وشنف بذكره المسامع وحلى؛ ورفع
المشكل ببيانه، وحرر الملتبس ببرهانه؛ إلى أن أحله قضاء الجماعة درة أفقه الأصعد، وبوأه عزيز ذلك المقعد؛ فشرف الخطة، والمجلس السلطاني أعلاه الله تعالى يختصه بنفسه، ويفرغ عليه من حلل الأصطفاء ولبسه؛ ويستمطر فوائده، ويجري بأنظاره حقوق الملك وعوائده؛ فكان بين يديه حكما مقسطا، ومقسما لحظوظ الأنعام مقسطا، إلى أن خصه بالكتابة المولوية، ورأى له في ذلك حق الأولوية؛ إذ كان والده المقدس نعم الله ثراه، ومنحه السعادة في أخراه؛ مشرف ذلك الديوان، ومعلي ذلك الإيوان؛ يحبر رقاع الملك فتروق، وتلوح كالشمس عند الشروق؛ فحل ابنه هذا الكبير شرفا، الشهير سلفا؛ مرتبته التي سمت وافترت به عن السعد وابتسمت؛ فسحبت به للشرف مطارف، وأحرزت به من الفخر التالد والطارف؛ فهو اليوم في وجهها غرة، وفي عينها قرة؛ والله هو في ملاحظة الحقائق ورعيها، وسمع الحجج ووعيها؛ فلقد فضل بذلك أهل الاختصاص وسبقهم في تبيين ما يشكل منه وما يعتاص؛ إذ المشكلة معه جلية الأغراض، والآراء لديه آمنة من مآخذ الاعتراض؛ فكم رتبة عمرها بذويها، فأكسبها تشريفاً وتنويها؛ وعلى ذلك فأعلام قضاة الوطن، ومن عبر منهم وقطن؛ مع أقدارهم السامية، ومعاليهم التي هي للزهر مسامية؛ إنما رقتهم وساطته التي أحسنت، وزينت بهم المجالس وحسنت؛ فبه أمضوا
أحكامهم، وأعملوا في الأباطيل احتكامهم؛ وكتبوا الرسوم وكبتوا الخصوم؛ وحلو دست القضاء، وسلوا سيف المضاء؛ وفي زمانه تحرجوا وفي بستانه تأرجوا؛ ومن خلقه اكتسبوا، وإلى طرقه انتسبوا؛ وعلى موارده حاموا وحول فرائده قاموا؛ وبتعريفه عرفوا، وبتشريفه شرفوا؛ وبصفاته كلفوا وبعرفانه وقفوا؛ فأمنوا مع انكساب سحبه إفادته من الجدب وقاموا بذلك الغرض بسبب ذلك الندب؛ وهل العلماء وإن عمت فوائدهم، وانتظمت بجياد الأذهان فرائدهم؛ إلاّ من أنواره مستمدون وإلى الاستفادة من أنظاره ممتدون، وببركاته معتدون، وبأسبابه مشتدون؛ فبه اجتنبت من أفنان المنابر ثمراتهم، وتأرجحت في روضات المعارف زهراتهم؛ وبه عمروا الحق وائتلق من أنوارهم ما ائتلق؛ إذ كل من اصطناعه محسوب، وإلى بركته منسوب؛ فهو بدرهم الأهدى وغيثهم الأجدى؛ وعقدهم المقتنى، وروضهم المجتنى؛ وبدر منازلهم، وصدر محافلهم؛ وعلى ما أعلى المقام المولوى من مكانه، وقضى به من استمكانه؛ واعتمد من إبرامه وأبرم من اعتماده ومهد من إكرامه وأكرم من مهاده؛ واختص من علاه، وأعلى من اختصه، واستخلص من حلاه، وحلى من استخلاصه؛ ووفى من تكرمه، وكرم من وفائه، وأصفى من مجده، ومجد من اصطفائه؛ وقدم من براعته، وحكم من يراعته؛ وشقق من كتابته، وأنطق من خطابته، وسجل من أنظاره وعدل من اختياره؛ فذكا ذكره،
