الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بمنصبه. ذكر ذلك القاضي عياض وابن حجر الهيتمي وتقدم ذكره (1) وكلام المؤلف ههنا داخل فيما أجمع العلماء على تكفير قائله.
الوجه الثاني زعمه انحراف عقائد الذين يؤمنون بمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم وكراماته وكرامات غيره من أنبياء الله وأوليائه. وهذا يتضمن القدح في جميع أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين لهم بإِحسان. ولا يقدح فيهم إلا من متبع لغير سبيلهم وقد قال الله تعالى (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا).
وقد قال في الإقناع في
ذكر ما يصير به المسلم كافراً
ولا يخفى ما في كلام المؤلف من تضليل الأمة على إيمانهم بمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم وكراماته وكرامات غيره من أولياء الله تعالى فيكون بهذا كافراً حلال الدم والمال.
الوجه الثالث تسميته علماء السلف وأئمة الخلف بالدراويش وجماعات التنسك الشكلي وأصحاب الدعاوي وزعمه أنهم قد خرجوا ببشريتهم على سنن الله في خلقه، وهذه الأوصاف أولى به وبأشباهه من زنادقة العصريين وملاحدتهم.
الوجه الرابع تسميته كتب الحديث المعتمدة عند المسلمين بالمدونات الصفراء تحقيراً لها وتصغيراً لشأنها وزعمه أن الأحاديث الواردة فيها في المعجزات والكرامات أحاديث خيالية مفتراة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا من أعظم المحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم والمخالفة لما عليه المسلمون من الاعتناء بكتب الحديث والتعظيم لشأنها والإِيمان بما جاء في الصحيح منها من أخبار الغيوب والمعجزات والكرامات واعتقاد أن ذلك حق وصدق. وقد روى الترمذي والحاكم في مستدركه وأبو نعيم في الحلية عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الله لا يجمع أمتي أو قال أمة محمد على ضلالة ويد الله على الجماعة ومن شذ شذ إلى النار» .
الوجه الخامس رميه المسلمين بالغباوة والتغفيل من أجل اعتمادهم على
(1) ص: 27 - 29.
كتب الحديث وإيمانهم بما جاء في الصحيح منها من إخبار الغيوب والمعجزات والكرامات. والواقع في الحقيقة أن المؤلف هو الغبي المغفل الذي انقاد للشيطان فأغواه وتلاعب به حتى انسلخ من الدين وهو لا يشعر وصار حرباً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللأحاديث الصحيحة والمحدثين وسائر المؤمنين وقد قال الله تعالى (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون).
فصل
وقال المؤلف في صفحة (5) ما نصه
ثامناً إثبات أن دين الله هو القرآن بداية ونهاية وأن رسول الله (ص) قد بلغ ذروة الأمانة وقمة الوفاء في بلاغه للناس نصاً كاملاً وفي بيانه لهم تطبيقاً وعملاً، والتأكيد القوي على أن كل ما يأتينا من أخبار منسوبة إلى النبي وليس لها سند قرآني إنما هي من وحي الخيال الخرافي الشارد أو الكيد الإِسرائيلي اللعين وأن رسول الله (ص) هو صاحب الساحة البريئة من تلك الأخبار لأنه لا يستطيع أن يضيف إلى كتاب الله شيئا من عنده بعد أن ضرب الله للناس فيه من كل مثل وأكد تمامه بقوله (ما فرطنا في الكتاب من شيء).
والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال أما قوله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغ ذروة الأمانة وقمة الوفاء في إبلاغ القرآن للناس وفي بيانه لهم فهذا مما لا نزاع فيه، وكذلك لا نزاع أنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ السنة وبينها للناس غاية البيان وأراهم من المعجزات وخوارق العادات ما آمن به المؤمنون وكذب به الزنادقة الملحدون.
قال أبو ذر رضي الله عنه «لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علما» رواه الإِمام أحمد والطبراني وزاد فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم» قال الهيثمي رجال الطبراني رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقري وهو ثقة وفي إسناد أحمد من لم يسم.
وأما قوله إن دين الله هو القرآن بداية ونهاية فجوابه أن يقال هذا خطأ مردود
بقول النبي صلى الله عليه وسلم «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل ينثني شبعاناً على أريكته يقول عليكم بالقرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه» الحديث، وفي رواية «ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله» وفي رواية «إني أوتيت الكتاب وما يعدله» وقد تقدم هذا الحديث وما في معناه في الفصل الثالث في أول الكتاب فليراجع (1).
وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيكون في أمته أناس يعارضون السنة بالقرآن ويردن كل حديث جاء فيه ما ليس في القرآن فوقع الأمر طبق ما أخبر به صلوات الله وسلامه عليه.
الوجه الثاني أن يقال إن دين الله هو ما جاء في القرآن والسنة والدليل على ذلك قول الله تعالى (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) قال ابن كثير في قوله (فردوه إلى الله والرسول) قال مجاهد وغير واحد من السلف أي إلى كتاب الله وسنة رسوله. وهذا أمر من الله عز وجل بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة انتهى.
وقال البغوي في قوله (فردوه إلى الله والرسول) أي إلى كتاب الله وإلى رسوله ما دام حياً وبعد وفاته إلى سنته، والرد إلى الكتاب والسنة واجب إن وجد فيهما فإِن لم يوجد فسبيله الاجتهاد انتهى.
وروى ابن جرير عن مجاهد في قوله (فردوه إلى الله والرسول) قال إلى الله إلى كتابه وإلى الرسول إلى سنة نبيه، وروى أيضا عن ميمون بن مهران وقتادة نحو ذلك.
وروى مالك في الموطأ بلاغا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله» وقد رواه الحاكم في مستدركه موصولا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وصححه وأقره الذهبي.
وروى الحاكم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى
(1) ص: 5 - 7.
الله عليه وسلم «إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض» .
وروى الإِمام أحمد وأبو داود الطيالسي وأبو داود السجستاني والترمذي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعثه إلى اليمن قال «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء قال أقضي بكتاب الله قال فإِن لم تجد في كتاب الله قال أقضي بسنة رسول الله قال فإِن لم تجد في سنة رسول الله قال أجتهد رأيي ولا آلو قال فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله» .
وروى النسائي عن شريح القاضي أنه كتب إلى عمر رضي الله عنه يسأله فكتب إليه «أن اقض بما في كتاب الله فإِن لم يكن في كتاب الله فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإِن لم يكن في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بما قضى به الصالحون فإِن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقض به الصالحون فإِن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر ولا أرى التأخر إلا خيراً لك والسلام» .
وروى النسائي أيضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه نحو قول عمر رضي الله عنه.
وقد قال الله تعالى (لقد مَنَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) والآيات بنحو هذه الآية كثيرة وقد ذكرت جملة منها في الفصل الثالث في أول الكتاب وذكرت أيضا ما قيل في تفسير الحكمة بأنها السنة فليراجع (1). وفي هذه الآية وما في معناها من الآيات دليل على أن دين الله هو ما جاء في القرآن والسنة.
الوجه الثالث أن يقال كل ما جاء من أخبار الثقات متصلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو من الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم سواء شهد له القرآن أو لم يشهد له لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه» وليس هو من وحي الخيال الخرافي
(1) ص: 8 - 9.
الشارد أو الكيد الإِسرائيلي اللعين كما زعمه المؤلف كذبا وزورا.
وقد تقدم في الفصل الأول في أول الكتاب قول الشافعي وأحمد والموفق وابن القيم في الأخذ بالأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم فليراجع (1) فإنه مهم جدا.
الوجه الرابع أن يقال من أبطل الباطل تبرئة النبي صلى الله عليه وسلم مما ثبت عنه بنقل الثقات الأثبات. ولا يقول بهذا من له أدنى مسكة من عقل.
الوجه الخامس أن يقال ما كان من السنة زائداً على القرآن فهو تشريع مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم تجب طاعته فيه ولا تحل معصيته لقول الله تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب) وقوله تعالى (من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا) وكذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من المعجزات والكرامات وما أخبر به عن الأنبياء وغيرهم من الماضين مما لم يكن في القرآن فكله حق وصدق يجب على كل مؤمن تصديقه كما يجب عليه تصديق ما جاء في القرآن قال الله تعالى (وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، علمه شديد القوى).
ومن آمن بما جاء في القرآن ولم يؤمن بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو من الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله قال الله تعالى (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا، أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا، والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما).
الوجه السادس أنه لا يجوز أن يقال فيما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن في القرآن أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أضاف إلى القرآن ما ليس منه كما هو مقتضى كلام المؤلف وهو قول سوء لا يقوله أحد يؤمن بالله ورسوله.
فصل
وقال المؤلف صفحة (5) ما نصه
(1) ص: 2 - 5.
تاسعا إقامة الحجة القوية على الذين يتعصبون لآراء شيوخهم أو معتقدات آبائهم أو يلغون عقولهم أمام أسانيد تأتيهم بأحاديث تكذب كتاب الله زعما منهم أن الشلل الإرادي لعقولهم احتراما لتلك الأسانيد هو التعبد المطلوب، متناسين أن تقديس رجال الأسانيد هو التعبد المرفوض، وقد أنساهم الشيطان أن تقديس هؤلاء الرجال فيما يخالف كتاب الله هو أعظم أنواع الشرك الصحيح لأنه منازعة لله في حق الكلمة والتشريع وذلك أعظم ما لله من حقوق على خلقه.
والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال أن كلام المؤلف قد اشتمل على ترهات وأباطيل كثيرة، منها زعمه أن قبول الأسانيد الصحيحة من التعصب لآراء الشيوخ ومعتقدات الآباء ومن إلغاء العقول. ومنها زعمه أن في الأحاديث المروية بالأسانيد الصحيحة ما يخالف كتاب الله ويكذبه، ومنها زعمه أن احترام الأسانيد الصحيحة من الشلل الإرادي للعقول، ومنها زعمه أن احترام الأسانيد الصحيحة من تقديس رجال الأسانيد وأنه من التعبد المرفوض وأنه أعظم أنواع الشرك وأنه منازعة لله في حق الكلمة والتشريع.
وجوابنا عن هذه الترهات والأباطيل أن نقول (سبحانك هذا بهتان عظيم)(كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا).
الوجه الثاني أن يقال إن احترام الأسانيد الثابتة والأحاديث الصحيحة هو مقتضى العقل الصحيح كما أنه عنوان على الإِيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وأما عدم احترامها فإِنه دليل على ضعف العقل أو ذهابه بالكلية كما أنه عنوان على زيغ القلب وبعده عن الإِيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثالث أن يقال إن المؤلف هو الذي قد شل عقله في الحقيقة حينما نصب نفسه لعداوة الأحاديث الصحيحة وتعصب لآراء أبي رية وأشباهه من الزائغين الذين يعارضون الأحاديث الصحيحة بالآراء والشبهات ولا يبالون برفض الأسانيد الثابتة وتكذيب ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال والمعجزات والكرامات. وما أشبه هذا الضرب الرديء بالذين قال الله تعالى فيهم (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإِن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون) وقال تعالى (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله
على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون).
فصل
وقال المؤلف في صفحة (5) و (6) ما نصه
عاشراً إرشاد الراغبين في تحصيل العلم الديني إلى الباب الفسيح الذي وسعنا الله فيه فعلمنا بفضله حينما طرقنا بابه لهذا الغرض طرق الضعفاء المخلصين الباذلين جهدهم في الوفاء بالشرط الذي فرضه الله على طلاب العلم بقوله (واتقوا الله ويعلمكم الله) ذلك ليعلم المخلصون أن باب العلم مفتوح على مصراعيه لعباد الله المستطلعين لأمور دينهم الذين يحصرون أنفسهم في دائرة القرآن فيدرسونه دراسة العقلاء المتدبرين ويعكفون أيضا على دراسة السنة المتواترة التي قدمها النبي - ص - تطبيقا عمليا للقرآن الكريم. مع النصيحة الخالصة بالمداومة والصبر الجميل في دراسة آراء العلماء السابقين والمعاصرين، ومن هنا يصبح العلم الديني حقا مباحا للعاديين والرسميين. ولهذا أقول لأخي في الله وصديقي على درب الموحدين إني أهديك نصيحة صادقه هي أنك لو أردت العلم الديني فما عليك إلا أن تتقي الله وتأخذ بأسباب التحصيل اطلاعا طويلا مرتكزا على القاعدة القرآنية والسنة الصحيحة. وبالصبر الجميل على طريق الاطلاع سوف تكون عالما واعيا ولا ينبئوك مثل خبير.
والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال إن العلم النافع هو الفقه في الدين قال الله تعالى (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) وفي الصحيحين وغيرهما عن معاوية رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» وروى الترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح قال وفي الباب عن عمر وأبي هريرة ومعاوية رضي الله عنهم.
والفقه في الدين هو العلم بما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين قال الشاعر:
العلم قال الله قال رسوله
…
قال الصحابة ليس خلف فيه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة
…
بين الرسول وبين رأي فقيه
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في الكافية الشافية:
العلم قال الله قال رسوله
…
قال الصحابة هم أولو العرفان
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة
…
بين الرسول وبين رأي فلان
فالعلم بما جاء في الكتاب والسنة وما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم هو العلم في الحقيقة وهو الذي ينبغي للإنسان أن يجد ويجتهد في طلبه ويحرص غاية الحرص على تحصيله. قال أبو الدرداء رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضى لطالب العلم وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في الجوف الماء وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر» رواه الإِمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه.
فأما ما جمعه المؤلف في معارضة الأحاديث الصحيحة ورفضها وتأويل القرآن على غير تأويله والاعتماد على آراء أبي رية وأشباهه من الملحدين فليس بعلم وإنما هو جهل وضلال وإضلال للأغبياء الجهال، وما أضر ذلك وأسوأ عاقبته على صاحبه قال الله تعالى (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون).
وروى الإِمام أحمد ومسلم وأهل السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإِثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح قال النووي سواء كان ذلك الهدى والضلالة هو الذي ابتدأه أم كان مسبوقا إليه انتهى.
الوجه الثاني أن يقال الذي يظهر من كلام المؤلف أنه يرى أنه قد حصل له حظ وافر من العلم الديني وهو ما جمعه في كتابه الذي نرد عليه. وما علم المسكين أن الشيطان قد تلاعب به وأراه الباطل في صورة الحق والحق في صورة الباطل. وما عمل أيضا أن حقيقة كتابه هو الرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفض أقواله
وأفعاله وتكذيب ما ثبت عنه من المعجزات وخوارق العادات وتسميتها قصصا خيالية فهذا حاصل علمه الذي تعب في تحصيله مدة طويلة. ولا شك أنه بعيد كل البعد عن العلم الديني، ولا شك أيضا أن الجهل الكثيف خير من علم المؤلف وأحرى بسلامة الدين.
الوجه الثالث أن يقال كل رأي لم يستند إلى دليل من الكتاب أو السنة فليس من العلم الديني. وأكثر الآراء غث لا خير فيه وخصوصا آراء بعض العصريين. وعلى هذا فلا ينبغي للعاقل أن يشغل نفسه بما لا فائدة فيه وأن يضيع أوقاته في دراسة الآراء التي لا خير فيها.
وأما نصيحة المؤلف بالمداومة والصبر على دراسة الآراء فإِنها لا تروج إلا على أشباهه من الأغبياء الذين لا يفرقون بين الغث والسمين.
وينبغي للعاقل أن يعتبر بحال المؤلف وما وقع فيه من الزيغ والإلحاد بسبب دراسته لآراء أهل الزيغ والضلال من العصريين فكانت نتيجته من أسوأ النتائج وذلك أنه بذل غاية جهده في الرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفض أقواله وأفعاله وتكذيب ما ثبت عنه من المعجزات والكرامات. وكذلك قد انتحى على بعض أفاضل الصحابة والتابعين فطعن في عدالتهم ورمى بعضهم بالعظائم. ومن له أدنى عقل لا يرضى لنفسه أن تكون حاله كحال المؤلف.
وأما قوله ولا ينبؤك مثل خير.
فجوابه أن يقال إن المؤلف قد وصف نفسه بما وصف الله به نفسه في كتابه وهذا من إساءة الأدب مع الرب تبارك وتعالى، قال قتادة وغيره في قول الله تعالى (ولا ينبؤك مثل خبير) يعني نفسه تبارك وتعالى، فالله تبارك وتعالى هو الخبير بجميع الأمور العالم بما كان وما يكون، وأما غيره فلا يوصف بأنه خبير على الإطلاق وإنما يوصف بأنه خبير بما أحاط به علمه فقط. والعلم بمآل الأمور من خصائص الرب تبارك وتعالى فهو الذي يعلم من يكون عالما واعيا بسبب القراءة والاطلاع ومن لا يستفيد بكثرة القراءة والاطلاع والصبر على الدراسة شيئا أو يستفيد ما يضره ويضر غيره كحال المؤلف.
ويقال أيضا أن المؤلف قد أكثر القراءة والإِطلاع كما صرح بذلك في البند
الحادي عشر ومع هذا لم يكن عالماً واعياً وإنما كان جاهلاً محاداً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ومتبعاً لغير سبيل المؤمنين. ومن كانت هذه حاله وكان غير خبير بالأمر الذي وقع فيه بنفسه فكيف يكون خبيراً بما تؤول إليه حال غيره.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (6) ما ملخصه
حادي عشر كتابنا هذا يستند إلى كتاب الله نصاً ومعنى وقد سلكنا في تدوينه درب الأحرار المفكرين من الموحدين والسلفيين الذين يلتزمون بالقرآن وبتطبيق النبي تعبداً وتشريعا. ثم ذكر أنه عكف على القراءة والاستنباط طول حياته الماضية حتى فتح الله عليه بمعرفة الحق من الباطل بسبب رجوعه في كل شيء قرأه إلى القرآن، ثم قال وعلينا أن نشير بسهم الإِشارة لأستاذ المخرجين البخاري الذي لا يؤثر في كثرة الصحيح عنده ما نستبعده من أحاديث تخالف القرآن الكريم، ونحن على يقين من أن ذلك لا يغضبه لأنه لا يحب أن يسئل يوم القيامة عن كلام يخالف كلام الله.
والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال إن كتاب المؤلف لم يستند إلى كتاب الله لا نصاً ولا معنى وإنما استند إلى القول في كتاب الله بغير علم وحمل الآيات على غير محاملها، واستند أيضا إلى رأيه وآراء أهل الزيغ والإلحاد كأبي رية وأشباهه من أعداء الأحاديث الصحيحة.
يوضح ذلك الوجه الثاني وهو أن المؤلف صرح أنه سلك في تدوين كتابه درب الأحرار المفكرين - يعني الذين يقولون بحرية الفكر من العصريين فيتبعون ما يرونه بأفكارهم ولا يعبأون بالآيات والأحاديث الصحيحة وأقوال الصحابة ولا يبالون برفضها واطراحها إذا عارضت شيئا من آرائهم الفاسدة.
الوجه الثالث أن يقال لم يكن سلف الأمة وأئمتها يتأولون القرآن على غير تأويله ويعارضون به الأحاديث الصحيحة ولم يكونوا يقولون بحرية الفكر فيما يخالف الكتاب أو السنة أو الإِجماع أو قول صاحب لم يخالفه غيره من الصحابة، وإنما كانوا يحترمون القرآن والأحاديث الصحيحة وإجماع أهل العلم وأقوال الصحابة رضي الله عنهم ويجتهدون الرأي فيما لم يجدوا فيه دليلا من القرآن أو من السنة أو من الإجماع أو من أقوال الصحابة رضي الله عنهم. ومن سلك سبيلاً غير سبيل السلف
الصالح من صدر هذه الأمة فليس من السلفيين، ودعواهم أو دعوى أتباعهم إنهم سلفيون دعوى على غير حقيقة فلا تقبل.
الوجه الرابع أن يقال إن الذين يلتزمون بالقرآن وبتطبيق النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء في القرآن ويرفضون ما سوى ذلك من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وما ثبت عنه من المعجزات والكرامات ليسوا سلفيين وإنما هم أهل بدعة وضلالة. قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنهم وحذر منهم في عدة أحاديث تقدم ذكرها في الفصل الثالث في أول الكتاب فلتراجع (1).
الوجه الخامس أن يقال إن السلفيين هم أهل السنة والجماعة وهم الذين يتمسكون بالقرآن والسنة وهي ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال سواء كانت موافقة للقرآن أو زائدة على ما فيه وسواء كانت متواترة أو آحاداً. ومن أصول السلفيين أيضا أنهم يؤمنون بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من المعجزات وخوارق العادات مما وقع له صلى الله علي وسلم وما أخبر به عن الأنبياء وغيرهم من أولياء الله تعال ولا يردون من ذلك شيئاً كما يفعله تلامذة الإفرنج ومقلدوهم من العصريين ومنهم المؤلف وأبو رية وأبو عبية وغيرهم من أدعياء العلم في زماننا.
الوجه السادس أن يقال إن الذين يزعمون أنهم يلتزمون بالقرآن ليسوا صادقين في زعمهم ولو كانوا صادقين لآمنوا بكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم سواء كان موافقاً للقرآن أو كان زائداً على ما فيه وسواء كان متواتراً أو آحاداً لأن الله تعالى قال (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وقال تعالى (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى أتدري ما الفتنة. الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك، وتقدم في الفصل الأول في أول الكتاب قول الإمام أحمد أيضا كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم إسناد جيد أقررنا به وإذا لم نقر بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ودفعناه ورددناه رددنا على الله أمره قال الله تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا).
(1) ص: 5 - 7.
وأما ما ذكره المؤلف عن نفسه أنه عكف على القراءة والاستنباط طول حياته الماضية حتى فتح الله عليه بمعرفة الحق من الباطل بسبب رجوعه في كل شيء قرأه إلى القرآن.
فجوابه أن يقال إن عكوفه على القراءة والاستنباط طول حياته لم يزده إلا جهلا ولبسا للحق بالباطل ومحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم واتباعا لغير سبيل المؤمنين. وذلك أنه نصب نفسه للرد على رسول الله صلى الله علي وسلم واطراح كثير من أقواله وأفعاله وما ثبت عنه من المعجزات وخوارق العادات كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى وقد قال الله تعالى (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) وقال تعالى (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين. وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون) وقال تعالى (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون).
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في بدائع الفوائد حذار حذار من أمرين لهما عواقب سوء أحدهما رد الحق لمخالفته هواك فإِنك تعاقب بتقليب القلب ورد ما يرد عليك من الحق رأسا ولا تقبله إلا إذا برز في قالب هواك قال تعالى (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة) فعاقبهم على رد الحق أول مرة بأن قلب أفئدتهم وأبصارهم بعد ذلك. والثاني التهاون بالأمر إذا حضره وقته فإِنك إن تهاونت به ثبطك الله وأقعدك عن مراضيه وأوامره عقوبة لك قال تعالى (فإِن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين) فمن سلم من هاتين الآفتين والبليتين العظيمتين فلتهنه السلامة انتهى.
ومن نظر في كتاب المؤلف وكان ذا بصيرة لم يشك أنه قد أصيب بتقليب القلب والبصر فصار يرى الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق. وما زعمه من رجوعه في كل شيء قرأه إلى القرآن لم يكن سوى القول في كتاب الله بغير علم وحمل الآيات على غير محاملها. ولا شك أن المؤلف داخل فيما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوعه في قوله «لا أعرفن أحداً منكم أتاه عني حديث وهو متكئ على أريكته فيقول اتل به قرآنا» وفي رواية «لا أعرفن أحدكم يأتيه أمر من أمري قد أمرت به أو نهيت
عنه وهو متكئ على أريكته فيقول ما وجدنا في كتاب الله عملنا به وإلا فلا» وقد تقدم هذا الحديث وأحاديث في معناه في الفصل الثالث في أول الكتاب فلتراجع (1) وأما قوله وعلينا أن نشير بسهم الإشارة لأستاذ المخرجين البخاري الذي لا يؤثر في كثرة الصحيح عنده ما نستبعده من أحاديث تخالف القرآن الكريم ونحن على يقين من أن ذلك لا يغضبه لأنه لا يحب أن يسئل يوم القيامة عن كلام يخالف كلام الله.
فجوابه من وجهين أحدهما أن يقال ليس البخاري أستاذاً لأحد من المخرجين سوى الترمذي. وقد روى عنه مسلم في غير الصحيح. وروى عنه النسائي حديثا واحداً، وكثير من المخرجين كانوا من أقران البخاري وبعضهم من شيوخه وبعضهم من شيوخ شيوخه وبعضهم كانوا بعد زمانه وعلى هذا فلا يصح أن يقال إن البخاري أستاذ للجميع وإنما يصح أن يقال إنه مقدم على الذين اعتنوا بجمع الأحاديث الصحيحة.
