المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌الحكمة هي السنة

الطواف بالبيت أسبوعا وبين الصفا والمروة كذا وكذا.

وعن أبي نضرة عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أنه قال لرجل أنك إحمق أتجد في كتاب الله عز وجل الظهر أربعا لا يجهر فيها بالقراءة ثم عدد عليه الصلاة والزكاة ونحوهما ثم قال أتجد هذا في كتاب الله عز وجل مفسرا إن كتاب الله جل وعلا أحكم ذلك وإن السنة تفسر ذلك رواه الآجري في كتاب الشريعة.

وعن سعيد بن جبير أنه حدث يوما بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل في كتاب الله ما يخالف هذا قال ألا أراني أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعرض فيه بكتاب الله كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بكتاب الله منك، رواه الدارمي في سننه ورواته ثقات. وقد رواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة بنحوه.

وعن عبد الرحمن بن يزيد أنه رأى محرما عليه ثيابه فنهر المحرم فقال ائتني بآية من كتاب الله عز وجل بنزع ثيابي فقرأ عليه (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) رواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة.

وعن بكير بن عبد الله بن الأشج قال أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال «سيأتي ناس يجادلونكم بشبه القرآن فخذوهم بالسنن فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله عز وجل» رواه الدارمي وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة.

وعن يحيى بن أبي كثير قال «السنة قاضية على القرآن وليس القرآن بقاض على السنة» رواه الدارمي في سننه ورواته ثقات.

وعن حسان - وهو ابن عطية أحد التابعين - قال كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل بالقرآن» رواه الدارمي في سننه ورجاله رجال الصحيح.

ويدل لهذا قول الله تعالى (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة) قال ابن كثير الكتاب هو القرآن و‌

‌الحكمة هي السنة

انتهى. وقوله تعالى (واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به) قال ابن جرير في قوله (والحكمة) يعني وما أنزل عليكم من الحكمة وهي السنن التي علمكموها رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنها لكم. وقال ابن كثير في قوله (وما أنزل عليكم من الكتاب) يعني القرآن

ص: 8

(والحكمة) يعني السنة وقيل مواعظ القرآن، وقال تعالى مخبراً عن إبراهيم وإسماعيل أنهما قالا (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة) قال ابن كثير في قوله (ويعلمهم الكتاب) يعني القرآن (والحكمة) يعني السنة قاله الحسن وقتادة ومقاتل بن حيان وأبو مالك. وقيل الفهم في الدين ولا منافاة انتهى. وقال تعالى (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة) قال ابن كثير الكتاب هو القرآن والحكمة هي السنة. وقال ابن جرير يعني بالحكمة السنن والفقه في الدين انتهى.

ونقل البيهقي في كتابه المدخل عن الشافعي أنه قال سمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم روى بأسانيده عن الحسن وقتادة ويحيى بن أبي كثير أنهم قالوا الحكمة في هذه الآية السنة انتهى.

وقد ثبت في قضايا كثيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سئل عن الشيء الذي لا علم له به نزل عليه الوحي ببيان ذلك. وفي كل منها دليل لما قاله حسان بن عطية.

قال ابن حزم في كتاب الأحكام. لما بينا أن القرآن هو الأصل المرجوع إليه في الشرائع نظرنا فيه فوجدنا فيه إيجاب طاعة ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجدناه عز وجل يقول فيه واصفا لرسوله صلى الله عليه وسلم (وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى) فصح لنا بذلك أن الوحي ينقسم من الله عز وجل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم على قسمين أحدهما وحي متلو مؤلف تأليفا معجز النظام وهو القرآن، والثاني وحي مروي منقول غير مؤلف ولا معجز النظام ولا متلو لكنه مقروء وهو الخبر الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المبين عن الله عز وجل مراده منا قال الله تعالى (لتبين للناس ما نزل إليهم) ووجدناه تعالى قد أوجب طاعة هذا القسم الثاني كما أوجب طاعة القسم الأول الذي هو القرآن ولا فرق فقال تعالى (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول) فكانت الأخبار التي ذكرنا أحد الأصول الثلاثة التي ألزمنا طاعتها في الآية الجامعة لجميع الشرائع أولها وآخرها وهي قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله) فهذا أصل وهو القرآن، ثم قال تعالى (وأطيعوا الرسول) فهذا ثان وهو الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال تعالى (وأولي الأمر منكم) فهذا ثالث وهو الإجماع المنقول إلى رسول الله حكمه، وصح لنا بنص القرآن أن

ص: 9

الأخبار هي أحد الأصلين المرجوع إليهما عند التنازع قال تعالى (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) انتهى.

وقال ابن حزم أيضا في كتاب الأحكام جاء النص ثم لم يختلف فيه مسلمان في أن ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قاله ففرض اتباعه وأنه تفسير لمراد الله تعالى في القرآن وبيان لمجمله انتهى.

