الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من مركب وزاد ومتاع وغير ذلك واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات وسير معها أخاها محمد بن أبي بكر فلما كان اليوم الذي ارتحلت فيه جاء علي رضي الله عنه فوقف على الباب وحضر الناس وخرجت من الدار في الهودج فودعت الناس ودعت لهم وقالت يا بني لا يعتب بعضنا على بعض إنه والله ما كان بيني وبين علي في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها وإنه على معتبتي لمن الأخيار فقال علي رضي الله عنه صدقت والله ما كان بيني وبينها إلا ذاك وإنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، وسار علي رضي الله عنه معها مودعا ومشيعا أميالا وسرح بنيه معها بقية ذلك اليوم.
ولو كان بين علي وعائشة رضي الله عنهما أمور خاصة تدعو إلى سعي عائشة رضي الله عنها في نقض بيعة علي رضي الله عنه لما رحبت عائشة رضي الله عنها بعلي رضي الله عنه لما دخل عليها ولما قالت في حقه ما قالت ولما فعل علي رضي الله عنه معها ما فعل من الحفاوة والتكريم.
الوجه الرابع أن يقال
من أصول أهل السنة والجماعة الكف عما شجر بين الصحابة
رضي الله عنهم. فلا يثير الكلام فيما شجر بينهم إلا من كان يبتغي الطعن فيهم من أهل البدع والأهواء المخالفين لما عليه أهل السنة والجماعة، وفي إثارة الكلام فيما شجر بينهم دليل على ما في قلب المتكلم فيهم من الغل والبغض لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون).
الوجه الخامس أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» رواه الإِمام أحمد وأبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وصححه ابن حبان، ورواه الإِمام أحمد أيضا والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه حين كتب إلى أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يغزوهم عام الفتح فقال عمر رضي الله عنه دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعلموا ما شئتم فقد غفرت لكم» ، وقد كان علي وطلحة والزبير رضي الله عنهم من أهل بدر فما كان لهم من
أعمال سيئة فهي مغفورة لهم بلا شك، وكذلك عائشة رضي الله عنها لأنها حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته في الدنيا والآخرة. ومن لم يؤمن بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من المغفرة لأهل بدر وأن تبشير العشرة بالجنة حق وأن عليا وطلحة والزبير منهم وإن وقع منهم يوم الجمل ما وقع فهو ممن يشك في إسلامه لأنه لم يحقق الشهادة بأن محمداً رسول الله، ومن تحقيقها الإِيمان بما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمور الغيب فيما مضى وما يأتي.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (36) و (37) ما نصه:
كلمة حق للإِمام السلفي محمد عبده في تعليل نشأة الاختراع في الرواية ووضع الحديث، قال الإِمام توالت الأحداث بعد ذلك ونقض بعض المبايعين للخليفة الرابع ما عقدوا وكانت حروب بين المسلمين انتهى فيها أمر السلطان إلى الأمويين غير أن بناء الجماعة قد تصدع وانفصمت عرى الوحدة بينهم وتفرقت بهم المذاهب في الخلافة وأخذت الأحزاب في تأييد آرائهم كل ينشر رأيه على رأي خصمه بالقول والعمل وكانت نشأة الاختراع في الرواية والتأويل. وعلا كل قبيل على الآخر فافترق الناس.
قال المؤلف ولهذا يمكننا أن نقول إن وضع الحديث على رسول الله - ص -كان كما قال أحد الأئمة هو أشد خطراً على الدين، وأنكى ضرراً بالمسلمين من تعصب أهل المشرقين والمغربين وأن تفرق المسلمين إلى شيع وفرق ومذاهب كان أصله وسببه افتعال الحوادث وبناء الأحاديث الموضوعة على أساس افتعالها ثم كانت سلبية بعض العلماء هي السبب في تثبيت هذه الأحاديث في بواطن وسطور المراجع ومعاملتها في تلك المراجع معاملة الصحيح تماما.
والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال إن الإِمامة في الدين لا تنال بالشقاشق وكثرة الخطب والكلام ولا بالتفكير العصري والثقافة الغربية، ولا باتباع أهل الكلام المذموم، ولا بتأويل الآيات القرآنية على غير تأويلها وحملها على غير محاملها وما يراد بها، ولا بالطعن في الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وتكذيبها وردها، ولا بالتوفيق بين العلوم الشرعية وأقوال فلاسفة المسلمين وملاحدة
الإِفرنج، ولا بدعوى الأتباع في متبوعهم أنه إمام، ولا بترضيهم عنه كما يترضى أهل السنة والجماعة عن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وإنما تنال بالتمسك بالكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإِحسان وبالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر واليقين، فمن كان بهذه الصفة استحق الإِمامة وإلا فلا، قال الله تعالى (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون).
وكذلك قول بعض الناس فلان سلفي وهو على خلاف ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإِحسان فمثل هذا لا يستحق أن يقال إنه سلفي لأن هذا اللقب لا يطابق حاله فيكون تلقيبه بذلك من قول الزور.
وإذا علم هذا فليعلم أيضا أن تلقيب محمد عبده بالإِمام والسلفي لا يطابق حاله لأنه متصف بجميع ما تقدم ذكره من الصفات التي تخالف ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإِحسان، والشاهد على ذلك ما يوجد في كتبه ومقالاته وما ينقله عنه أتباعه في كتبهم، ولولا إيثار الاختصار لذكرت من ذلك شيئا كثيراً، ويكفي من ذلك تصريحه بالقول بخلق القرآن في رسالته التي سماها رسالة التوحيد، وما أعظم ذلك وأشنعه.
وقد قال الشيخ عبد الله بن علي بن يابس في رده على محمود شلتوت صفحة 149 بعد ذكره لمحمد عبده، قال الوجه الثاني أنه حرف آية البقرة وهي قوله تعالى (فرجل وامرأتان) وقصرها على الاستيثاق محتجا بقول رجل رضع من ثدي باريس وعب من فلسفة الرازي والغزالي وصاحب المواقف وقل نصيبه في علوم الدين فإِذا ذهب يكتب فيه جاء بأقوال ممزوجة بشبه ملاحدة الغرب وفلاسفة الإِسلام، وذلك الرجل هو محمد عبده انتهى.
فلينظر إلى قول هذا العالم الجليل الذي درس حال محمد عبده وعرفه حق المعرفة.
الوجه الثاني أن يقال إن خطر الطعن في الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وردها واطراحها ليس بدون الخطر في وضع الأحاديث على النبي صلى الله عليه وسلم، فالوضاعون يزيدون في الأحاديث والمكذبون للأحاديث الصحيحة
ينقصون منها وكلا الأمرين شديد الخطر على الدين، وقد جاء الوعيد الشديد لمن كذب على النبي صلى الله عليه وسلم متعمداً، وجاء التشديد أيضا على رد الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ومعارضتها بالقرآن، وقد تقدم ذكر الأحاديث في ذلك في الفصل الثالث في أول الكتاب فليراجع (1).
الوجه الثالث أن المؤلف رمى علماء الحديث بالسلبية التي معناها السكوت عن إنكار تثبيت الأحاديث الموضوعة في المراجع من كتب الحديث ومعاملتها في تلك المراجع معاملة الأحاديث الصحيحة، وهذا إنما يكون من أحد شيئين إما الغباوة والتغفيل من المخرجين ومن العلماء الذين أقروهم وسكتوا عنهم، وإما قلة العناية والاهتمام بالسنن وإقرار ما يلصق بها من الأحاديث الموضوعة، والجواب عن هذه الفرية أن نقول (سبحانك هذا بهتان عظيم)(كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً) فليس في الصحيحين ولا في غيرهما من أمهات الكتب شيء من الأحاديث الموضوعة. وقد أعطى الله تعالى كبار المحدثين من النباهة والذكاء والفطنة ما فاقوا به كثيراً من الناس، فلا تخفى عليهم أحاديث الكذابين والوضاعين ولا تروج عليهم، وأعطاهم الله من العناية والاهتمام بالأحاديث وتمييز الصحيح من الضعيف والواهي والموضوع وبيان الكذابين والوضاعين والتحذير منهم ما هو معلوم عند أهل العقول السليمة والعدل والإنصاف، وإنما السلبية كل السلبية في تلامذة الإفرنج من العصريين ومن يقلدهم من الأغبياء المغفلين الذين لا يميزون بين الأحاديث الصحيحة والأحاديث الموضوعة، ومنهم المؤلف وأبو رية وأشباههما من أعداء السنة وحملتها، فهؤلاء يخطبون خبط عشواء فيصححون الأحاديث الضعيفة والموضوعة ويعتمدون عليها إذا كانت موافقة لآرائهم أو آراء من يعظمونه من شيوخهم وغير شيوخهم من المسلمين وغير المسلمين، ويطعنون في الأحاديث الصحيحة ويزعمون أنها من الدس الإِسرائيلي إذا كانت مخالفة لآرائهم أو آراء من يعظمونه من شيوخهم وغير شيوخهم من المسلمين وغير المسلمين، فهؤلاء يدورون مع الأهواء حيثما دارت بهم وقد قال الله تعالى (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين).
(1) ص: 5 - 7.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (37) ما نصه:
قال المرتضى اليماني في كتابه إيثار الحق إن معظم ابتداع المبتدعين من أهل الإِسلام إنما يرجع إلى هذين الأمرين الواضح بطلانهما وهما الزيادة في الدين أو النقص منه. ومن أنواع الزيادة في الدين الكذب على رسول الله - ص -.
والجوب أن يقال إن المؤلف أورد هذا الكلام يحسب أنه يؤيد أقواله الباطلة في معارضة الأحاديث الصحيحة، وهو ينعكس بالرد عليه وإلحاقه بالمبتدعين الذين ينتقصون من الدين بتكذيبهم للأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالمؤلف معول من معاول هدم الدين، وهو مع الوضاعين في طرفي نقيض. فالوضاعون يزيدون في الأحاديث بالكذب، والمؤلف وأشباهه ينتقصون من الأحاديث الصحيحة بالكذب وكلا الطائفتين على شفا هلكة.
فصل
وفي صفحة (37) و (38) و (39) نقل المؤلف كلاما طويلا عن دائرة المعارف المصرية وقد أخذه من هامش كتاب أبي رية صفحة (119) و (120) وهو من كلام المستشرقين أعداء الإِسلام والمسلمين أرادوا به الطعن في دين الإِسلام وتشكيك المسلمين في سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم. ومما ذكروا فيه أن الرواة استباحوا لأنفسهم اختراع أحاديث تتضمن القول أو الفعل ونسبوها إلى النبي - ص - لكي تتفق وآراء العصر الثاني وأنها قد كثرت الأحاديث الموضوعة المتناقضة أشد التناقض في سنة محمد - ص - إلى آخر كلامه الذي هو غاية في التلبيس والتشكيك، ثم قال المؤلف بعده ونقول تعقيبا على ذلك إنه لمن أكبر وأعظم أسباب الأسى والأسف أن يعلم أولئك المستشرقون من أمر المسلمين والإِسلام ما لا يعلمه كثير من أهله، ولا شك أن الواجب يقضي ويفرض علينا تبرئة النبي - ص - مما قاله المستشرقون، ويفرض علينا أيضا تطهير سنة النبي - ص - من الأحاديث الموضوعة والتي وضعت في فترة الفتنة وغيرها في فرصة النفاذ إلى الأحاديث الصحيحة وفي فرصة الوصول إلى صفحات الكتب الشهيرة سواء كان وضع الحديث قد تم بحسن قصد من بعض السذج من المسلمين أم بسوء قصد من الكتابيين أو المنافقين.
والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال مثل الذي ينقل كلام المستشرقين في طعنهم في السنة ويرضى به كمثل الذي ذهب إلى غنم ليأخذ شاة يأكلها فوقع اختياره على كلب الغنم فأخذه وقد قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون) وقال تعالى (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) وقال تعالى (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) الآية.
الوجه الثاني أن يقال ما زعمه أعداء الله تعالى من أن الرواة استباحوا لأنفسهم اختراع الأحاديث وأن الأحاديث الموضوعة المتناقضة أشد التناقض قد كثرت في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو إفك مفترى وزور وبهتان، فإِن الرواة الأثبات الذين خرج لهم أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد المشهورة ليسوا من الوضاعين وإنما هم أعداء الوضاعين في الحقيقة، وقد قام أكابر الأئمة منهم بتمييز الأحاديث الصحيحة من الأحاديث الضعيفة والواهية والموضوعة وجدوا واجتهدوا في ذلك واعتنوا به أشد الاعتناء وبينوا أسماء الكذابين والوضاعين وتركوا الأمر واضحا جليلا لا لبس فيه فجزاهم الله عن الإِسلام والمسلمين خير الجزاء، وهذا مما يتجاهله المستشرقون ويتعامون عنه، وكذلك المقلدون لهم من العصريين.
الوجه الثالث أن يقال إن الله تعالى قد حفظ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم من التناقض ومن امتزاج الأحاديث الموضوعة بها. فالأحاديث الصحيحة معروفة عند علماء المسلمين وعليها المعول عندهم والأحاديث الموضوعة معروفة عندهم وقد اجتنبوها وحذروا الناس منها، فمن زعم غير ذلك فقوله باطل مردود عليه.
الوجه الرابع أن يقال ما ألصقه المستشرقون بالسنة وأهلها فكله باطل أرادوا به التلبيس والتشكيك في دين الإِسلام وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الغباوة والجهل المزري بصاحبه تصديق المستشرقين في هذيانهم وأكاذيبهم على الإِسلام وأهله، ومن أقبح الغباوة والجهل أيضا زعم المؤلف تقليداً لأبي رية أن المستشرقين يعلمون من أمر المسلمين والإِسلام ما لا يعلمه كثير من أهله، والواقع في الحقيقة أن المستشرقين يخبطون خبط عشواء في كتاباتهم عن الإِسلام والمسلمين، وكثيراً ما ينكرون الحقائق ويصدقون بالأكاذيب ويعتمدون عليها، وكثير من ضعفاء
البصيرة من العصريين يعتمدون على كتاباتهم وهي مما لا يعتمد عليه.
الوجه الخامس أن يقال إذا كان المؤلف لا يشك أن الواجب يقضي ويفرض عليه تبرئة النبي صلى الله عليه وسلم مما قاله المستشرقون ويفرض عليه تطهير سنة النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الموضوعة، فما باله يعكس الأمر فيمدح المستشرقين ويزعم أن عندهم من العلم بالإِسلام والمسلمين ما ليس عند كثير من المسلمين، وما باله يحمل أقبح الحمل على بعض الأحاديث الصحيحة فيطعن فيها ويردها بمجرد الهوى ويعرض عن الأحاديث الموضوعة فلا يذكرها ولا يطعن في شيء منها. وربما أورد منها في بعض المواضع ما يوافق هواه فيصححه ويعتمد عليه، فهل هذا هو المفروض عليه؟ وهل في أفعاله السيئة تطهير لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والجواب أن يقال إن المؤلف قد نبذ المفروض عليه وراء ظهره وأتى بما يخالفه، ويقال أيضا إنه يجب تطهير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ألصقه بها المؤلف وأبو رية وأشباههما من أهل الإِلحاد والشك والتشكيك، ويجب أيضا تنزيه الصحيحين وغيرهما من الكتب الشهيرة عند المسلمين كالسنن والمسانيد المشهورة مما زعمه المؤلف من وصول الموضوعات إلى صفحاتها، ويجب أيضا تنزيه الثقات الأثبات الذين جمعوا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتنوا بتنقيتها من الأحاديث الموضوعة مما رماهم به المؤلف من السذاجة التي معناها الغباوة والتغفيل، ولا شك أن المؤلف وأبا رية وأشباههما من الذين يصغون إلى أكاذيب المستشرقين ويغترون بما ينشرونه من زخرف القول أولى بوصف السذاجة والغباوة والتغفيل.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (40) و (41) ما ملخصه:
الوضع لنصرة المذاهب في أصول الدين وفروعه - إلى أن قال - وليت أسباب الوضع لنصرة المذاهب محصورة في المبتدعة وأصل المذاهب في الأصول، بل من أهل السنة المختلفين في الفروع من وضع أحاديث كثيرة لنصرة مذهبه أو تعظيم إمامه، وإليك حديثا واحداً وهو (يكون في أمتي رجل يقال له محمد بن إدريس أضر على أمتي من إبليس) ويكون في أمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج أمتي) ، وهنا اضطرت الشافعية إزاء ذلك إلى أن يرووا في إمامهم حديثا يفضلونه على كل إمام. وهذا نصه: قال رسول الله - ص - (أكرموا قريشا فإِن عالمها يملأ طباق
الأرض علما) ، وأنصار الإِمام مالك لم يلبثوا أن وضعوا في إمامهم هذا الحديث ونصه (يخرج الناس من المشرق إلى المغرب فلا يجدون أعلم من عالم أهل المدينة) يعني مالك.
والجواب أن يقال هذا الكلام نقله المؤلف من كتاب أبي رية وهو من الأباطيل المردودة على قائلها، فأما قوله إن من أهل السنة المختلفين في الفروع من وضع أحاديث كثيرة لنصرة مذهبه أو تعظيم إمامه.
فجوابه أن يقال إنما يعرف وضع الأحاديث عن الزنادقة وأهل البدع وهؤلاء ليسوا من أهل السنة وإن انتسبوا إلى بعض المذاهب، فأما المتمسكون بالكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإِحسان فليسوا ممن يضع الحديث، وهم أهل السنة على الحقيقة، وقد يقع الوضع من بعض الجهال المنتسبين إلى السنة ومن المغفلين وهم الذين يقبلون التلقين وممن اختلطت عقولهم فخلطوا في الرواية وممن لا حفظ لهم ولا تمييز فيحدثون من حفظهم فيغلطون، هؤلاء وإن انتسبوا إلى السنة فلا عبرة بهم لأن وجودهم في أهل السنة كعدمهم.
وأما حديث (يكون في أمتي رجل يقال له محمد ابن إدريس) إلى آخره فقد رواه مأمون بن أحمد السلمي عن أحمد بن عبد الله الجويباري وكل منهما دجال معروف بكثرة الوضع، قال ابن الجوزي بعد إيراده لهذا الحديث في كتابه «الموضوعات» هذا حديث موضوع لعن الله واضعه. وهذه اللعنة لا تفوت أحد الرجلين وهما مأمون والجويباري. وكلاهما لا دين له ولا خير فيه كانا يضعان الحديث. قال ابن حبان كان مأمون دجالا من الدجالين حدث عمن لم يره وكان الجويباري كذاباً دجالاً يضع على الذين يروي عنهم ما لم يحدثوه لا يحل ذكره في الكتب إلا على سبيل الجرح فيه. وذكر هذا الحديث أبو عبد الله الحاكم في كتاب المدخل إلى كتاب الإكليل فقال قيل لمأمون بن أحمد ألا ترى إلى الشافعي وإلى من تبع له بخراسان فقال حدثنا أحمد بن عبد الله فذكر الحديث فبان بهذا أن الواضع له مأمون الذي ليس بمأمون انتهى كلام ابن الجوزي.
وأما قول المؤلف تقليداً لأبي رية. وهنا اضطرت الشافعية إزاء ذلك إلى أن يرووا في إمامهم حديثا يفضلونه على كل إمام. وهذا نصه. قال رسول الله - ص - (أكرموا قريشا فإِن عالمها يملأ طباق الأرض علما).
فجوابه من وجوه أحدها أن يقال هذا الحديث لم يروه أحد من الشافعية وإنما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده حدثنا جعفر بن سليمان عن النضر بن معبد الكندي أو العبدي عن الجارود عن أبي الأحوص عن عبد الله - يعني ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تسبوا قريشا فإِن عالمها يملأ طباق الأرض علما» الحديث. وأبو داود الطيالسي ليس هو من الشافعية وإنما هو من أقران الشافعي ومات هو والشافعي في سنة أربع ومائتين من الهجرة. وكان أكبر من الشافعي بسبع عشرة سنة.
وإذا علم هذا فلا يخفى كذب المؤلف في قوله تبعا لأبي رية إن الشافعية هم الذين رووا هذا الحديث في إمامهم يفضلونه على كل إمام.
الوجه الثاني أن يقال إن أبا رية قد حرف أول الحديث حيث قال فيه. أكرموا قريشا. والذي في الحديث «لا تسبوا قريشا» وقد تبعه المؤلف على التحريف لغباوته وجهله.
الوجه الثالث أن يقال إن الحديث ضعيف جداً لأن في إسناده النضر بن معبد، وسماه الذهبي في الميزان النضر بن حميد وقال قال أبو حاتم متروك الحديث وقال البخاري منكر الحديث، ثم أورد الذهبي هذا الحديث من روايته، وفيه أيضا الجارود وقال الذهبي في الميزان أبو الجارود وهو زيد بن المنذر قال ابن معين كذاب وقال النسائي وغيره متروك وقال ابن حبان كان رافضيا يضع الحديث في الفضائل والمثالب وقال الدارقطني إنما هو منذر بن زياد متروك، وفيه أيضا أبو الأحوص قال الذهبي في الميزان قال يحيى بن معين ليس بشيء وحسن الترمذي حديثه.
فإِن قلنا إن الحديث موضوع فآفته من النضر بن حميد أو من أبي الجارود وكلاهما كان قبل الشافعي بزمان.
وإذا علم هذا فمن أقبح الجهل قول المؤلف إن الشافعية هم الذين رووا هذا الحديث في إمامهم يفضلونه به على كل إمام. وهذا كلام لا يقوله عاقل وإنما يقوله من يهرف بما لا يعرف، وهل يقول عاقل إن النضر بن حميد وأبا الجارود كانا من الشافعية مع كونهما قبل زمان الشافعي بزمان؟!
الوجه الرابع أن يقال لو فرضنا أن الحديث صحيح فليس فيه تصريح باسم
الشافعي ولا غيره من أكابر العلماء القرشيين فيحتمل أن يكون المراد به الشافعي ويحتمل أن يكون المراد به غيره كالزهري فإِنه قد نشر عن النبي صلى الله عليه وسلم علما كثيراً وكان أول من دون الحديث، وقد ذكر ابن كثير في «البداية والنهاية» عن الحافظ أبي نعيم الأصبهاني أنه قال هو الشافعي، وذكر أيضا في موضع آخر من «البداية والنهاية» عن عبد الملك بن محمد الاسفراييني أنه قال لا ينطبق هذا إلا على محمد بن إدريس الشافعي حكاه الخطيب انتهى، ولا شك أن الشافعي قد ملأ طباق الأرض علما فلو كان الحديث صحيحا لم يبعد أن يكون هو المراد به والله أعلم.
وأما قول المؤلف تبعا لأبي رية إن أنصار الإِمام مالك لم يلبثوا أن وضعوا في إمامهم هذا الحديث ونصه (يخرج الناس من المشرق إلى المغرب فلا يجدون أعلم من عالم أهل المدينة) يعني مالك.
فجوابه من وجوه أحدها أن يقال هذا الحديث لم يروه أحد من المالكية وإنما رواه الإِمام أحمد في مسنده والترمذي في جامعه والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يوشك الناس أن يضربوا أكباد الإِبل فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة» هذا لفظ الحاكم، ولفظ الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه رواية. «يوشك أن يضرب الناس أكباد الإِبل يطلبون العلم فلا يجدون أحداً أعلم من عالم المدينة» قال الترمذي هذا حديث حسن. وفي نسخة حسن صحيح وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه، وبوب عليه الترمذي بقوله «باب ما جاء في عالم المدينة» وبوب عليه الهيثمي في «موارد الظمآن» إلى زوائد ابن حبان» بقوله:«باب في عالم المدينة» .
وإذا علم هذا فمن الزور والبهتان قول المؤلف تبعا لأبي رية إن أنصار الإِمام مالك هم الذين وضعوا هذا الحديث في إمامهم، ومن أكبر الخطأ زعم المؤلف وأبي رية إن هذا الحديث موضوع مع أنه حديث صحيح كما تقدم بيانه.
الوجه الثاني أن يقال إن أبا رية قد حرف لفظ الحديث وهذا من قلة أمانته أو عدمها وقد تبعه المؤلف على التحريف لغباوته وجهله، وقد تقدم لفظ الحديث فليقارن بينه وبين ما أورده المؤلف، ومن عجيب أمر المؤلف وأبي رية أنهما قد أنكرا
رواية الحديث بالمعنى وأكثرا من القول في ذلك، وها هما قد نقلا ما تقدم ذكره في هذا الفصل بالمعنى وغيرا لفظ الحديثين وحرفا فيهما فهلا بدأ كل منهما بنفسه فنقل الأحاديث على ما هي عليه ولم يغير فيها.؟!
الوجه الثالث قال الترمذي بعد إيراد الحديث وقد روي عن ابن عينية أنه قال في هذا سئل من عالم المدينة؟ فقال إنه مالك بن أنس، وقال إسحاق بن موسى سمعت ابن عينية يقول هو العمري عبد العزيز بن عبد الله الزاهد، وسمعت يحيى بن موسى يقول قال عبد الرزاق هو مالك بن أنس. والعمري هو عبد العزيز بن عبد الله من ولد عمر بن الخطاب انتهى كلام الترمذي. والصحيح أن اسم العمري عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله كما جاء ذلك في رواية الخطيب لهذا الحديث فعنده قال أبو موسى يعني إسحاق بن موسى الأنصاري شيخ الترمذي - فقلت لسفيان أكان ابن جريح يقول نرى أنه مالك بن أنس؟ فقال إنما العالم من يخشى الله ولا نعلم أحداً كان أخشى لله من العمري يعني عبد الله بن عبد العزيز العمري انتهى، وليس في الحديث تصريح باسم مالك ولا غيره فيحتمل أن يكون مالك هو المراد به ويحتمل أن يكون المراد به غيره من أكابر العلماء ممن كان في زمان مالك أو قبل زمانه أو بعده بزمان يسير أو أزمان، ويحتمل أن يكون ذلك في آخر الزمان حين يأرز الإِيمان إلى المدينة والله أعلم.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (41) ما نصه:
ولا شك أن المبالغة في شدة الترهيب وزيادة الترغيب سهلت على واضعي هذا النوع من الأحاديث المكذوبة، ومن ذلك قول العلماء إن الأحاديث الضعيفة يعمل بها في فضائل الأعمال، وعجيب أن تقوم فضائل الأعمال على ضعيف الحديث.
والجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن يقال قد تقدم الكلام في العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال (1) وأنه لا يعمل به بانفراده بل يعتبر به ويعتضد به مع غيره وأنه لا يجوز إثبات حكم شرعي به لا استحباب ولا غيره لكن يجوز أن يذكر في الترغيب والترهيب فيما علم حسنه أو قبحه بأدلة الشرع فإِن ذلك ينفع
(1) تقدم في ص: 173 - 174.
ولا يضر وأن العمل بالضعيف إنما يشرع في عمل قد علم أنه مشروع في الجملة. أما إثبات سنة فلا، هذا كلام شيخ الإِسلام أبي العباس ابن تيمية وغيره من أكابر العلماء في العمل بالحديث الضعيف وبه يرد على المؤلف فيما توهمه على العلماء أنهم يقولون إن فضائل الأعمال تقوم على ضعيف الحديث.