الوجه الثاني أن يقال ليس في صحيح البخاري ما يخالف القرآن بوجه من الوجوه، واستبعاد المؤلف لبعض الأحاديث التي في صحيح البخاري لا يؤثر فيها بشيء وإنما يؤثر في المؤلف ويدل على غباوته وكثافة جهله بالأحاديث الصحيحة، ومن المطابق للمؤلف في تهجمه على صحيح البخاري قول الأعشى.
كناطح صخرة يوما ليوهيها
…
فلم يضره وأوهى قرنه الوعل
وأما قوله ونحن على يقين من أن ذلك لا يغضبه. فجوابه من وجهين أحدهما أن يقال من أين للمؤلف على أن يعلم يقيناً أن تهجمه على صحيح البخاري لا يغضب البخاري (أعنده علم الغيب فهو يرى). وما ادعاه من اليقين فهو في الحقيقة ظن كاذب وليس يقيناً صادقاً وقد قال الله تعالى (وإن الظن لا يغني من الحق شيئا) وفي الحديث الصحيح «الظن أكذب الحديث» رواه مالك وأحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الوجه الثاني أن يقال إن تهجم المؤلف على صحيح البخاري ليس بالأمر الهين، ولا أظن أن أحداً من المسلمين يرضى بصنيع المؤلف فضلاً عن أن يرضى بذلك البخاري لو كان حياً. وكيف لا يغضب المؤمنون عامة والبخاري خاصة من الاستهانة
(1) ص: 5 - 7.
بكتاب قد تلقته الأمة بالقبول واتفق العلماء المعتد بأقوالهم على أنه أصح الكتب بعد القرآن. وكيف لا يغضب المؤمنون عامة من اطراح أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكذيب ما ثبت عنه من المعجزات وخوارق العادات وتسميتها قصصا خيالية وخوارق خرافية. وكيف لا يغضب البخاري والمؤمنون الذين يعرفون عظم قدر البخاري من محاولة الحط من قدره وإلحاقه بالأغبياء المغفلين الذين تروج عليهم دسائس الكذابين. وكيف لا يغضب المؤمنون عامة من الطعن في بعض الصحابة والتابعين ورميهم بالدس على الإسلام.
ولا شك أن المؤلف قد تعرض لغضب الله تعالى لأنه قد بالغ في إساءة الأدب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى بعض الصحابة رضي الله عنهم وعلى الثقات الأثبات من رجال الأحاديث من التابعين ومن بعدهم وعلى الذين ألفوا الصحاح والسنن المسانيد فالله يجازيه على أفعاله السيئة بعدله.
وأما قوله لأنه لا يحب أن يسئل يوم القيامة عن كلام يخالف كلام الله.
فجوابه من وجوه أحدها أن يقال ليس في صحيح البخاري ما يخالف كلام الله بوجه من الوجوه، وقد تقدم بيان ذلك في عدة مواضع. وما زعمه المؤلف من مخالفة ما فيه لكلام الله تعالى فهو كذب وبهتان.
الوجه الثاني أن يقال على سبيل الفرض والتقدير لو كان في صحيح البخاري أحاديث كثيرة تخالف كلام الله لما كان عمل المؤلف في معارضتها ورفضها نافعا للبخاري في معاده ومانعا من سؤاله عما خرجه في كتابه قال الله تعالى (كل امرئ بما كسب رهين) وقال تعالى (كل نفس بما كسبت رهينة). ولو أن المؤلف حاسب نفسه على عمله في معارضة الأحاديث الصحيحة ورفضها وخاف من السؤال عن ذلك يوم القيامة لكان خيراً له.
الوجه الثالث أن يقال أن البخاري رحمه الله تعالى قد اعتنى بجمع الأحاديث الصحيحة وحفظها على الأمة فصار كتابه نوراً يستضيء به المؤمنون. وقد جاء في أحاديث كثيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بالرحمة والنضارة لمن حفظ أحاديثه وبلغها، وقد تقدم ذكرها، والبخاري من الذين ترجى لهم الرحمة والنضارة والدرجة العالية في الدار الآخرة. وأما المؤلف فيخشى عليه من العذاب الشديد على
معارضته للأحاديث الصحيحة ورفضها وتكذيب ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من المعجزات وخوارق العادات وتسميتها قصصاً خيالية وخوارق خرافية، وعلى طعنه في بعض الصحابة والتابعين ورميهم بالدس على الإسلام ..
فصل
وقال المؤلف في صفحة (8) في مقدمة الكتاب وذكر الدوافع لتأليفه ما ملخصه.
الدافع الأول هو صدورنا في تأليفه عن رهبة وخوف من عقاب الله للمقصرين في دعوة الحق - إلى أن قال - ولا شيء علينا إلا أن نحتمي بالله وحده من الراجمين لنا بغير حق ومن المعتدين علينا بغير عدل نتيجة جهرنا بما أمر الله به عندما نخالفهم بكلمة الحق فيما يقولون أو ما يعتقدون.
والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال إن الشيطان قد تلاعب بالمؤلف الجاهل غاية التلاعب فأراه الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق وأوهمه أن تأليفه لكتابه صادر عن رهبة وخوف من عقاب الله. وقد سلك المؤلف في دعواه الخوف من الله تعالى مسلك شيخه إبليس حينما كان مع كفار قريش يوم بدر يحرضهم على قتال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال الله تعالى مخبراً عنه (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب) وقال تعالى (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين).
الوجه الثاني أن يقال إن المؤلف هو الجائر المعتدي في الحقيقة لأنه قد بذلك جهده في معارضة أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتكذيب ما ثبت عنه من المعجزات وخوارق العادات وتسميتها قصصاً خيالية وخوارق خرافية وهذا من أقبح الجور والاعتداء والرجم بغير الحق. فأما الرد على أباطيل المؤلف وترهاته فهو من أهم المهمات وآكد الحقوق الواجبة على من يستطيع ذلك من العلماء وهو من العدل والانتصار للرسول صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثالث أن يقال قد زعم المؤلف أنه قد جهر بما أمر الله به وهذا من
الكذب على الله تعالى. فإن الله تعالى لم يأمر قط بمعارضة أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتكذيب ما ثبت عنه من المعجزات وخوارق العادات وتسميتها قصصا خيالية وخوارق خرافية. وإنما أمر تبارك وتعالى بالإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم وطاعته واتباعه وتوقيره واحترامه والأخذ بما جاء به والانتهاء عما نهى عنه وحذر غاية التحذير من مخالفة أمره قال الله تعالى (فآمنوا بالله رسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون) وقال تعالى (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) وقال تعالى (من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا) وقال تعالى (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) وقال تعالى (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيرا. لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه) وقال تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب) وقال تعالى (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى أتدري ما الفتنة. الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك ثم جعل يتلو هذه الآية (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) وقال تعالى (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا).
ولا شك أن المؤلف قد وقع في نفسه حرج عظيم من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله ومعجزاته وكراماته فلذلك أطلق العنان لنفسه في معارضته ورفض أقواله وأفعاله وتكذيب معجزاته وكراماته وتسميتها قصصا خيالية وخوارق خرافية. والله المسئول أن يعافينا وإخواننا المسلمين مما ابتلاه به.
الوجه الرابع أن المؤلف زعم أنه قد قال كلمة الحق وهذا من قلب الحقيقة لأنه إنما قال الأباطيل والترهات وعارض الحق ورفضه وأبعد عنه غاية البعد وقد قال الله تعالى (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون).
فصل
وقال المؤلف في صفحة (8) وصفحة (9) ما نصه
الدافع الثاني هو إعلان الغيرة التي لا تقبل من المؤمن صمتا ولا كتمانا وإنما يفرضها الله جهارة وإعلانا وحملة وإنكاراً على باطل القول وزور الحديث الذي نسب إلى رسول الله (ص) وتغلغل في سطور كلامه الصحيح حتى أصبح معارضا للقرآن الكريم ومعطلا لأحكامه الصريحة الواضحة ثم غشي بغشائه القبيح على أجمل وأطيب سيرة منحها الله لخاتم النبيين والمرسلين. وليس لنا من مخرج العقاب على وجود هذا الباطل في كتب الأحاديث الصحيحة ومضارعته للقرآن إلا بإعلان تلك الصيحة والتعريض الكتابي بعيوب وبطلان ما دسه الإسرائيليون وأقحموا فوقه اسم نبينا زورا وبهتانا ليشوهوا دين الإسلام بما في تلك الأحاديث من عيوب الوثنية وقبيح الباطل وبطلان التخريف.
والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال إن المؤلف إنما أعلن العناد والزندقة والإلحاد وأظهر ذلك في قالب النصيحة والإصلاح كما قال تعالى عن سلفه وإخوانه (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون. ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) فقد أعلن غيرته جهارة وإعلاناً وحملة وإنكاراً لأقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله ومعجزاته وكراماته كما لا يخفى على من نظر في كتابه المملوء بالأباطيل والترهات.
الوجه الثاني أن يقال ليس في صحيح البخاري شيء من باطل القول وزور الحديث وإنما ذلك في كتاب المؤلف فهو الذي قد ملئ بالأباطيل والزور والبهتان، وسأبين ذلك في مواضعه من الرد عليه إن شاء الله تعالى.
الوجه الثالث أن يقال ليس في صحيح البخاري شيء يعارض القرآن الكريم ويعطل أحكامه الصريحة كما زعم ذلك المؤلف كذبا وزورا. وقد تقدم في الفصل الثاني عشر في أول الكتاب ما نقله النووي من اتفاق العلماء على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان البخاري ومسلم وأن الأمة تلقتهما بالقبول وأن ما حكم البخاري ومسلم بصحته فهو مقطوع بصحته في نفس الأمر وأن علماء المسلمين أجمعوا على صحتهما سوى من لا يعتد بخلافه ووفاقه في الإجماع. وتقدم أيضا ما ذكره ابن كثير من إجماع العلماء وسائر أهل الإسلام على قبول صحيح البخاري وصحة ما فيه. فليراجع ذلك (1) ففيه أبلغ رد على كذب المؤلف وإلحاده.
(1) ص: 32 - 33.
الوجه الرابع أن يقال ما ذكر في صحيح البخاري وغيره من الصحاح من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وخوارق العادات فقد غشى السيرة النبوية بأحسن الغشاء وأجمله كما لا يخفى على أهل العلم النافع والعقول السليمة، وليس الأمر على ما قاله من أعمى الله قلبه فزعم أن ذلك قد غشى السيرة النبوية بغشائه القبيح. وجوابنا عن هذه الفرية أن نقول (سبحانك هذا بهتان عظيم)(كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا).
الوجه الخامس أن يقال قد تعرض المؤلف للعقاب الشديد على معارضته لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتكذيبه لمعجزاته وكراماته وتسميتها قصصا خيالية وخوارق خرافية. ولو أنه أعرض عن الكتابة في هذا الموضوع لكان خيراً له وأحرى لسلامته.
الوجه السادس أن يقال إن معاندة المؤلف للأحاديث الصحيحة وإعلانه الصيحة واللغو في معارضتها شبيه بمعاندة الكفار للقرآن ولغوهم في معارضته قال الله تعالى (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون. فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديداً ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون. ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون).
الوجه السابع أن يقال إن الله تبارك وتعالى قد صان الصحيحين من دس الإسرائيليين ومن كل ما يشوه دين الإسلام من الوثنية وقبيح الباطل وبطلان التخريف. ولكن المؤلف هو الذي أراد الدس على المسلمين وتشكيكهم في الأحاديث الصحيحة فهو في الحقيقة شر على الإسلام والمسلمين من الإسرائيليين ومن غيرهم من أعداء الله تعالى.
الوجه الثامن أن يقال إن كتب السنة كانت محترمة عند علماء أهل السنة والجماعة منذ زمان تأليفها إلى أثناء القرن الرابع عشر من الهجرة فحينئذ ظهرت فئة من تلاميذ الإفرنج ومقلديهم والمتزلفين إليهم بالطعن في الأحاديث الصحيحة والتشكيك فيها. ومنهم المؤلف وأبو رية وبعض مشايخه الذين بثوا في المسلمين كثيرا مما يراه الإفرنج ويعتقدونه مما هو مخالف للقرآن والأحاديث الصحيحة. وقد تنوعت طرق طعنهم في الأحاديث الصحيحة فتارة يطعنون فيها بأنها تخالف القرآن. وإنما يقولون ذلك لقصور فهمهم للأحاديث الصحيحة وحملهم القرآن على غير محامله. وتارة
يطعنون فيها بأنها أخبار آحاد. وتارة يزعمون أنها من الدس الإسرائيلي. وتارة يصرفونها عن ظاهرها ويتأولونها على غير المراد بها مما يوافق آراءهم أو آراء من يعظمونهم من الإفرنج وتلاميذ الإفرنج. وبالجملة فقد كانت هذه الفئة معاول هدم وتخريب للإسلام وعقائد المسلمين وآلة لنشر الإلحاد والزندقة والله المسؤل أن يطهر الأرض منهم ومن أشباههم من المفسدين إنه على كل شيء قدير.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (9) ما نصه
الدافع الثالث هو التزلف إلى الله تبارك وتعالى بإعلان تنزيهه عما جاء بهذه الأحاديث الكاذبة من صفات النقص والعيب الذي لا يليق بجلاله في صنعه وتقديره وإحكام قوله بغير تبديل. وبضرورة الرجوع بأحاديث الدس إلى كتاب الله حتى يفضح القرآن ما فيها من كيد أخفى شره أعداء الإسلام تحت كلمات التكريم الصناعي لرسول الله (ص) مع ما في تلك الأحاديث المزينة بكلمات التكريم من انحراف للعقائد وزيغ للقلوب.
والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال إن الشيطان قد تلاعب بالمؤلف غاية التلاعب حتى إنه زين له التزلف إلى الله تعالى بالكفر الذي هو أبغض الأشياء إلى الله. وذلك أنه نفى عن الرب تبارك وتعالى بعض صفات الكمال يقصد بذلك التنزيه فوقع في التعطيل. والتعطيل كفر. قال نعيم بن حماد شيخ البخاري من شبه الله بخلقه كفر ومن جحد شيئا مما وصف الله به نفسه فقد كفر. وهذا الذي قاله نعيم بن حماد رحمه الله تعالى هو قول أهل السنة والجماعة لا خلاف بينهم في ذلك، وقد تزلف المؤلف إلى الله تعالى أيضا بالاستخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم والغض منه والعبث في جهته العزيزة بسخف الكلام ومنكر القول والاعتراض على كثير من أقواله وأفعاله ومعجزاته وكراماته ورفضها واطراحها وتسمية معجزاته وكراماته قصصا خيالية وخوارق خرافية. وكل نوع من هذه الأنواع كفر. وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان ذلك وبيان ما نفاه من صفات الرب تبارك وتعالى عند الكلام على الأحاديث التي رفضها وزعم أنها مدسوسة.
ومما تزلف به المؤلف إلى الله تعالى أيضا الوقيعة في بعض الصحابة والتابعين والقدح في عدالتهم بالزور والبهتان. ومنهم عبد الله بن سلام الذي شهد له رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالجنة. ومنهم أنس بن مالك الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، ودعوته صلى الله عليه وسلم مستجابة بلا شك، وقول الزور والبهتان من كبائر الإثم ومن أبغض الأشياء إلى الله تعالى وقد قال الله تعالى (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون).
الوجه الثاني أن المؤلف نزه الله تعالى عن الاتصاف ببعض صفات الكمال وزعم أنها صفات نقص وعيب لا تليق بجلال الله. وهذا يدل على انتكاس قلبه. والله تبارك وتعالى منزه عن كلام المؤلف وتعطيله الذي زعم أنه تنزيه.
الوجه الثالث أن المؤلف زعم أن الأحاديث الصحيحة الواردة في صفات الرب تبارك وتعالى أحاديث كاذبة. والجواب أن يقال بل المؤلف هو الكاذب الأفاك. والأحاديث التي قدح فيها وهي في صحيح البخاري كلها أحاديث صادقة على رغم أنفه وأنف من يقول بقوله.
الوجه الرابع أن يقال ليس في صحيح البخاري ولا في غيره من الصحاح شيء من الدس وقد تقدم بيان ذلك مراراً وبيان كذب المؤلف فيما زعمه من الدس في صحيح البخاري وغيره من كتب السنة.
الوجه الخامس أن يقال إن الأحاديث الصحيحة فيها الهدى والنور وليس فيها شيء من الكيد والشر وإنما ذلك في كلام المؤلف وكتابه وكتب أشباهه من العصريين.
الوجه السادس أن يقال ليس في رواة الأحاديث الصحيحة أحد من أعداء الإسلام وإنما عدو الإسلام في الحقيقة هو المؤلف الذي استهان بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله ومعجزاته وكراماته وجعلها غرضا لسهامه الخبيثة.
الوجه السابع أن يقال إن نسبة الأحاديث الصحيحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثابتة عند أهل العلم وليس ذلك من كلمات التكريم الصناعي كما زعم ذلك المؤلف كذباً وبهتاناً.
الوجه الثامن أن يقال إن انحراف العقائد وزيغ القلوب لا يكون بالإيمان بالأحاديث الصحيحة وإنما يكون بنبذها واطراحها كما وقع للمؤلف الجاهل فقد
انحرفت عقيدته وزاغ قلبه بسبب تكذيبه للأحاديث الصحيحة ورفضه واطراحه لها.
الوجه التاسع أن يقال إن رسوخ العقيدة الصحيحة وثباتها واستقامة القلوب إنما يكون بالإيمان بما جاء في القرآن والأحاديث الصحيحة. فمن آمن بما جاء في القرآن والأحاديث الصحيحة رسخت العقيدة الصحيحة في قلبه وثبتت واستقام قلبه، ومن رفض شيئاً مما جاء في القرآن أو الأحاديث الصحيحة فلا بد أن تنحرف عقيدته ويزيغ قلبه.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (9) ما نصه
الدافع الرابع هو إبعاد الشوائب الإسرائيلية عن معاني القرآن والسنة النبوية حتى يتوقف طوفان البدع الدينية عند حدود ما شرع الله في كتابه وبيّن رسوله بعمله وبذلك يصبح القرآن شفاء مجدياً لأمراض الصدور بعد أن تعطلت فاعليته في هذا الشفاء نتيجة لمزجه بمحلول وتركيبة الحديث الدخيل على كلام النبي فازدادت معظم القلوب مرضا على أمراضها رغم أنه تستوعب القرآن حفظاً أو سمعاً حتى أصبح الواجب الأول على علماء الدين أن يثبتوا أن العيب لم يكن نقصا في فاعلية القرآن وتأثيره في أمراض الصدور وإنما العيب كل العيب في مزجه بمخلوط الحديث الخيالي المخترع والتشريع المبتدع المستمد من روايات الخيال السابح في أودية التخريف الإسرائيلي.
والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن أقول قد ذكرت مراراً أن صحيح البخاري وغيره من كتب الصحاح والسنن والمسانيد ليس فيها شيء من الدس الإسرائيلي وليس فيها شيء يخالف القرآن أو يدعو إلى البدع الدينية. وما زعمه المؤلف من الدس فيها بما يخالف القرآن أو يدعو إلى البدع الدينية فهو زعم كاذب فلا يغتر به.
الوجه الثاني أن يقال إن المؤلف لم يبعد عن معاني القرآن شيئاً من الشوائب الإسرائيلية وإنما أبعد الأحاديث الصحيحة النبوية واختار للإبعاد صحيح البخاري الذي هو أصح الكتب بعد القرآن. ولا أعلم أن أحداً سبق المؤلف إلى هذا العمل الخبيث فالله يجازيه على ذلك بعدله.
الوجه الثالث أن المؤلف فرق بين أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأعماله
فقبل الأعمال ورد الأقوال وزعم أنها دسائس إسرائيلية فكان مثله مثل اليهود الذين قال الله تعالى فيهم (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون. أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون).
الوجه الرابع أن الله تعالى جعل القرآن شفاء لما في الصدور منذ أنزله إلى أن يرفع إلى السماء في آخر الزمان. ولم تتعطل فاعليته في الشفاء إلا عند الذين زاغوا فأزاغ الله قلوبهم كالمؤلف وأشباههم من الزنادقة.
الوجه الخامس أن المؤلف صرح أن القرآن قد تعطلت فاعليته في شفاء أمراض الصدور نتيجة لمزجه بمحلول الحديث الدخيل على كلام النبي صلى الله عليه وسلم. ومراد المؤلف بالحديث الدخيل ما جمعه من صحيح البخاري وزعم أنه من الدس الإسرائيلي وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. فعلى حد كلام المؤلف يكون القرآن قد تعطلت فاعليته في شفاء أمراض الصدور منذ زمان النبي صلى الله عليه وسلم إلى زمان المؤلف. وهذا قول سوء لا يقوله مسلم.
الوجه السادس أن المؤلف رمى الأحاديث الصحيحة التي جمعها من صحيح البخاري بأنها من الحديث الخيالي المخترع والتشريع المبتدع المستمد من روايات الخيال السابح في أدوية التخريف الإسرائيلي.
والجواب عن هذا التهور القبيح أن نقول (سبحانك هذا بهتان عظيم)(كبرت كلمة تخرج من أفواههم أن يقولون إلا كذبا).
الوجه السابع أن يقال من أوجب الواجبات على علماء الدين أن ينفوا عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وأن ينفوا عن الأحاديث الصحيحة كل شناعة وزور وبهتان مما يفتريه الدجالون والزنادقة الملحدون كالمؤلف وأشباهه من أدعياء العلم والإسلام. والقيام بهذا الواجب من أعظم الجهاد في سبيل الله. وقد قال الله تعالى (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم، والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم).
الوجه الثامن أن يقال ليس في صحيح البخاري ولا في غيره من الأحاديث الصحيحة عيب البتة وإنما العيب كل العيب فيمن عابها وعارضها ورفضها واطرحها وكذب بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من المعجزات وخوارق العادات وسماها قصصا خيالية وخوارق خرافية، ورمى بعض الصحابة والتابعين بالعظائم وطعن في عدالتهم بالزور والبهتان. وهذا هو ما عمله المؤلف في كتابه واستحسنه وبذل جهده في كتابته ونشره وقد قال الله تعالى (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون).
فصل
وقال المؤلف في صفحة (9) وصفحة (10) ما نصه
الدافع الخامس هو تبرئة النبي صلى الله عليه وسلم مما نسب إليه من أحاديث القول الزائد على البيان القرآني لصفات الله وأفعاله وأقداره وتصريفه لأمور خلقه وما بينه القرآن عن العالم العلوي والروح وأحوال ما بعد الموت والعلم بالغيب وموعد الساعة وعن عالم الجن رؤية واتصالا وأحوال النبيين وأممهم. إذ المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأت بشيء في تلك الأمور أكثر مما جاءه في القرآن الذي يقول الله عنه وفيه (ما فرطنا في الكتاب من شيء).
والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال من أبطل الباطل تبرئة النبي صلى الله عليه وسلم مما ثبت عنه بنقل الثقات الأثبات. ولا يقول بهذا القول الباطل إلا من هو زائغ القلب فاسد العقيدة والتصور.
الوجه الثاني أن يقال قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه» وفي رواية «إني أوتيت الكتاب وما يعدله» . وقد تقدم هذا الحديث في الفصل الثالث في أول الكتاب فليراجع (1) ففيه أبلغ رد على المؤلف في إنكاره للأحاديث الصحيحة الزائدة على ما جاء بيانه في القرآن.
الوجه الثالث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «عليكم بسنتي وسنة
(1) ص: 6.
الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ» وقال صلى الله عليه وسلم أيضا «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله» . وقد تقدم إيراد هذين الحديثين (1) وذكر من رواهما وصححهما من الأئمة، وفيهما أبلغ رد على المؤلف لأن النبي صلى الله عليه وسلم حث على التمسك بسنته وهي تشمل أقواله وأفعاله. ومن فرق بين أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله فآمن بالأفعال وأنكر الأقوال فهو ممن آمن ببعض السنة وكفر ببعضها. وإيمانه بالأفعال مع إنكاره للأقوال لا ينفعه إذ لا بد من الإيمان بهما معا، وقد تقدم في الفصل الأول في هذا الكتاب (2) قول البربهاري، من رد حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد رد الأثر كله وهو كافر بالله العظيم.