وقد تقدم في الفصل الأول قول البربهاري إذا سمعت الرجل تأتيه بالأثر فلا يريده ويريد القرآن فلا تشك أنه رجل قد احتوى على الزندقة انتهى.

وقال أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة ينبغي لأهل العلم والعقل إذا سمعوا قائلا يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء قد ثبت عند العلماء فعارض إنسان جاهل فقال لا أقبل إلا ما كان في كتاب الله عز وجل قيل له أنت رجل سوء وأنت ممن حذرناك رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذر منك العلماء. وقيل له يا جاهل إن الله عز وجل أنزل فرائضه جملة وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبين للناس ما أنزل إليهم قال الله عز وجل (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) فأقام الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم مقام البيان عنه وأمر الخلق بطاعته ونهاهم عن معصيته وأمرهم بالانتهاء عما نهاهم عنه وقال عز وجل (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) ثم حذرهم أن يخالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فقال عز وجل (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب اليم) وقال تبارك وتعالى (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) ثم فرض على الخلق طاعته صلى الله عليه وسلم في نيف وثلاثين موضعا من كتابه عز وجل.

وقيل لهذا المعارض لسنن الرسول صلى الله عليه وسلم يا جاهل قال الله عز وجل (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) أين تجد في كتاب الله عز وجل أن الفجر ركعتان وأن الظهر أربع وأن العصر أربع وأن المغرب ثلاث وأن العشاء أربع وأين تجد أحكام الصلاة ومواقيتها وما يصلحها وما يبطلها إلا من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثلها الزكاة أين تجد في كتاب الله عز وجل من مائتي درهم خمسة دراهم ومن عشرين دينارا نصف دينار ومن أربعين شاة شاة ومن خمس من الإِبل شاة، ومن جميع أحكام الزكاة أين تجدها في كتاب الله عز وجل. وكذلك جميع فرائض الله عز وجل التي فرضها الله جل وعلا في كتابه لا يعلم الحكم فيها إلا بسنن الرسول صلى

ص: 10

الله عليه وسلم. هذا قول علماء المسلمين ومن قال غير هذا خرج عن ملة الإِسلام ودخل في ملة الملحدين، نعوذ بالله من الضلالة بعد الهدى. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

وفيما ذكرته أبلغ رد على الملحد الجاهل صالح أبي بكر وعلى أمثاله من الملحدين الذين يردون الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ويعارضونها بالشبه والآراء والأهواء.

فصل

قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه «إعلام الموقعين» وقد صنف الإِمام أحمد رضي الله عنه كتابا في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم رد فيه على من احتج بظاهر القرآن في معارضة سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك الاحتجاج بها فقال في أثناء خطبته. إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه بعث محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون وأنزل عليه كتابه الهدى والنور لمن اتبعه وجعل رسوله الدال على ما أراد من ظاهره وباطنه وخاصه وعامه وناسخه ومنسوخه وما قصد له الكتاب فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المعبر عن كتاب الله الدال على معانيه. شاهده في ذلك أصحابه الذين ارتضاهم الله لنبيه واصطفاهم له ونقلوا ذلك عنه فكانوا هم أعلم الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما أراد الله من كتابه بمشاهدتهم وما قصد له الكتاب فكانوا هم المعبرين عن ذلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال جابر رضي الله عنه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا عليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله وما عمل به من شيء عملنا. ثم ساق الآيات الدالة على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن قال - ثم ذكر أحمد الاحتجاج على إبطال قول من عارض السنن بظاهر القرآن وردها بذلك.

قال ابن القيم وهذا فعل الذين يستمسكون بالمتشابه في رد المحكم فإن لم يجدوا لفظا متشابها غير المحكم يردونه به استخرجوا من المحكم وصفا متشابها وردوه به فلهم طريقان في رد السنن أحدهما ردها بالمتشابه من القرآن أو من السنن، الثاني جعلهم المحكم متشابها ليعطلوا دلالته، وأما طريقة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث كالشافعي

ص: 11

وأحمد مالك وأبي حنيفة وأبي يوسف والبخاري وإسحاق فعكس هذه الطريق وهي أنهم يردون المتشابه إلى المحكم ويأخذون من المحكم ما يفسر لهم المتشابه ويبينه لهم فتتفق دلالته مع دلالة المحكم وتوافق النصوص بعضها بعضا ويصدق بعضها بعضا فإِنها كلها من عند الله وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه ولا تناقض وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره انتهى المقصود من كلامه رحمه الله تعالى.

وقال ابن القيم أيضا في كتابه «إعلام الموقعين» ولو كان كل ما أوجبته السنة ولم يوجبه القرآن نسخا له لبطل أكثر سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفع في صدورها وأعجازها وقال القائل هذه زيادة على ما في كتاب الله فلا تقبل ولا يعمل بها.

