المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ صحيفة علي رضي الله عنه كانت على غاية من الأهمية - الرد القويم على المجرم الأثيم

[حمود بن عبد الله التويجري]

الفصل: ‌ صحيفة علي رضي الله عنه كانت على غاية من الأهمية

أمام بيت صاحب الدم وما هو أهم من تسنينها وهو التوحيد وما يتشعب عنه، فهل آن لنا أن نعطي لكلام نبينا كل اهتمامنا الذي يصفيه من الكذب الإِسرائيلي.

فجوابه من وجوه أحدها أن يقال إن يقين المؤلف الذين قطع به في تكذيبه لروايات البخاري لصحيفة علي رضي الله عنه ليس بيقين في الحقيقة وإنما هو تخرص وظن كاذب، وقد قال الله تعالى (قتل الخراصون) وقال تعالى (إن بعض الظن إثم) وقال تعالى (وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً) وفي الحديث الصحيح «إياكم والظن فإِن الظن أكذب الحديث» متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وما قطع به المؤلف وتيقنه فهو باطل قطعاً ومردود لما فيه من تكذيب الحق الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

الوجه الثاني أن يقال إن صحيفة علي رضي الله عنه ثابتة من طرق صحيحة تفيد القطع عند أهل العلم، وقد تقدم ذكرها قريباً فلتراجع، ولا ينكر صحيفة علي رضي الله عنه أو يقدح فيها أو في شيء مما ذكر فيها إلا مكابر معاند.

الوجه الثالث أن يقال إن‌

‌ صحيفة علي رضي الله عنه كانت على غاية من الأهمية

لأنها قد اشتملت على أحكام كثيرة وقضايا مهمة ومنها فرائض الصدقة، وزيادة على ذلك أنها مأخوذة من النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في رواية طارق بن شهاب أن عليا رضي الله عنه قال أن النبي صلى الله علي وسلم أعطاه الصحيفة. وعلى هذا فكتابته صلى الله عليه وسلم لهذه الصحيفة مثل كتابته لأهل اليمن كتاباً فيه الفرائض والسنن والديات وقد بعث به مع عمرو بن حزم رواه مالك مختصراً والنسائي مطولاً وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم، وروى الإِمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال «كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقة فلم يخرجه إلى عماله حتى قبض فقرنه بسيفه فعمل به أبو بكر حتى قبض ثم عمل به عمر حتى قبض» الحديث.

وفي كتابته صلى الله عليه وسلم لهذه الكتب الثلاثة دليل على أهميتها، ومن أنكر أهمية صحيفة علي رضي الله عنه فلا يبعد أن ينكر أهمية الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل اليمن وينكر أهمية كتاب الصدقة الذي كتبه

ص: 150

رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات قبل أن يخرجه وعمل به أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. ولا ينكر أهمية الفرائض والسنن وأحكام الديات وغير ذلك من القضايا التي اهتم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتبها في الكتب الثلاثة إلا من هو زائغ القلب محاد لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

الوجه الرابع أن يقال مما يدل على غباوة المؤلف وكثافة جهله ظنه أن العقل المذكور في صحيفة علي رضي الله عنه هو مجرد عقل الإِبل أمام بيت صاحب الدم، وقد تقدم بيان العقل (1) وأنه الدية. والمراد بما في الحديث بيان أحكام الديات ومقاديرها وأصنافها. وأما عقل الإِبل بفناء أولياء المقتول فليس بشرط يلزم القاتل فعله وإنما هو من العادات المعروفة عند العرب ولأجل هذه العادة سمو الدية عقلاً وقد أقر الإِسلام هذه التسمية. ولو أن القاتل سلم الإِبل لأولياء المقتول بغير فنائهم وبدون عقلها لما كان عليه في ذلك شيء ولم يكن تغييره للعادة مزيلاً لاسم العقل عن الدية. والمقصود هنا بيان أن عقل الإِبل بفناء أولياء المقتول ليس له أهمية كما توهم ذلك المؤلف وإنما الأهمية لبيان أحكام الديات وهو المراد في صحيفة علي رضي الله عنه.

الوجه الخامس أن يقال إن بيان أسنان الإِبل التي تؤخذ في دية النفس والجراحات وفرائض الصدقة له أهمية كبيرة ولا يستهين بهذه الأهمية إلا جاهل أو معاند، والمؤلف لا يخرج عن أحد الوصفين.

الوجه السادس أن يقال إن الأحاديث الصحيحة التي خرجها البخاري ومسلم في صحيحيهما كلها صافية من أكاذيب الوضاعين. وكذلك الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم مما خرجه أهل السنن والمسانيد فكلها صافية من الكذب. وإنما البلاء كل البلاء من تلامذة الإِفرنج ومن يقلدهم ويحذو حذوهم من جهال العصريين وزنادقتهم فهؤلاء هم الذين نصبوا العداوة للأحاديث الصحيحة وشككوا فيها وزعموا أن كثيراً منها من الدس الإِسرائيلي، وقد كذبوا فيما زعموا وجاءوا ظلماً وزوراً، ولا شك أن هؤلاء هم أهل الدس على المسلمين وأنهم شر من

(1) ص: 140.

ص: 151

اليهود وأعظم منهم ضرراً على الإِسلام والمسلمين. والله المسئول أن يطهر الأرض منهم ومن أمثالهم من أهل الشر والفساد.

فصل

وقال المؤلف في صفحة (30) ما نصه

تحذير النبي - ص - للأمة من التقول عليه وضرورة الرجوع إلى القرآن في كل حديث. يقول صاحب أضواء على السنة ص 99 وقد نبه رسول الله - ص - وحذر من التقول عليه فقال عليه الصلاة والسلام «إن الأحاديث ستكثر بعدي كما كثرت عن الأنبياء قبلي فما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله تعالى فما وافقه كتاب الله فهو عني قلته أم لم أقله» .

والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال ما زعمه المؤلف من ضرورة الرجوع إلى القرآن في كل حديث. فهو قول باطل يرده قول الله تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وهذا أمر مطلق بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أمر به والانتهاء عما نهى عنه ولم يقيد ذلك بالعرض على القرآن وموافقته، وقال تعالى (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) وقال تعالى (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً) وفي هذه الآية الكريمة الحث على التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الآية قبلها التحذير من مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم والتشديد في ذلك. وليس في الآيتين تقييد التأسي والطاعة بالعرض على القرآن وموافقته، فمن ادعى التقييد واستدل على ذلك بالحديث الموضوع فقد خالف كتاب الله تعالى وقيد ما هو مطلق فيه.

ومما يرد به زعم المؤلف أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل ينثني شبعاناً على أريكته يقول عليكم بالقرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه» الحديث رواه الإِمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارمي وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة من حديث المقدام بن معد يكرب الكندي رضي الله عنه وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب

ص: 152

وصححه الحاكم وأقره الذهبي وزاد الترمذي وابن ماجه والدارمي «ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مثل ما حرم الله» وفي رواية ابن حبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إني أوتيت الكتاب وما يعدله» .

وروى الإِمام أحمد عن أبي رافع رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا أعرفن ما يبلغ أحدكم من حديثي شيء وهو متكئ على أريكته فيقول ما أجد هذا في كتاب الله تعالى» ورواه أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في تلخيصه، ولفظه عند أبي داود «لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه» وفي رواية ابن حبان «لا أعرفن الرجل يأتيه الأمر من أمري إما أمرت به وإما نهيت عنه فيقول ما ندري ما هذا، عندنا كتاب الله ليس هذا فيه» وفي رواية الحاكم «فيقول ما وجدنا في كتاب الله عملنا به وإلا فلا» .

وفي هذا الحديث والحديث قبله علم من أعلام النبوة لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيكون في أمته أقوام يعارضون السنة بالقرآن، وقد وقع الأمر طبق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم وقد كثروا في زماننا لا كثرهم الله.

الوجه الثاني أن يقال إن الحديث الذي أورده أبو رية في ظلماته على السنة ونقله عنه المؤلف في ظلماته أيضا حديث موضوع، قال البيهقي في المدخل والحديث الذي روي في عرض الحديث على القرآن باطل لا يصح وهو ينعكس على نفسه بالبطلان فليس في القرآن دلالة على عرض الحديث على القرآن انتهى وقد نقله عنه السيوطي في كتابه «مفتاح الجنة» .

وقال الشيخ أبو عمر ابن عبد البر النمري في كتابه «جامع بيان العلم وفضله» في «باب موضع السنة من الكتاب وبيانها له» وقد أمر الله جل وعز بطاعته - أي طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم واتباعه أمراً مطلقاً مجملاً لم يقيد بشيء كما أمرنا باتباع كتاب الله ولم يقل وافق كتاب الله كما قال بعض أهل الزيغ، قال عبد الرحمن بن مهدي الزنادقة والخوارج وضعوا ذلك الحديث، يعني ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله فإِن وافق كتاب الله فأنا قلته وإن خالف كتاب الله فلم أقله وإنما أنا موافق كتاب الله وبه هداني الله» وهذه

ص: 153

الألفاظ لا تصح عنه صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه. وقد عارض هذا الحديث قوم من أهل العلم وقالوا نحن نعرض هذا الحديث على كتاب الله قبل كل شيء ونعتمد على ذلك قالوا فلما عرضناه على كتاب الله وجدناه مخالفاً لكتاب الله لأنا لم نجد في كتاب الله أن لا يقبل من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما وافق كتاب الله بل وجدنا كتاب الله يطلق التأسي به والأمر بطاعته ويحذر من المخالفة عن أمره جملة على كل حال انتهى.