الوجه الرابع أن الله تعالى قال في صفة رسوله صلى الله عليه وسلم (وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى) وقال تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وفي هذه الآيات أوضح دليل على أنه يجب على المسلمين قبول ما جاء في الأحاديث الصحيحة من بيان صفات الله تعالى وأفعاله وأقداره وتصريفه لأمور خلقه وما جاء فيها من الإِخبار عن العالم العلوي والروح وأحوال ما بعد الموت وغير ذلك من أمور الغيب وعن أحوال النبيين وأممهم وعن رؤية الجن واتصالهم ببني آدم. فكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بنقل الثقات الأثبات فهو حق يجب قبوله ولا يجوز رد شيء منه ولو كان زائداً على ما جاء في القرآن إلا إذا عارضه ما هو أصح منه من الأحاديث. ومن رد شيئاً مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد رد على الله أمره في قوله تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) ولم يصدق بما أخبر الله به عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
الوجه الخامس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخبر عن موعد الساعة البتة. ولما قال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم اخبرني عن الساعة قال «ما المسؤل عنها بأعلم من السائل» رواه الإِمام أحمد ومسلم وأهل السنن من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
(1) ص: 44.
(2)
ص: 3.
وقد قال الله تعالى (يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون) وقال تعالى (يسألونك عن الساعة أيان مرساها. فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها). وقد جاء في عدة أحاديث صحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خمس من الغيب لا يعلمهن إلا الله (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير).
وإذا علم هذا فما زعمه المؤلف من أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في موعد الساعة فهو كذب من المؤلف لا أصل له.
الوجه السادس أن يقال قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أشياء كثيرة لم تكن في القرآن وقد أمر الله المسلمين بقبولها فقال تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وأخبر تبارك وتعالى أنها من الوحي فقال تعالى (وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى) وهذا هو المعروف عند أهل العلم وإنما يجهله الأغبياء ويتجاهله الزنادقة الأشقياء.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (10) ما نصه
الدافع السادس هو تبرئة النبي (ص) من الخوارق الخرافية والخيالية التي كان غنيا عنها بمعجزة القرآن الكريم. ورفع منزلته على ما نسجه خيال المادحين له بجهالة وطيش. وعلى ما وضعه الماكرون من اليهود في سيرته من عيوب أساءت إلى صفحته الرفيعة الطاهرة وخصاله العالية الحميدة كما سيرى القارئ الكريم في أبواب هذا الكتاب. وأعظم من ذلك دافعا وأكبر قصداً هو تبرءته عليه الصلاة والسلام مما نسبه إليه الإِسرائيليون من تعصب نحو شخصه حينما اتهموه بأنه قال إنه سيشفع في عمه. وفضل بنته على أهل الجنة ورفع زوجته عائشة على نساء العالمين. وفي كتابنا هذا من تلك المفتريات الإِسرائيلية على رسول الله والتي جمعناها من صحيح البخاري ما يملأ نفوس المؤمنين غيرة على نبيهم ودينهم فيعلنون محاربتهم لها وما يحمل الساكتين عن محاربتها وزر الكاتمين لما أنزل الله.
والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال إن الخوارق الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها حق وهي من أعلام النبوة وليست بخرافية ولا خيالية كما زعم ذلك المؤلف ظلما وزوراً وبهتاناً.
الوجه الثاني أن يقال ليست معجزات النبي صلى الله عليه وسلم مقصورة على القرآن بل كان له من المعجزات وخوارق العادات شيء كثير، وأعظم معجزاته القرآن العظيم الذي عجز الفصحاء والبلغاء أن يأتوا بسورة من مثله ولو كانت من قصار السور. ومن أعظم معجزاته أيضا انشقاق القمر وقد ذكر الله ذلك في كتابه العزيز فقال تعالى (اقتربت الساعة وانشق القمر) قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره قد كان هذا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ورد ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة. وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال «خمس قد مضين الروم والدخان واللزام والبطشة والقمر» وهذا أمر متفق عليه بين العلماء أن انشقاق القمر قد وقع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات. ثم ساق الأحاديث الواردة في ذلك فلتراجع في تفسيره.
وقال في «البداية والنهاية» وقد اتفق العلماء مع بقية الأئمة على أن انشقاق القمر كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وردت الأحاديث بذلك من طرق تفيد القطع عند الأمة انتهى.
ومن معجزاته أيضا تكثير الطعام القليل وقد ثبت ذلك في قضايا متعددة.
ومن معجزاته أيضا تكثير الماء القليل ونبع الماء من بين أصابعه في الإِناء وقد ثبت ذلك في قضايا متعددة.
ومن كراماته صلى الله عليه وسلم سرعة إجابة دعائه في الاستسقاء والاستصحاء وغير ذلك.
ومن كراماته أيضا تسليم الشجر والحجر عليه وتسبيح الحصى في كفه. وكذلك تسبيح الطعام وهو يؤكل. وكان الصحابة رضي الله عنهم يسمعون تسبيحه. وكل ما ذكرنا فهو ثابت بالأسانيد الصحيحة وليس شيء من ذلك من نسج خيال المادحين للنبي صلى الله عليه وسلم كما قد زعم ذلك من استزله الشيطان وأغواه. وله صلى الله
عليه وسلم من المعجزات وخوارق العادات غير ما ذكرنا وهي كثيرة جدا.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ذكر النووي في مقدمة شرح مسلم أن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم تزيد على ألف ومائتين. وقال البيهقي في المدخل بلغت ألفا. وقال الزاهدي من الحنفية ظهر على يديه ألف معجزة وقيل ثلاثة آلاف. وقد اعتنى بجمعها جماعة من الأئمة كأبي نعيم والبيهقي وغيرهما انتهى.
الوجه الثالث أن يقال إن الأحق بوصف الجهالة والطيش من يخبط خبط عشواء في إنكار الأحاديث الصحيحة وردها وذلك هو صاحب الكتاب الذي نرد عليه.
الوجه الرابع أن يقال إن الله تعالى قد صان الأحاديث الصحيحة من مكر الماكرين وأقام لها من الثقات الأثبات من حفظها وأداها إلى الأمة. وما زعمه المؤلف عن الماكرين من اليهود أنهم وضعوا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم عيوبا أساءت إلى صفحته الرفيعة الطاهرة وخصاله العالية الحميدة فهو كذب وزور مردود على قائله الذي هو شر على الإسلام والمسلمين من اليهود وغيرهم من أعداء الإِسلام والمسلمين.
الوجه الخامس أن المؤلف قد أصيب بتقليب القلب وعمى البصيرة فكان يرى المحاسن في صورة المساوئ والفضائل في صورة المعائب. ومن ذلك قوله عن المعجزات وخوارق العادات التي جعلها الله تعالى كرامات للنبي صلى الله عليه وسلم وأعلاما من أعلام نبوته أنها من العيوب التي أساءت إلى صفحته وخصاله. والجواب أن نقول (سبحانك هذا بهتان عظيم)(كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا).
وأما قوله وأعظم من ذلك دافعاً وأكبر قصداً هو تبرءته عليه الصلاة والسلام مما نسب إليه الإِسرائيليون من تعصب نحو شخصه حينما اتهموه بأنه قال أنه سيشفع في عمه.
فجوابه من وجوه أحدها أن يقال إن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة لعمه أبي طالب في تخفيف العذاب عنه ثابتة من حديث أبي سعيد الخدري والعباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما، فأما حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه فرواه الإِمام أحمد في مسنده والبخاري ومسلم في صحيحيهما أنه سمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم وذكر عنده أبو طالب فقال «لعله أن تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه» .
وأما حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فرواه الإِمام أحمد في مسنده والبخاري ومسلم في صحيحيهما أنه قال يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك قال «نعم هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار» رجال الحديثين كلهم ثقات أثبات من لدن الصحابيين إلى الأئمة المخرجين للحديثين، فأي طريق للإِسرائيليين إلى الدس في هذين الحديثين لو كان المؤلف الجاهل يعقل.
الوجه الثاني أن يقال إن المؤلف المفتون هو الذي أراد الدس في هذين الحديثين الصحيحين وتشكيك المسلمين فيما ثبت عن نبيهم صلى الله عليه وسلم فهو في الحقيقة شر من اليهود وأعظم ضرراً على الإِسلام والمسلمين.
الوجه الثالث أن يقال إن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب في تخفيف العذاب عنه ليست من التعصب نحو شخصه صلى الله عليه وسلم كما زعم ذلك المؤلف الأحمق. وليس في ذلك ما يدعو إلى اتهامه صلى الله عليه وسلم كما زعم ذلك أيضا. وإنما هي من إكرام الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وقبول شفاعته في عمه. وأعظم من هذا شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف يوم القيامة حينما يطول وقوفهم ويشتد الكرب عليهم فيشفعه الله ويأتي لفصل القضاء بين عباده كما هو ثابت في الصحاح والسنن والمسانيد. ولا ينكر ذلك إلا من هو مكابر معاند. وكذلك لا ينكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب في تخفيف العذاب عنه إلا من هو مكابر معاند.
الوجه الرابع أن المؤلف الجاهل ومن كان على شاكلته من العصريين قد وضعوا لأنفسهم قاعدة خبيثة بل معولاً من معاول هدم الإِسلام وتضليل المسلمين. وهذه القاعدة الخبيثة هي إنكار ما خالف آراءهم أو آراء شيوخهم من الأحاديث الصحيحة التي لا مطعن فيها بوجه من الوجوه. فتارة يزعمون أنها من الدس الإِسرائيلي. وتارة يزعمون أنها تخالف القرآن. والواقع في الحقيقة أنها تخالف عقولهم الفاسدة وآراءهم الكاسدة وعقائدهم التي تلقوها من الإفرنج وتلاميذ الإفرنج ومن يعظمهم ويحذو حذوهم ويتبع آراءهم التي تخالف الكتاب والسنة.
ومن الرؤساء الزائغين المرتدين عن الإِسلام من ذهب إلى اطراح السنة بالكلية زاعماً أن الكذب قد دخل في الأحاديث واختلط الصحيح بالمكذوب بحيث لا يمكن التمييز بينهما فوجب اطراح الجميع. وهذا قول خبيث لا يصدر من رجل مسلم وإنما يصدر من كافر فاجر لا يمت إلى الإِسلام بصلة. وقد وضع هذا المرتد كتابا أملاه عليه شيطانه وجعله شريعة لأتباعه يتمسكون به ويتبعون ما فيه. وقد قال الله تعالى (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإِنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون. ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون) وقال تعالى (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون).
وهذا المرتد الذي أشرنا إليه والمؤلف الجاهل وأشباههم من أعداء الأحاديث الصحيحة ينطبق عليهم ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أنه يكون في آخر الزمان دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها قال حذيفة رضي الله عنه فقلت يا رسول الله صفهم لنا قال «نعم قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا» رواه البخاري ومسلم. وفي رواية لمسلم عن حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس» وفي رواية عن حذيفة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تكون فتن على أبوابها دعاة إلى النار فلأن تموت وأنت عاض على جذل شجرة خير لك من أن تتبع أحداً منهم» . رواه ابن ماجه والحاكم وصححه ووافقه الذهبي على تصحيحه. وفي رواية «تكون فتنة عمياء صماء دعاة الضلالة أو قال دعاة النار فلأن تعض على جذل شجرة خير لك من أن تتبع أحداً منهم» رواه الإِمام أحمد وأبو داود الطيالسي وابن أبي شيبة وأبو داود السجستاني وغيرهم.
وأما قوله وفضل بنته على أهل الجنة ورفع زوجته عائشة على نساء العالمين.
فجوابه من وجوه أحدها أن يقال ظاهر كلام المؤلف أن النبي صلى الله عليه وسلم فضل بنته على أهل الجنة على وجه العموم فيدخل في ذلك الرجال والنساء
وهذا خطأ ظاهر لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخبر أن فاطمة رضي الله عنها سيدة نساء أهل الجنة خاصة دون الرجال.
الوجه الثاني أن يقال قد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «يا فاطمة أما ترضين أنت تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة» وفي رواية «أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة» .
وفي الصحيحين وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» .
وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» ورجال هذه الأحاديث كلهم ثقات أثبات من لدن الصحابة إلى الأئمة المخرجين لهذه الأحاديث فأي طريق للإِسرائيليين إلى الدس في هذه الأحاديث الصحيحة لو كان المؤلف الجاهل يعقل، ولا ينكر ما جاء في هذه الأحاديث الصحيحة إلا من هو مكابر معاند.
الوجه الثالث أن يقال إن المؤلف المفتون هو الذي أراد الدس في هذه الأحاديث الصحيحة وتشكيك المسلمين فيما ثبت عن نبيهم صلى الله عليه وسلم فهو في الحقيقة شر من اليهود وأعظم منهم ضرراً على الإِسلام والمسلمين.
الوجه الرابع أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان مبلغا عن الله كما قال تعالى (وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى). وإخباره صلى الله علي وسلم بما أكرم الله به بنته فاطمة من السيادة لنساء أهل الجنة وما أكرم الله به زوجته عائشة من التفضيل على النساء ليس من التعصب نحو بنته وزوجته كما زعم ذلك عدو الله وليس في ذلك ما يدعو إلى اتهامه صلى الله عليه وسلم كما زعم ذلك أيضا.
وقد روى الترمذي وحسنه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «هذا ملك نزل من السماء لم ينزل إلى الأرض قط قبل هذه الليلة استأذن أن يسلم علي ويبشرني أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة» فهذا يدل على
أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان مبلغا لما أخبره به الملك عن الله تعالى من سيادة فاطمة لنساء أهل الجنة. وكذلك ما أخبر به عن زوجته عائشة هو من باب التبليغ عن الله تعالى. وقد قال الله تعالى (قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم).
قال ابن كثير في البداية والنهاية في ترجمة عائشة رضي الله عنها. ومن خصائصها أنها أعلم نساء النبي صلى الله عليه وسلم بل أعلم النساء على الإطلاق. قال الزهري لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزواجه وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل. وقال عطاء بن أبي رباح كانت عائشة أفقه الناس وأعلم الناس وأحسن الناس رأيا في العامة. وقال عروة ما رأيت أحداً أعلم بفقه ولا طب ولا شعر من عائشة ولم ترو امرأة ولا رجل غير أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث بقدر روايتها. وقال أبو موسى الأشعري «ما أشكل علينا أصحاب محمد حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما» رواه الترمذي. وقال أبو الضحى عن مسروق رأيت مشيخة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الأكابر يسألونها عن الفرائض. وقال الشعبي كان مسروق إذا حدث عن عائشة رضي الله عنها قال حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبرأة من فوق سبع سموات، وثبت في صحيح البخاري من حديث أبي عثمان النهدي عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي الناس أحب إليك قال «عائشة قلت ومن الرجال قال أبوها» انتهى.
وإذا علم ما ذكرنا فلا ينكر فضل عائشة رضي الله عنها على النساء إلا من هو مكابر معاند وكذلك لا ينكر سيادة فاطمة رضي الله عنها لنساء أهل الجنة إلا من هو مكابر معاند لأن فاطمة رضي الله عنها كانت بضعة من النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم سيد بني آدم في الدنيا والآخرة فلا ينكر أن تكون بنته التي أصيبت بفقده سيدة نساء أهل الجنة، كما أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وكما أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين. وكل هذا ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره إلا من هو مكابر معاند.
الوجه الخامس أن المؤلف قد زعم أن الإِسرائيليين نسبوا إلى النبي صلى الله
عليه وسلم أنه يتعصب نحو شخصه وأنهم اتهموه بأنه قال إنه يشفع في عمه وأنه فضل بنته على أهل الجنة ورفع زوجته عائشة على نساء العالمين. وفي الحقيقة أن الإِسرائيليين بريئون مما نسبه المؤلف إليهم وأن المؤلف هو الذي نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه يتعصب نحو شخصه. وهو الذي اتهم النبي صلى الله عليه وسلم بما زعم أنه تهمة في حقه، وهذه ردة صريحة لأن هذا القول صريح في سب النبي صلى الله عليه وسلم وعيبه وإلحاق النقص به. وقد تقدم في أول الكتاب ذكر الإِجماع على تكفير من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو عابه أو ألحق به نقصا وذكر الإِجماع على قتله فليراجع (1).
وأما قوله وفي كتابنا هذا من تلك المفتريات الإِسرائيلية على رسول الله والتي جمعانها من صحيح البخاري ما يملأ المؤمنين غيرة على نبيهم ودينهم فيعلنون محاربتهم لها وما يحمّل الساكتين عن محاربتها وزر الكاتمين لما أنزل الله.
فجوابه من وجوه أحدها أن يقال إن ما جمعه المؤلف من صحيح البخاري كله ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس فيه شيء مفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي جراءة المؤلف على تلك الأحاديث الصحيحة دليل على أن الله تعالى قد أعمى بصيرته فكان يرى الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق.
الوجه الثاني أن يقال إن الإِسرائيليين بريئون مما نسبه المؤلف إليهم من افتراء الأحاديث الصحيحة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الحقيقة أن الكاذب المفتري على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المؤلف وأشباهه من الزنادقة الذين يلحدون في آيات الله ويردون الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يبالون برفضها واطراحها.
الوجه الثالث أن يقال إن إعلان المحاربة لما في صحيح البخاري وغيره من الأحاديث الصحيحة ليس فيه غيرة على النبي صلى الله عليه وسلم ولا على الدين وإنما هو في الحقيقة محادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ومحاربة لدين الإِسلام، والذي يحارب الأحاديث الصحيحة ولا يبالي برفضها واطراحها هو الذي يحمل الوزر العظيم على أفعاله السيئة ويحمل أوزار الذين يتبعونه على أباطيله ويضلون بسببه.
(1) ص: 27 - 29.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (10) ما نصه
الدافع السابع هو الوازع التعبدي الذي حملنا على إبراز البيان الحقيقي لمولد ونشأة الحديث الباطل وعصر تغلغله في كتب الحديث الصحيحة حتى أصبح شيئاً منازعاً لكتاب الله.
والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال ليس ما فعله المؤلف في رد الأحاديث الصحيحة من الوازع التعبدي كما قد توهم ذلك وإنما هو من الدافع الشيطاني بلا شك فإن الشيطان قد لعب بالمؤلف وزين له أعماله السيئة في رد الأحاديث وعدم المبالاة برفضها واطراحها. وهذه الأفعال السيئة من أحب الأشياء إلى الشيطان لما فيها من المحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثاني أن يقال ليس في الصحيحين شيء من الأحاديث الباطلة وما زعمه المؤلف من تغلغل الحديث الباطل في كتب الحديث الصحيحة فهو زعم كاذب ومكابرة ومحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم واتباع لغير سبيل المؤمنين لأنهم قد أجمعوا على قبول الصحيحين وصحة أحاديثهما وقد قال الله تعالى (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً).
الوجه الثالث أن يقال ليس في الأحاديث الصحيحة ما ينازع كتاب الله بوجه من الوجوه ولكن المؤلف وأشباهه من أدعياء العلم يتأولون كتاب الله على غير تأويله ويحملونه على ما يوافق آراءهم وعقولهم الفاسدة حتى يجعلوا بين بعض الآيات والأحاديث الصحيحة نزاعا لا حقيقة له في نفس الأمر ثم يحكّمون أفهامهم الخاطئة في الأحاديث الصحيحة فيقبلون منها ما أحبوا ويردون ما لا يوافق آراءهم وعقولهم الفاسدة.
الوجه الرابع أن يقال كل حديث صحيح لا يخلو من أن يكون موافقا للقرآن أو زائداً على ما جاء فيه. وكل من النوعين يجب قبوله ويحرم رده لقول الله تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وقوله تعالى (وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى) وقوله تعالى (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) قال الإِمام أحمد أتدري ما الفتنة. الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض
قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك ثم جعل يتلو هذه الآيات (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما).
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه» وفي رواية «إني أوتيت الكتاب وما يعدله» وقد تقدم هذا الحديث في الفصل الثالث في أول هذا الكتاب فليراجع (1).
وإذا علم هذا فمن رد حديثا صحيحا لم يعارضه ما هو أقوى منه من الأحاديث الصحيحة فلا شك أن ذلك لزيغ في قلبه.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (11) ما نصه
الدافع الثامن هو تقديم ما استطعنا حصره من الأحاديث المخالفة للقرآن في مضمونه أو في معناه. وقد اخترنا لهذا الحصر كتاب البخاري باعتباره عمدة الأصول والمراجع في هذا المجال حتى يكون البحث في غيره عن مثل هذه الأحاديث أولى وأهم باعتبار أن ما سواه من تلك الأصول وهذه المراجع أدنى منه صحة وسنداً وتقييما - إلى أن قال - ولسنا مغالين إذا قطعنا بسرعة التأييد لمقاصدنا من كل مؤمن يقرأ هذا الكتاب وهو يفرق بين قيمته العلمية المستمدة من كتاب الله والسنة العملية لرسوله وبين ما لا حجة لصوابه سوى أننا توارثناه في كتب الحديث - إلى أن قال - ومن هنا استطعنا رفض الحديث الدخيل وتفنيد الرد بإبطاله أخذاً من معاني القرآن الكريم.
والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال ليس في الأحاديث التي حصرها المؤلف وجمعها من صحيح البخاري ما يخالف القرآن بوجه من الوجوه كما سأبين ذلك عند كل حديث مما جمعه المؤلف إن شاء الله تعالى.
الوجه الثاني أن يقال ما قطع به المؤلف من سرعة التأييد لمقاصده الخبيثة من كل مؤمن يقرأ كتابه قد انعكس عليه وخاب ظنه الكاذب فكل مؤمن له أدنى علم وفهم قد سخط غاية السخط من سوء فعل المؤلف في رد الأحاديث الصحيحة وعدم المبالاة برفضها واطراحها، وكذلك قد سخط المؤمنون العالمون غاية السخط من تهجم
(1) ص: 6.
المؤلف على النبي صلى الله عليه وسلم وإلحاق العيوب والنقص به وإنكار كراماته ومعجزاته وتسميتها قصصاً خيالية وخوارق خرافية كما تقدم بيان ذلك في الجواب عن الدافع السادس من دوافع المؤلف لتأليف كتابه المشئوم عليه وعلى من اغتر به من الجهلة الأغبياء، وكذلك قد سخط المؤمنون العالمون غاية السخط من تهجم المؤلف على بعض الصحابة والتابعين ورميهم بما هم براء منه من العيوب كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى، وكذلك قد سخط المؤمنون العالمون غاية السخط من تهجم المؤلف على صحيح البخاري واستهانته بشأنه ومحاولته الحط من قدره وقدر مؤلفه كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.
وما أكثر الذين يحثون على الرد على المؤلف ويتمنون أن تجرى عليه أحكام المرتدين.
الوجه الثالث أن يقال كل ما توارثه أهل العلم في كتب الصحاح والسنن والمسانيد مما روي بالأسانيد الصحيحة فهو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم والحجة لصوابه صحة الإِسناد. قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى إذا حدث الثقة عن الثقة إلى أن ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو ثابت ولا يترك لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديث أبداً إلا حديث وجد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر يخالفه انتهى.
وقال الإِمام أحمد رحمه الله تعالى كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم إسناد جيد أقررنا به وإذا لم نقر بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ودفعناه ورددناه رددنا على الله أمره قال الله تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا).
الوجه الرابع أن يقال إن المؤلف لم يرفض شيئاً من الأحاديث الدخيلة وإنما رفض الأحاديث الصحيحة التي خرجها البخاري في صحيحه الذي هو أصح الكتب بعد القرآن وهو بهذا الفعل السيء قد شاق الله ورسوله واتبع غير سبيل المؤمنين الذين أجمعوا على صحة ما في صحيح البخاري وقبوله. وقد قال الله تعالى (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا).
فصل
وقال المؤلف في صفحة (12) ما نصه
الدافع التاسع هو ضرورة التأكيد على أن السنة العملية هي البيان التطبيقي لأحكام الله في العبادات. وقد بينها النبي (ص) بيانا عمليا مشهوداً من الأمة كلها. ولعلمه عليه الصلاة والسلام أن الناس أدركوا هذا التطبيق بمشاهدتهم وأنه أمرهم بنقله بياناً وعملاً لمن بعدهم كما تعلموه منه ولعلمه وتأكده تماماً أن ما عرفوه من تطبيقه العملي لما جاء به القرآن أصبح علماً معروفاً بالمشاهدة وسنة منقولة نقلا جماعياً متواتراً. فإِنه لم يأمرهم بتدوين شيء اسمه الحديث خشية أن يصبح كتاب الحديث في مكانه المنازع لكتاب الله بعد مضي السنين وتعاقب الزمن كما هو حادث الآن من الأحاديث التي رصدناها كأمثلة على ذلك في الجزء الثاني من هذا الكتاب، وبنفس الدافع اضطررنا إلى التأكيد على أن الشيطان هو الذي جند الإِسرائيليين لعملية التخريب العقائدي في صدور المسلمين عن طريق الحديث الدخيل حينما عجز عن الوصول إلى عقائدهم عن طريق القرآن الكريم الذي وجدوه محفوظا من التبديل بمقتضى قول الله تعالى (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) - إلى أن قال - ولقد برع اليهود في حبك تركيبة الحديث الباطل بحيث لا يخلو أبداً من جملة براقة في تمجيد النبي وتكريمه حتى تكون هذه الجملة دثاراً وغشاء لما فيه من زور وباطل يبرأ الله ورسوله منه، وتأكيداً على تلك الحقيقة فإِنا قد حشدنا في الجزء الثاني من هذا الكتاب من أحاديث العيب والعوار ما يقنع العقلاء بأن وضاعي الحديث قد دسوا لنا السم في العسل.
والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال إن السنة ليست مقصورة على أفعال النبي صلى الله عليه وسلم فقط كما زعم ذلك المؤلف وإنما هي شاملة لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، هذا هو المعروف عند علماء المسلمين قديما وحديثا. ولا عبرة بما يهذو به تلامذة الإِفرنج من العصريين الذين فرقوا بين أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وبين أقواله وتقريراته فقبلوا الأفعال وردوا ما سواها، وهؤلاء مشابهون للذين قال الله تعالى فيهم (ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا).
الوجه الثاني أن الله تعالى قال (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه
فانتهوا) وهذه الآية الكريمة تشمل أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وقال تعالى في صفة رسوله صلى الله عليه وسلم (وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى) وهذا يدل على أنه يجب تصديقه فيما أخبر به من أمور الغيب وأنه يجب الأخذ بأقواله كما يجب الأخذ بأفعاله، وقد جاء الأمر بالإِيمان بالرسول في آيات كثيرة، ومن الإِيمان به الإِيمان بما أعطاه الله من المعجزات وأنواع الكرامات وخوارق العادات.
الوجه الثالث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يكتبوا خطبته التي خطب بها يوم الفتح لأبي شاه كما هو مخرج في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأذن صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن يكتب كل ما سمعه منه، رواه الإِمام أحمد وأبو داود والدارمي والحاكم من طرق وصححه ووافقه الذهبي على تصحيحه. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري وله طرق عن عبد الله بن عمرو يقوي بعضها بعضاً.
وروى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال قلت يا رسول الله إني أحب أن أعي حديثك ولا يعيه قلبي أفأستعين بيميني قال «إن شئت» قال البوصيري سنده حسن.
وروى الإِمام أحمد والبخاري والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال «ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإِنه كان يكتب ولا أكتب» .
وروى ابن عبد البر في كتابه «جامع بيان العلم وفضله» عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال «ما يرغبني في الحياة إلا خصلتان. الصادقة والوهط. فأما الصادقة فصحيفة كتبتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما الوهط فأرض تصدق بها عمرو بن العاص كان يقوم عليها» .
وقد كان عند علي رضي الله عنه صحيفة فيها أسنان الإِبل وأشياء من الجراحات وأشياء غير ذلك من الأحكام روى ذلك أحمد والبخاري ومسلم وأهل السنن. وفي رواية لأحمد عن علي رضي الله عنه أنه قال هذه الصحيفة أخذتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فرائض الصدقة قال الحافظ ابن حجر سنده حسن.
وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم كتاباً فيه الفرائض والسنن والديات.
وفي الصحيحين وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه قال «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده» فاختلفوا وكثر اللغط فقال «قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع» .
وروى الترمذي والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً من الأنصار شكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني أسمع منك الحديث ولا أحفظه فقال «استعن بيمينك» وأومأ بيده للخط، قال الترمذي ليس إسناده بذاك القائم.
وروى ابن عبد البر عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال وجد في قائم سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيفة مكتوب فيها «ملعون من أضل أعمى عن السبيل» .
وروى الرامهرمزي عن رافع بن خديج رضي الله عنه أنه قال قلت يا رسول الله إنا نسمع منك أشياء أفنكتبها قال «اكتبوا ذلك ولا حرج» نقله السيوطي في تدريب الراوي.
وفيما ذكرته من الأحاديث دليل على الإِذن في كتابة الحديث وفي الإِذن في الكتابة دليل على جواز التدوين.
وقد أمر عمر بن عبد العزيز بتدوين الحديث وهو من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين ولم يخالفه أحد من التابعين ولا من بعدهم من العلماء فكان ذلك كالإِجماع على جواز التدوين.
فإِن قيل فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه» .
قيل قد أجاب العلماء عن هذا الحديث بأجوبة سأذكرها فيما يلي إن شاء الله تعالى، وجمع بعضهم بين النهي عن الكتابة وبين الإِذن فيها بجمع حسن، قال ابن الأثير في جامع الأصول الجمع بين قوله «لا تكتبوا عني غير القرآن» وبين إذنه في الكتابة أن الإِذن ناسخ للمنع منه بإِجماع الأمة على جوازه ولا يجمعون إلا على أمر
صحيح، وقيل إنما نهى عن الكتابة أن يكتب الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة فيختلط به فيشتبه على القارئ انتهى. ونقل النووي في شرح مسلم عن القاضي عياض أنه قال كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم فكرهها كثيرون منهم وأجازها أكثرهم ثم أجمع على جوازها وزال ذلك الخلاف. واختلفوا في المراد بهذا الحديث الوارد في النهي فقيل هو في حق من يوثق بحفظه ويخاف اتكاله على الكتابة إذا كتب وتحمل الأحاديث الواردة بالإِباحة على من لا يوثق بحفظه كحديث «اكتبوا لأبي شاه» وحديث صحيفة علي رضي الله عنه. وحديث كتاب عمرو بن حزم الذي فيه الفرائض والسنن والديات، وحديث كتاب الصدقة ونصب الزكاة الذي بعث به أبو بكر رضي الله عنه أنسا رضي الله عنه حين وجهه إلى البحرين، وحديث أبي هريرة أن ابن عمرو ابن العاص كان يكتب ولا أكتب وغير ذلك من الأحاديث، وقيل إن حديث النهي منسوخ بهذه الأحاديث وكان النهي حين خيف اختلاطه بالقرآن فلما أمن ذلك أذن في الكتابة. وقيل إنما نهي عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط فيشتبه على القارئ والله أعلم انتهى.
قال علي القاري فأما أن يكون نفس الكتاب محظورا فلا وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته بالتبليغ وقال «ليبلغ الشاهد الغائب» فإِذا لم يقيدوا ما يسمعونه منه تعذر التبليغ ولم يؤمن ذهاب العلم وأن يسقط أكثر الحديث فلا يبلغ آخر القرون من الأمة، ولم ينكرها أحد من علماء السلف والخلف فدل على جواز كتابة الحديث والعلم انتهى.
وذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري أن منهم من أعل حديث أبي سعيد وقال الصواب وقفه على أبي سعيد قاله البخاري وغيره. قال العلماء كره جماعة من الصحابة والتابعين كتابة الحديث واستحبوا أن يؤخذ عنهم حفظا كما أخذوا حفظاً، لكن لما قصرت الهمم وخشي الأئمة ضياع العلم دونوه، وأول من دون الحديث ابن شهاب الزهري على رأس المائة بأمر عمر بن عبد العزيز ثم كثر التدوين ثم التصنيف وحصل بذلك خير كثير فلله الحمد انتهى.
وذكر الحافظ ابن حجر أيضا أن السلف اختلفوا في كتابة العلم عملاً وتركاً وان كان الأمر استقر والإِجماع انعقد على جواز كتابة العلم بل على استحبابه بل
لا يبعد وجوبه على من خشي النسيان ممن يتعين عليه تبليغ العلم انتهى.
الوجه الرابع قد ذكرت مراراً أن الأحاديث الصحيحة لا تنازع كتاب الله - وأما ما زعمه المؤلف من الأحاديث التي رصدها وجمعها من صحيح البخاري أنها قد نازعت كتاب الله فهو زعم كاذب وقول باطل فليس في صحيح البخاري ما ينازع القرآن البتة، وإنما أتي المؤلف من سوء فهمه وزيغ قلبه.
الوجه الخامس أن يقال إن الشيطان قد جند المؤلف وأشباهه من زنادقة العصريين لعملية التخريب في صدور المسلمين عن طريق الطعن في الأحاديث الصحيحة ورفضها واطراحها ولم يجند الإِسرائيليين لذلك وإن كانوا من شر جنوده، فالبلاء كل البلاء من المؤلف وأشباهه من أعداء السنة. فهم في الحقيقة شر من اليهود وأعظم منهم ضرراً على الإسلام والمسلمين.
الوجه السادس أن يقال إن الله تعالى قد حفظ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم كما حفظ القرآن. قال الله تعالى (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وهذه الآية الكريمة تشمل القرآن والسنة لأن كلاً منهما وحي منزل من الله تعالى. قال الله تعالى (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة) والحكمة هي السنة على أصح الأقوال. وقال تعالى في صفة رسوله صلى الله عليه وسلم (وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى).
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه» وفي رواية «إني أوتيت الكتاب وما يعدله» وقد تقدم هذا الحديث في الفصل الثالث في أول هذا الكتاب فليراجع (1). وتقدم فيه أيضا قول حسان بن عطية إن جبريل كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل بالقرآن.
قال ابن حزم في كتاب الأحكام والقرآن والخبر الصحيح بعضها مضاف إلى بعض وهما شيء واحد في أنهما عند الله تعالى وحكمهما حكم واحد في باب وجوب الطاعة لهما. ثم ذكر قول الله تعالى (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وقوله تعالى (قل إنما أنذركم بالوحي) ثم قال فأخبر تعالى أن كلام نبيه صلى الله عليه وسلم وحي والوحي بلا خلاف ذكر، والذكر محفوظ بنص القرآن فصح بذلك أن كلامه صلى الله عليه وسلم كله محفوظ بحفظ الله عز وجل مضمون لنا أنه لا يضيع منه شيء إذ
(1) ص: 6.
ما حفظ الله تعالى فهو باليقين لا سبيل إلى أن يضيع منه شيء فهو منقول إلينا كله فلله الحجة علينا أبدا انتهى.
الوجه السابع أن يقال ليس في الأحاديث التي جمعها المؤلف من صحيح البخاري ولا في غيرها من الأحاديث الصحيحة عيب ولا عوار ولا زور ولا باطل البتة. وإنما العيب كل العيب والعوار كل العوار والزور كل الزور والباطل كل الباطل في ثرثرة المؤلف وتشدقه وتنطعه وجراءته على الطعن في الأحاديث الصحيحة ورفضها واطراحها، فهو الذي قد دس السم للمسلمين وأراد تشكيكهم في أحاديث نبيهم وما آتاه الله من المعجزات والكرامات وخوارق العادات، فالله يعامله بعدله ويجازيه بما يستحقه من النكال.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (13) ما نصه
المبرر العاشر لتأليفنا هذا الكتاب يتلخص في حرصنا الشديد على براءة الذمة من عهدة تطوق أعناقنا ناراً إن لم نوفها حقها من القول والبيان الإِعلاني وليس علينا من دور في هذا المجال أكثر من تدوين تلك السطور بهذا المداد فقط، وعند هذا الحد تنتهي مهمتنا.
والجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن يقال إن الشيطان قد تلاعب بالمؤلف غاية التلاعب وأغراه على جمع كتابه المملوء من العيب والعوار والزور والباطل والثرثرة والتشدق والتنطع والجراءة على الطعن في الأحاديث الصحيحة ورفضها واطراحها. فهذا حاصل كتابه الذي هو في الحقيقة عين المشاقة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم واتباع غير سبيل المؤمنين وقد قال الله تعالى (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً فإِن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون) وقال تعالى (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين، وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون).
الوجه الثاني أن يقال إن المؤلف المسكين قد أصيب بتقليب القلب وعمى البصيرة فكان يرى الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق ويرى براءة ذمته في معارضة النبي صلى الله عليه وسلم والطعن فيما ثبت عنه من الأحاديث الصحيحة
وفي معجزاته وكراماته وتسميتها قصصا خيالية وخوارق خرافية. وهذه جراءة قبيحة غايتها الاستخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم وإلحاق النقص به. وهذا من أعظم ما يبعده عن الله ويشغل ذمته بأوزاره التي جمعها في كتابه وأوزار من يضل بسببه ويطوق عنقه ناراً إن لم يبادر إلى التوبة الصادقة من أقواله الباطلة وبيانه الإِعلاني الخبيث وينقض ما حبكته يده الأثيمة في كتابه المملوء من الأباطيل والأضاليل والذي هو مشئوم عليه وعلى من اغتر به وضل بسببه.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (16) و (17) ما نصه
دليل يؤخذ على وجود الدس في الحديث النبي (ص) كان يأمر أصحابه باللجوء إلى الطبيب وفي إثبات ذلك تكذيب لحديث الحبة السوداء، عن سعد بن أبي وقاص قال مرضت فعادني رسول الله (ص) فقال لي إئت الحارث بن كلدة فإِنه رجل يتطبب، وبديهي أن التطبيق العلاجي يكذب أن الحبة السوداء شفاء من كل داء.
والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال ما زعمه المؤلف من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر أصحابه باللجوء إلى الطبيب فهو كذب على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر أصحابه بذلك، وما جاء في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فهو في قضية خاصة بسعد فلا عموم لها.
الوجه الثاني أن يقال إن الالتجاء نوع من أنواع العبادة ولا يصلح ذلك إلا لله عز وجل، والالتجاء إلى غير الله شرك. والنبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر بالشرك، فأما إتيان المريض إلى الطبيب ليشخص له المرض ويصف له الدواء من غير التجاء إليه فهذا جائز. والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن يأتي الطبيب ليعمل له الدواء ولم يأمره بالالتجاء إليه.
الوجه الثالث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر سعداً بمرضه ووصف له العلاج وأمره أن يأتي الحارث بن كلدة الثقفي ليعالجه بما وصفه له رسول الله صلى الله عليه وسلم. والحديث رواه أبو داود في سننه من حديث مجاهد عن سعد رضي الله
قال ابن الأثير في جامع الأصول رجل مفؤد يشكو وجع فؤاده. وقال في النهاية فليجأهن أي فليدقهن. قال واللدود بالفتح من الأدوية ما يسقاه المريض في أحد شقي الفم. ولديدا الفم جانباه انتهى.
الوجه الرابع أن يقال ليس في حديث سعد رضي الله عنه ما يدل على الدس في حديث الحبة السوداء، فأي متعلق للمؤلف فيه.
الوجه الخامس أن التطبيق العلاجي يصدق ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحبة السوداء، قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه «زاد المعاد» هي كثيرة المنافع جدا. وقوله شفاء من كل داء مثل قوله تعالى (تدمر كل شيء بأمر ربها) أي كل شيء يقبل التدمير ونظائره. وهي نافعة من جميع الأمراض الباردة وتدخل في الأمراض الحارة اليابسة بالعرض - ثم ذكر منافعها وهي كثيرة جدا فلتراجع في «زاد المعاد» ففيها رد لما زعمه المؤلف.
وقال داود الأنطاكي في كتابه «التذكرة» في ذكر الحبة السوداء قد أخبر صاحب الشرع عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح بأنه دواء من كل داء إلا السام يعني الموت. والمراد من كل داء بارد فالعموم نوعي - ثم ذكر منافعها وهي كثيرة جدا فلتراجع في «التذكرة» ففيها رد لما زعمه المؤلف.
وقد ذكر كثير من أهل العلم بالطب ما في الحبة السوداء من المنافع الكثيرة ولو ذكرت أقوالهم لطال الكلام. وفيما أشرت إليه ههنا عن ابن القيم وداود الأنطاكي كفاية إن شاء الله تعالى.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (17) و (18) ما نصه
نهي صريح لرسول الله عن كتابة شيء غير القرآن. الإِمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري قال رسول الله (ص) لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن فمن كتب عني غير القرآن فليمحه، وفي مراسيل ابن مليكة أن
أبا بكر الصديق جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشد اختلافا فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه (ص 3 تذكرة الحفاظ للذهبي جـ 1 وابن مليكة هو قاضي مكة في زمن ابن الزبير وتوفي سنة 117 هـ). ومن كلام رشيد رضا في ص 766 مجلد 10، ص 511 مجلد 19 من المنار (نهى النبي (ص) عن كتابة أي شيء غير القرآن. وأسند ذلك إلى الإِمام أحمد ومسلم وابن عبد البر في كتاب العلم عن أبي سعيد الخضري مرفوعاً لا تكتبوا عني غير القرآن فمن كتب غير القرآن فليمحه. ونقول لو كتبوه في عهده ما اختلف الأئمة فيه. ويقول رشيد رضا إن العلة في نهي الصحابة عن كتابة شيء غير القرآن هو الخوف من الخطأ (حسبما جاء في تقييد العلم للخطيب البغدادي ص 37) عن أبي نضرة قال قلت لأبي سعيد الخدري. ألا نكتب ما نسمع منك قال أتريدون أن تجعلوها مصاحف بينكم إن نبيكم كان يحدثنا فنحفظ، وروى الحاكم ونقله الحافظ الذهبي في جـ 1 في تذكرة الحفاظ عن عائشة قالت جمع أبي الحديث عن رسول الله فكانت خمسمائة حديث فبات يتقلب ولما أصبح قال أي بنية هلمي بالأحاديث التي عندك فجئته بها فأحرقها وقال خشيت أن أموت وهي عندك فيكون منها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به ولم يكن كما حدثني فأكون قد تقلدت ذلك.
والجواب عن هذا من وجوه أحدها عن غلط المؤلف في بعض الأحاديث والرواة، فمن ذلك قوله في حديث أبي سعيد رضي الله عنه أنه رواه الترمذي والنسائي وهذا غلط فإِنهما لم يروياه. ومن ذلك قوله «ابن مليكة» في موضعين. وصوابه ابن أبي مليكة. ومن ذلك قوله «عن أبي سعيد الخضري» وصوابه الخدري.
الوجه الثاني أن يقال قد تقدم قريباً ذكر الأحاديث الدالة على الإِذن في كتابة الحديث فلتراجع (1) ، وتقدم أيضا الجواب عما جاء في حديث أبي سعيد رضي الله عنه من النهي عن كتابة غير القرآن فليراجع (2).
الوجه الثالث أن يقال ليس المرسل بحجة فأي متعلق للمؤلف في مرسل ابن أبي مليكة.
(1) ص: 86 - 87.
(2)
ص: 87 - 89.
الوجه الرابع أن يقال على تقدير ثبوت ما رواه ابن أبي مليكة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فهو معارض بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه كما في الحديث الذي رواه الإِمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «نضر الله امرءاً سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه فرب مبلغ أحفظ له من سامع» هذا لفظ أحمد وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، ورواه ابن حبان في صحيحه ولفظه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «رحم الله من سمع منا حديثاً فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع» .
وروى الإِمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارمي وابن حبان في صحيحه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه» قال الترمذي هذا حديث حسن قال وفي الباب عن عبد الله ابن مسعود ومعاذ بن جبل وجبير بن مطعم وأبي الدرداء وأنس رضي الله عنهم.
قلت قد روى ابن ماجه حديثي جبير بن مطعم وأنس رضي الله عنهما. وفي الباب أيضا عن أبي سعيد الخدري وعبيد بن عمير والنعمان بن بشير وأبيه وأبي قرصافة وجابر وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم.
وقد أجاب الحافظ الذهبي عما رواه ابن أبي مليكة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه بجواب حسن فقال في تذكرة الحفاظ هذا المرسل يدلك أن مراد الصديق التثبت في الأخبار والتحري لا سد باب الرواية. ألا تراه لما نزل به أمر الجدة ولم يجده في الكتاب كيف سأل عنه في السنة فلما أخبره الثقة ما اكتفى حتى استظهر بثقة آخر ولم يقل حسبنا كتاب الله كما تقوله الخوارج انتهى.
وأمر الجدة الذي أشار إليه الذهبي هو ما رواه مالك وأهل السنن عن قبيصة بن ذؤيب قال جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه تسأله ميراثها فقال لها أبو بكر رضي الله عنه مالك في كتاب الله شيء وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فارجعي حتى أسأل الناس فسأل الناس فقال المغيرة بن شعبة رضي الله عنه حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس فقال أبو
بكر رضي الله عنه هل معك غيرك فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة فأنفذه لها أبو بكر رضي الله عنه.
وأما ما رواه الحاكم ونقله الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ عن عائشة رضي الله عنها قالت جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخره فقد قال الذهبي بعد إيراده. هذا لا يصح. وقد ترك المؤلف قول الذهبي فلم يذكره لأنه يفسد عليه ما رامه من الطعن في الأحاديث الصحيحة ورفضها واطراحها، وقد ذكر هذا الأثر صاحب كنز العمال في باب آداب العلم والعلماء نقلا عن مسند الصديق للحافظ ابن كثير ثم قال بعده قال ابن كثير هذا حديث غريب من هذا الوجه جداً، وعلي بن صالح «يعني أحد رواته» لا يعرف، والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من هذا المقدار بألوف. ثم وجهه ابن كثير على فرض صحته.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (18) ما نصه
الأئمة الثلاثة يخالفون كثيراً من نصوص الحديث ولا أحد يعتبرهم غير أئمة ولا من الخارجين على الدين. وهاهم الحنفية والمالكية والشافعية لم يجتمعوا على تجريد الصحيح أو الاتفاق على العمل به. فهذه كتب الفقه في مذاهبهم فيها مئات المسائل المخالفة للأحاديث المتفق على صحتها ولا يعد أحد منهم مخالفاً لأصول الدين (50 أضواء على السنة).
والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال ظاهر كلام المؤلف وأبي رية أن الأئمة الثلاثة كانوا يخالفون كثيراً من نصوص الحديث عمداً، وهذا كذب عليهم فإِنهم ما كانوا يتعمدون مخالفة الأحاديث الصحيحة إذا بلغتهم، فأما ما لم يبلغهم أو لم تثبت عندهم صحته فهذا لا لوم عليهم إذا قالوا بخلافه.
الوجه الثاني أن يقال إن الأئمة الثلاثة كانوا يعظمون الأحاديث الصحيحة غاية التعظيم، وقد روى الخطيب البغدادي في تاريخه وابن عبد البر في الانتقاء أن أبا حنيفة قال آخذ بكتاب الله فإِن لم أجد فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإِن لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت بقول أصحابه آخذ بقول من شئت منهم وأدع من شئت منهم ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم، فأما
إذا انتهى الأمر - أو جاء - إلى إبراهيم والشعبي وابن سيرين والحسن وعطاء وسعيد بن المسيب - وعدد رجالا - فقوم اجتهدوا فأجتهد كما اجتهدوا.
وقال شارح العقيدة الطحاوية - حكى الطحاوي حكاية أبي حنيفة مع حماد بن زيد وأن حماد بن زيد لما روى له حديث «أي الإِسلام أفضل» إلى آخره قال، ألا تراه يقول «أي الإِسلام أفضل قال الإِيمان» ثم جعل الهجرة والجهاد من الإِيمان، فسكت أبو حنيفة فقال بعض أصحابه ألا تجيبه يا أبا حنيفة قال بما أجيبه وهو يحدثني بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى.
وقال شداد بن حكيم عن زفر بن الهذيل إنما نأخذ بالرأي ما لم نجد الأثر فإذا وجدنا الأثر تركنا الرأي وأخذنا بالأثر، ذكره ابن القيم في أعلام الموقعين. وقال معن بن عيسى القزاز سمعت مالكاً يقول إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في قولي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه، ذكره ابن القيم في أعلام الموقعين.
وروى أبو نعيم عن مالك أنه سأله رجل عن مسألة فقال له قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا فقال له الرجل أرأيت. قال مالك (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم).
وقال عبد الله بن الإِمام أحمد قال أبي قال لنا الشافعي إذا صح لكم الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فقولوا لي حتى أذهب إليه. ذكره ابن القيم في أعلام الموقعين بهذا اللفظ، وقد رواه أبو نعيم في الحلية عن سليمان بن أحمد الطبراني قال سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول سمعت أبي يقول قال محمد بن إدريس الشافعي يا أبا عبد الله إذا صح عندكم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرونا به حتى نرجع إليه. قال وقال الإِمام أحمد كان أحسن أمر الشافعي عندي أنه كان إذا سمع الخبر لم يكن عنده قال به وترك قوله.
وروى القاضي أبو الحسين في طبقات الحنابلة بإِسناده إلى عبد الله بن الإِمام أحمد قال قال لي أبي قال لنا الشافعي أنتم أعلم بالحديث والرجال مني فإِذا كان الحديث صحيحا فأعلموني إن شاء أن يكون كوفياً أو بصرياً أو شامياً إذا كان صحيحاً، وقد رواه أبو نعيم في الحلية عن سليمان بن أحمد الطبراني قال سمعت
عبد الله بن أحمد يقول سمعت أبي يقول فذكره بنحوه، قال القاضي أبو الحسين وهذا من دين الشافعي حيث سلم هذا العلم لأهله انتهى.
