الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خزيمة والحاكم قد صححا حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وأن المنذري قد حسنه فمن أقبح المكابرة قول المؤلف أنه خرافة، وهذه الكلمة تدل على ما في قلب المؤلف من الزيغ وعداوة السنة، والمؤلف هو المخرف على الحقيقة لأنه يكابر في رد الأحاديث الصحيحة ويهرف بما لا يعرف.
وأما الحديث الذي فيه إن
الحجر الأسود من الجنة
فقد رواه الإِمام أحمد والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الحجر الأسود من الجنة وكان أشد بياضا من الثلج حتى سودته خطايا أهل الشرك» هذا لفظ أحمد، ولفظ الترمذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن سودته خطايا بني آدم» قال الترمذي حديث حسن صحيح، قال وفي الباب عن عبد الله بن عمرو وأبي هريرة.
وأما قوله قالوا إنه يأتي يوم القيامة وله لسان وشفتان ليشهد لمن استلمه بحق.
فجوابه أن يقال هذا قطعة من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الذي تقدم ذكره. وقد رواه الإِمام أحمد والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم في مستدركه والبيهقي في سننه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ليبعثن الله تبارك وتعالى الحجر يوم القيامة وله عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بحق» قال البيهقي وقال بعضهم في الحديث «لمن استلمه بحق» قال الترمذي هذا حديث حسن وصححه الحاكم ووافقه الذهبي على تصحيحه.
وأما قوله وهذا الحديث منقول عن وهب بن منبه الذي قال فيه كان لؤلؤة بيضاء فسوده المشركون.
فجوابه أن يقال هذا خطأ ظاهر وتخليط فإِن المنقول عن وهب غير الحديث المرفوع الذي تقدم ذكره، ويشهد للمنقول عن وهب بن منبه ما رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه والبيهقي في سننه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما ولو لم يطمس نورهما لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب» قال الترمذي هذا يروى عن عبد الله بن عمرو موقوفا قوله. وفيه عن أنس أيضاً وهو حديث غريب.
وأما قوله وقد استهزأ الجاحظ بهذا الحديث فقال كان يجب أن يبيضه المسلمون حين أسلموا.
فجوابه أن يقال ليس بغريب من الجاحظ أن يستهزأ بالحديث لأنه كما قال ابن حزم في الملل والنحل كان أحد المجان الضلال غلب عليه الهزل، وقال الذهبي في الميزان كان من أئمة البدع ونقل عن ثعلب أنه قال ليس بثقة ولا مأمون، وذكر الحافظ ابن حجر في لسان الميزان شيئاً كثيراً من مساويه، وذكر عن ثعلب أنه قال كان كذاباً على الله وعلى رسوله وعلى الناس، وقال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث تجده يقصد في كتبه للمضاحيك والعبث يريد بذلك استمالة الأحداث وشراب النبيذ ويستهزئ من الحديث استهزاء لا يخفى على أهل العلم كذكره كبد الحوت وقرن الشيطان وذكر الحجر الأسود وأنه كان أبيض فسوده المشركون وقال كان يجب أن يبيضه المسلمون حين أسلموا، وهو مع هذا من أكذب الأمة وأوضعهم لحديث وأنصرهم لباطل انتهى.
وقد رد ابن قتيبة على الجاحظ وغيره من الملحدين الذين استهزءوا بما جاء في الحجر الأسود فقال وأما قولهم. إن كانت الخطايا سودته فيجب أن يبيض لما أسلم الناس، قال ابن قتيبة ولو شاء الله تعالى لفعل ذلك، قال: وبعد فإِنهم أصحاب قياس وفلسفة فكيف ذهب عليهم أن السواد يصبغ ولا ينصبغ والبياض ينصبغ ولا يصبغ انتهى.
وذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري عن المحب الطبري أنه قال في بقائه أسود عبرة لمن له بصيرة فإِن الخطايا إذا أثرت في الحجر الصلد فتأثيرها في القلب أشد، قال وروي عن ابن عباس إنما غيره بالسواد لئلا ينظر أهل الدنيا إلى زينة الجنة، فإِن ثبت فهذا هو الجواب، قال الحافظ أخرجه الحميدي في فضائل مكة بإِسناد ضعيف انتهى.
وأما قوله ويبدو أن المخترعين لهذا الحديث قصدوا أن يقولوا أن الناس يقبلون يد الله ومثل ذلك يقبلون يد الشيوخ.
فجوابه من وجوه أحدها أن يقال ليس الحديث في فضل الحجر الأسود مخترعا كما قد زعم ذلك عدو السنة، وقد تقدم الكلام في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في فضل الحجر الأسود وبيان أنه صحيح الإِسناد، وتقدم أيضا الكلام في
حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في فضل الحجر الأسود وبيان أن ابن خزيمة والحاكم صححاه وأن المنذري حسنه، وهذا يرد قول من زعم أنه حديث مخترع.
الوجه الثاني أن يقال لم يقل أحد من علماء المسلمين أن من قبل الحجر الأسود فقد قبل يد الله التي هي صفة من صفاته ومن زعم أن ذلك من أقوال المسلمين فقد افترى عليهم.
الوجه الثالث أن يقال معنى الحديث عند المسلمين أن من استلم الحجر الأسود وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه، قال ابن قتيبة هذا تمثيل وتشبيه، وقال شيخ الإِسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى قوله «الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه» صريح في أن الحجر الأسود ليس هو صفة لله ولا هو نفس يمينه لأنه قال «يمين الله في الأرض» وقال «فمن قبله وصافحه فكأنما صافح الله وقبل يمينه» ومعلوم أن المشبه ليس هو المشبه به، ففي نفس الحديث بيان أن مستلمه ليس مصافحا لله وأنه ليس هو نفس يمينه.