وهذا بعينه هو الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيقع وحذر منه كما في السنن من حديث المقدام بن معد يكرب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه» وفي لفظ «يوشك أن يقعد الرجل على أريكته فيحدث بحديثي فيقول بيني وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه حلالا استحللناه وما وجدنا فيه حراماً حرمناه وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله» قال الترمذي حديث حسن وقال البيهقي إسناده صحيح.

وقال صالح بن موسى عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني قد خلفت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» فلا يجوز التفريق بين ما جمع الله بينهما ويرد أحدهما بالآخر - إلى أن قال - والسنة مع القرآن على ثلاثة أوجه أحدها أن تكون موافقة له من كل وجه فيكون توارد القرآن والسنة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلة وتظافرها، الثاني أن تكون بيانا لما أريد بالقرآن وتفسيراً له، الثالث أن تكون موجبة لحكم سكت القرآن عن إيجابه أو محرمة لما سكت عن تحريمه ولا تخرج عن هذه الأقسام فلا تعارض القرآن بوجه ما. فما كان منها زائداً على القرآن فهو تشريع مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم تجب طاعته فيه ولا تحل معصيته وليس هذا تقديما لها على كتاب الله بل امتثال لما أمر الله به من طاعة رسوله، ولو

ص: 12

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطاع في هذا القسم لم يكن لطاعته معنى وسقطت طاعته المختصة به. وأنه إذا لم تجب إلا فيما وافق القرآن لا فيما زاد عليه لم يكن له طاعة خاصة تختص به وقد قال الله تعالى (من يطع الرسول فقد أطاع الله).

وكيف يمكن أحداً من أهل العلم أن لا يقبل حديثا زائداً على كتاب الله فلا يقبل حديث تحريم المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا حديث التحريم بالرضاعة. لكل ما يحرم من النسب ولا حديث خيار الشرط ولا أحاديث الشفعة ولا حديث الرهن في الحضر مع أنه زائد على ما في القرآن ولا حديث ميراث الجدة ولا حديث تخيير الأمة إذا عتقت تحت زوجها ولا حديث منع الحائض من الصوم والصلاة ولا حديث وجوب الكفارة على من جامع في نهار رمضان ولا أحاديث إحداد المتوفى عنها زوجها مع زيادتها على ما في القرآن من العدة - ثم ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أمثلة كثيرة من الأحاديث التي أخذ الناس بها وهي زائدة على ما في القرآن إلى أن قال - بل أحكام السنة التي ليست في القرآن إن لم تكن أكثر منها لم تنقص عنها فلو ساغ لنا رد كل سنة كانت زائدة على نص القرآن لبطلت سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها إلا سنة دل عليها القرآن وهذا هو الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيقع ولا بد من وقوع خبره - إلى أن قال - والله سبحانه ولاه منصب التشريع عنه ابتداء كما ولاه منصب البيان لما أراد بكلامه، بل كلامه كله بيان عن الله والزيادة بجميع وجوهها لا تخرج عن البيان بوجه من الوجوه، بل كان السلف الصالح الطيب إذا سمعوا الحديث عنه وجدوا تصديقه في القرآن ولم يقل أحد منهم قط في حديث واحد أبداً أن هذه زيادة على القرآن فلا نقبله ولا نسمعه ولا نعمل به، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أجل في صدورهم وسنته أعظم عندهم من ذلك وأكبر انتهى المقصود من كلامه رحمه الله تعالى.

فصل

وقد كان السف الصالح يعظون السنة غاية التعظيم وينكرون أشد الإِنكار على الذين يتهاونون بالأحاديث الصحيحة وعلى الذين يعارضونها بأقوال الناس وآرائهم وربما هجروا بعضهم إلى الممات. وقد روى مسلم في صحيحه عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول

ص: 13

«لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها» قال فقال بلال بن عبد الله والله لنمنعهن قال فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا سيئا ما سمعته سبه مثله قط وقال أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول والله لنمنعهن، وفي رواية له عن مجاهد أنه ضرب في صدره. وقد روى البخاري المرفوع منه فقط. ورواه الإِمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارمي وغيرهم بنحو رواية مسلم. وروى أبو داود الطيالسي رواية مجاهد وقال فرفع يده فلطمه فقال أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول هذا، وفي رواية لأحمد فما كلمه عبد الله حتى مات.

قال النووي فيه تعزير المعترض على السنة والمعارض لها برأيه، وفيه تعزير الوالد ولده وإن كان كبيراً انتهى.

وفيه أيضا جواز التأديب بالهجران قاله الحافظ ابن حجر وفي مستدرك الحاكم عن عمرو بن مسلم قال خذف رجل عند ابن عمر رضي الله عنهما فقال لا تخذف فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم «ينهى عن الخذف» ثم رآه ابن عمر رضي الله عنهما بعد ذلك يخذف فقال أنبأتك أن النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن الخذف ثم خذفت والله لا أكلمك أبداً.

