المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ذكر الروايات لصحيفة علي رضي الله عنه - الرد القويم على المجرم الأثيم

[حمود بن عبد الله التويجري]

الفصل: ‌ ذكر الروايات لصحيفة علي رضي الله عنه

لقد كان في الإِعراض ستر جهالة

غدوت بها من أشهر الناس في البُلْد

وقول الآخر

زوامل للأسفار لا علم عندهم

بجيدها إلا كعلم الأباعر

لعمرك ما يدري البعير إذا غدى

بأوساقه أو راح ما في الغرائر

الوجه الثاني في‌

‌ ذكر الروايات لصحيفة علي رضي الله عنه

ليتضح لطالب العلم أن المؤلف قد تهور فيما زعمه من وجود التناقض الصريح بين روايات البخاري لبعض ما في الصحيفة.

فمنها ما رواه الإِمام أحمد بإِسناد صحيح والبخاري في صحيحه والنسائي بإِسناد صحيح وابن ماجه مختصراً عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال قلت لعلي رضي الله عنه هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله قال «والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلاً في القرآن وما في هذه الصحيفة، قلت وما في هذه الصحيفة قال العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر» هذا لفظ البخاري في كتاب الجهاد.

قوله العقل أي الدية، والمراد بيان أحكام الديات ومقاديرها وأصنافها. وسميت الدية عقلا لأن القاتل إذا جمع الدية من الإِبل عقلها بفناء أولياء المقتول ليسلمها إليهم فسميت الدية عقلا بالمصدر قاله ابن الأثير في النهاية.

قوله وفكاك الأسير أي حكم تخليصه من أيدي العدو والترغيب في ذلك.

ومنها ما رواه الإِمام أحمد بإِسنادين صحيحين والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال قال علي رضي الله عنه «ما عندنا كتاب نقرؤه إلا كتاب الله غير هذه الصحيفة قال فأخرجها فإِذا فيها أشياء من الجراحات وأسنان الإِبل، قال وفيها المدينة حرم ما بين عير الى ثور فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل ومن والى قوماً بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل» هذا لفظ البخاري في كتاب الفرائض، وزاد أحمد في إحدى روايتيه ومسلم

ص: 140

والترمذي «ومن ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً» .

قوله وأسنان الإبل، المراد والله أعلم بيان أسنان الإِبل التي تؤخذ في دية النفس وفي الجراحات وفي فرائض الصدقة.

ومنها ما رواه الإِمام أحمد بإِسناد صحيح عن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد قال قيل لعلي رضي الله عنه إن رسولكم كان يخصكم بشيء دون الناس عامة قال ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يخص به الناس إلا بشيء في قراب سيفي هذا فأخرج صحيفة فيها شيء من أسنان الإِبل وفيها أن المدينة حرم ما بين ثور إلى عائر من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فإِن عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل وذمة المسلمين واحدة فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل ومن تولى مولى بغير إذنهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل».

ومنها ما رواه الإِمام أحمد أيضا بإِسناد صحيح عن أبي حسان الأعرج أن علياً رضي الله عنه كان يأمر بالأمر فيؤتى فيقال قد فعلنا كذا وكذا فيقول صدق الله ورسوله، قال فقال له الأشتر إن هذا الذي تقول قد تفشغ في الناس أفشيء عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال علي رضي الله عنه ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً خاصة دون الناس إلا شيء سمعته منه فهو في صحيفة في قراب سيفي قال فلم يزالوا به حتى أخرج الصحيفة. قال فإِذا فيها «من أحدث حدثا أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف وعدل» قال وإذا فيها «إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم المدينة حرم ما بين حرتيها وحماها كلها لا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشار بها ولا تقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره ولا يحمل فيها السلاح لقتال» وإذا فيها «المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم. ألا لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده» وقد روى أبو داود والنسائي طرفا منه، ورواه النسائي أيضاً عن أبي حسان عن الأشتر.