وقال شيخ الإِسلام أيضاً في الكلام على قوله «الحجر الأسود يمين الله في الأرض» هذا اللفظ صريح في أن الحجر الأسود ليس هو من صفات الله إذ قال «هو يمين الله في الأرض» فتقييده بالأرض يدل على أنه ليس هو يده على الإِطلاق فلا يكون اليد الحقيقية، وقوله «فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه» صريح في أن مصافحه ومقبله ليس مصافحا لله ولا مقبل ليمينه لأن المشبه ليس هو المشبه به، وقد أتى بقوله «فكأنما» وهي صريحة في التشبيه، وإذا كان اللفظ صريحاً في أنه جعل بمنزلة اليمين لا أنه نفس اليمين كان من اعتقد أن ظاهره أنه حقيقة اليمين قائلا للكذب المبين انتهى.
الوجه الرابع أن يقال قد زعم المؤلف أن تقبيل أيدي الشيوخ مثل تقبيل الحجر الأسود الذي هو يمين الله في الأرض، وهذا خطأ كبير فإِن تقبيل الحجر الأسود سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغب فيها بقوله وفعله وقد قال الله تعالى (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) وقال تعالى (فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون). وفي الصحيحين وغيرهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل الحجر الأسود وقال «إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقبلك ما قبلتك».
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري في قول عمر هذا التسليم للشارع في أمور الدين وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيها وهو قاعدة عظيمة في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما يفعله ولو لم يعلم الحكمة فيه انتهى.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن مسح الركن اليماني والركن الأسود يحط الخطايا حطا» رواه الإِمام أحمد وابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ورواه أبو داود الطيالسي وابن خزيمة في صحيحه ولفظهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن مسحهما يحط الخطايا حطا» ورواه النسائي ولفظه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن مسحهما يحطان الخطيئة» ورواه الترمذي والحاكم ولفظهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن مسحهما كفارة للخطايا» قال الترمذي هذا حديث حسن وصححه الحاكم ووافقه الذهبي على تصحيحه.
وأما تقبيل أيدي الشيوخ ففي جوازه خلاف بين العلماء، قال شيخ الإِسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى تقبيل اليد لم يكونوا يعتادونه إلا قليلا ورخص فيه أكثر العلماء كأحمد وغيره، وقال سليمان بن حرب هي السجدة الصغرى. وأما ابتداء الإِنسان بمد يده للناس ليقبلوها وقصده لذلك فهذا منهي عنه بلا نزاع كائنا من كان بخلاف ما إذا كان المقبل هو المبتدي بذلك انتهى. ونقله عنه ابن مفلح في «الآداب الشرعية» قال وقال ابن عبد البر كان يقال تقبيل اليد إحدى السجدتين، وتناول أبو عبيدة رضي الله عنه يد عمر رضي الله عنه ليقبلها فقبضها فتناول رجله فقال ما رضيت منك بتلك فكيف بهذه، وقبض هشام بن عبد الملك يده من رجل أراد أن يقبلها وقال مه فإِنه لم يفعل هذا من العرب إلا هلوع ومن العجم إلا خضوع انتهى.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (65) و (66) ما نصه
خرافة تحديد الخلفاء والأمراء عدداً ونسبا من قريش ونسبة ذلك إلى النبي زوراً، روى الشيخان واللفظ للبخاري عن جابر بن سمرة، يكون اثنا عشر أميراً
كلهم من قريش، ورواية مسلم، لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا كلهم من قريش، ووقع عند أبي داود بلفظ، لا يزال هذا الدين عزيزا إلى اثني عشر خليفة. وملاحظ أن أكثر أحاديث المهدي جاءت عن جابر بن سمرة. وعند أحمد لا يزال هذا الأمر صالحا. وواقع عند أبي داود أخرجه البزار من حديث ابن مسعود أنه سئل من يملك هذه الأمة من خليفة قال سألنا عنها رسول الله فقال اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل. وعن كعب الأحبار في كل وادٍ من ثعلبه يكون اثنا عشر مهديا ثم ينزل روح الله فيقتل الدجال، وحتى نعلم أن هذه الأحاديث حبك للكلام وصناعة محددة لوضع الأمويين، فاسمع لهذا الحديث. أخرج أبو داود من حديث ابن مسعود (وابن مسعود مظلوم ضروري) رفعة تدور رحى الإِسلام 35 سنة أو ست وثلاثون أو سبع وثلاثون فإِن هلكوا فسبيل من هلك وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعون عاما، وزاد الطبراني والخطابي أن الدجال تلده أمه (بقوص) أرض مصر وبين مولده ومخرجه ثلاثون عاماً، وفي رواية لمسلم أنه يخرج من أصبهان، وفي حديث الجساسة عند مسلم أنه محبوس بدير أو قصر في جزيرة في الشام أو بحر اليمن، وروى الحاكم وأحمد أنه يخرج بين الشام والعراق.
والجواب أن يقال هذا الكلام نقله المؤلف من كتاب أبي رية وقد وقع فيه تغيير وزيادة في بعض الكلمات، فمن ذلك قوله «وواقع عند أبي داود» وصوابه «ووقع عند أبي داود» ومنها قوله «رفعة» وصوابه «رفعه» ومنها قوله «أو ست وثلاثون أو سبع وثلاثون» وصوابه «أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين» ومنها قوله «سبعون عاما» وصوابه «سبعين عاما» .
فأما قوله خرافة تحديد الخلفاء والأمراء عدداً ونسباً من قريش ونسبة ذلك إلى النبي زوراً.
فجوابه أن يقال إن المخرف والقائل بالزور في الحقيقة هو المؤلف الذي يهرف بما لا يعرف ويخبط خبط عشواء في معارضة الأحاديث الصحيحة وردها والاستهزاء بها ووصفها بالأوصاف السيئة.
وأما حديث جابر بن سمرة رضي الله عنهما في ذكر الأمراء الاثني عشر من قريش فهو حديث متفق على صحته ولا يرده إلا مكابر معاند وقد اختلف العلماء في معناه وذكروا في ذلك وجوها أرجحها ما وافق رواية أبي داود ولفظه «لا يزال هذا
الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم تجتمع عليه الأمة» فسمعت كلاما من النبي صلى الله عليه وسلم لم أفهمه فقلت لأبي ما يقول قال «كلهم من قريش» وزاد في رواية فلما رجع إلى منزله أتته قريش فقالوا ثم يكون ماذا قال «ثم يكون الهرج» .