الوجه الثاني أن يقال إن المؤلف أبدى عجبه مما توهمه على العلماء الذين قالوا إنه يعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، وأعجب من ذلك تشكيك المؤلف في الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وطعنه فيها بغير حجة وتهجمه على صحيح البخاري الذي هو أصح الكتب بعد القرآن ومخالفته لإِجماع المسلمين على صحة ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما وقبوله والعمل به، ولا شك أن هذا من المحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم واتباع غير سبيل المؤمنين فالإِقدام على هذه الأعمال من رجل ينتسب إلى الإِسلام من أعجب العجب.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (43) ما ملخصه:
كان الرشيد يعجبه الحمام واللهو به فأهدي إليه حمام وعنده أبو البختري قاضي المدينة فقال للرشيد روي عن النبي - ص - أنه قال (لا سبق إلا في زحف أو حافز أو جناح) فزاد جناح وهي لفظ وضعها للرشيد خاصة فأعطاه جائزة سنية ولما خرج قال الرشيد والله قد علمت أنه كذاب وأمر بالحمام أن يذبح فقيل وما ذنب الحمام قال من أجله كذب على رسول الله.
والجواب أن يقال هذا الكلام نقله المؤلف من كتاب أبي رية وقد حرف فيه فقال «في زحف أو حافز» وصوابه في «خف أو حافر» وقال «وهي لفظ» وصوابه «وهي لفظة» وقد وهم أبو رية حيث زعم أن أبا البختري هو الذي وضع الزيادة في هذا الحديث للرشيد، وقد تبع المؤلف أبا رية على الوهم لغباوته وجهله. والصواب أن الذي وضع الزيادة في هذا الحديث غياث بن إبراهيم النخعي وضعها للمهدي لا للرشيد، قال أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه «الموضوعات» القسم الخامس قوم كان يعرض لهم غرض فيضعون الحديث، فمنهم من قصد بذلك التقرب إلى السلطان بنصرة غرض كان له كغياث بن إبراهيم فإِنه حين أدخل على المهدي وكان المهدي يحب الحمام إذا قدامه حمام فقيل له حدث أمير المؤمنين فقال حدثنا
فلان عن فلان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر أو جناح» فأمر له المهدي ببدرة فلما قام قال أشهد على قفاك أنه قفا كذاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المهدي أنا حملته على ذلك ثم أمر بذبح الحمام ورفض ما كان فيه.
قال الذهبي في الميزان غياث بن إبراهيم النخعي عن الأعمش وغيره قال أحمد ترك الناس حديثه، وروى عباس عن يحيى ليس بثقة وقال الجوزجاني كان فيما سمعت غير واحد يقول يضع الحديث وقال البخاري تركوه انتهى وقال ابن حجر في لسان الميزان قال الآجري سألت أبا داود فقال كذاب. وقال مرة ليس بثقة ولا مأمون وقال يحيى بن معين مرة كذاب خبيث وقال الساجي تركوه وقال صالح جزرة كان يضع الحديث. وقال أبو أحمد الحاكم متروك الحديث وقال النسائي ليس بثقة ولا يكتب حديثه وقال ابن عدي بين الأمر في الضعف وأحاديثه كلها شبه الموضوع انتهى.
وأما قصة أبي البختري مع الرشيد فقد ذكرها ابن الجوزي في كتابه «الموضوعات» من طريق زكريا بن يحيى الساجي قال بلغني أن أبا البختري دخل على الرشيد - وهو قاض - وهارون إذ ذاك يطير الحمام فقال هل تحفظ في هذا شيئا فقال حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطير الحمام» فقال هارون اخرج عني ثم قال لولا أنه رجل من قريش لعزلته. قال ابن الجوزي هذا الحديث من عمل أبي البختري واسمه وهب بن وهب كان من كبار الوضاعين انتهى.
وقال الذهبي في الميزان وهب بن وهب القاضي أبو البختري القرشي المدني ولي قضاء عسكر المهدي ثم قضاء المدينة متهم في الحديث قال يحيى بن معين كان يكذب عدو الله. وقال عثمان بن أبي شيبة أرى أنه يبعث يوم القيامة دجالا وقال أحد كان يضع الحديث وضعا فيما نرى انتهى. وقال ابن حجر في لسان الميزان قال أحمد بن حنبل هو أكذب الناس وكذا قال إسحاق بن راهويه وكان وكيع يرميه بالكذب وكذبه حفص بن غياث وقال شعيب بن إسحاق كذاب هذه الأمة أبو البختري وذكر آخر وقال ابن الجارود كذاب خبيث كان عامة الليل يضع الحديث وقال أبو طالب عن أحمد ما أشك في كذبه وأنه يضع الحديث واتهمه مالك بن أنس
وقال النسائي في التمييز ليس بثقة ولا يكتب حديثه كذاب خبيث. وقال الحاكم روى عن جعفر وهشام الموضوعات. وذكره العقيلي في الضعفاء وقال لا أعلم له حديثا مستقيما كلها بواطيل. وقال ابن عدي بعد أن ساق له أحاديث وهذه بواطيل وأبو البختري من الكذابين الوضاعين وكان يجمع في كل حديث يرويه أسانيد من جسارته على الكذب ووضعه على الثقات انتهى.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (43) ما نصه مما وضعته البكرية
ثم ذكر ثلاثة أحاديث من الموضوعات في فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثم قال في صفحة (44) وأخرج أبو يعلى عن ابن عمر أن النبي - ص - قال «إن الملائكة لتستحي من عثمان كما تستحيي من الله ورسوله» وفي حديث البخاري أن رسول الله قال «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» وفي حديث أن صورتها قد جاءت النبي في سرقة من حرير مع جبريل وقال له هذه زوجتك في الدنيا والآخرة» وفي حديث آخر «خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء» وفي رواية «خذوا شطر دينكم» وأخرج الترمذي أن النبي - ص - قال لمعاوية «اللهم اجعله هاديا مهديا» وفي حديث آخر أن النبي قال «اللهم علمه الكتاب والحساب وقه العذاب» هناك زيادة في الحديث «وأدخله الجنة» وعلى كثرة ما جاء في فضائل معاوية من أحاديث لا أصل لها فإِن إسحاق بن راهويه وهو الإِمام الكبير وشيخ البخاري قد قال إنه لم يصح في فضائل معاوية شيء.
والجواب أن يقال ما ذكر في هذا الفصل فهو مما نقله المؤلف من كتاب أبي رية وظلماته، ويظهر من صنيع أبي رية حيث ذكر الأحاديث الموضوعة في فضل أبي بكر رضي الله عنه وما جاء في عثمان ومعاوية رضي الله عنهم ولم يتعرض للأحاديث الموضوعة في فضل علي رضي الله عنه مع أنها أكثر مما جاء من الموضوعات في فضائل غيره من الصحابة أنه قد تأثر بالرافضة ومال إليهم فلهذا أعرض عما وضعته الرافضة في فضائل علي رضي الله عنه. وأما المؤلف فإِنما هو مقلد لأبي رية ينقل من كتابه ويعتمد على أقواله الباطلة وليس عنده تمييز بين الغث والسمين من أقوال أبي رية وما ينقله من كلام غيره وما يذكره من الأحاديث، وما أشبه المؤلف بالذين قال الله
تعالى فيهم (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا).
ولما كان أبو رية حريصا على التلبيس والتشكيك في الأحاديث الصحيحة جمع في هذا الموضع بين الأحاديث الصحيحة والأحاديث الضعيفة والأحاديث الموضوعة وجعلها كلها من الموضوعات، وهذا من مجازفته وتحامله على الأحاديث الصحيحة وإبراز ما يكنه لها من العداوة.
فأما الأحاديث الثلاثة في فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقد أشرت إليها وذكرت أنها موضوعة.
وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن الملائكة لتستحي من عثمان كما تستحي من الله ورسوله» فهو حديث ضعيف وليس بموضوع ولم أر أحداً ذكره في الموضوعات، وقد ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال رواه أبو يعلى والطبراني وفيه إبراهيم بن عمر بن أبان وهو ضعيف، وأورده ابن كثير في «البداية والنهاية» من رواية الطبراني وقال هذا حديث غريب وفي سنده ضعف.
قلت أما أول الحديث وهو قوله «إن الملائكة لتستحي من عثمان» فهو ثابت في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعا في بيتي كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوى ثيابه فدخل فتحدث فلما خرج قالت عائشة رضي الله عنها دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك فقال «ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة» وقد رواه الإِمام أحمد بنحوه وإسناده صحيح.
وعن حفصة رضي الله عنها نحوه رواه الإِمام أحمد والطبراني في الكبير والأوسط وأبو يعلى قال الهيثمي وإسناده حسن.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» فهو ثابت في الصحيحين وجامع الترمذي من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، ومن حديث أبي موسى رضي الله عنه، وقد رواه النسائي من حديث
أبي موسى رضي الله عنه ومن حديث عائشة رضي الله عنها وإسناد كل منهما جيد. وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» رواه الطبراني قال الهيثمي ورجاله رجال الصحيح إلا أن أبا سلمة ابن عبد الرحمن لم يسمع من أبيه. وعن مصعب بن سعد عن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن عائشة تفضل على النساء كما يفضل الثريد على سائر الطعام» رواه الطبراني في الأوسط قال الهيثمي ورجاله رجال الصحيح. وعن قرة بن إياس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» رواه الطبراني قال الهيثمي وإسناده حسن.
وفي هذه الأحاديث أبلغ رد على من أنكر فضل عائشة رضي الله عنها على النساء. ومن زعم أن هذه الأحاديث موضوعة فلا شك أنه مكابر معاند.
وأما الحديث الذي فيه أن صورة عائشة رضي الله عنها جيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم في سرقة من حرير مع جبريل وقال له هذه زوجتك في الدنيا والآخرة فقد رواه الترمذي من حديث ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها «أن جبريل جاء بصورتها في خرقة حرير خضراء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال هذه زوجتك في الدنيا والآخرة» قال الترمذي هذا حديث حسن غريب. وقد رواه البخاري ومسلم من حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أريتك في المنام ثلاث ليال جاءني بك الملك في سرقة من حرير فيقول هذه امرأتك فاكشف عن وجهك فإِذا أنت هي فأقول إن يك هذا من عند الله يمضه» هذا لفظ مسلم.
قال النووي على قوله «سرقة من حرير» هي فتح السين المهملة والراء وهي الشقق البيض من الحرير قاله أبو عبيد وغيره. وقال ابن الأثير في جامع الأصول هي الشقق البيض من الحرير خاصة.
وفي هذا الحديث المتفق على صحته أبلغ رد على المؤلف وأبي رية حيث أدخلاه مع الموضوعات وزعما أنه منها وتلك مكابرة منهما واستهانة بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما حديث «خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء» وفي رواية «خذوا شطر دينكم» فهو حديث لا أصل له، قال ابن كثير في «البداية والنهاية» فأما ما يلهج به كثير من الفقهاء وعلماء الأصول من إيراد حديث «خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء» فإِنه ليس له أصل ولا هو مثبت في شيء من أصول الإِسلام، وسألت عنه شيخنا أبا الحجاج المزي فقال لا أصل له انتهى.
وقال علي القاري في «الأسرار المرفوعة» حديث «خذوا شطر دينكم عن الحميراء» قال العسقلاني لا أعرف له إسناداً ولا رأيته في شيء من كتب الحديث إلا في النهاية لابن الأثير ولم يذكر من خرجه. وذكر الحافظ عماد الدين ابن كثير أنه سأل المزي والذهبي فلم يعرفاه. وقال الحافظ عماد الدين ابن كثير في «تخريج أحاديث مختصر ابن الحاجب» هو حديث غريب جداً بل هو حديث منكر سألت عنه شيخنا الحافظ المزي فلم يعرفه وقال لم أقف له على سند إلى الآن. وقال شيخنا الذهبي هو من الأحاديث الواهية التي لا يعرف لها إسناد انتهى.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه «المنار المنيف» هو كذب مختلق.
وأما ما أخرجه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية «اللهم اجعله هاديا مهديا» فقد رواه الإِمام أحمد والترمذي من حديث عبد الرحمن بن أبي عميرة الأزدي وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله أنه ذكر معاوية وقال «اللهم اجعله هاديا مهديا واهد به» قال الترمذي هذا حديث حسن غريب، وروى الترمذي أيضا عن أبي إدريس الخولاني قال لما عزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمير بن سعد عن حمص ولى معاوية فقال الناس عزل عميراً وولى معاوية فقال عمير لا تذكروا معاوية إلا بخير فإِني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «اللهم اهد به» قال الترمذي هذا حديث غريب.
وإذا كان الترمذي قد حسن حديث عبد الرحمن بن أبي عميرة رضي الله عنه فمن الخطأ إلحاقه بالموضوعات كما فعل ذلك المؤلف وأبو رية.
وأما الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حق معاوية «اللهم علمه الكتاب والحساب وقه العذاب» فقد رواه الإِمام أحمد والبزار والطبراني وابن حبان في صحيحه من حديث العرباض بن سارية السلمي رضي الله عنه قال سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب» قال الهيثمي فيه الحارث بن زياد ولم أجد من وثقه ولم يرو عنه غير يونس بن سيف وبقية رجاله ثقات وفي بعضهم خلاف، وروى الطبراني أيضا من طريق جبلة بن عطية عن مسلمة بن مخلد عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، قال الهيثمي وجبلة لم يسمع من مسلمة فهو مرسل ورجاله وثقوا وفيهم خلاف.
وإذا كان ابن حبان قد صحح حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه فمن الخطأ إلحاقه بالموضوعات.
وأما قول إسحاق بن راهويه إنه لم يصح في فضائل معاوية شيء فجوابه أن يقال قد حسن الترمذي حديث عبد الرحمن بن أبي عميرة في ذلك وصحح ابن حبان حديث العرباض بن سارية في ذلك. وفي هذين الحديثين ما يستأنس به في إثبات الفضيلة لمعاوية رضي الله عنه، وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن أبي مليكة قال أوتر معاوية بعد العشاء بركعة وعنده مولى لابن عباس فأتى ابن عباس رضي الله عنهما فقال دعه فإِنه قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية له عن ابن أبي مليكة قال قيل لابن عباس رضي الله عنهما هل لك في أمير المؤمنين معاوية فإِنه ما أوتر إلا بواحدة قال إنه فقيه. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ظاهر شهادة ابن عباس رضي الله عنهما له بالفقه والصحبة دالة على الفضل الكثير انتهى.
ومن فضائل معاوية رضي الله عنه أنه كان من كتاب النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي بيان ذلك في آخر الفصل الثاني مما بعد هذا الفصل إن شاء الله تعالى.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (44) و (45) ما نصه
أما الأحاديث التي قيلت في حق الشام إرضاء لبني أمية فقد قالوا إنها أرض المحشر والأبدال ونزول عيسى، وروى أحمد والبغوي والطبراني وغيرهم عليكم بالشام فإِنها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده وإن الله توكل بالشام وأهله، وفي حديث آخر الشام صفوة الله في بلاده يجتبي إليها صفوته من عباده فمن خرج من الشام إلى غيرها فبسخطه ومن دخلها من غيرها فبرحمته. وروى البيهقي في الدلائل
عن أبي هريرة مرفوعا الخلافة بالمدينة والملك بالشام. وعن كعب الأحبار أهل الشام سيف من سيوف الله ينتقم الله بهم ممن عصاه. ومن حديث ستفتح عليكم الشام فإِذا خيرتم فعليكم بمدينة يقال لها دمشق وهي حاضرة الأمويين فإِنها معقل المسلمين في الملاحم وفسطاطها منها بأرض يقال لها الغوطة.
وقد جعلوا دمشق هذه هي الربوة في القرآن التي قال الله عنها (وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين) وذلك في حديث مرفوع، وقد جعلها أبو هريرة من مدائن الجنة في حديث رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم هذا نصه أربع مدائن من مدائن الجنة مكة والمدينة وبيت المقدس ودمشق وأما مدائن النار فالقسطنطينية وطبرية وأنطاكية وصنعاء، وإرضاء ليزيد بن معاوية أميرها في غزوها يجعلون القسطنطينية مرة أخرى ذات فضل كبير فيقولون حديثا عنها يقول (لتفتحن القسطنطينية فنعم الأمير أميرها ونعم الجيش ذلك الجيش).
والجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن يقال هذا الكلام قد نقله المؤلف من كتاب أبي رية ببعض زيادة وتصرف. ومن الزيادة قوله في الأحاديث التي جاءت في فضل الشام أنها قيلت إرضاء لبني أمية. وهذا خطأ كبير فإِن الأحاديث التي جاءت في فضل الشام ليست كلها موضوعة كما قد توهمه المؤلف، بل فيها الصحيح والحسن والضعيف والموضوع كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى، فأما الصحيح منها فلا شك في ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الحسن فمقبول عند أهل العلم. وأما الضعيف فيقتصر على تضعيفه ولا يجوز الحكم عليه بالوضع بغير حجة.
ويلزم على قول المؤلف أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قال ما قال في فضل الشام إرضاء لبني أمية، وما لزم عليه ذلك فهو قول سوء لا يقوله من له أدنى مسكة من عقل ودين.
الوجه الثاني أن يقال قد جاء في فضل الشام آيات من القرآن وأحاديث صحيحة. فمن الآيات قول الله تعالى (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) وقوله تعالى إخباراً عن موسى عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم).
وقوله تعالى (ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين) وقوله تعالى (ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها) وقوله تعالى (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة) قال العلماء في تفسير الآيتين من سورة الأنبياء المراد بالأرض أرض الشام وقالوا في تفسير الآية من سورة سبأ المراد بالقرى قرى الشام.
وإذا علم هذا فهل يقول المؤلف في هذه الآيات ما قاله في الأحاديث، أم ماذا يجيب به عن قوله الذي لم يتثبت فيه.
وأما الأحاديث الواردة في فضل الشام فهي كثيرة ونقتصر منها على ما ذكره المؤلف وما أشار إليه في أرض المحشر والأبدال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام.
فأما كون الشام أرض المحشر فهو ثابت بالكتاب والسنة. أما الكتاب فقول الله تعالى (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر) الآية، وأهل الكتاب هم بنو النضير أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى أذرعات من أرض الشام قال ابن عباس رضي الله عنهما «من شك أن أرض المحشر ههنا يعني الشام فليقرأ هذه الآية (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر) قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «أخرجوا» قالوا إلى أين قال «إلى أرض المحشر» رواه ابن أبي حاتم، وعن الحسن قال لما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير قال «هذا أول الحشر وأنا على الأثر» رواه ابن جرير وابن حاتم، وقال الكلبي إنما قال لأول الحشر لأنهم كانوا أول من أجلي من أهل الكتاب من جزيرة العرب ثم أجلى آخرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قال مرة الهمداني كان أول الحشر من المدينة والحشر الثاني من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحا من الشام في أيام عمر، وقال قتادة كان هذا أول الحشر والحشر الثاني نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا.
وأما الدليل من السنة فما رواه سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول لهم «إنكم تحشرون إلى بيت المقدس ثم تجتمعون يوم القيامة» رواه البزار والطبراني قال الهيثمي وإسناد الطبراني حسن.
وعن حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال اطلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر فقال ما تذاكرون؟ قالوا نذكر الساعة قال «إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات» الحديث وفيه «وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم» رواه الإِمام أحمد وأبو داود الطيالسي ومسلم وأهل السنن وقال الترمذي حديث حسن صحيح.
وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه رواه الطبراني وابن مردويه والحاكم وصححه ووافقه الذهبي على تصحيحه.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ستخرج نار من حضرموت أو من نحو بحر حضرموت قبل يوم القيامة تحشر الناس» قالوا يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال «عليكم بالشام» رواه الإِمام أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي حديث حسن صحيح غريب من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
وفي هذا الحديث دليل على أن أرض الشام هي أرض المحشر، وعن عمر رضي الله عنه أنه قال «تخرج من أودية بني علي نار تقبل من قبل اليمن تحشر الناس تسير إذا ساروا وتقيم إذا أقاموا حتى إنها لتحشر الجعلان حتى تنتهي إلى بصرى» رواه ابن أبي شيبة، وله حكم الرفع لأن فيه إخباراً عن أمر غيبي وذلك لا يقال من قبل الرأي وإنما يقال عن توقيف، وبصرى من أرض الشام.
وفيما ذكرته من الآيات والأحاديث أبلغ رد على من أنكر أن تكون الشام أرض المحشر، وفيها أيضا أبلغ رد على من زعم أن الأحاديث الواردة في ذلك إنما قيلت إرضاء لبني أمية.
وأما الأبدال فقد جاء فيهم أحاديث كثيرة ولا يصح منها شيء، وقد روى الإِمام أحمد في مسنده حديثين منها أحدهما عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وقال فيه أحمد هو منكر، والثاني عن علي رضي الله عنه وفية انقطاع، وقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه «المنار المنيف» أحاديث الأبدال والأقطاب والأغواث والنقباء والنجباء والأوتاد كلها باطلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقرب ما فيها «لا تسبوا أهل الشام فإِن فيهم البدلاء كلما مات رجل منهم أبدل الله مكانه رجلا آخر» ذكره أحمد ولا يصح أيضا فإِنه منقطع انتهى.
وأما نزول عيسى عليه الصلاة والسلام بأرض الشام فهو ثابت من حديث النواس بن سمعان وأوس بن أوس الثقفي ونافع بن كيسان عن أبيه، فأما حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه فرواه الإِمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه وهو حديث طويل ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم خروج الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام وقال فيه «فبينا هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين» الحديث. قال الترمذي حديث غريب حسن صحيح.
وأما حديث أوس بن أوس الثقفي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد رواه الطبراني ولفظه قال «ينزل عيسى بن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق» قال الهيثمي رجاله ثقات.
وأما حديث نافع بن كيسان عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد رواه البخاري في التأريخ الكبير ولفظه قال «ينزل عيسى بن مريم بشرقي دمشق عند المنارة البيضاء» وذكر الحافظ ابن حجر في الإِصابة أن ابن السكن والطبراني وابن منده أخرجوه قال وكذا أخرجه الربعي في فضائل الشام وتمام في فوائده ورجاله ثقات قلت وقد ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب وذكر أن إسناده صالح.
وفي هذه الأحاديث أبلغ رد على من أنكر أن يكون نزول عيسى عليه الصلاة والسلام بأرض الشام وعلى من زعم أن الأحاديث الواردة في ذلك إنما قيلت إرضاء لبني أمية.
وأما الحديث الذي رواه الإِمام أحمد والبغوي والطبراني وغيرهم «عليكم بالشام فإِنها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده وإن الله توكل بالشام وأهله» فقد رواه أبو داود في سننه بإِسناد حسن عن ابن حوالة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سيصير الأمر إلى أن تكونوا جنوداً مجندة جند بالشام وجند باليمن وجند بالعراق» قال ابن حوالة خرلي يا رسول الله إن أدركت ذلك فقال «عليك بالشام فإِنها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده فأما إن أبيتم فعليكم بيمنكم واسقوا من غدركم فإن الله توكل لي بالشام وأهله» وقد روى الطبراني بعضه بمعناه من طريقين قال الهيثمي ورجال أحدهما رجال الصحيح.
وروى الطبراني أيضا من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، قال الهيثمي ورجاله ثقات، وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه أيضا رواه الطبراني في الكبير من طريقين. قال الهيثمي وفيهما المغيرة بن زياد وفيه خلاف وبقية رجال أحد الطريقين رجال الصحيح. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه أيضا رواه البزار والطبراني قال الهيثمي وفيه سليمان بن عقبة وقد وثقه جماعة وفيه خلاف لا يضر وبقية رجاله ثقات.
وإذا علم ما لحديث ابن حوالة من الشواهد الحسنة فمن الخطأ إلحاقه بالموضوعات كما قد توهم ذلك المؤلف تقليداً لأبي رية.
وأما لحديث الآخر «الشام صفوة الله من بلاده يجتبي إليها صفوته من عباده فمن خرج من الشام إلى غيره فبسخطه ومن دخلها من غيرها فبرحمته» فهو حديث ضعيف رواه الطبراني من حديث أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعا قال الهيثمي وفيه عفير بن معدان وهو ضعيف.
وأما ما رواه البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا «الخلافة بالمدينة والملك بالشام» فهو حديث يشهد له الواقع وهو من أعلام النبوة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله الملك من يشاء» رواه الإِمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من حديث سفينة رضي الله عنه، وفي رواية الترمذي «الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك» قال الترمذي حديث حسن، وفي رواية ابن حبان «الخلافة ثلاثون سنة وسائرهم ملوك» وروى يعقوب بن سفيان من حديث أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، ورواه الإِمام أحمد وأبو داود الطيالسي بإِسناد حسن وفيه قصة لأبي بكرة رضي الله عنه مع معاوية رضي الله عنه وقد ذكرتها في كتابي «إتحاف الجماعة، بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة» في «باب ما جاء في خلافة النبوة» فلتراجع هناك.
وقد كان الخلفاء الراشدون في المدينة وهم أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وأما علي رضي الله عنه وهو رابع الخلفاء الراشدين فقد بويع له بالمدينة ثم سار
بعد ذلك إلى العراق ولم يزل فيه حتى قتل وكانت خلافة الحسن بن علي رضي الله عنهما نحوا من ستة أشهر وبذلك تمت خلافة النبوة ثلاثين سنة، ثم نزل الحسن رضي الله عنه عن الأمر لمعاوية رضي الله عنه وكان معاوية أول الملوك في الإِسلام وكان مقره بالشام وبذلك ظهر مصداق ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التي تقدم ذكرها قريبا.
وأما ما ذكره المؤلف وأبو رية عن كعب الأحبار أنه قال «أهل الشام سيف من سيوف الله ينتقم الله بهم ممن عصاه» فقد روي نحوه عن خريم بن فاتك الأسدي رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «أهل الشام سوط الله في أرضه ينتقم بهم ممن يشاء من عباده» الحديث رواه الطبراني مرفوعا والإِمام أحمد موقوفا على خريم قال الهيثمي ورجالهما ثقات.
وأما قول المؤلف تبعا لأبي رية، ومن حديث «ستفتح عليكم الشام فإِذا خيرتم فعليكم بمدينة يقال لها دمشق وهي حاضرة الأمويين فإِنها معقل المسلمين في الملاحم وفسطاطها منها بأرض يقال لها الغوطة» .
فجوابه أن يقال هذا الحديث قد رواه الإِمام أحمد من حديث جبير بن نفير عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفي إسناده ضعف. وله شاهد صحيح من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة إلى جانب مدينة يقال لها دمشق من خير مدائن الشام» رواه الإِمام أحمد وأبو داود ورجالهما رجال الصحيح سوى زيد بن أرطأة وهو ثقة، وقد رواه الحاكم في مستدركه ولفظه قال «يوم الملحمة الكبرى فسطاط المسلمين بأرض يقال لها الغوطة فيها مدينة يقال لها دمشق خير منازل المسلمين يومئذ» قال الحاكم صحيح الإِسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي على تصحيحه.
وقد دلت رواية الحاكم على أن تفضيل السكنى بدمشق إنما يكون في آخر الزمان إذا وقعت الملاحم بين المسلمين والروم، والملاحم إنما تكون قبيل خروج الدجال كما جاء ذلك في عدة أحاديث صحيحة ذكرتها في كتابي «إتحاف الجماعة، بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة» فلتراجع هناك في «باب ما جاء في الملحمة الكبرى» .