ص: 141

قوله تفشغ أي فشا وانتشر قاله ابن الأثير في النهاية.

ومنها ما رواه الإِمام أحمد والنسائي أيضا بإِسناد صحيح عن قيس بن عباد قال انطلقت أنا والأشتر إلى علي رضي الله عنه فذكر بعض ما في حديث التيمي عن أبيه وعن الحارث بن سويد.

ومنها ما رواه الإِمام أحمد أيضا بإِسناد صحيح عن أبي الطفيل عامر بن وائلة رضي الله عنه قال سئل علي رضي الله عنه هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء فقال ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يعم به الناس كافة إلا ما كان في قراب سيفي هذا قال فأخرج صحيفة مكتوب فيها «لعن الله من ذبح لغير الله ولعن الله من سرق منار الأرض ولعن الله من لعن والده ولعن الله من آوى محدثاً» .

ومنها ما رواه الإِمام أحمد أيضاً وابنه عبد الله بأسانيد صحيحة عن طارق بن شهاب قال رأيت علياً رضي الله عنه على المنبر يخطب وعليه سيف حليته حديد فسمعته يقول والله ما عندنا كتاب نقرؤه إلا كتاب الله تعالى وهذه الصحيفة أعطانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فرائض الصدقة، قال لصحيفة معلقة في سيفه.

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري والجمع بين هذه الأحاديث أن الصحيفة كانت واحدة وكان جميع ذلك مكتوباً فيها فنقل كل واحد من الرواة عنه ما حفظه، قال وأتمها سياقاً طريق أبي حسان انتهى.

الوجه الثالث أن يقال إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، وهذه الأحرف عبارة عن أنواع من المخالفة في بعض الألفاظ مع اتفاق المعنى. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرئ بعض أصحابه على حرف من السبعة وبعضهم على حرف آخر وبعضهم على حرف آخر غير الحرفين وهكذا إلى تمام الأحرف السبعة، ولم يزالوا على القراءة بالأحرف السبعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حتى جمعهم عثمان رضي الله عنه على حرف واحد وهو ما وافق العرضة الأخيرة التي عارض بها جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر رمضان من حياته وأمر بالمصاحف فكتبت على ذلك وأرسلها إلى الآفاق وعزم عليهم أن لا يقرءوا بغيرها، وكان رسم الخط يومئذ خالياً من النقط والشكل وكان يحذف فيه كثير من الألفات كما هو معروف في رسم بعض المصاحف فلهذا كان رسم الخط عندهم

ص: 142

يحتمل غالب الاختلافات التي في الأحرف السبعة وبذلك خرجت من القراءات الصحيحة تلك التغييرات التي كان يترخص بها بعض الناس.

وإذا علم هذا فهل يقول المؤلف أن قراءة الصحابة بالأحرف السبعة تناقض صريح، وكذلك ما يذكر في كتب التفاسير عن القراء المشهورين من الاختلاف في بعض الكلمات هل يقول المؤلف أن ذلك تناقض صريح كما زعم ذلك في الأحاديث الصحيحة. أم ماذا يجيب به عن تهوره في رمي الأحاديث الصحيحة بالتناقض الصريح من أجل الاختلاف في بعض الألفاظ أو البسط في بعض الروايات والاختصار في بعضها.

وقد جاء اختلاف اللفظ في قصص الأنبياء في القرآن وكذلك البسط في قصصهم في بعض المواضع والاختصار في مواضع أخر، فهل يقول المؤلف أن ذلك تناقض صريح أم لا. فإِن قال بالتناقض في القرآن كما قال ذلك في الأحاديث الصحيحة فقد خلع ربقة الإِسلام من عنقه وحل دمه وماله، وإن نفى التناقض عن القرآن لزمه أن ينفيه عن الأحاديث الصحيحة، وإن لم يفعل كان من الذين يفرقون بين الله ورسله وقد قال الله تعالى (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً، أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً).

