الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أبو رية «وكأن شعبة يشير بهذا إلى حديث «من أصبح جنباً فلا صيام له» فإِنه لما حوقق عليه قال أخبرنيه مخبر ولم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أقول يعني أنه قال أولاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
» مع أنه إنما سمعه من بعض الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو إرسال الصحابي الذي تقدم أنه ليس بتدليس ولكنه على صورته والله أعلم انتهى كلام المعلمي رحمه الله.
وأما قوله وقال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث وكان أبو هريرة يقول قال رسول الله - ص - كذا وإنما سمعه من الثقة فحكاه.
فجوابه أن يقال في تتمة كلام ابن قتيبة ما يرد على المؤلف وأبي رية وهو قوله، وكذلك كان ابن عباس يفعل وغيره من الصحابة وليس في هذا كذب بحمد الله ولا على قائله - إن لم يفهمه السامع جناح إن شاء الله انتهى.
ولما كان مراد المؤلف وأبي رية ابتغاء العيوب لأبي هريرة رضي الله عنه نقلا بعض كلام ابن قتيبة وتركا بعضه لأنهما لو ساقاه بتمامه لما حصل مقصودهما الخبيث من الطعن في أبي هريرة وفي أحاديثه، وقد قال عبد الرحمن بن مهدي أهل السنة يكتبون ما لهم وما عليهم وأهل البدعة يكتبون ما لهم ولا يكتبون ما عليهم.
ولا خلاف أن الصحابة كلهم عدول قال النووي في خطبة شرح مسلم كلهم مقطوع بعدالتهم عند من يعتد به من علماء المسلمين انتهى. فإِذا روى بعض الصحابة عن بعض عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر الواسطة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم فهو مرسل صحابي وهو مقبول بالاتفاق. ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في فتح الباري في الباب الرابع من كتاب العلم وقرر
صحة الاحتجاج بمراسيل الصحابة
رضي الله عنهم، وفي هذا رد على من طعن على أحد من الصحابة بالإِرسال كما فعل المؤلف وأبو رية في طعنهما على أبي هريرة رضي الله عنه بالإرسال.
وأما قوله وقال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث أنه لما أتى أبو هريرة من الرواية عن رسول الله ما لم يأت بمثله من صحبه من جلة أصحابه الأولون وأنكروا عليه وقالوا كيف سمعت هذا وحدك ومن سمعه معك وكانت عائشة أشدهم إنكاراً عليه لتطاول الأيام بها وبه.
فجوابه أن يقال هكذا قال المؤلف «الأولون» وصوابه «الأولين» وقد تقدم التنبيه على ذلك في أول الفصل، وقد اقتصر المؤلف تبعاً لأبي رية على هذه القطعة من كلام ابن قتيبة لأن غاية قصدهما سب أبي هريرة رضي الله عنه وإلصاق العيوب به. وقد أجاب ابن قتيبة عن ذلك بقوله فلما أخبرهم أبو هريرة بأنه كان ألزمهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم لخدمته وشبع بطنه وكان فقيراً معدماً وأنه لم يكن ليشغله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس الودي ولا الصفق بالأسواق، يعرض أنهم كانوا يتصرفون في التجارات ويلزمون الضياع في أكثر الأوقات وهو ملازم له لا يفارقه فعرف ما لم يعرفوا وحفظ ما لم يحفظوا - أمسكوا عنه انتهى.
ولم يثبت عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم أنه أنكر على أبي هريرة رضي الله عنه كثرة الرواية إلا ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما. وقد تقدم ذكر ذلك في الفصل الذي قبل هذا الفصل وفيه أن ابن عمر رضي الله عنهما قال أكثر أبو هريرة على نفسه فقيل له هل تنكر شيئاً مما يقول قال لا، وتقدم أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه اعترف لأبي هريرة رضي الله عنه بأنه كان ألزمهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمهم بحديثه، وتقدم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لأبي هريرة رضي الله عنه أكثرت الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنه والله ما كانت تشغلني عنه المكحلة والخضاب ولكن أرى ذلك شغلك عما استكثرت من حديثي قالت لعله. وفي رواية أن أبا هريرة رضي الله عنه لما قال لعائشة رضي الله عنها يا أماه إنه كان يشغلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المرآة والمكحلة والتصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإني والله ما كان يشغلني عنه شيء. فسكتت. وهذا يدل على إقرارها لأبي هريرة رضي الله عنه بالحفظ.
قال العلامة المحقق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في كتابه «الأنوار الكاشفة» إن أبا هريرة كان شديد التواضع، وعائشة معروفة بالصرامة وقوة العارضة فجوابه يدل على قوة إدلاله بصدقه ووثوقه بحفظه، ولو كان عنده أدنى تردد في صدقه وحفظه لاجتهد في الملاطفة فإِن المريب جبان، وسكوت عائشة بل قولها «لعله» أي لعل الأمر كما ذكرت يا أبا هريرة يدل دلالة واضحة أنه لم يكن عندها ما يقتضي اتهام أبي هريرة، هذا وحجة أبي هريرة واضحة فإِن عائشة لم تكن ملازمة للنبي صلى الله عليه وسلم بل انفردت عن الرجال بصحبته صلى الله عليه وسلم في الخلوة، وقد انفردت
بأحاديث كثيرة تتعلق بالخلوة وغيرها فلم ينكرها عليها أحد ولم يقل أحد - ولا ينبغي أن يقول - إن سائر أمهات المؤمنين قد كان لهن من الخلوة بالنبي صلى الله عليه وسلم مثل ما لها فما بال الرواية عنهن قليلة جداً بالنسبة إلى رواية عائشة انتهى.
وأما قوله وممن اتهم أبا هريرة بالكذب عمر وعثمان وعلي وغيرهم.
فجوابه من وجهين أحدهما أن يقال هذا من أكاذيب النظام ذكر ذلك ابن قتيبة في كتابه «تأويل مختلف الحديث» وقد نقل ذلك أبو رية في كتابه الذي هو ظلمات بعضها فوق بعض ورد عليه العلامة المحقق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في كتابه «الأنوار الكاشفة» فقال هذا أخذه من كتاب ابن قتيبة وإنما حكاه ابن قتيبة عن النظام بعد أن قال ابن قتيبة «وجدنا النظام شاطراً من الشطار يغدو على سكر ويروح على سكر ويبيت على جرائرها ويدخل في الأدناس ويرتكب الفواحش والشائنات، ثم ذكر أشياء من آراء النظام المخالفة للعقل وللإجماع وطعنه على أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وحذيفة، فمن كان بهذه المثابة كيف يقبل نقله بلا سند، ومن الممتنع أن يكون وقع من عمر وعثمان وعلي وعائشة أو واحد منهم رمي لأبي هريرة بتعمد الكذب أو اتهام به ثم لا يشتهر ذلك ولا ينقل إلا بدعاوي من ليس بثقة ممن يعادي السنة والصحابة كالنظام وبعض الرافضة، وقد تقدم ثناء بعض الصحابة على أبي هريرة وسماع كثير منهم منه وروايتهم عنه، وأطبق أئمة التابعين من أبناء أولئك الأربعة وأقاربهم وتلاميذهم على تعظيم أبي هريرة والرواية عنه والاحتجاج بأخباره، وعند أهل البدع من المعتزلة والجهمية والرافضة والناصبة حكايات معضلة مثل هذه الحكاية تتضمن الطعن القبيح في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعائشة وغيرهم وفي كثير منها ما هو طعن في النبي صلى الله عليه وسلم، والحكم في ذلك واحد وهو تكذيب تلك الحكايات البتة انتهى.
الوجه الثاني أن يقال إن عمر رضي الله عنه قد استعمل أبا هريرة على البحرين ثم عزله ثم أراده على العمل فأبى قال عبد الرزاق حدثنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين أن عمر استعمل أبا هريرة على البحرين فقدم بعشرة آلاف فقال له عمر استأثرت بهذه الأموال أي عدو الله وعدو كتابه فقال أبو هريرة لست بعدو الله ولا عدو كتابه ولكن عدو من عاداهما فقال فمن أين هي لك قال خيل نتجت وغلة رقيق لي وأعطية تتابعت علي فنظروا فوجدوه كما قال فلما كان بعد ذلك دعاه عمر ليستعمله
فأبى أن يعمل له فقال له تكره العمل وقد طلبه من كان خيراً منك طلبه يوسف عليه السلام فقال إن يوسف نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي وأنا أبو هريرة ابن أميمة وأخشى ثلاثاً واثنتين قال عمر فهلا قلت خمساً قال أخشى أن أقول بغير علم وأقضي بغير حلم أو يضرب ظهري وينزع مالي ويشتم عرضي.
وفي استعمال عمر رضي الله عنه لأبي هريرة رضي الله عنه أبلغ رد على من زعم أن عمر وعثمان وعلياً رضي الله عنهم اتهموا أبا هريرة رضي الله عنه بالكذب لأنه لو كان متهماً عند عمر رضي الله عنه لما استعمله فإِنه لم يكن متساهلاً في أمر الولاة بل كان بغاية الحزم والتدقيق عليهم ولم يكن يولي أحداً من المتهمين بالكذب ولو كان أبو هريرة رضي الله عنه متهماً بالكذب عند عثمان وعلي وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم لكانوا ينكرون توليته ويتكلمون فيه عند عمر رضي الله عنه، ولما لم يوجد منهم إنكار لتوليته دل ذلك على أنه لم يكن متهماً عندهم.
وأما قول مصطفى الرافعي في أبي هريرة رضي الله عنه أنه أول راوية اتهم في الإِسلام.
فجوابه من وجهين أحدهما أن يقال هذه كلمة بشعة جداً وهي تنم عما في قلب قائلها من الغيظ على أبي هريرة رضي الله عنه والبغض له، وقد تقدم في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لأبي هريرة وأمه أن يحببهما الله إلى عباده المؤمنين ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم مستجاب بلا شك، ويستفاد من هذا الحديث أنه لا يبغض أبا هريرة رضي الله عنه أحد في قلبه إيمان.
الوجه الثاني أن يقال إنما يتهم أبا هريرة رضي الله عنه من أعمى الله قلوبهم من الخوارج والروافض والقدرية والمعتزلة والجهمية ومن يقلدهم ويأخذ بأقوالهم من المتقدمين والمتأخرين. ومنهم مصطفى الرافعي وأبو رية والمؤلف وكثيرون سواهم من شرار العصريين الذين قد جعلوا أبا هريرة رضي الله عنه غرضاً للطعن والتنقص، وقد تقدم قريباً كلام ابن خزيمة في ذم المتكلمين في أبي هريرة رضي الله عنه وأنه لم يتكلم فيه إلا أهل البدع وأتباعهم فليراجع (1).
فأما أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة العلم والهدى فلم
(1) ص: 268.
يثبت عن أحد منهم أنه اتهم أبا هريرة رضي الله عنه. وقد تقدمت الآثار عن بعض الصحابة رضي الله عنهم في الثناء على أبي هريرة رضي الله عنه ووصفه بالحفظ وفيها أبلغ رد على من زعم أنه أول راوية اتهم في الإِسلام (1).
وأما قوله ولما قالت عائشة إنك لتحدث حديثاً ما سمعته من النبي - ص - أجابها بجواب لا أدب فيه ولا وقار إذ قال لها كما رواه ابن سعد والنجار «صوابه البخاري» وابن كثير وغيرهم شغلك عنه - ص - المرآة والمكحلة، وفي رواية ما كانت تشغلني عنه المكحلة والخضاب ولكن أرى ذلك شغلك عنه.
فجوابه من وجهين أحدهما أن يقال ليس في جواب أبي هريرة رضي الله عنه لعائشة رضي الله عنها ما يخل بالأدب والوقار إذ ليس فيه بذاء ولا فحش وليس في ذكر اشتغال المرأة بالمرآة والمكحلة والخضاب ما تستحي منه المرأة وتخجل من ذكره حتى يقول المبطلون إن ذكر أبي هريرة رضي الله عنه لذلك لا أدب فيه ولا وقار.
وقد تقدم في أثناء الفصل الذي قبل هذا الفصل أن أبا هريرة رضي الله عنه لما قال لعائشة رضي الله عنها إنه والله ما كانت تشغلني عن النبي صلى الله عليه وسلم المكحلة والخضاب ولكن أرى ذلك شغلك عما استكثرت من حديثي قالت لعله - أي لعل الأمر كما ذكرت يا أبا هريرة - وفي رواية أنها سكتت، وهذا يدل على أنها لم تر فيما قاله أبو هريرة رضي الله عنه بأسا. ولو كان في كلامه ما يخل بالأدب والوقار لأنكرت ذلك عائشة فإِنها كانت معروفة بالصرامة وقوة العارضة.
الوجه الثاني أن يقال إن سوء الأدب وعدم الوقار في الحقيقة هما في مكابرة المؤلف وأبي رية في رد الحديث الصحيح الدال على تفضيل عائشة رضي الله عنها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام، وقد زعما أن هذا الحديث موضوع مع أنه ثابت في الصحيحين من حديث أنس ابن مالك رضي الله عنه، ومروي أيضاً في غير الصحيحين عن أنس بن مالك وأبي موسى وعائشة وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وقرة بن إياس المزني رضي الله عنهم، وأسانيد هذه الأحاديث ما بين صحيح وحسن، وقد تقدم إبرادها في أثناء الكتاب فلتراجع (2) ففيها أبلغ رد على المؤلف وأبي رية.
(1) ص: 260 - 265.
(2)
ص: 197 - 198.
وقد جمع المؤلف وأبو رية بين سوء الأدب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوء الأدب على عائشة رضي الله عنها، فأما سوء أدبهما على النبي صلى الله عليه وسلم فيتجلى ذلك في رد الحديث الثابت عنه صلى الله عليه وسلم وقلة المبالاة به، وأما سوء أدبهما على عائشة رضي الله عنها فيتجلى ذلك في إنكار ما خصها الله به من التفضيل على النساء.
وأما قوله ثم عاد بعد ذلك واعترف بأنها أعلم منه في حديث «من أصبح جنبا لا صيام له» عندما واجهته بأن النبي - ص - كان يصبح جنبا وهو صائم فتراجع وقال إنه سمعه من الفضل وكان الفضل بن عباس قد مات، وقصة ذلك في صفحة 28 من تأويل الحديث.
فجوابه من وجوه أحدها أن يقال هذا من أقوال النظام التي طعن بها على أبي هريرة رضي الله عنه ذكر ذلك ابن قتيبة في كتابه «تأويل مختلف الحديث» وقد نقل أبو رية كلام النظام من كتاب ابن قتيبة ولم يذكر أنه من كلام النظام فأوهم من لا علم لهم أنه من كلام ابن قتيبة وقد نقله المؤلف من كتاب أبي رية واختصره وغير فيه بعض الكلمات ولم يذكر أنه من أقوال النظام. وفي هذا أوضح دليل على أنه لا أمانة لأبي رية ولا للمؤلف، وقد ذكر ابن قتيبة قبل هذا الكلام أقوالاً للنظام يطعن بها على أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وحذيفة وأبي هريرة رضي الله عنهم، وقد رد عليه ابن قتيبة فقال، هذا قوله في جلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم كأنه لم يسمع بقول الله عز وجل في كتابه الكريم (محمد رسول الله والذين معه) إلى آخر السورة.
قلت وفي آخر الآية وهو قوله تعالى (ليغيظ بهم الكفار) أوضح دليل على كفر من يغتاظ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم عن الإِمام مالك أنه قال من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية، ومن تأمل أقوال النظام في الطعن على أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وحذيفة وأبي هريرة رضي الله عنهم لم يشك أنها فيض مما في قلبه من الغيظ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فالله يجازيه على ذلك بعدله.
ثم قال ابن قتيبة ولم يسمع بقوله تعالى (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم) ولو كان ما ذكرهم به
حقا لا مخرج منه ولا عذر فيه ولا تأويل له إلا ما ذهب إليه لكان حقيقا بترك ذكره والإِعراض عنه إذ كان قليلا يسيراً مغمورا في جنب محاسنهم وكثير مناقبهم وصحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلهم مهجهم وأموالهم في ذات الله تعالى.
ثم رد ابن قتيبة على أقوال النظام رداً مفصلا فليراجع ذلك في أول كتابه «تأويل مختلف الحديث» .
الوجه الثاني أن يقال إن أبا هريرة رضي الله عنه كان يفتي بما رواه عن الفضل بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إذا نودي للصلاة صلاة الصبح وأحدكم جنب فلا يصم يومئذ» رواه الإِمام أحمد بإِسناد صحيح على شرط الشيخين. ولما أخبره عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أنهما قالتا «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا من غير حلم ثم يصوم» قال أبو هريرة رضي الله عنه هما أعلم ورجع عن قوله.
وقوله هما أعلم أي بهذه القضية لأنهما أخبرتاه عن النبي صلى الله عليه وسلم بشيء لا يطلع عليه إلا نساؤه وهو أنه كان يصبح جنباً من جماع غير احتلام ثم يصوم.