وفي الصحيحين عن عبد الله بن بريدة قال رأى عبد الله بن المغفل رضي الله عنه رجلا من أصحابه يخذف فقال له لا تخذف فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره أو قال ينهى عن الخذف فإِنه لا يصاد به الصيد ولا ينكأ به العدو ولكنه يكسر السن ويفقأ العين ثم رآه بعد ذلك يخذف فقال له أخبرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره أو ينهى عن الخذف ثم أراك تخذف لا أكلمك كلمة كذا وكذا، هذا لفظ مسلم. وقد رواه الدارمي في سننه بنحوه وقال فيه والله لا أكلمك أبدا، وإسناده صحيح على شرط الشيخين، ورواه الإِمام أحمد وأبو داود مختصرا. ورواه مسلم أيضا وابن ماجه من حديث سعيد بن جبير أن قريبا لعبد الله بن مغفل رضي الله عنه خذف قال فنهاه وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهى عن الخذف وقال إنها لا تصيد صيدا ولا تنكأ عدواً ولكنها تكسر السن وتفقأ العين» قال فعاد فقال أحدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى ثم تخذف لا أكلمك أبداً. هذا لفظ مسلم. وفي رواية ابن ماجه أن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه كان جالسا

ص: 14

إلى جنب ابن أخ له فخذف فنهاه وذكر تمام الحديث بنحو رواية مسلم وفيه قال لا أكلمك أبداً.

وروى الدارمي في سننه عن خراش بن جبير قال رأيت في المسجد فتى يخذف فقال له شيخ لا تخذف فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم «ينهى عن الخذف» فغفل الفتى فظن أن الشيخ لا يفطن له فخذف فقال له الشيخ أحدثك أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الخذف ثم تخذف والله لا أشهد لك جنازة ولا أعودك في مرض ولا أكلمك أبداً.

وروى الدارمي أيضا عن أيوب عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخذف وقال إنها لا تصطاد صيدا ولا تنكأ عدوا ولكنها تكسر السن وتفقأ العين» فرفع رجل بينه وبين سعيد قرابة شيئا من الأرض فقال هذه وما تكون هذه فقال سعيد ألا أراني أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تهاون به لا أكلمك أبداً، إسناده صحيح على شرط الشيخين.

وروى الدارمي أيضا عن قتادة قال حدث ابن سيرين رجلا بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل قال فلان كذا وكذا فقال ابن سيرين أحدثك عن النبي صلى الله عليه وسلم وتقول قال فلان كذا وكذا لا أكلمك أبداً. إسناده جيد رجاله كلهم ثقات.

قال النووي في الكلام على حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه فيه هجران أهل البدع والفسوق ومنابذي السنة مع العلم وأنه يجوز هجرانه دائما. والنهي عن الهجران فوق ثلاثة أيام إنما هو فيمن هجر لحظ نفسه ومعايش الدنيا. وأما أهل البدع ونحوهم فهجرانهم دائما، وهذا الحديث مما يؤيده مع نظائر له كحديث كعب بن مالك وغيره انتهى.

وقال الحافظ ابن حجر في الحديث جواز هجران من خالف السنة وترك كلامه ولا يدخل ذلك في النهي عن الهجر فوق ثلاث فإنه يتعلق بمن هجر لحظ نفسه انتهى.

وفي سنن ابن ماجه أن عبادة بن الصامت رضي الله عنه غزى مع معاوية رضي الله عنه أرض الروم فنظر إلى الناس وهم يتبايعون كسر الذهب بالدنانير وكسر

ص: 15

الفضة بالدراهم فقال يا أيها الناس إنكم تأكلون الربا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «لا تبتاعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل لا زيادة بينهما ولا نظرة» فقال له معاوية يا أبا الوليد لا أرى الربا في هذا إلا ما كان من نظرة فقال عبادة أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثني عن رأيك لئن أخرجني الله لا أساكنك بأرض لك عليّ فيها إمرة فلما قفل لحق بالمدينة فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما أقدمك يا أبا الوليد فقص عليه القصة وما قال من مساكنته فقال ارجع يا أبا الوليد إلى أرضك فقبح الله أرضا لست فيها وأمثالك وكتب إلى معاوية لا إمرة لك عليه واحمل الناس على ما قال فإِنه هو الأمر.

ورواه الدارمي في سننه مختصراً ولفظه عن أبي المخارق قال ذكر عبادة بن الصامت رضي الله عه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن درهمين بدرهم فقال فلان ما أرى بهذا بأسا يداً بيد فقال عبادة أقول قال النبي صلى الله عليه وسلم وتقول لا أرى به بأسا والله لا يظلني وإياك سقف أبداً.