وقد ذكرت في أول الكتاب عن إسحاق بن راهويه وأبي محمد البربهاري أنهما قالا بتكفير من رد الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فليراجع (1) ذلك في الفصل الأول.

وأما قوله إلا أن يكون أمر الحديث وموضوعه كان يؤخذ بغير عناية ولا التفات إلى ما يترتب على ذلك وأنه جاءنا من طرق الوضع والدس لغرض واحد هو التضليل ولهذا أفرغه الوضاعون في عدة روايات متباينة في الألفاظ حتى يموهوا على المسلمين وحتى يظل باب الدس مفتوحاً أمامهم دون أن تغلقه عقول المؤمنين.

فجوابه من وجوه أحدها أن يقال إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعتنون

(1) ص: 3.

ص: 143

بحفظ الأحاديث أشد الاعتناء. وكان أبو هريرة رضي الله عنه قد جزأ الليل ثلاثة أجزاء، جزءاً لقراءة القرآن وجزءاً ينام فيه وجزءاً يتذكر فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكره ابن كثير في البداية والنهاية.

وذكر أيضاً عن حماد بن زيد حدثنا عمرو بن عبيد الأنصاري حدثنا أبو الزعيزعة كاتب مروان بن الحكم أن مروان دعا أبا هريرة فأقعدني خلف السرير وجعل مروان يسأل أبا هريرة وجعلت أكتب عنه حتى إذا كان عند رأس الحول دعا به وأقعده من وراء الحجاب فجعل يسأله عن ذلك الكتاب فما زاد ولا نقص ولا قدم لا أخر. وقد رواه الحاكم في مستدركه وقال صحيح الإِسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وقد سمع عروة بن الزبير عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما يحدث بحديث رفع العلم فحدث عروة عائشة رضي الله عنها بذلك فأعظمت ذلك فلما كان بعد عام حج عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فأمرت عائشة رضي الله عنها عروة أن يسأله عن حديث رفع العلم قال فلقيته فسألته فذكره على نحو ما حدثني به في مرته الأولى فأتيت عائشة فأخبرتها فعجبت وقالت والله لقد حفظ عبد الله بن عمرو، وفي رواية قالت ما أحسبه إلا قد صدق أراه لم يزد فيه شيئاً ولم ينقص، وهذا الحديث مخرج في الصحيحين بلفظ أبسط من هذا.

وهذا الذي ذكرته نموذج من عناية الصحابة بالحديث وحرصهم على حفظه، وجميع علماء الصحابة كانوا على غاية من الحفظ والإِتقان لما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم وما سمعه بعضهم من بعض.

وقد كان التابعون وتابعوهم وأئمة العلم والهدى من بعدهم يعتنون بالحديث غاية الاعتناء ويتحفظونه كما يتحفظون القرآن. وقد ذكر الذهبي في تذكرة الحفاظ عن الإِمام أحمد أنه قال كان قتادة لا يسمع شيئاً إلا حفظه قرئت عليه صحيفة جابر مرة فحفظها، وذكر غيره عن قتادة أنه قرأ مرة سورة البقرة فلم يخطئ حرفا ثم قال لأنا لصحيفة جابر أحفظ مني لسورة البقرة.

وكان كثير منهم يحفظون ويكتبون ومنهم من يحفظ ولا يكتب. وقد تقدم قريبا (1) ما ذكره حاشد بن إسماعيل أنهم عرضوا على البخاري ما كتبوه عن مشايخ

(1) ص: 132.

ص: 144

البصرة فزاد على خمسة عشر ألف حديث فقرأها كلها عن ظهر قلب. وكان الإِمام أحمد رحمه الله تعالى غاية في الحفظ. وكذلك كان كثير من أقرانه ومن قبلهم من الأئمة الحفاظ. وكذلك كان كثير من أقران البخاري وكثيرون ممن بعدهم. ومن طالع تذكرة الحفاظ للذهبي رأى العجب مما ذكره عن أهل الحفظ والإِتقان من المتقدمين والمتأخرين.