وقريب من الحديث الذي اعتمد عليه المؤلف وأبو رية في معارضة الأحاديث الصحيحة ما ذكره ابن الجوزي في الموضوعات من طريق أشعث بن نزار عن قتادة عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا حدثتم عني بحديث يوافق الحق فخذوا به حدثت أو لم أحدث» قال ابن الجوزي بعد إيراده قال العقيلي ليس لهذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم إسناد يصح، وللأشعت هذا غير حديث منكر قال يحيى أشعت ليس بشيء، وذكر أبو سليمان الخطابي عن الساجي عن يحيى بن معين قال هذا الحديث وضعته الزنادقة، قال الخطابي هو باطل لا أصل له انتهى.

الوجه الثالث أن يقال من عجيب أمر المؤلف وأبي رية ردهما للأحاديث الصحيحة وقبولهما للحديث الموضوع واعتمادهما عليه في معارضة الأحاديث الصحيحة واطراحها والدس على ضعفاء البصيرة من المسلمين وإدخال الشبه والشكوك عليهم وتنفيرهم من قبول الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولا شك أن فعلهما هذا ناشئ عما في قلوبهما من الزيغ وفساد الاعتقاد. وقد قال الله تعالى (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً فإِن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء) فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون).

فصل

وقال المؤلف في صفحة (31) ما نصه

ويقول الأستاذ أبو ريا في كتابه أضواء على السنة في ص 99 وقد روي أن قوماً من الفرس واليهود وغيرهم لما رأوا أن الإِسلام قد ظهر وعم ودوخ وأذل جميع

ص: 154

الأمم ورأوا أنه لا سبيل إلى مناصبته رجعوا إلى الحيلة والمكيدة فأظهروا الإِسلام من غير رغبة فيه وأخذوا أنفسهم بالتعبد والتقشف فلما حمد الناس طريقتهم دسوا الأحاديث والمقالات وفرقوا الناس فرقاً، قال المؤلف ونضيف إلى ذلك أن نقل الحديث بالمعنى وليس باللفظ والنص الذي نطق به النبي فتح باب الزيادة والنقص في كلامه وجعل للرواة علة في الإِضافة والحذف تسوية لمواقف معينة من الأمراء والخلفاء والحكام في زمن الفتنة التي غشيت المسلمين وفتحت عليهم أبواب الشرور.

والجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن يقال إن الله تعالى قد أقام للسنة المحمدية جهابذة نقاداً بينوا أحوال الرواة وميزوا الثقات من المجروحين وبينوا أسماء الوضاعين وذكروا أحاديثهم الموضوعة ولم يتركوا شيئاً من الأحاديث التي وضعتها الزنادقة وأرادوا بها الدس واللبس على ضعفاء البصيرة إلا وقد نبهوا عليها، وكذلك قد نبهوا على الأحاديث الضعيفة والمنكرة وبسبب هذه العناية جاءت الأحاديث الصحيحة خالصة صافية من الشوائب وفي طليعتها الصحيحان اللذان هما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى وقد تلقتهما الأمة بالقبول وأجمع العلماء على صحتهما. وقد أجار الله هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة كما في الحديث الذي رواه أبو داود عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله أجاركم من ثلاث خلال لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعاً وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق وأن لا تجتمعوا على ضلالة» .

وروى الإِمام أحمد والطبراني عن أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «سألت الله أن لا يجمع أمتي على ضلالة فأعطانيها» .

وروى الترمذي والحاكم وأبو نعيم في الحلية عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الله لا يجمع أمتي أو قال أمة محمد على ضلالة ويد الله على الجماعة ومن شذ شذ إلى النار» .

وروى ابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن أمتي لا تجتمع على ضلالة» .

وروى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يجمع الله أمتي على ضلالة أبداً» .

ص: 155

وهذه الأحاديث يشد بعضها بعضاً وفيها رد على من طعن في شيء من أحاديث الصحيحين وشذ بذلك عن جماعة المسلمين الذين تلقوهما بالقبول وخالف إجماع العلماء على صحتهما، ومن أولئك الشاذين عن جماعة المسلمين أبو رية والمؤلف وأشباههما من تلامذة الإِفرنج ومن يقلدهم ويتزلف إليهم بالطعن في الأحاديث الثابتة ورواتها.

الوجه الثاني أن المؤلف وجه التهمة إلى الرواة على وجه العموم في الإضافة إلى الأحاديث والحذف منها تسوية للمواقف من الأمراء والخلفاء والحكام، وهذا خطأ ظاهر لأن الرواة فيهم الثقات الأثبات الذين يحافظون على أداء الحديث كما سمعوه وهؤلاء لا يتوجه إليهم شيء من التهم، ومن وجه التهمة إليهم فقد افترى عليهم ووصفهم بما ليس فيهم. ومن الرواة الثقات من يحافظ على المعنى وإن كان قد يقع منه تغيير في بعض الألفاظ وهؤلاء دون الذين قبلهم في الحفظ والضبط ومع هذا فلا يتوجه إليهم شيء من التهم.

وأما الرواة الذين ليسوا بثقات فهم أهل الزيادة والنقص في المعاني والألفاظ وهم أهل التزلف عند الأمراء والخلفاء والحكام، وهؤلاء ليسوا أمناء على الحديث فلا يعتد بهم وقد بين العلماء من أهل الجرح والتعديل أحوالهم كما تقدم التنبيه على ذلك في الوجه الأول، وفي تسوية المؤلف بين هؤلاء المجروحين وبين الثقات الأثبات تمويه وتبليس على ضعفاء البصيرة.

فصل

وقال المؤلف في صفحة (31) ما نصه

التحريف من أسباب الزيادة في كلام النبي - ص - ومثال ذلك أن عائشة حينما سمعت أن أبا هريرة حدث أن رسول الله - ص - قال «إن يكن الشؤم ففي ثلاث الدار والمرأة والفرس» غضبت وقالت والله ما قال هذا رسول الله قط وإنما قال «أهل الجاهلية يقولون إن يكن الشؤم ففي ثلاث الدار والمرأة والفرس» فدخل أبو هريرة فسمع آخر الحديث ولم يسمع أوله.

والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال إن عنوان المؤلف ظاهر في رميه أبا هريرة رضي الله عنه بالتحريف والزيادة في كلام النبي صلى الله عليه وسلم،

ص: 156

ويدل على ذلك تمثيله لذلك بالحديث الذي حدث به أبو هريرة رضي الله عنه وأنكرته عائشة رضي الله عنها. ورمي أبي هريرة رضي الله عنه بالتحريف والزيادة في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالأمر الهين، وقد قال الله تعالى (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً).

الوجه الثاني أن يقال إن أبا هريرة رضي الله عنه لم ينفرد برواية حديث «الشؤم في ثلاث» بل قد رواه عمر وابنه عبد الله وسهل بن سعد وجابر بن عبد الله وسعد بن أبي وقاص وأنس بن مالك وأم سلمة رضي الله عنهم، فأما حديث عمر رضي الله عنه فسيأتي في آخر الأحاديث. وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فرواه مالك وأحمد والبخاري ومسلم وأهل السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا عدوى ولا طيرة والشؤم في ثلاث في المرأة والدار والدابة» هذا لفظ البخاري في باب الطيرة.

وأما حديث سهل بن سعد رضي الله عنه فرواه مالك والبخاري ومسلم وابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن كان ففي المرأة والفرس والمسكن» يعني الشؤم.

وأما حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فرواه مسلم والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن كان في شيء ففي الربع والخادم والفرس» .

وأما حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فرواه أبو داود في سننه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول «لا هامة ولا عدوى ولا طيرة وإن تكن الطيرة في شيء ففي الفرس والمرأة والدار» .

وأما حديث أنس بن مالك رضي الله عنه فرواه ابن حبان في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا طيرة والطيرة على من تطير وإن يك في شيء ففي الدار والفرس والمرأة» وقد أشار الترمذي إلى حديث أنس رضي الله عنه بعد إيراده لحديث ابن عمر رضي الله عنهما.

وأما حديث أم سلمة رضي الله عنها فرواه ابن ماجه بعد رواية الزهري عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الشؤم في ثلاث في الفرس والمرأة والدار» قال الزهري فحدثني أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة أن جدته زينب

ص: 157

حدثته عن أم سلمة رضي الله عنها أنها كانت تعد هؤلاء الثلاثة وتزيد معهن السيف، قال في الزوائد إسناده صحيح على شرط مسلم فقد احتج مسلم بجميع رواته وأصل الحديث في الصحيحين وانفرد ابن ماجه بذكر السيف فلذلك أوردته، أي في الزوائد.

وأما حديث عمر رضي الله عنه فرواه أبو يعلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الشؤم في ثلاثة في الدابة والمسكن والمرأة» قال الهيثمي في مجمع الزوائد رجاله رجال الصحيح خلا عبد الله بن بديل بن ورقاء وهو ثقة انتهى.

فهذه سبعة أحاديث صحيحة تؤيد حديث أبي هريرة رضي الله عنه وترد على من أنكره وعلى من رمى أبا هريرة رضي الله عنه بما هو بريء منه من التحريف والزيادة في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الوجه الثالث أن يقال إن الحديث الذي ذكره المؤلف قد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده من حديث مكحول قال قيل لعائشة إن أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الشؤم في ثلاث في الدار والمرأة والفرس» فقالت عائشة لم يحفظ أبو هريرة لأنه دخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «قاتل الله اليهود يقولون الشؤم في ثلاث في الدار والمرأة والفرس» فسمع آخر الحديث ولم يسمع أوله، وهذا منقطع لأن مكحولاً لم يسمع من عائشة رضي الله عنها، لكن رواه الإِمام أحمد في مسنده بأسانيد صحيحة عن أبي حسان الأعرج أن رجلين دخلا على عائشة فقالا إن أبا هريرة يحدث أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول «إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار» قال فطارت شقة منها في السماء وشقة في الأرض فقالت والذي أنزل القرآن على أبي القاسم ما هكذا كان يقول ولكن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول «كان أهل الجاهلية يقولون الطيرة في المرأة والدار والدابة» ثم قرأت عائشة (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب) إلى آخر الآية.