وأما قوله وملاحظ أن أكثر أحاديث المهدي جاءت عن جابر بن سمرة.
فجوابه أن يقال ليس في أحاديث المهدي شيء عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما، وما زعمه المؤلف ههنا فهو من تخرصاته وظنونه الكاذبة، والصحيح من أحاديث المهدي مروي عن علي وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وأم سلمة وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم، وقد ذكرتها في أول الجزء الثاني من «إتحاف الجماعة» فلتراجع هناك.
وأما ما نقله عن كعب الأحبار أنه قال يكون اثنا عشر مهديا إلى آخره.
فجوابه أن يقال هذا غير ثابت عن كعب قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري أنه واه جداً.
وأما قوله وعن كعب الأحبار في كل واد من ثعلبة.
فجوابه أن يقال يظهر من إيراد المؤلف لقوله في كل واد من ثعلبة أنه كان يرى أن هذه الجملة من كلام كعب الأحبار، ولا يستبعد ذلك منه لشدة غباوته وجهله، وهذه الجملة قد أوردها أبو رية مثلا في معرض الرواية عن كعب الأحبار فقال وعن كعب الأحبار «ولا بد من كعب الأحبار وفي كل واد أثر من ثعلبة» يكون اثنا عشر مهديا ثم ينزل روح الله فيقتل الدجال. ومراد أبي رية بقوله وفي كل واد أثر من ثعلبة أن كعب الأحبار هو المتهم بوضع ما نقل عنه في خروج المهديين الاثني عشر ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام بعد ذلك وقتله الدجال، ولا يخفى ما في كلام أبي رية من التحامل على كعب الأحبار ورميه بما هو بريء منه.
وقد تقدم قول أبي الدرداء رضي الله عنه أن عند ابن الحميري لعلماً كثيراً، وقول معاوية رضي الله عنه ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء إن كان عنده لعلم كالثمار - وفي رواية كالبحار - وإن كنا فيه لمفرطين، وتقدم أيضاً قول النووي أنهم اتفقوا على كثرة علمه وتوثيقه، وتقدم أيضاً قول الحافظ ابن حجر أنه ثقة، وفي هذا
أبلغ رد على المؤلف وأبي رية وغيرهما من دجاجلة العصريين الذين قد جعلوا كعب الأحبار ووهب بن منبه غرضاً لسهامهم الخبيثة وسلما لرد الأحاديث الصحيحة واطراحها.
وأما قوله وحتى نعلم أن هذه الأحاديث حبك للكلام وصناعة محددة لوضع الأمويين.
فجوابه أن يقال من أكبر الخطأ وأسفه السفه معارضة المؤلف للأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وزعمه أنها من حبك الكلام والصناعة المحددة لوضع الأمويين، وهذا الكلام من المؤلف يدل على شدة عداوته للسنة وأهلها.
وأما قوله أخرج أبو داود من حديث ابن مسعود (وابن مسعود مظلوم ضروري) رفعه، تدور رحى الإِسلام 35 سنة أو ست وثلاثون أو سبع وثلاثون فإِن هلكوا فسبيل من هلك وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعون عاما.
فجوابه من وجهين أحدهما أن يقال إن حديث ابن مسعود رضي الله عنه صحيح رواه الإِمام أحمد وأبو داود الطيالسي وأبو داود السجستاني وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «تدور رحى الإِسلام لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين فإن يهلكوا فسبيل من هلك وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاما» قال قلت أمما مضى أم مما بقي قال «مما بقي» قال الحاكم صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي في تلخيصه.
قال الخطابي دوران الرحى كناية عن الحرب والقتال شبهها بالرحى الدوارة التي تطحن الحب لما يكون فيها من تلف الأرواح وهلاك الأنفس، وقال ابن الأثير إن كان أراد سنة خمس وثلاثين من الهجرة ففيها خرج أهل مصر وحصروا عثمان رضي الله عنه وجرى فيها ما جرى وإن كانت ستا وثلاثين ففيها كانت وقعة الجمل وإن كانت سبعا وثلاثين ففيها كانت وقعة صفين انتهى.
وقوله «وإن يقم لهم دينهم» قال الخطابي يريد بالدين ههنا الملك، قال ويشبه أن يكون أريد بهذا ملك بني أمية وانتقاله عنهم إلى بني العباس وكان ما بين أن استقر الأمر لبني أمية إلى أن ظهرت الدعوة بخراسان وضعف أمر بني أمية ودخل الوهن فيهم نحواً من سبعين سنة انتهى.
وذكر ابن كثير في «البداية والنهاية» عن البيهقي أنه قال بلغني أن في هذا إشارة إلى الفتنة التي كان منها قتل عثمان رضي الله عنه سنة خمس وثلاثين، ثم إلى الفتن التي كانت في أيام علي. وأراد بالسبعين ملك بني أمية فإِنه بقي بين ما استقر لهم الملك إلى أن ظهرت الدعاة بخراسان وضعف أمر بني أمية ودخل الوهن فيه نحواً من سبعين سنة انتهى.
الوجه الثاني أن يقال إن الظالم في الحقيقة هو المؤلف الذي قد تهجم على الأحاديث الصحيحة بجهله وقلة عقله فإِنه قد ظلم ابن مسعود رضي الله عنه بتكذيبه لحديثه الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وظلم جميع رواة الحديث والمخرجين له من الأئمة الذين تقدم ذكرهم حيث زعم أنهم قد ظلموا ابن مسعود رضي الله عنه وذلك كذب وافتراء عليهم.
وأما قوله وزاد الطبراني والخطابي أن الدجال تلده امه (بقوص) أرض مصر وبين مولده ومخرجه ثلاثون عاما.