وقال الشافعي إذا حدث الثقة عن الثقة إلى أن ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو ثابت ولا يترك لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديث أبداً إلا حديث وجد عن رسول الله آخر يخالفه.
وقال الربيع بن سليمان سمعت الشافعي يقول إذا وجدتم سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف قولي فخذوا بالسنة ودعوا قولي فإِني أقول بها.
وقال الربيع أيضا سمعت الشافعي يقول كل مسألة تكلمت فيها صح الخبر فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي.
وقال الشافعي أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس وكلام الشافعي بنحو ما ذكرنا كثير جداً.
ومما ذكرته عن الأئمة الثلاثة يعلم أنهم لم يكونوا يخالفون الأحاديث الصحيحة إذا بلغتهم، وفي هذا رد على المؤلف وأبي رية فيما افترياه عليهم.
الوجه الثالث أن يقال إن كثيراً من الذين صنفوا كتب الفقه في مذاهب الحنفية والمالكية والشافعية وغيرها من المذاهب ليسوا من أهل الاجتهاد وإنما هم مقلدون لمن سبقهم من علماء مذاهبهم في إيراد المسائل والاستدلال عليها بما استدل به من كان قبلهم من الأحاديث سواء كانت صحيحة أو ضعيفة إذا كان فيها تأييد لرأي من قلدوه، وهؤلاء لا يخلون من الذم على التقليد واللوم على التقصير فيما يجب عليهم من البحث عن الأحاديث الصحيحة والاعتماد عليها دون الأحاديث الضعيفة، وقد تصدى للرد على هؤلاء غير واحد من أكابر العلماء، ومن أحسن ما صنف في ذلك كتاب «أعلام الموقعين» للإِمام ابن القيم رحمه الله تعالى فليراجع فإنه مهم جداً ولا يستغني عنه طالب العلم.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (18) ما نصه
السبب في وجود الروايات المخالفة للقرآن.
حديث يقول ألا إني أوتيت القرآن ومثله، ومعنى ذلك أن يكون النبي - ص - قد كلف بتدوين هذا المثل مثل ما كلف بتدوين هذا القرآن، فلماذا لم يدونه كما دون القرآن. وهنا يعجز الناس كل الناس عن اتهام النبي - ص - بالتفريط في تدوين نصف الرسالة التي كلف بها لأن ذلك شيء مستحيل على رسول الله -ص - وإنما جاءت البلية في التقول عليه ونسبة هذا الحديث إليه في حين أن يقول الله تبارك وتعالى «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي» ومعنى ذلك أن القرآن هو البداية وهو النهاية ولا شيء سواه (ص 52 أضواء).
والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل ينثني شبعاناً على أريكته يقول عليكم بالقرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه» رواه الإِمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارمي وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب وصححه الحاكم وأقره الذهبي.
ولفظه عند ابن ماجه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يوشك الرجل متكئاً على أريكته يحدث بحديث من حديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب الله عز وجل فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله» ورواه الترمذي والدارمي بنحو هذا اللفظ.
وفي رواية ابن حبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إني أوتيت الكتاب وما يعدله» وذكر بقية الحديث بنحو ما تقدم. وقد ترجم ابن حبان على هذا الحديث بقوله «ذكر الخبر المصرح بأن سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم كلها عن الله لا من تلقاء نفسه» وبوب عليه الآجري بقوله «باب التحذير من طوائف تعارض سنن النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب الله عز وجل وشدة الإنكار على هذه الطبقة» .
وروى الإِمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وأبو بكر الآجري عن أبي رافع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والناس حوله «لا أعرفن أحدكم يأتيه أمر من أمري قد أمرت به أو نهيت عنه وهو متكئ على أريكته فيقول ما وجدنا في كتاب الله عملنا به وإلا فلا» هذا لفظ الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وروى ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه نحو حديث المقدام وأبي رافع رضي الله عنهما.
وفي هذه الأحاديث الصحيحة أبلغ رد على المؤلف وأبي رية وأشباههما من أعداء السنة لما فيها من التشديد والإِنكار على من عارض السنة بالقرآن.
الوجه الثاني أن الله تعالى قال (وأنزل الله عليك بالكتاب والحكمة) والحكمة هي السنة على أصح التفاسير. وهذه الآية تؤيد حديث المقدام رضي الله عنه. وفيها رد على المؤلف وأبي رية في إلغائهما للسنة وقولهما أن القرآن هو البداية وهو النهاية ولا شيء سواه.
الوجه الثالث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بتدوين السنة خوفا من اختلاطها بالقرآن. فلما أمن ذلك في زمن التابعين أمر الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى بتدوين الحديث وأجمع المسلمون على جواز ذلك. وقد تقدم بيان ذلك قريباً فليراجع (1).
وفي إجماع المسلمين على جواز التدوين أبلغ رد على من خالفهم وشذ عنهم من جهلة العصريين وزنادقتهم.
الوجه الرابع أن يقال مما يدل على جواز ما فعله المسلمون من تدوين الحديث أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة خطبته يوم الفتح لأبي شاه وإذنه لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن يكتب ما سمعه منه من الحديث. وما كتب به صلى الله عليه وسلم لبعض عماله من الكتب التي فيها فرائض الصدقة وبعض
(1) ص: 87 - 89.
الأحكام، وكذلك الصحيفة التي أخذها علي رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم وفيها جملة من الأحكام، وقد تقدم بيان ذلك قريباً فليراجع (1).
وهذه القضايا تدل على جواز ما فعله المسلمون من تدوين الحديث لما خشي الأئمة ضياع العلم.
الوجه الخامس أن يقال إن البلية كل البلية والآفة كل الآفة في معارضة السنة ورفضها واطراحها والسعي في تضليل المسلمين وتشكيكهم في سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وما ثبت عنه من المعجزات وخوارق العادات كما هو الواقع من المؤلف وأشباهه من الزنادقة المارقين من الإِسلام.
وهؤلاء الزنادقة وأهل التقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم في طرفي نقيض. فأما أهل التقول فيضعون الأحاديث المكذوبة وينسبونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأما المؤلف وأشباهه من أعداء السنة فينفون عن النبي صلى الله عليه وسلم ما ثبت عنه من الأحاديث الصحيحة، ولا يبعد أن يكون الوعيد الشديد على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم شاملاً لمن يضع الحديث عليه ولمن ينفي الأحاديث الثابتة عنه لأن نفيها داخل في الكذب عليه والله اعلم.
الوجه السادس أن يقال إن قول الله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) لا يدل على المعنى الذي ذهب إليه أبو رية والمؤلف لأن إكمال الدين وإتمام النعمة إنما كان بإكمال فرائض الإسلام ومن آخرها فريضة الحج وبه كمل الدين، قال البغوي في تفسير قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم) يعني يوم نزول هذه الآية أكملت لكم دينكم يعني الفرائض والسنن والحدود والجهاد والأحكام والحلال والحرام فلم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ولا شيء من الفرائض والسنن والحدود والأحكام، وهذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما، قال ابن الجوزي فعلى هذا يكون المعنى اليوم أكملت لكم شرائع دينكم.
قلت وشرائع الدين منها ما جاء في القرآن إما مفصلاً وإما مجملاً وبينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله أو فعله. ومنها ما جاء في السنة وليس له ذكر في القرآن، والكل داخل في عموم قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي
(1) ص: 86 - 87.
ورضيت لكم الإِسلام ديناً) ومن زعم أن القرآن هو البداية وهو النهاية ولا شيء سواه وأن هذا هو معنى قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) فقد ألغى السنة وتأول القرآن على غير تأويله ورام هدم الإِسلام.
الوجه السابع أن يقال إن قول المؤلف وأبي رية أن القرآن هو البداية والنهاية ولا شيء سواه قول باطل مردود بقول الله تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وبقوله تعالى (فإِن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) قال ابن كثير في قوله (فردوه إلى الله والرسول) قال مجاهد وغير واحد من السلف أي إلى كتاب الله وسنة رسوله، وهذا أمر من الله عز وجل بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة انتهى.
وقال البغوي في قوله (فردوه إلى الله والرسول) أي إلى كتاب الله وإلى رسوله ما دام حياً وبعد وفاته إلى سنته، والرد إلى الكتاب والسنة واجب إن وجد فيهما فإِن لم يوجد فسبيله الاجتهاد انتهى.
وروى ابن جرير عن مجاهد في قوله (فردوه إلى الله والرسول) قال إلى الله إلى كتابه وإلى الرسول إلى سنة نبيه، وروى أيضا عن ميمون بن مهران وقتادة نحو ذلك.
ومما يرد به قول المؤلف وأبي رية أيضا قول الله تعالى (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) قال الإِمام أحمد أتدري ما الفتنة. الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك ثم جعل يتلو هذه الآية (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً).
ومما يرد به على المؤلف وأبي رية قول النبي صلى الله عليه وسلم «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله» رواه مالك في الموطأ بلاغا والحاكم موصولا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وصححه وأقره الذهبي.
وروى الحاكم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي ولن
يتفرقا حتى يردا علي الحوض».
وروى الإِمام أحمد وأهل السنن وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن العرباض بن سارية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ» قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وصححه الحاكم ووافقه الذهبي على تصحيحه.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (18) و (19) ما نصه
دليل يثبت أن الصحابة كانوا يلاحظون الزيادة على رسول الله من بعضهم البعض ولو دوّنه النبي ما اختلفوا فيه. أخرج ابن عساكر ومحمد بن إسحاق عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال ما مات عمر حتى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق عبد الله بن حذيفة وأبا الدرداء وأبا ذر وعقبة بن عامر فقال ما هذه الأحاديث التي أفشيتم عن رسول الله في الآفاق. قالوا أتنهانا. قال لا. أقيموا عندي لا تفارقوني ما عشت فنحن أعلم نأخذ منكم ونرد عليكم فما فارقوه حتى مات. وروى الذهبي في تذكرة الحفاظ عن شعبة عن سعد بن إبراهيم عن أبيه ابن عبد الرحمن أن عمر حبس ابن مسعود وأبا الدرداء وأبا مسعود الأنصاري فقال قد أكثرتم الحديث عن رسول الله - ص - وكان قد حبسهم في المدينة حتى أطلقهم عثمان. وفي جامع بيان العلم وفضله للحافظ المغربي ابن عبد البر. الشعبي عن قرظة بن كعب قال خرجنا نريد العراق فمشى معنا عمر إلى صرار ثم قال لنا أتدرون لم مشيت معكم قلنا أردت أن تشيعنا وتكرمنا. قال إن مع ذلك لحاجة خرجت لها إنكم لتأتون بلدة لأهلها دوي كدوي النحل بالقرآن فلا تصدوهم لتشغلوهم وأنا شريككم وأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قدم قرظة قالوا حدثنا فقال نهانا عمر تذكرة الحفاظ للذهبي وصححه الحاكم في المستدرك ص 102 جـ1.
والجواب أن يقال ما رواه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف في حبس عمر رضي الله عنه لبعض الصحابة لا يصح منه شيء. أما ما رواه ابن عساكر من طريق محمد بن إسحاق فهو مردود من وجوه أحدها أن صاحب كنز العمال ذكره في باب آداب العلم والعلماء وقد ذكر قبل ذلك في خطبة الكتاب أن ما يرويه ابن عساكر فهو ضعيف فيستغنى بالعزو إليه عن بيان ضعفه.
الوجه الثاني أن يقال قد اختلف في سماع إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف من عمر رضي الله عنه والراجح أنه لم يسمع منه. قال البيهقي في سننه لم يثبت له سماع من عمر.
قلت ويؤيد هذا أن المصنفين في أسماء الرجال ذكروا أنه توفي في سنة خمس وتسعين أو ست وتسعين وله من العمر خمس وسبعون سنة فعلى هذا يكون مولده قبل موت عمر رضي الله عنه بسنتين أو ثلاث سنين. ومثل هذا السن يبعد أن يحفظ فيه الصبي شيئاً فتكون الرواية عن إبراهيم مرسلة والمرسل ليس بحجة.
الوجه الثالث أنه ذكر فيه عبد الله بن حذيفة ولا يعرف في الصحابة أحد بهذا الاسم فضلا عن أن يكون من المكثرين للحديث وهذا يدل على أن هذا الأثر موضوع.
الوجه الرابع أن أبا الدرداء وأبا ذر وعقبة بن عامر ليسوا من المكثرين بالنسبة إلى أبي هريرة وعائشة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم فيبعد جداً أن يخصهم عمر بالإِنكار على نشرهم للحديث ويترك الذين هم أكثر منهم حديثاً فلا ينكر عليهم.
الوجه الخامس أن يقال إن الصحابة رضي الله عنهم قد انتشروا في الآفاق وكل منهم يحدث بما عنده من الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأت في أثر صحيح أن عمر رضي الله عنه جمع الصحابة كلهم ولا أنه أنكر عليهم نشرهم للحديث. فهذا الأثر الذي رواه ابن عساكر في جمع الصحابة من الآفاق يظهر عليه أثر الوضع والتركيب.
الوجه السادس أن يقال لو كان عمر رضي الله عنه جمع الصحابة من الآفاق وأنكر عليهم نشرهم للحديث وأمرهم أن يقيموا عنده لكان ذلك مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله وينتشر ذكره في الآفاق. ولما لم يأت ذكر ذلك إلا في أثر مرسل ضعيف الإِسناد دل ذلك على أنه لا أصل له.
الوجه السابع أنه ذكر في هذا الأثر أن عمر رضي الله عنه جمع الصحابة من الآفاق ثم لم يذكر سوى أربعة أحدهم مجهول لا يعرف له ذكر في الصحابة وهذا أوضح دليل على أن هذا الأثر موضوع.
يوضح ذلك الوجه الثامن وهو أنه قد صرح في هذا الأثر أن عمر رضي الله عنه بعث إلى الصحابة فجمعهم من الآفاق وهذا يقتضي أنه جمعهم من مكة والطائف واليمن ونجد والبحرين وعمان والعراق وخراسان والشام ومصر والجزيرة. ولا شك أن هذا لم يقع ولو وقع لما كان يقتصر في الأثر على ذكر رجلين من الشام ورجل مشغول بالجهاد ويترك سائر الأقطار فلا يذكر منهم أحداً. وهذا يدل على أن هذا الأثر مصنوع من بعض أعداء السنة.
الوجه التاسع أن يقال إن عمر رضي الله عنه كان يحدث بما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث وقد روي عنه أكثر من خمسمائة حديث فهو مكثر بالنسبة إلى كل واحد من الثلاثة الذين قيل انه أنكر عليهم نشرهم للحديث. وعلى هذا فلا ينبغي أن يظن بعمر رضي الله عنه أنه أنكر شيئاً كان يفعل مثله.
الوجه العاشر مما يدل على أن الأثر موضوع ما ذكر فيه عن عمر رضي الله عنه أنه قال «نحن أعلم» لأن هذه الكلمة تدل على الإِعجاب بالنفس والترفع على الغير، ولا شك أن عمر رضي الله عنه من أبعد الناس عن هذه الصفات الذميمة، ولا ينبغي أن يظن هذا بمن هو دون عمر من الصحابة فضلا عن عمر رضي الله عنه لأنه كان معروفاً بمزيد التواضع والبعد عن مساوئ الأخلاق. وقد ثبت عنه أنه قام على المنبر فنهى الناس عن المغالاة في مهور النساء ونهاهم أن يزيدوا على أربعمائة درهم ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت أما سمعت ما أنزل الله في القرآن قال وأي ذلك فقالت أما سمعت الله يقول (وآتيتم إحداهن قنطارا) الآية فقال اللهم غفرا كل الناس أفقه من عمر. الحديث رواه أبو يعلى قال ابن كثير إسناده جيد قوي.
وروى الإِمام أحمد وابن مردويه عن عمر رضي الله عنه أنه قال «من قال هو عالم فهو جاهل» وإذا كان هذا قول عمر رضي الله عنه فلا ينبغي أن يظن به أن يقول الكلمة التي تدل على الإِعجاب بالنفس والترفع على الغير.
الوجه الحادي عشر أن أبا الدرداء كان ساكنا في الشام في زمان عمر رضي الله عنه وقد قيل إن عمر رضي الله عنه ولاه قضاء دمشق ولم يزل في الشام حتى توفي في سنة اثنتين وثلاثين. وأما أبو ذر فكان ساكنا في الشام في زمان عمر وبعض زمان
عثمان. قال ابن كثير في البداية والنهاية في ترجمة أبي ذر رضي الله عنه لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات أبو بكر خرج إلى الشام فكان فيه حتى وقع بينه وبين معاوية فاستقدمه عثمان إلى المدينة. وأما عقبة بن عامر فإِنه كان مشغولاً بالجهاد وقدم المدينة حين فتحت دمشق وكان هو البريد إلى عمر رضي الله عنه بفتحها. ولم يذكر عنه أنه قدم المدينة بعد ذلك في زمان عمر رضي الله عنه. فما ذكر في هذا الأثر أن عمر رضي الله عنه أمرهم بالقدوم إلى المدينة وأنه أمرهم بالإِقامة عنده ما عاش وأنهم لم يفارقوه حتى مات. كل ذلك لا أصل له فلا يغتر به.
الوجه الثاني عشر أن الذهبي ذكر في تذكرة الحفاظ عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أن عمر رضي الله عنه حبس ثلاثة ابن مسعود وأبا الدرداء وأبا مسعود الأنصاري فقال قد أكثرتم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذه الرواية تخالف رواية ابن عساكر لأن فيها أن عمر رضي الله عنه أنكر على عبد الله بن حذيفة وأبي الدرداء وأبي ذر وعقبة بن عامر إفشاءهم للأحاديث وأمرهم بالإِقامة عنده، وفي هذه الرواية أنه أنكر على ابن مسعود وأبي الدرداء وأبي مسعود الأنصاري رضي الله عنهم في إكثارهم للحديث وأنه حبسهم، وهذا يدل دلالة واضحة على أن هذا الأثر غير محفوظ.
وأما ما نقله المؤلف عن تذكرة الحفاظ فالجواب عنه من وجوه أحدها أن يقال إن هذه الرواية مرسلة على القول الراجح الذي تقدم ذكره في أول الجواب عن الأثر الذي رواه ابن عساكر. والمرسل ليس بحجة، قال الهيثمي في مجمع الزوائد هذا أثر منقطع ولا يصح هذا عن عمر انتهى، وقد ذكر ابن حزم هذا الأثر في كتاب الأحكام وفيه أن عمر رضي الله عنه حبس ابن مسعود وأبا الدرداء وأبا ذر، وهذه الرواية تخالف ما جاء في تذكرة الحفاظ لأنه ذكر فيها أبا ذر وذكر في تذكرة الحفاظ بدلاً عنه أبا مسعود. وهذا الاضطراب يدل على أن الأثر موضوع. قال ابن حزم بعد إيراده «مرسل ومشكوك فيه ثم هو في نفسه ظاهر الكذب والتوليد» انتهى.
الوجه الثاني أن المؤلف زاد في هذا الأثر زيادة من عنده وهي قوله «وكان حبسهم في المدينة حتى أطلقهم عثمان» وهذه الزيادة ليست في تذكرة الحفاظ وإنما زادها المؤلف من كيسه ليؤيد بها مذهبه الخبيث في معارضة الأحاديث الصحيحة
ورفضها واطراحها.
الوجه الثالث أن يقال لم يأت في أثر صحيح أن عمر رضي الله عنه حبس ابن مسعود وأبا الدرداء وأبا مسعود الأنصاري رضي الله عنهم ولا أنه حبس غيرهم من الصحابة على نشرهم للحديث، وقد ذكرت في الجواب عما رواه ابن عساكر أن أبا الدرداء رضي الله عنه لم يزل ساكناً في الشام في زمان عمر وبعد زمان عمر رضي الله عنه ولم يثبت أنه قدم المدينة في زمان عمر رضي الله عنه فضلاً عن أن يكون عمر رضي الله عنه قد حبسه.
وأما أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه فقد سكن الكوفة ولم يثبت أن عمر رضي الله عنه أمره بالقدوم إلى المدينة فضلا عن أن يكون قد حبسه.
وأما ابن مسعود رضي الله عنه فقد أرسله عمر رضي الله عنه معلماً لأهل الكوفة ولم يزل بها حتى قدم المدينة في آخر زمان عثمان رضي الله عنه ومات بها. ولم يثبت أنه قدم المدينة في زمان عمر رضي الله عنه بعد ما أرسله عمر رضي الله عنه إلى الكوفة فضلاً عن أن يكون عمر رضي الله عنه قد حبسه.
وقد ذكر الذهبي في تذكرة الحفاظ عن حارثة بن مضرب قال قرئ علينا كتاب عمر. إني قد بعثت إليكم عمار بن ياسر أميراً وعبد الله بن مسعود معلماً ووزيراً وهما من النجباء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من أهل بدر فاقتدوا بهما واسمعوا وقد آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي.
وإذا كان هذا قول عمر رضي الله عنه في حق ابن مسعود رضي الله عنه فكيف يقال أنه حبسه في المدينة. هذا لا يصح.
وقد ذكر الذهبي في تذكرة الحفاظ أن ابن مسعود رضي الله عنه كان ممن يتحرى في الأداء ويتشدد في الرواية ويزجر تلامذته عن التهاون في ضبط الألفاظ وأنه كان يقل من الرواية للحديث ويتورع في الألفاظ. وذكر أيضا عن أبي عمرو الشيباني قال كنت أجلس إلى ابن مسعود حولا لا يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإِذا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم استقلته الرعدة وقال هكذا أو نحو ذا أو قريب من ذا. وذكر أيضاً عن أبي الأحوص عن عبد الله رضي الله عنه قال «كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع» .
وإذا كان ابن مسعود رضي الله عنه يتحرى في الأداء ويتشدد في الرواية ويقل من رواية الحديث ويتورع في الألفاظ وتشتد عليه رواية الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يقال إن عمر رضي الله عنه حبسه على إكثار الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا لا يصح أبداً «وما آفة الأخبار إلا رواتها» .
وذكر الذهبي أيضا في تذكرة الحفاظ عن أبي قلابة قال قال ابن مسعود رضي الله عنه «عليكم بالعلم قبل أن يقبض وقبضه ذهاب أهله فإِن أحدكم لا يدري متى يفتقر إليه وستجدون أقواما يزعمون أنهم يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم فعليكم بالعلم وإياكم والتبدع وإياكم والتنطع والتعمق وعليكم بالعتيق.
وما جاء في هذا الأثر من الإِخبار عن الأقوام الذين يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم ينطبق على المؤلف وعلى أشباهه من أهل التبدع والتنطع وعداوة الأحاديث الصحيحة وأهلها، فهولاء شر من اليهود وأعظم ضررا على الإِسلام والمسلمين.
وأما ما نقله المؤلف عن جامع بيان العلم وفضله عن الشعبي عن قرظة بن كعب رضي الله عنه.
فجوابه أن يقال إن سماع الشعبي من قرظة غير متحقق. وقد جزم ابن حزم في كتاب الأحكام بأنه لم يلقه ورد هذا الخبر وبالغ في الرد ومما قاله أن عمر رضي الله عنه نفسه روي عنه خمسمائة حديث ونيف فهو مكثر بالقياس إلى المتوفين قريباً من وفاته، وكذلك رده ابن عبد البر في كتاب جامع بيان العلم وفضله فقال، احتج بعض من لا علم له ولا معرفة من أهل البدع وغيرهم الطاعنين في السنن بحديث عمر هذا وقوله «أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم» وجعلوا ذلك ذريعة إلى الزهد في سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لا يوصل إلى مراد كتاب الله إلا بها. والطعن على أهلها ولا حجة في هذا الحديث ولا دليل على شيء مما ذهبوا إليه من وجوه قد ذكرها أهل العلم. منها أن وجه قول عمر إنما كان لقوم لم يكونوا أحصوا القرآن فخشي عليهم الاشتغال بغيره عنه إذ هو الأصل لكل علم. هذا معنى قول أبي عبيد في ذلك، وقال غيره إن عمر إنما نهى عن الحديث عما لا يفيد حكما ولا يكون سنة، وطعن غيرهم في حديث قرظة وردوه لأن الآثار الثابتة عن عمر
خلافه، منها ما روى مالك ومعمر وغيرهما عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عمر بن الخطاب في حديث السقيفة أنه خطب يوم جمعة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال، أما بعد فإِني أريد أن أقول مقالة قد قدر لي أن أقولها من وعاها وعقلها وحفظها فليحدث بها حيث تنتهي به راحلته، ومن خشى أن لا يعيها فإِني لا أحل له أن يكذب علي، إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل معه الكتاب فكان مما أنزل معه الرجم. وذكر الحديث.