قال النووي في شرح مسلم لعل سبب رجوعه أنه تعارض عنده الحديثان فجمع بينهما وتأول أحدهما وهو قوله من أدركه الفجر جنباً فلا يصم وفي رواية مالك أفطر فتأوله على ما سنذكره من الأوجه في تأويله إن شاء الله تعالى. فلما ثبت عنده أن حديث عائشة وأم سلمة على ظاهره وهذا متأول رجع عنه وكان حديث عائشة وأم سلمة أولى بالاعتماد لأنهما أعلم بمثل هذا من غيرهما ولأنه موافق للقرآن فإِن الله تعالى أباح الأكل والمباشرة إلى طلوع الفجر قال الله تعالى (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) والمراد بالمباشرة الجماع ولهذا قال الله تعالى (وابتغوا ما كتب الله لكم) ومعلوم أنه إذا جاز الجماع إلى طلوع الفجر لزم منه أن يصبح جنباً ويصح صومه لقوله (ثم أتموا الصيام إلى الليل) وإذا دل القرآن وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على جواز الصوم لمن أصبح جنباً وجب الجواب عن حديث أبي هريرة عن الفضل عن النبي صلى الله عليه وسلم. وجوابه من ثلاثة أوجه أحدها أنه إرشاد إلى الأفضل فالأفضل أن يغتسل قبل الفجر فلو خالف جاز وهذا مذهب أصحابنا وجوابهم عن الحديث، والجواب الثاني لعله محمول على من أدركه الفجر مجامعاً فاستدام بعد طلوع
الفجر عالما فإِنه يفطر ولا صوم له، والثالث جواب ابن المنذر فيما رواه عنه البيهقي أن حديث أبي هريرة منسوخ وأنه كان في أول الأمر حين كان الجماع محرماً في الليل بعد النوم كما كان الطعام والشراب محرماً ثم نسخ ذلك ولم يعلمه أبو هريرة فكان يفتي بما علمه حتى بلغه الناسخ فرجع إليه، قال ابن المنذر هذا أحسن ما سمعت فيه والله أعلم انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري وإلى دعوى النسخ فيه ذهب ابن المنذر والخطابي وغير واحد وقرره ابن دقيق العيد بأن قوله تعالى (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) يقتضي إباحة الوطء في ليلة الصوم ومن جملتها الوقت المقارن لطلوع الفجر فيلزم إباحة الجماع فيه ومن ضرورته أن يصبح فاعل ذلك جنباً ولا يفسد صومه فإِن إباحة التسبب للشيء إباحة لذلك الشيء، قال ابن حجر وهذا أولى من سلوك الترجيح بين الخبرين، ثم ذكر الحافظ ابن حجر ما في حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما من الفوائد ومنها ترجيح مروي النساء فيما لهن عليه الإِطلاع دون الرجال على مروي الرجال لعكسه. وأن المباشر للأمر أعلم به من المخبر عنه، وفيه فضيلة لأبي هريرة لاعترافه بالحق ورجوعه إليه، فيه استعمال السلف من الصحابة والتابعين الإرسال عن العدول من غير نكير بينهم لأن أبا هريرة اعترف بأنه لم يسمع هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه كان يمكنه أن يرويه عنه بلا واسطة وإنما بينها لما وقع من الاختلاف انتهى.
الوجه الثالث أن يقال وأي بأس في تحديث أبي هريرة رضي الله عنه بما رواه عن الفضل بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان تحديثه بذلك بعد موت الفضل، فأبو هريرة رضي الله عنه مأمون في روايته عن الفضل والفضل رضي الله عنه مأمون في روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يروون ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم ويروون ما سمعه بعضهم من بعض عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يذكرون الواسطة بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم لأن الصحابة رضي الله عنهم كلهم عدول بالاتفاق وأهل صدق وأمانة في روايتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية بعضهم عن بعض، وقد قرر الحافظ ابن حجر في فتح الباري صحة الاحتجاج بمراسيل الصحابة رضي الله عنهم، قال لأن الواسطة بين الصحابي وبين النبي صلى الله عليه وسلم
مقبول اتفاقا وهو صحابي آخر، ذكر ذلك في الباب الرابع من كتاب العلم، وقرر في أول كتاب بدء الوحي أن مرسل الصحابة محكوم بوصله عند الجمهور.
الوجه الرابع أن يقال يظهر من كلام المؤلف أنه أراد الطعن في رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن الفضل بن عباس رضي الله عنهما من أجل أن الفضل كان ميتا حين حدث أبو هريرة بالحديث عنه، وقد نقل المؤلف هذا الطعن من كتاب أبي رية ونقله أبو رية من كتاب «تأويل مختلف الحديث» لابن قتيبة، وهو من أقوال النظام التي طعن بها على أبي هريرة رضي الله عنه ورد عليه ابن قتيبة بما تقدم ذكره قريبا. وقال ابن قتيبة أيضاً وكان - يعني أبا هريرة رضي الله عنه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وإنما سمعه من الثقة عنده فحكاه. وكذلك كان ابن عباس يفعل وغيره من الصحابة وليس في هذا كذب بحمد الله ولا على قائله - إن لم يفهمه السامع - جناح إن شاء الله انتهى كلام ابن قتيبة.
وأما قوله ولما روى حديث «إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يضعها في الإِناء فإِن أحدكم لا يدري أين باتت يده» لم تأخذ به وقالت كيف نصنع بالمهراس، والمهراس صخر ضخم منقور لا يحمله الرجال ولا يحركونه يملؤنه ماءاً ويتطهرون منه.
فجوابه من وجوه أحدها أن يقال إن ذكر عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث خطأ من أبي رية وقد تبعه المؤلف على خطئه فصار مثله مع أبي رية كمثل أعمى يقوده أعمى فترديا جميعا في هوة الهلاك، وسيأتي أن الذي عارض الحديث برأيه هو قيس الأشجعي، فأما عائشة رضي الله عنها فلم يرو عنها أنها عارضت هذا الحديث أو تكلمت فيه بشيء.
الوجه الثاني أن يقال إن عائشة رضي الله عنها روت عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى، وفي هذا أبلغ رد على المؤلف وأبي رية حيث زعما أن عائشة رضي الله عنها عارضت حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الوجه الثالث أن يقال إن حديث أبي هريرة رضي الله عنه حديث صحيح لا يتطرق إليه الطعن بوجه من الوجوه، وقد رواه الأئمة مالك والشافعي وأحمد
والبخاري ومسلم وأهل السنن الأربعة وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإِناء حتى يغسلها ثلاثا فإِنه لا يدري أين باتت يده» قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، قال وفي الباب عن ابن عمر وجابر وعائشة، وفي بعض الروايات لأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا استيقظ أحدكم من نومه فليفرغ على يديه من إنائه ثلاث مرات فإِنه لا يدري أين باتت يده» ورواه مسلم بنحوه، ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه بنحو ذلك إلا أنهم قالوا «حتى يفرغ عليها مرتين أو ثلاثا» وزاد أحمد في روايته الأخيرة فقال قيس الأشجعي يا أبا هريرة فكيف إذا جاء مهراسكم قال أعوذ بالله من شرك يا قيس، وقد رواه البيهقي في سننه وقال فقال له قيس الأشجعي فإِذا جئنا مهراسكم هذا فكيف نصنع به فقال أبو هريرة رضي الله عنه أعوذ بالله من شرك.
قلت وإنما تعوذ أبو هريرة رضي الله عنه من شره لأنه فهم منه معارضة الحديث بالرأي فأنكر عليه ذلك وتعوذ بالله من شره. وقد قال النووي في شرح مسلم قال أصحابنا وإذا كان الماء في إناء كبير أو صخرة بحيث لا يمكن الصب منه وليس معه إناء صغير يغترف به فطريقه أن يأخذ الماء بفمه ثم يغسل به كفيه أو يأخذ بطرف ثوبه النظيف أو يستعين بغيره انتهى.
الوجه الرابع أن يقال إن أبا هريرة رضي الله عنه لم ينفرد برواية هذا الحديث بل قد رواه ابن عمر وجابر وعائشة رضي الله عنهم وقد ذكر ذلك الترمذي تعليقا كما تقدم ذكره.
فأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فرواه ابن ماجه في سننه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإِناء حتى يغسلها» إسناده صحيح على شرط مسلم، وقد رواه الدارقطني في سننه بإِسناد صحيح على شرط مسلم ولفظه «إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يدخل يده في الإِناء حتى يغسلها ثلاث مرات فإِنه لا يدري أين باتت يده منه أو أين طافت يده» فقال له رجل أرأيت إن كان حوضا فحصبه ابن عمر وقال أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول أرأيت إن كان حوضاً، قال الدارقطني إسناده حسن، وقد رواه البيهقي في سننه من طريق الدارقطني فذكره بمثله.
قلت وإنما حصبه ابن عمر رضي الله عنهما لأنه فهم منه معارضة الحديث بالرأي فأنكر عليه ذلك وحصبه.
وأما حديث جابر رضي الله عنه فرواه ابن ماجه والدارقطني في سننيهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا قام أحدكم من النوم فأراد أن يتوضأ فلا يدخل يده في وضوئه حتى يغسلها فإِنه لا يدري أين باتت يده ولا على ما وضعها» قال الدارقطني إسناده حسن.
وأما حديث عائشة فرواه أبو داود الطيالسي في مسنده قال حدثنا ابن أبي ذئب حدثني من سمع أبا سلمة يحدث عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من استيقظ من منامه فلا يغمس يده في طهوره حتى يفرغ على يده ثلاث غرفات ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك حتى يفرغ على يده ثلاثاً» .
الوجه الثالث أن يقال قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفرغ على يديه فيغسلهما ثلاث قبل الوضوء، رواه الإِمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه. ورواه الإِمام أحمد أيضا وأهل السنن من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ورواه مالك وأحمد والبخاري ومسلم وأهل السنن من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري رضي الله عنه، وقد قال الله تعالى (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) ومن لم يتأس بالرسول صلى الله عليه وسلم فليس بمؤمن، ومن عارض الأحاديث الصحيحة برأيه أو رأي غيره فهو على شفا هلكة.
وأما قوله ولما سمع الزبير بن العوام أحاديثه قال صدق كذب (109 جـ البداية والنهاية).
فجوابه أن يقال قد تقدم الحديث بذلك قريباً (1) وفيه أن عروة قال لأبيه يا أبت ما قولك صدق كذب قال يا بني أما أن يكون سمع هذه الأحاديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أشك ولكن منها ما يضعه على مواضعه ومنها ما وضعه على غير مواضعه.
(1) ص: 264.
فعلم من هذا أن الزبير رضي الله عنه قد صدق أبا هريرة رضي الله عنه فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما خطأه في وضعه لبعض الأحاديث على غير مواضعها أي حملها على غير محملها، والخطأ في تفسير بعض الأحاديث وبيان معانيها قد يقع من بعض كبار العلماء ولا إثم في ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» رواه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وإنما يكون الإِثم في افتراء الكذب لقول الله تعالى (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون) والصحابة رضي الله عنهم منزهون عن افتراء الكذب فكلهم عدول بالاتفاق وأهل صدق وأمانة فرضي الله عنهم وأرضاهم، وأبعد الله من أبغضهم ومن تنقصهم ومن رماهم بما هم برءاء منه.
وقد قال العلامة المحقق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في كتابه «الأنوار الكاشفة» في خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، إنكم تقرؤن هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) الآية وإنكم تضعونها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقابه» فالوضع على غير الموضع ليس بتغيير اللفظ فإِن الناس لم يغيروا من لفظ الآية شيئاً، وإنما هو الحمل على المحمل الحقيقي «هكذا هو في الأنوار الكاشفة على المحمل الحقيقي» ولعله خطأ مطبعي والصواب «وإنما هو الحمل على غير المحمل الحقيقي» ومثال ذلك في الحديث أن يذكر أبو هريرة حديث النهي عن الادخار من لحوم الأضاحي فوق ثلاث، وحديث النهي عن الانتباذ في الدباء والنقير والمزفت، فيرى الزبير أن النهي عن الادخار إنما كان لأجل الدافة، وأن النهي عن الانتباذ في تلك الآنية إنما كان إذ كانوا حديثي عهد بشرب الخمر لأن النبيذ في تلك الآنية يسرع إليه التخمر فقد يتخمر فلا يصبر عنه حديث العهد بالشرب ونحو ذلك، وأن أبا هريرة إذا أخبر بذلك على إطلاقه يفهمه الناس على إطلاقه وذلك وضع له على غير موضعه ففي القصة شهادة الزبير لأبي هريرة بالصدق في النقل، فأما ما أخذه عليه فلا يضره فإِن في الأحاديث الناسخ والمنسوخ والعام والخاص والمطلق والمقيد وقد يعلم الصحابي هذا دون ذلك فعليه أن يبلغ ما سمعه، والعلماء بعد ذلك يجمعون الأحاديث والأدلة كلا منها بحسب ما يقتضيه مجموعها انتهى.
وأما قوله وأنكر عليه ابن مسعود قوله عن غسل ميتا ومن حمله فليتوضأ وقال فيه قولا شديداً ثم قال يا أيها الناس لا تنجسوا من موتاكم.
فجوابه من وجوه أحدها أن يقال قد أسقط المؤلف تبعا لأبي رية قوله «فليغتسل» بعد قوله «من غسل ميتا» ولو كان عند المؤلف أدنى معرفة لتنبه لما أسقطه أبو رية من الحديث ولكنه أعمى البصيرة يسير خلف أعمى البصيرة ويقلده.
الوجه الثاني أن يقال قد ذكر ابن عبد البر هذا الأثر في كتابه «جامع بيان العلم وفضله» بدون إسناد، وما ليس له إسناد صحيح فليس بمقبول، وقد روى البيهقي في سننه عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال «إن كان صاحبكم نجسا فاغتسلوا وإن كان مؤمنا فلم نغتسل من المؤمن» قال البيهقي إسناده ليس بالقوي.
هذا ما رأيته مروياً عن ابن مسعود رضي الله عنه وما رأيت غيره، وليس فيه ذكر لأبي هريرة رضي الله عنه فضلا عن الإِنكار والقول الشديد الذي زعمه المؤلف تقليداً لأبي رية.
قوله نجسا أي كافراً لقول الله تعالى (إنما المشركون نجس).
الوجه الثالث أن يقال إن حديث أبي هريرة رضي الله عنه قد رواه أبو داود الطيالسي وأبو داود السجستاني وابن حبان في صحيحه والبيهقي في سننه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من غسَّل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ» وقد روى الإِمام أحمد وابن ماجه منه قوله «من غسل ميتا فليغتسل» وإسناد كل منهما صحيح، ورواه الترمذي ولفظه «من غسله الغسل ومن حمله الوضوء» يعني الميت، قال الترمذي حديث حسن، وقد روي عن أبي هريرة موقوفا قال وفي الباب عن علي وعائشة.
قلت أما حديث علي رضي الله عنه فرواه الشافعي وأحمد وأبو داود الطيالسي وابن أبي شيبة وأبو داود السجستاني والنسائي وعبد الله بن الإِمام أحمد في زوائد المسند وأبو يعلى والبزار والبيهقي قال لما توفي أبو طالب أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت إن عمك الشيخ قد مات قال اذهب فواره ثم لا تحدث شيئا حتى تأتيني قال فواريته ثم أتيته قال اذهب فاغتسل ثم لا تحدث شيئا حتى تأتيني قال فاغتسلت ثم أتيته قال فدعا لي بدعوات ما يسرني أن لي بها حمر النعم وسودها، قال وكان علي إذا غسل الميت اغتسل، هذا لفظ أحمد في إحدى الروايتين ولفظ ابنه عبد الله
قال الحافظ ابن حجر في التلخيص مدار كلام البيهقي على أنه ضعيف ولا يتبين وجه ضعفه وقد قال الرافعي إنه حديث ثابت مشهور انتهى.
وأما حديث عائشة رضي الله عنها فرواه الإِمام أحمد وأبو داود وابن خزيمة في صحيحه والدارقطني والحاكم في مستدركه والبيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يغتسل من أربع من الجنابة ويوم الجمعة ومن الحجامة وغسل الميت» هذا لفظ أبي داود، وعند ابن خزيمة والحاكم قال «يغتسل من أربع» وعند الدارقطني «الغسل من أربع» وذكرها، قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه، وفيما قالاه نظر لأن في إسناد الحديث مصعب بن شيبة الحجبي ولم يخرج له البخاري وإنما خرج له مسلم وحده فالحديث على شرط مسلم وليس على شرط البخاري.
وفي الباب أيضاً عن أبي سعيد وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهما ذكره عنهما البيهقي في سننه، وفي الباب أيضا عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه رواه الإِمام أحمد في مسنده.
وقد قال الحافظ بن حجر في التلخيص في الكلام على حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفي الجملة هو بكثرة طرقه أسوأ أحواله أن يكون حسنا فإِنكار النووي على الترمذي تحسينه معترض وقد قال الذهبي في مختصر البيهقي طرق هذا الحديث أقوى من عدة أحاديث احتج بها الفقهاء ولم يعلوها بالوقف بل قدموا رواية الرفع انتهى. وقد مال الحافظ ابن حجر إلى أن الأمر فيه للندب، وذكر ابن القيم رحمه الله تعالى في «تهذيب السنن» لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أحد عشر طريقا. ثم قال وهذه الطرق تدل على أن الحديث محفوظ، قال وهذه المسألة فيها ثلاثة مذاهب أحدها أن الغسل لا يجب على غاسل الميت وهذا قول الأكثرين الثاني أنه يجب وهذا اختيار الجوزجاني ويروى عن ابن المسيب وابن سيرين والزهري وهو قول أبي هريرة ويروى عن علي رضي الله عنه، الثالث وجوبه من غسل الميت الكافر دون المسلم وهو رواية عن الإِمام أحمد لحديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالغسل انتهى.
قلت وأرجح الأقوال أن الأمر للندب والله أعلم.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (60) وصفحة (61) ما نصه:
رأي أبو حنيفة وهو أقرب الأئمة من عصر الصحابة وفتواه في قضية الحديث وفي أبي هريرة، روى أبو يوسف قال قلت لأبي حنيفة الخبر يجيئني عن رسول الله يخالف قياسنا ما نصنع به فقال إذا جاءت به الرواة الثقات عملنا به وتركنا الرأي فقلت ما تقول في رواية أبي بكر وعمر، قال ناهيك بهما فقلت وعلي وعثمان قال كذلك فلما رآني أعد الصحابة قال والصحابة كلهم عدول ما عدا رجالا وعد منهم أبا هريرة وأنس بن مالك.
هذا هو رأي أبو حنيفة المولود سنة 80 هـ والمتوفى 150 هـ وهو أقرب الأئمة إلى زمن الصحابة ولجلال قدره سمي بالإِمام الأعظم، وعلته في أنس أنه اختلط في آخر عمره بفاعلية السن والله أعلم بنيته وقصده، والتحقيق المفصل في ص 205 من أضواء على السنة.
والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال هكذا قال المؤلف «رأي أبو حنيفة» في موضعين وصوابه «رأي أبي حنيفة» ولو أن المؤلف أقبل على تعلم النحو حتى يعرف الفرق بين المرفوع والمخفوض ويتجنب اللحن في كتاباته لكان خيراً له من الاشتغال بسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والطعن فيهم بأكاذيب الروافض وأشباه الروافض ممن ليس لهم دين يحجزهم عن البهتان وقول الزور.