فجوابه أن يقال هذا الكلام قد نقله المؤلف من كتاب أبي رية ولم يحسن النقل ولا الاختصار. وذلك أن أبا رية ذكر في صفحة 235 من الطبعة الثالثة لكتابه ما أخرجه أبو داود من حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا «تدور رحى الإِسلام لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين فإِن هلكوا فسبيل من هلك وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاما» ثم قال أبو رية زاد الطبراني والخطابي فقالوا سوى ما مضى قال «نعم» ، ثم ذكر أبو رية في صفحة 238 ما جاء في الدجال وقال فيه وأخرج نعيم بن حماد من طريق كعب «أن الدجال تلده أمه بقوص من أرض مصر وبين مولده ومخرجه ثلاثون سنة» وقد جاء المؤلف المخرف فلفق بين حديث ابن مسعود الذي تقدم ذكره وبين ما رواه نعيم بن حماد في الدجال وجعلهما حديثا واحداً وفي هذا التلفيق أوضح دليل على غباوة المؤلف وكثافة جهله.
وأما قوله وفي رواية لمسلم أنه يخرج من أصبهان.
فجوابه أن يقال ليست هذه الرواية عند مسلم وإنما رواها الطبراني بإِسناد ضعيف من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، ورواه الإِمام أحمد وأبو يعلى والطبراني في الأوسط من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وفي إسناده مقال، ورواه الإِمام أحمد أيضاً وابن حبان في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها
ورواه الطبراني أيضاً من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما وإسناده ضعيف، ورواه الحاكم من حديث حذيفة رضي الله عنه وإسناده ضعيف.
وأما قوله وفي حديث الجساسة عند مسلم أنه محبوس بدير أو قصر في جزيرة في الشام أو بحر اليمن.
فجوابه أن يقال قد جاء في حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها عند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مخبراً عن الدجال «ألا إنه في بحر الشام أو بحر اليمن، لا بل من قبل المشرق ما هو من قبل المشرق ما هو من قبل المشرق ما هو» وأومأ بيده إلى المشرق، وقد اختصر المؤلف ما جاء في هذه الرواية اختصاراً أخل بالرواية وذهب بالفائدة.
وأما قوله وفي حديث النواس بن سمعان عند مسلم أنه يخرج بين الشام والعراق.
فجوابه أن يقال ليس المراد بما جاء في حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه أن أول خروج الدجال يكون فيما بين الشام والعراق وإنما المراد به تعيين الطريق التي يخرج منها الدجال إلى أرض العرب وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله «انه خارج خلة بين الشام والعراق فعاث يمينا وعاث شمالا يا عباد الله فاثبتوا» وفي حديث جبير بن نفير عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الدجال «ألا وإني رأيته يخرج من خلة بين الشام والعراق فعاث يمينا وشمالا يا عباد الله اثبتوا» ثلاثا رواه الطبراني والحاكم في مستدركه وصححه ووافقه الذهبي على تصحيحه.
ويظهر من إيراد المؤلف للروايات التي جاءت في الدجال أنه قد ظن بها التعارض في الموضع الذي يخرج منه الدجال، ولا تعارض بينها، فأما ما رواه نعيم بن حماد من طريق كعب أن الدجال تلده أمه بقوص من أرض مصر فهذا لا أصل له ولا تعارض به الأحاديث المرفوعة، وأما باقي الروايات فهي متفقة ففي حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها النص على أنه من قبل المشرق، وفي الحديث الذي رواه الإِمام أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه مرفوعا «إن الدجال يخرج من أرض بالمشرق يقال لها خراسان» وفي الحديث الذي رواه الإِمام أحمد وأبو يعلى عن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعا «يخرج الدجال من
يهودية أصبهان» وأصبهان مدينة بالمشرق، وأما ما جاء في حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه فالمراد بذلك تعيين طريق الدجال التي يخرج منها إلى أرض العرب والله أعلم.
فصل
وقال المؤلف في صفحة (66) ما نصه
أحاديث أشراط الساعة وكلام الأستاذ رشيد رضا عنها، في صفحة 241، 242، 243 من كتاب أضواء على السنة المحمدية، وكلام من أهم ما يثبت براءة النبي من تلك الأحاديث.
والجواب أن أقول هذا كلام المؤلف في هذا الموضع، وأما إمامه في الضلال وقائدة إلى مهاوي الهلاك وهو أبو رية فقد قال في كتابه الذي هو ظلمات بعضها فوق بعض ما ملخصه.
«كلمة جامعة في أحاديث أشراط الساعة وأمثالها» .
انتهى رشيد رضا في تفسيره بعد أن طعن في أحاديث أشراط الساعة وأماراتها مثل الفتن والدجال والجساسة وظهور المهدي وغير ذلك إلى هذه النتائج - ثم ذكر من نتائجه أن النبي لم يكن يعلم الغيب وإنما أعلمه الله بعض الغيوب بما أنزل عليه في كتابه، ومنها أن أكثر الأحاديث قد روي بالمعنى، ومنها أن زنادقة اليهود والفرس وغيرهم من أهل الابتداع والعصبيات قد وضعوا أحاديث كثيرة افتروها وزادوا في بعض الآثار المروية دسائس دسوها وراج كثير منها بإظهار رواتها للصلاح والتقوى، ومنها أن بعض الصحابة والتابعين كانوا يروون عن كل مسلم، وما كل مؤمن صادق وقد كان في عهد النبي منافقون.
وأقول هذا حاصل النتائج من كلام رشيد رضا، ثم قال رشيد فكل حديث مشكل المتن أو مضطرب الرواية أو مخالف سنن الله تعالى في الخلق أو لأصول الدين أو نصوصه القطعية أو للحسيات وأمثالها من القضايا اليقينية فهو مظنة لما ذكرنا فمن صدق رواية مما ذكر ولم يجد فيها إشكالاً فالأصل فيها الصدق، ومن ارتاب في شيء منها أو أورد عليه بعض المرتابين أو المشككين إشكالا في متونها فليحمله على ما ذكرنا من عدم الثقة بالرواية لاحتمال كونها من دسائس الإِسرائيليات أو خطأ الرواية بالمعنى وإذا لم يكن شيء منها ثابتاً بالتواتر القطعي فلا يصح أن يجعل شبهة على صدق
الرسول صلى الله عليه وسلم المعلوم بالقطع ولا على غير ذلك من القطعيات.
والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال من أكبر الخطأ طعن رشيد رضا في أحاديث أشراط الساعة وأماراتها وغير ذلك من الأحاديث التي طعن فيها بغير حجة وهذا مما نقمه أهل العلم على رشيد رضا، وقد رد عليه غير واحد من المعاصرين له، ومنهم تلميذه الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة في ضمن رده على أبي رية فقد قال في صفحة 236 وصفحة 237 من كتابه المسمى «ظلمات أبي رية» ما نصه.
«ونقل أبو رية (ص: 215) تحت عنوان (كلمة جامعة في أحاديث أشراط الساعة وأمثالها) كلمة في نحو صفحتين عن السيد رشيد رضا من تفسيره ص 504 - 507 ج 9 فيما جاء من الأحاديث في أشراط الساعة وخروج الدجال ونزول عيسى بن مريم وغيرها، شكك فيها بأن الرواة رووها بالمعنى - يعني ويجوز الخطأ عليهم فيما فهموه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الصحابة كان فيهم منافقون وفي الرواة وضاعون تظاهروا بالصلاح فلم يعرف ما وضعوه إلا بعد توبة بعضهم وإقراره بما وضع - إلى آخر ما هو دفع في صدر الأحاديث الصحيحة وعجزها وإِضعاف الثقة بها والاحتجاج بما جاءت به.
«ونقول كلمة موجزة في سبب هذا التشكيك من السيد رشيد. تخرج على أستاذه الإِمام الشيخ محمد عبده الذي تمهر في فلسفه القرن الثامن عشر والتاسع عشر ورضعا جميعا لبان فلسفة جوستاف لوبون وكانت ونتشه وسبنسر وغيرهم من أساطين الفلسفة المادية التي تقول بجبرية الأسباب والمسببات وأن العالم يسير بنواميس لا يمكن أن تختلف أو أن ينفك مسبب عن سببه عقلا، فلم تتسع الفلسفة المادية في تفكيرهما للإِيمان بالمعجزات والخوارق من انشقاق البحر لموسى والعصا له وآيات عيسى بن مريم ورفعه للسماء ونزوله وخروج الدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها وانشقاق القمر وغيرها من الآيات.
«ولما لم تتسع فلسفتهما - فلسفة القرن الثامن عشر والتاسع عشر - لهذه الخوارق والآيات والمعجزات أخذا في تأويلها في القرآن والشك في أحاديثها.
«ولو عاش الإِمامان الشيخ محمد عبده والسيد رشيد رضا إلى منتصف القرن العشرين وعلما فلسفته التي نفت الجبرية وأنها ذهبت إلى غير رجعة وأن العالم مسير بحكمة فاعل مختار لا بجبرية حتمية كما أعلن ذلك مشرفة باشا في مقال له «تطور
العلم» ، والعالم الطبيعي الفلكي الإِنكليزي جنز في كتابه «الكون الخفي» أو المستور، ورئيس الأكاديمية الأمريكية في نيويورك صاحب كتاب «الإِنسان لا يقوم وحده» الذي يرد على هكسلي خليفة دراون في كتابه «الإِنسان يقوم وحده» وقد عرب كتاب «الإِنسان لا يقوم وحده» باسم «العلم يدعو إلى الإِيمان» .
«أقول لو عاش الإِمامان إلى هذا التجديد في الفلسفة الغربية لكان لهما رأي آخر في آيات الأنبياء وخوارقهم ومعجزاتهم، ولكان لهم إيمان وفرح بأحاديث أشراط الساعة والخوارق ولاستفادا منها علوما نفيسة من الوحي الإلهي.
«ولو كان لأبي رية أن يعرف تطور العلم وانهدام مادية القرن الثامن عشر والتاسع عشر وحلول فلسفة القرن العشرين محلها لكان يستحي من نفسه أن يقلد نظرية خاطئة محاها الزمان وطمسها ويرد بها صحيح الأحاديث ويشكك فيها.
ثم قال محمد عبد الرزاق حمزة، أنا تلميذ السيد رشيد رضا واستفدت منه ما أشكر الله عليه وأشكر أستاذي على ذلك وأترحم عليه لأجله ولكن ذلك لا يمنعني أن أخالفه إلى ما يظهر لي من الحق كما قال أحد الحكماء عن شيخه أنه يحبه والحق أحب إليه من شيخه انتهى.
وقال الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة أيضا في صفحة 271 ولقد ذكرنا فيما مضى أن الأستاذ الإِمام قد رضع فلسفة القرن التاسع عشر والثامن عشر التي كانت شائعة في أوربا في عصره، وكان أساطينها أمثال كانت وجوستاف لوبون وسبنسر وجوته وغيرهم فتعارضت عنده مع ما جاء على ألسنة الرسل من ذكر السحر والجن والشياطين وخوارق المعجزات فأراد أن يجمع بين تلك الفلسفة المادية التي تجعل الكون آلة تسيرها سنن لا تنخرم ولا تتخلف، وبين ما أثبتته الأديان من معجزات الأنبياء والرسل فذهب يؤولها حتى تنسجم مع ما رضع من فلسفة الماديين.
وذكر الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة أيضاً في صفحة 274 أن السيد رشيد حاول تأويل بعض الأحاديث وهي ما كانت تشكل عليه في الجمع بينها وبين تفكيره العصري الذي أخذه عن شيخه الأستاذ الإِمام عن فلسفة القرن التاسع عشر وما قبله من الفلسفة المادية التي لا تجتمع مع ما جاءت به الديانات انتهى.