قوله فطارت شقة منها في السماء وشقة في الأرض، قال ابن الأثير في النهاية هو مبالغة في الغضب والغيظ يقال قد انشق فلان من الغضب والغيظ كأنه امتلأ باطنه منه حتى انشق ومنه قوله تعالى (تكاد تميز من الغيظ) انتهى.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه «مفتاح دار السعادة» وقد اختلف في

ص: 158

هذا الحديث - يعني قوله «الشؤم في ثلاث» وكانت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تنكر أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وتقول إنما حكاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل الجاهلية وأقوالهم - إلى أن قال - والمقصود أن عائشة رضي الله عنها ردت هذا الحديث وأنكرته وخطأت قائله، ولكن قول عائشة رضي الله عنها هذا مرجوح ولها رضي الله عنها اجتهاد في رد بعض الأحاديث الصحيحة خالفها فيه غيرها من الصحابة وهي رضي الله عنها لما ظنت أن هذا الحديث يقتضي إثبات الطيرة التي هي من الشرك لم يسعها غير تكذيبه ورده ولكن الذين رووه ممن لا يمكن رد روايتهم، ولم ينفرد بهذا أبو هريرة وحده ولو انفرد به فهو حافظ الأمة على الإطلاق وكل ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو صحيح. بل قد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر بن الخطاب وسهل بن سعد الساعدي وجابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهم وأحاديثهم في الصحيح فالحق أن الواجب بيان معنى الحديث ومباينته للطيرة الشركية. ثم ذكر كلام العلماء في بيان معنى الحديث وأطال في ذلك فليراجع فإِنه مهم جداً.

وقد جاء بيان معنى الحديث في حديث عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها مرفوعاً «إن من شقاء المرء في الدنيا ثلاثة سوء الدار وسوء المرأة وسوء الدابة قالت يا رسول الله ما سوء الدار قال سوء ساحتها وخبث جيرانها قيل فما سوء الدابة قال منعها ظهرها وسوء خلقها قيل فما سوء المرأة قال عقم رحمها وسوء خلقها» رواه الطبراني قال الهيثمي وفيه من لم أعرفهم.

وقال النووي في شرح مسلم اختلف العلماء في هذا الحديث فقال مالك وطائفة هو على ظاهره وإن الدار قد يجعل الله تعالى سكناها سببا للضرر أو الهلاك وكذا اتخاذ المرأة أو الفرس أو الخادم قد يحصل الهلاك عنده بقضاء الله تعالى، ومعناه قد يحصل الشؤم في هذه الثلاثة كما صرح به في رواية «إن يكن الشؤم في شيء» . وقال الخطابي وكثيرون هو في معنى الاستثناء من الطيرة أي الطيرة منهي عنها إلا أن يكون له دار يكره سكناها أو امرأة يكره صحبتها أو فرس أو خادم فليفارق الجميع بالبيع ونحوه وطلاق المرأة، وقال آخرون شؤم الدار ضيقها وسوء جيرانها وأذاهم وشؤم المرأة عدم ولادتها وسلاطة لسانها وتعرضها للريب وشؤم الفرس أن لا يغزى عليها وقيل

ص: 159

حرانها وغلاء ثمنها وشؤم الخادم سوء خلقه وقلة تعهده لما فوض إليه، وقيل المراد بالشؤم هنا عدم الموافقة انتهى.

وقد ذكر ابن القيم كلام الخطابي وقال بعد قوله فليفارق الجميع بالبيع والطلاق ونحوه. قال ولا يقيم على الكراهة والتأذي به فإِنه شؤم، وقد سلك هذا المسلك أبو محمد ابن قتيبة في كتاب مشكل الحديث له لما ذكر أن بعض الملاحدة اعترض بحديث هذه الثلاثة انتهى المقصود ويراجع بقية كلامه في كتابه «مفتاح دار السعادة» .

فصل

وقال المؤلف في صفحة (31) و (32) ما نصه

النقل المطبوع دون التقيد بنص تركه رسول الله مدوناً كان سبباً للتغيير والتحريف في الحديث، وتجديد الطبع وتكرار النسخ على مر الأيام وتعاقب السنين الطويلة وخصوصاً السنين المشحونة بمكر المتآمرين على الدين الإِسلامي وعلى المسلمين يعتبر باباً فسيحاً للتغيير والتحريف في الحديث وخصوصاً بعد أن تلقفه المسلمون من سبل متعددة ومن نصوص مفتوحة دون تقيد بصيغة محددة اكتفاء بالمعنى الواسع فقط لأنه لم يدون في عهد النبي - ص - ولا في عهد الخلفاء الراشدين. وإنا نعتقد أننا لو واجهنا البخاري الآن ببعض ما جاء في كتابه لاستبرأ مما لا يرضاه لدينه ولنبيه وللمسلمين استناداً إلى أن الناس قد تداولوها بمعاني نصوصها مفتوحة للناقلين وليس بلفظ مقيد مربوط عن رسول الله.

والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال إن الله تبارك وتعالى قد حفظ أحاديث نبيه صلى الله عليه وسلم كما حفظ كتابه العزيز وأقام لها من العلماء الأمناء من اعتنى بها وحافظ على سلامتها من التغيير والتحريف مما قد يقع من تكرار النسخ وتجديد الطبع فلم تزل سليمة بحمد الله تعالى. ولا تزال كذلك ما دامت الطائفة المنصورة باقية لقول النبي صلى الله عليه وسلم «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك» رواه الإِمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه والبرقاني في صحيحه من حديث ثوبان رضي الله عنه وقال الترمذي هذا حديث صحيح، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة صحيحة تبلغ حد التواتر. وقد ذكرتها في كتابي «إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط

ص: 160

الساعة» فلتراجع هناك في «باب ما جاء في الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة» .

وفي قوله «ظاهرين على الحق» دليل على تمسكهم بالكتاب والسنة لأن الحق هو ما جاء فيهما ومن يكون ظاهراً على الحق لا بد أن يكون عاملا بالكتاب والسنة لقول النبي صلى الله عليه وسلم «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله» رواه مالك في الموطأ بلاغاً والحاكم في مستدركه موصولاً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وصححه وأقره الذهبي.

وروى الحاكم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض» .

ويدل حديث ثوبان أيضا على أن السنة لا تزال محفوظة من التغيير والتحريف لأنها من الحق الذي كانت عليه الطائفة المنصورة والحق لا بد أن يكون محفوظاً لقول الله تعالى (ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون).

وأيضا فإِن السنة من الذكر وقد قال الله تعالى (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وقد تقدم تقرير ذلك وكلام ابن حزم فيه عند الكلام على الدافع التاسع من دوافع المؤلف لتأليف كتابه المشؤم عليه وعلى من اغتر به فليراجع (1) كلام ابن حزم فإنه كلام حسن جيد جداً.

فأما التغيير في بعض الحروف والكلمات مما لا يتغير به معنى الحديث فهذا لا ينكر وجوده ولكن ذلك لا يضر ولا يعد من التغيير والتحريف المذموم الذي يتغير به معنى الحديث ويؤدي إلى تغيير مراد النبي صلى الله عليه وسلم.

الوجه الثاني أن يقال لهذا الأحمق المعجب بنفسه إنك لو واجهت البخاري لكنت مثل الأرنب عند الأسد فكما أن الأرنب لا تبرز عند الكلب والسنور فضلا عن الذئب فضلاً عن الأسد فكذلك هذا الأهوج المغرور لا يقدر أن يبرز عند صغار المحدثين فضلاً عن الأئمة الحفاظ فضلاً عن أكابر الأئمة كالبخاري وأمثاله فمنزلته مع هؤلاء أصغر وأحقر من منزلة الأرنب مع الأسد ولكن الأمر فيه كما قيل:

(1) ص: 89 - 90.

ص: 161

وإذا الجبان خلا بأرض قفر

طلب الطعن وحده والنزالا

الوجه الثالث أن يقال إن البخاري قد واجهه أكابر علماء الحديث والجرح والتعديل في زمانه فما تعلق عليه أحد منهم بسقطة ولا عاب عليه أحد منهم ولا خطأه في شيء من الأحاديث التي جمعها في صحيحه. بل إنهم أكثروا الثناء عليه وأقروا له بالحفظ وأذعنوا له بالفضل. وقد تقدم ذكر بعض ما وقع له معهم في الكلام على البند الثالث من بنود المؤلف التي جعلها للتعريف بكتابه فليراجع (1).

ويكفي في الثناء على البخاري قول إمام أهل السنة أحمد بن حنبل ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل رواه القاضي أبو الحسين في طبقات الحنابلة من طريق عبد الله بن الإِمام أحمد. ورواه النووي في كتابه «تهذيب الأسماء واللغات» .

قال النووي وروينا عن أبي عبد الله محمد بن يوسف الفربري راوية صحيح البخاري قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال أين تريد قلت أريد محمد بن إسماعيل البخاري فقال اقرئه مني السلام. ورواه الخطيب في تاريخه بمثله.

قلت قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من عدة أوجه أنه قال «من رآني في المنام فقد رآني فإِن الشيطان لا يتمثل بي» رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه الترمذي أيضا عن ابن مسعود رضي الله عنه، ورواه مسلم أيضا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، ورواه البخاري أيضا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. ورواه البخاري ومسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه.

قال النووي وروينا عن الفربري قال رأيت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله في النوم خلف النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم يمشي كلما رفع قدمه وضع البخاري قدمه في ذلك الموضع.

قلت وروى الخطيب في تاريخه عن أبي أحمد بن عدي سمعت الفربري يقول سمعت نجم بن فضيل وكان من أهل الفهم - يقول رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام خرج من قبره والبخاري يمشي خلفه فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا

(1) ص: 41 - 42.