الوجه الثاني أن يقال لا خلاف بين أهل السنة والجماعة أن الصحابة كلهم عدول، قال النووي كلهم مقطوع بعدالتهم عند من يعتد بهم من علماء المسلمين انتهى، وقد ذكرت قريباً ما ذكره الحاكم في المستدرك عن الإِمام محمد بن إسحاق بن خزيمة أنه قال إنما يتكلم في أبي هريرة لدفع أخباره من قد أعمى الله قلوبهم فلا يفهمون معاني الأخبار وهم إما معطل جهمي وإما خارجي أو قدري أو جاهل مقلد بلا حجة ولا برهان.
قلت وكذلك لا يتكلم في أنس بن مالك وغيره من الصحابة رضي الله عنهم إلا أناس قد أعمى الله قلوبهم من أهل الزيغ والضلال ومن يقلدهم من جهلة العصريين، وقد قال الحافظ ابن حجر في «تهذيب التهذيب» وقال الأنصاري حدثنا ابن عون عن موسى بن أنس أن أبا بكر رضي الله عنه لما استخلف بعث إلى أنس بن
مالك رضي الله عنه ليوجهه إلى البحرين على السعاية قال فدخل عليه عمر رضي الله عنه فقال إني أردت أن أبعث هذا إلى البحرين على السعاية وهو فتى شاب فقال ابعثه فإِنه لبيب كاتب قال فبعثه انتهى. وقال ابن كثير في «البداية والنهاية» وقد استعمله أبو بكر ثم عمر على عمالة البحرين وشكراه في ذلك انتهى.
وفي هذا أبلغ رد على من طعن في عدالة أنس بن مالك رضي الله عنه لأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بعثاه على السعاية وائتمناه عليها وشكراه في ذلك وكفى بذلك تعديلا له ورداً على من طعن في عدالته.
الوجه الثالث قال العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في كتابه «الأنوار الكاشفة» في الرد على أبي رية فيما ذكره عن أبي يوسف أنه روى عن أبي حنيفة ما تقدم ذكره.
«أقول لم يذكر مصدره وهذه عادته (الحميدة) في تدليس بلاياه» .
هكذا قال المعلمي «عادته الحميدة» وهذا من باب التهكم بأبي رية، والأولى أن يقال «عادته الخبيثة» لأن هذه الصفة مطابقة لأبي رية وعاداته غاية المطابقة، قال المعلمي «ثم وجدت مصدره وهو شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1/ 360 عن أبي جعفر الإِسكافي، ولا ريب أن هذا لا يصح عن أبي يوسف ولا أبي حنيفة، ،المعروف عنهما وعن أصحابهما في كتب العقائد والأصول وغيرها ما عليه سائر أهل السنة أن الصحابة كلهم عدول، وإنما يقول بعضهم إن فيهم من ليس بفقيه أو مجتهد، قال ابن الهمام في التحرير «يقسم الراوي الصحابي إلى مجتهد كالأربعة والعبادلة فيقدم على القياس مطلقا، وعدل ضابط كأبي هريرة وأنس وسلمان وبلال فيقدم، إلا إن خالف كل الأقيسة على قول عيسى والقاضي أبو زيد» ثم قال بعد ذلك «وأبو هريرة مجتهد» كما تقدم، وغير عيسى وأبي زيد ومن تبعه يرون تقديم الخبر مطلقا».
وقال المعلمي أيضاً «وابن أبي الحديد من دعاة الاعتزال والرفض والكيد للإِسلام، وحاله مع ابن العلقمي الخبيث معروفة، والإِسكافي من دعاة المعتزلة والرفض أيضاً في القرن الثالث، ومثل هذه الحكايات الطائشة توجد بكثرة عند الرافضة والناصبة وغيرهم بما فيه انتقاص لأبي بكر وعمر وعلي وعائشة غيرهم وإنما يتشبث بها من لا يعقل، وقد ذكر ابن أبي الحديد 1/ 360 أشياء عن الإِسكافي من
الطعن في أبي هريرة وغيره من الصحابة وذكر من ذلك شيئا من مزاح أبي هريرة فقال ابن أبي الحديد «قلت قد ذكر ابن قتيبة هذا كله في كتاب المعارف في ترجمة أبي هريرة وقوله فيه حجة لأنه غير متهم عليه» وفي هذا إشارة إلى أن الإِسكافي متهم، ونحن كما لا نتهم ابن قتيبة قد لا نتهم الإِسكافي باختلاق الكذب ولكن نتهمه بتلقف الأكاذيب من أفاكي أصحابه الرافضة والمعتزلة، وأهل العلم لا يقبلون الأخبار المنقطعة ولو ذكرها كبار أئمة السنة، فما بالك بما يحكيه ابن أبي الحديد عن الإِسكافي عمن تقدمه بزمان» انتهى.
وأما قوله وعلته أنه اختلط في آخر عمره بفاعلية السن
فجوابه أن أقول إني لم أر أحداً ممن ترجم لأنس رضي الله عنه ذكر أنه اختلط في آخر عمره، فما زعمه المؤلف تبعاً لأبي رية لا شك أنه كذب مفترى إما من أبي رية وإما من بعض أهل الزيغ والضلال من الرافضة وأشباههم ممن ينقل عنهم أبو رية ويعتمد على أكاذيبهم وترهاتهم.
وقد روى البخاري في التاريخ الكبير عن قتادة قال لما مات أنس بن مالك رضي الله عنه قال مورق ذهب اليوم نصف العلم، قيل كيف ذاك يا أبا المعتمر قال كان الرجل من أهل الأهواء إذا خالفنا في الحديث قلنا تعال إلى من سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت وهذا يدل على أن أنساً رضي الله عنه لم يزل ممتعا بالعقل إلى أن مات.
وأما قوله والتحقيق المفصل في ص 205 من أضواء على السنة.
فجوابه أن يقال إن المؤلف قد أحال القراء على غير مليء. فليس في كتاب أبي رية شيء من التحقيق البتة وليس فيه شيء من الأضواء على السنة وإنما فيه المعارضة للسنة والاستخفاف بالأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ونبذها واطراحها فهو في الحقيقة جهالات وضلالات وظلمات بعضها فوق بعض، فلا يغتر به ويصغي إليه إلا من هو من أجهل خلق الله وأشدهم غباوة.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (61) ما نصه
دهاء كعب أوقع أبا هريرة، وإليك المثال. روى الذهبي في طبقات
الحفاظ في ترجمة أبي هريرة أن كعباً قال فيه ما رأيت أحداً لم يقرأ التوراة أعلم بما فيها من أبي هريرة، فكيف يعرفها ويعرف ما فيها وهي عبرية مع أنه كان لا يقرأ عبريا حتى ولا عربيا. ص 207 من أضواء على السنة.
والجواب أن يقال إن كثيراً من شرار العصريين قد تحاملوا على كعب الأحبار تحاملا قبيحا حتى إن أبا رية قال فيه إنه أظهر الإِسلام خداعا وطوى قلبه على يهوديته، هكذا قال أبو رية في ظلماته، ولو كان عنده أدنى شيء من التقوى والورع لما رمى رجلا مسلماً باليهودية. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «من دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه» متفق عليه من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وفي الصحيحين أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وفي صحيح البخاري أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه نحو ذلك أيضاً، وفي صحيح ابن حبان عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه أيضا.
قوله حار عليه أي رجع ذلك على القائل.
وقد زعم أبو رية أن كعباً كان ذا مكر وخداع وأن أبا هريرة رضي الله عنه كان أكثر الصحابة انخداعاً به، وهذا من بهتان أبي رية وترهاته وقد قال الشاعر وأحسن فيما قال:
إذا رزق الفتى وجها وقاحاً
…
تقلب في الوجوه كما يشاء
وهذا البيت مطابق لحال المؤلف وأبي رية غاية المطابقة
وأما ما نقله المؤلف من كتاب أبي رية ونقله أبو رية من طبقات الحفاظ للذهبي ففي إسناده عمران القطان وقد ضعفه النسائي وأبو داود في رواية عنه وقال ابن معين ليس بشيء وقال الدارقطني كان كثير المخالفة والوهم. قال العلامة المحقق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في رده على أبي رية، عمران القطان ضعيف ولا يتحقق سماعه من بكر - يعني ابن عبد الله المزني - وفي القرآن والسنة قصص كثيرة مذكورة في التوراة الموجودة بأيدي أهل الكتاب الآن فإِذا تتبعها أبو هريرة وصار يذكرها لكعب كان ذلك كافيا لأن يقول كعب تلك الكلمة. ففيم التهويل الفارغ انتهى.
وأما قوله فكيف يعرفها ويعرف ما فيها وهي عبرية مع أنه كان لا يقرأ عبريا حتى ولا عربيا.
فجوابه أن يقال إنما كان أبو هريرة رضي الله عنه يحدث كعباً بما جاء في القرآن وما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ أهل عصره لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كثير يوافق ما جاء في التوراة، فماذا ينكر أعداء السنة على أبي هريرة إذا حديث كعبا بالأحاديث التي توافق ما جاء في التوراة وقال له كعب ما قال، وقد تقدم أن أبا هريرة رضي الله عنه لما حدث كعبا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ساعة الإِجابة يوم الجمعة قال كعب هي في السنة مرة فرد عليه أبو هريرة رضي الله عنه وقال بل هي في كل جمعة فقرأ كعب التوراة ثم قال صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم هو في كل جمعة، رواه مالك وأبو داود والترمذي والنسائي والحاكم وصححه الترمذي والحاكم وقال على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في تلخيصه.
فهذا نموذج من الأحاديث التي توافق ما جاء في التوراة وبه يرد على من يطعن على أبي هريرة رضي الله عنه.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (61) ما نصه
أبو هريرة يعترف بخديعة اليهود، روى البخاري عن أبي هريرة قال كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها لأهل الإِسلام بالعربية، ومعروف أنه لو كان يعرف العبرانية لقال وكنت من الذين يفسرون التوراة.
والجواب أن يقال لم يأت من طريق صحيح ولا ضعيف أن أبا هريرة رضي الله عنه انخدع بشيء من أكاذيب اليهود ولا أنه كان يعتمد على أخبارهم وإنما كان يعتمد على ما جاء في القرآن وما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم بدون واسطة أو بواسطة بعض الصحابة رضي الله عنهم، هذا هو المعروف عن أبي هريرة رضي الله عنه وعن غيره من الصحابة رضي الله عنهم.
وليس في قوله كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإِسلام ما يدل على أن أبا هريرة رضي الله عنه انخدع باليهود كما قد
يوهمه ظاهر كلام المؤلف. وإنما الأمر في ذلك بالعكس وهو أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يرى التوقف في أخبار أهل الكتاب لأنها تحتمل الصدق والكذب ولهذا عقب ذلك بما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا (آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم)» .
وأما قوله ومعروف أنه لو كان يعرف العبرانية لقال وكنت من الذين يفسرون التوراة.
فجوابه أن يقال لم يكن أبو هريرة رضي الله عنه يحدث عن التوراة وإنما كان يحدث بما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أشياء توافق ما في التوراة فإِذا حدث بها أبو هريرة رضي الله عنه أو غيره من الصحابة رضي الله عنهم لم يكن محدثا عن التوراة كما لا يخفى على عاقل.
ولا يخفى أيضاً ما في كلام المؤلف من التجني على أبي هريرة رضي الله عنه وإلصاق العيوب به مع أنه كان بريئا منها فالله يجازيه على ذلك بعدله.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (61) ما نصه
اتفاق أبو هريرة وكعب في خرافة الشمس والقمر، روى البزار عن أبي هريرة أن النبي - ص - قال إن الشمس والقمر ثوران في النار يوم القيامة فقال الحسن وما ذنبهما فقال أحدثك عن رسول الله وتقول ما ذنبهما، وهذا الكلام نفسه قاله كعب الأحبار بنصه فقد روى أبو يعلى الموصلي قال كعب الأحبار يجاء بالشمس والقمر يوم القيامة كأنهما ثوران عقيران فيقذفان في جهنم يراهما من عبدهما (ص 222 حياة الحيوان).
والجواب أن يقال أما قوله «اتفاق أبو هريرة» فصوابه «اتفاق أبي هريرة» وأما قوله في خرافة الشمس والقمر.
فجوابه أن يقال إن المخرف في الحقيقة من يرد الأحاديث الصحيحة بغير حجة قاطعة، ولا شك أن المؤلف وأبا رية أولى بوصف التخريف لما في كلامهما من الجراءة على نبذ الأحاديث الصحيحة واطراحها بأساليب من الهوس، فكلامهما في رد الأحاديث الصحيحة يشبه كلام المخرفين الذين يتكلمون من غير شعور.
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد رواه البزار عن إبراهيم بن زياد البغدادي حدثنا يونس بن محمد حدثنا عبد العزيز بن المختار عن عبد الله الداناج قال سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن زمن خالد بن عبد الله القسري في هذا المسجد مسجد الكوفة وجاء الحسن فجلس إليه فحدث قال حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الشمس والقمر ثوران في النار عقيران يوم القيامة» فقال الحسن وما ذنبهما، فقال أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول وما ذنبهما إسناده صحيح على شرط مسلم، وقد أسقط أبو رية قوله «عقيران» وجعل المراجعة بين الحسن وأبي هريرة رضي الله عنه والذي في الحديث أنها بين الحسن وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وقد تبع المؤلف أبا رية على خطئه.
وقد أخرج الإِسماعيلي هذا الحديث بمثله وقال «في مسجد البصرة» ولم يقل خالد القسري، ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري، قال وأخرجه الخطابي من طريق يونس بهذا الإِسناد فقال في زمن خالد بن عبد الله - أي ابن أسيد بفتح الهمزة - وهو أصح فإِن خالداً هذا كان قد ولي البصرة لعبد الملك قبل الحجاج بخلاف خالد القسري انتهى.
وقد رواه البخاري في صحيحه مختصرا فقال في «باب صفة الشمس والقمر» من «كتاب بدء الخلق» حدثنا مسدد حدثنا عبد العزيز بن المختار حدثنا عبد الله الداناج قال حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الشمس والقمر مكوران يوم القيامة» .
وهذا الحديث يجب الإِيمان به لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم ويجب إمراره كما جاء، وهذا مقتضى جواب أبي سلمة للحسن، قال العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في رده على أبي رية، وقول الحسن لأبي سلمة «وما ذنبهما» يمثل حال أهل العراق في استعجال النظر فيما يشكل عليهم، وجواب أبي سلمة يمثل حال علماء الحجاز في التزام ما يقضي به كمال الإِيمان من المسارعة إلى القبول والتسليم ثم يكون النظر بعد، وجوابه وسكوت الحسن يبين مقدار كمال الوثوق من علماء التابعين بأبي هريرة وثقته وإتقانه وأن ما يحكى مما يخالف ذلك إنما هو من اختلاق أهل البدع، وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف من كبار أئمة التابعين بالمدينة مكثر الرواية عن الصحابة كأبي قتادة وأبي الدرداء وعائشة وأم سلمة وابن عمر وأبي هريرة، فهو
من أعلم الناس بحال أبي هريرة في نفسه وعند سائر الصحابة رضي الله عنهم انتهى.
وقد قال أبو داود الطيالسي في مسنده حدثنا درست عن يزيد بن أبان الرقاشي عن أنس رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم «أن الشمس والقمر ثوران عقيران في النار» .
درست ويزيد الرقاشي ضعيفان
وقد رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده عن موسى بن محمد بن حيان - وهو ضعيف - عن درست بن زياد عن يزيد الرقاشي عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً بمثله، قال الهيثمي في مجمع الزوائد فيه ضعفاء قد وثقوا انتهى.
قلت وحديث أبي هريرة رضي الله عنه يشهد له ويقويه
وروى ابن أبي حاتم بإِسناد ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال «يكور الله الشمس والقمر والنجوم يوم القيامة في البحر ويبعث ريحا دبوراً فيضرمها ناراً» وكذا ذكر البغوي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال ابن كثير وكذا قال عامر الشعبي.
وروى ابن أبي حاتم أيضاً عن الشعبي أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) وجهنم هو هذا البحر الأخضر تنتثر الكواكب فيه وتكور فيه الشمس والقمر ثم يوقد فيكون هو جهنم».
وأخرج ابن وهب في «كتاب الأهوال» عن عطاء بن يسار في قوله تعالى (وجمع الشمس والقمر) قال يجمعان يوم القيامة ثم يقذفان في النار. ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري، قال ولابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه موقوفا أيضاً. قال الخطابي ليس المراد بكونهما في النار تعذيبهما بذلك ولكنه تبكيت لمن كان يعبدهما في الدنيا ليعلموا أن عبادتهم لهما كان باطلاً، وقيل إنهما خلقا من النار فأعيدا فيها، وقال الإِسماعيلي لا يلزم من جعلهما في النار تعذيبهما فإِن لله في النار ملائكة وحجارة وغيرها لتكون لأهل النار عذاباً وآلة من آلات العذاب وما شاء الله من ذلك فلا تكون هي معذبة، وقال أبو موسى المديني في «غريب الحديث» لما وصفا بأنهما يسبحان في قوله (كل في فلك يسبحون) وإن كل من عُبد من دون الله إلا من سبقت له الحسنى يكون في النار وكانا في النار يعذب بهما أهلهما بحيث لا يبرحان منها فصارا كأنهما ثوران عقيران انتهى.
وأما قوله وهذا الكلام نفسه قاله كعب الأحبار بنصه فقد روى أبو يعلى الموصلي قال كعب الأحبار يجاء بالشمس والقمر يوم القيامة كأنهما ثوران عقيران فيقذفان في جهنم يراهما من عبدهما (ص 222 حياة الحيوان).
فجوابه أن يقال إن الذي ذكر صاحب «حياة الحيوان» أنه رواه أبو يعلى الموصلي هو حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وتقدم ذكره، ثم قال صاحب «حياة الحيوان» بعده وقال كعب الأحبار يجاء بالشمس والقمر إلى آخره، فذكره بدون إسناد ولم يذكر من خرجه. ومع هذا فقد ألحقه حاطب الليل أبو رية بحديث أنس رضي الله عنه وجعله مروياً بإِسناده، وهذا من قلة الأمانة أو عدمها، وقد تبعه المؤلف على إيهامه وتضليله.