وممن رد على رشيد رضا أيضاً تلميذه الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الجزء
الثاني عشر من مسند الإِمام أحمد فقد رد في صفحة 124 إلى أثناء صفحة 129 من هذا الجزء على الذين لعبوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه» الحديث رواه الإِمام أحمد والبخاري وأبو داود وابن ماجه والبيهقي، وقال في أثناء رده عليهم ما نصه.
«لم نر فيمن تقدمنا من أهل العلم من اجترأ على ادعاء أن في الصحيحين أحاديث موضوعة، غاية ما تكلم فيه العلماء نقد أحاديث فيهما بأعيانها لا بادعاء وضعها والعياذ بالله ولا بادعاء ضعفها، إنما نقدوا عليهما أحاديث ظنوا أنها لا تبلغ في الصحة الذروة العليا التي التزمها كل منهما. وهذا مما أخطأ فيه كثير من الناس ومنهم أستاذنا السيد رشيد رضا على علمه بالسنة وفقهه، ولم يستطع قط أن يقيم حجته على ما يرى، وأفلتت منه كلمات يسمو على علمه أن يقع فيها، ولكنه كان متأثراً أشد الأثر بجمال الدين ومحمد عبده وهما لا يعرفان في الحديث شيئاً، بل كان هو بعد ذلك أعلم منهما وأعلى قدما وأثبت رأياً لولا الأثر الباقي في دخيلة نفسه، والله يغفر لنا وله انتهى المقصود من كلامه.
وقال الشيخ محمد يوسف الكافي التونسي في كتابه «المسائل الكافية، في بيان وجوب صدق خبر رب البرية» «المسألة التاسعة والثمانون» تقدم لنا أن الذين تخرجوا على الشيخ جمال الدين الأفغاني والذين تخرجوا عمن تخرج عنه يفسرون القرآن برأيهم وينكرون بعض ما ثبت في الشرع ويعتمدون على أقوال الكفار ويهجرون قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم وقول الراسخين في العلم من المسلمين، وعندهم كلام الله تعالى ككلام البشر يتصرفون فيه بغير علم فيحق عليهم الوعيد انتهى المقصود من كلامه.
ومما ذكرته عن هؤلاء العارفين حق المعرفة برشيد رضا يتبين لكل عاقل أنه لا ينبغي الاعتماد على كلامه ولا الالتفات إلى رأيه وتفكيره إذا كان مخالفا للأحاديث الثابتة.
الوجه الثاني أن يقال إن أقوال رشيد رضا ليست ميزانا توزن به الأحاديث النبوية فيقبل منها ما وافق أقواله ويرد ما خالفها، وإنما الميزان الأسانيد فما صح منها فهو مقبول وما لم يصح منها فهو مردود، قال الإِمام الشافعي رحمه الله تعالى إذا حديث الثقة عن الثقة إلى أن ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو ثابت ولا يترك
لرسول صلى الله عليه وسلم حديث أبداً إلا حديث وجد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر يخالفه.
وقال الإِمام أحمد رحمه الله تعالى كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم إسناد جيد أقررنا به وإذا لم نقر بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ودفعناه ورددناه رددنا على الله أمره قال الله تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا).
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة جداً في الفتن والملاحم وخروج المهدي وخروج الدجال ونزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام وخروج يأجوج ومأجوج وخروج الدابة وظهور الدخان وطلوع الشمس من مغربها ووقوع الخسوف الثلاثة في المشرق والمغرب وجزيرة العرب وخروج النار التي تطرد الناس إلى محشرهم إلى غير ذلك من أشراط الساعة وأماراتها، وكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الأمور وغيرها فالإِيمان به واجب وذلك من تحقيق الشهادة بالرسالة، ولا يجوز الالتفات إلى مكابرات بعض العصريين في رد الأحاديث الثابتة وتشكيكهم فيما خالف تفكيراتهم الخاطئة وثقافتهم الغربية.
قال الشيخ الموفق أبو محمد المقدسي في كتابه «لمعة الاعتقاد» ويجب الإِيمان بكل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح به النقل عنه فيما شهدناه أو غاب عنا نعلم أنه حق وصدق وسواء في ذلك ما عقلناه وجهلناه ولم نطلع على حقيقة معناه مثل حديث الإِسراء والمعراج، ومن ذلك أشراط الساعة مثل خروج الدجال ونزول عيسى بن مريم عليه السلام فيقتله وخروج يأجوج ومأجوج وخروج الدابة وطلوع الشمس من مغربها وأشباه ذلك مما صح به النقل انتهى.
الوجه الثالث أن يقال قد ثبت في الصحيحين عن حذيفة رضي الله عنه قال «لقد خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما ترك فيها شيئا إلى قيام الساعة إلا ذكره علمه من علمه وجهله من جهله إن كنت لأرى الشيء قد نسيت فأعرفه كما يعرف الرجل الرجل إذا غاب عنه فرآه فعرفه» هذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم قال «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما ما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه قد علمه أصحابي هؤلاء وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته فأراه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب
عنه ثم إذا رآه عرفه» وقد رواه الإِمام أحمد وأبو داود بنحو رواية مسلم.
وروى الإِمام أحمد ومسلم أيضا عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال «أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة فما منه شيء إلا قد سألته إلا أني لم أسأله ما يخرج أهل المدينة من المدينة» وقد رواه أبو داود الطيالسي ولفظه قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرنا بما هو كائن إلى يوم القيامة إلا أني لم أسأله ما يخرج أهل المدينة من المدينة».
وروى الإِمام أحمد ومسلم أيضا عن أبي زيد - وهو عمرو بن أخطب الأنصاري رضي الله عنه قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر ثم نزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس فأخبرنا بما كان وبما هو كائن فأعلمنا أحفظنا.
وروى الإِمام أحمد أيضاً وأبو داود الطيالسي والترمذي والحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما صلاة العصر بنهار ثم قام خطيبا فلم يدع شيئاً يكون إلى قيام الساعة إلا أخبر به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه، قال الترمذي هذا حديث حسن. قال وفي الباب عن المغيرة بن شعبة وأبي زيد بن أخطب وحذيفة وأبي مريم ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم حدثهم بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة.