وقد زاد أبو رية في أثناء حديث جبير بن نفير جملة من عنده وهي قوله «وهي حاضرة الأمويين» وقد نقلها المؤلف من كتاب أبي رية وأقرها، وهذه الجملة هي الموضوع في الحديث وما سواها من الحديث فليس بموضوع وإنما هو حديث ضعيف، وقد ذكرت ما يعضده ويقويه من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وفي هذا رد على من زعم أنه من الموضوعات التي قيلت إرضاء لبني أمية.
وقد نقص المؤلف كلمتين من أول الحديث فإِنه قال «فإِذا خيرتم فعليكم بمدينة يقال لها دمشق» وصوابه «فإِذا خيرتم المنازل فيها فعليكم بمدينة يقال لها دمشق» .
وقد كان المؤلف يشدد في الرواية بالمعنى خشية الزيادة والنقصان كما تقدم ذكر ذلك عنه في أثناء الكتاب، وهو مع هذا يزيد وينقص في حديث جبير بن نفير، فهلا بدأ بنفسه فنهاها عن غيها ومنعها مما كان ينكره على غيره، وقد قال الشاعر وأحسن فيما قال:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
…
عار عليك إذا فعلت عظيم
وأما قوله وقد جعلوا دمشق هذه هي الربوة في القرآن التي قال الله عنها (وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين) وذلك في حديث مرفوع.
فجوابه أن يقال ليس في تعيين الربوة حديث مرفوع كما قد زعم ذلك المؤلف تقليداً لأبي رية. وإنما جاء في ذلك أقوال عن بعض الصحابة والتابعين، أحدها أنها دمشق رواه عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما وبه قال عبد الله بن سلام رضي الله عنه وسعيد بن المسيب والحسن وزيد بن أسلم وخالد بن معدان ومقاتل. والثاني أنها غوطة دمشق قاله مجاهد والضحاك، والثالث أنها بيت المقدس رواه عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما وبه قال قتادة وكعب، وروى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله (وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين) قال المعين الماء الجاري وهو النهر الذي قال الله تعالى (قد جعل ربك تحتك سريا) ، والرابع أنها الرملة من أرض فلسطين قاله أبو هريرة رضي الله عنه، والخامس أنها مصر قاله وهب بن منبه وابن زيد وابن السائب، وقد رجح ابن كثير أنها بيت المقدس قال لأنه المذكور في الآية الأخرى والقرآن يفسر بعضه بعضا وهذا أول ما يفسر به ثم الأحاديث ثم الآثار انتهى.
وأما قوله وقد جعلها أبو هريرة من مدائن الجنة في حديث رفعه إلى النبي - ص - هذا نصه «أربع مدائن من مدائن الجنة مكة والمدينة وبيت المقدس ودمشق وأما مدائن النار فالقسطنطينية وطبرية وأنطاكية وصنعاء» .
فجوابه أن يقال هذا الحديث قد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات وساقه من طريق الوليد بن محمد - وهو الموقري صاحب الزهري - عن الزهري عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا. ثم قال ابن الجوزي هذا حديث لا أصل له قال أحمد بن حنبل الوليد ليس بشيء وقال يحيى كذاب، وذكر الذهبي عن أبي حاتم أنه قال ضعيف الحديث وقال ابن المديني لا يكتب حديثه وقال النسائي متروك الحديث وقال الذهبي مجمع على ضعفه وقال السيوطي الوليد كذاب، وكذا قال الشوكاني قال والحديث قد أورده ابن الجوزي في الموضوعات فأصاب انتهى.
وقد أخطأ أبو رية خطأ كبيراً وأساء الأدب في كلامه حيث زعم أن أبا هريرة رضي الله عنه هو الذي جعل أربع مدائن من مدائن الجنة وأربعا من مدائن النار. وأخطأ المؤلف خطأ كبيراً حيث نقل كلام أبي رية وأقره. وإنما الذي قال في المدائن المذكورة ما قال هو الكذاب الذي وضع الحديث، وأما أبو هريرة رضي الله عنه فهو بريء من هذا الحديث وغيره من الأحاديث الموضوعة. ومن زعم أن أبا هريرة رضي الله عنه قد وضع شيئا من الأحاديث فهو مفتر أفاك.
وأما حديث «لتفتحن القسطنطينية فنعم الأمير أميرها ونعم الجيش ذلك الجيش» فقد رواه الإِمام أحمد وابنه عبد الله والبزار وابن خزيمة والطبراني من حديث عبد الله بن بشر الخثعمي عن أبيه رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول فذكره، قال الهيثمي ورجاله ثقات، ورواه الحاكم في مستدركه وقال صحيح الإِسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وهذا الفتح إنما يكون في آخر الزمان بعد الملحمة الكبرى وقبل خروج الدجال بزمن يسير كما جاء ذلك في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الملحمة الكبرى وفتح القسطنطينية وخروج الدجال في سبعة أشهر» رواه الإِمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم في مستدركه وقال الترمذي حديث حسن.
وإذا علم هذا فمن أكبر الخطأ والمجازفة زعم المؤلف أن هذ الحديث إنما قيل إرضاء ليزيد بن معاوية، وكذلك قول أبي رية ولعل هذا الحديث قد وضع من أجل يزيد بن معاوية، وهذا من استخفاف المؤلف وأبي رية بالأحاديث الصحيحة وجراءتهما على ردها واطراحها وإلحاقها بالموضوعات، نعوذ بالله من زيغ القلوب وانتكاسها.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (45) ما نصه
معاوية يضع نفسه، روى الواقدي أن معاوية لما عاد من العراق إلى الشام بعد بيعة الحسن 41 هـ خطب فقال أيها الناس إن رسول الله - ص - قال إنك ستلي الخلافة من بعدي فاختر الأرض المقدسة فإِن فيها الابدال وقد اخترتكم فالعنوا أبا تراب (يعني علي بن أبي طالب) فلما كان من الغد كتب كتابا ثم جمعهم فقرأه عليهم وفيه، هو كتاب كتبه أمير المؤمنين معاوية صاحب وحي الله الذي بعث محمداً نبيا وكان أميا لا يقرأ ولا يكتب فاصطفى له من أهله وزيراً كاتبا فكان الوحي ينزل على محمد وأنا أكتبه وهو لا يعلم ما أكتب فلم يكن بيني وبين الله أحد من خلقه فقال الحاضرون صدقت (راجع ص 36 شرح نهج البلاغة) ولم يكن معاوية كاتب للوحي ولا خط لفظة واحدة من القرآن لأنه أسلم هو وأبوه عام الفتح سنة 8 هـ.
والجواب أن يقال هذا الكلام قد نقله المؤلف من كتاب أبي رية الذي هو ظلمات بعضها فوق بعض وزاد عليه قوله في أوله «معاوية يضع نفسه» وقوله في آخره «ولم يكن معاوية كاتبا للوحي إلى آخره» .
والكلام على هذه الأباطيل من وجوه أحدها أن يقال أما قول المؤلف إن معاوية نفسه يضع.
فجوابه أن يقال (سبحانك هذا بهتان عظيم) والمؤلف لا يخلو في هذا البهتان من أحد أمرين إما أن يكون رافضيا أو قد تأثر بالرافضة ومال إلى أكاذبيهم وأقوالهم الباطلة في ذم معاوية رضي الله عنه والطعن فيه وفي غيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن زعم أن معاوية رضي الله عنه قد وضع شيئا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كاذب أفاك. وكذلك من زعم أن أحداً من الصحابة
رضي الله عنهم قد وضع شيئا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كاذب أفاك.
الوجه الثاني أن يقال إن هذه الرواية كذب بلا شك وهي إما من وضع الواقدي فإِنه كان معروفا بالوضع، وإما من وضع ابن أبي الحديد وهذا هو الأقرب لأن ابن أبي الحديد رافضي غال في الرفض، والرافضة هم الذين كانوا يضعون الأحاديث في مدح علي رضي الله عنه وأهل بيته وذم معاوية رضي الله عنه وبني أمية.
الوجه الثالث أن يقال إن معاوية رضي الله عنه منزه عن هذا الكلام الركيك السمج الذي لا يشبه كلامه ولا يليق بفصاحته وجزالة ألفاظه ورجاحة عقله، وإنما يليق بابن أبي الحديد وأمثاله من المولدين الذين قد عرفوا بركاكة الألفاظ وسماجتها وضعف العقول.
الوجه الرابع أن يقال من عجيب أمر المؤلف أنه قد تصدى للطعن في الأحاديث الصحيحة التي لا مطعن فيها بوجه من الوجوه وزعم أنها من دسائس الإِسرائيليين، وهو مع هذا يعتمد على الأكاذيب الموضوعة بلا شك ويحتج بها كما فعل في هذا الموضع حيث اعتمد على هذه الرواية المكذوبة واحتج بها في الطعن على معاوية رضي الله عنه، وقد فعل مثل ذلك في مواضع تقدم ذكرها. وهذا يدل على أنه مصاب بزيغ القلب وانتكاسه بحيث كان يرى الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق.
وأما قوله ولم يكن معاوية كاتب للوحي ولا خط لفظة واحدة من القرآن لأنه أسلم هو وأبوه عام الفتح سنة 8 هـ.
هكذا قال المؤلف كاتب وصوابه كاتبا ولكن المؤلف لغباوته وجهله لا يفرق بين المرفوع والمنصوب والمجرور، وقد تقدم له كثير من اللحن وقد نبهت على بعضه وكتبت بعضه على الصواب من غير تنبيه.
والجواب عن قوله الخاطئ أن يقال قد ثبت في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أبا سفيان قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا نبي الله ثلاث أعطنيهن قال «نعم» فذكر الحديث وفيه قال ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك قال «نعم» .
وقد عده ابن كثير في كتابه «البداية والنهاية» من كتاب النبي صلى الله عليه وسلم قال وقد ذكره مسلم بن الحجاج في كتابه عليه السلام، ثم ذكر حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي تقدم ذكره ثم قال: فيه من المحفوظ تأمير أبي سفيان وتوليته معاوية منصب الكتابة بين يديه صلوات الله وسلامه عليه. وهذا قدر متفق عليه بين الناس قاطبة انتهى وقد ذكر ابن سعد في الطبقات عدة كتب كتبها معاوية رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم وأرسلها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعض قبائل العرب.
فصل
وفي صفحة (47) ذكر المؤلف ستة أحاديث نقلها من كتاب أبي رية وزعم أنها وضعت إرضاء للعباسيين، وقد أخطأ المؤلف في حكمه على الجميع بالوضع لأن فيها حديثا صحيحا وحديثا حسنا وحديثين ضعيفين وحديثين موضوعين.
فأما الحديث الصحيح فهو ما ذكره عن أبي هريرة «لا تقوم الساعة حتى يجيء قوم عراض الوجوه صغار العيون حمر الوجوه ذلف الأنوف كأن وجوههم المجان المطرقة» .
وهذا الحديث قد رواه الإِمام أحمد والبخاري ومسلم وأهل السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما نعالهم الشعر وحتى تقاتلوا الترك صغار الأعين حمر الوجوه ذلف الأنوف كأن وجوههم المجان المطرقة» هذا لفظ البخاري في إحدى رواياته وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
وأما الحديث الحسن فهو ما ذكره في قوله، وروى الترمذي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا للعباس بدعاء قال فيه «واجعل الخلافة باقية في عقبه» .
وهذا الحديث قد رواه الترمذي في مناقب العباس ولفظه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس «إذا كان غداة الاثنين فأتني أنت وولدك حتى أدعو لكم بدعوة ينفعك الله بها وولدك» فغدا وغدونا معه فألبسنا كساء ثم قال: اللهم اغفر للعباس وولده مغفرة ظاهرة وباطنة لا تغادر
ذنبا اللهم احفظه في ولده» هذه رواية الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب، وزاد رزين «واجعل الخلافة باقية في عقبه» . وهذه الزيادة منكرة والأحرى أنها موضوعة، قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه «المنار المنيف» كل حديث في ذكر الخلافة في ولد العباس فهو كذب انتهى. وقد أخطأ المؤلف في نسبته الزيادة المنكرة إلى رواية الترمذي وهي ليست في روايته.
وأما الحديثان قد رواه البيهقي وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن العامري قال ابن كثير وهو ضعيف.
والحديث الثاني ذكره في قوله وقد امتد وضع الحديث إلى السفاح فقد روى أحمد عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال «يخرج رجل من أهل بيتي عند انقطاع الزمان وظهور الفتن يقال له السفاح» .
وهذا الحديث قد رواه الإِمام أحمد قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الأعمش عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يخرج عند انقطاع من الزمان وظهور من الفتن رجل يقال له السفاح فيكون إعطاؤه المال حثوا» ورواه البيهقي عن الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الصمد عن أبي عوانة عن الأعمش به وقال فيه «يخرج رجل من أهل بيتي يقال له السفاح» فذكره، قال ابن كثير وهذا الإِسناد على شرط أهل السنن ولم يخرجوه.
قلت في إسناده عطية العوفي والأكثرون على تضعيفه وقال ابن معين صالح وقال أبو زرعة لين وقال أبو حاتم ضعيف يكتب حديثه، وكذا قال ابن عدي وقال ابن سعد كان ثقة إن شاء الله وله أحاديث صالحة ومن الناس من لا يحتج به وقال أبو داود ليس بالذي يعتمد عليه وقال أبو بكر البزار روى عنه جلة الناس وقال ابن حجر في التقريب صدوق يخطئ كثيراً كان شيعيا مدلسا، وذكر الخزرجي في الخلاصة أن الترمذي حسن له أحاديث، وروى له البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجه، وأما بقية رجال الحديث فكلهم ثقات من رجال الصحيح.
قال ابن كثير في «البداية والنهاية» في الكلام على حديث أبي سعيد رضي الله عنه وأما السفاح فقد تقدم أنه يكون في آخر الزمان فيبعد أن يكون هو الذي بويع أول خلفاء بني العباس فقد يكون خليفة آخر. وهذا الظاهر وقد تكون صفة للمهدي الذي يظهر في آخر الزمان لكثرة ما يفسح. أي يريق من الدماء لإِقامة العدل ونشر القسط انتهى.
قلت ومما يدل على أن المراد به المهدي الذي يكون في آخر الزمان قوله في رواية البيهقي «يخرج رجل من أهل بيتي» وقد جاء ذلك في عدة أحاديث من الأحاديث التي جاءت في ذكر المهدي، وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم الأقربون ذرية فاطمة رضي الله عنها، وقد جاء في عدة أحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أدار كساءه على علي وفاطمة والحسن والحسين وقال «اللهم هؤلاء أهل بيتي» وقد ذكرها ابن كثير في تفسير سورة الأحزاب فلتراجع هناك.
وقال أيضا في صفته «فيكون إعطاؤه المال حثوا» وهذه صفة المهدي كما جاء ذلك مصرحا به في حديث أبي سعيد رضي الله عنه عند أحمد والترمذي أن الرجل يقول يا مهدي أعطني فيحثي له في ثوبه ما استطاع أن يحمل، وفي رواية لابن ماجه والحاكم أن المهدي يقول خذ، وفي رواية لأحمد أن خازن المهدي يقول احث، وفي رواية للطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه في ذكر المهدي قال «والمال كدوس يقوم الرجل يقول يا مهدي أعطني فيقول خذ» وقد ذكرت هذه الروايات مع غيرها من الأحاديث الواردة في المهدي في كتابي «إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة» فلتراجع هناك.
وأما الحديثان الموضوعان فأحدهما ذكره في قوله، وروى الطبراني قال قال رسول الله - ص - «الخلافة في ولد عمي وصنو أبي حتى يسلموها للمسيح» .
وذكر الثاني في قوله، وعن ابن عباس «ليكونن الملك أو الخلافة في ولدي حتى يغلبهم على عزمهم الحمر الوجوه الذين كأن وجوههم المجان المطرقة» .
قوله «عزمهم» كذا هو في ظلمات المؤلف. وأما ظلمات أبي رية ففيها على «عزهم» وهو الصواب، وقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه «المنار المنيف» كل حديث في ذكر الخلافة في ولد العباس فهو كذب.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (47) ما نصه
استندوا في وضع الحديث إلى ما أخرج الطحاوي في المشاكل عن أبي هريرة مرفوعا «إذا حدثتم عني حديثا تعرفونه ولا تنكرونه فصدقوا به قلته أم لم أقله فإِني أقول ما يعرف ولا ينكر وإذا حدثتم عني حديث تنكرونه ولا تعرفونه فكذبوا به فإِني لا أقول ما ينكر ولا يعرف» وقال الحافظ ابن حجر هذه والله قاصمة الظهر للمحتجين بالمرسل إذ بدعة الخوارج كانت في مبدأ الإِسلام والصحابة متوافرون ثم في عصر التابعين فمن بعدهم وهذا إذا استحسنوا أمراً جعلوه حديثا وأشاعوه فربما سمع الرجل الشيء فحدث به ولم يذكر من حدثه به تحسينا فيحمله من غيره ويجيء الذي يحتج بالمنقطعات فيحتج به مع كون أصله ما ذكرت (تحقيق الأستاذ أبو رية، ص 137 من أضواء على السنة) وكان خالد بن يزيد سمعت محمد بن سعد الدمشقي يقول إذا كان كلام حسن لم أر بأسا من أن أجعل له إسناداً (ص 32 جـ 1 النووي على مسلم).
والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال قد نقل المؤلف هذا الكلام من كتاب أبي رية وغير فيه وأخر ذكر ما يرتبط به كلام الحافظ ابن حجر وهو ما ذكره عن خالد بن يزيد، وترك قولا آخر مما يرتبط به كلام ابن حجر فلم ينقله وهو ما ذكره أبو رية بقوله وأخرج في الحلية عن ابن مهدي عن ابن لهيعة أنه سمع شيخا من الخوارج يقول بعد أن تاب، إن هذه الأحاديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم فإِنا كنا إذا هوينا أمراً صيرنا له حديثا، ثم ذكر أبو رية بعده كلام ابن حجر فظهرت بذلك فائدة كلام ابن حجر وارتبط كلامه بما جاء عن خالد بن يزيد وابن لهيعة. ومن تغييرات المؤلف قوله «أخرج الطحاوي في المشاكل» وصوابه «المشكل» وقوله «حديث تنكرونه» وصوابه «حديثا تنكرونه» وقوله «وهذا إذا استحسنوا» وصوابه «وهؤلاء إذا استحسنوا» وقوله «فيحمله من غيره» وصوابه «فيحمله عنه غيره» وقوله «تحقيق الأستاذ أبو رية» وصوابه «تحقيق الأستاذ أبي رية» وقوله «وكان خالد» وصوابه «وقال خالد» وقوله «محمد بن سعد» وصوابه «محمد بن سعيد» وهو المعروف بالمصلوب الدمشقي، قال أبو حاتم الرازي متروك الحديث قتل وصلب في الزندقة، وقال أحمد بن حنبل قتله أبو جعفر في الزندقة، حديثه موضوع، وكلامه الذي تقدم ذكره قد رواه عنه أبو الفرج ابن الجوزي في الموضوعات، وروى
أبو الفرج أيضا ما تقدم ذكره عن ابن لهيعة أنه سمع شيخا من الخوارج يقول، فذكره.
الوجه الثاني قال العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في كتابه «الأنوار الكاشفة» في الرد على قول أبي رية أخرج الطحاوي في المشكل عن أبي هريرة رضي الله عنه، أقول لم أظفر به في مشكل الآثار للطحاوي المطبوع وإنما عزي في كنز العمال 5/ 323 إلى الحكيم الترمذي انتهى.
قلت قد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات مختصراً من حديث أشعث بن براز عن قتادة عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا حدثتم عني بحديث يوافق الحق فخذوا به حدثت أو لم أحدث» قال العقيلي ليس لهذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم إسناد يصح وللأشعث هذا غير حديث منكر، قال يحيى أشعث ليس بشيء، وذكر أبو سليمان الخطابي عن الساجي عن يحيى بن معين قال هذا الحديث وضعته الزنادقة، قال الخطابي هو باطل لا أصل له انتهى. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد مختصراً بنحو ما ذكره ابن الجوزي وقال رواه البزار وفيه أشعث بن بزار ولم أر من ذكره انتهى.
قلت قد ذكره البخاري في التأريخ وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل والذهبي في الميزان والحافظ ابن حجر في لسان الميزان وغيرهم من المصنفين في الجرح والتعديل وفي بيان الأحاديث الموضوعة، قال البخاري في التأريخ الكبير، أشعث بن براز الهجيمي كان يوهنه يحيى بن يحيى، وقال ابن أبي حاتم أشعث بن براز البصري السعدي الهجيمي ثم ذكر عن يحيى بن معين أنه قال ليس بشيء، وعن عمرو بن علي أنه قال ضعيف جداً، وعن أبيه وأبي زرعة أنهما قالا ضعيف الحديث.
وقال الذهبي في الميزان أشعث بن براز الهجيمي ضعفه ابن معين وغيره وقال النسائي متروك الحديث، وقال البخاري منكر الحديث، ثم ذكر الذهبي حديثه عن قتادة عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة رضي الله عنه بنحو ما تقدم فيما ذكره ابن الجوزي ثم قال منكر جدا انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان وحديث أبي هريرة المذكور استنكره العقيلي وقال ليس له إسناد يصح قال وللأشعث غير حديث منكر، ثم ذكر ما ذكره
ابن أبي حاتم عن عمرو بن علي وأبيه وأبي زرعة، قال وقال ابن حبان يروي عن قتادة كان يخالف الثقات ويروي المنكر في الآثار حتى يخرج عن حد الاحتجاج به، وقال البزار ضعيف حدث بمناكير انتهى.
الوجه الثالث أن يقال إن أهل السنة والجماعة لم يكونوا يستندون إلى الأحاديث الضعيفة والواهية ولا يحتجون بها فضلا عن الأحاديث الموضوعة، وإنما تروج الأحاديث الضعيفة والواهية والموضوعة على الزنادقة وأهل البدع ومن يحذو حذوهم من جهال العصريين وأغبيائهم ومنهم المؤلف وأبو رية وأضرابهما من المنتسبين إلى العلم وهم بعيدون كل البعد عن العلوم الشرعية النافعة، فهؤلاء هم الذين يستندون إلى ما يوافق أهواءهم وأفكارهم المنحرفة ولو كان واهيا أو موضوعا. وإذا لم يكن موافقا لأهوائهم وأفكارهم أو أفكار من يعظمونه من الإفرنج وتلاميذ الإفرنج لم يبالوا برده واطراحه ولو كان متفقا على صحته. وفي كتاب أبي رية وكتاب المؤلف شيء كثير جداً من الأحاديث الصحيحة التي زعما إنها مكذوبة ومدسوسة على المسلمين، كما أن في الكتابين كثيراً من الأحاديث الواهية والأحاديث الموضوعة التي قد استندا إليها واحتجا بها على أقوالهما الباطلة، وقد ذكرت ما ساقه المؤلف من ذلك وما نقله من كتاب أبي رية فيما تقدم وما سيأتي وذكرت وجه الرد عليه.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (51) ما نصه
ولهذا قال الله تبارك وتعالى (إن في ذلك لآيات للمتوسمين) يعني المستطلعين، والأحاديث الموضوعة لا تحاج إلا لفراسة المؤمن الذي تذوق طعم القرآن لأنها تخالفه لمجرد تلاوتها أو تفسيرها ببساطة.
والجواب أن يقال أما تفسيره (للمتوسمين) بالمستطلعين فهو تفسير بمجرد الرأي ولم أر أحداً سبقه إلى هذا التفسير.
والقول في القرآن بمجرد الرأي حرام وقد ورد الوعيد الشديد على ذلك كما في الحديث الذي رواه الإِمام أحمد والترمذي وابن جرير والبغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «من قال في القرآن برأيه أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار» هذا لفظ ابن جرير وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
وروى أبو يعلى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قال في القرآن بغير علم جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار» قال الحافظ ابن حجر في «المطالب العالية» صحيح وقال الهيثمي في مجمع الزوائد رجاله رجال الصحيح وقال البوصيري رواه أبو يعلى بسند الصحيح.
وروى الترمذي وأبو داود وابن جرير والبغوي عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» قال الترمذي هذا حديث غريب، قال وهكذا روي عن بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أنهم شددوا في هذا في أن يفسر القرآن بغير علم انتهى. وقال البغوي قال شيخنا الإِمام قد جاء الوعيد في حق من قال في القرآن برأيه وذلك فيمن قال من قبل نفسه شيئا من غير علم انتهى.
وأما قوله إن الأحاديث الموضوعة لا تحتاج إلا لفراسة المؤمن إلى آخر كلامه.
فجوابه من وجهين أحدهما أن يقال إن المؤلف جعل هذا الكلام مقدمة لما سيأتي من تخبيطه في تفسير آيات كثيرة من القرآن بمجرد آرائه الفاسدة وأفكاره المنحرفة، وإنما فعل ذلك ليجعل بين الآيات وبين الأحاديث الصحيحة معارضة يستند إليها في رد الأحاديث الصحيحة والحكم عليها بالوضع، وسيأتي ذكر أقواله الباطلة في تفسير الآيات ومعارضة الأحاديث الصحيحة بها والرد عليه إن شاء الله تعالى.
الوجه الثاني أن يقال إن معرفة الأحاديث الموضوعة يحتاج فيها إلى معرفة الكذابين والوضاعين والمتروكين ومن أجمع العلماء على ضعفهم ولا يحصل ذلك إلا بالبحث عنهم وعن أحاديثهم في كتب الجرح والتعديل وما صنفه العلماء في الموضوعات، وأما الفراسة فليست بمستند يعتمد عليه في تصحيح الأحاديث أو تضعيفها أو الحكم عليها بالوضع لأن المرجع في الفراسة إلى غلبة الظن، والظن لا يعتمد عليه في قبول الأحاديث أو ردها قال الله تعالى (وإن الظن لا يغني من الحق شيئا).
فصل
وقال المؤلف في صفحة (51) ما نصه
أسباب الدس هي كراهية الإسرائيليون للإِسلام والمسلمين، ومن أسباب كراهية الإسرائيليون للمسلمين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أجلى يهود خيبر إلى أذرعان وغيرها.