وسطا سطره؛ وأمعن معناه، وأغنى مغناه. أشار
أيده الله تعالى باستئناف خصوصيته وتجديدها، وإثبات مقامته وتحديدها؛ لتعرف تلك الحدود فلا تتخطى وتكبر تلك المراتب فلا تستعطي؛ فاصدر له - شكر الله تعالى إصداره، وعمر بالنصر داره - هذا المنشور الذي تأرج بمحامده نشره وتضمن من مناقبه البديع فراق طيه ونشره؛ وغدا وفرائد المآثر لديه مكنونه، وأصبح للمفاخر مالكا لمّا أتى به مدنونه؛ وخصه فيه بالنظر المطلق الشرط، الملازم للتفريض ملازمة الشرط للمشروط؛ المستكمل الفروع والأصول، المستوفي الأجناس والفصول؛ في الأمور التي تختص بأعلام القضاة الأكابر، وكتاب القضاة ذوي الأقلام والمحابرو شيوخ العلم وخطباء المنابر، وسائر أرباب الأقلام القاطن منهم والغابر؛ بالحضرة العلية وجميع البلاد النصرية؛ تولى الله جميع ذلك بمعهود ستره، ووصل له ما تعود من شفع اللطف ووتره؛ يحوط مراتبهم التي قطفت من روضتها ثمرات الحكم وجنيت، ويراعى أمرهم التي أقيمت على القواعد وبنيت وحقوقهم التي حفظت لهم في المجالس السلطانية ورعيت؛ ويحل كل واحد مهم في منزلته التي تليق، ومرتبته التي هو بها خليق؛ على مقتضى ما يعلم من أدواتهم، ويخبر من تباين ذواتهم؛ ويرشح كل واحد إلى ما استحقه، ويؤتى كل ذي حق حقه، اعتماداً على أغراضه التي عدلت، وصدحت على أفنانها من الأفواه طيور شكر وهدلت؛ واستناداً في ذلك إلى آرائه، وتفويضاً له في هذا الشأن بين خلصاء الملك وظهرائه؛ ولمقتضى ما كان عليه أعلام الرياسة الذين سبقوا، وانتهضوا بهممهم واستبقوا؛ كالشيخ
الرئيس الصالح ابي الحسن بن الجياب، والشيخ ذي الوزارتين ابي عب بن الخطيب، رحمهما ات فليقم - أبقاه الله تعالى - بهذه الأعمال التي سمت واعتزت ومالت بها أعطاف العدل واهتزت؛ وسار بها الخبر حيث سرى، وصار بها الحق مشدود العرى؛ وعلى جميع القضاة الأصفياء، والعلماء الأرضياء، والخطباء الأولياء، والمقرئين الأذكياء، وحملة القلام الأحطياء؛ أن يعتمدوا على هذا الولي العماد في كل ما يرجع إلى عوائدهم، ويختص في دار الملك من مرتباتهم وفوائدهم؛ وما يتعلق بولاياتهم وأنياتهم، ويليق بمقاصدهم ونياتهم؛ فهو الذي يسوغهم المشارب ويبلغهم المآرب؛ ويستقبل العلى بالعلى، والعطل بالحلي والمشكل بالجلي والمفرق بالتاج، والمقدمة بالإنتاج؛ وعلى ذلك فهذا المنشور الكريم قد اقرهم على ولايتهم وأبقاهم، ولقاهم من حفظ المراتب ما رقاهم؛ فليجروا على ما هم بسبيله، وليهتدوا برشد هذا الاعتناء ودليله.
وكتب في صفر عام سبعة وخمسين وثمان مائة ". انتهى.
وإنّما كتبته برمته لتعلم به مصداق ما قد مناه من تمكن أبن عاصم المذكور من مراتب الاصطفاء والاحتفاء.