وفي هذا الحديث جواز هجر من خالف السنة وعارضها برأيه وروى مالك في الموطأ والشافعي في مسنده من طريق مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها فقال أبو الدرداء رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل فقال له معاوية ما أرى بمثل هذا بأسا فقال أبو الدراء رضي الله عنه من يعذرني من معاوية أنا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه لا أساكنك بأرض أنت بها ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر ذلك له فكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى معاوية أن لا تبيع ذلك إلا مثلا بمثل وزنا بوزن.

قوله فقال أبو الدرداء رضي الله عنه من يعذرني من معاوية إلى آخره قال ابن عبد البر كان ذلك منه أنفة من أن يرد عليه سنة علمها من رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه، وصدور العلماء تضيق عن مثل هذا وهو عندهم عظيم رد السنن بالرأي. قال وجائز للمرء أن يهجر من لم يسمع منه ولم يطعه وليس هذا من الهجرة المكروهة ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن لا يكلموا كعب بن مالك حين تخلف عن تبوك. قال وهذا أصل عند العلماء في مجانبة من ابتدع وهجرته وقطع

ص: 16

الكلام عنه. وقد رأى ابن مسعود رضي الله عنه رجلا يضحك في جنازة فقال والله لا أكلمك أبداً. انتهى كلام ابن عبد البر رحمه الله تعالى.

وهذا الأثر الذي ذكره عن ابن مسعود رضي الله عنه قد رواه الإِمام أحمد في كتاب الزهد فقال حدثنا سفيان حدثنا عبد الرحمن بن حميد سمعه من شيخ من بني عبس أبصر عبد الله رجلا يضحك في جنازة فقال تضحك في جنازة لا أكلمك أبداً.

وفي المسند بإِسناد صحيح عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال تمتع النبي صلى الله عليه وسلم فقال عروة بن الزبير نهى أبو بكر وعمر عن المتعة فقال ابن عباس رضي الله عنهما ما يقول عرية قال يقول نهى أبو بكر وعمر عن المتعة فقال ابن عباس رضي الله عنهما أراهم سيهلكون أقول قال النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون نهى أبو بكر وعمر.

وإذا كان هذا قول ابن عباس رضي الله عنهما لمن عارض قول النبي صلى الله عليه وسلم بقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فكيف بمن اطرح الأحاديث الصحيحة ونبذها وراء ظهره ولم يعبأ بها مثل صالح أبي بكر وأشباهه من الملحدين فهؤلاء أولى بالإِنكار الشديد والتأديب الذي يردعهم عن معارضة الأحاديث الصحيحة والاستهانة بها والله المستعان.

وروى الإِمام أحمد والبخاري والنسائي عن الزبير بن عربي قال سأل رجل ابن عمر رضي الله عنهما عن استلام الحجر فقال رأيت رسول الله صلى عليه وسلم يستلمه ويقبله قال قلت أرأيت إن زحمت أرأيت إن غلبت قال اجعل أرأيت باليمن، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله.

وقد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده قال حدثنا حماد بن زيد قال حدثنا الزبير بن العربي قال سألت ابن عمر رضي الله عنهما عن المزاحمة على الحجر فقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله فقلت أرأيت أن أغلب أو أزحم قال اجعل أرأيت مع ذلك الكوكب رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبله ويستلمه.

قوله اجعل أرأيت باليمن قال الحافظ بن حجر في فتح الباري إنما قال له ذلك لأنه فهم منه معارضة الحديث بالرأي فأنكر عليه ذلك وأمره إذا سمع الحديث أن

ص: 17

يأخذ به ويتقي الرأي انتهى.

وروى الدارقطني بإِسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات فإِنه لا يدري أين باتت يده منه أو أين طافت يده» فقال له رجل أرأيت إن كان حوضا فحصبه ابن عمر وقال أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول أرأيت إن كان حوضا. وقد رواه ابن ماجه مختصرا ولم يذكر قصة الرجل مع ابن عمر وإسناده صحيح على شرط مسلم.

وإنما حصب ابن عمر رضي الله عنهما الرجل لأنه فهم منه معارضة الحديث بالرأي فأنكر عليه وحصبه.

وروى الإِمام أحمد بإِسناد صحيح والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا استيقظ أحدكم من نومه فليفرغ على يديه من إنائه ثلاث مرات فإنه لا يدري أين باتت يده» فقال له قيس الأشجعي فإِذا جئنا مهراسكم هذا فكيف نصنع به فقال أبو هريرة أعوذ بالله من شرك. هذا لفظ البيهقي.

وإنما تعوذ أبو هريرة رضي الله عنه من شره لأنه فهم منه معارضة الحديث بالرأي فأنكر عليه ذلك وتعوذ بالله من شره.