وهذا الأثر غير ثابت عن كعب الأحبار، ولو ثبت لم يخل من أحد أمرين إما أن يكون أخذه عن أبي هريرة رضي الله عنه أو عن غيره من الصحابة رضي الله عنهم، وإما أن يكون أخذه من كتب أهل الكتاب مما هو موافق لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ضير على أبي هريرة رضي الله عنه ولا على غيره من الصحابة رضي الله عنهم إذا روى أحدهم عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا وروى كعب الأحبار ما يوافق ذلك من كتب أهل الكتاب.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (61) وصفحة (62) ما نصه
أبو هريرة وكعب الأحبار في خرافة الديك تحت العرش
روى الحاكم في المستدرك والطبراني ورجاله رجال الصحاح عن أبي هريرة أن النبي - ص - قال إن الله أذن لي أن أحدث عن ديك رجلاه في الأرض وعنقه مثبتة تحت العرش وهو يقول سبحانك ما أعظم شأنك قال فيرد عليه ما يعلم ذلك من حلف بي كاذباً، وهذا الحديث من قول كعب، نصه إن لله ديكا عنقه تحت العرش وبراثنه في أسفل الأرض فإِذا صاح صاحت الديكة سبحان القدوس الملك الرحمن لا إله غيره (ص 220 جـ 10 نهاية الأدب النويري).
والجواب أن يقال هذا الكلام نقله المؤلف من كتاب أبي رية وقد غير فيه بعض الكلمات، فمنها قوله «رجال الصحاح» وصوابه «رجال الصحيح» ومنها قوله
«وعنقه مثبتة تحت العرش» وكذلك هو في كتاب أبي رية» وصوابه «وعنقه مثنية تحت العرش» ومنها قوله «نهاية الأدب» بالدال وصوابه «نهاية الأرب» بالراء.
وقد ذكرت قريبا أن الأولى بوصف التخريف من يرد الأحاديث الصحيحة بغير حجة قاطعة كالمؤلف وأبي رية وأشباههما من أعداء السنة.
وأما قوله روى الحاكم في المستدرك والطبراني ورجاله رجال الصحيح عن أبي هريرة إلى آخره.
فجوابه أن يقال حديث أبي هريرة رضي الله عنه ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» وقال رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح إلا أن شيخ الطبراني محمد بن العباس بن الفضل بن سهيل الأعرج لم أعرفه انتهى.
وقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه «المنار المنيف» كل أحاديث الديك كذب إلا حديثاً واحداً «إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله فإِنها رأت ملكا» .
قلت وقد صح أيضا حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه في النهي عن سب الديك.
وأما قوله وهذا الحديث من قول كعب إلى آخره.
فجوابه أن يقال قد عزاه أبو رية إلى نهاية الأرب للنويري ولم يذكر له إسناداً ولا ذكر من خرجه، وما ليس له إسناد صحيح فلا يعتد به في شيء.
وقد قال العلامة المحقق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في رده على أبي رية، أقول عزا هذا إلى نهاية الأرب للنويري، والنويري أديب من أهل القرن السابع، ولا يدرى من أين أخذ هذا، أما عن أبي هريرة فهو من طريق إسرائيل عن معاوية بن إسحاق عن سعيد المقبري عن أبي هريرة، ومعاوية لم يخرج له مسلم وأخرج له البخاري حديثاً واحداً متابعة وقد قال فيه أبو زرعة شيخ واه ووثقه بعضهم، والمقبري اختلط قبل موته بأربع سنين، ولفظ الخبر مع ذلك مخالف لما نسبه النويري إلى كعب انتهى باختصار.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (62) ما نصه
أبو هريرة وكعب في قصة يأجوج ومأجوج، ونصه كما رواه أحمد عن أبي هريرة إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذين عليهم ارجعوا فستحفرونه غداً فيعودون الخ وروى أحمد هذا الحديث عن كعب، قال ابن كثير لعل أبا هريرة تلقاه من كعب فإِنه
كان كثيراً ما يجالسه ويحدثه، وقد بين ابن كثير في مواضع كثيرة من تفسيره ما أخذه أبو هريرة من كعب، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة إن الله خلق آدم على صورته، وهذا الكلام قد جاء في الإصحاح الأول من التوراة (العهد القديم) ونصه هناك وخلق الإنسان على صورته، على صورة الله، ولما ذكر كعب صفة النبي - ص - في التوراة قال أبو هريرة في صفته - ص -لم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا سخايا في الأسواق، وهذا هو نص كلام كعب.
والجواب أن يقال هذا مما نقله المؤلف من كتاب أبي رية، فأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر يأجوج ومأجوج وأنهم يحفرون السد كل يوم فقد رواه الإِمام أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه مختصراً والحاكم في مستدركه وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في تلخيصه، وقال ابن كثير في تفسيره إسناده جيد قوي ولكن متنه في رفعه نكارة لأن ظاهر الآية يقتضي أنهم لم يتمكنوا من ارتقائه ولا من نقبه لإِحكام بنائه وصلابته وشدته.
قلت ما جاء في الحديث لا ينافي ظاهر الآية لأن يأجوج ومأجوج وإن كانوا يحفرون السد كل يوم فإِنهم لم يتمكنوا من نقبه ولا من ارتقائه.
قال ابن كثير ولكن هذا قد روي عن كعب الأحبار أنهم قبل خروجهم يأتونه فيلحسونه حتى لا يبقى منه إلا القليل فيقولون غداً نفتحه فيأتون من الغد وقد عاد كما كان فيلحسونه حتى لا يبقى منه إلا القليل فيقولون كذلك فيصبحون وهو كما كان فيلحسونه ويقولون غداً نفتحه ويلهمون أن يقولون إن شاء الله فيصبحون وهو كما فارقوه فيفتحونه، قال ابن كثير وهذا متجه، ولعل أبا هريرة تلقاه من كعب فإِنه كان كثيراً ما يجالسه ويحدثه فحدث به أبو هريرة فتوهم بعض الرواة عنه أنه مرفوع فرفعه انتهى.
وفي قوله ولعل أبا هريرة تلقاه من كعب نظر من وجهين أحدهما أن سياق الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه مغاير لسياق خبر كعب الثاني أنه قال في آخر الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه «والذي نفس محمد بيده» وهذا يدل على أنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم لا من قول كعب والله أعلم.
ولو قيل إن كعبا تلقاه من أبي هريرة أو غيره من الصحابة رضي الله عنهم لكان أقرب إلى الصواب لأن خبر كعب قد احتوى على أشياء كثيرة قد جاء ذكرها في حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه وهو في صحيح مسلم، وقد جاء بعض ذلك في غيره من الأحاديث المرفوعة، وقد ذكرتها في «إتحاف الجماعة» في ذكر يأجوج ومأجوج فلتراجع هناك، وقد يكون كعب أخذ ذلك من كتب أهل الكتاب مما هو موافق لما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله وروى أحمد هذا الحديث عن كعب.
فجوابه أن يقال هذا من أكاذيب أبي رية وقد تلقاه المؤلف عن أبي رية بالقبول، وقد ساق ابن كثير خبر كعب في تفسير سورة الأنبياء وقال رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث معمر عن غير واحد عن حميد بن هلال عن أبي الضيف قال قال كعب إذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج حفروا حتى يسمع الذين يلونهم قرع فؤسهم. إلى آخر الخبر، ومن أحب الوقوف عليه فليراجعه في تفسير سورة الأنبياء من تفسير ابن جرير وتفسير ابن كثير.
وأما قوله وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة إن الله خلق آدم على صورته، وهذا الكلام قد جاء في الإِصحاح الأول من التوراة (العهد القديم) ونصه هناك وخلق الإِنسان على صورته، على صورة الله.
فجوابه أن يقال أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه «إن الله خلق آدم على صورته» فهو حديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد اتفق البخاري ومسلم على إخراجه في صحيحيهما، ولا يطعن فيه أو يشك في ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا مكابر معاند.
وأما قوله وهذا الكلام قد جاء في الإِصحاح الأول من التوراة ونصه وخلق الإِنسان على صورته.
فجوابه أن يقال لا ضير أن يجيء عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما جاء في التوراة فإِن الذي أنزل التوراة على موسى عليه الصلاة والسلام هو الذي أنزل السنة على محمد صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى (وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، علمه شديد القوى) وقال تعالى (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور).
وأما قوله على صورة الله
فجوابه أن يقال قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك قال عبد الله بن الإِمام أحمد في كتاب السنة حدثني أبو معمر حدثنا جرير عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تقبحوا الوجه فإِن الله خلق آدم على صورة الرحمن» إسناده صحيح على شرط الشيخين، وقد رواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة فقال أخبرنا أبو محمد عبد الله بن صالح البخاري قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم المروزي قال حدثنا جرير بن عبد الحميد عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تقبحوا الوجه فإِن ابن آدم خلق على صورة الرحمن عز وجل» إسناده صحيح أبو محمد عبد الله بن صالح البخاري قال فيه أبو علي الحافظ ثقة مأمون وقال أبو بكر الإِسماعيلي ثقة ثبت وقال أبو الحسين بن المنادي هو أحد الثقات وأهل الصلاح والفهم لما يحدث به، وبقية رجاله رجال الصحيح.
وقال عبد الله بن الإِمام أحمد أيضاً حدثني أبو بكر الصاغاني حدثنا أبو الأسود - وهو النضر بن عبد الجبار - حدثنا ابن لهيعة عن أبي يونس - وهو سليم بن جبير السدوسي مولى أبي هريرة - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه فإِنما صورة الإِنسان على وجه الرحمن» ابن لهيعة ضعفه بعض الأئمة وحسن بعضهم حديثه، وقد روى له مسلم مقرونا بآخر وبقية رجاله ثقات، وحديث ابن عمر المذكور قبله يشهد له ويقويه، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري ما جاء في حديث أبي هريرة «إن الله خلق آدم على صورة الرحمن» ثم قال أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة»
والطبراني من حديث ابن عمر بإِسناد رجاله ثقات، وأخرجه ابن أبي عاصم أيضاً من طريق أبي يونس عن أبي هريرة بلفظ «من قاتل فليجتنب الوجه فإِن صورة وجه الإِنسان على صورة وجه الرحمن» فتعين إجراء ما في ذلك على ما تقرر بين أهل السنة من إمراره كما جاء من غير اعتقاد تشبيه، قال وقال حرب الكرماني في «كتاب السنة» سمعت إسحاق بن راهويه يقول صح أن الله خلق آدم على صورة الرحمن، قال إسحاق الكوسج سمعت أحمد يقول هو حديث صحيح، وقال الطبراني في «كتاب السنة» حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال قال رجل لأبي إن رجلاً قال خلق الله آدم على صورته أي صورة الرجل فقال كذب هو قول الجهمية انتهى كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله.
وقال أبو جعفر محمد بن علي الجرجاني المعروف بحمدان سألت أبا ثور عن قول النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله خلق آدم على صورته» فقال على صورة آدم، وكان هذا بعد ضرب احمد بن حنبل والمحنة فقلت لأبي طالب قل لأبي عبد الله فقال لي أبو طالب قال لي أبو عبد الله صح الأمر على أبي ثور، من قال إن الله خلق آدم على صورة آدم فهو جهمي، وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلقه.
وقال زكريا بن الفرج سألت عبد الوهاب - يعني الوراق - غير مرة عن أبي ثورة فأخبرني أن أبا ثور جهمي وذلك أنه قطع بقول أبي يعقوب الشعراني حكى أنه سأل أبا ثور عن خلق آدم على صورته فقال إنما هو صورة آدم ليس هو على صورة الرحمن، قال زكريا فقلت بعد ذلك لعبد الوهاب ما تقول في أبي ثور قال ما أدين الله فيه إلا بقول أحمد بن حنبل يهجر أبو ثور ومن قال بقوله، قال زكريا وقلت لعبد الوهاب مرة أخرى وقد تكلم قوم في هذه المسألة خلق الله آدم على صورته فقال من لم يقل إن الله خلق آدم على صورة الرحمن فهو جهمي.
وقال أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة هذه من السنن التي يجب على المسلمين الإِيمان بها ولا يقال فيها كيف ولم، بل تستقبل بالتسليم والتصديق وترك النظر كما قال من تقدم من أئمة المسلمين، حدثنا أبو نصر محمد بن كردي قال حدثنا أبو بكر المرودي قال سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله عن الأحاديث التي تردها الجهمية في الصفات والأسماء والرؤية وقصة العرش فصححها وقال تلقتها العلماء بالقبول تسلم الأخبار كما جاءت.
وقال أبو بكر المروذي وأرسل أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة إلى أبي عبد الله يستأذنانه في أن يحدثا بهذه الأحاديث التي تردها الجهمية فقال أبو عبد الله حدثوا بها فقد تلقتها العلماء بالقبول، وقال أبو عبد الله تسلم الأخبار كما جاءت.
قال محمد بن الحسين الآجري سمعت أبا عبد الله الزبيري وقد سئل عن معنى هذا الحديث فذكر مثل ما قيل فيه، ثم قال أبو عبد الله نؤمن بهذه الأخبار التي جاءت كما جاءت ونؤمن بها إيمانا ولا نقول كيف ولكن ننتهي في ذلك إلى حيث انتهى بنا فنقول في ذلك ما جاءت به الأخبار كما جاءت انتهى.
وأما قوله ولما ذكر كعب صفة النبي - ص - في التوراة قال أبو هريرة في صفته لم يكن فاحشا - ص -ولا متفحشا ولا سخابا في الأسواق وهذا هو نص كلام كعب.
فجوابه أن يقال أما كعب الأحبار فقد أخبر عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، وأما أبو هريرة رضي الله عنه فقد أخبر عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما شاهده منه وليس نص الخبرين سواء، فأما خبر كعب فرواه ابن سعد في الطبقات والدارمي في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سأل كعب الأحبار كيف تجد نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال نجده محمد بن عبد الله مولده بمكة ومهاجره إلى طابه ويكون ملكه بالشام ليس بفحاش ولا بصخاب في الأسواق ولا يكافئ بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر. وروى ابن سعد والدارمي أيضاً عن أبي صالح قال قال كعب إن نعت محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة محمد عبدي المختار لافظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر مولده بمكة ومهاجره بالمدينة وملكه بالشام.
وروى ابن سعد أيضاً عن أبي عبد الله الجدلي عن كعب قال إنا نجد في التوراة محمد النبي المختار لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة لكن يعفو ويغفر.
وقد ثبت عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه أخبر عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة ووافقه كعب الأحبار على ذلك، فروى الإِمام أحمد والبخاري من طريق فليح بن سليمان عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار قال لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه
وسلم في التوراة فقال أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن. يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله فيفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا، زاد أحد قال عطاء فلقيت كعبا فسألته فما اختلفا في حرف إلا أن كعبا يقول بلغته أعينا عمومى وآذانا صمومى وقلوبا غلوفى.
وقد رواه ابن سعد في الطبقات وابن جرير في تفسيره بنحو رواية أحمد وروى الدارمي من طريق سعيد بن أبي هلال عن هلال بن أسامة - وهو هلال بن علي بن أسامة - عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه نحو رواية البخاري وزاد قال عطاء بن يسار وأخبرني أبو واقد الليثي أنه سمع كعبا يقول مثل ما قال ابن سلام، وقد ذكره البخاري في «باب كراهية السخب في الأسواق» من كتاب البيوع تعليقا فقال وقال سعيد عن هلال عن عطاء عن ابن سلام، ورواه ابن سعد عن زيد بن أسلم قال بلغنا أن عبد الله بن سلام كان يقول إن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، ثم ذكره بنحو ما تقدم في رواية البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ثم قال فبلغ ذلك كعبا فقال صدق عبد الله بن سلام إلا أنها بلسانهم أعينا عموميين وآذانا صموميين وقلوبا غلوفيين.
وأما خبر أبي هريرة رضي الله عنه فقال الإِمام أحمد في مسنده حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا ابن أبي ذئب، وروح قال حدثنا ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة قال سمعت أبا هريرة ينعت النبي صلى الله عليه وسلم فقال «كان شبح الذراعين أهدب أشفار العينين بعيد ما بين المنكبين يقبل إذا أقبل جميعا ويدبر إذا أدبر جميعا» قال روح في حديثه «بأبي وأمي لم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا سخابا بالأسواق» ورواه يعقوب بن سفيان عن آدم وعاصم بن علي عن ابن أبي ذئب فذكره بنحوه، وهذا الحديث صحيح لأن صالحا مولى التوأمة قال فيه ابن معين ثقة حجة سمع منه ابن أبي ذئب قبل أن يخرف ومن سمع منه قبل أن يختلط فهو ثبت، وقال بن عدي لا بأس برواية القدماء عنه كابن أبي ذئب وابن جريح، وبقية رجالهما رجال الصحيح.
وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها نحو ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أبو داود الطيالسي في مسنده حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال سمعت أبا عبد الله الجدلي يقول سألت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم فقالت «لم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا سخابا في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح أو قالت يعفو ويغفر» شك أبو داود، ورواه الترمذي وقال حسن صحيح، ورواه ابن سعد في الطبقات وابن حبان في صحيحه كلهم من حديث أبي إسحاق عن أبي عبد الله الجدلي - واسمه عبد بن عبد وقيل عبد الرحمن بن عبد - وثقه ابن معين وقال ابن حجر في «تقريب التهذيب» ثقة من كبار الثالثة وبقية رجالهم رجال الصحيح.
وقد جاء عن علي وعبد الله بن عمرو وأنس رضي الله عنهم بعض ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه، فأما حديث علي رضي الله عنه فرواه الترمذي في الشمائل عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال قال الحسين بن علي رضي الله عنهما سألت أبي عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جلسائه فقال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم البشر سهل الخلق لين الجانب ليس بفظ ولا غيظ ولا صخاب ولا فحاش ولا عياب ولا مشاح» الحديث.
وأما حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فرواه الإِمام أحمد وأبو داود الطيالسي والبخاري ومسلم والترمذي وابن سعد عن مسروق عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «لم يك فاحشا ولا متفحشا» وكان يقول «من خياركم أحاسنكم أخلاقا» قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
وأما حديث أنس رضي الله عنه فرواه الإِمام أحمد والبخاري وابن سعد قال «لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبابا ولا لعانا ولا فاحشا» .