ومن شكك في عناية الصحابة بالحديث أو شكك في عناية التابعين وتابعيهم وأئمة العلم والهدى من بعدهم وأراد بذلك التشكيك في الأحاديث الصحيحة فهو مفتر أفاك ولا شك في عداوته للسنة وأهلها.

الوجه الثاني أن يقال إن الله تعالى قد حفظ السنة كما حفظ القرآن لأن كلاً منهما من الذكر الذي قال اله تعالى فيه (إنّا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) والدليل على أن السنة من الذكر قول الله تعالى (وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى) وقوله تعالى (قل إنما أنذركم بالوحي) وقوله تعالى (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) قال البغوي أراد بالذكر الوحي. وكان النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً للوحي، وبيان الكتاب يطلب من السنة انتهى.

وقوله تعالى (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة) وقوله تعالى (واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به) والحكمة المذكورة في هاتين الآيتين هي السنة على القول الصحيح. وقد جاء ذكرها أيضاً في قوله تعالى في سورة آل عمران (ويعلمهم الكتاب والحكمة) ومثلها في سورة الجمعة، وقد تقدم في الفصل الثالث في أول الكتاب قول الشافعي سمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم روى بأسانيده عن الحسن وقتادة ويحيى بن أبي كثير أنهم قالوا الحكمة في هذه الآية السنة، وتقدم فيه أيضاً قول حسان بن عطية أحد التابعين (كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل بالقرآن) رواه الدارمي بإِسناد جيد.

وقد تقدم في أثناء الكتاب (1) قول ابن حزم أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم وحي والوحي بلا خلاف ذكر والذكر محفوظ بنص القرآن، قال فصح بذلك أن

(1) ص: 89 - 90.

ص: 145

كلامه صلى الله عليه وسلم كله محفوظ بحفظ الله مضمون لنا أنه لا يضيع منه شيء انتهى.

وتقدم قريباً (1) ذكر الإِجماع على صحة ما في الصحيحين من الأحاديث وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو محفوظ من الوضع والدس وما يدعو إلى التضليل خلافاً لما توهمه المؤلف بعقله الفاسد من أن أمر الحديث وموضوعه كان يؤخذ بغير عناية وأنه جاء من طرق الوضع والدس لغرض التضليل إلى آخر كلامه الذي لم يتثبت فيه. وحاصله إظهار العداوة للسنة وأهلها ورمي أهلها ظلما وزوراً بأحد أمرين إما الوضع والدس لغرض التضليل، وإما شدة الغباوة والتغفيل بحيث يتمكن الوضاعون من دس الأحاديث الموضوعة عليهم. ولو طالع المؤلف تذكرة الحفاظ للذهبي لرأى ما يغيظه مما هو مذكور عن رواة الحديث من الحفظ والإِتقان والعناية بالحديث. ولاسيما ما ذكر فيها عن الإِمام البخاري الذي قد جعله المؤلف غرضاً لسهامه الخبيثة، وعمد إلى صحيحه الذي هو أصح الكتب بعد القرآن فجعله غرضا للطعن والتحطيم، وقد قال الله تعالى (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً فإِن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون) وهذه الآية الكريمة مطابقة لحال المؤلف غاية المطابقة.

الوجه الثالث أن يقال إن المؤلف هو صاحب الدس والتضليل في الحقيقة لأنه قد ملأ كتابه من التشكيك في الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وغرضه من ذلك تضليل المسلمين وتنفيرهم من قبول الأحاديث الصحيحة، وقد سبقه إلى ذلك أبو رية وأشباهه من تلامذة المبشرين والمستشرقين ومقلديهم من العصريين، ولكن المؤلف أربى على من سبقه بكثرة التشكيكات والشطحات والترهات. فكتابه في الحقيقة ظلمات بعضها فوق بعض.

الوجه الرابع أن المؤلف اعتمد في معارضته لصحيفة علي رضي الله عنه ورميها بالوضع على تعدد رواياتها وزعم أنها روايات متباينة في الألفاظ.