ص: 162

خطا خطوة يخطو محمد ويضع قدمه على خطوة النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر الحافظ ابن حجر عن الفربري سمعت محمد بن حاتم وراق البخاري يقول رأيت البخاري في المنام خلف النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم يمشي فكلما رفع النبي صلى الله عليه وسلم قدمه وضع أبو عبد الله قدمه في ذلك الموضع.

قال النووي وعن الحافظ أبي علي صالح بن محمد جزرة قال ما رأيت خراسانيا أفهم من البخاري. وعن محمد بن بشار شيخ البخاري ومسلم قال حفاظ الدنيا أربعة أبو زرعة بالري ومسلم بن الحجاج بنيسابور وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي بسمرقند ومحمد بن إسماعيل ببخارى. وعنه قال ما قدم علينا يعني البصرة مثل البخاري. وعنه أنه قال حين دخل البخاري البصرة دخل اليوم سيد الفقهاء. وعنه أنه حين قدم البخاري البصرة قام إليه فأخذ بيده وعانقه وقال مرحباً بمن أفتخر به منذ سنين.

وروينا عن إسحاق بن أحمد بن خلف قال سمعت البخاري غير مرة يقول ما تصاغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني فذكر لعلي بن المديني قول البخاري هذا فقال ذروا قوله هو ما رأى مثل نفسه. وروينا عن محمد بن نمير وأبي بكر بن أبي شيبة قالا ما رأينا مثل محمد بن إسماعيل، وروينا عن عمرو بن علي الفلاس قال حديث لا يعرفه البخاري ليس بحديث. وروينا عن عبدان شيخ البخاري قال ما رأيت شاباً أبصر من هذا وأشار إلى البخاري، وروينا عن عبد الله بن محمد المسندي بفتح النون قال محمد بن إسماعيل إمام فمن لم يجعله إماما فاتهمه، وروينا عن الإِمام أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي قال رأيت العلماء بالحرمين والحجاز والشام والعراق فما رأيت فيهم أجمع من أبي عبد الله البخاري.

وروينا عن أبي سهل محمود بن النضر قال دخلت البصرة والشام والحجاز والكوفة ورأيت علماءها فكلما جرى ذكر البخاري فضلوه على أنفسهم، وروينا عن علي بن حجر قال أخرجت خراسان ثلاثة أبا زرعة بالري ومحمد بن إسماعيل ببخارى والدارمي بسمرقند قال والبخاري عندي أعلمهم وأفهمهم، وروينا عن أبي حامد الأعمش قال رأيت محمد بن إسماعيل البخاري في جنازة ومحمد بن يحيى الذهلي يعني شيخ البخاري وإمام نيسابور يسأله عن الأسماء والكنى وعلل الحديث والبخاري يمر فيها مثل السهم كأنه يقرأ (قل هو الله أحد) ، وروينا عن حاشد بالحاء المهملة وكسر الشين المعجمة بن إسماعيل قال رأيت إسحاق بن راهويه جالساً على السرير

ص: 163

ومحمد بن إسماعيل معه فأنكر عليه محمد بن إسماعيل شيئاً فرجع إسحاق إلى قول محمد وقال إسحاق يا معشر أصحاب الحديث اكتبوا عن هذا الشاب فإِنه لو كان في زمن الحسن البصري لاحتاج الناس إليه لمعرفته بالحديث وفهمه، وروينا عن أبي عمرو أحمد بن نصر الخفاف قال حدثني محمد بن إسماعيل البخاري التقي النقي العالم الذي لم أر مثله.

وروينا عن أبي عيسى الترمذي قال لم أر بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد أعلم من محمد بن إسماعيل، وروينا عن عبد الله بن حماد الآملي وهو شيخ البخاري أنه قال وددت أني شعرة في صدر محمد بن إسماعيل، وروينا عن محمد بن يعقوب الحافظ عن أبيه قال رأيت مسلم بن الحجاج بين يدي البخاري يسأله سؤال الصبي المعلم، وروينا عن الإِمام مسلم بن الحجاج أنه قال للبخاري لا يبغضك إلا حاسد وأشهد أنه ليس في الدنيا مثلك، وروى الحاكم أبو عبد الله في تأريخ نيسابور بإِسناده عن أحمد بن حمدون قال جاء مسلم بن الحجاج إلى البخاري فقبل بين عينيه وقال دعني أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدثين ويا طبيب الحديث في علله، وروينا عن حاشد بن إسماعيل قال كان أهل البصرة يعدون خلف البخاري في طلب الحديث وهو شاب حتى يغلبوه على نفسه ويجلسوه في الطريق ويجتمع عليه ألوف أكثرهم ممن يكتب عنه، وروينا عن إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة قال ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من محمد بن إسماعيل البخاري، قال الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي وحسبك بإِمام الأئمة ابن خزيمة يقول فيه هذا القول مع لقيه الأئمة والمشايخ شرقاً وغرباً، قال أبو الفضل ولا عجب فيه فإِن المشايخ قاطبة أجمعوا على قدمه وقدموه على أنفسهم في عنفوان شبابه، وابن خزيمة إنما رآه عند كبره وتفرده في هذا الشأن، وروينا عن إبراهيم بن محمد بن سلام بتخفيف اللام على الأصح وقيل بتشديدها قال إن الرتوت من أصحاب الحديث مثل سعيد بن أبي مريم المصري ونعيم بن حماد والحميدي والحجاج بن منهال وإسماعيل بن أبي أويس والعدني والحسن الخلال ومحمد بن ميمون صاحب ابن عينية ومحمد بن العلاء والأشج وإبراهيم بن المنذر الحزامي وإبراهيم بن موسى الفراء كلهم كانوا يهابون محمد بن إسماعيل ويقضون له على أنفسهم في النظر والمعرفة.

قال النووي الرتوت الرؤساء قاله ابن الأعرابي وغيره، وذكر الحاكم أبو عبد الله البخاري فقال هو إمام أهل الحديث بلا خلاف بين أهل النقل.

ص: 164

واعلم أن وصف البخاري رحمه الله بارتفاع المحل والتقدم في هذا العلم على الأماثل والأقران متفق عليه فيما تأخر وتقدم من الأزمان ويكفي في فضله أن معظم من أثنى عليه ونشر مناقبه شيوخه الأعلام المبرزون والحذاق المتقنون انتهى كلام النووي، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في ترجمة البخاري في آخر كتابه «هدي الساري مقدمة فتح الباري» أكثر مما ذكره النووي فليراجع هناك، ولتراجع أيضا ترجمة البخاري في تاريخ بغداد لأبي بكر بن ثابت الخطيب، ففيما ذكره الخطيب والنووي وابن حجر أبلغ رد على المؤلف الذي غلب عليه الهوس فاستهان بالبخاري وغض من شأنه وتوهم أنه يقدر على تخطئته ومعارضته في بعض الأحاديث التي وضعها في صحيحه وأنه لو واجهه لاستبرأ منها، ونقول للمؤلف ما قاله امرؤ القيس.

تلك الأماني يتركن الفتى ملكاً

دون السماء ولم ترفع به رأسا

وقد قيل الجنون فنون، ومن فنون الجنون هوس المؤلف ورقاعته في تعرضه للبخاري بكلامه الذي يضحك منه كل عاقل وقد قال الشاعر وأحسن فيما قال

لا يضر البحر أمسى زاخراً

أن رمى فيه غلام بحجر.

الوجه الرابع أن يقال إن البخاري قد نصح لنبيه ولنفسه وللمسلمين في جمعه كتابه الصحيح، ولم يضع فيه حديثاً مرفوعاً إلا وقد ثبت عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد رضيه لدينه وللمسلمين، وقد رضي المسلمون كل الرضا بصحيحه وأجمع العلماء على صحته وقبوله، وقد تقدم بيان ذلك في الفصل الثاني عشر في أول الكتاب فليراجع (1).

وقال النووي في كتابه «تهذيب الأسماء واللغات» اتفق العلماء على أن أصح الكتب المصنفة صحيحا البخاري ومسلم واتفق الجمهور على أن صحيح البخاري أصحهما صحيحاً وأكثرهما فوائد، قال وأجمعت الأمة على صحة هذين الكتابين ووجوب العمل بأحاديثهما انتهى.

وروى الخطيب بإِسناده عن محمد بن موسى بن يعقوب بن المأمون عن أبي عبد الرحمن النسائي أنه قال ما في هذه الكتب كلها أجود من كتاب محمد بن إسماعيل.

(1) ص: 32 - 33.

ص: 165

وقال أبو جعفر العقيلي لما صنف البخاري كتاب الصحيح عرضه على ابن المديني وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة إلا أربعة أحاديث، قال العقيلي والقول فيها قول البخاري وهي صحيحة، وقال الحاكم أبو أحمد رحمه الله محمد بن إسماعيل الإِمام فإِنه الذي ألف الأصول وبين للناس وكل من عمل بعده فإِنما أخذه من كتابه، ذكره الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري.

وذكر أيضاً عن أبي زيد المروزي قال كنت نائماً بين الركن والمقام فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي يا أبا زيد إلى متى تدرس كتاب الشافعي ولا تدرس كتابي فقلت يا رسول الله وما كتابك قال جامع محمد بن إسماعيل، وقد ذكره النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» بنحوه.