فهؤلاء سبعة من الصحابة كلهم أخبروا عما شاهدوه من صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينقلوا ذلك عن أهل الكتاب، فمن زعم أن أبا هريرة رضي الله عنه أخذ ذلك عن كعب الأحبار فهو مفتر كذاب.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (62) وصفحة (63) ما نصه
من عجائب روايات أبو هريرة وكلها إسرائيليات زيفت عليه. في تأريخ البصري عن أبي هريرة أن ملك الموت كان يأتي الناس عيانا حتى أتى موسى فلطمه ففقأ عينه. ومن بعد حادثة موسى صار يأتي خفيا، وروى البخاري عنه (ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع (يعني في النار). وأخرج مسلم عنه مرفوعا وزاد وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام، وهو صاحب حديث الذبابة. وروى الطبراني في الأوسط عنه عن النبي - ص - أتاني ملك برسالة من الله عز وجل ثم رفع رجله فوضعها فوق السماء والأخرى في الأرض لم يرفعها، وروى الترمذي عنه قال قال رسول الله العجوة من الجنة وفيها شفاء من السم.
والجواب أن يقال هذا مما نقله المؤلف من كتاب أبي رية، وقد وقع في عنوان المؤلف لحن وهو قوله «روايات أبو هريرة» وصوابه «روايات أبي هريرة» ووقع فيما نقله عن أبي رية تغيير في قوله «في تاريخ البصري» وصوابه «الطبري» .
فأما قوله وكلها إسرائيليات زيفت عليه
فجوابه أن يقال ليس في شيء من الأحاديث المذكورة في هذا الفصل شيء من الإسرائيليات وليس فيها شيء مزيف، وما زعمه المؤلف فهو من مجازفاته ومكابراته وجهله بالأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعدم تمييزه بينها وبين الإسرائيليات المزيفة. فالمؤلف المغرور يهرف بما لا يعرف ويتكلف ما لا علم له به، ولا يدري المسكين أن كلامه واستهتاره بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتهجمه على الصحابة رضي الله عنهم وغير ذلك مما أودعه في كتابه الخبيث وغيره كل ذلك قد أحصي عليه وسيحاسب عليه يوم القيامة قال الله تعالى (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً).
فأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن موسى عليه الصلاة والسلام لطم عين ملك الموت ففقأها فرجع الملك إلى الله تعالى فرد الله إليه عينه. الحديث فهو حديث ثابت في الصحيحين وهو مما يؤمن به أهل السنة والجماعة، وقد أنكره بعض الملاحدة والمبتدعة قديماً وحديثا، وأجاب العلماء عن الاعتراضات عليه بأجوبة
وتوجيهات ذكرها النووي في شرح مسلم والحافظ ابن حجر في فتح الباري وغيرهما من العلماء فمن أحب الوقوف عليها فليراجعها فيما أشرت إليه.
وقد قال ابن حبان في صحيحه «ذكر خبر شنع به على منتحلي سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم من حرم التوفيق لإدراك معناه» ثم قال بعد إيراده لحديث أبي هريرة رضي الله عنه في إرسال ملك الموت إلى موسى عليه الصلاة والسلام «إن الله جل وعلا أرسل ملك الموت إلى موسى رسالة ابتلاء واختبار وأمره أن يقول له أجب ربك أمر اختبار وابتلاء لا أمراً يريد الله جل وعلا إمضاءه كما أمر خليله بذبح ابنه أمر اختبار وابتلاء دون الأمر الذي أراد الله جل وعلا إمضاءه فلما عزم على ذبح ابنه وتله للجبين فداه بالذبح العظيم، وقد بعث الله جل وعلا الملائكة إلى رسله في صور لا يعرفونها كدخول الملائكة على إبراهيم ولم يعرفهم حتى أوجس منهم خيفة، وكمجيء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسؤاله إياه عن الإِسلام والإِيمان فلم يعرفه المصطفى صلى الله عليه وسلم حتى ولى فكان مجيء ملك الموت إلى موسى على غير الصورة التي كان يعرفه موسى عليه السلام عليها وكان موسى غيوراً فرأى في داره رجلاً لم يعرفه فشال يده فلطمه فأتت لطمته على فقئ عينه التي في الصورة التي يتصور بها لا الصورة التي خلقه الله عليها، ولما كان المصرح عن نبينا صلى الله عليه وسلم في خبر ابن عباس حيث قال «أمني جبريل عند البيت مرتين» فذكر الخبر وقال في آخره «هذا وقتك ووقت الأنبياء قبلك» كان في هذا الخبر البيان الواضع أن بعض شرائعنا قد يتفق مع بعض شرائع من قبلنا من الأمم، ولما كان من شريعتنا أن من فقأ عين الداخل داره بغير إذنه أو الناظر في بيته بغير أمره من غير جناح على فاعله ولا حرج على مرتكبه للأخبار الجمة الواردة فيه. كان جائزاً اتفاق هذه الشريعة وشريعة موسى بإسقاط الحرج عمن فقأ عين الداخل داره بغير إذنه فكان استعمال موسى هذا الفعل مباحا له ولا حرج عليه في فعله.
فلما رجع ملك الموت إلى ربه وأخبره بما كان من موسى فيه أمره ثانيا بأمر آخر أمر اختبار وابتلاء إذ قال الله له قل له إن شئت فضع يدك على متن ثور فلك بكل غطت يدك بكل شعره سنة، فلما علم موسى كليم الله صلى الله على نبينا وعليه أنه ملك الموت وأنه جاءه بالرسالة من عند الله طابت نفسه بالموت ولم يستمهل وقال فالآن، فلو كانت المرة الأولى عرفه موسى أنه ملك الموت لاستعمل ما استعمل في المرة الأخرى عند تيقنه وعلمه به، ضد قول من زعم أن
أصحاب الحديث حمالة الحطب ورعاة الليل يجمعون ما لا ينتفعون به ويروون ما لا يؤجرون عليه ويقولون بما يبطله الإِسلام جهلا منه بمعاني الأخبار وترك التفقه في الآثار، معتمداً في ذلك على رأيه المنكوس وقياسه المعكوس انتهى كلام ابن حبان.
وأما حديث «ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع» فهو ثابت في الصحيحين، وأهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك وبكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، بخلاف الملاحدة وأهل البدع ومن يقلدهم ويحذو حذوهم من ذوي الجهل المركب في زماننا وقبله بأزمان، فهؤلاء لا يؤمنون بكل ما يؤمن به أهل السنة والجماعة مما جاء في الأحاديث الصحيحة، وإنما يؤمنون بما وافق عقولهم وأفكارهم أو أفكار من يعظمونه من شيوخهم وغير شيوخهم الذين قد تخرج بعضهم من جامعات أوربا وتسمموا بعلوم أهلها وإلحادهم وأفكارهم الفاسدة ثم جاءوا ينشرون ذلك في بلاد المسلمين.
وأما قوله في الكافر «وغلظ جلده مسيرة ثلاث» فهو ثابت في صحيح مسلم وهو مما يجب الإِيمان به.
وأما قوله وهو صاحب حديث الذبابة.
فجوابه أن يقال حديث الذباب ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينفرد به أبو هريرة رضي الله عنه، بل قد رواه أيضاً أبو سعيد الخدري وأنس بن مالك رضي الله عنهما.
فأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فرواه الإِمام أحمد والبخاري وأبو داود وابن ماجه والبيهقي ولفظه عند البخاري في «كتاب بدء الخلق» إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإِن في إحدى جناحيه داء والأخرى شفاء» ورواه أيضاً في «كتاب الطب» ولفظه «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإِن في إحدى جناحيه داء وفي الآخر شفاء» ورواه ابن ماجه بنحوه، وزاد أحمد وأبو داود والبيهقي «وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء» .
وأما حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه فرواه الإِمام أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والبيهقي ولفظه عند ابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «في أحد جناحي الذباب سم وفي الآخر شفاء فإِذا وقع في الطعام
فامقلوه فإِنه يقدم السم ويؤخر الشفاء».
وأما حديث أنس رضي الله عنه فرواه البزار ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه فإِن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء» قال الهيثمي رجاله رجال الصحيح ورواه الطبراني في الأوسط.
قال الخطابي في الكلام على حديث أبي هررة رضي الله عنه وقد تكلم على هذا الحديث بعض من لا خلاق له وقال كيف يكون هذا وكيف يجتمع الداء والشفاء في جناحي الذبابة وكيف تعلم ذلك من نفسها حتى تقدم جناح الداء وتؤخر جناح الشفاء وما أريها إلى ذلك، قال وهذا سؤال جاهل أو متجاهل وإن الذي يجد نفسه ونفوس عامة الحيوان قد جمع فيها بين الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وهي أشياء متضادة إذا تلاقت تفاسدت، ثم يرى أن الله سبحانه قد ألف بينها وقهرها على الاجتماع وجعل منها قوى الحيوان التي بها بقاؤها وصلاحها - لجدير أن لا ينكر اجتماع الداء والشفاء في جزئين من حيوان واحد. وإن الذي ألهم النحلة أن تتخذ البيت العجيب الصنعة وأن تعسل فيه وألهم الذرة أن تكتسب قوتها وتدخره لأوان حاجتها إليه هو الذي خلق الذبابة وجعل لها الهداية إلى أن تقدم جناحاً وتؤخر جناحاً لما أراد من الابتلاء الذي هو مدرجة التعبد والامتحان الذي هو مضمار التكليف وفي كل شيء عبرة وحكمة وما يذكر إلا أولو الألباب انتهى.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في «زاد المعاد» واعلم أن في الذباب قوة سمية يدل عليها الورم والحكة والعارضة من لسعه وهي بمنزلة السلاح فإِذا سقط فيما يؤذيه اتقاه بسلاحه فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقابل تلك السمية بما أودعه الله سبحانه في جناحه الآخر من الشفاء فيغمس كله في الماء والطعام فيقابل المادة السمية بالمادة النافعة فيزول ضررها، وهذا طب لا يهتدي إليه كبار الأطباء وأئمتهم بل هو خارج من مشكاة النبوة، ومع هذا فالطبيب العالم العارف الموفق يخضع لهذا العلاج ويقر لمن جاء به بأنه أكمل الخلق على الإِطلاق وأنه مؤيد بوحي إلهي خارج عن القوى البشرية انتهى.
وقال الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله تعالى في تعليقه على الجزء الثاني عشر من مسند الإِمام أحمد صفحه 124 - 129، وهذا الحديث مما لعب به بعض معاصرينا ممن علم وأخطأ وممن علم وعمد إلى عداء السنة، وممن جهل وتجرأ، فمنهم
من حمل على أبي هريرة وطعن في رواياته وحفظه. بل منهم من جرؤ على الطعن في صدقه فيما يروي، حتى غلا بعضهم فزعم أن في الصحيحين أحاديث غير صحيحة، إن لم يزعم أنها لا أصل لها بما رأوا من شبهات في نقد بعض الأئمة لأسانيد قليلة فيهما فلم يفهموا اعتراض أولئك المتقدمين الذين أرادوا بنقدهم أن بعض أسانيدهما خارجة عن الدرجة العليا من الصحة التي التزمها الشيخان، لم يريدوا أنها أحاديث ضعيفة قط.
ومن الغريب أن هذا الحديث بعينه - حديث الذباب - لم يكن مما استدركه أحد من أئمة الحديث على البخاري بل هو عندهم جميعا مما جاء على شرطه في أعلا درجات الصحة.
ومن الغريب أيضا أن هؤلاء الذين حملوا على أبي هريرة على علم كثير منهم بالسنة وسعة اطلاعهم غفلوا أو تغافلوا عن أن أبا هريرة رضي الله عنه لم ينفرد بروايته بل رواه أبو سعيد الخدري أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أحمد في المسند والنسائي وابن ماجه والبيهقي بأسانيد صحاح، ورواه أنس بن مالك أيضاً كما ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال رواه البزار ورجاله رجال الصحيح ورواه الطبراني في الأوسط، وذكره الحافظ في الفتح وقال أخرجه البزار ورجاله ثقات.
فأبو هريرة لم ينفرد برواية هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه انفرد بالحمل عليه منهم بما غفلوا أنه رواه اثنان غيره من الصحابة والحق أنه لم يعجبهم هذا الحديث لما وقر في نفوسهم من أنه ينافي المكتشفات الحديثة من المكروبات ونحوها، وعصمهم مقامهم عن أن يجرؤا على المقام الأسمى فاستضعفوا أبا هريرة.
والحق أيضاً أنهم آمنوا بهذه المكتشفات الحديثة أكثر من إيمانهم بالغيب ولكنهم لا يصرحون ثم اختطوا لأنفسهم خطة عجيبة أن يقدموها على كل شيء وأن يؤولوا القرآن بما يخرجه عن معنى الكلام العربي إذا ما خالف ما يسمونه «الحقائق العلمية» وأن يردوا من السنة الصحيحة ما يظنون أنه يخالف حقائقهم هذه، افتراء على الله وحبا في التجديد.
بل إن منهم لمن يؤمنون ببعض خرافات الأوربيين وينكر حقائق الإِسلام أو يتأولها، فمنهم من يؤمن بخرافات استحضار الأرواح وينكر وجود الملائكة والجن
بالتأول العصري الحديث، ومنهم من يؤمن بأساطير القدماء وما ينسب إلى القديسين والقديسات، ثم ينكر معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها ويتأول ما ورد في الكتاب والسنة من معجزات الأنبياء السابقين يخرجونها عن معنى الإِعجاز كله، وهكذا وهكذا.
وفي عصرنا هذا صديق لنا كاتب قدير أديب جيد الأداء واسع الاطلاع كنا نعجب بقلمه وعلمه واطلاعه، ثم بدت منه هنات وهنات على صفحات الجرائد والمجلات في الطعن على السنة والإِزراء برواتها من الصحابة فمن بعدهم يستمسك بكلمات للمتقدمين في أسانيد معينة يجعلها - كما يصنع المستشرقون - قواعد عامة يوسع من مداها ويخرج بها عن حدها الذي أراده قائلوها، وكانت بيننا في ذلك مساجلات شفوية ومكاتبات خاصة حرصا مني على دينه وعلى عقيدته، ثم كتب في إحدى المجلات - منذ أكثر من عامين - كلمة على طريقته التي ازداد فيها إمعانا وغلواً، فكتبت له كتابا طويلا في شهر جمادى الأول سنة 1370 كان مما قلت له فيه من غير أن أسميه هنا أو أسمي المجلة التي كتبت فيها، قلت له.
«وقد قرأت لك منذ أسبوعين تقريبا كلمة في مجلة .... لم تدع فيها ما وقر في قلبك من الطعن في روايات الحديث الصحيحة، ولست أزعم أني أستطيع إقناعك أو أرضى إحراجك بالإِقلاع عما أنت فيه «وليتك يا أخي درست علوم الحديث وطرق روايته دراسة وافية غير متأثر بسخافات (فلان) وأمثاله ممن قلدهم وممن قلدوه، فأنت تبحث وتنقب على ضوء شيء استقر في قلبك من قبل، لا بحثا حراً خالياً عن الهوى «وثق أني لك ناصح مخلص أمين لا يهمني ولا يغضبني أن تقول في السنة ما تشاء فقد قرأت من مثل كلامك أضعاف ما قرأت ولكنك تضرب الكلام بعضه ببعض.
«وثق يا أخي أن المستشرقين فعلوا مثل ذلك في السنة فقلت مثل قولهم وأعجبك رأيهم إذ صادق منك هوى ولكنك نسيت أنهم فعلوا مثل ذلك وأكثر منه في القرآن نفسه فما ضار القرآن ولا السنة شيء مما فعلوا.
«وقبلهم قام المعتزلة وكثير من أهل الرأي والأهواء ففعلوا هذا أو كله فما زادت السنة إلا ثبوتا كثبوت الجبال، وأتعب هؤلاء رؤوسهم وحدها وأوهوها.
«بل لم نر فيمن تقدمنا من أهل العلم من اجترأ على ادعاء أن في الصحيحين
أحاديث موضوعة فضلاً عن الإيهام والتشنيع الذي يطويه كلامك فيوهم الأغرار أن أكثر ما في السنة موضوع، هذا كلام المستشرقين.
«وهذا مما أخطأ فيه كثير من الناس ومنهم أستاذنا السيد رشيد رضا على علمه بالسنة وفقهه، ولم يستطع قط أن يقيم حجته على ما يرى، وأفلتت منه كلمات يسمو على علمه أن يقع فيها، ولكنه كان متأثراً أشد الأثر بجمال الدين ومحمد عبده وهما لا يعرفان في الحديث شيئاً، بل كان هو بعد ذلك أعلم منهما وأعلى قدما وأثبت رأيا لولا الأثر الباقي في دخيلة نفسه، والله يغفر لنا وله.
وأما الجاهلون الأجرياء فإِنهم كثير في هذا العصر، ومن أعجب ما رأيت من سخافاتهم وجرأتهم أن يكتب طبيب في إحدى المجلات الطبية فلا يرى إلا أن هذا الحديث لم يعجبه وأنه ينافي علمه وأنه رواه مؤلف اسمه «البخاري» فلا يجد مجالا إلا الطعن في هذا «البخاري» ورميه بالافتراء والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يعرف عن «البخاري» هذا شيئاً بل لا أظنه يعرف اسمه ولا عصره ولا كتابه إلا أنه روى شيئاً يراه هو - بعلمه الواسع - غير صحيح فافترى عليه ما شاء مما سيحاسب عليه بين يدي الله حسابا عسيراً.