وأقول هكذا قال المؤلف «الإِسرائيليون» بالرفع وكررها مرتين وصوابه «الإِسرائيليين» بالخفض لكونه مجروراً بالإضافة، وقال أيضا «أذرعان» وصوابه «أذرعات» وإذا كان المؤلف لا يعرف الفرق بين المرفوع والمجرور فهو عن معرفة الأحاديث الموضوعة أبعد وأبعد، ولكن الجهل وقلة الحياء وحب الشهرة تحمل ضعيف العقل على إظهار نقائصه وعيوبه للناس.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (51) و (52) ما نصه
قال ابن خلدون عندما تكلم عن التفسير النقلي إنه كان يشتمل على الغث والسمين والمقبول والمردود، والسبب في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية، وإذا تشوفوا إلى معرفة شيء مما تتشوف إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإِنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدون منهم وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبعهم من النصارى مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وأمثالهم فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم وتساهل المفسرون في مثل ذلك وملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات وأصلها كلها كما قلنا من التوراة أو مما كانوا يفترون. ولقد كان اليهود يأخذون من التوراة بعد تبديلها وتعدد نصوصها التي ابتدعوها. ومن أجل ذلك أخذ أولئك الأحبار يبثون في الدين الإسلامي أكاذيب وترهات يزعمون مرة أنها في كتابهم أو من مكنون علمهم. ويدّعون أخرى أنها مما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم وهي في الحقيقة من مفترياتهم، وأين للصحابة أن يفطنوا لتمييز الصدق من الكذب من أقوالهم وهم من ناحية لا يعرفون العبرانية التي هي لغة كتابهم، ومن ناحية أخرى كانوا أقل منهم دهاءا وأضعف مكرا؟ وبذلك راجت بينهم سوق هذه الأكاذيب وتلقى الصحابة ومن تبعهم كل ما يلقيه هؤلاء الدهاة بغير نقد أو تمحيص معتبرين أنه صحيح. وذلك هو التعليل لقول الدكتور أحمد أمين في ص 139 جـ2 ضحى الإِسلام. ومن كلامه أنه قال اتصل بعض الصحابة بوهب بن منبه وكعب الأحبار وعبد الله بن سلام واتصل التابعون بابن جريح وهؤلاء كانت لهم معلومات يروونها عن التوراة والإِنجيل وشروحها وحواشيها فلم ير المسلمون بأسا من أن يقصوها بجانب آيات القرآن فكانت منبعا من منابع التضخم.
والجواب أن يقال هذا الكلام نقله المؤلف من كتاب أبي رية وقد جعل المؤلف نفسه مع أبي رية بمنزلة الأعمى يتابعه خطوة خطوة في كثير من ترهاته وما ينقله من كلام الناس وينقاد معه إلى مهاوي الغي والضلال.
والكلام على ما في هذا الفصل من وجوه أحدها أن يقال إن أبا رية لخص كلام ابن خلدون وغير فيه وزاد، وأنا أذكر كلام ابن خلدون ليعلم الواقف عليه أن أبا رية غير مأمون في النقل وأنه يحرف فيما ينقله ويزيد فيه على حسب ما يمليه عليه شيطانه وهواه، وهذا نص كلام ابن خلدون وقد ذكره في علوم القرآن من مقدمته في صفحة (348) فقال، وصار التفسير على صنفين تفسير نقلي مسند إلى الآثار المنقولة عن السلف وهي معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول ومقاصد الآي وكل ذلك لا يعرف إلا بالنقل عن الصحابة والتابعين وقد جمع المتقدمون في ذلك وأوعوا إلا أن كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغث والسمين والمقبول والمردود. والسبب في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية وإذا تشوفوا إلى معرفة شيء مما تشوف إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإِنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى.
وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب ومعظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهودية فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها مثل أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك وهؤلاء مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وأمثالهم فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم وفي أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم وليست مما يرجع إلى الأحكام فيتحرى في الصحة التي يجب بها العمل ويتساهل المفسرون في مثل ذلك وملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات وأصلها كما قلنا عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية ولا تحقق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك إلا أنه بعد صيتهم وعظمت أقدارهم لما كانوا عليه من المقامات في الدين والملة فتلقيت بالقبول من يومئذ انتهى المقصود من كلام ابن خلدون. وقد صرح فيه أن المنقول عن أهل الكتاب ليس مما يرجع إلى الأحكام الشرعية التي يحتاط لها ويتحرى فيها الصحة وإنما هي مثل أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك، وقد قال النبي
صلى الله عليه وسلم «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون» رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وروى الإِمام أحمد وابن حبان في صحيحه عن أبي نملة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله ورسله فإِن كان حقا لم تكذبوهم وإن كان باطلا لم تصدقوهم» .
الوجه الثاني أن يقال إن كلام ابن خلدون فيه ثلاثة مآخذ أحدها قوله إن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية.
والجواب أن يقال إنما كان ذلك قبل الإِسلام فأما بعد الإِسلام فقد كانوا خير أمة أخرجت للناس علما وعملا، قال الله تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) وهذه الصفات المذكورة في هذه الآية الكريمة كلها صفات كمال ولا تكون إلا لمن كان متصفا بالعلم والبصيرة في الدين، فدلت الآية على أن هذه الأمة أكمل من سائر الأمم في العلم والعمل. وقال تعالى (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) وقال تعالى (لقد مَنَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) وقال تعالى (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) وقال تعالى (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإِذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم).
وقال تعالى (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإِذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
المأخذ الثاني قوله: وإذا تشوفوا إلى معرفة شيء مما تشوف إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإِنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم.
والجواب أن يقال إن الله تعالى قد أغنى هذه الأمة عن مسألة أهل الكتاب عما يحتاجون إلى معرفته وذلك بما أنزله الله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى (ما فرطنا في الكتاب من شيء) وقال تعالى (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) ، وقال أبو ذر رضي الله عنه «لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما» رواه الإِمام أحمد وابن جرير والطبراني وزاد وقال النبي صلى الله عليه وسلم «ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم» قال الهيثمي رجال الطبراني رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقري وهو ثقة، وفي إسناد أحمد من لم يسم.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال «لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في السماء طائر يطير بجناحيه إلا ذكر لنا منه علما» رواه الطبراني قال الهيثمي ورجاله رجال الصحيح.
وعن حذيفة رضي الله عنه قال «لقد خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم خطبة ما ترك فيها شيئا إلى قيام الساعة إلا ذكره علمه من علمه وجهله من جهله» متفق عليه.
وعن أبي زيد - وهو عمرو بن أخطب الأنصاري رضي الله عنه قال «صلى الله بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر ثم نزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس فأخبرنا بما كان وبما هو كائن فأعلمنا أحفظنا» رواه الإِمام أحمد ومسلم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما صلاة العصر بنهار ثم قام خطيبا فلم يدع شيئا يكون إلى قيام الساعة إلا أخبر به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه» رواه الإِمام أحمد وأبو داود الطيالسي والترمذي والحاكم. وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
وعن عمر رضي الله عنه قال «قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم مقاما فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه» رواه البخاري تعليقا مجزوما به ووصله الطبراني وأبو نعيم.
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما أخبرنا بما يكون في أمته إلى يوم القيامة وعاه من وعاه ونسيه من نسيه» رواه الإِمام أحمد والطبراني قال الهيثمي ورجال أحمد رجال الصحيح غير عمر بن إبراهيم بن محمد وقد وثقه ابن حبان، وعن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه قال لما كان في غزوة تبوك تسارع الناس إلى أهل الحجر يدخلون عليهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى في الناس الصلاة جامعة قال فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ممسك بعيره وهو يقول «ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم» فناداه رجل نعجب منهم يا رسول الله قال «أفلا أنبئكم بأعجب من ذلك رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم وما هو كائن بعدكم فاستقيموا وسددوا فإِن الله عز وجل لا يعبأ بعذابكم شيئا وسيأتي قوم لا يدفعون عن أنفسهم بشيء» رواه الإِمام أحمد قال ابن كثير وإسناده حسن ولم يخرجوه.
وفي هذه الأحاديث أبلغ رد على كلام ابن خلدون لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك شيئا من بدء الخلق إلى قيام الساعة إلا ذكره لأمته، فأي حاجة بهم مع بيان النبي صلى الله عليه وسلم إلى سؤال أهل الكتاب والاستفادة منهم.
وقد جاء في القرآن العظيم من الأخبار عن بدء الخلق وعن أسباب الكون وأسرار الوجود وعن الماضين من الأنبياء وأممهم وعن زوال الدنيا وفنائها وما يكون بعد قيام الساعة وعن مآل الخلق يوم القيامة ما فيه غنية عما سواه من الكتب، وفيه أبلغ رد على كلام ابن خلدون.
وقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإِنهم لن يهدوكم وقد ضلوا إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل وإنه ليس أحد من أهل الكتاب إلا وفي قلبه تالية تدعوه إلى دينه كتالية المال» رواه ابن جرير.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما «كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل إليكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث تقرءونه محضا لم يشب وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا وغيروا وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل عليكم» رواه البخاري.
المأخذ الثالث ذكره عبد الله بن سلام رضي الله عنه مع كعب الأحبار
ووهب بن منبه وتقديمهما عليه في الذكر مع أنه صحابي جليل قد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وأما كعب ووهب فهما من التابعين فنبغي تقديم عبد الله بن سلام رضي الله عنه عليهما في الذكر من أجل الصحبة والفضيلة.
وأيضا فإن عبد الله بن سلام رضي الله عنه كان مقلا جداً من النقل عن كتب أهل الكتاب فلا ينبغي ذكره مع المكثرين من النقل عنهم.
الوجه الثالث أن أبا رية زاد في كلام ابن خلدون جملة ليست فيه وهي قوله «أو مما كانوا يفترون» وقد نقلها المؤلف من كتاب أبي رية وهي كذب مفترى على ابن خلدون كما يعلم ذلك من كلامه الذي تقدم ذكره في الوجه الأول وهو منقول بالنص من مقدمة ابن خلدون.
ومن العجب أن المؤلف قد أكثر الكلام في ذم الدس والوضع والوضاعين وها هو ذا يدس الكذب في كلام ابن خلدون تقليداً لأبي رية. وهذا من أقبح التناقض، ولا شك أن ذمه للوضع والدس يعود عليه وعلى إمامه أبي رية لأنهما قد استباحا الوضع والدس في كلام ابن خلدون وفي غيره مما تقدم ذكره في عدة مواضع.
الوجه الرابع أن المؤلف رمى عبد الله بن سلام رضي الله عنه وكعب الأحبار ووهب بن منبه بالافتراء وبث الأكاذيب والترهات في الدين الإِسلامي والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذ المؤلف ذلك من كتاب أبي رية وهو من البهتان الذي قال الله تعالى فيه (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا).
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «من ذكر امرءا بشيء ليس فيه ليعيبه به حبسه الله في نار جهنم حتى يأتي بنفاذ ما قال فيه» رواه الطبراني قال المنذري وإسناده جيد وفي رواية له «أيما رجل أشاع على رجل مسلم بكلمة وهو منها بريء يشينه بها في الدنيا كان حقا على الله أن يذيبه يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفاذ ما قال» .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال» رواه أبو داود والطبراني والحاكم وصححه، وزاد الطبراني «وليس بخارج» .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خمس ليس لهن كفارة الشرك بالله وقتل النفس بغير حق وبهت مؤمن والفرار من الزحف ويمين صابرة يقتطع بها مالا بغير حق» رواه الإِمام أحمد.
الوجه الخامس أن يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم قد شهد لعبد الله بن سلام رضي الله عنه بالجنة كما في الصحيحين ومسند الإِمام أحمد عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنه قال ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام.
وروى الإِمام أحمد أيضا وأبو يعلى والبزار وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن مصعب بن سعد عن أبيه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بقصعة فأكل منها ففضلت فضلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يجيء رجل من هذا الفج من أهل الجنة يأكل هذه الفضلة» قال سعد وكنت تركت أخي عميراً يتوضأ قال فقلت هو عمير قال فجاء عبد الله بن سلام فأكلها، قال الحاكم صحيح الإِسناد ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وروى الإِمام أحمد أيضا والترمذي والحاكم في مستدركه عن يزيد بن عميرة قال لما حضر معاذ بن جبل الموت قيل له يا أبا عبد الرحمن أوصنا قال أجلسوني فقال إن العلم والإِيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما يقول ذلك ثلاث مرات والتمسوا العلم عند أربعة رهط عند عويمر أبي الدرداء وعند سلمان الفارسي وعند عبد الله بن مسعود وعند عبد الله بن سلام الذي كان يهوديا فأسلم فإِني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إنه عاشر عشرة في الجنة» قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب قال وفي الباب عن سعد رضي الله عنه، وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في تلخيصه، وزاد الحاكم في رواية له قال يزيد فقلت وعند عمر بن الخطاب فقال لا تسأله عن شيء فإِنه عنك مشغول.
وفي الصحيحين ومسند الإِمام أحمد عن قيس بن عباد عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه رأى رؤيا فقصها على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له «أنت على الإِسلام حتى تموت» وفي رواية لمسلم «يموت عبد الله وهو آخذ بالعروة الوثقى» .
وفي المسند وصحيح مسلم عن خرشة بن الحر عن عبد الله بن سلام رضي الله
عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له لما قص عليه رؤياه «وأما العروة فهي عروة الإِسلام ولن تزال متمسكا بها حتى تموت» .
وفي شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن سلام رضي الله عنه بالجنة أعظم تزكية له، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم «أنت على الإِسلام حتى تموت» وقوله في الرواية الأخرى «يموت عبد الله وهو آخذ بالعروة الوثقى» ففي ذلك أعظم تزكية له.
وفي هذه الأحاديث أبلغ رد على زنادقة العصريين الذين يبهتون عبد الله بن سلام رضي الله عنه ويزعمون أنه كان من الذين يبثون الأكاذيب والترهات في الدين الإِسلامي ويفترون على النبي صلى الله عليه وسلم (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا).
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سب أصحابه، رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وورد أيضا التشديد في اتخاذه غرضا والإخبار بأن من أحبهم فإِنما أحبهم بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أبغضهم فإِنما أبغضهم ببغضه ومن آذاهم فقد آذاه ومن آذاه فقد آذى الله. وورد أيضا اللعن والوعيد الشديد لمن سبهم، وقد ذكرت الأحاديث الواردة في ذلك في الفصل الحادي عشر في أول الكتاب فلتراجع. (1)
وأما كعب الأحبار فقد ذكره البخاري في التأريخ الكبير والصغير ولم يذكر فيه جرحا وذكره ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل ولم يذكر فيه حرجا وقال روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وروى عنه ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب سمعت أبي يقول ذلك انتهى.
وقد ترجم له الذهبي في تذكرة الحفاظ فقال هو كعب بن ماتع الحميري من أوعية العلم ومن كبار علماء أهل الكتاب أسلم في زمن أبي بكر رضي الله عنه وقدم من اليمن في دولة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فأخذ عنه الصحابة وغيرهم وأخذ هو من الكتاب والسنة عن الصحابة وتوفي في خلافة عثمان وروى عنه جماعة من التابعين مرسلا وله شيء في صحيح البخاري وغيره انتهى.
(1) ص: 29 - 30.
وقال النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» كعب بن مانع بالتاء المثناة فوق هو كعب الأحبار التابعي المشهور أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره وأسلم في خلافة أبي بكر رضي الله عنه وقيل في خلافة عمر رضي الله عنه وصحب عمر رضي الله عنه وأكثر الرواية عنه، وروى أيضا عن صهيب رضي الله عنه، روى عنه جماعة من الصحابة منهم ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وأبو هريرة وخلائق من التابعين منهم ابن المسيب وكان يسكن حمص، ذكره أبو الدرداء رضي الله عنه فقال إن عنده علماً كثيراً، واتفقوا على كثرة علمه وتوثيقه، توفي في خلافة عثمان رضي الله عنه سنة ثنتين وثلاثين ودفن بحمص متوجها إلى الغزو ويقال له كعب الأحبار وكعب الحبر بكسر الحاء وفتحها لكثرة علمه، ومناقبه وأحواله وحكمه كثيرة مشهورة انتهى.
وقد ذكره الحافظ ابن حجر في «تهذيب التهذيب» وقال قال ابن سعد ذكر أبو الدرداء كعبا فقال إن عند ابن الحميري لعلما كثيرا، وقال معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن جبير قال قال معاوية رضي الله عنه ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء إن كان عنده علم كالثمار وإن كنا فيه لمفرطين، وقال ابن الزبير ما كان في سلطاني شيء إلا قد حدثني به ولقد حدثني أنه يظهر على البيت قوم أخرجه الفاكهي انتهى.
وعن ابن سيرين قال قال ابن الزبير رضي الله عنهما ما شيء كان يحدثناه كعب إلا قد أتى على ما قال إلا قوله أن فتى ثقيف يقتلني وهذا رأسه بين يدي - يعني المختار بن أبي عبيد - قال ابن سيرين ولا يشعر أن أبا محمد قد خبئ له - يعني الحجاج - رواه عبد الرزاق في مصنفه وإسناده صحيح على شرط الشيخين، ورواه الطبراني قال الهيثمي ورجاله رجال الصحيح، وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث الأعمش عن شمر بن عطية عن هلال بن يساف حدثني البريد الذي أتى ابن الزبير برأس المختار فلما رآه قال ابن الزبير ما حدثني كعب بحديث إلا وجدت مصداقه إلا أنه حدثني أن رجلا من ثقيف سيقتلني، قال الأعمش وما يدري أن أبا محمد خذله الله خبئ له.
وقال الحافظ ابن حجر في الإِصابة أخرج ابن عساكر من مسند محمد بن هارون الروياني من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود أن رأس الجالوت قال لهم إن كل ما تذكرون عن كعب بما يكون إنه إن كان قال لكم إنه مكتوب في التوراة فقد
كذبكم إنما التوراة ككتابكم إلا أن كتابكم جامع (يسبح لله ما في السموات وما في الأرض) وفي التوراة يسبح لله الطير والشجر وكذا وكذا وإنما الذي يحدث به كعب عما يكون من كتب أنبياء بني إسرائيل وأصحابهم كما تحدثون أنتم عن نبيكم وعن أصحابه.
وقد روى البخاري من حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية رضي الله عنه يحدث رهطاً من قريش بالمدينة وذكر كعب الأحبار فقال إن كان لمن أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب.
قلت ليس المراد بالكذب ههنا الافتراء وإنما المراد به الخطأ في النقل عن أهل الكتاب وهو مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم «كذب أبو السنابل» أي أخطأ حين قال لسبيعة الأسلمية إنك لست بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر وكانت قد وضعت بعد وفاة زوجها بأيام فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أنها قد خرجت من العدة بوضع الحمل وأمرها بالتزويج إن بدا لها. وقال ابن حبان في كتاب «الثقات» أراد معاوية أنه يخطئ أحيانا فيما يخبر به ولم يرد أنه كان كذاباً، وقال ابن الجوزي المعنى أن بعض الذي يخبر به كعب عن أهل الكتاب يكون كذباً لا أنه يتعمد الكذب وإلا فقد كان كعب من أخيار الأحبار. انتهى من فتح الباري.
وقال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب وقد وقع ذكر الرواية عنه في مواضع في مسلم في أواخر كتاب الإِيمان، وفي حديث أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رفعه «إذا أدى العبد حق الله وحق مواليه كان له أجران» قال فحدثت به كعباً فقال كعب ليس عليه حساب ولا على مؤمن مزهد انتهى.
وقد ذكر الحافظ كعباً في تقريب التهذيب وقال ثقة من الثانية، وقد تقدم قول النووي أنهم اتفقوا على توثيقه، وقد روى مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسأله عن جرادات قتلها وهو محرم فقال عمر رضي الله عنه لكعب تعال حتى نحكم، وذكر تمام الحديث، وقد قال الله تعالى (يحكم به ذوا عدل منكم) فلولا أن كعباً عدل عند عمر رضي الله عنه لما أمره أن يحكم معه في جزاء الصيد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه» رواه الإِمام أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه من حديث
ابن عمر رضي الله عنهما وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، قال وفي الباب عن الفضل بن عباس وأبي ذر وأبي هريرة.
قلت وفيه أيضا عن عمر وبلال ومعاوية بن أبي سفيان وعائشة رضي الله عنهم، وهذا كاف في تعديل كعب ورد ما يبهته به المبطلون من العصريين الذين لا يبالون بأكل لحوم الأبرياء والوقوع في أعراضهم.
ومن أعظم البهتان قول أبي رية في هامش صفحة 147 من الطبعة الثالثة لكتابه أنه أثبت في مقال له أن الصهيوني الأول هو كعب الأحبار.
والجواب أن يقال لو كان أبو رية يخاف الله ويعلم يقيناً أنه موقوف بين يديه يوم القيامة ومسؤل عن أقواله وأعماله وأن الله سيأخذ حق المظلوم من الظالم لما أقدم على هذا البهتان العظيم، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر الوعيد الشديد على بهت المسلم وتكفيره عند ذكر قول أبي رية إن ابن جريح كان من النصارى.
وأما وهب بن منبه فقد اتفق البخاري ومسلم على إخراج حديثه وأخرج له أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم من الأئمة، وهذا كاف في تعديله ورد ما يبهته به جهلة العصريين، وقد ذكره البخاري الكبير والصغير ولم يذكر فيه جرحاً، وذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يذكر فيه جرحاً وقال سئل أبو زرعة عن وهب بن منبه فقال يماني ثقة، وذكره الذهبي في الميزان وقال كان ثقة صادقاً قال العجلي ثقة تابعي كان على قضاء صنعاء. وقال مثنى بن الصباح لبث وهب عشرين سنة لم يجعل بين العشاء والصبح وضوءاً، وقال في تذكرة الحفاظ ما ملخصه، وهب بن منبه الحافظ أبو عبد الله الصنعاني عالم أهل اليمن روى عن أبي هريرة يسيراً وعن عبد الله بن عمر وابن عباس وأبي سعيد وجابر بن عبد الله وغيرهم. وعنده من علم أهل الكتاب شيء كثير فإِنه صرف عنايته إلى ذلك وبالغ، وحديثه في الصحيحين عن أخيه همام وكان ثقة واسع العلم، وذكره الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب وذكر قول العجلي أنه تابعي ثقة وقال أبو زرعة والنسائي ثقة وذكره ابن حبان في الثقات، وقال في «تقريب التهذيب» ثقة من الثالثة، وذكره الخزرجي في الخلاصة وقال وثقة النسائي، وقال النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» هو تابعي جليل من المشهورين بمعرفة الكتب الماضية سمع جابر بن عبد الله وابن عباس وابن عمرو بن
العاص وأبا سعيد الخدري وأبا هريرة وأنسا والنعمان بن بشير، روى عنه عمرو بن دينار وعوف الأعرابي والمغيرة بن حكيم وآخرون واتفقوا على توثيقه انتهى.
وفيما ذكرته من ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن سلام رضي الله عنه وشهادته له بالجنة وما جاء عن عمر رضي الله عنه أنه أمر كعباً أن يحكم معه في جزاء الصيد وما ذكره النووي من الاتفاق على توثيق كعب ووهب بن منبه أبلغ رد على من بهتهم ورماهم ببث الأكاذيب والترهات في الدين الإِسلامي.
ولا شك أن المؤلف وأبا رية وأشباههما من العصريين المتنطعين أولى بالأوصاف الذميمة من عبد الله بن سلام وكعب الأحبار ووهب بن منبه لأن العصريين قد جدوا واجتهدوا في رد بعض الأحاديث الصحيحة والتشكيك فيها بأنواع الأباطيل والترهات ولما لم يجدوا مستنداً صحيحا يعتمدون عليه في رد بعض الأحاديث الصحيحة لجئوا إلى الطعن في الثقات الأبرياء ورموهم بالافتراء وبث الأكاذيب والترهات في الدين الإِسلامي، ولو كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعلمون يقيناً أنهم موقوفون بين يدي الله تعالى وأن الله تعالى سيقضي بينهم وبين الأبرياء الذين قد استحلوا أعراضهم ورموهم بما ليس فيهم وأنه تبارك وتعالى سيأخذ للمظلومين حقوقهم من الظالمين لما أقدموا على ما أقدموا عليه من الإفك والبهتان واستحلال أعراض الثقات الأبرياء.
وأما قوله ويدعون أخرى أنها مما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم وهي في الحقيقة من مفترياتهم.
فجوابه أن يقال أما عبد الله بن سلام رضي الله عنه فهو صحابي جليل وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث، قال النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم خمسة وعشرون حديثاً اتفقا على حديث وانفرد البخاري بآخر، وكذا قال الخزرجي في الخلاصة.
وإذا علم هذا فما رواه البخاري ومسلم من أحاديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه فهو ثابت ولا يرد ذلك إلا مكابر معاند، وكذلك ما رواه غيرهما بالأسانيد الصحيحة إلى عبد الله بن سلام رضي الله عنه فهو ثابت ولا يرد ذلك إلا مكابر معاند.
ومن أقبح المكابرة والإِثم والبهتان قول المؤلف تبعاً لأبي رية أن ما جاء عن عبد الله بن سلام من الأحاديث التي رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال أنه
سمعها منه فهي من مفترياته.
والجواب عن هذا التهور والوقاحة والفرية أن نقول (سبحانك هذا بهتان عظيم).
وأما كعب الأحبار ووهب بن منبه فليسا من الصحابة وإنما هما من التابعين ومن زعم أنهما ادعيا أنهما سمعا من النبي صلى الله عليه وسلم فقد افترى عليهما، وإنما سمعا من بعض الصحابة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وإذا علم هذا فما روياه عن الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت ذلك بالأسانيد الصحيحة إليهما فلا شك في صحته وثبوته ولا يرد ذلك إلا مكابر معاند، وكذلك ما رواه وهب عن ثقات التابعين عن الصحابة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو ثابت أيضا، وأما قول المؤلف تبعاً لأبي رية إن أولئك الأحبار يبثون في الدين الإِسلامي أكاذيب وترهات ويدعون أنها مما سمعوه من النبي صلى الله علي وسلم وهي في الحقيقة من مفترياتهم.
فجوابه أن يقال هذا من هوس المؤلف وأبي رية وقد قال الله تعالى (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).
وأما قوله وأين للصحابة أن يفطنوا لتمييز الصدق من الكذب من أقوالهم وهم من ناحية لا يعرفون العبرانية التي هي لغة كتابهم، ومن ناحية أخرى كانوا أقل منهم دهاءا وأضعف مكراً، وبذلك راجت بينهم سوق هذه الأكاذيب وتلقى الصحابة ومن تبعهم كل ما يلقيه هؤلاء الدهاة بغير نقد أو تمحيص معتبرين أنه صحيح.
فجوابه من وجوه أحدها أن يقال من أقبح الجراءة والوقاحة والتهور تهجم المؤلف تبعاً لأبي رية على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورميهم بالغباوة والتغفيل بحيث تروج عندهم الأكاذيب وبحيث يتلقون كل ما يلقى إليهم ولا يميزون بين الصدق والكذب، وهذا صريح في التنقص لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والغض منهم ولا يصدر ذلك إلا من منافق يبغض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغتاظ منهم وقد قال الله تعالى (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره
فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار).
قال البغوي في تفسير هذه الآية قال مالك بن أنس من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية. وقال ابن كثير في تفسيره، ومن هذه الآية انتزع الإِمام مالك في رواية عنه بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله عنهم، قال لأنهم يغيظونهم ومن غاظه الصحابة رضي الله عنهم فهو كافر لهذه الآية ووافقه طائفة من العلماء على ذلك، والأحاديث في فضل الصحابة رضي الله عنهم والنهي عن التعرض لهم بمساويهم كثيرة ويكفيهم ثناء الله عليهم ورضاه عنهم انتهى.
الوجه الثاني أن يقال إن الأولى بالغباوة التغفيل وغير ذلك من صفات النقص من أصغى إلى زخارف شياطين الإنس ورضي بها واعتمد عليها وأعرض لأجلها عن الكتاب والسنة وأقوال الصحابة رضي الله عنهم، ومن هؤلاء الأغبياء المغفلين أبو رية والمؤلف وأشباههما من جهلة العصريين الذين يعتمدون على ترهات جولدزيهر اليهودي وإخوانه من المستشرقين الذين قد شرقوا بالإِسلام وأهله وملئوا كتبهم من الطعن في الإِسلام والقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويعتمدون أيضا على نهيق الروافض ونباحهم في ثلب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والطعن فيهم بكل ما يرون أنه يشينهم.