وإذا علم ما ذكره النووي من إجماع الأمة على صحة الصحيحين ووجوب العمل بأحاديثهما وما ذكره العقيلي عن علي بن المديني وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم أنهم استحسنوا صحيح البخاري لما عرضه عليهم وشهدوا له بالصحة إلا أربعة أحاديث قال العقيلي والقول فيها قول البخاري وهي صحيحة، فماذا يقال في المؤلف المبرسم الذي شذ عن جماعة المسلمين وخالف إجماع الأمة على صحة الصحيحين ووجوب العمل بأحديثهما ونصب نفسه لمعارضة البخاري والطعن في مائة وعشرين حديثاً من صحيحه وزعم أنها من دسائس الإِسرائيليين وزعم أيضاً أن هذا العدد نموذج لما في الصحيح من الأحاديث وليس بحصر لها، والجواب أن يقال (سبحانك هذا بهتان عظيم)(كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً) ، وفي الحقيقة أن المؤلف هو صاحب الدس على المسلمين والتشكيك. فيما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو وأشباهه من الزنادقة شر من اليهود وأضر على الإِسلام والمسلمين منهم وبعد فهل يظن الأهوج المعجب بنفسه أنه أعلم من علي بن المديني وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم من أكابر المحدثين وأئمة الجرح والتعديل الذين استحسنوا صحيح البخاري وشهدوا له بالصحة. أم أنه غلب عليه الهوس فجعل يهذي من غير شعور يحتمل هذا ويحتمل ذاك وبئس كل من الأمرين.

وللمؤلف سلف ممن يشار إليهم في هذا العصر وهو القرن الرابع عشر من الهجرة وهم ما بين تلميذ للإِفرنج متخرج من بعض جامعاتهم وما بين مقلد لهم ومتقرب

ص: 166

إليهم بما يحبونه من الطعن في الأحاديث الصحيحة والتشكيك فيما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عبرة بهؤلاء وأمثالهم لأنهم قد شذوا عن جماعة المسلمين وخالفوا إجماع العلماء، فأما أهل السنة والجماعة فإِنهم لم يزالوا على تعظيم الصحيحين والعمل بأحاديثهما وبكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في غيرهما من كتب الصحاح والسنن والمسانيد فلله الحمد لا نحصي ثناءا عليه، والله المسئول أن يهدي ضال المسلمين ويثبت مطيعهم.

فصل

وقال المؤلف في صفحة (32) ما نصه

دليل يثبت استغناء النبي - ص - بالقرآن عن التحدث بغيره

ثبت أن النبي - ص - قال في حديثه الصحيح القوي «بعثت بجوامع الكلم ما من نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تبعاً يوم القيامة» وفي هذا يقول ابن حجر العسقلاني إن معنى الحصر في قوله «إنما كان الذي أوتيته» أن القرآن أعظم المعجزات وأفيدها وأدومها لاشتماله على الدعوة والحجة ودوام الانتفاع إلى آخر الدهر وكأن ما عاداه بالنسبة إليه لم يقع (ص 210 - 211 جـ 13 فتح الباري).

والجواب عن هذا من جوه أحدها أن يقال إن المؤلف قد أبدى وأعاد وبذل جهده في الطعن في الأحاديث الصحيحة من أجل الرواية بالمعنى وما يقع فيها من التغيير في بعض الألفاظ وزيادة بعض الحروف أو نقصها، وها هو ذا قد وقع فيما هو أشد مما أنكره.

فهذا الحديث الذي ذكره ليس بحديث واحد وإنما جمعه من حديثين ولم يفرق بينهما، وهذا خطأ كبير. وهذان الحديثان قد ذكرهما البخاري في أول كتاب الاعتصام من صحيحه. فأما الحديث الأول فهو عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «بعثت بجوامع الكلم ونصرت بالرعب وبينا أنا نائم رأيتني أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي» .

وأما الحديث الثاني فهو عن سعيد وهو ابن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ما من الأنبياء نبي إلا أعطي

ص: 167

من الآيات ما مثله أومن - أو آمن - عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي فأرجوا أني أكثرهم تابعاً يوم القيامة» وقد أسقط منه المؤلف قوله «أومن» و «أو» بعدها، وغير قوله «تابعاً» بقوله تبعاً. وقد نقص من كلام ابن حجر وغير فيه فقال «وكأن ما عاداه بالنسبة إليه لم يقع» والذي في كلام ابن حجر بعد قوله «ودوام الانتفاع به إلى آخر الدهر، فلما كان لا شيء يقاربه فضلاً عن أن يساويه كان ما عداه بالنسبة إليه كأن لم يقع» وقد غير قول ابن حجر «ما عداه» بقوله «ما عاداه» ولم يفهم الفرق بين الحرفين، وهذا التغيير يحيل المعنى فإِن «ما عداه» فعل يستثنى به في الكلام مثل خلا وسوى، قال ابن منظور في لسان العرب ورأيتهم عدا أخاك وما عدا أخاك أي ما خلا. وقد يخفض بها دون ما قال الجوهري وعدا فعل يستثنى به مع ما وبغير ما تقول جاءني القوم ما عدا زيداً وجاءوني عدا زيداً تنصب ما بعدها بها والفاعل مضمر فيها، قال الأزهري من حروف الاستثناء قولهم ما رأيت أحداً ما عدا زيداً كقولك ما خلا زيداً وتنصب زيداً في هذين فإِذا أخرجت ما خفضت ونصبت فقلت ما رأيت أحداً عدا زيداً وعدا زيد وخلا زيداً وخلا زيد فالنصب بمعنى إلا والخفض بمعنى سوى انتهى.

وأما عاداه فهو من العداوة يقال عاداه معاداة وعداء ويقال فلان يعادي بني فلان قال الله تعالى (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة).

وإذا كان المؤلف قد بلغ به الجهل وسوء التصرف في حديث واحد وشرحه إلى هذا الحد الذي ذكرناه عنه فما باله يحمل على الأحاديث الصحيحة ورواتها ويكثر الطعن فيها وفيهم من أجل الرواية بالمعنى فهلا بدأ بنفسه فنقل الأحاديث على ما هي عليه حرفاً حرفاً ولم يغير فيها. وكذلك إذا نقل كلام أحد من العلماء فينبغي أن ينقله على ما هو عليه ولا يغير فيه وقد قيل:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

الوجه الثاني أن يقال إن المؤلف قد أكثر الطعن في أبي هريرة رضي الله عنه تمهيداً لما أقدم عليه من الطعن في جملة من أحاديثه التي رواها البخاري في صحيحه وهي مما يخالف رأي المؤلف وآراء شيوخه وشيوخهم من الإِفرنج ومن يقلدهم من العصريين. وأما في هذا الموضع فقد جزم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه البخاري في صحيحه بأنه صحيح قوي، وإنما جزم بصحته وقوته لأنه ظن أنه

ص: 168

يؤيد ما ذهب إليه من الاستغناء بالقرآن ورفض الأحاديث الصحيحة واطراحها. وقد تبين من صنيعه في هذا الموضع وفيما سيأتي من طعنه في أبي هريرة رضي الله عنه وفي أحاديثه أنه يدور مع هواه ورأيه الفاسد حيثما دار وقد قال الله تعالى (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين).

الوجه الثالث أن يقال ليس في حديث «بعثت بجوامع الكلم» ولا في الحديث الآخر ما يدل على استغناء النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن عن التحدث بغيره كما قد توهم ذلك المؤلف، وكون القرآن أعظم المعجزات لا يدل على الاستغناء به عن السنة لأن السنة تفسر القرآن وتبين معانيه وما أراد الله منه قال الله تعالى (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) فلولا بيان النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن بما ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة لما عرف الناس كثيراً مما أجمل في القرآن.

الوجه الرابع أن يقال لولا تحديث النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وتعليمه إياهم لما عرف الناس كيف يتوضئون وكيف يصلون وكيف يزكون وكيف يحجون، وكذلك كثير من أصول الدين وفروعه إنما عرفها الناس من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينكر هذا إلا من هو من أجهل الناس وأشدهم غباوة.

الوجه الخامس أن يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم حث أمته على التمسك بسنته كما حثهم على التمسك بالقرآن فقال صلى الله عليه وسلم «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ» رواه الإِمام أحمد وأهل السنن من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وصححه أيضا ابن حبان والحاكم والذهبي.

وروى مالك في الموطأ بلاغاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله» وقد رواه الحاكم في مستدركه موصولاً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس في حجة الوداع فقال - فذكر الحديث وفيه - «يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً كتاب الله وسنة نبيه» .

قال الحاكم قد احتج البخاري بأحاديث عكرمة واحتج مسلم بأبي أويس

ص: 169

وسائر رواته متفق عليهم ووافقه الذهبي في تليخصه قال وله أصل في الصحيح.

وروى الحاكم أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض» .

وفي حثه صلى الله عليه وسلم على التمسك بالسنة أبلغ رد على من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد استغنى بالقرآن عن السنة.

الوجه السادس أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه» الحديث وفيه بعض الروايات «ألا إن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله» وقد تقدم هذا الحديث وما في معناه في الفصل الثالث في أول الكتاب فليراجع (1).

وفي هذا الحديث أبلغ رد على من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد استغنى بالقرآن عن السنة.

الوجه السابع أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه فرب مبلغ أحفظ له من سامع» رواه الإِمام أحمد والترمذي وابن ماجه وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وصححه أيضاً ابن حبان.

وروى الإِمام أحمد أيضاً وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه والدارمي وابن حبان في صحيحه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.

والأحاديث بنحوه كثيرة وفيها أبلغ رد على من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد استغنى بالقرآن عن السنة.

الوجه الثامن أن يقال لا شك أن القرآن من جوامع الكلم التي أوتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك كلامه صلى الله عليه وسلم ففيه كثير من جوامع الكلم وهي أيضا داخلة في عموم قوله صلى الله عليه وسلم «بعثت بجوامع الكلم» .

(1) ص: 6.

ص: 170

ومن أمثلة جوامع الكلم في الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» وقوله صلى الله عليه وسلم «كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد» وقوله صلى الله عليه وسلم «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» وقوله صلى الله عليه وسلم «إذا أمرتكم فأتوا منه ما استطعتم» وقوله صلى الله عليه وسلم «ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه» وقوله صلى الله عليه وسلم «كل معروف صدقة» وقوله صلى الله عليه وسلم «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» إلى غير ذلك مما يكثر بالتتبع، وفيما ذكرته منها وما لم أذكره أبلغ رد على المؤلف في زعمه أن في قوله صلى الله عليه وسلم «بعثت بجوامع الكلم» دليلاً يثبت استغناء النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن عن التحدث بغيره.