وروى الإِمام أحمد والطبراني عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما أخبرنا بما يكون في أمته إلى يوم القيامة وعاه من وعاه ونسيه من نسيه، قال الهيثمي رجال أحمد رجال الصحيح غير عمر بن إبراهيم بن محمد وقد وثقه ابن حبان.
وروى البخاري تعليقا مجزوما به ووصله الطبراني وأبو نعيم عن عمر رضي الله عنه قال قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم مقاما فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه.
وفي هذه الأحاديث دليل على أن الله تعالى قد أطلع نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم على كثير من الغيوب الماضية والآتية مما كان فيما مضى وما سيكون فيما بعد إلى
قيام الساعة وإلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار وما يكون بعد ذلك، وفيها أبلغ رد على قول رشيد رضا أن الله تعالى إنما أعلم نبيه ببعض الغيوب بما أنزل عليه في كتابه.
يوضح ذلك الوجه الرابع وهو ما جاء في الحديث الذي رواه الإِمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أوتيت مفاتيح كل شيء إلى الخمس (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير)» .
وروى الإِمام أحمد أيضاً عن عبد الله - وهو ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال «أوتي نبيكم صلى الله عليه وسلم مفاتيح كل شيء غير خمس (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير)» قال ابن كثير إسناده حسن وقال الهيثمي رواه أحمد وأبو يعلى ورجالهما رجال الصحيح.
وفي هذين الحديثين دليل على أن الله تعالى قد أطلع نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم على كثير من المغييات مما لم يذكر في القرآن، وفيهما أبلغ رد على قول رشيد رضا أن الله تعالى إنما أعلم نبيه ببعض الغيوب بما أزل عليه في كتابه.
الوجه الخامس أن يقال إن الرواية بالمعنى جائزة روي ذلك عن بعض الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وقد تقدم تقرير ذلك في الكلام على حديث الواهبة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فليراجع هناك (1).
الوجه السادس أن أقول قد ذكرت فيما تقدم (2) أن الله تعالى أقام للسنة جهابذة نقاداً بينوا أحوال الرواة وميزوا الثقات من المجروحين وبينوا أسماء الوضاعين وذكروا أحاديثهم الموضوعة ولم يتركوا شيئا من الأحاديث التي وضعتها الزنادقة وأرادوا بها الدس على ضعفاء البصيرة إلا وقد نبهوا عليها، وكذلك قد نبهوا على الأحاديث المنكرة والأحاديث الضعيفة، وبسبب هذه العناية جاءت الأحاديث الصحيحة خالصة صافية من الشوائب.
(1) ص: 123 - 125.
(2)
ص: 147.
ومع هذا فقد أبى الجريئون من العصريين والمفتونون منهم بالتفكيرات الخاطئة والثقافة الغربية إلا أن يطعنوا فيما خالف تفكيرهم وثقافتهم المنحرفة من الأحاديث الصحيحة ويشككوا فيها ولاسيما ما جاء في آيات الأنبياء ومعجزاتهم وما أيدهم الله به من خوارق العادات، وكذلك ما جاء في أشراط الساعة وأماراتها ونحو ذلك مما لا تحتمله عقولهم الضعيفة وأفهامهم القاصرة، وليست جراءتهم على رد الأحاديث الصحيحة بالأمر الهين، وقد تقدم في الفصل الأول من هذا الكتاب قول الإِمام أحمد رحمه الله تعالى من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة، وتقدم فيه أيضاً وفي الفصل الخامس أقوال كثيرة لبعض العلماء في التشديد على من يرد الأحاديث الصحيحة أو يعارضها برأيه أو رأي غيره فليراجع جميع ما تقدم فإِنه مهم جداً (1).
الوجه السابع أن يقال إن الصحابة رضي الله نهم كانوا أنبه الأمة وأشدهم عناية بأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله، وما كانوا يروون عن الكذابين ولا عن المتهمين بالنفاق، وإنما كانوا يروون عن إخوانهم الذين يثقون بهم وثوقهم بأنفسهم، ومن ظن أنهم كانوا يروون عن الكذابين أو عن المتهمين بالنفاق فقد ظن بهم ظن السوء.
قال العلامة المحقق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في رده على أبي رية، لم يمت النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد عرف أصحابه المنافقين يقينا أو ظنا أو تهمة، ولم يبق أحد من المنافقين غير متهم بالنفاق، ومما يدل على ذلك وعلى قلتهم وذلتهم وانقماعهم ونفرة الناس عنهم أنه لم يحس لهم عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حراك، ولما كانوا بهذه المثابة لم يكن لأحد منهم مجال في أن يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه يعلم أن ذلك يعرضه لزيادة التهمة ويجر إليه ما يكره، وقد سمى أهل السير والتاريخ جماعة من المنافقين لا يعرف عن أحد منهم أنه حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجميع الذين حدثوا كانوا معروفين بين الصحابة بأنهم من خيارهم انتهى.
وأما قوله وما كل مؤمن صادق.
(1) ص: 3 - 5 وص: 13 - 22.
فجوابه أن يقال أما الصحابة رضي الله عنهم فكلهم عدول باتفاق أهل العلم وكلهم معروفون بالصدق فيما يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيما يرويه بعضهم عن بعض عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن غيره، ولا يعرف عن أحد منهم أنه تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال شيخ الإِسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في رده على الأخنائي لا يعرف من الصحابة من كان يتعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان فيهم من له ذنوب لكن هذا الباب مما عصمهم الله فيه انتهى.
وأما التابعون ومن بعدهم فليسوا مثل الصحابة بل فيهم الثقات الأثبات وفيهم من ليس كذلك، وقد اعتنى علماء الجرح والتعديل ببيان أحوال الرواة والتمييز بين الثقات وغير الثقات، وقد تقدم إيضاح ذلك في الوجه السادس.