الوجه الثالث أن يقال إن عبد الله بن سلام رضي الله عنه وكعب الأحبار ووهب بن منبه لم يكونوا من ذوي المكر وافتراء الكذب، وفيما ذكرته من ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن سلام وشهادته له بالجنة وما ذكره النووي من الاتفاق على توثيق كعب ووهب بن منبه أبلغ رد على بهت المؤلف وأبي رية لهؤلاء الثلاثة ووصفهم بما ليس فيهم.
الوجه الرابع أن يقال إن الله تعالى قد أخبر في كتابه أن أهل الكتاب قد حرفوا كتبهم وغيروا فيها فقال تعالى (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون) وقال تعالى (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه) وقال تعالى (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم
من بعد مواضعه) وقال تعالى (وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) وقال تعالى (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) وفي هذه الآيات أبلغ تحذير من الاغترار باليهود. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون» .
وقد كان الصحابة على غاية من النباهة والحذر مما حذرهم الله ورسوله منه من كيد اليهود وتحريفهم، فمن ظن أن سوق الأكاذيب قد راجت بين الصحابة وأنهم يتلقون ما يلقيه أهل المكر والدهاء بغير نقد أو تمحيص وأنهم يعتبرون ذلك صحيحاً فقد ظن بالصحابة ظن السوء ولا يصدر ذلك إلا من منافق قد امتلأ قلبه غيظاً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الوجه الخامس نذكر فيه نموذجاً من نباهة الصحابة وردهم على من قال بخلاف الصواب. فمن ذلك ما رواه مالك وأبو داود والترمذي والنسائي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أتيت الطور فوجدت ثم كعبا فمكثت أنا وهو يوماً أحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحدثني عن التوراة فقلت له قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أهبط وفيه تيب عليه وفيه قبض وفيه تقوم الساعة ما على الأرض من دابة إلا وهي تصبح يوم الجمعة مصيخة حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة إلا ابن آدم وفيه ساعة لا يصادفها مؤمن وهو في الصلاة يسأل الله فيها شيئاً إلا أعطاه إياه» فقال كعب ذلك يوم في كل سنة فقلت بل هي في كل جمعة فقرأ كعب التوراة ثم قال صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم هو في كل جمعة فخرجت فلقيت بصرة بن أبي بصرة الغفاري فقال من أين جئت قلت من الطور قال لو لقيتك من قبل أن تأتيه لم تأته قلت له ولم قال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي ومسجد بيت المقدس» فلقيت عبد الله بن سلام فقلت لو رأيتني خرجت إلى الطور فلقيت كعباً أنا وهو يوماً أحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحدثني عن التوراة فقلت له قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خير
يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أهبط وفيه تيب عليه وفيه قبض وفيه تقوم الساعة ما على الأرض من دابة إلا وهي تصبح يوم الجمعة مصيخة حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة إلا ابن آدم وفيه ساعة لا يصادفها عبد مؤمن وهو في الصلاة يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه» قال كعب ذلك يوم في كل سنة فقال عبد الله بن سلام كذب كعب قلت ثم قرأ كعب فقال صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم هو في كل جمعة فقال عبد الله صدق كعب إني لأعلم تلك الساعة فقلت يا أخي حدثني بها قال هي آخر ساعة من يوم الجمعة قبل أن تغيب
الشمس فقلت أليس قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «لا يصادفها مؤمن وهو في الصلاة» وليست تلك الساعة صلاة قال أليس قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من صلى وجلس ينتظر الصلاة لم يزل في صلاته حتى تأتيه الصلاة التي تلاقيها» قلت بلى قال فهو كذلك، هذا لفظ النسائي ورواية الترمذي مختصرة وقال هذا حديث صحيح وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.
ومنها ما رواه ابن جرير بإِسناد صحيح عن أبي وائل قال جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال من أين جئت قال من الشام قال من لقيت قال لقيت كعباً قال ما حدثك قال حدثني أن السموات تدور على منكب ملك قال أفصدقته أو كذبته قال ما صدقته ولا كذبته قال لوددت أنك افتديت من رحلتك إليه براحلتك ورحلها كذب كعب إن الله تعالى يقول (إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا، ولئن زالتا إن أمسكها من أحد من بعده).
ومنها ما رواه ابن أبي خيثمة عن قتادة قال بلغ حذيفة رضي الله عنه أن كعباً يقول إن السماء تدور على قطب كالرحى فقال كذب كعب إن الله يقول (إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا) قال الحافظ ابن حجر إسناده حسن.
ومنها ما ذكره الزمخشري في الكشاف عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لرجل مقبل من الشام من لقيت به، قال كعباً قال وما سمعته يقول قال سمعته يقول إن السموات تدور على منكب ملك قال كذب كعب أما ترك يهوديته بعد ثم قرأ هذه الآية، قال الحافظ ابن حجر في كتابه «الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف» لم أجده وروى الطبري من رواية أبي وائل قال جاء رجل إلى عبد الله بن
مسعود رضي الله عنه فقال من أين جئت قال من الشام فذكره مثله إلا أنه لم يقل ما ترك يهوديته انتهى.
قلت يحتمل أن الزمخشري أورد الأثر من حفظه فأبدل ابن مسعود بابن عباس والله أعلم.
ومنها ما رواه الإِمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس رضي الله عنهما إن نوفا البكالي يزعم أن صاحب بني إسرائيل ليس هو صاحب الخضر فقال كذب عدو الله سمعت أبي بن كعب يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «قام موسى عليه السلام خطيباً في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم فقال أنا أعلم قال فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه» الحديث وقد تقدم قول معاوية وذكر كعب الأحبار فقال «إن كان لمن أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب» .
وتقدم أن المراد بالكذب ههنا الخطأ في النقل عن أهل الكتاب وليس المراد به افتراء الكذب، وكذلك قول عبد الله بن سلام وعبد الله بن مسعود وحذيفة رضي الله عنهم كذب كعب وقول ابن عباس رضي الله عنهما كذب نوف المراد به الخطأ في النقل والله أعلم.
وتقدم أيضا قول ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم في النهي عن سؤال أهل الكتاب.
وفيما ذكرته في هذا الوجه عن بعض الصحابة رضي الله عنهم كفاية في الرد على المؤلف وأبي رية فيما تهجما به على الصحابة حيث زعما أنهم ليس عندهم فطنة لتمييز الصدق من الكذب من أقوال الناقلين عن أهل الكتاب وان سوق الأكاذيب قد راجت بينهم وأنهم يتلقون كل ما يلقيه الدهاة بغير نقد أو تمحيص معتبرين أنه صحيح (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا).
وأما ما نقله المؤلف تبعاً لأبي رية عن أحمد أمين أنه قال اتصل بعض الصحابة بوهب بن منبه وكعب الأحبار وعبد الله بن سلام واتصل التابعون بابن جريج وهؤلاء كانت لهم معلومات يروونها عن التوراة والإِنجيل وشروحها وحواشيها فلم ير المسلمون بأسا من أن يقصوها بجانب آيات القرآن فكانت منبعاً من منابع التضخم.
فجوابه من وجوه أحدها أن يقال من الخطأ تقديمه وهب بن منبه وكعب الأحبار على عبد الله بن سلام رضي الله عنه لأن عبد الله بن سلام رضي الله عنه صحابي جليل، وأما كعب ووهب فهما من التابعين فينبغي تقديم عبد الله بن سلام رضي الله عنه عليهما لما له من الصحبة والفضيلة.
الوجه الثاني أن يقال إن عبد الله بن سلام رضي الله عنه كان قليل الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان قليل النقل من كتب أهل الكتاب فلا ينبغي ذكره مع المكثرين من النقل عنهم. وما ثبت عنه من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أو من النقل عن كتب أهل الكتاب فهو مصدق في روايته ونقله. ولا يسيء الظن بعبد الله بن سلام رضي الله عنه إلا جاهل أو مكابر معاند.
وقد تقدم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال عند موته التمسوا العلم عند أربعة وذكر منهم عبد الله بن سلام رضي الله عنه. وذكره الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ وعده مع الأكابر منهم، وفي هذا رد لما بهته به المؤلف وأبو رية وأشباههما من حثالة العصريين الذين يجعلونه من الذين يبثون الأكاذيب والترهات في الدين الإِسلامي (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً) وقاتل الله الذين يبغضون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغتاظون منهم ويرمونهم بالعظائم التي ليست فيهم.
الوجه الثالث أن يقال ظاهر قول أحمد أمين اتصل بعض الصحابة بوهب بن منبه أنهم اتصلوا به وأخذوا عنه وهذا غلط فاحش وجهل فاضح فإِنه لم يعرف عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم أنه سمع من وهب بن منبه أو حكى عنه وإنما يعرف ذلك عن بعض صغار التابعين وقد اتصل وهب ببعض الصحابة وروى عنهم.
الوجه الرابع أن يقال ظاهر قول أحمد أمين واتصل التابعون بابن جريح أنهم اتصلوا به وأخذوا عنه وهذا غلط فاحش لأن ابن جريج كان من صغار التابعين فلا يعقل أن يتصل به كبار التابعين ويأخذوا عنه، وإنما روى عنه أتباع التابعين كما هو مذكور في بعض كتب الجرح والتعديل وروى عنه من صغار التابعين يحيى بن سعيد الأنصاري وحده وهو من شيوخه.
الوجه الخامس أن يقال إن ابن جريج لم يكن من الذين ينقلون من كتب أهل الكتاب فذكره مع الناقلين عنهم غلط وخطأ.
وقد تحامل أبو رية على ابن جريج تحاملاً قبيحاً في كتابه الذي هو ظلمات بعضها فوق بعض حينما ذكره في صفحة 189 من الطبعة الثالثة فقال ما نصه. وكان البخاري لا يوثقه وهو على حق في ذلك. ثم ذكر قول الذهبي في تذكرة الحفاظ أنه من أصل رومي قال أبو رية فهو نصراني الأصل قال ويقول عنه بعض العلماء أنه كان يضع الحديث. وقال أبو رية أيضا في هامش صفحة 242 من الطبعة الثالثة ما نصه «ابن جريج كان من النصارى» كذا قال الأهوج المبرسم أبو رية في عالم من أكبر علماء السلف. وهكذا جازف هذه المجازفة ولم يبال بما يترتب على ذلك من الوعيد الشديد كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
فأما قوله وكان البخاري لا يوثقه.
فجوابه أن يقال هذا كذب على البخاري فقد ذكره البخاري في تاريخه الكبير والصغير ولم يذكر - فيه جرحاً. وذكر فيهما عن يحيى أنه قال لم يكن أحد أثبت في نافع من ابن جريج، زاد في الكبير وكان من أحسن الناس صلاة.
وروى ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل عن علي بن المديني قال سمعت يحيى بن سعيد يقول لم يكن أحد أثبت في نافع من ابن جريح فيما كتب وهو أثبت من مالك في نافع، وقال مرة لم يكن ابن جريج بدون مالك في نافع، وروى أيضاً عن الإِمام أحمد أنه قال ابن جريج أثبت الناس في عطاء، وعن أحمد أيضا أنه قال ابن جريج ثبت صحيح الحديث لم يحدث بشيء إلا أتقنه، وروى أيضاً عن عثمان بن سعيد قال قلت ليحيى بن معين ابن جريج أحب اليك أو عبد الملك بن أبي سليمان فقال كلاهما ثقتان، وروى أيضاً عن أبي زرعة أنه سئل عن ابن جريج فقال بخ من الأئمة.
وقال النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» قال عطاء بن أبي رباح سيد أهل الحجاز ابن جريج، وقال عبد الرزاق كنت إذا رأيت ابن جريج يصلي علمت أنه يخشى الله عز وجل، قال النووي وأقوال أهل العلم من السلف والخلف في الثناء عليه وذكر مناقبه أكثر من أن تحصى انتهى.
وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ ابن جريج الإِمام الحافظ فقيه الحرم أبو الوليد ويقال أبو خالد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الرومي الأموي مولاهم المكي الفقيه صاحب التصانيف أحد الأعلام قال أحمد بن حنبل كان من أوعية العلم وقال
عبد الرزاق ما رأيت أحداً أحسن صلاة من ابن جريج كنت إذا رأيته علمت أنه يخشى الله، ثم قال الذهبي كان ابن جريج ثبتاً لكنه يدلس وقال يحيى القطان لم يكن ابن جريج عندي بدون مالك في نافع، قال أبو عاصم كان ابن جريج من العباد كان يصوم الدهر إلا ثلاثة أيام من الشهر انتهى باختصار.
وذكر الحافظ ابن حجر في «تهذيب التهذيب» عن علي بن المديني عن يحيى بن سعيد القطان أنه قال ابن جريج أثبت في نافع من مالك، وذكر أيضاً عن أحمد أنه قال ابن جريج أثبت الناس في عطاء، وذكر أيضاً عن الميموني قال سمعت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - غير مرة يقول كان ابن جريج من أوعية العلم، وذكر أيضاً عن الأثرم عن أحمد أنه قال إذا قال ابن جريج قال فلان وقال فلان وأخبرت جاء بمناكير وإذا قال أخبرني وسمعت فحسبك به، وقال ابن أبي مريم عن ابن معين ثقة في كل ما روي عنه من الكتاب، وقال ابن سعد كان ثقة كثير الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات وقال كان من فقهاء أهل الحجاز وقرائهم ومتقنيهم وكان يدلس، وقال الذهلي ابن جريج إذا قال حدثني وسمعت فهو محتج بحديثه داخل في الطبقة الأولى من أصحاب الزهري، وسئل عنه أبو زرعة فقال بخ من الأئمة وقال ابن خراش كان صدوقاً وقال العجلي مكي ثقة انتهى باختصار.
وقال الحافظ أيضاً في «تقريب التهذيب» وذكر ابن جريج فقال ثقة فقيه فاضل وكان يدلس ويرسل.
وقال الخزرجي في الخلاصة ابن جريج الفقيه أحد الأعلام قال أحمد إذا قال أخبرنا وسمعت حسبك به، وقال ابن معين ثقة إذا روى من الكتاب انتهى.
وفيما ذكرته عن علماء الجرح والتعديل أبلغ رد على ترهات أبي رية ومجازفاته وأما قوله فهو نصراني الأصل.
فجوابه أن يقال لا يضر ابن جريج أن يكون في أجداده نصارى كما لا يضر الصحابة أن يكون في آبائهم وأجدادهم مشركون وكما لا يضر بعض التابعين ومن بعدهم من العلماء أن يكون في أجدادهم مجوس ومشركون، بل إن أفضل الخلق وسيد بني آدم كان أبواه وأجداده مشركين ولم يضره ذلك شيئاً، قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهديتم) وقال تعالى (كل امرئ بما كسب رهين) وقال تعالى (كل نفس بما كسب رهينة).
وأما قوله ويقول عنه بعض العلماء أنه كان يضع الحديث فجوابه أن يقال إن كان أبو رية أراد بالعلماء أئمة الجرح والتعديل فهذا كذب عليهم، وإن كان أراد بعض المنتسبين إلى العلم من العصريين فهذا لا يستبعد منهم ولكن لا عبرة بهم لأنهم في الغالب يخبطون خبط عشواء ولا يبالون برمي الرجل بما ليس فيه، والأحرى أن هذه الكلمة من كيس أبي رية ومجازفاته في بهت الأبرياء.
وأما قوله إن ابن جريج كان من النصارى.
فجوابه أن يقال هذا من البهتان العظيم وقد ورد الوعيد الشديد على بهت المؤمن وتكفيره قال الله تعالى (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً).
وروى الإِمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خمس ليس لهن كفارة الشرك بالله وقتل النفس بغير حق وبهت مؤمن والفرار من الزحف ويمين صابرة يقتطع بها مالاً بغير حق» .
وروى أبو داود والطبراني والحاكم وصححه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال» زاد الطبراني «وليس بخارج» .
وروى الطبراني أيضاً عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «من ذكر امرءاً بشيء ليس فيه ليعيبه به حبسه الله في نار جهنم حتى يأتي بنفاذ ما قال فيه» قال المنذري إسناده جيد، وفي رواية للطبراني «أيما رجل أشاع على رجل مسلم بكلمة وهو منها بريء يشينه بها في الدنيا كان حقا على الله أن يذيبه يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفاذ ما قال» .
وفي الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما فان كان كما قال وإلا رجعت عليه» .
وفي الصحيحين أيضاً عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من دعا رجلاً بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه» حار أي رجع.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما» .
وفي صحيح ابن حبان عن أبي سعيد رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أكفر رجل رجلاً إلا باء أحدهما بها إن كان كافراً وإلا كفر بتكفيره» .
وفي الصحيحين وغيرهما عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من رمى مؤمناً بكفر فهو كقتله» .
فصل
وقال المؤلف في صفحة (52) و (53) ما ملخصه
من هم كعب ومنبه وعبد الله بن سلام، لهؤلاء الثلاثة ولحوادثهم باب خاص في صفحة 147 - 149 - 50 إلى 157 في كتاب أضواء على السنة المحمدية للأستاذ محمود أبو رية بين فيه نقلاً عن المراجع والأسانيد التاريخية الصحيحة ما لهولاء الثلاثة من مكر وخداع ودس في الحديث، ومن تلك البيانات المبينة بكتاب أضواء على السنة يتضح أنهم كانوا مصدراً لأحاديث كثيرة.
والجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن يقال قد ت قدم الكلام في تزكية عبد الله بن سلام رضي الله عنه وكعب الأحبار ووهب بن منبه والرد على من بهتهم وافترى عليهم فليراجع ذلك في الفصل الذي قبل هذا الفصل، وقد سمى المؤلف وهب بن منبه في هذا الفصل باسم أبيه وهذا من تحريفه وتخبيطه.
الوجه الثاني أن يقال إن المؤلف وأبا رية أولى وأحق بوصف المكر والخداع والدس في الحديث لأنهما قد جدا واجتهدا في رد الأحاديث الصحيحة والتشكيك فيها ومعارضتها بالشبه والأباطيل، ومن نظر في كتابيهما علم أنهما من ألد الأعداء للسنة وأهلها.
وقد تحامل أبو رية على كعب الأحبار تحاملاً قبيحاً فزعم في عدة مواضع أنه يهودي، وزعم في مواضع أخر أنه كاهن، وقال أيضاً في وهب بن منبه أنه كاهن، وطغت عليه الوقاحة فتجرأ على لعن كعب في صفحة (155) وقد قال الله تعالى (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).
وقد ورد التشديد في تكفير المسلم وذكره بما ليس فيه. وقد ذكرت الأحاديث الواردة في ذلك في الفصل الذي قبل هذا الفصل، وفي الصحيحين وغيرهما عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لعن المؤمن كقتله» .
فصل
وقال المؤلف في صفحة (53) ما نصه
من مكر كعب الأحبار وكيده للإِسلام، في موطأ مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب لما أراد الخروج إلى العراق قال له كعب الأحبار لا تخرج يا أمير المؤمنين فإِن بها تسعة أعشار السحر فسقة الجن وبها الداء العضال.
والجواب أن يقال ليس في تحذير كعب الأحبار لعمر رضي الله عنه عن الخروج إلى العراق شيء من المكر للإِسلام كما زعم ذلك المؤلف تبعا لإِمامه في الضلال أبي رية، وإنما ذلك من النصيحة الواجبة للمسلم على المسلم. وقد ظهر مصداق قول كعب بما ظهر في العراق من الفتن والبدع والأهواء المضلة، وقد كان قتل عثمان رضي الله عنه على أيدي أهل العراق ومن مالألهم من أهل مصر، وبقتله انفتح باب الفتن إلى يوم القيامة، وكان في العراق أيضاً وقعة الجمل ووقعه صفين وهما من أعظم الفتن، وكان مقتل الحسين بن علي الله عنهما وأصحابه في العراق وكانت فيه فتنة المختار وفتنة الحجاج وغير ذلك من الفتن العظيمة. وكانت فتنة بني العباس ودعاتهم في العراق وخراسان، وكذلك فتن البدع والأهواء فكلها ظهرت أو ما ظهرت بأرض العراق كفتنة الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة والمعتزلة والجهمية ثم انتشرت بعد ذلك في جميع الأقطار. وآخر ذلك فتنة المسيح الدجال وهي أعظم فتنة تكون على وجه الأرض، وقد جاء في بعض الأحاديث أنه يخرج من العراق، وحيث كانت العراق بهذه الصفة فالتحذير من الخروج إليها من أعظم النصيحة.
وقد جاء في الأحاديث الصحيحة ما يؤيد قول كعب الأحبار كما في الحديث الذي رواه الإِمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «رأس الكفر نحو المشرق» .
وروى الإِمام أحمد والبخاري ومسلم أيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه
سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مستقبل المشرق يقول «ألا إن الفتنة ههنا ألا إن الفتنة ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان» وفي رواية لأحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير بيده يؤم العراق «ها إن الفتنة ههنا هاإن إن الفتنة ههنا ها إن الفتنة ههنا - ثلاث مرات - من حيث يطلع قرن الشيطان» وفي رواية لأحمد ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «رأس الكفر من ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان» يعني المشرق.
وروى البخاري عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال «من ههنا جاءت الفتن نحو المشرق» .
وروى الإِمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا» مرتين فقال رجل وفي مشرقنا يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من هنالك يطلع قرن الشيطان ولها تسعة أعشار الشر» ورواه الطبراني في الأوسط وقال فيه «إن من هنالك يطلع قرن الشيطان وبه تسعة أشعار الكفر وبه الداء العضال» .
وروى الطبراني في الأوسط عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «اللهم بارك لنا في مدينتنا وبارك لنا في مدنا وصاعنا اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا» فقال رجل والعراق يا رسول الله قال «من ثم يطلع قرن الشيطان وتهيج الفتن» قال الهيثمي رجاله ثقات.
وروى الطبراني أيضاً في الكبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال دعا نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال «اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا وبارك لنا في شامنا ويمننا» فقال رجل من القوم يا نبي الله وعراقنا فقال «إن بها قرن الشيطان وتهيج الفتن وإن الجفاء بالمشرق» قال المنذري والهيثمي رواته ثقات.
وفي هذه الأحاديث أبلغ رد على مجازفة المؤلف وأبي رية في بهتهما لكعب الأحبار.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (53) ما نصه
أمثلة من روايات كعب المدسوسة
ثم ذكر في هذه الصفحة وأربع صفحات بعدها روايات عن كعب الأحبار مما قيل أنه رواه من كتب أهل الكتاب وليس لها أسانيد صحيحة عن كعب فلا تصح نسبتها إليه لأنه يحتمل أن يكون بعض الكذابين وضعها ونسبها إلى كعب. وعلى تقدير صحة نسبتها أو نسبة بعضها إليه فهي مما ترخص كعب في نقله من كتب أهل الكتاب وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون» رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وروى الإِمام أحمد وابن حبان في صحيحه عن أبي نملة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله فإِن كان حقاً لم تكذبوهم وإن كان باطلاً لم تصدقوهم» .
فصل
وقال المؤلف في صفحة (54) و (55) روى البيهقي في الأسماء والصفات بسندٍ صحيح عن ابن عباس قال قوله (الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن) قال سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدمكم ونوح كنوح وإبراهيم كإبراهيم وعيسى كعيسى، ولم يذكر لموسى مثيلا قال البيهقي في الشعب هو شاذ بالمرة قال السيوطي هذا من البيهقي في غاية الحسن فإِنه لا يلزم من صحة الإِسناد صحة المتن لاحتمال صحة الإِسناد مع أن في المتن شذوذاً أو علة تمنع صحته، ولابن كثير تحقيق في هذا الحديث يقول فيه أنه محمول إن صح سنده عن ابن عباس على أنه أخذه من الإِسرائيليات.
والجواب أن يقال هذا مما نقله المؤلف من كتاب أبي رية وقد أجاب عنه العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في كتابه «الأنوار الكاشفة» فقال، أما هذا فليس سنده بصحيح لأنه من طريق شريك عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس، وشريك يخطى كثيراً ويدلس، وعطاء ابن السائب اختلط قبل موته بمدة وسماع شريك منه بعد الاختلاط، لكن أخرج البيهقي عقب هذا بسند آخر من طريق آدم بن أبي إياس حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحى عن ابن عباس في قوله عز وجل (خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن) قال في كل أرض
نحو إبراهيم، ثم قال البيهقي إسناد هذا عن ابن عباس صحيح وهو شاذ بمرة لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعاً، وأخرجه ابن جرير عن عمرو بن علي عن غندر عن شعبة فذكره بنحوه وزاد ونحو ما على الأرض من الخلق، وعلى هذا فالمعنى والله أعلم أن في كل أرض خلقاً كنحو بني آدم وفيهم من يعرف الله تعالى بالنظر في الآية المذكورة. وسياقها وقوله تعالى (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق) وقوله (وما خلقت الجن والإِنس إلا ليعبدون) وغيرها، على أن بعضهم قد فسر ما جاء في الرواية الأخرى التي قدمت أنها لا تصح، ففي روح المعاني لا مانع عقلاً ولا شرعاً من صحته، والمراد أن في كل أرض خلقاً يرجعون إلى أصل واحد رجوع بني آدم في أرضنا إلى أدم عليه السلام وفيهم أفراد ممتازون على سائرهم كنوح وإبراهيم فينا، أما ما في البداية محمول إن صح نقله عنه على أنه أخذه ابن عباس رضي الله عنهما عن الإِسرائيليات فغير مرضي، فابن عباس كما مر ويأتي كان ينهى عن سؤال أهل الكتاب فإِن كان مع ذلك قد يسمع من بعض من أسلم منهم أو يسأله فإِنما ذلك شأن العالم يسمع ما ليس بحجة لعله يجد فيه ما ينبه ويلفت نظره إلى حجة انتهى.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (55) ما نصه:
كعب أسلم في خلافة عمر ومع ذلك فإِن أبا هريرة وابن عباس يسألانه عن الحديث ويرويان عنه. في تفسير الطبري أن ابن عباس سأل كعباً عن سدرة المنتهى فقال إنها على رؤوس حملة العرش وإليها ينتهي علم الخلائق وليس لأحد وراءها علم ولذلك سميت سدرة المنتهى لانتهاء العلم بها، هذا ما قاله كعب لتلميذه الثاني، وأما ما قاله لتلميذه الأول أبو هريرة عن سدرة المنتهى ففي حديث له أن الشجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن وأنهار من خمر وأنهار من عسل وهي شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً لا يقطعها والورقة منها تغطي الأمة كلها (ص 162 من أضواء).
والجواب أن يقال هذا مما نقله المؤلف من كتاب أبي رية، والكلام عليه من وجوه أحدها أن يقال من الظلم والزور قول المؤلف تبعاً لأبي رية أنا أبا هريرة وابن عباس رضي الله عنهما كانا من تلاميذ كعب الأحبار ومن الظلم والزور أيضاً
قول المؤلف تبعاً لأبي أن أبا هريرة وابن عباس رضي الله عنهما كانا يسألان كعبا عن الحديث ويرويان عنه.
