الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة الرابعة والستون: تأمُّلات في سورة الانفطار
الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ:
فإن الله أنزل هذا القرآن العظيم لتدبره والعمل به، فقال سبحانه:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24]، ومن سور القرآن الكريم التي تتكرر على أسماعنا ونحن بحاجة إلى تدبرها ومعرفة ما فيها من الحكم والفوائد الجليلة سورة الانفطار.
وهذه السورة الكريمة تتحدث عن يوم القيامة وما فيه من أهوال، وأمور عظام تشيب لها الولدان.
قَولُهُ تَعَالَى {إِذَا السَّمَاء انفَطَرَت (1)} [الانفطار: 1]، أي: انشقت السماء، كما قَالَ تَعَالَى:{إِذَا السَّمَاء انشَقَّت (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّت (2)} [الانشقاق: 1 - 2]، قال بعض المفسرين: تشققت بأمر الله لنزول الملائكة كما قَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)} [الفرقان: 25 - 26].
قَولُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَت (2)} [الانفطار: 2]، أي: تناثرت نجومها صغيرها، وكبيرها تنتثر، وتتفرق وتتساقط لأن العالم انتهى.
قَولُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَت (3)} [الانفطار: 3]، أي: فُجِّرَ بَعضُهَا على بعض وَمَلَأَتِ الأَرضَ، وهذه البحار تُشَكِّلُ ثلاثة أرباع الأرض تقريبًا أو أكثر، هذه البحار يوم القيامة تفجَّر ثم تسجَّر أي تشتعل نارًا عظيمة، كما قَالَ تَعَالَى:{وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَت (6)} [التكوير: 6].
قَولُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَت (4)} [الانفطار: 4]، أي: أُخرِجَ ما فيها من الأموات.
قَولُهُ تَعَالَى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَت (5)} [الانفطار: 5]، وذلك عند نشر الصحف المكتوب فيها جميع الأعمال، وذاك حين يقول الغافل: أين المفر؟ فيجاب: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَر (12) يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّر (13)} [القيامة: 12 - 13].
والغرض من هذا تحذير العباد بأن أعمالهم محصاة عليهم، وستعرض على كل عبد صحيفة عمله ويقال له:{اقْرَا كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)} [الإسراء: 14].
قَولُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيم (6)} [الانفطار: 6]، أي: ما الذي خدعك حتى أقدمت على معصية ربك الكريم الذي أوجدك من العدم وأحسن خلقك، وعلَّمك ما لم تكن تعلم، وفَضَّلَكَ على كثير من خلقه؟ ! فقابلت نعمه بالنكران، وإحسانه بالإساءة، فإن كان الذي غَرَّكَ شبابك فاعلم أن مصيره إلى الهرم، وإن كان الذي غَرَّكَ غناك فاعلم أن مصيره إلى زوال، وإن كان الذي غرك صحتك
فاعلم أن مصيرها إلى سقم، والموت من وراء ذلك.
قَولُهُ تَعَالَى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَك (7)} [الانفطار: 7]، أي: جعلك سويًّا معتدل القامة منتصبًا في أحسن الهيئات والأشكال، فلو اجتمع الخلق كلهم وأرادوا أن يضعوا عين الإنسان في مكان أحسن من الذي خلقه الله عليه لم يجدوا، وكذلك الأنف والأذن والرجل وسائر الأعضاء، فصدق الله تعالى إذ يقول:{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم (4)} [التين: 4].
قَولُهُ تَعَالَى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَك (8)} [الانفطار: 8]، يعني: أن الله رَكَّبَكَ في أي صورة شاء، فمن الناس من هو جميل ومنهم من هو قبيح ومنهم المتوسط، ومنهم الأبيض ومنهم الأحمر ومنهم الأسود ومنهم بين ذلك.
قَولُهُ تَعَالَى: {كَلَاّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّين (9)} [الانفطار: 9]، أي: بل إنما يحملكم على مواجهة الكريم، ومقابلته بالمعاصي، تكذيبٌ في قلوبكم بالمعاد، والجزاء، والحساب.
قَولُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِين (10) كِرَامًا كَاتِبِين (11)} [الانفطار: 10 - 11]، أي: أن كل إنسان عليه حفظة يكتبون أعماله، وهؤلاء الحفظة كرام عدول لا يظلمون أحدًا، فلا يكتبون عليه ما لم يعمل، ولا يتركوا كتابة شيء من أعماله الصالحة، قَالَ تَعَالَى:{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد (18)} [ق: 18].
قَولُهُ تَعَالَى: {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُون (12)} [الانفطار: 12]: إما بالمشاهدة
إن كان فعلًا، وإما بالسماع إن كان قولًا، بل إن عمل القلب يطلعهم الله عليه فيكتبونه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه: قَالَ اللهُ عز وجل: «إذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ حَسَنَةً مَا لَمْ يَعْمَلْ، فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَإِذَا تَحَدَّثَ بِأَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَهُ مَا لَمْ يَعْمَلْهَا، فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ بِمِثْلِهَا. وفي رواية: إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ»
(1)
.
قَولُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيم (13)} [الانفطار: 13]: هم القائمون بحقوق الله، وحقوق عباده، الملازمون للبر في أعمال القلوب وأعمال الجوارح، فهؤلاء جزاؤهم النعيم في القلب والروح والبدن في دار الدنيا، وفي دار البرزخ، وفي دار القرار، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:«إِنَّ فِي الدُّنيَا لَجَنَّةً، مَن لَم يَدخُلْهَا لَم يَدخُلْ جَنَّةَ الآخِرَةِ»
(2)
.
قَولُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيم (14)} [الانفطار: 14]: الفجار هم الكفار لهم عذاب أليم في الدنيا، وفي البرزخ، ويوم القيامة.
قَولُهُ تَعَالَى: {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّين (15)} [الانفطار: 15]، أي: يوم الحساب والجزاء.
قَولُهُ تَعَالَى: {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِين (16)} [الانفطار: 16]، أي: لا يغيبون عن العذاب ساعة واحدة ولا يخفف عنهم من عذابها ولا
(1)
«صحيح مسلم» (برقم 129). وقد خرَّج البخاري الشطر الأول منه (برقم 42).
(2)
«الوابل الصيِّب من الكلم الطيِّب» (ص: 109).
يُجابون إلى ما يسألون من الموت، أو الراحة، ولو يومًا واحدًا كما قَالَ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُور (36)} [فاطر: 36].
قَولُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّين (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّين (18)} [الانفطار: 17 - 18]: هذا الاستفهام للتفخيم والتعظيم، يعني: أي شيء أعلمك بيوم الدين؟ والمعنى: أعلم هذا اليوم وأقدره قدره.
قَولُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّه (19)} [الانفطار: 19]، أي: لا يقدر أحدٌ على نفع أحدٍ ولا خلاصه مما هو فيه إلا أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى، كما روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللهِ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِب لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا»
(1)
.
قَولُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّه (19)} [الانفطار: 19]: فهو الذي يفصل بين العباد، ويأخذ للمظلوم حقه من ظالمه.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «فإن قال قائل: أليس الأمر لله تعالى في يوم الدين وفيما قبله؟ الجواب: أن الأمر لله تعالى يوم الدين وفيما قبله، لكن ظهور أمره في ذلك اليوم أكثر بكثير من
(1)
جزء من حديث في «صحيح البخاري» (برقم 4771)، و «صحيح مسلم» (برقم 206).
ظهور أمره في الدنيا، ففي الدنيا يخالف الإنسان أوامر الله عز وجل ويطيع أمر سيده، فلا يكون الأمر لله بالنسبة لهذا ولكن في الآخرة ليس فيه إلا أمر الله عز وجل، وهذا كقَولِهِ تَعَالَى:{لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار (16)} [غافر: 16]. والملك لله في الدنيا وفي الآخرة، لكن في ذلك اليوم يظهر ملكوت الله عز وجل وأمره، ويتبين أنه ليس هناك أمر في ذلك اليوم إلا لله عز وجل»
(1)
.
وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ.
(1)
«تفسير ابن عثيمين رحمه الله لجزء عَمَّ» (ص: 88 - 92).