ولنختم ترجمته، رحمه الله بتخميس عجيب من نظمه:
سبحان من أظهر الأنوار واحتجابا
…
وكل حمد وتمجيد له وجبا
إذا ابتغى العقل في إدراكه سببا
…
جاء الحجاب فألقى دونه الحجبا
حتى إذا ما تلاشى عندها ظهرا
سبحان من كان والأكوان لم تكن
…
في غير أين ولا وقت ولا زمن
حتى أتى الجود بالإحياء والمنن
…
وكان ما قد رسمناه بما ومن
وأظهر الشمس ذات النور والقمر
سبحان من حجب الأبصار فاحتجبت
…
وكم أراد مريد نيلها فأبت
ومن حدثته أمانيه فقد كذبت
…
حقيقة ذاتها عن ذاتها وجبت
لا يدرك العقل من أخبارها خبرا
سبحا من شأنه في شأن عجب
…
يخفى فيظهر أو يبدو فيحتجب
يا أيها العاكفون السادة النجب
…
هل فيكم من سعى سعيا كما يجب
ففاز بالغرض المطلوب أو ظفر
سبحان من لم يزل بالعلم منفردا
…
ومن تعالى عن الاشباه فاتحدا
سبحانه وتعالى واحدا صمدا
…
تبارك الله لم يولد ولم يلد
تنزه الله عما يلحقون البشرا
سبحان من أخرج الموجود من عدم
…
رسما برى كونه في غير مرتسم
فلا محل سوى كنه من الكلم
…
ولم يزل هو في ديمومة القدم
مؤثرا يخلق التأثير والأثر
سبحان من خلق الأشياء أجمعها
…
فمن رآها رأى أفعاله معها
وكان أتقها صنعا وأبدعها
…
نفس إلى العالم العلوي رعها
وخصها من معاليه بما بهرا
سبحان من عم بالإنعام ما خلقا
…
وشفع العدل بالإحسان فاتفقا
وزاد بالذكر في قلب التقي تقى
…
فاستكمل الدين والإيمان والخلقا
وكان مدركه الصديق أو عمرا
سبحان من سبحته كل سابحة
…
وكل عائمة في الماء سائحة
وكل غادية تغدو ورائحة
…
وسبحته خفايا كل جانحة
لم تعرف السر حتى جاورت صورا
سبحان من حمدته ألسن البشر
…
في السر والجهر والآصال والبكر
وفي الدجى تشدو ونصف الليل والسحر
…
بالشكر والذكر والآيات والسور
توليه حمدا وتتلو بعده سورا
سبحان من نزهته ألسن عزفت
…
عن كل ما يوهم التشبيه إذ وصفت
صفا لها مورد التحقيق حين صفت
…
فلم تفارقها حتى أثبتت ونفت
ولم يدع شبهة تؤذي ولا ضررا
سبحان من شكره في الدين مفترض
…
وليس جسم ولا عرض
ينهي ويأمر ما في ذا وذا غرض
…
فاذكر لنعماه ذكرا ليس ينقرض
فمن تحدث بالنعمى فقد شكرا
سبحان من خضع السبع الطباق له
…
وأعظمته قلوب حشوها وله
تريد إنَّ تعلم الأبقي وتعقله
…
طوبى لمن أمل الأبقى وأم له
واستكثر الزاد لمّا آنس السفر
سبحان من زين الأفلاك بالشهب
…
وبين الدين بالآيات والكتب
ولم يدعنا لدى لهو وفي لعب
…
لكن نهانا وآتانا على الرتب
حتى انتهينا وأذعنا لمّا أمرا
سبحان من جعل الأشياء تختلف
…
فتارة تتناءى ثم تأتلف
هذا الظلام بنور الصبح ينصرف
…
كما الضلال لنور العلم يقف
فسله نورا ينير السمع والبصرا
سبحان من خلق الأخلاق والخلقا
…
والشمس والبدر والظلماء والغسقا
يروقك الكل مجموعا ومفتراقا
…
وانظر لنفسك واسلك نحوه طرقا
فأسعد الناس من في نفسه نظرا
سبحان منزل الماء المزن في المطر
…
يروي النبات ويسقي يانع الثمر
كأنما الزهر تهديه إلى الزهر
…
إذا رأيت تلاقيها على قدر
رأيت صنع قدير أحكم القدرا
سبحان من قدر الأوقات والأجلا
…
وتابع الوحي واستتلى به الرسلا
فمن تعدى حدود الفوق قيل غلا
…
ومن تجاوز منحطا فقد سفلا
ومن تخطى خطوط المنتهى كفرا
سبحان من فجر الأنهار فانفجرت
…
وقدر الخير في إجرائها فجرت
فزينة الأرض بالأزهار قد ظهرت
…
وللبصيرة عين كلما نظرت