الوجه الثاني أن يقال إن أبا هريرة وابن عباس رضي الله عنهما لم يتعلما من كعب شيئاً مما يتعلق بأمور الدين وإنما سمعا منه أشياء تحتمل الصدق فحكياها عنه أو سألاه سؤال خبير ناقد لينظرا ما يقول، وقد رد عليه أبو هريرة رضي الله عنه لما أخطأ في ساعة الإِجابة يوم الجمعة حتى رجع كعب إلى الصواب، ورد عليه ابن عباس رضي الله عنهما فيما ذكره الزمخشري في الكشاف لما قال أن السموات تدور على منكب ملك، ورد عليه ابن مسعود وحذيفة في ذلك أيضاً، وقد تقدم ذكر ذلك قبل هذا الفصل بأربعة فصول فليراجع (1).
وإذا علم هذا فنقول إن كعب الأحبار لا يبلغ في العلم إلى موضع الكعب من أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهما فضلاً عن أن يكونا من تلاميذه.
الوجه الثالث أن يقال إن كلام المؤلف تبعاً لأبي رية ظاهر في التنقص لأبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهما والسخرية منهما حيث زعم أبو رية والمؤلف أنهما من تلاميذ كعب الأحبار، ولا شك أن هذا فيض مما في قلوبهما من الغيظ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى في صفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليغيظ بهم الكفار) فمن كان في قلبه غيظ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية.
الوجه الرابع أن يقال إذا أطلق الحديث فالمراد به الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم أر من طريق صحيح ولا ضعيف أنا أبا هريرة وابن عباس رضي الله عنهما سألا كعباً عن شيء من الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا رويا عنه شيئاً من ذلك وإنما حكيا عنه بعض الشيء مما نقله من كتب أهل الكتاب، ومن ادعى أنهما سألاه عن شيء من الحديث المرفوع أو رويا عنه شيئا من ذلك فعليه إثبات ذلك بالإِسناد الصحيح ولن يجد إلى ذلك سبيلاً.
الوجه الخامس أن يقال إن الله تعالى قد أغنى أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم بالرواية عن نبيهم صلى الله عليه وسلم وسؤاله عما أشكل عليهم وبرواية بعضهم
(1) ص: 221 - 222.
عن بعض عن النبي صلى الله عليه وسلم وسؤال بعضهم بعضاً عن الحديث وما أشكل عليهم فليس بهم حاجة إلى الرواية عن كعب الأحبار ولا عن غيره من التابعين وليس بهم حاجة إلى سؤالهم عن الحديث.
الوجه السادس أن يقال ما جاء أن ابن عباس رضي الله عنهما سأل كعب الأحبار عن سدرة المنتهى فهو أثر غير ثابت عن ابن عباس رضي الله عنهما لأن ابن جرير الطبري رواه من طريق الأعمش عن شمر بن عطية عن هلال بن يساف قال «سأل ابن عباس رضي الله عنهما كعباً وأنا حاضر» كذا جاء في هذه الرواية. والأعمش مشهور بالتدليس وهلال بن يساف لم يدرك كعب الأحبار.
وأما ما رواه ابن جرير من طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية الرياحي عن أبي هريرة أو غيره قال «لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى السدرة» الحديث.
فالكلام عليه من وجوه أحدها أنه لم يثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه لأن أبا جعفر الرازي شك فيه هل هو عن أبي هريرة رضي الله عنه أو عن غيره.
الوجه الثاني لو فرضنا أنا أبا جعفر الرازي قال عن أبي هريرة وحده ولم يشك فيه فهو مردود بالكلام في إسناده لأن أبا جعفر الرازي والربيع بن أنس قد تكلم فيهما بعض أهل العلم. فأما أبو جعفر فقال أحمد في رواية ابنه عبد الله ليس بقوي في الحديث وكذا قال النسائي والعجلي، وقال ابن معين يكتب حديثه ولكنه يخطئ، وقال عمرو بن علي فيه ضعف وهو من أهل الصدق سيء الحفظ، وقال أبو زرعة شيخ يهم كثيراً، وقال الساجي صدوق ليس بمتقن، وقال ابن خراش صدوق سيء الحفظ، وقال ابن حبان كان ينفرد عن المشاهير بالمناكير لا يعجبني الاحتجاج بحديثه إلا فيما وافق الثقات، وأما الربيع فقال ابن معين كان يتشيع فيفرط، وذكره ابن حبان في الثقات وقال الناس يتقون من حديثه ما كان من رواية أبي جعفر عنه لأن في أحاديثه عنه اضطراباً كثيراً.
الوجه الثالث أن يقال لو ثبت ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه فهو موقوف عليه وليس في الرواية ما يدل على أنه رواه عن كعب الأحبار، وأما قول المؤلف تبعاً لأبي رية إن ذلك مما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن كعب الأحبار فلا شك أنه من اتباع الظن والتحامل على أبي هريرة رضي الله عنه وقد قال النبي صلى
الله عليه وسلم «إياكم والظن فإِن الظن أكذب الحديث» متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الوجه الرابع أن المؤلف وأبا رية حرفا في آخر الحديث حيث قالا «تغطي الأمة كلها» والذي في تفسير ابن جرير «تغطي المائة كلها» .
فصل
وقال المؤلف في صفحة (55) و (56) ما نصه
شهادة الصحابة على كعب بالكذب في الحديث وأخصهم عمر وعلي، وقد نهى عمر كعباً عن الحديث وتوعده بالنفي إلى بلاده وقال له لتتركن الحديث أو لألحقنك بأرض القردة. وكان علي يقول إنه لكذاب (ص 106 جـ 8 من البداية والنهاية) وروى البخاري عن الزهدي أن حميد بن عبد الرحمن سمع معاوية يحدث رهطاً من قريش وذكر كعباً فقال إنه من أصدق هؤلاء المحدثين من أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك نبلو عليه الكذب، وعن حذيفة وابن عباس. وأخرج ابن خيثمة بسند حسن عن قتادة قال بلغ حذيفة أن كعباً يقول إن السماء تدور على قطب كالرحى فقال كذب كعب إن الله يقول (إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا) ص 323 جـ1 من الإصابة لابن حجر، وقال ابن عباس لرجل مقبل من الشام من لقيت قال لقيت كعباً قال وما سمعته يقول قال سمعته يقول إن السموات تدور على منكب ملك فقال كذب كعب، أما ترك يهوديته بعد ثم قرأ (إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا) ص 139 من كتاب الكافي الشافي لابن حجر العسقلاني، ،وفي مرآة الزمان لسبط ابن الجوزي توقفهم فيما رواه كعب الأحبار عن الرسول - ص - لأنه أسلم على يد الفاروق وكان يضربه بالدرة ويقول له دعنا من يهوديتك (ص 35 جـ 1 مرآة الزمان لسبط ابن الجوزي).
والجواب أن يقال هذا مما نقله المؤلف من كتاب أبي رية وغير فيه بعض التغيير، والكلام عليه من وجهين أحدهما أن يقال ظاهر كلام المؤلف أن الصحابة كلهم شهدوا على كعب بالكذب في الحديث، وهذا كذب وافتراء من المؤلف تبع فيه أبا رية، ولم أر بإِسناد صحيح ولا ضعيف أن أحداً من الصحابة رضي الله عنهم كذب كعباً فيما يرويه من الأحاديث المرفوعة أو الموقوفة على الصحابة رضي الله عنهم، وإنما كان بعضهم يشك في بعض ما ينقله من كتب أهل الكتاب لأنها تحتمل الصدق
والكذب، وقد ثبت عن معاوية رضي الله عنه أنه ذكر كعب الأحبار فقال إن كان لمن أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب، رواه البخاري وثبت عن ابن مسعود وحذيفة رضي الله عنهما أنهما كذبا كعباً في قوله إن السموات تدور على منكب ملك، وثبت عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه كذب كعباً حين قال إن ساعة الإِجابة في يوم الجمعة يوم في كل سنة ثم صدقه لما رجع إلى الصواب وقال إنها في كل جمعة، فهذا هو الثابت عن الصحابة رضي الله عنهم في حق كعب الأحبار. وقد تقدم أن المراد بالكذب ههنا الخطأ في النقل عن أهل الكتاب وليس المراد به افتراء الكذب. والخطأ في النقل يحتمل أن يكون من كعب ويحتمل أن يكون من الكتب التي ينقل منها.
الوجه الثاني أن يقال لم يثبت عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما كذبا كعب الأحبار، وما ذكره المؤلف عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما أخص من كذب كعبا فهو من كيسه وافترائه على عمر وعلي رضي الله عنهما. وقد تقدم ما رواه مالك في الموطأ أن عمر رضي الله عنه أمر كعبا أن يحكم معه في جزاء الصيد، ولو كان كذاباً لما رضي عمر رضي الله عنه بحكمه في جزاء الصيد الذي لا يحكم فيه إلا العدول المرضيون.
وأما قوله وقد نهى عمر كعباً عن الحديث وتوعده بالنفي إلى بلاده وقال له لتتركن الحديث أو لألحقنك بأرض القردة، وكان علي يقول إنه لكذاب (ص 106 جـ 8 من البداية والنهاية).
فجوابه من وجهين أحدهما أن يقال قد ذكر ابن كثير هذا الأثر في البداية والنهاية ولفظه. قال أبو زرعة الدمشقي حدثني محمد بن زرعة الرعيني حدثنا مروان بن محمد حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبد الله عن السائب بن يزيد قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي هريرة لتتركن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لألحقنك بأرض دوس وقال لكعب الأحبار لتتركن الحديث عن الأول أو لألحقنك بأرض القردة، قال أبو زرعة وسمعت أبا مسهر يذكره عن سعيد بن عبد العزيز نحواً منه ولم يسنده انتهى، وقد أسقط أبو رية قوله «عن الأول» ليوهم من لا بصيرة لهم أن عمر رضي الله عنه نهى كعباً عن الحديث نهياً مطلقا يشمل الحديث عن الأول ويشمل الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه
وسلم والأحاديث الموقوفة على الصحابة رضي الله عنهم، وهذا من عدم الأمانة في النقل. وقد تابع المؤلف أبا رية على خيانته لغباوته وكثافة جهله.
الوجه الثاني أن يقال قد تكلم العلامة المحقق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في كتابه «الأنوار الكاشفة» في سند هذا الخبر وقال إنه غير صحيح، قال ومحمد بن زرعة لم أجد له ترجمة والمجهول لا تقوم به حجة، وكذا إسماعيل إلا أن يكون الصواب إسماعيل بن عبيد الله بالتصغير ابن أبي المهاجر فثقة معروف لكن لا أدري أسمع من السائب أم لا، وفي البداية عقبه قال أبو زرعة وسمعت أبا مسهر يذكره عن سعيد بن عبد العزيز نحواً منه لم يسنده، قال المعلمي وسعيد لم يدرك عمر ولا السائب. هذا ومخرج الخبر شامي، ومن الممتنع أن يكون عمر نهى أبا هريرة عن الحديث البتة ولا يشتهر ذلك في المدينة ولا يلتفت إلى ذلك الصحابة الذين أثنوا على أبي هريرة ورووا عنه وهم كثير منهم ابن عمر وغيره، هذا باطل قطعاً وأبو هريرة كان مهاجراً من بلاد دوس والمهاجر يحرم عليه أن يرجع إلى بلده فيقيم بها فكيف يهدد عمر مهاجراً أن يرده إلى بلده التي هاجر منها، وقد بعث عمر في أواخر إمارته أبا هريرة إلى البحرين على القضاء والصلاة كما في فتوح البلدان للبلاذري ص 92 - 93 وبطبيعة الحال كان يعلمهم ويفتيهم ويحدثهم انتهى.
وقال شيخ الإِسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في جواب له في الرد على من تكلم في أبي هريرة رضي الله عنه وهو في المجلد الرابع من مجموع الفتاوى ص 532 - 539 وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستدعي الحديث من أبي هريرة ويسأله عنه ولم ينهه عن رواية ما يحتاج إليه من العلم الذي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ولا توعده على ذلك، ولكن كان عمر يحب التثبت في الرواية حتى لا يجترئ الناس فيزاد في الحديث، ولهذا طلب من أبي موسى الأشعري من يوافقه على حديث الاستئذان مع أن أبا موسى من أكابر الصحابة وثقاتهم باتفاق الأئمة انتهى.
وأما قول المؤلف تبعاً لأبي رية وكان علي يقول إنه لكذاب فجوابه أن يقال لم يذكر أبو رية من روى ذلك عن علي رضي الله عنه ولا الكتاب الذي وجد ذلك فيه والظاهر أن ذلك من أكاذيب أبي رية ووضعه، وقد نقل المؤلف ذلك من كتاب
أبي رية وزاد الطين بلة فزعم أنه في كتاب «البداية والنهاية» وهذا من الكذب الذي لا يخفى على من راجع «البداية والنهاية» .
وأما قوله وروى البخاري عن الزهدي إلى آخره.
فجوابه أن يقال كذا قال المؤلف «الزهدي» وصوابه «الزهري» وقد تقدم أن المراد بالكذب في قول معاوية وحذيفة رضي الله عنهما الخطأ في النقل عن أهل الكتاب وليس المراد به افتراء الكذب.
وأما قوله وأخرج ابن خيثمة.
فجوابه أن يقال الصواب ابن أبي خيثمة.
وأما ما نقله عن ابن عباس رضي الله عنهما وزعم تبعاً لأبي رية أنه في كتاب الكافي الشافي لابن حجر العسقلاني.
فجوابه أن يقال هذا خطأ وغباوة من أبي رية ومقلده فإِن ابن حجر لم يذكر هذا الأثر وإنما ذكره الزمخشري في الكشاف غير معزو إلى شيء من كتب الحديث، وقال ابن حجر في «الكافي الشاف، في تخريج أحاديث الكشاف» لم أجده وروى الطبراني من رواية أبي وائل قال جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال من أين جئت قال من الشام فذكره مثله إلا أنه لم يقل ما ترك يهوديته انتهى.
قلت يحتمل أن الزمخشري أورد الأثر من حفظه فأبدل ابن مسعود ابن عباس والله اعلم.
وأما ما نقله المؤلف تبعاً لأبي رية من مرآة الزمان لسبط ابن الجوزي فقد أجاب عنه العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في كتابه «الأنوار الكاشفة» فقال لم يسند السبط هذه الحكاية وهو معروف بالمجازفة انتهى.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (56) ما نصه:
إسرائيليات كعب الأحبار. ثم ذكر في هذه الصفحة وأثناء صفحة (57) روايات عن كعب الأحبار وليس لها أسانيد صحيحة عن كعب فلا تصح نسبتها إليه لأنه يحتمل أن يكون بعض الكذابين وضعها ونسبها إلى كعب.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (57) ما نصه:
في الصحيحين أن اليد اليهودية دست الحديث في تفضيل الشام، جاء في الصحيحين «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك» روى البخاري «هم بالشام» في رواية أبي أمامة الباهلي أنهم سألوا النبي عنهم قال «هم في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس» وفي مسلم عن أبي هريرة أن النبي - ص - قال «لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة» قال أحمد وغيره هم أهل الشام.
والجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن يقال أما حديث «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق» الحديث فهو حديث صحيح رواه الإِمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه والبرقاني في صحيحه عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس هو من دس اليهود كما زعم ذلك المؤلف تبعاً لأبي رية، وقد روى الإِمام أحمد أيضاً والبخاري ومسلم من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وروى الإِمام أحمد والبخاري ومسلم أيضاً عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه أيضاً، وروى الإِمام أحمد ومسلم أيضاً عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك، وروى الإِمام أحمد أيضاً والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن معاوية بن قرة عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وقال الترمذي حسن صحيح، وروى أبو داود الطيالسي والطبراني والحاكم في مستدركه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو وصححه الحاكم والذهبي. وروى الإِمام أحمد وابن ماجه والبزار وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وروى الإِمام أحمد أيضاً وأبو داود والحاكم في مستدركه عن عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وصححه الحاكم والذهبي وقالا على شرط مسلم، وروى الإِمام أحمد أيضاً ومسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وروى عبد الله بن الإِمام أحمد والطبراني بإِسناد جيد عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وروى مسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
فهذه أحاديث متواترة في الإِخبار عن الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة، وقد ذكرتها بألفاظها في كتابي «إتحاف الجماعة، بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة» فتراجع هناك في «باب ما جاء في الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة» .
وإذا علم هذا فمن المجازفة والعداء للأحاديث الصحيحة زعم المؤلف تبعاً لأبي رية أن اليد اليهودية دست حديث ثوبان رضي الله عنه في الصحيحين، وهذه دعوى كاذبة خاطئة ولا يقولها إلا زنديق محاد لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثاني أن يقال قد جاء في فضل الشام آيات وأحاديث كثيرة ذكرت بعضها في الرد على المؤلف حينما ذكر في صفحة (44) و (45) بعض الأحاديث التي جاءت في فضل الشام وزعم أنها قيلت إرضاء لبني أمية فلتراجع هناك (1).
وأما ما زاده الإِمام أحمد والبخاري بعد روايتهما لحديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما عن عمير بن هانئ أنه قال قال مالك بن يخامر قال معاذ وهم بالشام فقال معاوية هذا مالك يزعم أنه سمع معاذاً يقول وهم بالشام، ونحوه ما رواه عبد الله بن الإِمام أحمد والطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه أنهم قالوا يا رسول الله وأين هم قال «ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس» ففيهما إشارة إلى محل الطائفة المنصورة في آخر الزمان عند خروج الدجال ونزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام.
ويدل على ذلك ما جاء في حديث أبي أمامة الطويل في ذكر خروج الدجال، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام وفيه فقالت أم شريك بنت أبي العكر يا رسول الله فأين العرب يومئذ قال «هم قليل وجلهم ببيت المقدس وإمامهم رجل صالح فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح إذ نزل عليهم عيسى بن مريم» رواه ابن ماجه وغيره.
ويدل على ذلك أيضاً حديث عبد الله بن حوالة الأزدي رضي الله عنه قال وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأسي أو على هامتي ثم قال «يا ابن حوالة إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلابل والأمور العظام والساعة يومئذ أقرب إلى الناس من يدي هذه من رأسك» رواه الإِمام أحمد وأبو داود والبخاري في تاريخه والحاكم في مستدركه وصححه هو والذهبي.
(1) ص: 201 - 203.
ويدل على ذلك أيضاً ما رواه الإِمام أحمد وأبو داود والحاكم عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «فسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى بأرض يقال لها الغوطة فيها مدينة يقال لها دمشق خير منازل المسلمين يومئذ صححه الحاكم والذهبي، قال المنذري في تهذيب السنن قال يحيى بن معين وقد ذكروا عنده أحاديث من ملاحم الروم فقال يحيى ليس من حديث الشاميين شيء أصح من حديث صدقة بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «معقل المسلمين أيام الملاحم دمشق» انتهى.
ففي هذه الأحاديث دليل على أن الطائفة المنصورة تكون في الشام في آخر الزمان عند وقوع الملاحم بين المسلمين والروم ولا يزالون هناك ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله تعالى وهم بالشام.
والمراد بأمر الله إرسال الريح الطيبة التي تقبض أرواح المؤمنين قبل قيام الساعة كما جاء ذلك في عدة أحاديث صحيحة ذكرتها في كتابي «إتحاف الجماعة» فلتراجع هناك، وليس شيء من ذلك من دس اليهود كما زعم ذلك من لا عقل له ولا دين.
وأما قوله وفي مسلم عن أبي هريرة إلى آخره.
فجوابه أن يقال هذا من أغلاط أبي رية وأكاذيبه على أبي هريرة رضي الله عنه وقد تبع المؤلف أبا رية على غلطه وكذبه لغباوته وكثافة جهله، وهذا الحديث قد رواه مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
وأما قوله قال أحمد وغيره هم أهل الشام.
فجوابه أن يقال هذا من كذب أبي رية على الإِمام أحمد رحمه الله تعالى وقد تبع المؤلف أبا رية على كذبه لعدم بصيرته.
وقول الإِمام أحمد رحمه الله تعالى في الطائفة المنصورة مشهور وقد ذكره النووي وغيره من أكابر العلماء ورواه الحاكم في «معرفة علوم الحديث» فقال سمعت أبا عبد الله محمد بن علي بن عبد الحميد الآدمي بمكة يقول سمعت موسى بن هارون يقول سمعت أحمد بن حنبل يقول وسئل عن معنى هذا الحديث - يعني قوله صلى الله عليه وسلم «لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة» - فقال إن لم تكن هذه الطائفة المنصورة أصحاب الحديث فلا أدري من هم، قال
الحاكم فلقد أحسن أحمد بن حنبل في تفسير هذا الخبر أن الطائفة المنصورة التي يرفع الخدلان عنهم إلى قيام الساعة هم أصحاب الحديث انتهى.
قال القاضي عياض إنما أراد أحمد أهل السنة والجماعة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث، وعن علي بن المديني أنه قال إنهم العرب واستدل بحديث «لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة» قال والمراد بالغرب الدلو الكبيرة لأن العرب أصحابها لا يستقي بها أحد غيرهم، ذكره يعقوب بن شيبة ونقله عنه صاحب المشارق وغيره ويؤيده عدة أحاديث ذكرتها في كتابي «إتحاف الجماعة» فلتراجع هناك في «باب ما جاء في الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة» .
فصل
وقال المؤلف في صفحة (57) ما نصه
وفي صفحة 69 جـ3 من فتح الباري عن نافع عن ابن عمر عن كعب الأحبار قال تخرج نار تحشر الناس فإِذا سمعتم بها فاخرجوا إلى الشام (ولك أن تتصور أيها العاقل كيف يكون ابن عمر تلميذاً لكعب فيروي عنه).
والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال هذا من أوابد أبي رية ذكره في صفحة (171) من الطبعة الثالثة لكتابه الخبيث، وذكر في الهامش أنه في صفحة 69 جـ 13 من فتح الباري وقد نقله المؤلف من كتاب أبي رية معتمداً عليه لغباوته وكثافة جهله، وقد راجعت فتح الباري فلم أجد فيه حديثاً بهذا اللفظ عن كعب الأحبار فضلاً عن أن يكون رواه عنه ابن عمر رضي الله عنهما، ولا شك أن أبا رية هو الذي وضع هذا الأثر بهذا اللفظ ونسبه إلى كعب الأحبار وزعم أن ابن عمر رضي الله عنهما رواه عنه وأن نافعاً رواه عن ابن عمر وهذا من الإِفك والبهتان.
الوجه الثاني أن يقال قد كان المؤلف وأبو رية ينكران وضع الأحاديث أشد الإِنكار ولكنهما قد نقضا ذلك بالفعل فأبو رية يضع الحديث على قدر رغبته وما يمليه عليه شيطانه وهواه، والمؤلف يتابعه متابعة الأعمى لقائده نعوذ بالله من عمى القلوب وانتكاسها والله المسئول أن يعافينا وإخواننا المسلمين مما ابتلاهما به من عداوة السنة وأهلها وبهت الأبرياء ومتابعة الهوى.
الوجه الثالث أن يقال قد ذكر الحافظ ابن حجر حديث ابن عمر رضي الله
عنهما مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال في صفحة 378 ج 11 طبع المطبعة السلفية ما نصه، وفي حديث ابن عمر عند أحمد وأبي يعلى مرفوعاً «تخرج نار قبل يوم القيامة من حضرموت فتسوق الناس» الحديث وفيه قالوا فما تأمرنا قال «عليكم بالشام» وفي لفظ آخر «ذلك نار تخرج من قعر عدن ترحل الناس إلى المحشر» هذا ما ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري وليس فيه ذكر لكعب الأحبار ولا لنافع، وهذا الحديث قد رواه الإِمام أحمد في مسنده بأسانيد صحيحة من حديث سالم بن عبد الله بن عمر قال حدثني عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم «ستخرج نار قبل يوم القيامة من بحر حضرموت تحشر الناس» قالوا فما تأمرنا يا رسول الله قال «عليكم بالشام» وفي رواية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «تخرج نار من حضرموت أو بحضرموت» الحديث وقد رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال وفي الباب عن حذيفة بن أسيد وأنس وأبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهم.
وأما قوله ولك أن تتصور أيها العاقل كيف يكون ابن عمر تلميذاً لكعب فيروى عنه.
فجوابه أن يقال بل ينبغي للعاقل أن يتصور جراءة أبي رية على الوضع على ابن عمر رضي الله عنهما وعلى كعب الأحبار وعلى نافع. وأن يتصور أيضاً جراءته على الافتراء على ابن عمر رضي الله عنهما حيث زعم أنه كان تلميذاً لكعب الأحبار، وأن يتصور غباوة المؤلف وكثافة جهله حيث كان يتابع أبا رية على ترهاته ويعتمد على بهتانه ومفترياته ولا يبالي بما يترتب على ذلك من الوعيد الشديد على بهت الأبرياء والوقوع في أعراضهم.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (58) ما نصه
أبو هريرة ورأي علماء الحديث فيه ممثلاً في مدرسة المنار، قال الأستاذ الفقيه المحدث رشيد رضا لو طالت حياة عمر حتى مات أبو هريرة ما وصلت إلينا تلك الأحاديث الكثيرة، وقال عن أحاديثه المشكلة (لا يتوقف على شيء منها إثبات أصل
من أصول الدين) ص 851 جـ 10 المنار، ص 140 جـ 19 المنار. وسوف يزداد الأمر عجباً وعجباً إذا عرفنا أن أبا هريرة لم يعاصر النبي - ص - إلا عاما وتسعة أشهر. وقد قال أبو محمد ابن حزم إن مسند تقي بن مخلد قد احتوى من حديث أبي هريرة على 5374 روى البخاري منها 446 وقال أبو هريرة عن نفسه في البخاري ما من أصحاب النبي - ص - أحد أكثر حديثا مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فقد كان يكتب ولا أكتب، ولو بحثنا عن كل ما رواه ابن عمرو هذا لوجدناه 700 حديثا روى البخاري منها سبعة ومسلم 20، والحقيقة التاريخية تقول أن ابن عمرو هو أحد الرواة عن كعب الأحبار وكان قد أصاب زاملتين من كتب أهل الكتاب كان يرويها للناس فتجنب الأخذ عنه كثير من أئمة التابعين. وكان يقال له لا تحدثنا عن الزاملتين. وقال فيها الخطيب البغدادي ومغيرة (ما يسرني أنها لي بفلسين. ووضح ذلك في صفحة 93 تأويل مختلف الحديث، وقال ابن حجر في الفتح ثبت أن أبا هريرة لم يكن يكتب ص 677 جـ 2 فتح الباري وكذلك لم يحفظ القرآن.