ولم يكن هؤلاء المعترضون أول من تكلم في هذا، بل سبقهم من أمثالهم الأقدمون، ولكن أولئك كانوا أكثر أدبا من هؤلاء - ثم ذكر الشيخ كلام الخطابي وابن القيم وقد تقدم ذكر ذلك، إلى أن قال - وأقول في شأن الطب الحديث أن الناس كانوا ولا يزالون تقذر أنفسهم الذباب وتنفر مما وقع فيه من طعام أو شراب
ولا يكادون يرضون قربانه، وفي هذا من الإِسراف - إذا غلا الناس فيه - شيء كثير، ولا يزال الذباب يلح على الناس في طعامهم وشرابهم وفي نومهم ويقظتهم وفي شأنهم كله، وقد كشف الأطباء والباحثون عن المكروبات الضارة والنافعة وغلوا غلوا شديداً في بيان ما يحمل الذباب من مكروبات ضارة حتى لقد كادوا يفسدون على الناس حياتهم لو أطاعوهم طاعة حرفية تامة، وإنا لنرى بالعيان أن أكثر الناس تأكل مما سقط عليه الذباب وتشرب فلا يصيبهم شيء إلا في القليل النادر، ومن كابر في هذا فإِنما يخدع الناس ويخدع نفسه، وإنا لنرى أيضا أن ضرر الذباب شديد حين يقع الوباء العام، لا يماري في ذلك أحد، فهناك إذاً حالان ظاهرتان بينهما فروق كبيرة، أما حال الوباء فمما لا شك فيه أن الاحتياط فيها يدعو إلى التحرز من الذباب وأضرابه مما ينقل المكروب - أشد التحرز. وأما إذا عدم الوباء وكانت الحياة تجري على سننها فلا معنى لهذا التحرز، والمشاهدة تنفي ما غلا فيه الغلاة من إفساد كل طعام أو شراب وقع عليه الذباب، ومن كابر في هذا فإِنما يجادل بالقول لا بالعمل، ويطيع داعي الترف والتأنق، وما أظنه يطبق ما يدعو إليه تطبيقا دقيقا، وكثير منهم يقولون ما لا يفعلون انتهى كلامه رحمه الله تعالى ولقد أجاد فيه وأفاد سوى كلمة واحدة وهي قوله «وثق أني لا يهمني ولا يغضبني أن تقول في السنة ما تشاء» فهذه كلمة غير مرضية لأن الواجب عليه وعلى غيره من أهل العلم أن يهمهم القول في السنة بما لا يليق وأن يغضبوا أشد الغضب من الطعن في الأحاديث الصحيحة ومعارضتها بالآراء الفاسدة.
وأما قول المؤلف تبعاً لأبي رية وروى الطبراني في الأوسط عنه عن النبي - ص - أتاني ملك برسالة من الله عز وجل ثم رفع رجله فوضعها فوق السماء والأخرى في الأرض لم يرفعها.
فجوابه أن يقال وما ينكر أعداء السنة من عظم خلق بعض الملائكة فقد روى البخاري عن زر قال حدثنا عبد الله - يعني ابن مسعود رضي الله عنه «أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح» .
وروى الإِمام أحمد بإِسناد جيد عن أبي وائل عن عبد الله رضي الله عنه قال «رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح كل جناح منها قد سد الأفق» .
وروى ابن جرير عن عبد الله رضي الله عنه قال «رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه حلتا رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض» قال ابن كثير إسناده جيد قوي.
وفي الصحيحين عن مسروق قال كنت عند عائشة فقلت أليس الله يقول (ولقد رآه بالأفق المبين)(ولقد رآه نزلة أخرى) فقالت أنا أول هذه الأمة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال «إنما ذاك جبريل» لم يره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين، رآه منهبطا من السماء إلى الأرض ساداً عظم خلقه ما بين السماء والأرض.
وروى أبو داود عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام» ورواه ابن أبي حاتم ولفظه «أذن لي أن أحدثكم عن ملك من حملة العرش بعد ما بين شحمة أذنه وعنقه مخفق الطير سبعمائة عام» قال ابن كثير إسناده جيد رجاله كلهم ثقات.
وأما الحديث الذي ذكره المؤلف تبعاً لأبي رية - وهو ما رواه الطبراني في الأوسط مرفوعاً ولفظه «أتاني ملك برسالة من الله عز وجل ثم رفع رجله فوضعها فوق السماء والأخرى في الأرض لم يرفعها» فقد أجاب عنه العلامة المحقق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في رده على أبي رية فقال تفرد بروايته صدقة بن عبد الله السمين وهو ضعيف، والحديث معدود في منكراته فلم يثبت عن أبي هريرة انتهى.
وأما قوله وروى الترمذي عنه قال قال رسول الله العجوة من الجنة وفيها شفاء من السم.
فجوابه أن يقال إن أبا هريرة رضي الله عنه لم ينفرد برواية هذا الحديث فقد رواه الإِمام أحمد وابن ماجه بإِسناد حسن من حديث جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين والعجوة من الجنة وهي شفاء من السم» وقد أشار الترمذي إلى رواية جابر وأبي سعيد رضي الله عنهما بعد إيراده لحديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقد روى الترمذي حديث أبي هريرة رضي الله عنه من طريقين قال في الأولى منهما هذا حديث حسن غريب وقال في الثانية هذا حديث حسن، ورواه الإِمام أحمد من
عدة طرق وصححه الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على المسند ورواه أبو داود الطيالسي والدارمي وابن ماجه.
وروى الإِمام أحمد أيضا بأسانيد صحيحة عن رافع بن عمرو المزني رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «العجوة والشجرة من الجنة» وفي رواية «العجوة والصخرة من الجنة» ورواه ابن ماجه بهذا اللفظ قال في الزوائد إسناده صحيح رجاله ثقات. ورواه الحاكم بلفظ «الشجرة والعجوة من الجنة» وقال صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي، وفي رواية قال «العجوة والصخرة والشجرة من الجنة» قال الحاكم صحيح الإِسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وروى الإِمام أحمد أيضا من حديث بريدة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «واعلموا أن الكمأة دواء العين وأن العجوة من فاكهة الجنة» .
وفي الصحيحين ومسند الإِمام أحمد وسنن أبي داود عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر» .
وروى الإِمام أحمد بأسانيد صحيحة ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن في عجوة العالية شفاء أو أنها ترياق أول البكرة» هذا لفظ مسلم، وقد رواه الإِمام أحمد بهذا اللفظ في إحدى الروايات عنده، وفي الرواية الأخرى قال «في عجوة العالية شفاء أو ترياق أول البكرة على الريق» وقال في الرواية الثالثة «في عجوة العالية أول البكرة على ريق النفس شفاء من كل سحر أو سم» .
وهذه الأحاديث الصحيحة تؤيد ما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «العجوة من الجنة وفيها شفاء من السم» وفيها أبلغ رد على المؤلف وأبي رية وأمثالهما من جهلة العصريين الذين لا يبالون برد الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم والسخرية منها ومن رواتها من الصحابة فمن بعدهم.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (63) ما نصه
عدد الأحاديث المنسوبة لكل صحابي (تحقيق علمي ص 254 أضواء على
السنة) عرفنا أن أبا هريرة روى عن رسول الله 5374 حديثاً روى منها البخاري 446 على حين أنه لم يصاحب النبي - ص - إلا عاماً وتسعة أشهر، وبقي أن نعرف ما رواه الذين سبقوه بالإِيمان وكانوا أدنى منه إلى رسول الله وأعلم بالدين ولهم الخبرة العلمية بسنة النبي - ص - نتيجة ممارستهم لأعمال الجهاد التي لم يمارسها أبو هريرة، وفيما يلي أحاديثهم التي نسبت إليهم.
ما رواه أبو بكر 142 حديثاً أورد السيوطي منها 104 وله في البخاري 22 حديثاً مع المقارنة بين 23 سنة قضاها مع النبي - ص - وبين حوالي سنتين فقط لأبي هريرة.
ما روى عمر بن الخطاب 50 حديثا كما أثبت ابن حزم مع المقارنة بين 16 سنة قضاها مع النبي - ص - وسنتين لأبي هريرة.
ما رواه عثمان 9 رواهم البخاري.
ما رواه الزبير 9 رواه البخاري وحديث واحد في مسلم.
ما رواه طلحة 4 رواها البخاري.
عبد الرحمن بن عوف 9 رواها البخاري.
أبي بن كعب 60 جاءت في الكتب الستة.
زيد بن ثابت 8 رواها البخاري.
سلمان الفارسي 4 رواها له البخاري وثلاثة في مسلم.
وقد ثبت أن كثيراً من الصحابة لم يرون شيئا عن النبي منهم سعيد بن زيد بن فضل بن عمارة أحد العشرة المبشرين بالجنة.
والجواب أن يقال ليس في كلام أبي رية تحقيق علمي البتة وإنما فيه الجهل والضلال والطعن في الأحاديث الصحيحة ورفضها واطراحها، والوقيعة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاسيما أبو هريرة رضي الله عنه فقد أكثر أبو رية الوقيعة فيه والتنقص له ورماه ظلما وزوراً بكل ما يرى أنه يشينه ويقدح فيه وقد قال الله تعالى (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين) وقال تعالى (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).
وأما قول المؤلف تبعاً لأبي رية إن أبا هريرة لم يصاحب النبي - ص - إلا عاما وتسعة أشهر.
فجوابه أن يقال هذا خطأ وجهل وقد تقدم التنبيه على ذلك في فصل قبل هذا الفصل بتسعة فصور وبينت هناك أن أبا هريرة رضي الله عنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين وزيادة أيام فليراجع ما ذكرته هناك (1).
وأما قوله وبقي أن نعرف ما رواه الذين سبقوه بالإِيمان وكانوا أدنى منه إلى رسول الله وأعلم بالدين، إلى آخر كلامه.
فجوابه أن يقال إن أبا هريرة رضي الله عنه قد لزم رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ قدم عليه في أول سنة سبع من الهجرة، وكان يدور معه حيث دار وكان مع ذلك من أحفظ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يحضر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يحضره سائر المهاجرين والأنصار لاشتغال المهاجرين بالتجارة واشتغال الأنصار بحوائطهم، وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحرص على العلم والحديث. وقد تقدم ما رواه الحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «أبو هريرة وعاء العلم» .
وتقدم أيضاً ما رواه النسائي بسند جيد عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن أبا هريرة رضي الله عنه سأل الله علما لا ينسى وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمن على دعائه، والتأمين معناه الدعاء بالإِجابة، ودعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجاب بلا شك. وقد شهد غير واحد من أكابر الصحابة رضي الله عنهم لأبي هريرة رضي الله عنه بالحفظ، وقد تقدم ذكر ذلك قبل تسعة فصول فليراجع (2) ، وتقدم أيضاً ما رواه ابن سعد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال قدمت ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر سنة سبع وأقمت معه حتى توفي أدور معه في بيوت نسائه وأخدمه وأصلي معه وأحج وأغزو معه فكنت والله أعلم الناس بحديثه قد والله سبقني قوم بصحبته والهجرة إليه من قريش والأنصار وكانوا يعرفون لزومي له فيسألوني عن حديثه منهم عمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فلا والله ما يخفى علي كل حديث كان بالمدينة، فليراجع هذا وغيره مما تقدم في الفصل الذي أشرت إليه آنفا (3) ففي ذلك أبلغ رد على المؤلف وأبي رية وغيرهما من الشانئين لأبي هريرة رضي الله عنه.
(1) ص: 259.
(2)
ص: 262.
(3)
ص: 265.
وأما ما ذكره المؤلف تبعاً لأبي رية من المقارنة بين ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وبين ما رواه بعض أكابر الصحابة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فجوابه من وجوه أحدها في بيان أخطاء المؤلف وأبي رية في عدد الأحاديث التي رواها كل واحد من الصحابة الذين ذكروا في هذا الفصل.
فمن ذلك قولهما أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه له في البخاري إثنان وعشرون حديثا، وهذا مخالف لما ذكره النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» وما ذكره الخزرجي في «الخلاصة» أن البخاري روى لأبي بكر الصديق رضي الله عنه سبعة عشر حديثا اتفق هو ومسلم على ستة منها وانفرد البخاري بأحد عشر ومسلم بحديث، قال النووي وسبب قلة رواياته مع تقدم صحبته وملازمته النبي صلى الله عليه وسلم أنه تقدمت وفاته قبل انتشار الأحاديث واعتناء التابعين بسماعها وتحصيلها وحفظها انتهى.
ومن ذلك قولهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه روى خمسين حديثا، وهذا خطأ وجهل، فقد ذكر النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» أنه روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة حديث وتسعة وثلاثون حديثا، وكذا قال الخزرجي في «الخلاصة» ، قال النووي اتفق البخاري ومسلم منها على ستة وعشرين حديثا وانفرد البخاري بأربعة وثلاثين ومسلم بأحد وعشرين.
ومن ذلك قولهما أن عثمان رضي الله عنه روى تسعة أحاديث رواهم البخاري، وهذا خطأ كبير فقد ذكر النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» أنه روي لعثمان رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة حديث وستة وأربعون حديثا اتفق البخاري ومسلم منها على ثلاثة وانفرد البخاري بثمانية ومسلم بخمسة، وكذا قال الخزرجي في «الخلاصة» فعلى هذا يكون البخاري روى لعثمان رضي الله عنه أحد عشر حديثا.
وقول المؤلف «رواهم البخاري» صوابه «رواها البخاري» .
ومن ذلك قولهما أن الزبير روى تسعة أحاديث رواهم البخاري وحديث واحد في مسلم. وهذا خطأ كبير فقد ذكر الخزرجي في «الخلاصة» أنه روي للزبير
رضي الله عنه ثمانية وثلاثون حديثا اتفقا على حديثين وانفرد البخاري بسبعة، فعلى هذا يكون مسلم قد روى للزبير رضي الله عنه حديثين.
وقول المؤلف «رواهم البخاري» صوابه «رواها البخاري» .
ومن ذلك قولهما أن طلحة روى أربعة أحاديث رواها البخاري، وهذا خطأ وجهل فقد ذكر النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» أنه روي لطلحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وثلاثون حديثا اتفقا منها على حديثين وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بثلاثة، وكذا قال الخزرجي في «الخلاصة» إلا أنه قال اتفقا على حديث، فعلى هذا يكون البخاري روى لطلحة ثلاثة أحاديث على قول الخزرجي وأربعة على قول النووي، ويكون مسلم قد روى له أربعة أحاديث على قول الخزرجي وخمسة على قول النووي.
ومن ذلك قولهما أن عبد الرحمن بن عوف روى تسعة أحاديث رواها البخاري، وهذا خطأ وجهل فقد ذكر النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» أنه روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة وستون حديثا اتفقا منها على حديثين وانفرد البخاري بخمسة. وكذا قال الخزرجي في «الخلاصة» فعلى هذا يكون البخاري روى له سبعة أحاديث.
ومن ذلك قولهما أن أبي بن كعب روى ستين حديثا في الكتب الستة، وهذا خطأ وجهل فقد ذكر النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» أنه روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة حديث وأربعة وستون حديثا اتفق البخاري ومسلم منها على ثلاثة وانفرد البخاري بثلاثة ومسلم بسبعة، وكذا قال الخزرجي في «الخلاصة» إلا أنه قال انفرد البخاري بأربعة.
ومن ذلك قولهما أن زيد بن ثابت روى ثمانية أحاديث رواها البخاري، وهذا جهل وتخبيط، فقد ذكر النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» أنه روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنان وتسعون حديثا اتفقا منها على خمسة وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بحديث، وكذا قال الخزرجي في الخلاصة، فعلى هذا يكون البخاري روى له تسعة أحاديث.
ومن ذلك قولهما أن سلمان الفارسي روى أربعة أحاديث رواها البخاري وثلاثة في مسلم، وهذا خطأ وجهل قبيح فقد ذكر النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» أنه روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ستون حديثا اتفق البخاري
ومسلم على ثلاثة ولمسلم ثلاثة، وكذا قال الخزرجي في الخلاصة وزاد وانفرد البخاري بواحد، فعلى هذا يكون البخاري روى له ثلاثة أحاديث على قول النووي وأربعة على قول الخزرجي ويكون مسلم روى له ستة أحاديث.
ومما ذكرته ههنا يعلم أن أبا رية بعيد من التحقيق العلمي غاية البعد وأن حاصل ما عنده التخبيط والتخليط، وذلك هو حاصل كتاب المؤلف أيضا.
الوجه الثاني أن يقال قد نقل ابن سعد في الطبقات عن الواقدي أنه قال إنما قلت الرواية عن الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم هلكوا قبل أن يحتاج إليهم، وإنما كثرت عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب لأنهما وليا فسئلا وقضيا بين الناس، وكل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أئمة يقتدى بهم ويحفظ عليهم ما كانوا يفعلون ويستفتون فيفتون، وسمعوا أحاديث فأدوها فكان الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل حديثا عنه من غيرهم مثل أبي بكر وعثمان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وأبي عبيدة بن الجراح وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأبي بن كعب وسعد بن عبادة وعبادة بن الصامت وأسيد بن الحضير ومعاذ بن جبل ونظرائهم، فلم يأت عنهم من كثرة الحديث مثل ما جاء عن الأحداث من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن العباس ورافع بن خديج وأنس بن مالك والبراء بن عازب ونظرائهم، وكل هؤلاء كان يعد من فقهاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يلزمون رسول الله صلى الله عليه وسلم مع غيرهم من نظرائهم. وأحدث منهم مثل عقبة بن عامر الجهني وزيد بن خالد الجهني وعمران بن الحصين والنعمان بن بشير ومعاوية بن أبي سفيان وسهل بن سعد الساعدي وعبد الله بن يزيد الخطمي ومسلمة بن مخلد الزرقي وربيعة بن كعب الأسلمي وهند وأسماء ابني حارثة الأسلميين وكانا يخدمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلزمانه فكان أكثر الرواية والعلم في هؤلاء ونظرائهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم بقوا وطالت أعمارهم واحتاج الناس إليهم، ومضى كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبله وبعده بعلمه لم يؤثر عنه بشيء ولم يحتج إليه لكثرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى.
الوجه الثالث أن يقال إن السبق إلى الإِيمان لا يستلزم كثرة الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكم من سابق إلى الإِيمان وليس بمكثر من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكم من مكثر من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ممن تأخر إسلامه أو كان صغير السن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس المعول في كثرة الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم على كبر السن ولا على السبق إلى الإِيمان، وإنما المعول في ذلك على الحفظ والإِتقان وطول العمر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حصل لأبي هريرة رضي الله عنه حظ وافر من الحفظ والإِتقان وذلك ببركة لزومه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشدة حرصه على أخذ العلم والحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وتأمين رسول الله صلى الله عليه وسلم على دعائه لما سأل الله علماً لا ينسى. وقد تأخرت وفاته إلى سنة تسع وخمسين من الهجرة.