وهذا يدل على أن نهيه عن الإِكثار وأمره بالإِقلال من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان خوف الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وخوفاً أن يكونوا مع الإِكثار يحدثون بما لم يتيقنوا حفظه ولم يعوه لأن ضبط من قلت روايته أكثر من ضبط المستكثر وهو أبعد من السهو والغلط الذي لا يؤمن مع الإِكثار. فلهذا أمرهم عمر بالإِقلال من الرواية. ولو كره الرواية وذمها لنهى عن الإِقلال منها والإِكثار. ألا تراه يقول فمن حفظها ووعاها فليحدث بها فكيف يأمرهم بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وينهاهم عنه. هذا لا يستقيم، بل كيف ينهاهم عن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمرهم بالإِقلال منه وهو يندبهم إلى الحديث عن نفسه بقوله «من حفظ مقالتي ووعاها فليحدث بها حيث تنتهي به راحلته، ثم قال ومن خشي أن لا يعيها فلا يكذب علي» وهذا يوضح لك، ما ذكرنا والآثار الصحاح عنه من رواية أهل المدينة بخلاف حديث قرظة هذا، وإنما يدور على بيان عن الشعبي وليس مثله حجة في هذا الباب لأنه يعارض السنن والكتاب قال الله جل وعز (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) وقال (وما آتاكم الرسول فخذوه) وقال فيه (النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته) وقال (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم، صراط الله) ومثل هذا في القرآن كثير، ولا سبيل إلى اتباعه والتأسي به والوقوف عند أمره إلا بالخبر عنه، فكيف يتوهم أحد على عمر أنه يأمر بخلاف ما أمر الله به. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نضر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها ثم أداها إلى من لم يسمعها» الحديث، وفيه الحظ الوكيد على التبليغ عنه صلى الله عليه وسلم وقال «خذوا عني» في غير ما حديث «وبلغوا عني» والكلام في هذا أوضح من النهار لأولي النهى والاعتبار.
ولا يخلو الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يكون خيراً أو شراً فإِن كان خيراً ولا شك فيه أنه خير فالإِكثار من الخير أفضل وإن كان شراً
فلا يجوز أن يتوهم أن عمر يوصيهم بالإِقلال من الشر. وهذا يدلك على أنه إنما أمرهم بذلك خوف مواقعة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وخوف الاشتغال عن تدبر السنن والقرآن لأن المكثر لا تكاد تراه إلا غير متدبر ولا متفقه.
وذكر مسلم في كتاب التمييز عن قيس بن عباد قال سمعت عمر بن الخطاب يقول «من سمع حديثا فأداه كما سمع فقد سلم» .
ومما يدل على هذا ما يروى عن عمر أنه كان يقول «تعلموا الفرائض والسنة كما تتعلمون القرآن» فسوى بينهما.
ثم روى ابن عبد البر بإِسناده عن مورق العجلي قال كتب عمر «تعلموا السنة والفرائض واللحن كما تتعلمون القرآن» قالوا اللحن معرفة وجوه الكلام وتصرفه والحجة به.
وعمر هو الناشد للناس في غير موقف بل في مواقف شتى من عنده علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في كذا. نحو ما ذكره مالك وغيره عنه في توريث المرأة من دية زوجها. وفي الجنين يسقط ميتا عند ضرب بطن أمه وغير ذلك مما لو ذكرناه طال به كتابنا وخرجنا عن حد ما له قصدنا.
وكيف يتوهم على عمر ما توهمه الذين ذكرنا قولهم وهو القائل «إياكم والرأي فإِن أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها. وعمر أيضا هو القائل «خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم» وهو القائل «سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن فإِن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله» .
وقد يحتمل عندي أن تكون الآثار كلها عن عمر صحيحة متفقة ويخرج معناها على أن من شك في شيء تركه ومن حفظ شيئا وأتقنه جاز له أن يحدث به. وإن كان الإِكثار يحمل الإِنسان على التقحم في أن يحدث بكل ما سمع من جيد ورديء وغث وسمين وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع» .
ولو كان مذهب عمر ما ذكرنا لكانت الحجة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم دون قوله فهو القائل «نضر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها ثم أداها وبلغها» وقال النبي صلى الله عليه وسلم «تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن يسمع منكم» .
قال أبو عمر الذي عليه جماعة فقهاء المسلمين وعلمائهم ذم الإِكثار دون تفقه ولا تدبر، والمكثر لا يأمن مواقعة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لروايته عمن يؤمن وعمن لا يؤمن انتهى.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (19) و (20) ما نصه
أصحاب النبي كانوا يتركون التحدث عن رسول الله - ص - خوفا من الزيادة أو النقصان في كلامه. أخرج البخاري عن السائب بن يزيد قال صحبت طلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص والمقداد بن الأسود وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم فما سمعت أحداً منهم يحدث عن رسول الله إلا أني سمعت طلحة يحدث عن يوم أحد.
وقال ابن حجر في شرح هذا الحديث قال ابن بطال وغيره كان كثير من كبار الصحابة لا يحدثون عن رسول الله خشية المزيد أو النقصان.
وقال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث. وكان كثير من عظماء الصحابة وأهل الخاصة برسول الله كأبي بكر والزبير وأبي عبيدة والعباس يخافون الرواية وكسعيد بن الزبير أحد العشرة المبشرين بالجنة الذي لم يرو شيئاً أبدا، ولو أنت تصفحت البخاري ومسلم ما وجدت فيهما حديثاً واحداً لأبي عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة وليس فيهما كذلك حديث لعقبة بن غزوان وأبي كبشة مولى رسول الله وكثيرين غيرهم وقال ابن القيم إن الصحابة كانوا يهابون الرواية عن رسول الله - ص - ويعظمونها ويقللونها خوف الزيادة والنقصان ويحدثون بالشيء الذي سمعوه من النبي مراراً ولا يصرحون بالسماع ولا يقولون قال رسول الله.
والجواب أن يقال أما ما رواه البخاري عن السائب بن يزيد أنه صحب طلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص والمقداد بن الأسود وعبد الرحمن بن عوف فلم يسمع أحداً منهم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فجوابه من وجهين أحدهما أن يقال قد روي عن هؤلاء الأربعة أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم رواها عنهم غير السائب بن يزيد وهي في
الصحاح والسنن والمسانيد. ولولا خشية الإِطالة لذكرت من ذلك كثيراً. ومن أراد الاطلاع على أكثرها فعليه بمسند الإِمام أحمد ففيه ما يكفي عن الوقوف على غيره.
وقد قال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمة طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر وعمر، ثم ذكر سبعة عشر من الرواة عنه وأشار إلى غيرهم، وقال النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» روي لطلحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وثلاثون حديثاً، وكذا قال الخزرجي في الخلاصة قال النووي واتفقا منها على حديثين. وقال الخزرجي اتفقا على حديث قالا وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بثلاثة.
وقال الحافظ أيضا في ترجمة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن خولة بنت حكيم. ثم ذكر خمسة وعشرين من الرواة عنه وأشار إلى غيرهم، وقال النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائتان وسبعون حديثاً. وقال الخزرجي في الخلاصة له مائتا حديث وخمسة عشر حديثاً قالا واتفق البخاري ومسلم على خمسة عشر منها وانفرد البخاري بخمسة ومسلم بثمانية عشر.
وقال الحافظ أيضا في ترجمة المقداد بن الأسود رضي الله عنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر ثلاثة عشر من الرواة عنه، وقال النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنان وأربعون حديثا اتفقا على حديث واحد وانفرد مسلم بثلاثة. وكذا قال الخزرجي في الخلاصة.
وقال الحافظ أيضا في ترجمة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عمر، ثم ذكر ثمانية عشر من الرواة عنه وأشار إلى غيرهم، قال النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة وستون حديثاً اتفقا منها على حديثين وانفرد البخاري بخمسة. وكذا قال الخزرجي في الخلاصة.
الوجه الثاني أن يقال ما نقله الحافظ ابن حجر عن ابن بطال وغيره أنهم قالوا إن كثيراً من كبار الصحابة لا يحدثون عن النبي صلى الله عليه وسلم خشية المزيد والنقصان ليس على إطلاقه وإنما معناه أنهم يقلون الرواية عن النبي صلى الله عليه
وسلم ويتورعون عن التحديث بما لم يحفظوه ويضبطوا ألفاظه. والدليل على أنه ليس على إطلاقه أنه ليس أحد من كبار الصحابة إلا وقد روي عنه جملة من الأحاديث التي رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم فمقل منهم ومكثر. ومن أراد الوقوف على بعض أحاديثهم فعليه بمسند الإِمام أحمد ففيه ما يشفي ويكفي في الرد على المؤلف وعلى غيره من أعداء السنة الذين قد جندهم الشيطان للتمويه على الناس وتضليل المسلمين وتشكيكهم فيما ثبت عن نبيهم صلى الله عليه وسلم من الأحاديث والمعجزات وخوارق العادات.
وأما ما نقله المؤلف عن ابن قتيبة فجوابه من وجهين أحدهما أن يقال إن المؤلف قد حرف كلام ابن قتيبة وغير فيه. وهذا نص كلام ابن قتيبة، قال «وكان كثير من جلة الصحابة وأهل الخاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم كأبي بكر والزبير وأبي عبيدة والعباس بن عبد المطلب يقلون الرواية عنه، بل كان بعضهم لا يكاد يروي شيئاً كسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة» انتهى كلام ابن قتيبة، وقد حرف المؤلف قوله «من جلة الصحابة» بقوله من عظماء الصحابة، وقوله «يقلون الرواية عنه» بقوله يخافون الرواية، وقوله «كسعيد بن زيد» بقوله وكسعيد بن الزبير، وقوله «بل كان بعضهم لا يكاد يروي شيئاً» بقوله وكسعيد بن الزبير الذي لم يرو شيئاً أبداً، ثم إن المؤلف زاد على كلام ابن قتيبة كلاماً لأبي رية نقله من ظلماته ولم ينسبه إليه وهو قوله، ولو أنت تصفحت البخاري ومسلم إلى آخر كلامه الذي تقدم ذكره ولم يفصل بين كلام ابن قتيبة وكلام أبي رية، وقد تبع أبارية في ذلك فإِن أبا رية لقلة الأمانة عنده لم يفصل بين كلامه وكلام ابن قتيبة ليوهم أن الجميع من كلام ابن قتيبة وقد قلده المؤلف وسار على إثره كما يسير الأعمى خلف الأعمى وكأنه يظن أن الجميع من كلام ابن قتيبة وهذا من غباوته وكثافة جهله.
الوجه الثاني أن يقال إن أبا بكر والزبير وأبا عبيدة والعباس وسعيد بن زيد رضي الله عنهم كلهم قد رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمة أبي بكر الصديق رضي الله عنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر أربعة وعشرين من الرواة عنه وأكثرهم من الصحابة ومنهم عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وأشار إلى جماعة ممن روى عنه سوى الأربعة والعشرين
قال النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» روي للصديق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة حديث واثنان وأربعون حديثاً اتفق البخاري ومسلم على ستة وانفرد البخاري بأحد عشر ومسلم بحديث، وكذا قال الخزرجي في الخلاصة.
وقال الحافظ أيضا في ترجمة الزبير رضي الله عنه، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر سبعة من الرواة عنه وأشار إلى غيرهم. وقال الخزرجي في الخلاصة له ثمانية وثلاثون حديثاً اتفقا على حديثين وانفرد البخاري بسبعة.
وقال الحافظ أيضا في ترجمة أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح رضي الله عنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر اثني عشر من الرواة عنه وبعضهم من الصحابة. وقال الخزرجي في الخلاصة له أربعة عشر حديثاً انفرد له مسلم بحديث.
وذكر الحافظ أيضا في ترجمة العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه اثني عشر من الرواة عنه وأشار إلى غيرهم، وقال النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة وثلاثون حديثا اتفقا على حديث وانفرد البخاري بحديث ومسلم بثلاثة. وكذا قال الخزرجي في الخلاصة.
وقال الحافظ أيضاً في ترجمة سعيد بن زيد بن عمر وبن نفيل رضي الله عنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر خمسة عشر من الرواة عنه وأشار إلى غيرهم، وقال النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وأربعون حديثاً اتفقا على حديثين وانفرد البخاري بحديث. وقال الخزرجي في الخلاصة له ثمانية وثلاثون حديثا اتفقا على حديثين وانفرد البخاري بآخر.
وأما قول المؤلف تبعا لأبي رية ولو أنك تصفحت البخاري ومسلم ما وجدت فيه حديثاً واحداً لأبي عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة وليس فيها كذلك حديث لعقبة بن غزوان وأبي كبشة مولى رسول الله وكثيرين غيرهم.
فجوابه أن يقال أما أبو عبيدة رضي الله عنه فقد تقدم قول صاحب الخلاصة أن مسلماً انفرد له بحديث.
وأما عتبة بن غزوان رضي الله عنه فقد أخطأ المؤلف حيث سماه عقبة وإنما
هو عتبة بالتاء لا بالقاف وقد ذكر النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» والخزرجي في الخلاصة أن له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أحاديث انفرد له مسلم بحديث. وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة روى له مسلم وأصحاب السنن.
وأما أبو كبشة الأنماري رضي الله عنه فقد روى له الإِمام أحمد في مسنده عدة أحاديث بعضها صحيح، وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه. وقد صحح الترمذي بعض ما رواه عنه.
وأما قول المؤلف وكثيرين غيرهم.
فجوابه أن يقال هذه مجازفة يكذبها الواقع لأن أكابر الصحابة الذين تأخرت وفياتهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم ليس منهم أحد إلا وقد روي له عدة أحاديث فمقل ومكثر.
وأما ما نقله المؤلف عن ابن القيم رحمه الله تعالى فمعناه أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يهابون الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعظمونها ويقللونها فيما لم تدع الحاجة إليه. فأما ما دعت إليه الحاجة فقد روي عنهم في ذلك الكثير الطيب. وليس أحد من أكابر الصحابة وعلمائهم ممن تأخرت وفياتهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد روي عنه جملة أحاديث يصرح فيها بالسماع من النبي صلى الله عليه وسلم أو يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنهم الخلفاء الأربعة وبقية العشرة المشهود لهم بالجنة وغيرهم من أكابر الصحابة وعلمائهم، وأحاديثهم موجودة في الصحاح والسنن والمسانيد ولا سيما مسند الإِمام أحمد، فمن أراد الوقوف على كثير من أحاديثهم فليرجع إلى مسند الإِمام أحمد ففيه ما يكفي عن مراجعه غيره.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (21) ما نصه
الصحابة كانوا يتفاوتون في صدق الرواية عن بعضهم (ص 70 أضواء على السنة، ص 48 جـ1 سير أعلام النبلاء للذهبي، وفي البخاري ومسلم «صدق عمر عبد الرحمن بن عوف وقال له أنت عندنا العدل والرضا، وفي قصة الاستئذان يقول لأبي موسى الأشعري إئت بمن يشهد معك. مع أن كلاهما صحابي جليل ولكن رسول الله - ص - أعظم من الأمة كلها.
والجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن يقال لا خلاف بين العلماء أن الصحابة رضي الله عنهم كلهم عدول وأهل صدق وأمانة في روايتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية بعضهم عن بعض وليس فيهم من يتهم بالكذب في الرواية ..
وأما قول المؤلف تبعا لأبي رية إن الصحابة كانوا يتفاوتون في صدق الرواية عن بعضهم فمعناه أن المؤلف وأبا رية كانا يريان أن بعض الصحابة كانوا يتصفون بالصدق في الرواية وبعضهم بخلاف ذلك. وهذا قول باطل مردود لأنه يتضمن الطعن في بعض الصحابة بأنهم ليسوا أهل صدق في الرواية. والطعن في الصحابة ليس بالأمر الهين. ومن طعن فيهم أو في بعضهم ووصفهم بعدم الصدق في الرواية فهو الكاذب الأفاك.
الوجه الثاني أن يقال إن عمر رضي الله عنه لم يتهم أبا موسى بالكذب في روايته وإنما شدد عليه لعلل ثلاث قد صرح بها في الحديث إحداها أن عمر رضي الله عنه أحب أن يتثبت. والثانية أن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد، والثالثة أنه خشي أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال النووي في شرح مسلم وأما قول عمر لأبي موسى أقم عليه البينة فليس معناه رد خبر الواحد من حيث هو خبر واحد ولكن خاف عمر مسارعة الناس إلى القول على النبي صلى الله عليه وسلم حتى يقول عليه بعض المبتدعين أو الكاذبين أو المنافقين ونحوهم ما لم يقل وأن كل من وقعت له قضية وضع فيها حديثا على النبي صلى الله عليه وسلم فأراد سد الباب خوفاً من غير أبي موسى لا شكاً في رواية أبي موسى فإِنه عند عمر أجل من أن يظن به أن يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقل بل أراد زجر غيره بطريقه فإِن من دون أبي موسى إذا رأى هذه القضية أو بلغته وكان في قلبه مرض أو أراد وضع حديث خاف من مثل قضية أبي موسى فامتنع من وضع الحديث والمسارعة إلى الرواية بغير يقين انتهى.
وقد أنكر أبي بن كعب رضي الله عنه على عمر رضي الله عنه تشديده على أبي موسى رضي الله عنه كما في صحيح مسلم عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال جاء أبو موسى إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال السلام
عليكم هذا عبد الله بن قيس فلم يأذن له فقال السلام عليكم هذا أبو موسى السلام عليكم هذا الأشعري ثم انصرف فقال ردوا علي ردوا علي فجاء فقال يا أبا موسى ما ردك كنا في شغل قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «الاستئذان ثلاث فإِن أذن لك وإلا فارجع» قال لتأتيني على هذا ببينة وإلا فعلت وفعلت فذهب أبو موسى قال عمر إن وجد بينة تجدوه عند المنبر عشية وإن لم يجد بينة فلم تجدوه فلما أن جاء بالعشي وجدوه قال يا أبا موسى ما تقول أقد وجدت قال نعم أبي بن كعب قال عدل قال يا أبا الطفيل ما يقول هذا قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك يا ابن الخطاب فلا تكونن عذاباً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سبحان الله إنما سمعت شيئاً فأحببت أن أتثبت. وقد رواه أبو داود مختصرا. وفي رواية له أن عمر رضي الله عنه قال لأبي موسى رضي الله عنه «إني لم أتهمك ولكن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد» وفي رواية لمالك وأبي داود من طريق مالك أن عمر رضي الله عنه قال لأبي موسى رضي الله عنه «أما إني لم أتهمك ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الصحيحين وسنن أبي داود أن عمر رضي الله عنه قال «خفي علي هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألهاني عنه الصفق بالأسواق» .
فصل
وقال المؤلف في صفحة (21) ما نصه
عدد ما سمعه ابن عباس من النبي - ص - وعدد ما نسب إليه من الحديث. ذكر الآمدي في كتاب (الإِحكام في أصول الأحكام ص 78 - 180 جـ 2) أن ابن عباس لم يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى أربعة أحاديث لصغر سنه، ولما روى عن النبي - ص - (إنما الربا في النسيئة، وأن النبي - ص - لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة. قال في الجزء الأول لما روجع فيه أخبرني به أسامة بن زيد، وقال في الخبر الثاني أخبرني أخي الفضل بن العباس. ولما روى أبو هريرة عن النبي - ص - أنه قال من أصبح جنبا في رمضان فلا صوم له راجعوه في ذلك فقال ما أنا قلته ورب الكعبة ولكن محمداً قال، ثم عاد فقال حدثني به الفضل بن العباس، وقال ابن القيم في (الوابل الصيب) إن ما سمعه ابن عباس عن النبي
- ص - لم يبلغ العشرين حديثاً، وعن ابن معين والقطان وأبي داود في السنن أنه روى تسعة أحاديث وذلك لصغر سنه ومع ذلك فقد أسند له أحمد في مسنده 1696 حديثاً. (فتأمل أيها المؤمن العاقل لتعلم أنهم جميعا ضحايا للدس الإسرائيلي).
والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال إن ابن عباس رضي الله عنهما قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث وروى عن الخلفاء الأربعة وعن غيرهم من أكابر الصحابة وعلمائهم كما سيأتي ذكر أسمائهم إن شاء الله تعالى.
ولا خلاف أن الصحابة رضي الله عنهم كلهم عدول وموثوق بروايتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وبرواية بعضهم عن بعض عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يضر إرسالهم لأنهم لم يكونوا يرسلون إلا ما سمعوه من الصحابة الذين سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم ولا يلحق أحداً منهم شك في روايته ولا تتطرق إليه التهمة أبداً.
الوجه الثاني أن يقال إن ابن عباس رضي الله عنهما كان في غاية من النباهة والفطنة وكمال العقل وكان يقال له الحبر والبحر لكثرة علمه وقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يفقهه الله في الدين ويعلمه التأويل وكان يتتبع الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ويسأل عنها كبار الصحابة رضي الله عنهم حتى حفظ منها شيئاً كثيراً.
وقد قال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمة ابن عباس رضي الله عنهما، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبيه وأمه أم الفضل وأخيه الفضل وخالته ميمونة وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبي ذر وأبي بن كعب وتميم الداري وخالد بن الوليد - وهو ابن خالته - وأسامة بن زيد وحمل بن مالك بن النابغة وذؤيب والد قبيصة والصعب بن جثامة وعمار بن ياسر وأبي سعيد الخدري وأبي طلحة الأنصاري وأبي هريرة ومعاوية بن أبي سفيان وأبي سفيان وعائشة وأسماء بنت أبي بكر وجويرية بنت الحارث وسودة بنت زمعة وأم هانئ بنت أبي طالب وأم سلمة وجماعة انتهى.
وروى البزار عن ابن عباس رضي الله نهما قال لما فتحت المدائن أقبل الناس على الدنيا وأقبلت على عمر فكان عامة حديثه عن عمر، قال الهيثمي رجاله
رجال الصحيح.
وذكر الذهبي في تذكرة الحفاظ عن عبد الرزاق عن معمر قال عامة علم ابن عباس رضي الله عنهما من ثلاثة عمر وعلي وأبي بن كعب رضي الله عنهم.
وذكر الذهبي أيضاً عن أبي بكر بن عياش عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كنت أسمع بالرجل عنده الحديث فآتيه فاجلس حتى يخرج فأسأله ولو شئت أن أستخرجه لفعلت.
وروى الدارمي والحارث بن أبي أسامة في مسنديهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار يا فلان هلم فلنسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإِنهم اليوم كثير قال واعجبا لك يا ابن عباس أترى الناس يحتاجون إليك وفي الناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من ترى فترك ذلك وأقبلت على المسألة فإِن كان ليبلغني الحديث علن الرجل فآتيه وهو قائل فأتوسد ردائي على بابه فتسفي الريح على وجهي التراب فيخرج فيراني فيقول يا ابن عم رسول الله ما جاء بك ألا أرسلت إلي فآتيك فأقول أنا آتيك فأسأله عن الحديث قال فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناس علي فقال كان هذا الفتى أعقل مني.
وروى الدارمي أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال وجدت أكثر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذا الحي من الأنصار والله إن كنت لآتي الرجل منهم فيقال هو نائم فلو شئت أن يوقظ لي فادعه حتى يخرج لأستطيب بذلك حديثه.
وروى ابن سعد عن أبي سلمة الحضرمي قال سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول كنت ألزم الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار فأسألهم عن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نزل من القرآن في ذلك وكنت لا آتي أحداً منهم إلا سُرَّ بإِتياني إليه لقربي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت أسأل أبي بن كعب وكان من الراسخين في العلم.
وقال طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إن كنت لأسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكره ابن كثير في البداية والنهاية.
وروى محمد بن هارون الروياني في مسنده عن عبيد الله بن علي بن أبي رافع قال كان ابن عباس يأتي أبا رافع فيقول ما صنع النبي صلى الله عليه وسلم يوم كذا ومع ابن عباس من يكتب ما يقول، ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري، ورواه ابن سعد في الطبقات عن عبيد الله بن علي عن جدته سلمى قالت رأيت عبد الله بن عباس معه ألواح يكتب عليها عن أبي رافع شيئاً من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى ابن سعد أيضا عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال كان ابن عباس قد فات الناس بخصال بعلم ما سبقه وفقه فيم احتيج إليه من رأيه وحلم وسيب ونائل وما رأيت أحداً كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أعلم بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه.