والجواب أن يقال أما تعدد الروايات فصحيح وليس ذلك مما يقدح في صحة الحديث. وأما الاختلاف في بعض الألفاظ مع اتفاق المعنى فلا يضر ولا يقدح في صحة

(1) ص: 138 - 139.

ص: 146

الحديث، والمقصود هنا بيان أن الروايات التي ذكرها البخاري في صحيحه لصحيفة علي رضي الله عنه كلها صحيحة ولا مطعن فيها بوجه من الوجوه. وكلام المؤلف فيها ضرب من الهوس الذي يشبه هذيان المجانين.

الوجه الخامس أن يقال إن أئمة الجرح والتعديل قد بينوا أحوال الرواة وميزوا الثقات من المجروحين وبينوا أحوال المجروحين على اختلاف مراتبهم ودرجاتهم في الضعف أو الانحطاط وصنفوا في ذلك مصنفات كثيرة وأفردوا الموضوعات بمصنفات خاصة بينوا فيها أسماء الوضاعين وأغلقوا أبواب الدس عليهم وتركوا الأمر واضحاً جلياً لمن أراد الله هدايته. فجزاهم الله عن المسلمين خير الجزاء.

وقد قابلهم أهل الزيغ والإِلحاد من تلامذة الإِفرنج ومقلديهم من العصريين ففتحوا باب الطعن في الأحاديث الصحيحة ورواتها من الثقات الأثبات فكلما وجدوا حديثاً صحيحا لا يوافق أفكارهم أو أفكار من يعظمونه من الإِفرنج وتلاميذهم ومقلديهم لم يتوقفوا في رده والطعن فيه بالشبه والتشكيكات الباطلة والطعن في الرواة بالتغفيل وقبول الدس. وهذه طريقة المؤلف وأبي رية عاملهما الله بعدله.

ولم يقف المؤلف وأبو رية وأشباههما عند هذا الحد بل تعدوا ذلك إلى الكلام في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدحوا في عدالة بعضهم ورموا بعضهم بالدس وبعضهم بالتغفيل وقبول الدس من اليهود. وسيأتي بيان ذلك عند كلام المؤلف فيهم إن شاء الله تعالى.

وقد نزه الله أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم عما يفتريه أعداؤهم من أهل الزيغ والإِلحاد، وكذلك رواة الأحاديث الصحيحة من أئمة التابعين وتابعيهم ومن بعدهم من أئمة العلم والهدى فكلهم منزهون عما يفتريه المؤلف وأبو رية وأشباههما من أعداء السنة وأهلها.

وأما قوله وأي شيء أعجب من أن يكون البخاري شيخ واحد وكتابه سجل واحد والحديث أيضا في موضوع واحد وبعد ذلك تأتي الروايات الثمانية فيه مختلفة اختلافاً صريحاً في اللفظ والمعنى.

فجوابه من وجوه أحدها أن يقال أعجب من ذلك أن يجيء في آخر القرن الرابع عشر من الهجرة جاهل أحمق طائش لا يعرف المرفوع من المنصوب ولا المذكر من

ص: 147

المؤنث ثم يتصدى للاعتراض على إمام المحدثين ومقدمهم في معرفة الحديث والتمييز بين الصحيح والضعيف والموضوع، ويتصدى أيضا للطعن في بعض أحاديث الجامع الصحيح الذي هو أصح الكتب بعد القرآن ويحكم عليه بالوضع، وليس أهلا للحكم في الأشياء التافهة فضلا عن الحكم على الأحاديث الصحيحة بالوضع وإِنه لينطبق على المؤلف قول الشاعر.

ما أنت بالحكم الترضى حكومته

ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل

وهل يظن الجاهل الأحمق أنه قد نال من العلم ما لم ينله البخاري وأمثاله من الأئمة النقاد حتى يتصدى للطعن فيه وفي صحيحه، أو يظن أن الأئمة النقاد من أقران البخاري ومن بعدهم يعرضون عن الطعن في البخاري أو في صحيحه لو وجدوا فيهما موضعاً للطعن.