والجواب أن يقال هذا مما نقله المؤلف من كتاب أبي رية والكلام عليه من وجوه أحدها أن يقال إن شرار العصريين قد جعلوا أبا هريرة رضي الله عنه غرضاً لسهامهم الخبيثة فأكثروا الوقيعة فيه والتنقص له ورموه ظلماً وزوراً بكل ما يرون أنه يشينه ويقدح فيه، وقد تولى كبر ذلك أبو رية ونشره في كتابه الذي هو ظلمات بعضها فوق بعض، ونقل أقوال الشانئين لأبي هريرة رضي الله عنه من الروافض ومشايخ أبي رية وغيرهم من متشدقة العصريين، وسيقف أبو هريرة رضي الله عنه والشانئون له بين يدي حكم عدل لا يظلم مثال ذرة فيأخذ للمظلوم حقه من الظالم، ولو كان أبو رية وأشباهه من أعداء السنة وأعداء أهلها يؤمنون بوقوع القصاص يوم القيامة لما تجرءوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنقصوهم واستحلوا أعراضهم بغير حق.
وقد ورد النهي الأكيد عن سب الصحابة وإيذائهم، وورد أيضا الوعيد الشديد على ذلك، وقد ذكرت ذلك في الفصل الحادي عشر في أول هذا الكتاب فليراجع هناك (1).
(1) ص: 29 - 30.
وقد عجلت العقوبة في الدنيا لبعض المستهزئين بأبي هريرة رضي الله عنه والطاغين فيه (ولعذاب الآخرة أشد وأبقى) قال أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي في سننه «باب عقوبة من بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث فلم يعظمه ولم يوقره» أخبرنا عبد الله بن صالح حدثني الليث حدثني ابن عجلان عن العجلان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «بينما رجل يتبختر في بردين خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة» فقال له فتى قد سماه وهو في حلة يا أبا هريرة أهكذا كان يمشي ذلك الفتى الذي خسف به ثم ضرب بيده فعثر عثرة كاد يتكسر منها فقال أبو هريرة رضي الله عنه «للمنخرين وللفم» (إنا كفيناك المستهزئين).
وذكر أبو سعد السمعاني عن الشيخ العارف يوسف الهمداني عن الشيخ الفقيه أبي إسحاق الشيرازي عن القاضي أبي الطيب الطبري قال كنا جلوساً بالجامع ببغداد فجاء خراساني سألنا عن المصراة فأجبنا فيها واحتججنا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه فطعن في أبي هريرة فوقعت حية من السقف وجاءت حتى دخلت الحلقة وذهبت إلى ذلك الأعجمي فضربته فقتلته، ذكر هذه الحكاية شيخ الإِسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في جواب له في الرد على من تكلم في أبي هريرة رضي الله عنه. وهذا الجواب في المجلد الرابع من مجموع الفتاوى صفحة 532 - 539 فليراجع فإنه مهم جداً، وليراجع المجلد كله ففيه الرد على من يسب الصحابة وأهل الحديث ويتنقصهم.
وقد تصدى غير واحد من المعاصرين للدفاع عن أبي هريرة رضي الله عنه والرد على الطاعنين فيه بالإِفك والبهتان. فجزاهم الله عن دفاعهم عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الجزاء وشكر سعيهم.
الوجه الثاني أن يقال من المجازفة وصف المؤلف وأبي رية لرشيد رضا بالفقيه المحدث، ومن نظر في كتب رشيد رضا وكان ذا بصيرة علم يقينا أنه لا يستحق أن يوصف بهذين الوصفين وإنما يستحق أن يوصف بأنه فيلسوف متضلع من الثقافة الغربية وأنه ممن يحاول التوفيق بين العلوم الشرعية وبين الثقافة الغربية على طريقة شيخه محمد عبده.
الوجه الثالث أن يقال قد يغتر بعض الناس بكلام المؤلف وأبي رية فيتوهم
أن علماء الحديث قد تكلموا في أبي هريرة رضي الله عنه، وإنما أراد المؤلف وأبو رية بعض العصريين مثل صاحب المنار وأشباهه من ذوي الجراءة على رد بعض الأحاديث الصحيحة إذا كانت مخالفة لآرائهم أو آراء من يعظمونهم من مشايخهم وغير مشايخهم، وهؤلاء ليسوا من علماء الحديث فلا يعتمد على أقوالهم في الجرح والتعديل ولا يلتفت إلى كلامهم في أبي هريرة وعبد الله بن سلام رضي الله عنهما وغيرهما من الصحابة. ولا في كعب الأحبار ووهب بن منبه وغيرهما من ثقات التابعين.
وأما ما نقله المؤلف تبعاً لأبي رية عن رشيد رضا أنه قال لو طالت حياة عمر حتى مات أبو هريرة ما وصلت إلينا تلك الأحاديث الكثيرة.
فجوابه أن يقال قد أجاب عن ذلك العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في كتابه «الأنوار الكاشفة» فقال «وما يدريك لعل عمر لو طال عمره حتى استحر الموت بحملة العلم من الصحابة لأمر أبا هريرة وغيره بالإِكثار وحث عليه، وحفظ الله تبارك وتعالى لشريعته وتدبيره بمقتضى حكمته فوق عمر وفوق رأي عمر في حياة عمر وبعد موت عمر» .
وقد جاء عن عمر رضي الله عنه أنه أذن لأبي هريرة رضي الله عنه في التحديث، قال ابن كثير في «البداية والنهاية» قال مسدد حدثنا خالد الطحان حدثني يحيى بن عبد الله عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال بلغ عمر رضي الله عنه حديثي فأرسل إلي فقال كنت معنا يوم كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت فلان قال قلت نعم وقد علمت لم تسألني عن ذلك قال ولم سألتك قلت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ «من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار» قال أما إذا فاذهب فحدث
وقد تقدم قريبا (1) قول شيخ الإِسلام أبي العباس ابن تيمية أن عمر رضي الله عنه كان يستدعي الحديث من أبي هريرة رضي الله عنه ويسأله عنه ولم ينهه عن رواية ما يحتاج إليه من العلم الذي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ولا توعده على ذلك انتهى.
وإن من نعم الله تعالى على هذه الأمة إطالة عمر أبي هريرة رضي الله عنه حتى بلغ ما حفظه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك إطالة أعمار غيره من الصحابة الذين حفظوا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغوها إلى الأمة فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه.
ومن ضاق ذرعا بشيء من الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم مما رواه أبو هريرة أو غيره من الصحابة رضي الله عنهم فلا وسع الله عليه.
وأما قول المؤلف تبعاً لأبي رية، وقال عن أحاديثه المشكلة لا يتوقف على شيء منها إثبات أصل من أصول الدين.
فجوابه أن يقال ليس في أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابتة عنه مشكل لا فيما يتعلق بأصول الدين ولا فيما يتعلق بفروعه، وإنما يستشكلها من قل نصيبه من العلم النافع والدين ولاسيما تلاميذ الإِفرنج والمتخرجون من جامعاتهم ومن يقلدهم ويحذو حذوهم من ذوي الجهل المركب، فكثير من هذا الضرب يستشكلون أحاديث الصفات والقضاء والقدر والوعيد ويسلكون في تأويلها مسلك الجهمية والمعتزلة، وكذلك أحاديث أشراط الساعة مثل خروج المهدي وخروج الدجال ونزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام وخروج يأجوج ومأجوج وخروج الدابة وطلوع الشمس من مغربها وأحاديث المعجزات وخوارق العادات وغير ذلك من الأحاديث التي يستشكلها بعض العصريين لأنها لا تتفق مع أفكارهم وأفكار من يعظمونهم من المستشرقين وأتباع المستشرقين.
وأما قوله وسوف يزداد الأمر عجباً وعجباً إذا عرفنا أن أبا هريرة لم يعاصر النبي - ص - إلا عاماً وتسعة أشهر.
فجوابه أن يقال بل الذين يزداد به الأمر عجباً وعجباً هو شدة غباوة المؤلف
(1) ص: 248.
بحيث كان يتابع أبا رية على تخبيطه وجهله ويعتمد على أوهامه وتخرصاته، ومن ذلك زعمه أن أبا هريرة رضي الله عنه لم يعاصر النبي صلى الله عليه وسلم إلا عاما وتسعة أشهر، وهذا خطأ واضح وجهل فاضح لأن أبا هريرة رضي الله عنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما فتح خيبر وكان ذلك في أول سنة سبع من الهجرة.
وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بعدما افتتحها» الحديث، فعلى هذا يكون أبا هريرة رضي الله عنه قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع سنين وزيادة أيام، وروى ابن سعد في الطبقات عن حميد بن عبد الرحمن قال صحب أبو هريرة النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين، وروى ابن سعد أيضاً عن قيس بن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «صحبت النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين ما كنت في سنوات قط أعقل مني ولا أحب إلي أن أعي ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم مني فيهن» .
والجمع بين هذه الرواية والرواية قبلها أن أبا هريرة رضي الله عنه ذكر الزمن الذي كان ملازماً للنبي صلى الله عليه وسلم فيه وهو ثلاث سنين وأسقط السنة التي غاب فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم وذلك حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع العلاء بن الحضرمي إلى البحرين.
وأما ما نقله المؤلف تبعاً لأبي رية عن ابن حزم أنه قال إن مسند تقي بن مخلد قد احتوى من حديث أبي هريرة على 5374 روى البخاري منها 446.
فجوابه أن يقال أما قوله «تقي بن مخلد» فصوابه «بقي بن مخلد» بالباء الموحدة لا بالتاء المثناة، وقد وقع هذا التصحيف من المؤلف لا من أبي رية.
وأما العدد الذي ذكره ابن حزم فلا يستكثر مثله من أبي هريرة رضي الله عنه لأنه قد صحب النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين وكان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخدمه ويدور معه حيث دار، وكان حريصاً على أخذ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحرص على الحديث والعلم كما في صحيح البخاري عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال قلت يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة
فقال «لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث» .
وروى الإِمام أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن معاوية بن معتب الهذلي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمعه يقول سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا رد إليك ربك في الشفاعة فقال «والذي نفس محمد بيده لقد ظننت أنك أول من يسألني عن ذلك من أمتي لما رأيت من حرصك على العلم» الحديث. قال الحاكم صحيح الإِسناد ووافقه الذهبي في تلخيصه. وقال الهيثمي في إسناد أحمد رجاله رجال الصحيح غير معاوية بن معتب وهو ثقة.
وروى الحاكم أيضاً عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أبو هريرة وعاء العلم» .
وقد روى القاضي أبو الحسين في طبقات الحنابلة عن أبي جعفر محمد بن منصور العابد المعروف بالطوسي قال سمعت أحمد بن حنبل يقول رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت يا رسول الله كل ما روى عنك أبو هريرة حق قال نعم؟
وقد كان أبو هريرة رضي الله عنه مشهوراً بالحفظ حتى قال الشافعي رحمه الله تعالى أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره، رواه البيهقي وغيره، وذكره النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» وابن كثير في «البداية والنهاية» .
وقال شيخ الإِسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى أبو هريرة حافظ الأمة على الإِطلاق يؤدي الحديث كما سمعه ويدرسه بالليل درساً فكانت همته مصروفة إلى الحفظ وتبليغ ما حفظه كما سمعه انتهى من المجلد الرابع من الفتاوى صفحة 94.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه «مفتاح دار السعادة» هو حافظ الأمة على الإِطلاق وكل ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو صحيح انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في الإِصابة أجمع أهل الحديث على أنه أكثر الصحابة حديثاً. وقال البخاري روى عنه نحو الثمانمائة من أهل العلم وكان أحفظ من روى الحديث في عصره، قال وكيع حدثنا الأعمش عن أبي صالح قال كان أبو هريرة أحفظ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرجه البغوي من رواية أبي بكر بن عياش عن الأعمش بلفظ ما كان أفضلهم ولكنه كان أحفظ، وأخرج ابن أبي
خيثمة من طريق سعيد ابن أبي الحسن قال لم يكن أحد من الصحابة أكثر حديثا من أبي هريرة وقال الحاكم أبو أحمد كان من أحفظ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وألزمهم له على شبع بطنه فكانت يده مع يده يدور معه حيث دار إلى أن مات ولذلك كثر حديثه، وقال أبو نعيم كان أحفظ الصحابة لأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له بأن يحببه إلى المؤمنين انتهى ملخصا.
وذكر أبو الحسن ابن الأثير في كتابه «أسد الغابة، في معرفة الصحابة» عن البخاري أنه قال روى عن أبي هريرة رضي الله عنه أكثر من ثمانمائة رجل من صاحب وتابع، فمن الصحابة ابن عباس وابن عمر وجابر وأنس وواثلة بن الأسقع انتهى.
وروى الحاكم في مستدركه عن محمد بن عمرو بن حزم أنه قعد في مجلس فيه أبو هريرة يحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينكره بعضهم ويعرفه البعض حتى فعل ذلك مراراً فعرفت يومئذ أن أبا هريرة أحفظ الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عبد البر في الاستيعاب أسلم أبو هريرة عام خيبر وشهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لزمه وواظب عليه رغبة في العلم راضياً بشبع بطنه فكانت يده مع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يدور معه حيث دار وكان من أحفظ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يحضر ما لا يحضر سائر المهاجرين والأنصار لاشتغال المهاجرين بالتجارة والأنصار بحوائطهم وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه حريص على العلم والحديث انتهى.
وفي قوله إن أبا هريرة رضي الله عنه شهد خيبر نظر والصحيح أنه لم يشهدها لما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر بعدما افتتحها» فعلى هذا لا يعد أبو هريرة رضي الله عنه فيمن شهد خيبر.
وقال ابن كثير في «البداية والنهاية» وقد كان أبو هريرة من الصدق والحفظ والديانة والعبادة والزهادة والعمل الصالح على جانب عظيم انتهى. وقال أيضاً في أول «البداية والنهاية» لما ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه في احتجاج آدم وموسى من كذب بهذا الحديث فمعاند لأنه متواتر عن أبي هريرة رضي الله عنه وناهيك به عدالة وحفظاً وإتقاناً انتهى.
ولحفظ أبي هريرة رضي الله عنه سبب خصه به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري وجامع الترمذي عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله إني أسمع منك حديثاً كثيراً أنساه قال «ابسط رداءك» فبسطته قال فغرف بيده ثم قال «ضمه» فضممته فما نسيت شيئاً بعده، هذا لفظ البخاري وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح قد روي من غير وجه عن أبي هريرة، وفي جامع الترمذي أيضاً عن أبي الربيع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبسطت ثوبي عنده ثم أخذه فجمعه على قلبي فما نسيت بعده حديثاً، قال الترمذي هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
وروى النسائي في العلم من كتاب السنن أن رجلاً جاء إلى زيد بن ثابت فسأله فقال له زيد عليك بأبي هريرة فإِني بينما أنا وأبو هريرة وفلان في المسجد ندعو الله ونذكره إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس إلينا فقال «عودوا للذي كنتم فيه» قال زيد فدعوت أنا وصاحبي فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمن على دعائنا ودعا أبو هريرة فقال إني أسألك ما سأل صاحباي وأسألك علماً لا ينسى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «آمين» فقلنا يا رسول الله ونحن نسأل الله علماً لا ينسى فقال «سبقكما بها الغلام الدوسي» قال الحافظ ابن حجر في الإِصابة سنده جيد.
وفي صحيح البخاري عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائين فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم.
قال ابن كثير في «البداية والنهاية» وهذا الوعاء الذي كان لا يتظاهر به هو الفتن والملاحم وما وقع بين الناس من الحروب والقتال وما سيقع التي لو أخبر بها قبل كونها لبادر كثير من الناس إلى تكذيبه وردوا ما أخبر به من الحق كما قال لو أخبرتكم أنكم تقتلون إمامكم وتقتتلون فيما بينكم بالسيوف لما صدقتموني، انتهى.
وقد شهد غير واحد من أكابر الصحابة رضي الله عنهم لأبي هريرة رضي الله عنه بالحفظ وأنكر بعضهم وبعض التابعين إكثاره من الحديث فرد عليهم أبو هريرة رضي الله عنه فسكتوا ولم يعارضوه، وقد جاء في ذلك أحاديث كثيرة منها ما رواه الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال لأبي هريرة يا أبا هريرة أنت كنت
ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأحفظنا لحديثه، قال الترمذي هذا حديث حسن.
وقد رواه الإِمام أحمد وفيه قصة ولفظه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه مر بأبي هريرة وهو يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط فإِن شهد دفنها فله قيراطان، القيراط أعظم من أحد» فقال له ابن عمر رضي الله عنهما أبا هر انظر ما تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام إليه أبو هريرة حتى انطلق به إلى عائشة فقال لها يا أم المؤمنين أنشدك بالله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط فإِن شهد دفنها فله قيراطان» فقالت اللهم نعم فقال أبو هريرة رضي الله عنه إنه لم يكن يشغلني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس الودي ولا صفق بالأسواق إني إنما كنت أطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة يعلمنيها وأكلة يطعمنيها فقال له ابن عمر أنت يا أبا هريرة كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمنا بحديثه، وقد رواه مسلم في صحيحه مختصراً، ورواه الحاكم في مستدركه بنحو رواية الإِمام أحمد وقال صحيح الإِسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه، وقال الحافظ ابن حجر في «تهذيب التهذيب» والإِصابة قال ابن عمر «أبو هريرة خير مني وأعلم» زاد في الإِصابة «بما يحدث» .
ومنها ما رواه ابن سعد في الطبقات قال أخبرنا محمد بن عمر قال حدثني عبد الله بن نافع عن أبيه قال كنت مع ابن عمر رضي الله عنهما في جنازة أبي هريرة وهو يمشي أمامها ويكثر الترحم عليه ويقول كان ممن يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين.
ومنها ما رواه الترمذي والحاكم واللفظ له عن مالك بن أبي عامر قال كنت عند طلحة بن عبيد الله فدخل عليه رجل فقال يا أبا محمد والله ما ندري هذا اليماني أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم أم أنه يقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل يعني أبا هريرة فقال طلحة والله ما نشك أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم نسمع وعلم ما لم نعلم إنا كنا قوماً أغنياء لنا بيوت وأهلون كنا نأتي نبي الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار ثم نرجع وكان أبو هريرة مسكينا لا مال له ولا أهل ولا ولد إنما كانت يده مع يد النبي صلى الله عليه وسلم وكان يدور معه حيثما
دار ولا أشك أنه قد علم ما لم نعلم وسمع ما لم نسمع ولم يتهمه أحد منا أنه تقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، قال الترمذي هذا حديث حسن غريب وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وقال الذهبي على شرط مسلم.
ومنها ما رواه ابن أبي خثيمة من طريق محمد بن إسحاق عن عمر أو عثمان بن عروة عن أبيه قال قال لي أبي الزبير ادنني من هذا اليماني - يعني أبا هريرة - فإِنه كان يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فأدنيته منه فجعل أبو هريرة يحدث وجعل الزبير يقول صدق كذب صدق كذب قال قلت يا أبت ما قولك صدق كذب قال يا بني أما أن يكون سمع هذه الأحاديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أشك ولكن منها ما يضعه على مواضعه ومنها ما وضعه على غير مواضعه.
ومنها ما رواه الطبراني والحاكم عن أبي الشعثاء سليم بن الأسود قال قدمت المدينة فوجدت أبا أيوب يحدث عن أبي هريرة فقلت تحدث عن أبي هريرة وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية الحاكم وأنت صاحب منزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن أبا هريرة قد سمع ما لم نسمع وإني إن أحدث عنه أحب إلي من أن أحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم أسمعه منه، قال الهيثمي رواه الطبراني من طريقين في إحداهما سعيد بن سيفان الجحدري وثقه غير واحد وفيه ضعف وبقية رجالها ثقات.
ومنها ما رواه عبد الله بن الإِمام أحمد في زوائد المسند عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن أبا هريرة رضي الله عنه كان جريئاً على أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء لا يسأله عنه غيره، قال الهيثمي رجاله ثقات وثقهم ابن حبان.
قلت وقد رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه ولفظهما قال كان أبو هريرة جريئاً على النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن أشياء لا نسأله عنها.
ومنها ما رواه مسدد من طريق عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا سمع أبا هريرة رضي الله عنه يتكلم قال إنا نعرف ما يقول ولكنا نجبن ويجترئ، ذكره الحافظ ابن حجر في الإِصابة.
ومنها ما رواه أبو داود وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما من طريق عبد الواحد بن زياد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا صلى أحدكم الركعتين قبل الصبح فليضطجع على يمينه» فقال له مروان بن الحكم أما يجزي أحدنا ممشاه إلى المسجد حتى يضطجع على يمينه قال لا، قال فبلغ ذلك ابن عمر فقال أكثر أبو هريرة على نفسه قال فقيل لا بن عمر هل تنكر شيئاً مما يقول قال لا ولكنه اجترأ وجبنا قال فبلغ ذلك أبا هريرة فقال ما ذنبي إن كنت حفظت ونسوا.
ومنها ما رواه الحاكم من طريق الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة رضي الله عنه قال قال رجل لابن عمر رضي الله عنهما إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن عمر رضي الله عنهما أعيذك بالله أن تكون في شك مما يجيء به ولكنه اجترأ وجبنا.
قال ابن الأثير الاجتراء الإِقدام على الشيء من غير خوف ولا فزع، والجبن خلافه انتهى.
ومنها ما رواه ابن سعد عن الوليد بن رباح أن مروان قال يا أبا هريرة إن الناس قد قالوا إنك أكثرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما قدمت قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بيسير فقال أبو هريرة رضي الله عنه نعم قدمت ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر سنة سبع وأنا يومئذ قد زدت على الثلاثين سنة سنوات وأقمت معه حتى توفي أدور معه في بيوت نسائه وأخدمه وأنا والله يومئذ مقل وأصلي معه وأحج وأغزو معه فكنت والله أعلم الناس بحديثه قد والله سبقني قوم بصحبته والهجرة إليه من قريش والأنصار وكانوا يعرفون لزومي له فيسألوني عن حديثه منهم عمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فلا والله ما يخفى علي كل حديث كان بالمدينة وكل من أحب الله ورسوله وكل من كانت له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلة، وذكر تمام الخبر.
ومنها رواه الإِمام أحمد والبخاري ومسلم عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثاً ثم يتلو (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات - إلى قوله - الرحيم) إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطنه ويحضر ما لا يحضرون ويحفظ ما لا يحفظون، هذا لفظ البخاري في كتاب العلم، وقد رواه في
كتاب المزارعة، وفي كتاب الاعتصام بأطول من هذا، ولفظه في كتاب المزارعة قال يقولون إن أبا هريرة يكثر الحديث والله الموعد ويقولون ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثل أحاديثه وإن أخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وإن إخوتي من الأنصار كان يشغلهم عمل أموالهم وكنت امرءاً مسكينا ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني فأحضر حين يغيبون وأعي حين ينسون وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوماً «لن يبسط أحد منكم ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه ثم يجمعها إلى صدره فينسى من مقالتي شيئاً أبداً» فبسطت نمرة ليس علي ثوب غيرها حتى قضى النبي صلى الله عليه وسلم مقالته ثم جمعتها إلى صدري فو الذي بعثه بالحق ما نسيت من مقالته تلك إلى يومي هذا والله لولا آيتان في كتاب الله ما حدثتكم شيئاً أبداً (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات - إلى قوله - الرحيم) ، ورواه في كتاب البيوع من حديث سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن بنحوه.
قال الحافظ ابن حجر في «تهذيب التهذيب» وهو من علامات النبوة فإِن أبا هريرة كان أحفظ من كل من يروي الحديث في عصره ولم يأت عن أحد من الصحابة كلهم ما جاء عنه، وقال في «الإِصابة» والحديث المذكور من علامات النبوة فإِن أبا هريرة كان أحفظ الناس للأحاديث النبوية في عصره انتهى.
ومنها ما رواه مسلم عن أبي رزين قال خرج إلينا أبو هريرة رضي الله عنه فضرب بيده على جبهته فقال ألا إنكم تحدثون أني أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لتهتدوا وأضل الحديث.
ومنها ما رواه البخاري عن سعيد المقبري قال قال أبو هريرة رضي الله عنه يقول الناس أكثر أبو هريرة فلقيت رجلاً فقلت بما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم البارحة في العتمة فقال لا أدري فقلت لم تشهدها قال بلى قلت لكن أنا أدري قرأ سورة كذا وكذا.
ومنها ما رواه الحاكم في مستدركه عن خالد بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنا دعت أبا هريرة رضي الله عنه فقالت له يا أبا هريرة ما هذه الأحاديث التي تبلغنا أنك تحدث بها عن النبي صلى الله عليه وسلم هل سمعت إلا ما سمعنا وهل رأيت إلا ما رأينا قال يا أماه إنه كان يشغلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المرآة والمكحلة والتصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم
وإني والله ما كان يشغلني عنه شيء، قال الحاكم صحيح الإِسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه، وقد رواه أبو القاسم البغوي ولفظه أن عائشة رضي الله عنها قالت لأبي هريرة رضي الله عنه أكثرت الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة قال إنه والله ما كانت تشغلني عنه المكحلة والخضاب ولكن أرى ذلك شغلك عما استكثرت من حديثي قالت لعله.
ومنها ما رواه أبو يعلي عن أبي رافع أن رجلاً من قريش أتى أبا هريرة في حلة وهو يتبختر فيها فقال يا أبا هريرة إنك تكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل سمعته يقول في حلتي هذه شيئاً قال والله إنكم لتؤذوننا ولولا ما أخذ الله على أهل الكتاب (لتبيننه للناس ولا تكتمونه) ما حدثتكم بشيء، سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول «إن رجلاً ممن كان قبلكم بينما هو يتبختر في حلة إذ خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها حتى تقوم الساعة» فو الله ما أدري لعله كان من قومك أو من رهطك شك أبو يعلى.
وقال الحاكم في المستدرك قد تحريت الابتداء من فضائل أبي هريرة رضي الله عنه لحفظه لحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وشهادة الصحابة والتابعين له بذلك فإِن كل من طلب حفظ الحديث من أول الإِسلام وإلى عصرنا هذا فإِنهم من أتباعه وشيعته إن هو أولهم وأحقهم باسم الحفظ، وقد أخبرني عبد الله بن محمد بن زياد العدل قال سمعت أبا بكر محمد بن إسحاق الإِمام يقول وذكر أبا هريرة قال كان من أكثر أصحابه عنه رواية فيما انتشر من روايته ورواية غيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مخارج صحاح، وقال أبو بكر وقد روى عنه أبو أيوب الأنصاري مع جلالة قدره ونزول رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده، ثم ذكر رواية أبي الشعثاء أن أبا أيوب رضي الله عنه كان يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقد تقدم ذكرها قريباً، ثم قال الحاكم قال الإِمام أبو بكر فمن حرص أبي هريرة على العلم روايته عمن كان أقل رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم منه حرصاً على العلم فقد روى عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه ثم ساق بإِسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يشهرن أحدكم على أخيه السيف لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من حفر النار» قال أبو هريرة رضي الله عنه سمعته من سهل بن سعد الساعدي سمعه من رسول الله صلى الله عليه
وسلم، قال أبو بكر فحرصه على العلم يبعثه على سماع خبر لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم منه، وإنما يتكلم في أبي هريرة لدفع أخباره من قد أعمى الله قلوبهم فلا يفهمون معاني الأخبار، إما معطل جهمي يسمع أخباره التي يرويها خلاف مذهبهم الذي هو كفر فيشتمون أبا هريرة ويرمونه بما الله تعالى قد نزهه عنه تمويها على الرعاء والسفل أن أخباره لا تثبت بها الحجة، وإما خارجي يرى السيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولا يرى طاعة خليفة ولا إمام إذا سمع أخبار أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله
عليه وسلم خلاف مذهبهم الذي هو ضلال لم يجد حيلة في دفع أخباره بحجة وبرهان كان مفزعه الوقيعة في أبي هريرة، أو قدري اعتزل الإِسلام وأهله وكفر أهل الإِسلام الذين يتبعون الأقدار الماضية التي قدرها الله تعالى وقضاها قبل كسب العباد لها إذا نظر إلى إخبار أبي هريرة التي قد رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات القدر ولم يجد حجة تؤيد صحة مقالته التي هي كفر وشرك كانت حجته عند نفسه أن أخبار أبي هريرة لا يجوز الاحتجاج بها، أو جاهل يتعاطى الفقه ويطلبه من غير مظانه إذا سمع أخبار أبي هريرة فيما يخالف مذهب من قد اجتبى مذهبه وأخباره تقليداً بلا حجة ولا برهان تكلم في أبي هريرة ودفع أخباره التي تخالف مذهبه ويحتج بأخباره على مخالفيه إذا كانت أخباره موافقة لمذهبه، وقد أنكر بعض هذه الفرق على أبي هريرة أخباراً لم يفهموا معناها.