فصل

وقال المؤلف في صفحة (32) ما نصه

طبيعة وعادة تثبت أن الأحاديث رويت بالمعنى وليس بالنص

من الطبيعة ومن العادة ما يصلح أن يكون دليلاً، ومن عادة الخطباء أن نسمع منهم كلمة (أو كما قال في نهاية كل حديث) حتى أصبحت هذه الجملة كأنها أصل الحديث. وليس معنى ذلك أن الخطباء يردفون كلامهم بتلك العبارة إلا لتكون اعتذاراً مقدماً عما يتوقعه الخطيب من زيادة أو نقصان في كل كلمة يقولها لأنه يقدر كلام النبي - ص - حق التقدير ويؤمن بمسئولية نفسه في التحدث به مع الناس خطيباً كان أم مدرساً.

والجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن يقال إنه لا يوجد دليل يدل على أن الأحاديث كلها مروية بالمعنى، وليس في الطبيعة ولا في العادة ما يدل على ذلك. ولا ينبغي الاستدلال بالطبيعة والعادة على الأحاديث ولا يصلح ذلك.

الوجه الثاني أن يقال قد كان الصحابة رضي الله عنهم يعتنون بحفظ الأحاديث أشد الاعتناء ويتحرون ضبط الألفاظ، وكان ابن عمر رضي الله عنهما ممن يشدد في ذلك، وقد تقدم ما رواه أبو الزعيزعة كاتب مروان ابن الحكم أن مروان دعا أبا هريرة رضي الله عنه وأقعده خلف السرير وجعل مروان يسأل أبا هريرة وجعلت أكتب عنه حتى إذا كان عند رأس الحول دعا به وأقعده من وراء الحجاب

ص: 171

فجعل يسأله عن ذلك الكتاب فما زاد ولا نقص ولا قدم ولا أخر، وتقدم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما نحو ذلك، وهذا يدل على أن المشهورين بالحفظ من الصحابة كانوا يروون الأحاديث بالنص لا بالمعنى. وأما غيرهم فالظاهر أنهم كانوا كذلك لأنهم كانوا يتحرون ضبط ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم ما أمكنهم، وقد يقع لبعضهم تقديم وتأخير أو إبدال الكلمة بمرادفها ونحو ذلك وهذا لا يضر.

فصل

وقال المؤلف في صفحة (33) ما نصه

علماء الحديث تساهلوا في السند ويعترفون بحريتهم في ذلك أخرج البيهقي في المدخل قول ابن مهدي إذا روينا عن رسول الله - ص - في الحلال والحرام والأحكام شددنا في الأسانيد وانتقدنا الرجال وإذا روينا في الفضائل والثواب والعقاب تساهلنا في الأسانيد وتسامحنا في الرجال، وممن جوز التساهل في رواية الحديث إذا كان في فضائل الأعمال أحمد بن حنبل وعبد الله بن المبارك، وقال الحاكم أبا زكريا العنبري يقول، الخبر إذا لم يحرم حلالاً ولم يحل حراماً ولم يوجب حكما في ترغيب أو ترهيب، وقال من أحاديث الفضائل ما لا يحتاج منها إلى من يحتج به، وقال أحاديث الفضائل تسامح العلماء قديما في روايتها ولم ينتقدوا فيها كانتقادهم في أحاديث الأحكام (ص 45 جـ1 جامع بيان العلم) ، وابتغاء مرضات الله نقول أليس ما ورد في الأحكام وبيان الثواب والعقاب مما تساهلوا فيه أو تشددوا في سنده منسوب كله إلى النبي - ص - وما ينسب إليه يعتبر تشريعاً لله صاحب التشريع المحكم، وما دام الأمر كذلك فكيف يستهان بما ينسب إلى رسول الله بتلك الصورة من علماء وحراس الحديث النبوي الشريف، وهل هذه هي الأمانة المطلوبة منهم، وهل يرضى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك التصرف في سنته وهو الذي يعترض على البراء بن عازب عندما غير البراء لفظ نبيك بلفظ رسولك وقتما كان يعلمه النبي - ص - يقوله عندما يأوي إلى فراشه.

والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال إن المؤلف نقل الكلام الذي في أول هذا الفصل من كتاب أبي رية وقد تصرف فيه تصرفاً سيئاً فاختصر ما نقله عن الحاكم اختصاراً أخل به وأضاف الكلام الذي بعده إلى رواية الحاكم وليس

ص: 172

الأمر كذلك في كتاب أبي رية فقد ذكره أبو رية عن ابن عبد البر وعزاه في الهامش إلى جامع بيان العلم ص 45 جـ 1، وهذا سياق أبي رية، وقال الحاكم سمعت أبا زكريا العنبري يقول الخبر إذا لم يحرم حلالاً ولم يحل حراماً ولم يوجب حكما في ترغيب أو ترهيب أغمض وتسوهل في روايته، وقال ابن عبد البر أحاديث الفضائل لا يحتاج فيها إلى من يحتج به، وقال أحاديث الفضائل تسامح العلماء قديماً في روايتها عن كل، ولم ينتقدوا فيها كانتقادهم في أحاديث الأحكام.

وأقول قد راجعت كتاب جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر وتتبعته من أوله إلى آخره فما وجدت هذا الكلام فإِما أن يكون أبو رية قد أخطأ في نسبته إلى كتاب جامع بيان العلم وفضله، وإما أن يكون ذلك في بعض النسخ دون بعض، وأما ما نقله عن الحاكم فلم أجده في المستدرك وإنما فيه كلام ابن مهدي، قال الحاكم في «كتاب الدعاء» سمعت أبا زكريا يحيى بن محمد العنبري يقول سمعت أبا الحسن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الحنظلى يقول كان أبي يحكي عن عبد الرحمن بن مهدي يقول إذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والأحكام شددنا في الأسانيد وانتقدنا الرجال وإذا روينا في فضائل الأعمال والثواب والعقاب والمباحات والدعوات تساهلنا في الأسانيد.

الوجه الثاني أن يقال قد روي عن الإِمام أحمد رحمه الله تعالى أنه يعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال مما ليس فيه تحليل ولا تحريم، قال أبو عبد الله النوفلي سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول إذا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام شددنا في الأسانيد وإذا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضائل الأعمال وما لا يضع حكماً ولا يرفعه تساهلنا في الأسانيد رواه الخطيب والقاضي أبو الحسين في طبقات الحنابلة.

وعن الإِمام أحمد ما يدل على أنه لا يعمل بالحديث الضعيف في الفضائل والمستحبات ذكره ابن مفلح في «الآداب الشرعية» قال ولهذا لم يستحب صلاة التسبيح لضعف خبرها عنده مع أنه خبر مشهور عمل به وصححه غير واحد من الأئمة ولم يستحب أيضا التيمم بضربتين على الصحيح عنه مع أن فيها أخباراً وآثاراً وغير ذلك من مسائل الفروع فصارت المسألة على روايتين عنه، ويحتمل أن يتعين الثاني لأنه إذا لم يشدد في الرواية في الفضائل لا يلزم أن يكون ضعيفا واهيا ولا أن يعمل به

ص: 173

بانفراده بل يرويه ليعرف ويبين أمره للناس أو يعتبر به ويعتضد به مع غيره.

وقال الشيخ تقي الدين عن قول أحمد وعن قول العلماء في العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، قال العمل به بمعنى أن النفس ترجو ذلك الثواب أو تخاف ذلك العقاب ومثل ذلك الترغيب والترهيب بالإِسرائيليات والمنامات وكلمات السلف والعلماء ووقائع العالم ونحو ذلك مما لا يجوز إثبات حكم شرعي به لا استحباب ولا غيره لكن يجوز أن يذكر في الترغيب والترهيب فيما علم حسنه أو قبحه بأدلة الشرع فإِن ذلك ينفع ولا يضر وسواء كان في نفس الأمر حقاً أو باطلاً - إلى أن قال - فالحاصل أن هذا الباب يروى ويعمل به في الترغيب والترهيب لا في الاستحباب، ثم اعتقاد موجبه وهو مقادير الثواب والعقاب يتوقف على الدليل الشرعي.

وقال أيضاً في شرح العمدة في التيمم بضربتين، والعمل بالضعاف إنما يشرع في عمل قد علم أنه مشروع في الجملة فإِذا رغب في بعض أنواعه بحديث ضعيف عمل به، أما إثبات سنة فلا، انتهى كلامه.

قال ابن مفلح وأما العمل بالضعيف في الحلال والحرام فإِن كان حسناً فإِنه يحتج به وقد يطلق عليه بعضهم أنه حديث ضعيف وإن لم يكن حسناً لم يحتج به، ثم ذكر أن أحمد كان مذهبه إذا ضعف إسناد الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مال إلى قول أصحابه وإذا ضعف إسناد الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن معارض قال به فهذا كان مذهبه انتهى.

الوجه الثالث أن المؤلف الأهوج قد انتقد علماء الحديث على تساهلهم في الأسانيد إذا كانت في الفضائل والثواب والعقاب وقال في حقهم هل هذه هي الأمانة المطلوبة منهم، وهل يرضى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك التصرف في سنته.

وأقول إن المؤلف ينطبق عليه ما قيل في المثل المشهور «يرى القذاة في عين غيره ولا يرى الجذع في عينه» فهلا بدأ المؤلف بنفسه ونظر في أفعاله السيئة الوخيمة التي قد جمعها في كتابه الذي هو ظلمات بعضها فوق بعض من قبل أن يعترض على علماء الحديث وينتقدهم بمجازفاته وقوله الباطل، فإِن علماء الحديث لم يخلوا بالأمانة في الأحاديث بل أدوها حق الأداء وبينوا الصحيح من الضعيف وبينوا الأحاديث

ص: 174

الواهية والموضوعة وتركوا الأمر واضحاً جلياً لا لبس فيه، وقد تقدم توجيه عملهم بالحديث الضعيف في الوجه الثاني فليرجع إليه.