وأما قوله فكل حديث مشكل المتن أو مضطرب الرواية أو مخالف لسنن الله تعالى في الخلق أو لأصول الدين أو نصوصه القطعية أو للحسيات وأمثالها من القضايا اليقينية فهو مظنة لما ذكرنا. فمن صدق رواية مما ذكر ولم يجد فيها إشكالا فالأصل فيها الصدق، ومن ارتاب في شيء منها أو أورد عليه بعض المرتابين أو المتشككين إشكالاً في متونها فليحمله على ما ذكرنا من عدم الثقة بالرواية لاحتمال كونها من دسائس الإسرائيليات أو خطأ الرواية بالمعنى، وإذا لم يكن شيء منها ثابتا بالتواتر القطعي فلا يصح أن يجعل شبهة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم المعلوم بالقطع ولا على غير ذلك من القطعيات.
فجوابه أن يقال إن كثيراً من المفتونين بالثقافة الغربية يستشكلون من الأحاديث الصحيحة ما لا يتفق مع عقولهم وثقافتهم، فيستشكلون أحاديث الصفات ويستشكلون ما جاء في القضاء والقدر ويستشكلون آيات الأنبياء ومعجزاتهم وما يجريه الله على أيديهم من خوارق العادات ويستشكلون أحاديث الفتن وأشراط الساعة، إلى غير ذلك من الأحاديث التي يستشكلونها إذا كانت لا تتفق مع فلسفتهم وتفكيرهم وثقافتهم، ولهم طرق في الطعن في الأحاديث الصحيحة والتشكيك فيها، فتارة يزعمون أنها من الدسائس الإِسرائيلية أو من دسائس الفرس وأهل الابتداع والعصبيات، وتارة يزعمون أنها من خطأ الرواية بالمعنى، وتارة يزعمون أنها لم تثبت بالتواتر القطعي وتارة يزعمون أنها تخالف سنن الله في الخلق، وتارة برمي الصحابة بالتغفيل.
ولرشيد رضا وشيخه محمد عبده نصيب وافر من الطعن في الأحاديث الصحيحة التي تخالف تفكيرهما وثقافتهما وفلسفتهما، وأما المؤلف وإمامه أبو رية فقد ملأ كل منهما جعبته من سهام الطعن في الأحاديث الصحيحة والتشكيك فيها والطعن في بعض الصحابة وغيرهم من ثقات التابعين ومن بعدهم من أكابر العلماء ثم أفرغا ذلك في كتابيهما المشئومين عليهما وعلى من اغتر بكلامهما الباطل.
وللمؤلف وأبي رية أشباه ونظراء كثيرون من المكابرين في رد الأحاديث الصحيحة والتشكيك فيها وذلك موجود في كتب كثيرة من كتب العصريين ومقالاتهم الخاطئة وقد قال الله تعالى (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً فإِن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون).
وقد قال العلامة المحقق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في رده على آخر الجملة التي ساقها أبو رية من كلام رشيد رضا.
أما المضطرب فحكمه معروف عند أهل العلم، وأما المخالف لسنن الله فمن سنن الله أن يخرق العادة إذا اقتضت حكمته، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة لا تحصى. وأما المخالف لأصول الدين فالمتثبتون إذا سمعوا خبراً تمتنع صحته أو تبعد لم يكتبوه ولم يحفظوه فإِن حفظوه لم يحدثوا به فإِن ظهرت مصلحة لذكره ذكروه مع القدح فيه وفي الراوي الذي عليه تبعته، قال الإِمام الشافعي في الرسالة ص 399 «وذلك أن يستدل على الصدق والكذب فيه بأن يحدث المحدث ما لا يجوز أن يكون مثله أو ما يخالفه ما هو أثبت وأكثر دلالات بالصدق منه» وقال الخطيب في الكفاية في علم الرواية ص 429 «باب وجوب اطراح المنكر والمستحيل من الأحاديث» قال المعلمي وفي الرواة جماعة يتسامحون عند السماع وعند التحديث لكن الأئمة بالمرصاد للرواة، فلا تكاد تجد حديثا بين البطلان إلا وجدت في سنده واحداً أو اثنين أو جماعة قد جرحهم الأئمة، والأئمة كثيراً ما يجرحون الراوي بخبر واحد منكر جاء به فضلا عن خبرين أو أكثر، ويقولون للخبر الذي تمتنع صحته أو تبعد «منكر» أو «باطل» وتجد ذلك كثيراً في تراجم الضعفاء وكتب العلل والموضوعات، والمتثبتون لا يوثقون الراوي حتى يستعرضوا حديثه وينقدوه حديثا حديثا، فأما تصحيح الأحاديث فهم به أعنى وأشد احتياطا - إلى أن قال - وبالجملة لا نزاع أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخبر عن ربه وغيبه بباطل، فإِن روي عنه خبر تقوم الحجة على
بطلانه فالخلل من الرواية، لكن الشأن كل الشأن في الحكم بالبطلان فقد كثر اختلاف الآراء والأهواء والنظريات وكثر غلطها، ومن تدبرها وتدبر الرواية وأمعن فيها وهو ممن رزقه الله تعالى الإِخلاص للحق والتثبت علم أن احتمال خطأ الرواية التي يثبتها المحققون من أئمة الحديث أقل جداً من احتمال خطأ الرأي والنظر، فعلى المؤمن إذا أشكل عليه حديث قد صححه الأئمة ولم تطاوعه نفسه على حمل الخطأ على رأيه ونظره أن يعلم أنه إن لم يكن
الخلل في رأيه ونظره وفهمه فهو في الرواية، وليفرغ إلى من يثق بدينه وعلمه وتقواه مع الابتهال إلى الله عز وجل فإِنه ولي التوفيق انتهى.
وهذا آخر الجزء الأول من الرد على عدو السنة صالح أبي بكر المصري، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وتمسك بسنته.
وقد كان الفراغ من كتابة هذه النسخة في آخر شهر رمضان المبارك سنة 1401 هـ ، على يد جامعها الفقير إلى الله تعالى حمود بن عبد الله بن حمود التويجري غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين والمسلمات، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.