المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌محنة أبي الخطيب ووفاته: - أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض - جـ ١

[المقري التلمساني]

الفصل: ‌محنة أبي الخطيب ووفاته:

عبد الرحمن التجافي له عن أعمال مراكش بدل سجلماسة فعقدوا له على كره وطووا على المكر وخرج الوزير أبو بكر إلى السلطان أبي العباس وبايعه وأقضى عهده بالأمانة وتخلية سبيله من الوزارة ودخل السلطان أبو العباس إلى البلد الجديد سابع المحرم وارتحل الأمير عبد الرحمن يومئذ إلى مراكش واستولى عليها.

‌محنة أبي الخطيب ووفاته:

ثم ذكر أبن خلدون الخبر عن مقتل أبن الخطيب فقال: ولمّا استولى السلطان أبو العباس على البلد الجديد دار ملكه فاتح سنة ست وسبعين استقل بسلطانه والوزير محمّد بن عثمان مستبد عليه وسليمان بن داود بن أعراب كبير بني عسكر رديف له وقد كان الشرط وقع بينه وبين السلطان أبن الأحمر عندما بويع بطنجة على نكبة أبن الخطيب وإسلامه إليه لمّا نمى إليه عنه أنه كان يغري السلطان عبد العزيز المريني بملك الأندلس فلما زحف السلطان أبو العباس من طنجة ولقيه أبو بكر بن غازي بساحة البلد الجديد فهزمه السلطان ولازمه بالحصار أوى معه أبن الخطيب إلى البلد الجديد خوفا على نفسه. فلما استولى السلطان على البلد أقام أياما ثم أغراه سليمان بن داود بالقبض عليه فقبضوا عليه وأودعوه السجن وطيروا بالخبر إلى السلطان أبن الأحمر وكان سليمان بن داود شديد العداوة لابن الخطيب لمّا كان سليمان قد بايعه السلطان أبن الأحمر على مشيخة

ص: 229

الغزاة بالأندلس، متى أعاد الله إلى ملكه، فلما استقر له سلطانه، جاز له سليمان سفيراً عن الوزير عمر بن عبد الله، ومقتضيا عهده من السلطان، فصده أبن الخطيب عن ذلك، محتجاً بأن تلك الرياسة إنّما هي لأعياض الملك من بني عبد الحق، لأنهم يعسوب زناتة، فرجع سلمان، وأثار حقد ذلك لأبن الخطيب، ثم جاوز الأندلس لمحل إمارته من جبل الفتح، فكانت تقع بينه وبين أبن الخطيب مكتبات، يشير كل واحد منهما لصاحبه، بما يحفظه، مما كمن في صدورهما. وحين بلغ خبر القبض على أبن الخطيب إلى السلطان أبن الأحمر بعث كاتبه ووزيره بعد أبن الخطيب، وهو أبو عبد الله أبن زمرك، فقدم على السلطان أبي العباس، وأحضر أبن الخطيب بالمشور في مجلس الخاصة، وعرض عليه بعض كلمات وقعت له في كتابه المحبة، فعظم النكير فيها، فوبخ ونكل، وامتحن بالعذاب بمشهد ذلك الملأ، ثم نقل إلى محبسه، واشتوروا في قتله بمقتضى تلك المقالات المسجلة عليه، وأفتى بعض الفقهاء فيه، ودس سليمان بن داود لبعض الأوغاد من حاشيته بمقتله، فطرقوا السجن ليلا، ومعهم زعانفة جاءوا في لفيف الخدم، مع سراء السلطان أبن الأحمر، وقتلوه خنقا في محبسه، واخرج شلوه من الغد، فدفن في مقبرة باب المحروق، ثم أصبح من الغد على سافة قبره طريحا، وقد جمعت له أعواد، وأضرمت

ص: 230

عليه نار، فاحرق شعره، واسود بشره، فأعيد إلى حفرته، وكان في ذلك انتهاء محنته. وعجب الناس من هذه الشنعاء التي جاء بها سليمان، واعتدوها من هناته، وعظم النكير فيها عليه وعلى قومه وأهل دولته، والله الفعال لمّا يريد. وكان، عفا الله عنه، أيام امتحانه بالسجن يتوقع مصيبة الموت، فتجهش هواتفه بالشعر، يبكي نفسه، ومما قال في ذلك:

بعدنا وإنَّ جاورتنا البيوت

وجئنا بوعظ ونحن صموت

وأنفاسنا سكنت دفعة

كهجر الصلاة تلاه القنوت

وكنا عظاماً فصرنا عظاماً

وكنا نقوت فيها نحن قوت

وكنا شموس سماء العلا

غربن فناحت علينا السموت

فكم خذلت ذا الحسام الظبا

وذو البخت كم جدلته البخوت

وكم سيق للقبر في خرقة

فتىً ملئت من كساه التخوت

فقل للعدا ذهب أبن الخطيب

وفات ومن ذا الذي لا يفوت

ومن كان يفرح منهم له

فقل: يفرح اليوم من لا يموت

انتهى كلام أبن خلدون في ديوان العبر.

ورأيت تخميسا لبعض بني الصباغ على هذه القطعة، لكنه زاد فيها بعض أبيات على ما ذكره أبن خلدون، وها أنا أثبته تتميما للفائدة، وهو:

أيا جاهلا غره ما يفوت

وألهاه حال قليل الثبوت

تأمل لمن بعد أنسٍ يصوت

بعدنا وإنَّ جاورنا البيوت

وجئنا بوعظ ونحن صموت

ص: 231

لقد نلت من دهرنا رفعة

تقضت كبرق مضى سرعة

فهيهات ترجوا لها رجعة

وأصواتنا سكنت دفعة

كهجر الصلاة تلاه تفوت

بدا لي من العز وجه شباب

يؤمل سيبي وبأسي يهاب

فسرعان مزق ذاك الإهاب

ومدت وقد أنكرتنا الثياب

علينا نسائجها العنكبوت

فآها لعز تقضي مناما

منحنا به الجاه دوما كراما

وكنا نسوس أموراً عظاما

وكنا عظاماً فصرنا عظاماً

وكنا تقوت فها نحن قوت

وكنا لذا الملك حلي الطلا

فآها عليه زماناً خلا

نعوض من جدة بالبلى

وكنا شموس سماء العلا

غربن فناحت علينا السموت

تعودت بالرغم صرف الليالي

وحملت نفسي فوق احتمالي

وأيقنت أنَّ سوف يأتي ارتحالي

ومن كان منتظراً للزوال

فكيف يؤمل منه الثبوت

ص: 232

هو الموت يا ما له من نبا

يجوز الحجاب إلى من أبى

ويألف أخذ سنى الحبا

فكم أسلمت ذا الحسام الظبا

وذا البخت كم جدلته البخوت

هو الموت أفضح من عجمةٍ

وأيقظ بالوعظ من نومةٍ

وسلى عن الحزن ذا حرقةٍ

فكم سيق للقبر في خرقةٍ

فتى ملئت من كساه التخوت

تقضى زماني بعيش خصيب

وعندي لذنبي انكسار المنيب

وها الموت قد صبت مني نصيبي

فقل للعدا ذهب أبن الخطيب

وفات ومن ذا الذي لا يفوت

مضى أبن الخطيب كمن قبله

ومن بعده يقتفي سبله

وهذا الردى ناثر شمله

فمن كان يفرح منهم له

فقل يفرح اليوم من لا يموت

ص: 233