وقد روى الإِمام أحمد بإِسناد صحيح عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت» ورواه أيضاً من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما وإسناده صحيح.

وهذا الحديث ينطبق على المؤلف لأنه قد انتزع منه الحياء الذي يمنع الإِنسان من تجاوز الحد وارتكاب ما لا يليق. ولما لم يكن عند المؤلف شيء من الحياء تطاول على الإِمام البخاري وتصدى للاعتراض عليه والقدح في صحيحه وجعل يهرف بما لا يعرف ولم يبال من ضحك العقلاء من حمقه وسخفه وغروره، ولقد أحسن الشاعر - وهو قيس بن الخطيم حيث يقول: -

وداء الجسم ملتمس شفاه

وداء النوك ليس له دواء

النوك بالضم الحمق.

الوجه الثاني أن يقال إن صحيفة علي رضي الله عنه ليست في موضوع واحد كما زعمه المؤلف وإنما هي مشتملة على أكثر من عشرين حكماً، روى البخاري منها اثني عشر، ثلاثة منها في حديث أبي جحيفة وتسعة في حديث التيمي. ومنها واحد في رواية أحمد ومسلم والترمذي عن إبراهيم التيمي عن أبيه وباقيها في روايات أبي

ص: 148

حسان الأعرج وأبي الطفيل وطارق بن شهاب. وقد تقدم ذكر هذه الروايات قريباً (1) فليراجعها من أراد الوقوف على ما فيها من الأحكام الكثيرة وما فيها أيضا من التحذير من بعض الكبائر والتشديد فيها.

وفي قول المؤلف إن صحيفة علي رضي الله عنه كانت في موضوع واحد دلالة كافية على غباوته وكثافة جهله، وإذا كان جاهلاً بما في روايات البخاري من الأحكام الكثيرة ويحسب أنها في موضوع واحد مع أنه قد أوردها في كتابه فما باله لا أبا له يتطاول على إمام المحدثين وعلى صحيحه مع أنه ليس بأهل أن يتطاول على أحد من علماء عصره ولا أن ينتقد كتبهم فضلاً عن البخاري وأمثاله من كبار الأئمة المتقدمين.

الوجه الثالث أن يقال إن روايات البخاري لصحيفة علي رضي الله عنه ليس بينها اختلاف في المعنى البتة. وما زعمه الأهوج الطائش من وجود الاختلاف الصريح في المعنى فهو قول باطل مردود.

وأما الاختلاف اليسير في بعض اللفظ فهو موجود في بعض الروايات ولا يضر ذلك لأن العبرة بالمعنى لا باللفظ، ولو كانت الأحاديث ترد باختلاف ألفاظ الرواة لذهب غالب السنن ولم يبق إلا القليل. وقد ذكرت قريباً (2) أن الاختلاف في اللفظ موجود في مواضع كثيرة من القرآن ولاسيما قصص الأنبياء وكذلك ما اختلف القراء فيه من الحروف. ولو أن أحداً اعترض على القرآن من أجل ما فيه من الاختلاف في بعض الألفاظ لكن كافراً بالإجماع، وأما الأحاديث الصحيحة فإِنه لا يعترض عليها ويقدح فيها من أجل ما يقع فيها من الاختلاف في بعض الألفاظ إلا زائغ القلب خبيث الاعتقاد.

وأما قوله أما الكلمة الثانية فإِنا نقول فيها قطعاً ويقيناً بأن ما جاء في تلك الرواية المختلفة هو الدليل على وجود الكذب على رسول الله - ص - وعلى صاحبه وابن عمه علي بن أبي طالب وأن عليا لو أراد أو أمره النبي أن يدون حديثاً لضاقت بحصيلة وعيه الكتب والمجلدات ولقد كان لديه من القضايا ما هو أهم من عقل الإِبل

(1) ص: 140 - 142.

(2)

142 - 143.

ص: 149