قال الحاكم رحمه الله وأنا ذاكر بمشيئة الله عز وجل في هذا رواية أكابر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين عن أبي هريرة، فقد روى عنه زيد بن ثابت وأبو أيوب الأنصاري وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وأبي بن كعب وجابر بن عبد الله وعائشة والمسور بن محزمة وعقبه بن الحارث وأبو موسى الأشعري وأنس بن مالك والسائب بن يزيد وأبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو أمامة بن سهل وأبو الطفيل وأبو نضرة الغفاري وأبو رهم الغفاري وشداد بن الهاد وأبو حدرد عبد الله بن حدرد الأسلمي وأبو رزين العقيلي وواثلة بن الأسقع وقبيصة بن ذؤيب وعمرو بن الحمق والحجاج الأسلمي وعبد الله بن عكيم والأغر الجهني والشريد بن سويد رضي الله عنهم أجمعين فقد بلغ عدد من روى عن أبي هريرة من الصحابة ثمانية وعشرين رجلاً فأما التابعون فليس فيهم أجل ولا أشهر وأشرف وأعلم من أصحاب أبي هريرة، وذكرهم في هذا الموضع يطول لكثرتهم، والله
يعصمنا من مخالفة رسول رب العالمين والصحابة المنتخبين وأئمة الدين من التابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين رضي الله عنهم أجمعين في أمر الحافظ علينا شرائع الدين أبي هريرة رضي الله عنه انتهى كلام الحاكم رحمه الله تعالى.
وفيما نقله عن الإِمام أبي بكر ابن خزيمة رحمه الله تعالى أبلغ رد على المؤلف وأبي رية وأشباههما من سخفاء العصريين الذين ينتقصون أبا هريرة رضي الله عنه ويرمونه ظلماً وعدواناً بكل ما يرون أنه يشينه ويقدح فيه، وهذا دليل على قلة الإِيمان فيهم أو عدمه لما رواه الإِمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أدع الله أن يحببني وأمي إلى عباده المؤمنين ويحببهم إلينا قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللهم حبب عبيدك هذا - يعني أبا هريرة - وأمه إلى عبادك المؤمنين وحبب إليهما المؤمنين» فما خُلق مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبني.
قلت دعاء النبي صلى الله عليه وسلم مستجاب بلا شك، وعلى هذا فلا يبغض أبا هريرة رضي الله عنه أحد في قلبه إيمان، ولا يتنقصه ويرميه بالإِفك والبهتان أحد في قلبه إيمان.
وقد نقل القاضي أبو الحسين في طبقات الحنابلة عن أبي محمد البربهاري أنه قال في «شرح كتاب السنة» إذا رأيت الرجل يحب أبا هريرة وأسيداً فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله، قال ومن تناول أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه أراد محمداً صلى الله عليه وسلم وقد آذاه في قبره، وذكر عن سفيان بن عيينة أنه قال من نطق في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمة فهو صاحب هوى.
وأما قول المؤلف تبعاً لأبي رية وقال أبو هريرة عن نفسه في البخاري ما من أصحاب النبي - ص - أحد أكثر حديثا مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فقد كان يكتب ولا أكتب، ولو بحثنا عن كل ما رواه ابن عمرو هذا لوجدناه 700 حديثا روى البخاري منها سبعة ومسلم 20.
فجوابه أن يقال ما ذكره أبو هريرة رضي الله عنه عن عبد الله بن عمرو رضي الله نهما أنه كان أكثر حديثاً منه فقد قال ذلك والله أعلم بحسب ما ظهر له من فعل عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما حيث كان يكتب ما يسمعه من النبي صلى الله
عليه وسلم وكان أبو هريرة لا يكتب، ولكن الواقع المطابق للحقيقة أن أبا هريرة رضي الله عنه كان أكثر الصحابة حديثاً بدون استثناء، ويحتمل أن يكون عند عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما حديث كثير جداً ولكنه لم ينتشر كما انتشر الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» وإنما قلّت الرواية عنه مع كثرة ما حمل لأنه سكن مصر وكان الواردون إليها قليلا بخلاف أبي هريرة فإِنه استوطن المدينة وهي مقصد المسلمين من كل جهة انتهى.
وقد حاول المؤلف وأبو رية النيل من أبي هريرة رضي الله عنه والطعن فيه بكثرة ما روى من الحديث فكانا كمن ينطح الجبل العظيم ويظن أنه يضره وإنما يضر نفسه ولا يضر الجبل شيئاً. وما مثل المؤلف وأبي رية وكلامهما في أبي هريرة رضي الله عنه إلا كما قال الشاعر:
وما ضر نور الشمس أن كان ناظراً
…
إليه عيون لم تزل دهرها عميا
وكما قال الأعشى:
كناطح صخرة يوماً ليوهيها
…
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
وكما قال الحسين بن حميد:
يا ناطح الجبل العالي ليكلمه
…
أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل
وبعد فإِن أبا هريرة رضي الله عنه حافظ الأمة على الإِطلاق وهو البار الصادق فيما روى وإن رغم أنف أبي رية وأنف المؤلف وأنوف أعداء السنة من الرافضة وأتباعهم من العصريين.
وأما قوله روى البخاري منها سبعة ومسلم 20.
فجوابه أن يقال هذا خطأ مردود فقد ذكر النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» والخزرجي في «الخلاصة» أن البخاري ومسلماً اتفقا على سبعة عشر من أحاديث عبد الله بن عمرو وانفرد البخاري بثمانية ومسلم بعشرين، فعلى هذا يكون البخاري قد أخرج لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما خمسة وعشرين حديثاً وأخرج له مسلم سبعة وثلاثين حديثاً.
وأما قوله والحقيقة التاريخية تقول إن ابن عمرو هو أحد الرواة عن كعب الأحبار.
فجوابه أن يقال هذا من كيس أبي رية وتخرصاته، وقد تبعه المؤلف على ذلك وزاد الطين بلة فزعم أن هذه الكذبة التي كذبها أبو رية حقيقة تاريخية، وهذه ترجمة عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما موجودة في كتب التاريخ وأسماء الرجال وليس في شيء منها أنه روى عن كعب الأحبار، فأين الحقيقة التي زعمها المؤلف.
وأما قوله وكان قد أصاب زاملتين من كتب أهل الكتاب كان يرويها للناس فتجنب الأخذ عنه كثير من أئمة التابعين.
فجوابه أن يقال إن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما لم يكن يروي للناس من الزاملتين إلا الشيء القليل مما له تصديق في القرآن أو في السنة. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» رواه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وقال حسن صحيح، ورواه الإِمام أحمد وأبو داود وابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه الإِمام أحمد أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وإسناده صحيح على شرط الشيخين. وروى أبو يعلى والبزار نحوه من حديث جابر رضي الله عنه.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه عن بني إسرائيل رواه الإِمام أحمد وأبو داود وابن حبان في صحيحه عن حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، ورواه الإِمام أحمد أيضاً والبزار والطبراني من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما وإسناد أحمد حسن وإسناد الطبراني صحيح.
وفي هذه الأحاديث أبلغ رد على من أنكر على عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في روايته من الزاملتين لأن عبد الله رضي الله عنه قد أخذ بقول النبي صلى الله عليه وسلم وتأسى به في فعله.
وأما قوله فتجنب الأخذ عنه كثير من أئمة التابعين.
فجوابه أن يقال هذا القول من المجازفات التي ليس لها مستند صحيح، والواقع يرد هذه المجازفة فقد روى عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أكثر من أربعين، منهم ستة من الصحابة رضي الله عنهم منهم أنس بن مالك وأبو أمامة بن سهل بن حنيف ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في «تهذيب التهذيب» وقال في «الإِصابة» قال أبو نعيم حدث عنه من الصحابة ابن عمر وأبو أمامة والمسور والسائب
بن يزيد وأبو الطفيل وعدد كثير من التابعين، ثم ذكر الحافظ منهم أربعة عشر وذكر في «تهذيب التهذيب» منهم ستة وثلاثين ثم قال وغيرهم، وفي الذين رووا عنه كثير من كبار التابعين وأئمتهم، وفيما ذكره الحافظ ابن حجر أبلغ رد على مجازفة أبي رية وعلى المؤلف حيث كان يتلقى ترهات أبي رية بالقبول ويشاركه في مجازفاته.
وأما قوله وكان يقال له لا تحدثنا عن الزاملتين وقال فيها الخطيب البغدادي ومغيرة ما يسرني أنها لي بفلسين ووضوح ذلك في ص 93 تأويل مختلف الحديث.
فجوابه أن يقال هذا مما نقله المؤلف من هامش كتاب أبي رية وقد أساء التصرف في النقل وحرف كلام أبي رية فنقل ما قيل في الصحيفة الصادقة إلى الزاملتين وهذا من جهله وتخبيطه، وهذا نص كلام أبي رية «وكان يقال له لا تحدثنا عن الزاملتين، أما صحيفته التي كان يسميه الصادقة ويحرص عليها فهي أدعية وصلوات كما قال الخطيب البغدادي وقال فيها مغيرة ما تسرني أنها لي بفلسين ص 93 تأويل مختلف الحديث» .
وأقول أما صحيفة عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما التي كان يسميها الصادقة فقد ذكرها ابن سعد وابن عبد البر وأبو الحسن ابن الأثير، فأما ابن سعد فقال في «الطبقات» أخبرنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي أويس عن سليمان بن بلال عن صفوان بن سليم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في كتابة ما سمعته منه قال فأذن لي فكتبته فكان عبد الله يسمي صحيفته تلك الصادقة رجاله كلهم ثقات من رجال الصحيحين.
وقال ابن سعد أيضاً أخبرنا معن بن عيسى قال حدثنا إسحاق بن يحيى عن مجاهد قال رأيت عند عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما صحيفة فسألته عنها فقال هذه الصادقة فيها ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه فيها أحد.
إسحاق بن يحيى ضعيف جداً ولكن رواية صفوان بن سليم تؤيد روايته وتشهد لها بالصحة.
وأما ابن عبد البر فروى في كتابه «جامع بيان العلم وفضله» عن ليث عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال «ما يرغبني في الحياة إلا خصلتان الصادقة والوهط فأما الصادقة فصحيفة كتبتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وأما الوهط فأرض تصدق بها عمرو بن العاص كان يقوم عليها».
وأما أبو الحسن ابن الأثير فقال في كتابه «أسد الغابة، في معرفة الصحابة ما نصه قال مجاهد أتيت عبد الله بن عمرو فتناولت صحيفة تحت مفرشه فمنعني قلت ما كنت تمنعني شيئاً قال هذه الصادقة فيها ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه أحد، إذا سلمت لي هذه وكتاب الله والوهط فلا أبالي علام كانت عليه الدنيا، قال ابن الأثير والوهط أرض كان يزرعها.
وأما قول أبي رية إن الصحيفة الصادقة أدعية وصلوات فهو مردود بقول عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن فيها ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ليس بينه وبينه أحد، وكذلك ما ذكره ابن قتيبة عن مغيرة أنه قال ما يسرني أنها ليس بفلسين هو مردود بقول عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وما أبشع هذا القول من مغيرة إن كان ثابتا عنه وكذلك إيراد ابن قتيبة له في كتابه «تأويل مختلف الحديث» مستبشع أيضاً لما في ذلك من رد الأحاديث التي سمعها عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما من النبي صلى الله عليه وسلم والاستخفاف بشأنها، ولعل مغيرة وابن قتيبة لم يثبت عندهما قول عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن الصحيفة الصادقة فيها ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وكتبه بإِذنه أو أنهما ظنا أن الصحيفة هي مما أصابه يوم اليرموك من كتب أهل الكتاب فلهذا قال مغيرة ما قال ونقله عنه ابن قتيبة وأقره.
وأما قول المؤلف تبعاً لأبي رية إن أبا هريرة رضي الله عنه لم يحفظ القرآن.
فجوابه من وجوه أحدها أن يقال لم يسند أبو رية هذا القول إلى مصدر موثوق به، والأحرى أن ذلك من كيسه، وما يدريه قاتله الله أن أبا هريرة رضي الله عنه لم يحفظ القرآن (أعنده علم الغيب فهو يرى) ، وقد ذكر ابن كثير في «البداية والنهاية» عن ابن جريح عمن حدثه قال قال أبو هريرة رضي الله عنه إن أجزئ الليل ثلاثة أجزاء فجزءاً لقراءة القرآن وجزءاً أنام فيه وجزءاً أتذكر فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أنه كان حافظا للقرآن.
الوجه الثاني أن يقال قد ذكر ابن سعد في الطبقات من جمع القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر منهم أبا هريرة، وفي هذا أبلغ رد على المؤلف وأبي رية.
الوجه الثالث أن يقال إن أبا هريرة رضي الله عنه كان من أئمة القراءات وهو من شيوخ الأعرج وأبي جعفر القارئ وهما من شيوخ نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم أحد الأئمة السبعة في القراءات وهو الذي قام بالقراءة بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، ذكر ذلك أبو بكر بن مجاهد في كتاب «السبعة في القراءات» قال وكان عبد الرحمن - يعني ابن هرمز الأعرج - قد قرأ على أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهما، حدثني أحمد بن محمد بن صدقة قال حدثنا إبراهيم بن محمد بن إسحاق المدني بقورس قال حدثنا عبيد بن ميمون التبان قال قال لي هارون بن المسيب قراءة من تقرأ قال قلت له قراءة نافع بن أبي نعيم قال فعلى من قرأ نافع قال قلت أخبرنا نافع أنه قرأ على الأعرج وأن الأعرج قال قرأت على أبي هريرة رضي الله عنه وقال أبو هريرة قرأت على أبي بن كعب وقال أبي عرض علي رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن وقال «أمرني جبريل أن أعرض عليك القرآن» ثم روى ابن مجاهد بإِسناده إلى عاصم بن بهدلة قال قلت للطفيل بن أبي بن كعب إلى أي معنى ذهب أبوك في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمرت أن أقرأ عليك القرآن» فقال ليقرأ علي فأخذو ألفاظه، وقال محمد بن إسحاق الصنعاني عن أبي عبيد قال معنى هذا الحديث أن يتعلم أبي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعلم قراءة أبي رضي الله عنه.
ثم قال ابن مجاهد وكان أبو جعفر - يعني يزيد بن القعقاع مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي - لا يتقدمه أحد في عصره أخذ القراءة عن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما وعن مولاه عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي، ثم ساق ابن مجاهد بإِسناده إلى سليمان بن مسلم بن جماز الزهري قال سمعت ابا جعفر يحكي لنا قراءة أبي هريرة رضي الله عنه في (إذا الشمس كورت).
وفيما ذكره ابن مجاهد عن أبي هريرة رضي الله عنه أبلغ رد على المؤلف وأبي رية لأن أبا هريرة لم يكن ليقرئ القرآن إلا وهو حافظ له.
ومما ذكرته في أول هذا الفصل وآخره يتضح أنه قد اجتمع في أبي هريرة رضي الله عنه ثلاث خصال حميدة لا ينالها إلا القليل من الناس، أحدها أنه كان من حفاظ القرآن، الثانية أنه كان من أئمة القراءات، الثالثة أنه كان أحفظ من روى الحديث في عصره، وخصلة رابعة أيضاً لم يتقدم ذكرها وهو أنه كان من أئمة
الفتوى من الصحابة رضي الله عنهم، قال ابن سعد في الطبقات أخبرنا محمد بن عمر أخبرنا عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن زياد بن ميناء قال كان ابن عباس وابن عمر وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص وجابر بن عبد الله ورافع بن خديج وسلمة بن الأكوع وأبو واقد الليثي وعبد الله بن بحينة مع أشباه لهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتون بالمدينة ويحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من لدن توفي عثمان إلى أن توفوا، والذين صارت إليهم الفتوى منهم ابن عباس وابن عمر وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم انتهى.
فليتأمل الشانئون لأبي هريرة رضي الله عنه ما ذكرنا من مناقبه الجليلة وليتقوا الله إن كانوا مسلمين، وليحذروا من العقوبات العاجلة أو الآجلة على بهتهم للصحابة ووقوعهم في أعراضهم، فما العقوبة من الظالمين ببعيد.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (59) وصفحة (60)
رأي الصحابة ورجال التخريج في أبي هريرة وكلامه مع عائشة بغير وقار لائق، روى مسلم بن الحجاج عن بسر بن سعد قال اتقوا الله وتحفظوا من الحديث لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدث عن رسول الله - ص - ويحدث عن كعب الأحبار ثم يقوم فاسمع بعض من كانوا معنا يجعل حديث رسول الله عن كعب وحديث كعب عن رسول الله، وفي رواية يجعل ما قاله كعب عن رسول الله وما قاله رسول الله عن كعب فاتقوا الله وتحفظوا في الحديث.
وقال يزيد بن هارون سمعت شعبة يقول أبو هريرة كان يدلس أي يروي ما سمعه من كعب وما سمعه من رسول الله ولا يميز بين هذا من هذا، ذكره ابن عساكر، وكأن شعبة يشير إلى حديث «من أصبح جنباً فلا صيام له» فإِنه لما حوقق عليه قال أخبرني مخبر ولم أسمعه من رسول الله (ص 109 جـ 8 البداية والنهاية لابن كثير، وقال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث وكان أبو هريرة يقول قال رسول الله - ص - كذا وإنما سمعه من الثقة فحكاه (ص 50 تأويل مختلف الحديث) ، وقال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث ص 48 إنه لما أتى أبو هريرة من الرواية عن رسول الله ما لم يأت بمثله من صحبه من جلة أصحابه الأولون وأنكروا عليه وقالوا كيف سمعت هذا وحدك ومن سمعه معك
وكانت عائشة أشدهم إنكاراً عليه لتطاول الأيام به، وممن اتهم أبا هريرة بالكذب عمر وعثمان وعلي وغيرهم - كما قال الكاتب الإِسلامي الكبير مصطفى صادق الرافعي إنه أول راوية اتهم في الإِسلام (ص 278 تاريخ آداب العرب) للأديب الرافعي، ولما قالت عائشة إنك لتحدث حديثاً ما سمعته من النبي - ص - أجابها بجواب لا أدب فيه ولا وقار إذ قال لها كما رواه ابن سعد والنجار وابن كثير وغيرهم شغلك عنه - ص - المرآة والمكحلة، وفي رواية ما كانت تشغلني عنه المكحلة والخضاب ولكن أرى ذلك شغلك عنه ثم عاد بعد ذلك واعترف بأنها أعلم منه في حديث «من أصبح جنباً لا صيام له» عندما واجهته بأن النبي - ص - كان يصبح جنبا وهو صائم فتراجع وقال إنه سمعه من الفضل وكان الفضل بن عباس قد مات، وقصة ذلك في صفحة 28 من تأويل مختلف الحديث، ولما روى حديث «إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يضعها في الإِناء فإِن أحدكم لا يدري أين باتت يده» لم تأخذ به وقالت كيف نصنع بالمهراس، والمهراس صخر ضخم منقور لا يحمله الرجال ولا يحركونه يملؤنه ماءاً ويتطهرون منه ولما سمع الزبير بن العوام أحاديثه قال صدق كذب (109 جـ البداية والنهاية) وأنكر
عليه ابن مسعود قوله من غسل ميتاً ومن حمله فليتوضأ وقال فيه قولا شديداً ثم قال يا أيها الناس لا تنجسوا من موتاكم (ص 25 جـ2 جامع بيان العلمي).
والجواب أن يقال هذا مما نقله المؤلف من كتاب أبي رية وغير فيه بعض الكلمات. فمن ذلك قوله «بسر بن سعد» وصوابه «بسر بن سعيد» ومنها قوله «بعض من كانوا» وصوابه «بعض من كان» ومنها قوله «ولا يميز بين هذا من هذا» وصوابه «ولا يميز هذا من هذا» ومنها قوله «قال أخبرني مخبر» وصوابه «قال أخبرنيه مخبر» ومن ذلك قوله «وإنما سمعه من الثقة فحكاه» وصوابه «وإنما سمعه من الثقة عنده فحكاه» ومنها قوله «من جلة أصحابه الأولون» وصوابه «من جلة أصحابه والسابقين الأولين» ومن ذلك قوله «لتطاول الأيام به» وصوابه «لتطاول الأيام بها وبه» ومن ذلك قوله «والنجار» وصوابه «والبخاري» ومن ذلك قوله «جامع بيان العلمي» وصوابه «جامع بيان العلم» .
والكلام على ما في أول هذا الفصل من وجهين أحدهما أن يقال لم يثبت عن
أحد الصحابة رضي الله عنهم ولا عن أحد من التابعين ولا عن أحد من أئمة الجرح والتعديل أنه تكلم في أبي هريرة رضي الله عنه بما يقدح فيه. وقد ذكرت قريبا ثناء بعض الأكابر من الصحابة عليه وشهادتهم بحفظه وكذلك ثناء كثير من أكابر العلماء عليه وشهادتهم بحفظه، وقول شيخ الإِسلام أبي العباس ابن تيمية وابن القيم أنه حافظ الأمة على الإِطلاق، وقول الشافعي وغيره أنه أحفظ من روى الحديث في دهره وأنه أحفظ الصحابة فليراجع ذلك (1).
وقال شيخ الإِسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في جواب له إن الصحابة كلهم كانوا يأخذون بحديث أبي هريرة كعمر وابن عمر وابن عباس وعائشة، ومن تأمل كتب الحديث عرف ذلك، قال ولم يطعن أحد من الصحابة في شيء رواه أبو هريرة بحيث قال إنه أخطأ في هذا الحديث لا عمر ولا غيره، بل كان لأبي هريرة مجلس إلى حجرة عائشة فيحدث ويقول يا صاحبة الحجرة هل تنكرين مما أقول شيئاً فلما قضت عائشة صلاتها لم تنكر مما رواه لكن قالت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم ولكن كان يحدث حديثا لو عده العاد لحفظه، فأنكرت صفة الأداء لا ما أداه، وكذلك ابن عمر قيل له هل تنكر مما يحدث أبو هريرة شيئاً فقال لا ولكن اجترأ وجبنا فقال أبو هريرة ما ذنبي إن كنت حفظت ونسوا، وكانوا يستعظمون كثرة روايته حتى يقول بعضهم أكثر أبو هريرة حتى قال أبو هريرة الناس يقولون أكثر أبو هريرة والله الموعد - ثم ذكر الحديث وقد تقدم ذكره (2) - قال وكان عمر بن الخطاب يستدعي الحديث من أبي هريرة ويسأله عنه ولم ينهه عن رواية ما يحتاج إليه من العلم الذي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ولا توعده على ذلك ولكن كان عمر يحب التثبت في الرواية حتى لا يجترئ الناس فيزاد في الحديث انتهى من الجزء الرابع من مجموع الفتاوى صفحة 535 - 536.
الوجه الثاني أن أقول قد ذكرت في أثناء الفصل الذي قبل هذا الفصل ما ذكره الحاكم في المستدرك عن الإِمام محمد بن إسحاق بن خزيمة أنه قال إنما يتكلم في أبي هريرة لدفع أخباره من قد أعمى الله قلوبهم فلا يفهمون معاني الأخبار وهم إما معطل جهمي وإما خارجي أو قدري أو جاهل مقلد بلا حجة ولا برهان، وذكرت أيضاً
(1) ص: 260 - 265.
(2)
ص: 265 - 266.
ما ذكره الحاكم من رواية أكابر الصحابة رضي الله عنهم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأنه قد بلغ عدد من روى عنه من الصحابة ثمانية وعشرين رجلاً، وذكرت قبل ذلك قول البخاري أنه روى عنه نحو الثمانمائة من أهل العلم فليراجع (1) ما تقدم ذكره ففيه أبلغ رد على المؤلف وأبي رية وغيرهما من المتنطعين الذين يتكلمون في أبي هريرة رضي الله عنه ويتنقصونه ويطعنون في روايته.
وأما قول بسر بن سعيد الذي رواه مسلم فإِنما رواه في كتاب التمييز وكان ينبغي لمن أورده أن ينبه على ذلك لئلا يتوهم أحد أنه في الصحيح، وإذا كان بعض المغفلين الذين ليسوا من أهل الحفظ والإِتقان والعناية بالعلم يحضرون مجلس أبي هريرة رضي الله عنه فيقع منهم الغلط فيما سمعوه ولا يميزون بين ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم وما رواه عن غير النبي صلى الله عليه وسلم فأي ذنب لأبي هريرة رضي الله عنه في هذا حتى يجعل المؤلف وأبو رية ذلك من معائبه وإنما الذنب لغيره وقد قال الله تعالى (ولا تزر وازرة وزر أخرى).
وأما قوله وقال يزيد بن هارون سمعت شعبة يقول أبو هريرة كان يدلس أي يروي ما سمعه من كعب وما سمعه من رسول الله ولا يميز بين هذا وهذا، ذكره ابن عساكر.
فجوابه أن يقال يبعد كل البعد أن يقول شعبة هذا القول الباطل في أبي هريرة رضي الله عنه، ولا يبعد أن يكون ذلك من أكاذيب أعداء السنة الذين يختلقون المعائب لأبي هريرة رضي الله عنه ثم ينسبونها إلى بعض أكابر العلماء.
وقد قال العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في كتابه «الأنوار الكاشفة» هي حكاية شاذة لا أدري كيف سندها إلى يزيد ويقع في ظني إن كان السند صحيحاً أنه وقع فيه تحريف فقد يكون الأصل «أبو حرة» فتحرفت على بعضهم فقرأها «أبو هريرة» وأبو حرة معروف بالتدليس كما تراه في طبقات المدلسين لابن حجر ص 17 وقوله «أي يروي
…
» أراه من قول ابن عساكر بناه على قصة بسر السابقة، فقوله لا يميز هذا من هذا» يعني لا يفصل بين قوله قال النبي صلى الله عليه وسلم
…
» وقوله زعم كعب .......» مثلاً بفصل طويل حتى يؤمن أو يقل الالتباس على ضعفاء الضبط، وتسمية هذا تدليساً غريب فلذلك قال ابن كثير وحكاه
(1) ص: 260 - 261 و 268.