أما المؤلف فإِنه قد جد واجتهد في معارضة الأحاديث الصحيحة ورفضها واطراحها والطعن في الثقات الأثبات من رواتها، فهل هذه هي الأمانة المطلوبة منه.

وهل يرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا التصرف السيء في أحاديثه الثابتة عنه وفي رواتها، كلا إن رد الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ينافي الأمانة غاية المنافاة، وكذلك الطعن في بعض الصحابة وفيمن بعدهم من الثقات الأثبات الذين اعتنوا بحفظ الأحاديث وتبليغها فإِنه ينافي الأمانة غاية المنافاة، والله تبارك وتعالى لا يرضى برد أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم ولا بإِيذاء المؤمنين بالبهتان، قال الله تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب) وقال تعالى (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإِذن الله) وقال تعالى (من يطع الرسول فقط أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً) وقال تعالى (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً) ، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لا يرضى برد أحاديثه الثابتة عنه ولا بالطعن في أصحابه، وقد ذكرت الأحاديث في تشديده صلى الله عليه وسلم في معارضة أحاديثه في الفصل الثالث في أول الكتاب فلتراجع (1) وذكرت أيضاً الأحاديث في تشديده صلى الله عليه وسلم في إيذاء أصحابه وسبهم والطعن فيهم في الفصل الحادي عشر في أول الكتاب فلتراجع (2).

فصل

وقال المؤلف في صفحة (33) و (34) ما نصه

من أصحاب النبي - ص - من امتنع من التحدث عن رسول الله صلى عمداً لأنه لاحظ الشبهة على غيره من الصحابة في ص 49 - 50 من تأويل الحديث لابن قتيبة، يقول عمران بن حصين

(1) ص: 5 - 7.

(2)

ص: 29 - 30.

ص: 175

وهو من الصحابة والله إني لأستطيع الحديث عن رسول الله يومين متتابعين ولكن بطأني عن ذلك أن رجالاً من أصحاب النبي - ص - سمعوا كما سمعت وشهدوا كما شهدت ويحدثون أحاديث ما هي كما يقولون وأخاف أن يشبه لي كما شبه لهم فأعلمك أنهم كانوا يخطئون إلا أنهم كانوا لا يتعمدون.

والجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن يقال إن ابن قتيبة لم يذكر لهذا الأثر سنداً وإنما اقتصر على قوله وروى مطرف بن عبد الله أن عمران بن حصين، ومثل هذا لا يثبت به شيء.

وقد أخطأ المؤلف في قوله تأويل الحديث لابن قتيبة، وصوابه تأويل مختلف الحديث.

الوجه الثاني أن يقال إن عمران بن حصين رضي الله عنهما لم يمتنع من التحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كما قد توهم ذلك المؤلف وكذلك غيره من الصحابة الذين تأخرت وفياتهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر عن أحد منهم أنه امتنع من التحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ولاسيما إذا احتيج إلى ما عنده من الحديث، وقد روى أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أحاديث كثيرة، وقال النووي في «تهذيب الأسماء واللغات» روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم مائة وثمانون حديثاً اتفقا منها على ثمانية وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بتسعة، وكذا قال الخزرجي في الخلاصة إلا أنه قال له مائة وثلاثون حديثاً قال وكان من علماء الصحابة انتهى.

فصل

وذكر المؤلف في صفحة (34) عن أبي رية أنه قال في صفحة (111) من ظلماته ما ملخصه.

وقد امنتع بعض الصحابة عن التحديث خوفاً من الخطأ وأنه لما خرجت الخوارج وتحزب الناس فرقاً بدأوا يتخذون من الحديث صناعة فيضعون ويصنعون ويصفون الكذب ثم ظهر القصاص والزنادقة وأهل الأخبار المتقادمة بما يشبه أحاديث الخرافة فوقع الشوب والفساد في الحديث، إلى آخر كلامه الذي لا فائدة في ذكره، وذكر في آخره أن عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما كان يكذب في الأحاديث

ص: 176

وكذلك برد مولى سعيد بن المسيب.

والجواب أن يقال أما قوله عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنهم امتنعوا من التحديث خوفاً من الخطأ، فقد تقدم الجواب عنه في الفصل الذي قبل هذا الفصل.

وأما ما ذكره من وقوع الشوب والفساد في الحديث لما خرجت الخوارج وتحزب الناس وظهر القصاص والزنادقة وأهل الأخبار المتقادمة.

فجوابه أن يقال إن الله تعالى قد أقام للأحاديث رجالاً أمناء بينوا أحوال الرواة وميزوا الثقات من المجروحين وذكروا الكذابين والوضاعين بأسمائهم ليجتنب الناس أحاديثهم فلم يبق بعد ذلك ما يخشى منه اللبس والشوب والفساد في الحديث، فالأحاديث الصحيحة معروفة عن أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وكذلك الأحاديث الحسنة والأحاديث الضعيفة والأحاديث الموضوعة والإِسرائيليات فكل ذلك معروف عندهم، وإنما تقع الشكوك واللبس والتشكيك من أعداء السنة ومنهم المؤلف وأبو رية وأناس من أضرابهما ممن عاصرهما وممن كان قبلهما بزمن يسير، وبعضهم قد تتلمذوا للإِفرنج وتأثروا بآرائهم وأفكارهم الفاسدة وسهامهم المسمومة التي يوجهونها نحو الأحاديث الصحيحة التي لا تتفق مع أفكارهم المنحرفة ليطعنوا بذلك في الإِسلام والمسلمين، فهؤلاء الذين أشرنا إليهم من تلامذة الإِفرنج وأتباعهم هم معاول الهدم للسنة، فكل حديث صحيح لا يوافق آراءهم أو آراء من يعظمونه لا يتوقفون في رده وتكذيبه ثم يزعمون أنه من دسائس الإِسرائيليين وهم كاذبون في ذلك وإنما الدس والتشكيك منهم لا من الإِسرائيليين.

وأما قول المؤلف إن عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما كان يكذب في الأحاديث.

فجوابه أن يقال قد تكلم بعض العلماء في عكرمة ورماه بعضهم بالكذب ولعل مرادهم بالكذب الخطأ والغلط كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «كذب أبو السنابل» لما أفتى أن الحامل المتوفى عنها زوجها لا تتزوج حتى تتم لها أربعة أشهر وعشر ولو وضعت قبل ذلك، ومن هذا قول عبادة بن الصامت رضي الله عنه «كذب أبو محمد» لما قال إن الوتر واجب، أي أخطأ، ومنه قول سعيد بن جبير كذب جابر

ص: 177

بن زيد، يعني في قوله الطلاق بيد السيد أي أخطأ، ومنه قول أبي طالب:

كذبتم وبيت الله نترك مكة

ونظعن ألا أمركم في بلابل

كذبتم وبيت الله نبزى محمداً

ولما نطاعن دونه ونناضل

معناه أخطأتم وغلطتم فيما قلتم، وأمثال هذا في أشعار العرب كثير يطلقون كلمة التكذيب على الخطأ والغلط، قال ابن عبد البر فيما نقله عنه ابن القيم في كتابه «مفتاح دار السعادة» العرب تقول كذبت بمعنى غلطت فيما قدرت وأوهمت فيما قلت ولم تظن حقاً ونحو ذلك وذلك معروف من كلامهم موجود في أشعارهم كثيراَ انتهى.

ومن العلماء من رمى عكرمة ببعض البدع، وقد ذكر النووي في كتابه «تهذيب الأسماء واللغات» عن ابن معين أنه قال عكرمة ثقة، قال وإذا رأيت من يتكلم في عكرمة فاتهمة على الإِسلام وقال أبو حاتم هو ثقة وإنما أنكر عليه مالك ويحيى بن سعيد لرأيه وقال البخاري ليس أحد من أصحابنا إلا يحتج بعكرمة، وقال أحمد بن عبد الله العجلى عكرمة ثقة وهو بريء مما يرميه به الناس، وقال الحافظ ابن حجر في التقريب ثقة ثبت عالم بالتفسير ولم يثبت تكذيبه عن ابن عمر ولا يثبت عنه بدعة، وقال الخزرجي في الخلاصة عكرمة أحد الأئمة الأعلام رموه بغير نوع من البدعة قال العجلي ثقة بريء مما يرميه الناس به ووثقه أحمد وابن معين وأبو حاتم والنسائي ومن القدماء أيوب السختياني انتهى.

وأما برد مولى سعيد بن المسيب فلم أر أحداً من أهل العلم ذكر عنه شيئاً من الكذب بل إنه لم يرو عنه شيء من الأحاديث فيما أعلم، وإنما ذكر ابن عبد البر عن المروزي أنه روى بإِسناد فيه انقطاع أنه كان بين سعيد بن المسيب وبين عكرمة خلاف في بعض المسائل وأنه بهذا السبب قال سعيد لغلامه برد لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس. وهذا الحكاية فيها نظر والأحرى أنها لا تصح والله أعلم.

فصل

وقال المؤلف في صفحة (35) ما نصه

دليل قاطع يثبت مناقضة الصحابة لبعضهم في الرواية عن النبي

روى ابن الجوزي في كتاب (شبهة التشبيه) قال سمع الزبير ابن العوام رجلاً

ص: 178

يحدث فاستمع الزبير حتى قضى الرجل حديثه فقال الزبير أنت سمعت هذا من رسول الله فقال الرجل نعم فقال الزبير هذا وأشباهه مما يمنعنا في أن نتحدث عن النبي، قد لعمري سمعت هذا من رسول الله وأنا يومئذ حاضر ولكن رسول الله ابتدأ بهذا الحديث فحدثناه عن رجل من أهل الكتاب حديثه يومئذ فجئت أنت بعد انقضاء صدر الحديث وذكر الرجل الذي هو من أهل الكتاب فظننت أنه من حديث رسول الله، وقال بسر بن سعد اتقوا الله وتحفظوا في الحديث فو الله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدث عن رسول الله - ص - ويحدثنا عن كعب ثم يقوم فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله عن كعب ويجعل حديث كعب عن رسول الله (ص 436 جـ2 سير أعلام النبلاء للذهبي).

والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال ما زعمه المؤلف من مناقضة الصحابة بعضهم بعضاً في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو زعم كاذب، والأثر الذي استدل به على ذلك ليس فيه ما يصلح دليلاً على ما ذهب إليه فضلاً عن أن يكون دليلاً قاطعاً.

الوجه الثاني أن يقال إن الأثر الذي أورده عن الزبير رضي الله عنه ضعيف جداً. قال المعلمي رحمه الله تعالى في رده على أبي رية أسنده البيهقي في الأسماء والصفات «أخبرنا أبو جعفر الغرابي أخبرنا أبو العباس الصبغي حدثنا الحسن بن علي بن زياد حدثنا ابن أبي أويس حدثنا ابن أبي الزناد عبد الرحمن عن هشام بن عروة عن عبد الله بن عروة بن الزبير أن الزبير بن العوام سمع رجلاً» قال المعلمي أبو جعفر لم أعرفه والصبغي هو محمد بن إسحاق بن أيوب مجروح وابن أبي الزناد فيه كلام وعبد الله بن عروة ولد بعد الزبير بمدة فالخبر منقطع وكأنه مصنوع انتهى.

ولو ثبت أثر الزبير رضي الله عنه لم يكن فيه سوى الإِنكار على من لم يتثبت في الرواية وليس فيه ما يدل على المناقضة.

وأما قول بسر بن سعيد فليس فيه سوى الحث على التحفظ في الرواية وليس فيه تأييد لما زعمه المؤلف من مناقضة الصحابة بعضهم بعضاً في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم.

الوجه الثالث أن يقال من عجيب أمر المؤلف أنه قد استدل لقوله الباطل

ص: 179

بأثر واه جداً وزعم أنه دليل قاطع وهو مع ذلك يطعن في بعض الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم مما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما اللذين هما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى ويزعم أنها من دسائس الإِسرائيليين ولا يبالي بردها واطراحها، وهذا يدل على أن الرجل منكوس القلب مسلوب العقل والدين، عافانا الله وإخواننا المسلمين مما ابتلاه به.

فصل

وقال المؤلف في صفحة (35) و (36) ما نصه

الوضع في الأحاديث وأسبابه - تحقيق لمؤلف أضواء على السنة ص 118

كان من آثار تأخير تدوين الحديث وربط ألفاظه بالكتابة إلى ما بعد المائة الأولى من الهجرة وصدر كبير من المائة الثانية أن اتسعت أبواب الرواية وفاضت أنهار الوضع بغير ما ضابط ولا قيد حتى لقد بلغ ما روي من الأحاديث الموضوعة عشرات الألوف لا يزال أكثرها مثبتا بين تضاعيف الكتب المنتشرة بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.

والجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن يقال إن الذي يظهر من كلام أبي رية الذي ساقه المؤلف أن أكثر الأحاديث الموضوعة مثبت بين تضاعيف كتب السنة المنتشرة بين المسلمين ولم يستثن منها شيئاً. وهذا خطأ كبير فإِن الصحيحين ليس فيهما شيء من الأحاديث الضعيفة فضلاً عن الأحاديث الموضوعة، والمسلمون إنما يرجعون إلى ما جاء في الصحيحين وما ثبت في غيرهما من كتب الصحاح والسنن والمسانيد.

ويندر وجود الموضوعات في السنن الأربع والمسانيد المشهورة وإنما توجد الموضوعات غالباً في المجاميع التي يعتني مصنفوها بجمع ما وجدوا من الأحاديث من أي جهة كانت الأحاديث. وقد صنف العلماء في بيان الموضوعات مصنفات كثيرة جمعوا فيها ما كان متفرقا في الكتب وبذلك سهل على طالب العلم معرفة الموضوعات ومعرفة الوضاعين والتمييز بين الأحاديث الصحيحة وبين غيرها من الأحاديث الضعيفة والواهية والموضوعة.

الوجه الثاني أن يقال إن الذي يظهر من كلام أبي رية أنه أراد التشكيك في كتب السنة بما توهمه بعقله الفاسد من أن أكثر الأحاديث الموضوعة مثبتة بين

ص: 180

تضاعيفها ومراده بذلك الطعن في كتب السنة والتنفير منها وهو أيضا مراد المؤلف من سياقه لكلام أبي رية. ويأبى الله إلا أن يتم نوره ويرد كيد الكائدين في نحورهم.

فصل

وقال المؤلف في صفحة (36) ما نصه:

معادلة صعبة تستوجب النظر لأنها بين خبرين مختلفين والمجال هو الحديث، هناك حديث يقول إن النبي - ص - بشر عشرة من أصحابه بالجنة منهم طلحة والزبير، والتأريخ الصادق الذي تعززه الوقائع التأريخية يقول إنهما أول من نقض البيعة مع علي بتأثير من عائشة أم المؤمنين لما كان بينها وبين علي من أمور خاصة، وعلي أيضا كان من هؤلاء العشرة التي هما منها فكيف يكون هذا؟ وكيف يتم وبينهم تلك الخصومة التي لا يعلم الظالم من المظلوم فيها إلا الله وحده رغما ما بها من ظواهر العدل التي تعطي حق الخلافة لعلي بعد عثمان.

والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال إن تبشير العشرة بالجنة ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن رغمت أنوف المبغضين للصحابة المتعرضين لما شجر بينهم، فروى الإِمام أحمد بإِسناد صحيح عن رياح بن الحارث أن المغيرة بن شعبة كان في المسجد الأكبر وعنده أهل الكوفة عن يمينه وعن يساره فجاءه رجل يدعى سعيد بن زيد فحياه المغيرة وأجلسه عند رجليه على السرير فجاء رجل من أهل الكوفة فاستقبل المغيرة فسب وسب فقال من يسب هذا يا مغيرة؟ قال يسب علي بن أبي طالب قال يا مغيرة بن شعب يا مغيرة بن شعب، ثلاثا ألا أسمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبون عندك لا تنكر ولا تغير فأنا أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما سمعت أذناي ووعاه قلبي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإِني لم أكن أروي عنه كذبا يسألني عنه إذا لقيته أنه قال «أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعلي في الجنة وعثمان في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن في الجنة وسعد بن مالك في الجنة وتاسع المؤمنين في الجنة لو شئت أن أسميه لسميته قال فضج أهل المسجد يناشدونه يا صاحب رسول الله من التاسع قال ناشدتموني بالله والله العظيم أنا تاسع المؤمنين ورسول الله صلى الله عليه وسلم العاشر ثم أتبع ذلك يمينا قال والله لمشهد شهده رجل يغبر فيه وجهه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من عمل أحدكم ولو عمّر عمر نوح عليه السلام» وقد رواه أبو داود بنحوه وسمى الساب قيس بن

ص: 181

علقمة.

ورواه ابن ماجه مختصراً، وزاد رزين ثم قال «لا جرم لما انقطعت أعمارهم أراد الله أن لا يقطع عنهم الأجر إلى يوم القيامة والشقي من أبغضهم والسعيد من أحبهم» ذكره ابن الأثير في جامع الأصول، وقد رواه الإِمام أحمد وأبو داود أيضا والترمذي من حديث عبد الله بن ظالم المازني عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه بنحوه وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وقد روي من غير وجه عن سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه الترمذي أيضا والحاكم في مستدركه من حديث عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن عن أبيه عن سعيد بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «عشرة في الجنة» فذكر التسعة وزاد معهم أبا عبيدة بن الجراح.

الوجه الثاني أن يقال يظهر من كلام المؤلف أنه لا يصدق بالحديث الثابت في تبشير العشرة بالجنة ولهذا عارضه بما ذكره عن الوقائع التأريخية وصرح بالإِنكار في قوله فكيف يكون هذا وكيف يتم وبينهم تلك الخصومة إلى آخر كلامه، فالتأريخ صادق عند المؤلف، والحديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس بصادق عنده، وما ذاك إلا لأنه مبغض للأحاديث الصحيحة ومنابذها ومشكك فيها، ومن كانت هذه حاله فأبعده الله وأتعسه.

الوجه الثالث أن يقال إن المؤلف قد أخطأ خطأ كبيراً في زعمه أن طلحة والزبير رضي الله عنهما نقضا بيعة علي رضي الله عنه بتأثير من عائشة رضي الله عنها لما كان بينها وبين علي رضي الله عنه من أمور خاصة، وهذا كذب على عائشة رضي الله عنها فإِنها إنما سارت إلى العراق في طلب دم عثمان رضي الله عنه لا غير، وكذلك طلحة والزبير رضي الله عنهما، ولم يكن بين علي وعائشة رضي الله عنهما أمور خاصة تدعو إلى سعي عائشة رضي الله عنها في نقص بيعة علي رضي الله عنه، فما زعمه المؤلف في ذلك كله زور وبهتان.

ومما يرد على المؤلف زعمه الكاذب أن عليا رضي الله عنه لما فرغ من أمر الجمل جاء إلى الدار التي فيها عائشة رضي الله عنها فاستأذن ودخل فسلم عليها ورحبت به فقال له رجل يا أمير المؤمنين إن على الباب رجلين ينالان من عائشة فأمر القعقاع بن عمرو أن يجلد كل واحد منهما مائة وأن يخرجهما من ثيابهما، ولما أرادت عائشة رضي الله عنها الخروج من البصرة بعث إليها علي رضي الله عنه بكل ما ينبغي

ص: 182