وإذا علم ما ذكرنا من حرص ابن عباس رضي الله عنهما على رواية الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة الخلفاء الراشدين وغيرهم من أكابر الصحابة وأمهات المؤمنين رضي الله عنهم فماذا ينقم عليه المؤلف وأشباهه من زنادقة العصريين ويستكثرون عليه ما أسنده له أحمد في مسنده، ثم يحملهم التهور القبيح على أن يجعلوه من ضحايا الدس الإِسرائيلي، قاتل الله الزنادقة أنى يؤفكون.
الوجه الثالث أن يقال من أقبح التهور قول الأفاك المفتري أن الصحابة جميعا ضحايا للدس الإِسرائيلي.
والجواب أن يقال (سبحانك هذا بهتان عظيم)(كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا) وهل يظن عدو السنة وعدو حملتها أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا مغفلين بحيث تروج عليهم دسائس اليهود وغيرهم من أعداء الله حتى يكونوا ضحايا للدس حاشاهم من هذا الظن الكاذب.
الوجه الرابع أن يقال إذا روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة الصحابة الذين ذكرنا أسماءهم في الوجه الثاني ولم يذكر الواسطة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك غيره من الصحابة إذا روى بعضهم عن النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة البعض الآخر ولم يذكروا الواسطة بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم فهو مقبول اتفاقا، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في
فتح الباري في الباب الرابع من كتاب العلم وقرر صحة الاحتجاج بمراسيل الصحابة رضي الله عنهم، وقرر في أول كتاب بدء الوحي أن مرسل الصحابة محكوم بوصله عند الجمهور.
الوجه الخامس أن يقال ظاهر كلام المؤلف أنه يرى أن الصحابي إذا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة صحابي آخر ولم يذكر الواسطة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك يكون من الدس الإِسرائيلي ولهذا ذكر حديثي ابن عباس وحديث أبي هريرة رضي الله عنهم وجعل هذه الأحاديث مثالاً للدس الإِسرائيلي، وهذا غاية الوقاحة والجراءة على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورميهم بالغباوة والتغفيل، وهِذا يدل على شدة بغضه لهم ولما حفظوه من السنة. وقد روى الترمذي عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله يوشك أن يأخذه» .
الوجه السادس أن يقال إن ضحايا الدس الإِسرائيلي في الحقيقة هم أبو رية والمؤلف وأشباههما من العصريين الذين تأثروا بخزعبلات جولد زيهر وإخوانه من المستشرقين الذين قد ملئوا كتبهم من الطعن في الإِسلام والقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد نقل أبو رية في ظلماته نقولا كثيرة عن جولد زيهر في طعنه على الصحابة واعتمد عليها. وكذلك كان أشباهه من الحاقدين على السنة وأهلها يعتمدون على كلام عدو الله جولد زيهر وإخوانه عن المستشرقين الذين قد شرقوا بالإِسلام وأهله، وأما المؤلف المسكين فهو أعمى البصيرة يسير خلف أبي رية أينما سار ويعتمد على ما نقله عن المستشرقين من اليهود وغيرهم من الحاقدين على الإِسلام وأهله فهو فريسة من فرائس المستشرقين وضحية من ضحايا دسهم وكيدهم للإِسلام والمسلمين.
فصل
ونقل المؤلف في صفحة (24) عن أبي رية أنه قال يحسب الذين لا خبرة لهم بالعلم أن أحاديث الرسول التي يقرأونها في الكتب أو يسمعونها قد جاءت صحيحة
المبنى محكمة التأليف وأن ألفاظها قد وصلت إلى الرواة مصونة كما نطق النبي - ص - بها بلا تحريف فيها ولا تبديل، ولقد كان لهذا الفهم أثره في أفكار شيوخ الدين فاعتقدوا أن هذه الأحاديث في منزلة آيات الله في كتابه العزيز من وجوب التسليم بها وفرض الإِذعان لأحكامها بحيث يأثم أو يرتد أو يفسق من يخالفها ويستتاب من أنكرها أو شك فيها.
والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال أما الأحاديث التي ليست جيدة الأسانيد فهذه لا قائل من العلماء بوجوب التسليم لها وفرض الإِذعان لأحكامها. وأما الأحاديث الثابتة بالأسانيد الصحيحة فالإِيمان بها والتسليم لها والإِذعان لأحكامها واجب على كل مسلم وذلك من تحقيق الشهادة بأن محمداً رسول الله، ومن كذب بشيء مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو ممن يشك في إسلامه.
وقد قال الإِمام الشافعي رحمه الله تعالى إذا حدث الثقة عن الثقة إلى أن ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو ثابت ولا يترك لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديث أبداً إلا حديث وجد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر يخالفه.
وقال الإِمام أحمد رحمه الله تعالى كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم إسناد جيد أقررنا به وإذا لم نقر بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ودفعناه ورددناه رددنا على الله أمره قال الله تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا).
وقال إسحاق بن راهويه من بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يقر بصحته ثم رده بغير تقية فهو كافر.
وقال الحسن بن علي بن خلف البربهاري في كتابه شرح السنة ولا يخرج أحد من أهل القبلة من الإِسلام حتى يرد آية من كتاب الله عز وجل أو يرد شيئاً من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يصلي لغير الله أو يذبح لغير الله فقد وجب عليك أن تخرجه من الإِسلام.
وقال البربهاري أيضا من رد آية من كتاب الله فقد رد الكتاب كله ومن رد حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد رد الأثر كله وهو كافر بالله العظيم.
وللبربهاري في هذا الموضوع كلام أكثر من هذا وقد ذكرته في الفصل الأول
في هذا الكتاب فليراجع فإِنه مهم جداً.
الوجه الثاني أن يقال ما اعتقده شيوخ الدين من وجوب التسليم للأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفرض الإِذعان لإِحكامها هو الحق الواجب على كل مسلم قال الله تعالى (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما) فأقسم تبارك وتعالى بنفسه على نفي الإِيمان عمن لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم ويرض بحكمه ويذعن له ويسلم له تسليماً، وقال تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب) وقال تعالى (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو تصيبهم عذاب أليم) قال الإِمام أحمد رحمه الله تعالى أتدري ما الفتنة، الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
الوجه الثالث أن يقال من خالف الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنكر وجوب التسليم لها وفرض الإِذعان لأحكامها فلا شك في كفره فضلا عن القول بأنه يأثم ويفسق. ومن عرضت له شبهة أو شك في شيء منها وجب عليه أن يسأل أهل العلم عما عرض له فإن أصر بعد العلم وقيام الحجة عليه فلا شك في كفره.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإِذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. فدل هذا الحديث الصحيح على أن من خالف الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنكر وجوب التسليم لها وفرض الإِذعان لأحكامها فهو كافر حلال الدم والمال.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (25) ما نصه
اختلاف في حديث واحد وموضوع واحد هو الزواج والمهور جاءت امرأة إلى النبي - ص - وأرادت أن تهب نفسها له فتقدم رجل فقال يا رسول الله أنكحنيها ولم يكن معه من المهر غير بعض القرآن فقال له النبي - ص - أنكحتكها بما معك من القرآن. وفي رواية ثانية قد زوجتكها بما معك من القرآن. وفي ثالثة زوجتكها
على ما معك. وفي رواية رابعة قد ملكتكها بما معك من القرآن. وفي رواية خامسة أنكحتكها على أن تقرئها وتعلمها. وفي رواية سادسة أنكحناكها. وفي رواية سابعة خذها بما معك، فهذه اختلافات سبعة في موضوع ولفظ واحد، فهل يعقل أن يكون النبي - ص - كررها على هذا النحو أم أن ذلك دليل على نشاط وفاعلية الدس عليه بسبب فتنة المسلمين ببعضهم، مع أن اليقين بأن القرآن لا يصلح صداقاً ولا يصلح تأهيلاً للزواج، وذلك أصدق الأدلة على براءة النبي - ص - من هذا الحديث برواياته السبعة، إذ أن الزوج علاقة تقوم على كفاءة مادية يملكها الزوج حتى يعول بها زوجته وأبناءه. وحفظ القرآن بغير قدرة مالية لا يصلح نفقة إلا إذا باعه الزوج بلقيمات من العيش الرخيص وذلك حرام.
والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال إن جميع الروايات في حديث الواهبة نفسها معناها واحد وإن اختلفت الألفاظ في أداة التزويج، وحاصلها هو تزويج الرجل على أن يعلم المرأة مما معه من القرآن ويكون ذلك صداقها، وليس في اختلاف الألفاظ على أداة التزويج ما يغير معنى الحديث ولا ما يترتب عليه مفسدة.
الوجه الثاني أن يقال إن الطعن في حديث الواهبة نفسها من أجل اختلاف الألفاظ في أداة التزويج لا شك أنه من التنطع والتشدق الذي لا يصدر إلا من رجل في قلبه زيغ ومحبة للفتنة وتشكيك المسلمين في الأحاديث الصحيحة التي لا شك في ثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثالث أن يقال إن الرواية بالمعنى جائزة وقد روي ذلك عن بعض الصحابة والتابعين ومن بعدهم، قال الدارمي في سننه «باب من رخص في الحديث إذا أصاب المعنى» ثم روى عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال «إذا حدثناكم بالحديث على معناه فحسبكم» وروى أيضا عن الحسن أنه كان إذا حدث قدم وأخر. وروى أيضا عن جرير بن حازم قال كان الحسن يحدث بالحديث الأصل واحد والكلام مختلف، وروى أيضا عن ابن عون قال كان الشعبي والنخعي والحسن يحدثون بالحديث مرة هكذا ومرة هكذا فذكرت ذلك لمحمد بن سيرين فقال أما إنهم لو حدثوا به كما سمعوا كان خيراً لهم.
وقال الخطيب البغدادي في كتابه «الكفاية في علم الرواية» «باب ذكر من
كان يذهب إلى إجازة الرواية على المعنى من السلف» ثم روى ذلك عن واثلة بن الأسقع وأبي سعيد وعائشة وابن مسعود وأبي الدرداء وأنس بن مالك وعمرو بن دينار والحسن والشعبي وإبراهيم النخعي وابن أبي نجيح وعمرو بن مرة وجعفر بن محمد وسفيان الثوري ومالك وابن عيينة وحماد بن زيد ويحيى بن سعيد ومحمد بن مصعب القرقساني.
وروى أيضا عن أبي سعيد رضي الله عنه قال كنا نجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم عسى أن نكون عشرة نفر نسمع الحديث فما منا اثنان يؤديانه غير أن المعنى واحد.
وروى أيضاً عن أيوب عن محمد بن سيرين قال كنت أسمع الحديث عن عشرة المعنى واحد واللفظ مختلف.
وروى أيضاً عن أزهر بن جميل قال كنا عند يحيى بن سعيد ومعنا رجل يتشكك فقال له يحيى يا هذا إلى كم هذا، ليس في يد الناس أشرف ولا أجل من كتاب الله تعالى وقد رخص فيه على سبعة أحرف.
وروى أيضاً عن هشام بن عروة عن أبيه قال قالت لي عائشة رضي الله عنها يا بني إنه يبلغني أنك تكتب عني الحديث ثم تعود فتكتبه فقلت لها أسمعه منك على شيء ثم أعود فأسمعه على غيره فقالت هل تسمع في المعنى خلافاً قلت لا قالت لا بأس بذلك.
ونقل السخاوي في فتح المغيث عن ابن الصلاح أنه قال في الرواية بالمعنى أنه الذي شهدت به أحوال الصحابة والسلف الأولين فكثيراً ما كانوا ينقلون معنى واحداً في أمرٍ واحد بألفاظ مختلفة وما ذاك إلا لأن معولهم كان على المعنى دون اللفظ انتهى.
وقال الشافعي وإذا كان الله عز وجل برأفته بخلقه أنزل كتابه على سبعة أحرف معرفة منه بأن الحفظ قد يزل لتحل لهم قرائته وإن اختلف لفظهم فيه ما لم يكن في اختلافهم إحالة معنى كان ما سوى كتاب الله أولى أن يجوز فيه اختلاف اللفظ ما لم يحل معناه، وسبقه لنحوه يحيى بن سعيد القطان فإِنه قال القرآن أعظم من الحديث ورخص أن تقرأه على سبعة أحرف وكذا قال أبو أويس سألنا الزهري عن التقديم والتأخير في الحديث فقال إن هذا يجوز في القرآن فكيف به في الحديث
إذا أصبت معنى الحديث فلم تحل به حراماً ولم تحرم به حلالاً فلا بأس به.
واحتج حماد بن سلمة بأن الله تعالى أخبر عن موسى عليه السلام وعدوه بألفاظ مختلفة في شيء واحد كقوله (بشهاب قبس) و (بقبس أو جذوة من النار) وكذلك قصص سائر الأنبياء عليهم السلام في القرآن وقولهم لقومهم بألسنتهم المختلفة وإنما نقل إلينا ذلك بالمعنى. وقد قال أبي بن كعب كما أخرجه أبو داود كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بسبح اسم ربك وقل للذين كفروا والله الواحد الصمد، فسمى السورتين الأخيرتين بالمعنى انتهى.
الوجه الرابع أن المؤلف استدل على وقوع الدس في حديث الواهبة نفسها باختلاف الألفاظ في أداة التزويج. واستدلاله بذلك يدل على عداوته للسنة وتشكيكه في الأحاديث الصحيحة ورغبته في نبذها واطراحها مهما أمكنه، وهذا عنوان على ما في قلبه من الزيغ والزندقة.
الوجه الخامس أنه يجوز أن يجعل الصداق تعليم سورة أو سور من القرآن أو آيات منه كما يجوز أخذ الأجرة على تعليمه وعلى الرقية به لقول النبي صلى الله عليه وسلم «إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله» رواه البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وقد رقى بعض الصحابة لديغاً بفاتحة الكتاب على قطيع من الغنم فأجاز ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهم «اضربوا لي بسهم معكم» متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وروى الإِمام أحمد وأبو داود بأسانيد حسنة عن خارجة بن الصلت التميمي عن عمه رضي الله عنه أنه أتى على حي من العرب عندهم رجل مجنون فرقاه بفاتحة الكتاب قال فأعطوني جعلاً، وفي رواية مائة شاة فقلت لا حتى أسأل النبي صلى الله عليه وسلم فسألته فقال «خذها فلعمري لمن أكل برقية باطل لقد أكلت برقية حق» .
قال النووي في الكلام على حديث الواهبة نفسها، في هذا الحديث دليل لجواز كون الصداق تعليم القرآن وجواز الاستئجار لتعليم القرآن وكلاهما جائز عند الشافعي وبه قال عطاء والحسن بن صالح ومالك وإسحاق وغيرهم، ومنعه جماعة منهم الزهري وأبو حنيفة، وهذا الحديث مع الحديث الصحيح «إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله» يردان قول من منع ذلك. ونقل القاضي عياض جواز
الاستئجار لتعليم القرآن عن العلماء كافة سوى أبي حنيفة.
وقال النووي أيضا في الكلام على حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قوله صلى الله عليه وسلم «خذوا واضربوا لي بسهم معكم» هذا تصريح بجواز أخذ الأجرة على الرقية بالفاتحة والذكر وأنها حلال لا كراهة فيها، وكذا الأجرة على تعليم القرآن وهذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق وأبي ثور وآخرين من السلف ومن بعدهم ومنعها أبو حنيفة في تعليم القرآن وأجازها في الرقية انتهى.
قلت وحديث سهل بن سعد رضي الله عنه في قصة الواهبة مع حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي تقدم ذكره قريباً يردان قول أبي حنيفة.
الوجه السادس أن يقال إن يقين المؤلف بأن القرآن لا يصلح صداقا ليس بيقين وإنما هو ظن كاذب وتخرص باطل مردود بقول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل «انطلق فقد زوجتكها فعلمها من القرآن» رواه مسلم من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه. ورواه البيهقي في سننه بإِسناد مسلم وقال فيه «انطلق فقد زوجتكها بما تعلمها من القرآن» . وروى ابن أبي شيبة بإِسناد صحيح عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج رجلاً امرأة على أن يعلمها سورة من القرآن. وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه نحو حديث سهل بن سعد رضي الله عنه وقال فيه إن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل «قم فعلمها عشرين آية وهي امرأتك» .
الوجه السابع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل «التمس ولو خاتما من حديد» ومن المعلوم أن خاتم الحديد لا يقوم بالتأهيل للزواج ولا بشيء من التأهيل للزواج لأن قيمته تافهة جداً ومع هذا يصلح جعله صداقاً. وإذا كان خاتم الحديد مع حقارته وتفاهة قيمته يصلح جعله صداقاً فكيف بتعليم القرآن الذي يفوق العلم بأقل القليل منه على خواتم الذهب فضلاً عن خاتم الحديد.
الوجه الثامن أن يقال إن حديث الواهبة ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم بريء مما هو ثابت عنه فلا شك أنه معاند مكابر يحاول رد الأحاديث الصحيحة واطراحها وإبطال السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا عين المحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وقد قال الله
تعالى (إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم) وقال تعالى (إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين) وقال تعالى (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين).
الوجه التاسع أن المؤلف اعتمد على عقليته الفاسدة محتجا بها على معارضة الحديث الصحيح ورده وذلك في قوله إن الزواج علاقة تقوم على كفاءة مادية يعول بها زوجته وأبناءه، إلى آخر كلامه، وهذه حجة داحضة مردودة على قائلها فإِن النكاح يصح عقده على خاتم من حديد وليس كفاءة مادية يعول بها الزوج زوجته وأبناءه. ويصح عقده على تعليم شيء من الأدب أو صنعة أو كتابة وعلى تعليم أبواب من الفقه أو الحديث أو قصيدة من الشعر المباح لأنه يصح أخذ الأجرة على تعليم هذه الأشياء فصح كونها صداقاً، وليس في تعليم هذه الأشياء كفاءة مادية يعول بها الرجل زوجته وأولاده.
وقد روى الإِمام أحمد والترمذي وابن ماجه والبيهقي عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أرضيت من نفسك ومالك بنعلين» قالت نعم قال فأجازه قال الترمذي حديث حسن صحيح.
وروى الإِمام أحمد أيضا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لو أن رجلاً أعطى امرأة صداقاً ملء يده طعاماً كانت له حلالاً» ورواه أبو داود ولفظه قال «من أعطى في صداق امرأة ملء كفيه سويقاً أو تمراً فقد استحل» ورواه البيهقي في سننه ولفظه قال «من أعطى في صداق ملء كفيه براً أو تمراً أو سويقاً أو دقيقاً فقد استحل» وفي رواية لأبي داود قال «كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نستمتع بالقبضة من الطعام على معنى المتعة» وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث ابن حريج عن أبي الزبير قال سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول «كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
قال البيهقي والنسخ إنما ورد بإِبطال الأجل لا قدر ما كانوا عليه ينكحون من الصداق انتهى.
ورواه البيهقي من حديث يعقوب بن عطاء عن أبيه عن جابر رضي الله عنه قال كنا ننكح على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبضة من الطعام».
وروى ابن ابي شيبة والبيهقي عن ابن أبي لبيبة عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من استحل بدرهم فقد استحل» يعني في النكاح.
ولا يخفى أنه ليس في النعلين، ولا في القبضة من الطعام ولا في ملء الكفين من البر أو التمر أو السويق أو الدقيق كفاءة مادية يعول بها الزوج زوجته وأولاده ومع هذا يصلح جعلها صداقاً، ولا شك أن تعليم سورة أو سور من القرآن يفوق على النعلين والقبضة من الطعام وملء الكفين من البر أو التمر أو السويق أو الدقيق فيكون جعله صداقاً أولى من جميع هذه الأشياء والله أعلم.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (25) و (26) ما نصه
مثال آخر يثبت اختلاف البخاري ومسلم في الموضوع وليس في الرواية وحقيقة هامة. روى البخاري عن ابن عمران النبي - ص - قال يوم الأحزاب لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة الخ الحديث. قال ابن حجر في شرح هذا الحديث وقع النص في جميع النسخ عند البخاري على صلاة العصر ووقع في جميع النسخ عند مسلم على صلاة الظهر مع اتفاق البخاري ومسلم على روايته عن شيخ واحد بإِسناد واحد وقد وافق مسلماً أبو يعلى وآخرون. وكذا أخرجه ابن سعد، وأما أصحاب المغازي فقد اتفقوا على أنها العصر، قال ابن حجر بعد ذلك إن البخاري كتبه من حفظه ولم يراع اللفظ كما عرف من مذهبه في تجويز ذلك بخلاف مسلم فإِنه يحافظ على اللفظ كثيراً ولم يجوز مثله لموافقة من وافق مسلماً على لفظه بخلاف البخاري، وقد بلغ من أمرهم أنهم كانوا يروون الحديث بألفاظهم وأسانيدهم ثم يعزونه إلى كتب السنة والذي قاله ابن حجر عن البخاري يؤيده ما رواه الخطيب البغدادي عن البخاري قال رب حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر فقيل له يا أبا عبد الله بكماله، فسكت، وقال حيدر بن أبي جعفر والي بخارى قال لي محمد بن إسماعيل البخاري يوما رب حديث سمعته
بالبصرة كتبته بالشام ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر فقلت يا أبا عبد الله بتمامه، فسكت.
والجواب أن يقال الذي يظهر من إيراد المؤلف لحديث ابن عمر رضي الله عنهما في حث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على سرعة السير إلى بني قريظة أنه يريد التشكيك فيه باختلاف رواية البخاري ومسلم في تعيين الصلاة التي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يصلوها إلا في بني قريظة فعند البخاري أنها العصر وعند مسلم أنها الظهر، وقد رواه كل منهما عن عبد الله بن محمد بن أسماء عن عمه جويرية بن أسماء عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري أن مسلماً وافقه أبو يعلى وآخرون. قال وكذلك أخرجه ابن سعد عن أبي غسان مالك بن إسماعيل عن جويرية بلفظ الظهر. وابن حبان من طريق أبي غسان كذلك، غير أن أبا نعيم في المستخرج أخرجه من طريق أبي حفص السلمي عن جويرية فقال العصر. قال وأما أصحاب المغازي فاتفقوا على أنها العصر، ثم ذكر قول ابن إسحاق وفيه أنها العصر، قال وكذلك أخرجه الطبراني والبيهقي في الدلائل بإِسناد صحيح إلى الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن عمه عبيد الله بن كعب وفيه أنها العصر، قال وأخرجه الطبراني من هذا الوجه موصولا بذكر كعب بن مالك فيه. قال وللبيهقي من طريق القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها نحوه مطولاً، قال وهذا كله يؤيد رواية البخاري في أنها العصر انتهى. وقد ذكر ابن كثير في البداية والنهاية ما رواه البيهقي عن عائشة رضي الله عنها وفيه أنها العصر ثم قال ابن كثير ولهذا الحديث طرق جيدة عن عائشة وغيرها انتهى. وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد حديث كعب بن مالك رضي الله عنه وفيه أنها العصر ثم قال الهيثمي رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير ابن أبي الهذيل وهو ثقة انتهى.
قلت ويؤيد رواية البخاري ما جاء في حديثي كعب بن مالك وعائشة رضي الله عنهما أن طائفة من الذين ساروا إلى بني قريظة لم يصلوا حتى نزلوا بني قريظة بعد ما غربت الشمس، ولم يأت في شيء من الأخبار أنهم صلوا سوى صلاة واحدة فدل على أنها العصر، ولو كان الأمر واقعاً على صلاة الظهر لكان يلزمهم أن يصلوا صلاتين الظهر والعصر ولما لم ينقل هذا دل على أن رواية البخاري هي المطابقة للواقع.
والذي يظهر من حديث جويرية بن أسماء أنه قال مرة العصر ورواه عنه بهذا اللفظ أبو حفص السلمي، وقال مرة الظهر ورواه عنه بهذا اللفظ أبو غسان مالك بن إسماعيل، وأما عبد الله بن محمد بن أسماء فرواه عن عمه جويرية باللفظين فسمعه البخاري من عبد الله على أحدهما وسمعه مسلم وغيره على اللفظ الآخر والله أعلم.
وأما قول المؤلف تبعاً لأبي رية قال ابن حجر بعد ذلك إن البخاري كتبه من حفظه ولم يراع اللفظ كما عرف من مذهبه في تجويز ذلك بخلاف مسلم فإنه يحافظ على اللفظ كثيراً ولم يجوز مثله لموافقة من وافق مسلماً على لفظه بخلاف البخاري.