وأما قوله وقد ثبت أن كثيراً من الصحابة لم يرون شيئا عن النبي منهم سعيد بن زيد بن فضل بن عمارة أحد العشرة المبشرين بالجنة.
فجوابه أن أقول لا أدري من أيهما أعجب، أمن تخبيط أبي رية في عدد الأحاديث التي رواها من تقدم ذكرهم من أكابر الصحابة رضي الله عنهم، أم من تخبيط المؤلف في نسب سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه، وإنه ليصدق على المؤلف وأبي رية قول الشاعر:
لقد كان في الإعراض ستر جهالة
…
غدوت بها من أشهر الناس في البلد
وقول الآخر:
زوامل للأسفار لا علم عندهم
…
بجيدها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا
…
بأوساقه أو راح ما في الغرائر
فأما قول المؤلف «لم يرون شيئا» فصوابه «لم يرووا شيئا» وإذا كان المؤلف لا يعرف الفرق بين الرؤية والرواية مع أن ذلك لا يخفى على أصغر طلبة العلم فما باله يتطاول على الأحاديث الصحيحة ويقابلها بالرد والإِنكار، ويتطاول على بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويطعن فيهم بالإِفك والبهتان.
وقد روى الإِمام أحمد بإِسناد صحيح والبخاري وأبو داود وابن ماجه عن أبي
مسعود الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت» ورواه أيضا الإِمام أحمد من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما وإسناده صحيح.
وهذا الحديث ينطبق على المؤلف وأبي رية لأن كلا منهما قد انتزع منه الحياء الذي يمنع الإنسان من مجاوزة الحد وإظهار الجهل وقلة المبالاة بالتخبيط والتخليط.
وبعد فليس في نسب سعيد بن زيد أحد اسمه فضل ولا عمارة. وإنما هو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي العدوي، وقد سبق أن سماه المؤلف سعيد بن الزبير وذلك عند قوله إن الصحابة كانوا يتركون التحديث عن رسول الله خوفا من الزيادة أو النقصان في كلامه (1) ، وهذا نوع آخر من تخبيط المؤلف في نسب سعيد بن زيد رضي الله عنه.
وأما قول المؤلف تبعاً لأبي رية إن زيد بن عمرو بن نفيل لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا.
فجوابه أن يقال قد ذكر النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» أنه روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وأربعون حديثا اتفقا على حديثين وانفرد البخاري بحديث، وقال الخزرجي في «الخلاصة» له ثمانية وثلاثون حديثا اتفقا على حديثين وانفرد البخاري بآخر.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (64) ما نصه
من غرائب الحديث بوجه عام (النبي يحدد أجل الساعة) ، روى الشيخان واللفظ لمسلم عن أنس بن مالك أن رجلا سأل النبي - ص - قال متى تقوم الساعة قال فسكت رسول الله - ص - هنيهة ثم نظر إلى غلام بين يديه من أزد شنوءة فقال إن عمّر هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة، قال أنس ذاك الغلام من أترابي
(1) ص: 110.
يومئذ (يعني من سني) ، وقد مات أنس 93 على المشهور وهو ترب الغلام الذي قال فيه النبي - ص - إنه لا يدركه الهرم حتى تقوم الساعة، وبذلك يكون قيام الساعة قبل انقضاء القرن الأول الهجري كما نص الحديث. فما قول عباد الأسانيد. لعل بعضهم سينبري فيقول وما يدريك لعل هذا الغلام لم يدركه الهرم إلى الآن.
والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال إن قيام الساعة من مفاتيح الغيب الخمس التي استأثر الله بعلمها فلا يعلم قيامها أحد غيره لا ملك مقرب ولا نبي مرسل فضلا عن غيرهما، قال الله تعالى (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) وقال تعالى (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) وقال تعالى (يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا) وقال تعالى (يسألونك عن الساعة أيان مرسالها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون) وقال تعالى (يسألونك عن الساعة أيان مرساها، فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها) وقال تعالى (إن الساعة آتية أكاد أخفيها) قال البغوي أكثر المفسرين قالوا معناه أكاد أخفيها من نفسي وكذلك هو في مصحف أبي بن كعب، وفي مصحف عبد الله بن مسعود أكاد أخفيها من نفسي فكيف يعلمها مخلوق، وفي بعض القراءة فكيف أظهرها لكم، وذكر ذلك على عادة العرب إذا بالغوا في كتمان الشيء يقولون كتمت سرك من نفسي أي أخفيته غاية الإِخفاء والله تعالى لا يخفى عليه شيء انتهى وقال ابن كثير قال الضحاك عن ابن عباس أنه كان يقرؤها أكاد أخفيها من نفسي يقول لأنها لا تخفى من نفس الله أبداً، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أكاد أخفيها يقول لا أطلع عليها أحداً غيري، وقال السدي ليس أحد من أهل السموات والأرض إلا قد أخفى الله تعالى عنه علم الساعة وهي في قراءة ابن مسعود إني أكاد أخفيها من نفسي، وقال قتادة أكاد أخفيها وهي في بعض القراءات أخفيها من نفسي ولعمري لقد أخفاها الله من الملائكة المقربين ومن الأنبياء والمرسلين انتهى.
وروى الإِمام أحمد والبخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله (إن الله عنده علم
الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير).
وروى الإِمام أحمد أيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال النبي صلى الله عليه وسلم «أوتيت مفاتيح كل شيء إلا الخمس (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيب ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير)» .
وروى الإِمام أحمد أيضا عن عبد الله - وهو ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال «أوتي نبيكم صلى الله عليه وسلم مفاتيح كل شيء غير خمس (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير)» قال ابن كثير إسناده حسن وقال الهيثمي رواه أحمد وأبو يعلى ورجالهما رجال الصحيح.
وروى الإِمام أحمد أيضاً عن بريدة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «خمس لا يعلمهن إلا الله عز وجل (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير)» قال ابن كثير صحيح الإِسناد ولم يخرجوه.
وروى الإِمام أحمد أيضا بإِسناد صحيح عن رجل من بني عامر أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم هل بقي من العلم شيء لا تعلمه قال «قد علمني الله عز وجل خيراً وإن من العلم ما لا يعلمه إلا الله عز وجل الخمس (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام) الآية» .
وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم «أخبرني عن الساعة قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل» رواه الإِمام أحمد ومسلم وأهل السنن وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله متى الساعة قال «ما المسؤل عنها بأعلم من السائل» الحديث وقال في آخره «في خمس لا يعلمهن إلا الله ثم تلى صلى الله عليه وسلم (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير)» رواه الإِمام أحمد والبخاري ومسلم وابن ماجه.
وعن أبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهما أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة فقال «ما المسؤل عنها بأعلم من السائل» الحديث وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خمس لا يعلمها إلا الله (إن الله عنده علم الساعة) إلى قوله (إن الله عليم خبير)» رواه النسائي.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم حدثني متى الساعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «في خمس من الغيب لا يعلمهن إلا هو (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير)» رواه الإِمام أحمد وفي إسناده شهر بن حوشب وهو ثقة وفيه كلام وبقية رجاله ثقات.
وعن عامر أو أبي عامر أو أبي مالك رضي الله عنه نحوه رواه الإِمام أحمد وفي إسناده شهر بن حوشب وبقية رجاله ثقات.
الوجه الثاني أن يقال أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحدد قيام الساعة العظمى بوجه من الوجوه وإنما كان يجيب الأعراب إذا سألوه عن الساعة بما تنتهي به أعمارهم وتقوم عليهم ساعتهم وهي موتهم كما في الصحيحين عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رجال من الأعراب جفاة يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه متى الساعة فكان ينظر إلى أصغرهم فيقول «إن يعش هذا لا يدركه الهرم حتى تقوم عليكم ساعتكم» قال هشام يعني موتهم هذا لفظ البخاري.
وفي صحيح مسلم عن ثابت عن أنس رضي الله عنه أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم متى تقوم الساعة وعنده غلام من الأنصار يقال له محمد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن يعش هذا الغلام فعسى أن لا يدركه الهرم حتى تقوم الساعة» .
وروى مسلم أيضاً عن معبد بن هلال العنزي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال متى تقوم الساعة قال فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم هنيهة ثم نظر إلى غلام بين يديه من أزد شنوءة فقال «إن عمر هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة» قال أنس ذاك الغلام من أترابي يومئذ.
وروى مسلم أيضاً عن قتادة عن أنس قال مر غلام للمغيرة بن شعبة وكان من
أقراني فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إن يؤخر هذا فلن يدركه الهرم حتى تقوم الساعة» .
قوله «حتى تقوم الساعة» أي ساعة الذين سألوه وهي موتهم كما هو مصرح به في حديث عائشة رضي الله عنها الذي تقدم ذكره، قال القاضي عياض حديث عائشة رضي الله عنها يفسر حديث أنس رضي الله عنه وأن المراد ساعة المخاطبين ومعناه يموت ذلك القرن أو أولئك المخاطبون، وقال ابن كثير ليس المراد بذلك تحديد وقت الساعة العظمى إلى وقت هرم ذاك المشار إليه وإنما المراد ساعتهم وهو انقراض قرنهم وعصرهم قصاراه أن تتناهى مدة عمر ذلك الغلام، ويؤيد ذلك رواية عائشة رضي الله عنها «قامت عليكم ساعتكم» وذلك أنه من مات فقد دخل في حكم القيامة فعالم البرزخ قريب من عالم يوم القيامة انتهى.
وقال الراغب الأصفهاني الساعة جزء من الزمان ويعبر بها عن القيامة تشبيها بذلك لسرعة الحساب، وأطلقت الساعة على ثلاثة أشياء الساعة الكبرى وهي بعث الناس للمحاسبة، والوسطى وهي موت أهل القرن الواحد نحو ما روي أنه قال «إن يطل عمر هذا الغلام لم يمت حتى تقوم الساعة» ، والصغرى موت الإِنسان فساعة كل إنسان موته انتهى باختصار.
وقال الداوودي في جواب النبي صلى الله عليه وسلم للأعراب الذين سألوه متى تقوم الساعة، هذا الجواب من معاريض الكلام فإِنه لو قال لهم لا أدري ابتداء مع ما هم فيه من الجفاء وقبل تمكن الإِيمان في قلوبهم لارتابوا فعدل إلى إعلامهم بالوقت الذين ينقرضون هم فيه ولو كان تمكن الإِيمان في قلوبهم لأفصح لهم بالمراد، قال الحافظ ابن حجر وقد أخبر صلى الله عليه وسلم في أحاديث أخرى حدث بها خواص أصحابه تدل على أن بين يدي الساعة أموراً عظاما انتهى.
وقد روى الإِمام أحمد ومسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت بشهر «تسألوني عن الساعة وإنما علمها عند الله وأقسم بالله ما على الأرض من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة» ورواه الترمذي مختصراً وقال هذا حديث حسن، وفي رواية لمسلم «ما من نفس منفوسة اليوم تأتي عليها مائة سنة وهي حية يومئذ» .
وروى مسلم أيضا عن أبي سعيد رضي الله عنه قال لما رجع النبي صلى الله
عليه وسلم من تبوك سألوه عن الساعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تأتي مائة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم» .
وروى الإِمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته فلما سلم قام فقال «أرأيتكم ليلتكم هذه فإِن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد» قال ابن عمر رضي الله عنهما فوهل الناس في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك إلى ما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مائة سنة وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن، قال الترمذي هذا حديث صحيح.
قال النووي في شرح مسلم هذه الأحاديث قد فسر بعضها بعضا وفيها علم من أعلام النبوة والمراد أن كل نفس منفوسة كانت تلك الليلة على الأرض لا تعيش بعدها أكثر من مائة سنة سواء قل أمرها قبل ذلك أم لا وليس فيه نفي عيش أحد يوجد بعد تلك الليلة فوق مائة سنة انتهى.
وقال ابن الأثير في جامع الأصول المعنى في الحديث أن كل من هو موجود الآن يعني ذلك الوقت إلى انقضاء ذلك الأمد المعين يكونون قد ماتوا ولا بقي على الأرض منهم أحد لأن الغالب على أعمارهم لا يتجاوز ذلك الأمد الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم فتكون قيامة أهل ذلك العصر قد قامت انتهى.
وقال ابن كثير قد فسر الصحابي المراد بما فهمه وهو أولى بالفهم من كل أحد من أنه يريد عليه الصلاة والسلام أنه ينخرم قرنه ذلك فلا يبقى ممن هو كائن على وجه الأرض من أهل ذلك الزمان أحد إلى مائة سنة، وقد اختلف العلماء هل ذلك خاص بذلك القرن أو عام في كل قرن لا يبقى أحد أكثر من مائة سنة على قولين والتخصيص بذلك القرن المعين الأول أولى فإِنه قد شوهد بعض الناس جاز مائة سنة وذلك في طائفة من المعمرين ولكنه قليل في الناس انتهى.
وقوله فوهل الناس قال النووي بفتح الهاء أي غلطوا يقال وهل بفتح الهاء يهل بكسرها وهلا كضرب يضرب ضربا أي غلط وذهب وهمه إلى خلاف الصواب انتهى.
وفيما ذكرته في هذا الوجه والوجه الأول أبلغ رد على من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حدد أجل الساعة العظمى.
الوجه الثالث أن يقال من أقبح الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والجراءة عليه قول المؤلف إن النبي يحدد أجل الساعة، وإذا كان المؤلف لا يعرف مراد النبي صلى الله عليه وسلم من جوابه للأعراب الذين سألوه عن الساعة فلا يحل له أن يتقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصرف كلامه إلى غير مراده.
الوجه الرابع أن يقال إن كلام المؤلف وأبي رية ينم على ما في قلوبهما من الزيغ لأنهما اقتصرا على إيراد الرواية المبهمة في قيام الساعة وهي رواية أنس رضي الله عنه وأعرضا عن الرواية التي تفسر الرواية المبهمة وتوضح مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي رواية عائشة رضي الله عنها ففيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعراب «إن يعش هذا لم يدركه الهرم قامت عليكم ساعتكم» يعني موتهم، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر بعضها بعضا، ولا يحل لأحد أن يعارض بين أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويضرب بعضها ببعض كما فعل المؤلف وأبو رية.
الوجه الخامس أن يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته» رواه الإِمام أحمد وأبو داود الطيالسي والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
وفي الباب عن عمر بن الخطاب وعمران بن حصين وأبي هريرة وبريدة والنعمان بن بشير وسعد بن تميم السكوني رضي الله عنهم وقد ذكرتها في «إتحاف الجماعة» في «باب الثناء على القرون المفضلة» فلتراجع هناك، وقد جاء في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما ورواية عن بريدة رضي الله عنه ذكر أربعة قرون، وفي رواية أخرى عن بريدة رضي الله عنه ذكر خمسة قرون رواه الإِمام أحمد وإسناده جيد.
وروى أبو داود والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» .
وروى الإِمام أحمد عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه موقوفا ورواه أبو داود والحاكم مرفوعا «لن يعجز الله هذه الأمة من نصف يوم» قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وروى الإِمام أحد وأبو داود والحاكم أيضاً عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إني لأرجو أن لا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم» قيل لسعد وكم نصف ذلك اليوم قال خمسمائة سنة، رجال أبي داود كلهم ثقات.
وفي هذه الأحاديث أبلغ رد على المؤلف حيث زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حدد أجل الساعة العظمى، وفيها أيضا رد عليه وعلى أبي رية حيث زعما من باب التهكم والاستهزاء أن حديث أنس رضي الله عنه يدل على أن قيام الساعة يكون قبل انقضاء القرن الأول الهجري.
وأما قول المؤلف تبعاً لأبي رية فما قول عباد الأسانيد، إلى آخر كلامه فجوابه من وجهين أحدهما أن يقال ليس التصديق بالأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم من عبادة الأسانيد كما قد زعم ذلك عباد الهوى وأعداء السنة، وإنما ذلك من تحقيق الشهادة بأن محمداً رسول الله.
وقد تقدم في أول فصول الكتاب قول الإِمام أحمد رحمه الله تعالى من رد أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة.
وتقدم فيه أيضا أقوال لبعض العلماء في التشديد على الذين يردون الأحاديث الثابتة وأنه لا يردها إلا من هو متهم على الإِسلام، فليراجع جميع ما ذكرته في أول الكتاب فإِنه مهم جداً، (1) وليراجع أيضا الفصل الخامس (2) ففيه آثار كثيرة عن السلف في الإِنكار على الذين يتهاونون بالأحاديث الصحيحة ويعارضونها بالشبه والآراء وأنواع الحجج الشيطانية.
الوجه الثاني أن يقال هذه الكلمة البشعة النابية من المؤلف وأبي رية وهي تسميتهما المؤمنين بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم عباد الأسانيد تدل على ما في قلوبهما من الزيغ ومتابعة الهوى، وقد قال الله تعالى (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير
(1) ص: 3 - 5.
(2)
ص: 13 - 22.
هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين) وقال تعالى (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون).
فصل
وقال المؤلف في صفحة (64) ما نصه
حديث فاق حدود الغرابة والعجب ويبلغ ذروة الكذب على الله ورسوله، روى أحمد في مسنده أن رسول الله - ص - خرج عليهم ذات غداة وهو طيب النفس مسفر الوجه فسئل عن السبب فقال وما يمنعني، أتاني ربي عز وجل في أحسن صورة فقال يا محمد قلت لبيك ربي وسعديك قال فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا أدري أي ربي قال فوضع كفيه بين كتفي فوجدت بردهما بين ثديي حتى تجلى لي ما في السموات وما في الأرض، وفي رواية الشهرستاني لقيني ربي فصافحني ووضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله.
والجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن يقال إن المؤلف قد نقل هذا الحديث من كتاب أبي رية وقد زاد أبو رية جملة في أوله وغير فيه في بعض الكلمات كما يعلم ذلك من لفظ الحديث الذي سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى، والحديث قد رواه الإِمام أحمد والترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ومن حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه وهي رؤيا منام وليست رؤية عين، وقد توهم أبو رية أنها رؤية عين وتبعه المؤلف على ذلك وهو خطأ ظاهر.
فأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فقال الإِمام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «أتاني ربي الليلة في أحسن صورة - أحسبه يعني في النوم - فقال يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى قال قلت لا فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي - أو قال نحري - فعلمت ما في السموات وما في الأرض» الحديث ورجاله رجال الصحيح، وقد رواه الترمذي بهذا الإِسناد، ورواه أيضاً من طريق قتادة عن أبي قلابة عن خالد بن اللجلاج عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكره بنحوه وقال هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه قال وفي الباب عن معاذ بن جبل وعبد الرحمن بن عائش عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى هذا
الحديث عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم بطوله وقال «إني نعست فاستثقلت نوما فرأيت ربي في أحسن صورة فقال فيم يختصم الملأ الأعلى، هذا كلام الترمذي ثم ساق حديث معاذ بن جبل من طريق عبد الرحمن بن عائش الحضرمي عن مالك بن يخامر السكسكي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة عن صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس فخرج سريعا فثوب بالصلاة فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجوز في صلاته فلما سلم دعا بصوته قال لنا «على مصافكم كما أنتم» ثم انفتل إلينا ثم قال «أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة إني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي حتى استثقلت فإِذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة فقال يا محمد قلت لبيك رب قال فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا أدري قالها ثلاثا قال فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي فتجلى لي كل شيء وعرفت» الحديث قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال هذا حديث حسن صحيح انتهى كلام الترمذي.
وقد رواه الإِمام أحمد من حديث عبد الرحمن بن عائش الحضرمي عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه فذكره بنحوه وإسناده صحيح، قال ابن كثير بعد إيراد هذا الحديث في تفسير سورة (ص) هو حديث المنام المشهور ومن جعله يقظة فقد غلط انتهى.
وأما قوله في رواية الشهرستاني «فصافحني» .
فجوابه أن يقال إن هذه الكلمة لم ترد في الحديث الصحيح فلا يعتد بها.
الوجه الثاني أن يقال ليس في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ولا في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه ما يستغرب ولا ما يدعو إلى العجب فضلا عن أن يفوق حدود الغرابة والعجب، وليس فيهما شيء من الكذب على الله ولا على رسوله صلى الله عليه وسلم فضلا عن أن يبلغ ذلك إلى ذروة الكذب كما زعم ذلك المؤلف الأحمق الجاهل، وما جاء في الحديث من الكلمات التي استغرب المؤلف الحديث من أجلها وتعجب منه فهي من الأشياء التي يجب الإِيمان بها وإمرارها كما جاءت.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (64) ما نصه
من أحاديث العجب الغريب (ثور الجنة) في بدائع الفوائد لابن القيم ثبت عن النبي - ص - أن المؤمنين ينحر لهم يوم القيامة ثور في الجنة الذي كان يأكل منها فيكون نزلهم - قال ابن القيم فهذا حيوان كان يأكل في الجنة فينحر نزلا لأهلها (ص 177 جـ3).
والجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن يقال ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى في بدائع الفوائد فهو طرف من حديث رواه مسلم في كتاب الحيض من صحيحه في «باب صفة مني الرجل والمرأة» وهو من حديث أبي أسماء الرحبي أن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه قال كنت قائما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء حبر من أحبار اليهود فقال السلام عليك يا محمد فدفعته دفعة كاد يصرع منها فقال لم تدفعني فقلت ألا تقول يا رسول الله فقال اليهودي إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي» فقال اليهودي جئت أسألك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «أينفعك شيء إن حدثتك» قال أسمع بأذني فنكت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معه فقال «سل» فقال اليهود أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هم في الظلمة دون الجسر» قال فمن أول الناس إجازة قال «فقراء المهاجرين» قال اليهودي فما تحفتهم حين يدخلون الجنة قال «زيادة كبد النون» قال فما غذاؤهم على إثرها قال «ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها» قال فما شرابهم عليه قال «من عين فيها تسمى سلسبيلا» قال صدقت، قال وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان قال «ينفعك إن حدثتك» قال أسمع بأذني قال جئت أسألك عن الولد قال «ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلى مني الرجل مني المرأة أذكرا بإِذن الله وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله» قال اليهودي لقد صدقت وإنك لنبي ثم انصرف فذهب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه ومالي علم بشيء منه حتى أتاني الله به» .
وقد جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه نحو ما جاء في حديث ثوبان
رضي الله عنه وذلك فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يكفؤها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة» قال فأتى رجل من اليهود فقال بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم ألا أخبرك بنزل أهل الجنة يوم القيامة قال «بلى» قال تكون الأرض خبزة واحدة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فنظر إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك حتى بدت نواجذه، قال ألا أخبرك بإِدامهم قال «بلى» قال إدامهم بالام ونون قالوا وما هذا قال ثور ونون يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفا.
وروى الإِمام أحمد بأسانيد صحيحة والبخاري في عدة مواضع من صحيحه عن أنس رضي الله عنه أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أول طعام يأكله أهل الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت» الحديث.
وهذه الأحاديث الثلاثة يصدق بعضها بعضا، ومن كذب بما جاء فيها وعارض ذلك برأيه وتفكيره فلا شك أنه مشاق للرسول صلى الله عليه وسلم ومتبع غير سبيل المؤمنين ومتعرض للوعيد الشديد على رد الحق وتكذيب الصدق.
الوجه الثاني أن يقال يظهر من قول المؤلف «من أحاديث العجب الغريب ثور الجنة» أنه ينكر ذلك وقد استشكله قبله أبو رية في كتابه الذي هو ظلمات بعضها فوق بعض، وهذا يدل على قلة إيمان المؤلف وأبي رية بما هو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا).
فصل
وقال المؤلف في صفحة (64) وصفحة (65) ما نصه
حديث مبالغ في تكذيب القرآن في رؤية العبد لربه، قال القاضي نص أحمد على أن الإِسراء كان يقظة وحكي له أن موسى بن عقبة أن أحاديث الإِسراء كانت مناما فقال هذا كلام الجهمية، وقال أبو بكر النجار رآه إحدى عشرة مرة تسع مرات ليلة المعراج حينما كان يتردد بين موسى وبين ربه عز وجل ومرتين بالكتاب (يعني اللتان في سورة النجم) (ص 39 جـ 4 بدائع الفوائد، وفي البخاري من حديث شريك أن الإِسراء كان مناما، ونقول للمؤمن العاقل تأمل منازعة هذا الحديث لقوله
تعالى (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) وقوله (ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب) ، وفرية التردد لتخفيف فريضة الصلاة وتحوير رؤية النبي لجبريل لتصبح رؤية الله سبحانه وتعالى (الواردة في سورة النجم).
والجواب عن هذا من وجوه أحدها في بيان ما في كلام المؤلف من الأغلاط، فمن ذلك قوله (أن موسى بن عقبة أن أحاديث الإِسراء) وصوابه «أن موسى بن عقبة قال إن أحاديث الإِسراء» ومن ذلك قوله «أبو بكر النجار» وصوابه «أبو بكر النجاد» بالدال لا بالراء، واسمه أحمد بن سلمان - وقيل سليمان - بن الحسن بن إسرائيل بن يونس وهو من الطبقة الثانية من أصحاب الإِمام أحمد وكان عالما ناسكا وروعا، مات لعشر بقين من ذي الحجة سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة وعاش خمسا وتسعين سنة ويقال إن مولده في سنة ثلاث وخمسين ومائتين، ومن ذلك قوله «يعني اللتان» وصوابه «يعني اللتين» ومن ذلك قوله في الآية من سورة الشورى «ما كان لبشر» وصوابه «وما كان لبشر» .
الوجه الثاني أن يقال قد نقل الحافظ ابن كثير في تفسير سورة الإِسراء عن أبي الخطاب ابن دحية أنه قال في كتابه «التنوير في مولد السراج المنير» قد تواترت الروايات في حديث الإِسراء - ثم ذكر خمسة وعشرين من الصحابة رضي الله عنهم رووا حديث الإِسراء ثم قال - فحديث الإِسراء أجمع عليه المسلمون وأعرض عنه الزنادقة والملحدون (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون) انتهى.
وقد أنكر المؤلف تردد النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإِسراء بين ربه عز وجل وبين موسى عليه الصلاة والسلام في طلب تخفيف فريضة الصلاة وزعم أن ذلك فرية.
والجواب أن أقول (سبحانك هذا بهتان عظيم)(كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا).
ولا ينكر تردد النبي صلى الله عليه وسلم بين ربه وبين موسى عليه الصلاة والسلام في طلب تخفيف فريضة الصلاة إلا من ينكر حديث الإِسراء وذلك دليل على الزندقة والإِلحاد.
الوجه الثالث أن يقال الذي نص عليه الإِمام أحمد رحمه الله تعالى أن الإِسراء كان يقظة هو القول الصحيح، قال النووي في شرح مسلم نقلا عن القاضي عياض أنه قال اختلف الناس في الإِسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل إنما كان جميع ذلك في المنام والحق الذي عليه أكثر الناس ومعظم السلف وعامة المتأخرين من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين أنه أسري بجسده صلى الله عليه وسلم، والآثار تدل عليه لمن طالعها وبحث عنها ولا يعدل عن ظاهرها إلا بدليل ولا استحالة في حملها عليه فيحتاج إلى تأويل انتهى.
وقال ابن كثير في تفسيره الأكثرون من العلماء على أنه أسري ببدنه وروحه يقظة لا مناما ولا ينكرون أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قبل ذلك مناما ثم رآه بعده يقظة لأنه كان عليه السلام لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، والدليل على هذا قوله تعالى (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) فالتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام فلو كان مناماً لم يكن فيه كبير شيء ولم يكن مستعظما ولما بادرت كفار قريش إلى تكذيبه ولما ارتدت جماعة ممن كان قد أسلم، وأيضاً فإن العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد وقد قال (أسرى بعبده ليلاً) وقال تعالى (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) قال ابن عباس هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، والشجرة الملعونة هي شجرة الزقوم، رواه البخاري، وقال تعالى (ما زاغ البصر وما طغى) والبصر من آلات الذات لا الروح، وأيضا فإِنه حمل على البراق وهو دابة بيضاء براقة لها لمعان إنما يكون هذا للبدن لا للروح لأنها لا تحتاج في حركتها إلى مركب تركب عليه والله أعلم انتهى.
وقال ابن كثير أيضاً في «البداية والنهاية» مذهب جمهور السلف والخلف أن الإِسراء كان ببدنه وروحه صلوات الله وسلامه عليه كما دل على ذلك ظاهر السياقات من ركوبه وصعوده في المعراج وغير ذلك انتهى.
وأما قوله وفي البخاري من حديث شريك أن الإِسراء كان مناما
فجوابه أن يقال قد تكلم العلماء في رواية شريك، قال النووي قد جاء في رواية شريك في هذا الحديث أوهام أنكرها عليه العلماء وقد نبه مسلم على ذلك بقوله فقدم وأخر وزاد ونقص، وقال الحافظ عبد الحق في كتابه الجمع بين الصحيحين بعد
ذكر هذه الرواية، هذا الحديث بهذا اللفظ من رواية شريك بن أبي نمر عن أنس وقد زاد فيه زيادة مجهولة وأتى فيه بألفاظ غير معروفة، وقد روى حديث الإِسراء جماعة من الحفاظ المتقنين والأئمة المشهورين كابن شهاب وثابت البناني وقتادة يعني عن أنس فلم يأت أحد منهم بما أتى به شريك، وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث، قال والأحاديث التي تقدمت قبل هذا هي المعول عليها، هذا كلام الحافظ عبد الحق انتهى كلام النووي.
وقال ابن كثير في البداية والنهاية وقوله في حديث شريك عن أنس ثم استيقظت فإِذا أنا في الحجر - معدود في غلطات شريك أو محمول على أن الانتقال من حال إلى حال يسمى يقظة كما في حديث عائشة رضي الله عنها حين ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل الطائف فكذبوه قال فرجعت مهموما فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، وفي حديث أبي أسيد حين جاء بابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحنكه فوضعه على فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتغل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديث مع الناس فرفع أبو أسيد ابنه ثم استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجد الصبي فسأل عنه فقالوا رفع فسماه المنذر، وهذا الحمل أحسن من التغليط والله أعلم انتهى كلام ابن كثير.
وأما رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه عز وجل ليلة الإِسراء فقد اختلف العلماء فيها فأثبتها بعضهم ونفاها آخرون، وقال بعضهم رآه بفؤاده لا بعيني رأسه. قال ابن كثير في «البداية والنهاية» اختلفوا في الرؤية فقال بعضهم رآه بفؤاده مرتين قاله ابن عباس وطائفة، وأطلق ابن عباس وغيره الرؤية وهو محمول على التقييد، وممن أطلق الرؤية أبو هريرة وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما، وصرح بعضهم بالرؤية بالعينين واختاره ابن جرير وبالغ فيه وتبعه على ذلك آخرون من المتأخرين، وممن نص على الرؤية بعيني رأسه الشيخ أبو الحسن الأشعري فيما نقله السهيلي عنه واختاره الشيخ أبو زكريا النووي في فتاويه، وقالت طائفة لم يقع ذلك لحديث أبي ذر في صحيح مسلم قلت يا رسول الله هل رأيت ربك فقال «نور أنى أراه» وفي رواية «رأيت نوراً» والخلاف في هذه المسألة مشهور بين السلف والخلف انتهى.
وأما قول المؤلف ونقول للمؤمن العاقل تأمل منازعة هذا الحديث لقوله تعالى (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) وقوله (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب).
فجوابه أن يقال ليس بين رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإِسراء على قول من أثبتها وبين الآيتين منازعة لأن الإِدراك المذكور في الآية من سورة الأنعام هو الإِحاطة، والله تبارك وتعالى لا يحاط به، وإذا ورد النص بنفي الإِدراك الذي هو الإِحاطة فلا يلزم منه نفي الرؤية بغير إحاطة، وهذه الشمس والقمر والنجوم كل بصير يراها ولا يحيط بها ولا يدرك حقيقتها وكنهها وماهيتها، والله تبارك وتعالى أعظم من أن يحاط به قال الله تعالى (ولا يحيطون به علماً).
وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة عياناً كما يرون الشمس والقمر، يرونه في العرصات وفي روضات الجنات، وهذا مما يؤمن به أهل السنة والجماعة وينكره الجهمية والمعتزلة ومن نحا نحوهم من أهل البدع.
وأما قوله (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب).
فقد أجاب عنه النووي في شرح مسلم بأنه لا يلزم من الرؤية وجود الكلام حال الرؤية فيجوز وجود الرؤية من غير كلام.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (65) ما نصه
خرافة أن الحجر الأسود يمين الله في الأرض، عن ابن عباس أن الحجر الأسود يمين الله في الأرض يصافح بها من يشاء من خلقه، وفي رواية أخرى عنه أنه قال الحجر الأسود من الجنة وكان أشد بياضاً من الثلج حتى سودته خطايا الناس، قالوا إنه يأتي يوم القيامة وله لسان وشفتان ليشهد لمن استلمه بحق (ص 271 من كتاب تأويل مختلف الحديث) وهذا الحديث إسرائيلي متقول عن وهب بن منبه الذي قال فيه كان لؤلؤة بيضاء فسوده المشركون، وقد استهزأ الجاحظ بهذا الحديث فقال كان يجب أن يبيضه المسلمون حين أسلموا (ويبدو أن المخترعين لهذا الحديث قصدوا أن يقولوا أن الناس يقبلون يد الله ومثل ذلك يقبلون يد الشيوخ).
والجواب أن يقال إن المؤلف نقل أكثر هذا الكلام من كتاب أبي رية وقد وقع فيه تغيير في كلمتين إحداهما قوله «حتى سودته خطايا الناس» وصوابه «حتى سودته خطايا أهل الشرك» والثانية قوله «متقول عن وهب» وصوابه «منقول عن وهب» .
فأما الحديث الذي فيه أن الحجر الأسود يمين الله يصافح بها خلقه فهو مروي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا، ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما مرفوعا، فأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فرواه عبد الرزاق في مصنفه عن إبراهيم بن يزيد أنه سمع محمد بن عباد يحدث أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول «الركن - يعني الحجر - يمين الله في الأرض يصافح بها خلقه مصافحة الرجل أخاه يشهد لمن استلمه بالبر والوفاء» ، إبراهيم بن يزيد هو الخوزي بضم المعجمة وبالزاي أبو إسماعيل المكي متروك الحديث، ثم قال عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج عن محمد بن عباد عن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه، وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، ثم قال عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج وحدثت عن علي بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال «الركن هو يمين الله يصافح بها عباده» إسناده ضعيف لجهالة الذي حدث به عن علي بن عبد الله، والرواية الصحيحة قبله تشهد له وتقويه.
وقال الحافظ ابن حجر في «المطالب العالية» محمد بن عباد بن جعفر سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول «إن هذا الركن يمين الله في الأرض يصافح بها عباده مصافحة الرجل أخاه» قال ابن حجر (لمحمد بن أبي عمر) قال الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي في تعليقه على «المطالب العالية» «في المسندة هذا موقوف جيد، وقال البوصيري رواه ابن أبي عمر موقوفاً بإِسناد الصحيح» انتهى.
وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فقد رواه ابن خزيمة في صحيحه والطبراني في الأوسط والحاكم في مستدركه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يأتي الركن يوم القيامة أعظم من أبي قبيس له لسان وشفتان يشهد لمن استلمه بالحق وهو يمين الله عز وجل يصافح بها خلقه» قال الهيثمي في الكلام على إسناد الطبراني، فيه عبد الله بن المؤمل وثقه ابن حبان وقال يخطئ وفيه كلام وبقية رجاله رجال الصحيح انتهى. وقد صححه الحاكم وتعقبه الذهبي فقال عبد الله بن المؤمل واه قال بعض العلماء وهذا غلو من الذهبي، وقد روى الإِمام أحمد منه قوله «يأتي الركن يوم القيامة أعظم من أبي قبيس له لسان وشفتان» وفي إسناده عبد الله بن المؤمل ومع هذا فقد قال المنذري إسناده حسن.
وإذا علم أن حديث ابن عباس رضي الله عنهما صحيح الإِسناد وأن ابن