رأت جمالا وإجمالا ومعتبرا
سبحان من خلق الإنسان من علق
…
وأعقب الليلة الليلاء بالغسق
يا بهجة الشمس دوني عذت من فلق
…
ويا سنا البدر عارض حمرة الشفق
حين تعود لنا من ليلتنا سحرا
سبحان من علم الإنسان بالقلم
…
وسلط الهم والبلوى على الهمم
فقاومتها جنود الصبر والكرم
…
ثم ابتلى قلب غير العارف الفهم
فما أطلق ولا أوفى ولا صبرا
سبحان من خلق الإنسان من عجل
…
فليس يمشي إلى شيء على مهل
ولا يقول سوى هذا وذلك لي
…
مقسم الحال بين الحرص والحيل
فليس تلقاه إلاّ ضارعا حذرا
سبحان من زانه بالعلم والأدب
…
وبالفضائل والإيمان والطلب
فلا يزال حليف الفكر والتعب
…
رام الكمال فلم يبلغ ولم يخب
ولم يرد بعد في ري ولا صدرا
سبحان من شأنه بالكبر والأشر
…
يمسي ويصبح في غي وفي بطر
مردد العزم بين الجبن والخور
…
لا يستفيق من الشكوى إلى البشر
ولا يزحزح عن ظلم إذا قدرا
سبحان محرقه في وقدة الحسد
…
فلا يزال أخا غيظ وفي نكد
كالبحر يرمي إلى العينين بالزبد
…
إذا رأى أثر النعمى على أحد
يود لو كان أعمى لا يرى ضجرا
سبحان من أمر الأرواح فأتمرت
…
ثم استديمت فلم تنهض بما أمرت
وكل نفس إذا سامحتها فجرت
…
فلا تصلها إذا خانتها أو غدرت
واقطع علائق من قد خان أو غدرا
سبحان من بسط التعليم ثم طوى
…
فأعق القلب وجدا دائما وهوى
وذاب في ملتظى أشواقه وذوى
…
وكان أزمع واستوفى المنى ونوى
حجا فلما انى ميقاته حصرا
سبحان من في بساط العدل أجلسنا
…
وباغتفار عظيم الذنب آنسنا
وزان بالعلم والإيمان أنفسنا
…
فكان أعظمنا قدرا وأنفسنا
من انتهى أو نهى أو خاف فازدجرا
سبحان من خص بالإيمان أنفسنا
…
وخافه من عذاب النار أنفسنا
لولاه لم نعرف المعروف والحسنا
…
ولا استفدنا لسانا ناطقا لسنا
ولا درينا: أباح الشرع أو حظرا
سبحان من جعل الإيمان بالقدر
…
والحشر والنشر منجاة من الضرر
فلا خلود مع الإيمان في سقر
…
ولا وصول إلى أمن دون حذر
حتى تكون لأمر الله مؤتمرا
سبحان من إن يشأ أعطاك أو منعك
…
ومن إذا شاء أمرا حادثا وقعا
وتارة يخفض الأمر الذي رفعا
…
يوما يفرق للإنسان ما حمعا
ولا يبالي بمن أثرى ومن خسرا
سبحان من هو يوم الفصل يجمعنا
…
وللنعيم بفضل منه يرفعنا
من بعد رؤية أهوال تروعنا
…
يرى لها والها هيمان أورعنا
حيران عريان يبدي كل ما سترا
سبحان من شاء في الدنيا سعادتنا
…
بطاعة أحسنت منا إرادتنا
ويبتلينا ويستحلي عبادتنا
…
حتى إذا شاء في الأخر إعادتنا
أعادنا مثل ما كنا كما ذكرا
سبحان من يحشر الإنسان مكتئبا
…
خوف الجراء ويجزيه بما كسبا
ويحكم الحكم يمضيه كما وجبا
…
فالقاسطون إلى نيرانه عصبا
والمقسطون إلى جناته زمرا
سبحان من فضل الإسلام في الأمم
…
بالطيبات الطاهر المبعوث في الحر
محمّد خير من يمشي على قدم
…
إذا عددت بيوت المجد والكرم
فمنه حتى إلى عدنان أو مضرا
سبحان من ختم الأديان في الأزل
…
بالملة السمحة البيضاء في الملل
أتى بها خير مأمور وممتثل
…
محمّد خاتم السادات والرسل
وخير من حج بيت الله واعتمرا
إذا وصفنا فبالتقصير نعترف
…
فكل لفظ بليغ دونه يقف
هو النبي الذي في ذكره شرف
…
فإن طلبت رضاه الذي تصف
فكن على وصفه في الذكر مقتصرا
صلى الإله عليه ما بدا قمر
…
وما سرى في الديجاء أنجم زهر
وما تباينت الأشكال والصور
…
وما تدورست الآيات والسور
وما قضى مؤمن من حاجة وطرا