وقال الترمذي في جامعه «باب ما جاء في اشعار البدن» حدثنا أبو كريب أخبرنا وكيع عن هشام الدستوائي عن قتادة عن أبي حسان الأعرج عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم «قلد نعلين وأشعر الهدي في الشق الأيمن بذي الحليفة وأماط عنه الدم» قال الترمذي حديث حسن صحيح. قال والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم يرون الإشعار وهو قول الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق. قال سمعت يوسف بن عيسى يقول سمعت وكيعا يقول حين روى هذا الحديث فقال لا تنظروا إلى قول أهل الرأي في هذا فإن الإِشعار سنة وقولهم بدعة. قال سمعت أبا السائب يقول كنا عند وكيع فقال لرجل ممن ينظر في الرأي أشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول أبو حنيفة هو مثلة، قال الرجل فإِنه قد روي عن إبراهيم النخعي أنه قال الإِشعار مثلة قال فرأيت وكيعا غضب غضبا شديدا وقال أقول لك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول قال إبراهيم ما أحقك بأن تحبس ثم لا تخرج حتى تنزع عن قولك هذا.

ص: 18

وقال الشافعي في كتاب الرسالة أخبرني أبو حنيفة سماك بن الفضل الشيباني قال حدثني ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي شريح الكعبي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إن أحب أخذ العقل وإن أحب فله القود» فقلت لابن أبي ذئب أتأخذ بهذا يا أبا الحارث فضرب صدري وصاح عليّ صياحا كثيرا ونال مني وقال أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول تأخذ به. نعم آخذ به وذاك الفرض عليّ وعلى من سمعه. إن الله عز وجل اختار محمداً صلى الله عليه وسلم من الناس فهداهم به وعلى يديه واختار لهم ما اختار له وعلى لسانه فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين لا مخرج لمسلم من ذلك. قال وما سكت عني حتى تمنيت أن يسكت.

وقال الفضل بن زياد عن أحمد بن حنبل قال بلغ ابن أبي ذئب أن مالكا لم يأخذ بحديث «البيعان بالخيار» فقال يستتاب في الخيار فإِن تاب وإلا ضربت عنقه، قال أحمد ومالك لم يرد الحديث ولكن تأوله على غير ذلك، فقال شامي من أعلم مالك أو ابن أبي ذئب فقال ابن أبي ذئب في هذا أكثر من مالك وابن أبي ذئب أصلح في بدنه وأورع وأقوم بالحق من مالك عند السلاطين انتهى من طبقات الحنابلة.

وإذا كان هذا قول ابن أبي ذئب في الإِمام مالك حين تأول حديثا واحداً على غير تأويله فكيف بأدعياء العلم من العصريين الذين يردون المئات من الأحاديث الصحيحة وينبذونها وراء ظهورهم زاعمين كذبا وزوراً أنها أحاديث إسرائيلية تخالف القرآن فهؤلاء أولى أن يستتابوا فإِن تابوا وإلا ضربت أعناقهم. والله المسئول أن يبعث لدينه وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم أنصاراً يجاهدون أهل الزيغ والفساد ولا تأخذهم في الله لومة لائم.

وقال أبو العباس أحمد بن يحيى المعروف بثعلب حدثني محمد بن عبيد بن ميمون حدثني عبد الله بن إسحاق الجعفري قال كان عبد الله بن الحسن يكثر الجلوس إلى ربيعة قال فتذاكروا يوما السنن فقال رجل كان في المجلس ليس العمل على هذا فقال عبد الله أرأيت إن كثر الجهال حتى يكونوا هم الحكام أفهم الحجة على السنة فقال ربيعة أشهد أن هذا كلام أبناء الأنبياء ذكره ابن القيم في كتابه «إغاثة اللهفان» .

ص: 19

وروى الخطيب البغدادي في تأريخه من طريق يعقوب بن سفيان قال سمعت علي بن المديني يقول قال محمد بن خازم كنت أقرأ حديث الأعمش عن أبي صالح على أمير المؤمنين هارون فكلما قلت قال رسول الله. قال صلى الله على سيدي ومولاي حتى ذكرت حديث «التقى آدم وموسى» فقال عمه - وسماه عليٌّ فذهب عليَّ - فقال يا محمد أين التقيا قال فغضب هارون وقال من طرح إليك هذا وأمر به فحبس ووكل بي من حشمه من أدخلني إليه في محبسه فقال يا محمد والله ما هو إلا شيء خطر ببالي وحلف لي بالعتق وصدقة المال وغير ذلك من مغلظات الأيمان. ما سمعت ذلك من أحد ولا جرى بيني وبين أحد في هذا كلام وما هو إلا شيء خطر ببالي لم يجر بيني وبين أحد فيه كلام قال فلما رجعت إلى أمير المؤمنين كلمته قال ليدلني على من طرح إليه هذا الكلام فقلت يا أمير المؤمنين قد حلف بالعتق ومغلظات الأيمان أنه إنما هو شيء خطر ببالي لم يجر بيني وبين أحد فيه كلام قال فأمر به فأطلق من الحبس وقال لي يا محمد ويحك إنما توهمت أنه طرح إليه بعض الملحدين هذا الكلام الذي خرج منه فيدلني عليهم فأستبيحهم وإلا فأنا على يقين أن القرشي لا يتزندق. قال هذا أو نحوه من الكلام.