فجوابه أن يقال إن المؤلف وإمامه في الضلال قد تصرفا في بعض كلام الحافظ ابن حجر بما غير لفظه ومعناه، وبيان ذلك من وجهين أحدهما أن الحافظ ابن حجر لم يجزم بأن البخاري رحمه الله تعالى كتب حديث ابن عمر رضي الله عنهما من حفظه ولم يراع فيه اللفظ وإنما أبدى ذلك احتمالا كما هو واضح من كلامه في فتح الباري. وقد ساق أبو رية والمؤلف كلام الحافظ ابن حجر مساق الجازم بأن البخاري كتب حديث ابن عمر رضي الله عنهما من حفظه ولم يراع اللفظ وهذا خطأ وغلط على الحافظ ابن حجر.
الوجه الثاني أن الحافظ ابن حجر قال بعد أن أبدى احتمالا أن البخاري كتب حديث ابن عمر رضي الله عنهما من حفظه ولم يراع اللفظ كما عرف من مذهبه في تجويز ذلك بخلاف مسلم فإِنه يحافظ على اللفظ كثيراً. قال وإنما لم أجوز عكسه لموافقة من وافق مسلماً على لفظه بخلاف البخاري.
ومراد الحافظ أنه لا يجوز أن يكون مسلم كتب حديث ابن عمر رضي الله عنهما من حفظه كما جوز ذلك على البخاري. وقد أبدل المؤلف وأبو رية قول الحافظ ابن حجر (وإنما لم أجوز عكسه) بقولهما (ولم يجوز مثله) وهذا من قلة أمانتهما في النقل، وكلمتهما تقتضي أن يكون الحافظ ابن حجر لا يجوز مثل ما يجوزه البخاري من الكتابة من الحفظ من غير مراعاة اللفظ. وهذا خطأ وغلط على الحافظ ابن حجر فإِنه إنما أراد ما ذكرته آنفا ولم يرد ما توهمه المؤلف وأبو رية.
وأما قول المؤلف تبعاً لأبي رية وقد بلغ من أمرهم أنهم كانوا يروون الحديث
بألفاظهم وأسانيدهم ثم يعزونه إلى كتب السنة.
فجوابه أن يقال مراد المؤلف وأبي رية بذلك ما فعله البيهقي في سننه والبغوي في شرح السنة فإِنهما إذا أخرجا الحديث من الطريق التي أخرجها منه البخاري ومسلم أو أحدهما قالا بعده رواه البخاري عن فلان ومسلم عن فلان، وقد يكون في لفظ البيهقي أو البغوي بعض المخالفة للفظ البخاري ومسلم مع اتفاق المعنى ومع ذلك لا يبين اختلاف اللفظ، وهذا جائز عند المحدثين، ولا يقدح في الحديث ما يقع فيه من الاختلاف في بعض الألفاظ مع اتفاق المعنى، وعلى هذا جرى عمل العلماء من أهل الحديث قديماً وحديثاً، ولا عبرة بمن خالفهم من تلامذة الإِفرنج ومقلديهم من جهال العصريين وزنادقتهم.
ويظهر من كلام المؤلف وأبي رية أنهما أرادا به الاعتراض على البيهقي والبغوي ومن صنع مثل صنيعهما في إيراد الحديث وذكر من خرجه من أهل الكتب الستة مع ما يقع بينهم من الاختلاف في بعض الألفاظ. وأرادا أيضا التشكيك في الأحاديث الصحيحة التي يرويها البيهقي في سننه والبغوي في شرح السنة وقد قال الله تعالى (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم).
وأما ما ذكره عن الخطيب البغدادي أنه روى عن البخاري أنه قال رب حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر فقيل له يا أبا عبد الله بكماله، فسكت، وقال حيدر بن أبي جعفر والي بخارى قال لي محمد بن إسماعيل البخاري يوماً رب حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر فقلت يا أبا عبد الله بتمامه، فسكت.
فجوابه من وجهين أحدهما أن يقال إن البخاري رحمه الله تعالى كان آية في الحفظ والإِتقان ومشهوراً بذلك عند المحدثين. وقد كان كثير من شيوخه يقرون له بالفضل والتقدم وكذلك أقرانه ومن بعدهم من أئمة الحديث.
وقد تقدم (1) ما رواه الخطيب البغدادي في تاريخه عن أبي أحمد ابن عدي أن البخاري لما قدم بغداد اجتمع أصحاب الحديث وأرادوا امتحانه فعمدوا إلى مائة
(1) ص: 40 - 41.
حديث فقلبوا أسانيدها ثم ألقوها عليه فرد كل متن إلى إسناده وكل إسناد إلى متنه فأقر له الناس بالحفظ وأذعنوا له بالفضل.
وتقدم (1) أيضا ما ذكره الحافظ ابن حجر عن أبي الأزهر قال كان بسمرقند أربعمائة محدث فتجمعوا وأحبوا أن يغالطوا محمد بن إسماعيل فأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق وإسناد العراق في إسناد الشام وإسناد الحرم في إسناد اليمن فما استطاعوا مع ذلك أن يتعلقوا عليه بسقطة.
وروى القاضي أبو الحسين في طبقات الحنابلة بإِسناده عن محمد بن أبي حاتم قال سمعت حاشد بن إسماعيل وآخر يقولان كان أبو عبد الله محمد بن إسماعيل يختلف معنا إلى مشايخ الحديث في البصرة وهو غلام فلا يكتب حتى أتى على ذلك أيام فكنا نقول له إنك تختلف معنا ولا تكتب فما معناك فيما تصنع فقال لنا بعد ستة عشر يوماً إنكما قد أكثرتما علي وألححتما فأعرضا علي ما كتبتما فأخرجنا ما كان عندنا فزاد على خمسة عشر ألف حديث فقرأها عن ظهر قلب حتى جعلنا نحكم كتبنا على حفظه، ثم قال أترون أني اختلف هدراً وأضيع أيامي فعرفنا أنه لا يتقدمه أحد.
وروى القاضي أبو الحسين أيضا عن عبد الله بن الإِمام أحمد بن حنبل قال سمعت أبي يقول ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل.
فهذه شهادة من إمام أهل السنة والجماعة للبخاري بالفضل والتقدم. وبهذه الشهادة وأمثالها من شهادات شيوخه وأقرانه وأئمة العلم والهدى من بعدهم يرد على من حاول التشكيك في حفظ البخاري والحط من قدره.
وأما سكوت البخاري لما سئل عما كان يكتبه من حفظه هل كان يكتبه بتمامه أم لا.
فجوابه أن يقال يحتمل أن يكون سكوته عن الجواب من باب الاحتياط خشية أن يكون قد وقع منه تقديم أو تأخير أو تغيير في بعض الألفاظ وإن كان ذلك لا يؤثر في الحديث، ويحتمل أن يكون سكوته عن الجواب خوفاً من العجب وتزكية النفس، ولعل هذا الاحتمال هو الأقرب، وأيا ما كان فلا عيب على البخاري في سكوته عن الجواب ولا يؤثر ذلك فيما اتصف به من مزيد الحفظ والإِتقان.
(1) ص: 42.
الوجه الثاني أن يقال الذي يظهر من إيراد المؤلف وأبي رية لما ذكره الخطيب البغدادي وحيدر بن أبي جعفر عن البخاري أنهما أرادا بذلك التشكيك فيما يكتبه البخاري من حفظه واتهامه بأنه كان يتساهل في كتابة الحديث ولا يعتني بضبط الألفاظ. وفيما ذكرته آنفا عن ابن عدي وأبي الأزهر وحاشد بن إسماعيل كفاية في الرد على من توهم النقص في حفظ البخاري أو ظن به التساهل في كتابة الحديث وقلة الاعتناء بضبط الألفاظ.
وقد جعل الله تعالى للبخاري لسان صدق عند جميع أهل السنة والجماعة فلا يضره تشدق العصريين وتنطعهم بما يرون أنه يحط من قدره، وقد جعل الله لصحيحه القبول التام عند جميع أهل السنة والجماعة فلا يلحق أحداً منهم شك في شيء من أحاديثه. وقد خالفهم تلامذة الإِفرنج ومقلدوهم من العصريين فأثاروا التشكيكات في حفظ البخاري واتهموه بالتساهل في كتابة الحديث وأثاروا التشكيكات في صحيحه وطعنوا في كثير من أحاديثه وقابلوها بالرد والاطراح. وهذا لا يضر البخاري ولا يؤثر في صحيحه. وإنما يعود وبال ذلك على أولئك المتشدقين المتنطعين فيظهر للناس ما كانوا يخفونه من الزندقة والإِلحاد ومحادة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم واتباع غير سبيل المؤمنين. وإنه لينطبق على البخاري وعلى المشككين في حفظه وإتقانه وفي صحيحه قول الشاعر:
وما ضر نور الشمس أن كان ناظراً
…
إليه عيون لم تزل دهرها عميا
وقول الأعشى:
كناطح صخرة يوما ليوهيها
…
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
وقول الحسين بن حميد
يا ناطح الجبل العالي ليكلمه
…
أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل
فصل
وقال المؤلف في صفحة (26) و (27) ما نصه
مثل آخر على اختلاف الرواية في تأبير النخل في أربع روايات. الرواية الأولى، روى مسلم في كتابه عن موسى بن طلحة عن أبيه قال «مررت مع رسول
الله - ص - على قوم على رؤوس النخل فقال ما يصنع هؤلاء فقلت يلقحونه يجعلون الذكر في الأنثى فتلقح فقال رسول الله - ص - ما أظن يغني ذلك شيئاً، قال فأخبروا بذلك فتركوه فأخبر رسول الله بذلك قال إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه فإِذا ظننت ظناً فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به فإِني لن أكذب على الله عز وجل».
الرواية الثانية، عن رافع بن خديج قال قدم نبي الله المدينة وهم يؤبرون النخل فقال «ما تصنعون قالوا كنا نصنعه قال لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً قال فتركوه فنقصت أو قال فتنقصت، قال فذكروا ذلك له فقال إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإِنما أنا بشر» رواه مسلم أيضاً ورواه النسائي.
الرواية الثالثة، عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن أنس أن النبي - ص - مر بقوم يلقحون فقال «لو لم تفعلوا لصلح قال فخرج شيصاً فمر بهم فقال ما لنخلكم، قالوا قلت كذا وكذا قال أنتم أعلم بأمر دنياكم» .
الرواية الرابعة رواها الإِمام أحمد وفيها «ما كان من أمر دينكم فإِلي وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به» وفي رواية رويت عن ابن رشد في كتاب التحصيل والبيان ما أنا بزراع ولا صاحب نخل.
ونقول للعقلاء من المؤمنين بالله وبرسوله، هذه أربع روايات في موضوع واحد ومنها روايتين في كتاب مسلم، وكلهم مختلفين اختلافا واضحاً، فهل معنى ذلك أن النبي - ص - وأصحابه هم السبب أم أن الرواة قد دسوا ذلك أم أنه اندس عليهم فصدقوه.
والجواب عن هذا من وجوه أحدها عما وقع من المؤلف من التغيير في بعض الكلمات في الأحاديث الأربعة، فمن ذلك قوله في الحديث الأول (على قوم) وصوابه (بقوم) ومن ذلك قوله (فقلت يلحقونه) وصوابه (فقالوا يلحقونه) ومن ذلك قوله (فإذا ظننت ظناً) وصوابه (فإِني إنما ظننت ظنا) ، ومن ذلك قوله في الحديث الثاني (وهم يؤبرون) وصوابه (يأبرون) ومن ذلك قوله (فنقصت أو قال فتنقصت) وصوابه (فنفضت أو فنقصت) قال النووي نفضت بالفاء والضاد المعجمة وهو بفتح الحروف
كلها ومعناه أسقطت ثمرها. قال أهل اللغة ويقال لذلك المتساقط النفض بفتح النون والفاء بمعنى المنفوض انتهى. ومن ذلك قوله (من رأي) وصوابه (من رأيي) ، ومن ذلك قوله في الحديث الثالث والحديث الرابع (عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن أنس) وصوابه (حدثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وعن ثابت عن أنس) فهذان حديثان رواهما حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها، وعن ثابت عن أنس رضي الله عنه وقد جعلهما المؤلف حديثاً واحداً فأخطأ في ذلك وغلط غلطاً فاحشاً أبان به عن غباوته وكثافة جهله.
والرواية التي ذكرها عن ابن رشد فيها نكارة شديدة ولم أرها في شيء من كتب الحديث، والأحرى أنها موضوعة، وفي آخر كلامه لفظتان لحن فيهما وهما (روايتين) و (مختلفتين) والصواب (روايتان) و (مختلفتان).
الوجه الثاني أن يقال إن الاختلاف في ألفاظ هذه الأحاديث لا يؤثر فيها لأن المعنى في الجميع واحد وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر الذين يلقحون النخل عن رأيه وظنه ولم يخبرهم عن وحي جاءه من الله تعالى. والعبرة بالمعنى لا بالألفاظ، وعلى هذا فتشكيك المؤلف في هذه الأحاديث الصحيحة من أجل اختلاف ألفاظها لا شك أنه من التشدق والتنطع، وكذلك قوله هل معنى ذلك أن النبي وأصحابه هم السبب إلى آخر كلامه فكل ذلك من التشدق والتنطع وإظهار العداوة للأحاديث الصحيحة ورواتها.
الوجه الثالث أن المؤلف تردد في توجيه الاتهام في سبب الاختلاف الواقع في ألفاظ الأحاديث التي تقدم ذكرها فبدأ بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وما أعظم ذلك وأبشعه وأشنعه ولاسيما في حق النبي صلى الله عليه وسلم. ثم وجه الاتهام إلى الرواة بأحد شيئين إما دس الكذب في الأحاديث التي تقدم ذكرها، وإما التغفيل بحيث يروج عليهم الكذب ويندس عليهم فيصدقونه ويروونه. وهذا قول سوء مردود على قائله ولا شك أن الرواة بريئون من جميع التهم التي وجهها إليهم المؤلف ظلما وزوراً.
الوجه الرابع أن يقال إن رواة الأحاديث الأربعة كلهم ثقات لا مطعن في أحدٍ منهم، فاتهام المؤلف لهم بأنهم قد دسوا في هذه الأحاديث أو اندس عليهم
فصدقوه لا شك أنه إفك وبهتان والمؤلف أولى بصفة الدس لأنه قد بذل جهده في دس الشبه والشكوك على المسلمين واستفرغ وسعه في تشكيكهم في الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أيضاً أولى بصفة الغباوة والتغفيل لأنه قد قلد أبا رية في دسائسه وأباطيله وترهاته وتشكيكه في الأحاديث الصحيحة ووقيعته في الصحابة وتنقصه لهم، ومثل المؤلف مع أبي رية كمثل أعمى قد وضع يده في يد أعمى يقوده إلى مهاوي الهلاك والدمار، وقد قيل «قد ضل من كانت العميان تهديه» .
الوجه الخامس قال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على مسند الإِمام أحمد في الكلام على حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، هذا الحديث مما طنطن به ملحدو مصر وصنائع أوربة فيها من عبيد المستشرقين وتلامذة المبشرين فجعلوه أصلا يحتجون به على أهل السنة وأنصارها وخدام الشريعة وحماتها. إذا أرادوا أن ينفوا شيئا من السنة وأن ينكروا شريعة من شرائع الإِسلام في المعاملات وشؤون الاجتماع وغيرها يزعمون أن هذه من شؤون الدنيا يتمسكون برواية أنس «أنتم أعلم بأمر دنياكم» والله يعلم أنهم لا يؤمنون بأصل الدين ولا بالألوهية ولا بالرسالة ولا يصدقون القرآن في قرارة نفوسهم، ومن آمن إنما يؤمن لسانه ظاهراً. ويؤمن قلبه فيما يخيل إليه لا عن ثقة وطمأنينة ولكن تقليداً وخشية، فإذا ما جَدَّ الجِدّ وتعارضت الشريعة - الكتاب والسنة - مع ما درسوا في مصر أو في أوربة لم يترددوا في المفاضلة ولم يحجموا عن الاختيار، فضلوا ما أخذوه عن سادتهم، واختاروا ما أشربته قلوبهم. ثم ينسبون نفوسهم بعد ذلك أو ينسبهم الناس إلى الإِسلام.
والحديث واضح صريح لا يعارض نصاً ولا يدل على عدم الاحتجاج بالسنة في كل شأن لأن رسول الله لا ينطق عن الهوى. فكل ما جاء عنه فهو شرح وتشريع (وإن تطيعوه تهتدوا) وإنما كان في قصة تلقيح النخل أن قال لهم «ما أظن ذلك يغني شيئاً» فهو لم يأمر ولم ينه ولم يخبر عن الله ولم يسن في ذلك سنة حتى يتوسع في هذا المعنى إلى ما يهدم به أصل التشريع بل ظن ثم اعتذر عن ظنه قال «فلا تؤاخذوني بالظن» فأين هذا مما يرمي إليه أولئك. هدانا الله وإياهم سواء السبيل. انتهى.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (27) ما نصه
اختلاف واضح في موضوع واحد أورده البخاري في ثماني روايات مختلفة
- ثم ذكر روايات أبي جحيفة وإبراهيم التيمي عن أبيه للصحيفة التي كانت عند علي رضي الله عنه فيها العقل - أي الدية - وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر وفيها أشياء غير ذلك في رواية التيمي - ثم قال في صفحة (29) و (30) ولنا الحق بعد تقديم هذا المثال على أن الحديث النبوي كان يروى بالمعنى وليس بالنص وأن باب النقل بالمعنى هو الذي جاءنا بالزيادات وبالنقص في كلام رسول الله - ص - أقول إن لنا الحق أن نقول كلمتين. الكلمة الأولى نقول فيها مَنْ مِن المسلمين العقلاء يصدق أن تكون هذه الروايات كلها صحيحة وهي ثمانية روايات مختلفة وواردة كلها بهذا الاختلاف في صحيح البخاري. فأي معنى وأي حقيقة تكون وراء ذلك التناقض الصريح في كلام ينسب لرسول الله ويأتينا في أصح موارد الحديث إلا أن يكون أمر الحديث وموضوعه كان يؤخذ بغير عناية ولا التفات إلى ما يترتب على ذلك وأنه جاءنا من طرق الوضع والدس لغرض واحد هو التضليل ولهذا أفرغه الوضاعون في عدة روايات متباينة في الألفاظ حتى يموهوا على المسلمين وحتى يظل باب الدس مفتوحاً أمامهم دون أن تغلقه عقول المؤمنين. وأي شيء أعجب من أن يكون البخاري شيخ واحد وكتابه سجل واحد والحديث أيضاً في موضوع واحد وبعد ذلك تأتي الروايات الثمانية فيه مختلفة اختلافا صريحاً في اللفظ والمعنى.
أما الكلمة الثانية فإِنا نقول فيها قطعاً ويقيناً بأن ما جاء في تلك الرواية المختلفة هو الدليل على وجود الكذب على رسول الله - ص - وعلى صاحبه وابن عمه علي بن أبي طالب وأن علياً لو أراد أو أمره النبي أن يدون حديثاً لضاقت بحصيلة وعيه الكتب والمجلدات. ولقد كان لديه من القضايا ما هو أهم من عقل الإِبل أمام بيت صاحب الدم وما هو أهم من تسنينها وهو التوحيد وما يتشعب عنه، فهل آن لنا أن نعطي لكلام نبينا كل اهتمامنا الذي يصفيه من الكذب الإِسرائيلي.
والجواب عن هذا من وجوه أحدها في بيان ما جاء في كلام هذا الجاهل المركب من اللحن وفساد التعبير، فمن ذلك قوله (في ثماني روايات) وصوابه (في ثمان روايات) ومن ذلك قوله (وهي ثمانية روايات) وصوابه (وهي ثمان روايات) ومن ذلك قوله (أن يكون البخاري شيخ واحد وكتابه سجل واحد) وصوابه أن يكون البخاري شيخاً واحداً وكتابه سجلاً واحداً) ومن ذلك قوله (وبعد ذلك تأتي
الروايات الثمانية) وصوابه (وبعد ذلك تأتي الروايات الثمان).
الوجه الثاني أن يقال ليس كل الأحاديث النبوية يروى بالمعنى كما زعم ذلك المؤلف، بل منها ما يروى بالنص ومنها ما يروى بالمعنى. ولا شك أن الرواية بالنص أولى من الرواية بالمعنى، والرواية بالمعنى جائزة كما تقدم تقريره.
الوجه الثالث أن المؤلف ادعى أن له الحق على أن الحديث النبوي كان يروى بالمعنى وليس بالنص، ولم يأت ببينة على ما ادعاه سوى الظن والتخرص، وقد قال الله تعالى (وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً) وقال النبي صلى الله عليه وسلم «إياكم والظن فإِن الظن أكذب الحديث» متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الوجه الرابع أن يقال إن الزيادة في بعض الروايات والنقص في بعضها لها أسباب كثيرة وأهمها شيئان أحدهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بعض الأحيان يكرر الحديث على أصحابه مراراً في المجلس أو في مجالس متعددة وربما قال في بعض المجالس ما لم يقل في غيره فيسمعه من لم يسمع ما قال في غير ذلك المجلس فيحدث هذا بما سمع ويحدث الآخر بما سمع في المجلس الآخر وتختلف رواياتهم بحسب ما سمعه كل منهم وحفظه.
الثاني قوة الحفظ في بعض الرواة وضعفها في بعضهم فبعضهم يحفظ كل ما سمعه وبعضهم يحفظ البعض وينسى البعض فيحدث هذا بما حفظه ويحدث الآخر بما حفظه. ومن حدث بما حفظه ولو غير تام فقد أدى ما يجب عليه قال الله تعالى (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها).
وأما قول المؤلف في الكلمة الأولى مَنْ مِنَ المسلمين العقلاء يصدق أن تكون هذه الروايات كلها صحيحة وهي ثمان روايات مختلفة وواردة بهذا الاختلاف في صحيح البخاري.
فجوابه أن يقال كل علماء المسلمين يصدقون بصحة ما رواه البخاري في صحيحه ويقبلون كل ما فيه من الأحاديث المتصلة. وقد ذكر النووي في شرح مسلم اتفاق العلماء على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان البخاري ومسلم، قال وتلقتهما الأمة بالقبول.
ونقل النووي عن الشيخ أبي عمرو ابن الصلاح أنه قال جميع ما حكم مسلم بصحته فهو مقطوع به والعلم النظري حاصل بصحته في نفس الأمر. وهكذا ما حكم البخاري بصحته في كتابه وذلك لأن الأمة تلقت ذلك بالقبول سوى من لا يعتد بخلافه ووفاقه في الإِجماع.
ونقل النووي أيضا عن إمام الحرمين أنه قال لو حلف إنسان بطلاق امرأته أن ما في كتابي البخاري ومسلم مما حكما بصحته من قول النبي صلى الله عليه وسلم لما ألزمته الطلاق ولا حنثته لإِجماع علماء المسلمين على صحتهما.
وذكر ابن كثير في كتابه «البداية والنهاية» أن العلماء أجمعوا على قبول صحيح البخاري وصحة ما فيه، وكذلك سائر أهل الإِسلام.
وفيما قاله هؤلاء الأئمة الأعلام أبلغ رد على المؤلف الذي قد حاد الله ورسوله وخالف إجماع المسلمين واتبع غير سبيل المؤمنين، وعلى أشباهه من تلامذة المستشرقين ومقلديهم الذين هم أعدى عدو للسنة وأهلها.
وإذا علم هذا فنقول من لم يصدق بما رواه الشيخان في صحيحيهما أو رواه أحدهما فليس من العقلاء ولا كرامة له ولا نعمة عين.
وأما قوله فأي معنى وأي حقيقة تكون وراء ذلك التناقض الصريح في كلام ينسب لرسول الله ويأتينا في أصح موارد الحديث.
فجوابه من وجوه أحدها أن يقال ليس بين رواية أبي جحيفة رضي الله عنه لما كان في صحيفة علي رضي الله عنه وبين رواية التيمي شيء من التناقض، وما كان من الزيادة في رواية التيمي لا يناقض رواية أبي جحيفة لأن أبا جحيفة روى طرفا مما في الصحيفة وروى التيمي أكثر منه، وسيأتي ذكر رواية أبي جحيفة ورواية التيمي عن أبيه وعن الحارث بن سويد وروايات أبي حسان الأعرج وأبي الطفيل وطارق بن شهاب، وفي كل رواية من الزيادة ما ليس في غيرها، والسبب في ذلك تفاوت الرواة في الحفظ فكل منهم نقل ما حفظه مما كان في الصحيفة، وكل رواياتهم صحيحة لا مطعن في شيء منها بوجه من الوجوه، وقد توهم المؤلف أن الزيادة في بعض الروايات والاختصار في بعضها يكون من التناقض الصريح، وهذا من غباوته وكثافة جهله، وما رأيت أحداً سبقه إلى هذا القول الباطل والرأي الفاسد، وإنه لينطبق على المؤلف قول الشاعر: