الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة الثالثة والستون: التفكير أحواله وفوائده
الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ:
فإن مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار فإنها توجب التصورات، والتصورات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع الفعل.
قال ابن القيِّم رحمه الله: «أصل الخير والشر من قبل التفكير، فإن الفكر مبدأ الإرادة، والطلب في الأخذ، والترك، والحب، والبغض، وأنفع الفكر في مصالح المعاد وفي طرق اجتلابها، وفي دفع مفاسد المعاد وفي طرق اجتنابها، فهذه أربعة أفكار هي أصل الأفكار ويليها أربعة، فكر في مصالح الدنيا وطرق تحصيلها، وفكر في مفاسد الدنيا وطرق الاحتراز منها، فعلى هذه الأقسام الثانية دارت أفكار العقلاء ورأس القسم الأول الفكر في آلاء الله ونعمه، وأمره ونهيه، وطرق العلم به وبأسمائه وصفاته من كتابه وسنة نبيه وما والاهما، وهذا الفكر يثمر لصاحبه المحبة والمعرفة، فإذا فكر في الآخرة وشرفها ودوامها، وفي الدنيا وخستها وفنائها أثمر له ذلك الرغبة في الآخرة والزهد في الدنيا وكلما فكر في قصر الأمل وضيق الوقت أورثه ذلك الجد والاجتهاد وبذل الوسع في اغتنام
الوقت، وهذه الأفكار تعلي همته وتحييها بعد موتها وسفولها وتجعله في واد والناس في واد، وبإزاء هذه الأفكار الرديئة التي تجول في قلوب أكثر الخلق، كالفكر فيما لم يكلف الفكر فيه ولا أُعطي الإحاطة به من فضول العلم الذي لا ينفع كالفكر في كيفية ذات الرب وصفاته مما لا سبيل للعقول إلى إدراكه، أو الفكر في الشهوات والملذات وطرق تحصيلها، أو الفكر فيما لم يكن لو كان كيف يكون؟ كالفكر فيما إذا وجد كنزًا أو ملك ضيعة ماذا يصنع؟ أو غيرها من الأفكار السفل»
(1)
. اهـ.
ومراد ابن القيِّم رحمه الله من الكلام السابق أن الفكر على قسمين: الأول فكر في أمور الدنيا، ويشتمل على أربعة أنواع هي: الأخذ، والترك، والحب، والبغض والثاني: فكر في أمور الآخرة، ويشتمل أيضًا على أربعة أنواع: الأخذ، والترك، والحب، والبغض.
- فالأخذ يكون لما في الدنيا والآخرة من الخير.
- والترك لما فيهما من الشر.
- والحب لما في الدنيا والآخرة من الأعمال الصالحة، والأخلاق الجميلة.
- والبغض لما فيهما من الأعمال السيئة، والأخلاق القبيحة.
فعلى هذه الأقسام الثمانية تدور أفكار الخلق جميعًا.
(1)
«الفوائد» (ص: 222 - 223).
خطوات التفكير:
1 -
تدريب العقل على التفكير المثمر والمفيد، فإن كثيرًا من المشاريع والمخترعات العظيمة كانت بدايتها فكرة.
2 -
تدوين الأفكار والخواطر وعدم تأجيلها، ويشمل ذلك الأفكار الجزئية والتفصيلية، فإذا لم تدون هذه التفاصيل ضاع الوقت والجهد بلا فائدة.
3 -
إفراد كل فكرة مهمة بملف مستقل حتى تكتمل وتصبح واضحة، فالمرء قد يفكر في أكثر من موضوع في وقت واحد، وقد يتوقف تفكيره في موضوع ما برهة من الزمن لسبب أو لآخر ثم يعاود التفكير فيه.
4 -
عرض هذه الأفكار في مراحلها الأولى على أصحاب الشأن المتخصِّصين، فقد يكون لأحدهم أثرٌ مفيدٌ في توجيه الفكرة وتصحيحها أو تطويرها.
5 -
عدم الربط بين الفكرة وتنفيذها، فقد يأتي شخص بالفكرة وينفذها غيره.
6 -
عدم الربط بين التفكير ووقت التنفيذ أو مكانه، فقد تكون الفكرة ناجحة لكن الوقت أو الزمان غير مناسبين لتنفيذها، فلا يصح إهمالها فقد يحتاج إليها في يوم أو في بلد ما.
ومما ينبغي التنبيه عليه أن كثيرًا من القرارات التي لم تدرس ولم يفكر فيها تفكيرًا جيدًا كان مصيرها الفشل، وهذا يدل على
أهمية التفكير في مراحله السابقة في أي قرار مشروع يتخذه المرء.
وذكر أحد الباحثين أن الدراسات تثبت أن الذين يفكرون تفكيرًا صحيحًا من أجل أمتهم ومن أجل القيام بالواجب عليهم لا يتجاوز (2 %) فقط، وهذا رقم متدن للغاية، وأما (98 %) الباقون فإن تفكيرهم في حدود المألوف في الأكل والشرب، والوظيفة، والزواج، والبيت، ونحو ذلك، وهذا يدل على خطورة التفكير وأهميته، فماذا لو كانت نسبة المفكرين تفكيرًا مفيدًا زاد على (70 %) أو (80 %) ثم أُتبع هذا التفكير بعمل مثمر، هل ستبقى الأمة على ما هي عليه اليوم؟
وهذا يستدعي من كل مسلم أن يقف مع نفسه وقفة جادة ليحاسبها، فينظر فيما قدمه لأمته منذ بلغ، وما أمضاه من قوته فيما ينفعها أو فيما يجب عليه فعله.
ومما يذكر في هذا المقام أن قيام دولة اليهود التي زُرِعَتْ في قلب الأمة كالخنجر المسموم، إنما بدأ بفكرة، أُتبعت بتخطيط وعمل دؤوب لتنفيذها وإخراجها إلى أرض الواقع، ففي المؤتمر الصهيوني الأول الذي عُقد ببازل السويسرية عام ألف وثمانمائة وسبعة وتسعين ميلادية، وضع قادة اليهود مخططاتهم لقيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين، وبرغم أنهم يهود جبناء، إلا أنهم فكَّروا وخطَّطوا وعملوا وتآمروا، فحقَّقوا من الدنيا بعض ما خطَّطوا له، قَالَ تَعَالَى:{مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ} [الإسراء: 18]، قَالَ عُمَرُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَشكُو إِلَيكَ جَلَدَ الفَاجِرِ
وَعَجْزَ الثِّقَةِ»
(1)
(2)
.
وينبغي للمسلمين أن يجتهدوا في وضع الخطط التي ترفع شأن الأمة ويعتز بها دينهم، فإنهم إن فعلوا ذلك مخلصين لله عملهم واجتهادهم فسيكون النجاح حليفهم بإذن الله ومعونته وتوفيقه، قَالَ تَعَالَى:{إِنْ أُرِيدُ إِلَاّ الإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَاّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب (88)} [هود: 88].
وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ.
(1)
«مجموع الفتاوى» (28/ 254).
(2)
انظر: «منهج التفكير ضوابط ومحاذير» للشيخ ناصر العمر (ص: 31 - 32، 136).