وروى أبو عثمان الصابوني في عقيدته بإِسناده عن محمد بن حاتم المظفري قال كان أبو معاوية الضرير يحدث هارون الرشيد فحدثه بحديث أبي هريرة «احتج آدم وموسى» فقال عيسى بن جعفر كيف هذا وبين آدم وموسى ما بينهما قال فوثب به هارون وقال يحدثك عن الرسول صلى الله عليه وسلم وتعارضه بكيف قال فما زال يقول حتى سكت عنه.

قال الصابوني هكذا ينبغي للمرء أن يعظم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقابلها بالقبول والتسليم والتصديق وينكر أشد الإِنكار على من يسلك فيها غير هذا الطريق الذي سلكه هارون الرشيد مع من اعترض على الخبر الصحيح الذي سمعه بكيف على طريق الإِنكار له والابتعاد عنه ولم يتلقه بالقبول كما يجب أن يتلقى جميع ما يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

وقال الإِمام أحمد رحمه الله تعالى عجبت لقوم عرفوا الإِسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان والله تعالى يقول (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) أتدري ما الفتنة. الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في

ص: 20

قلبه شيء من الزيغ فيهلك، ثم جعل يتلو هذه الآية (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما).

وقال الحاكم سمعت الأصم يقول سمعت الربيع يقول سمعت الشافعي يقول وروى حديثا فقال له رجل تأخذ بهذا يا أبا عبد الله فقال متى رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا صحيحا فلم آخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب وأشار بيده إلى رأسه - يعني أن منزلة الحديث الصحيح عنده على الرأس.

وقال شارح العقيدة الطحاوية طريق أهل السنة أن لا يعدلوا عن النص الصحيح ولا يعارضوه بمعقول ولا قول فلان كما قال البخاري رحمه الله سمعت الحميدي يقول كنا عند الشافعي رحمه الله فأتاه رجل فسأله عن مسألة فقال قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا فقال رجل للشافعي ما تقول أنت فقال سبحان الله تراني في كنيسة، تراني في بيعة، تراني على وسطي زنار، أقول لك قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تقول ما تقول أنت.

وقال الحاكم أنباني أبو عمرو السماك مشافهة أن أبا سعيد الجصاص حدثهم قال سمعت الربيع بن سليمان يقول سمعت الشافعي يقول وسأله رجل عن مسألة فقال روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا وكذا. فقال له السائل يا أبا عبد الله أتقول بهذا فارتعد الشافعي واصفر وحال لونه وقال ويحك أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فلم أقل به. نعم على الرأس والعينين نعم على الرأس والعينين.

وقال الربيع قال الشافعي لم أسمع أحداً نسبته عامة أو نسب نفسه إلى علم يخالف في أن فرض الله اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والتسليم لحكمه فإِن الله لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه وأنه لا يلزم قول رجل قال إلا بكتاب الله أو سنة رسوله وإن ما سواهما تبع لهما وإن فرض الله علينا وعلى من بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحد لا يختلف فيه الفرض وواجب قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد ذكر ياقوت الحموي في كتابه «معجم الأدباء» مناظرة جرت بين الشافعي وإسحاق بن راهويه وقد نقلها ياقوت من تاريخ نيسابور للحاكم ومن كتاب مناقب الشافعي للآبري. وهذا ملخص ما ذكره.

ص: 21

قال الآبري قال إسحاق فسألته - يعني الشافعي - عن سكنى بيوت مكة - أراد الكراء - فقال جائز فقلت أي يرحمك الله وجعلت أذكر له الحديث عن عائشة وعبد الرحمن وعمر وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كره كراء بيوت مكة وهو ساكت يسمع وأنا أسرد عليه فلما فرغت سكت ساعة وقال أي يرحمك الله أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «هل ترك لنا عقيل من رباع أو دار» قال فوالله ما فهمت عنه ما أراد بها ولا أرى أن أحداً فهمه. قال الحاكم فقال إسحاق أتأذن لي في الكلام فقال نعم فقلت حدثنا يزيد بن هارون عن هشام عن الحسن أنه لم يكن يرى ذلك. وأخبرنا أبو نعيم وغيره عن سفيان عن منصور عن إبراهيم أنه لم يكن يرى ذلك. قال الحاكم ولم يكن الشافعي عرف إسحاق فقال الشافعي لبعض من عرفه من هذا فقال هذا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ابن راهوية الخراساني فقال له الشافعي أنت الذي يزعم أهل خراسان أنك فقيههم قال إسحق هكذا يزعمون. قال الشافعي ما أحوجني أن يكون غيرك في موضعك فكنت آمر بعرك أذنيه. وقال الحاكم في خبر آخر قال له الشافعي لو قلت قولك احتجت إلى أن أسلسل أنا أقول لك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تقول عطاء وطاوس ومنصور وإبراهيم والحسن هولاء لا يرون ذلك. هل لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة. وفي خبر الآبري أن إسحاق قال فلما تدبرت ما قال من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «هل ترك لنا عقيل من رباع أو دار» علمت أنه قد فهم ما ذهب عنا. قال إسحاق ولو كنت قد أدركني هذا الفهم وأنا بحضرته لعرفته ذاك انتهى المقصود مما ذكره ياقوت.

فصل

والأخذ بالأحاديث الصحيحة وتعظيمها دليل على قوة الإِيمان في قلب العبد. والتهاون بها ونبذها واطراحها دليل على ضعف الإِيمان أو عدمه بالكلية قال الله تعالى (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما) فأقسم سبحانه وتعالى بنفسه الكريمة المقدسة على نفي الإِيمان عمن لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم عند التنازع ويرض بحكمه ويطمئن إليه قلبه ولا يجد في نفسه حرجاً مما قضى به ويسلم له تسليما وينقاد له ظاهراً وباطناً.

وهذه الآية هي الحكم الفاصل في الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم

ص: 22

فمن قبلها واطمئن قلبه إليها وانقاد لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً فهو مؤمن. ومن قابلها بالرد والإِنكار فليس بمؤمن قال الله تعالى (فإِن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين) وقال تعالى (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا).

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» قال النووي حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة بإِسناد صحيح.

قال الحافظ ابن رجب في كتابه «جامع العلوم والحكم» يريد بصاحب كتاب الحجة الشيخ أبا الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي الفقيه الزاهد نزيل دمشق، وكتابه هذا هو كتاب الحجة على تاركي سلوك طريق المحجة، قال وقد خرج هذا الحديث الحافظ أبو نعيم في كتاب الأربعين وشرط في أولها أن تكون من صحاح الأخبار وجياد الآثار مما أجمع الناقلون على عدالة ناقليه وخرجته الأئمة في مسانيدهم. ثم خرجه عن الطبراني. قال ورواه الحافظ أبو بكر ابن أبي عاصم الأصبهاني، انتهى المقصود من كلامه.

فصل

ومن أشكل عليه شيء من الأحاديث الصحيحة أو وقع في نفسه منه شيء فينبغي له أن يظن به أحسن الظن ولا يبادر إلى إنكاره ورده كما يفعله أهل الزيغ والإِلحاد. قال علي رضي الله عنه «إذا حدثتم شيئا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فظنوا به الذي هو أهدى والذي هو أتقى والذي هو أهيأ» رواه الإِمام أحمد وأبو داود الطيالسي والدارمي وابن ماجه وعبد الله بن الإِمام أحمد في زوائد المسند بأسانيد صحيحة.

وعن عون بن عبد الله عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال «إذا حدثتم بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فظنوا به الذي هو أهيأ والذي هو أهدى والذي هو أتقى» رواه الإِمام أحمد والدارمي وابن ماجه وفيه انقطاع بين عون بن عبد الله وابن مسعود فإِنه لم يسمع منه ولكن حديث علي رضي الله عنه يشهد لحديث ابن مسعود رضي الله عنه ويقويه.

ص: 23

فصل

وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم في التحديث عن بني إسرائيل. وكان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يحدث أصحابه عنهم، وقد جاء في ذلك أحاديث كثيرة.

منها ما رواه الإِمام أحمد والبخاري والترمذي عن عبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار» قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.

ومنها ما رواه الإِمام أحمد أيضا وأبو داود وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» زاد ابن حبان في روايته «وحدثوا عني ولا تكذبوا علي» .

ومنها ما رواه الإِمام أحمد أيضا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «حدثوا عني ولا تكذبوا علي ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» إسناده صحيح على شرط الشيخين.

ومنها ما رواه أبو يعلى والبزار عن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «حدثوا عن بني إسرائيل فإِنه قد كان فيهم الأعاجيب» .

ومنها ما رواه الإِمام أحمد في مسند عمران بن حصين عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن بني إسرائيل لا يقوم فيها إلا إلى عظم صلاة» ورواه أبو داود والبزار بنحوه، ولفظ البزار «كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا عامة ليله عن بني إسرائيل حتى نصبح ما نقوم فيها إلى لمعظم صلاة» وقد رواه ابن حبان في صحيحه ولفظه لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا اليوم والليلة عن بني إسرائيل لا يقوم إلا لحاجة».

ومنها ما رواه الإِمام أحمد أيضا عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا عامة ليله عن بني إسرائيل لا يقوم إلا إلى عظم صلاة» وفي رواية يعني الفريضة المكتوبة، قال الهيثمي إسناده حسن، وقد

ص: 24