الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله: عليَّ عهد الله وميثاقه؛ ليس من صيغ القسم التي يذكرها النحاة، [145/ ب] ولا هو حَلِفٌ بالاسم المعظم.
وأيضًا؛ ف
الحلف بصفات الله يمين مكفرة بالنص والإجماع
، فلو قال: وعزة الله؛ انعقدت يمينه ولم يحلف باسم الله، وإنما حَلَفَ بصفةٍ من صفاته.
فإذا قيل: الحلف بالصفة يتضمن الحلف بالموصوف.
قيل: فهذا يدل على أنه عقد يمينه بالله، فهي يمين مكفرة وإن لم يذكر اسم الله، وإذا عقدها لله فهو أوكد وأوكد
(1)
.
وقوله: عليَّ نذر؛ فيه كفارة يمين بالنص وقول عامة العلماء، وليس فيه ذكر اسم الله ــ تعالى ــ، وعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كفارة النذر إذا لم يُسَمَّ كفارةُ يمين» رواه الترمذي
(2)
، وقال: حديث حسن صحيح غريب.
(1)
قال في درء التعارض (10/ 71): (وثبت عنه الحلف بعزَّة الله، والحلف بقوله: لَعَمْرُ الله؛ فلو كان الحلف بصفاته حلفًا بغير الله لم يجز؛ فَعُلِمَ أنَّ الحالف بهما لم يحلف بغير الله، ولكن هو حالفٌ بالله بطريق اللزوم، لأنَّ الحلف بالصفة اللازمة حلفٌ بالموصوف ــ سبحانه وتعالى ــ).
وانظر: مجموع الفتاوى (35/ 273)، الفتاوى الكبرى (4/ 130)، القواعد الكلية (ص 494).
(2)
برقم (1528). وقد تقدَّم بلفظ: «كفارة النذر كفارة يمين» وهو في مسلم بدون زيادة: «إذا لم يُسَمَّ» .
وقال البيهقي في السنن الكبير (20/ 110): والرواية الصحيحة عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«كفارة النذر كفارة يمين» .
وانظر: نصب الراية (3/ 295)، إرواء الغليل (8/ 209).
وهذا منقول عن ابن مسعود وابن عباس وجابر وعائشة رضي الله عنهم، وهو قول عامة السلف والخلف.
قال أبو محمد
(1)
: (لا أعلم فيه مخالفًا إلا الشافعي قال: لا ينعقد نذره ولا كفارة فيه، لأنَّ من النذور ما لا كفارة فيه، ثم إنه قال: إذا فعلت كذا فعليَّ نذر، فعليه كفارة يمين؛ فأوجب الكفارة في هذه اليمين بدون ذكر اسم الله ــ تعالى ــ).
وأما قول المعترض: (وفي نذر اللجاج والغضب التزم شيئًا أوجبه على نفسه فأشبه اليمين بالله ــ تعالى ــ، وهاهنا ليس كذلك).
فيقال له: فهذا الكلام ينقض قولك: (ما الجامع؟ فإنَّ الأيمان بالله وصفاته مدرك وجوب الكفارة فيها انتهاك الاسم المعظَّم، وإنه غير موجود هنا).
فيقال لك: إذا كان هذا هو مدرك الوجوب فحيث انتفى الوجوب وجب أن تنتفي الكفارة في نذر اللجاج والغضب لانتفاء هذا القول، ثم إذا قِسْتَ نذر اللجاج والغضب على اليمين بجامعٍ بينهما، وهو أنه التزم شيئًا أوجبه على نفسه كان مدرك الوجوب أنه التزم شيئًا أوجبه على نفسه، وهذا المدرك أعم من ذاك؛ فتناقضتَ في كلامٍ واحدٍ قليلٍ متصلٍ بعضه ببعض.
وأيضًا؛ فإنه إذا التزم شيئًا أوجبه على نفسه، فهذا معنى النذر لا معنى اليمين، فكان يجب جعل هذا نذرًا موجِبًا على [146/ أ] نفسه ما أوجبه لا يجعل فيه كفارة، وهذا الكلام يناسب قول من يجعل نذر اليمين نذرًا واجبًا
(1)
المغني (13/ 624).
لا من جعله يمينًا مكفرة، ولكن هؤلاء متناقضون تناقضًا بينًا، فإنهم جعلوا نذر اللجاج والغضب من الأيمان المكفرة، ولم يجعلوا الحلف بالطلاق والعتاق كذلك، بل جعلوا هذا التعليق كتعليق النذر اللازم؛ فصاروا إذا ناظروا من يقول بلزوم نذر اللجاج والغضب ينصرون أنه يمين، وإذا ناظروا من يقول بتكفير الحلف بالطلاق والعتاق ينصرون أنه ليس بيمين، ويقولون: إِنَّ نذر اللجاج والغضب أشبه اليمين، ويذكرون مِنْ شَبَهِهِ ما يوجب أن يكون نذرًا لازمًا؛ وهذا غلطٌ بَيِّنٌ.
وإنما الذي ذكره الصحابة رضي الله عنهم والسلف والأئمة الشافعي وأحمد وغيرهما ــ رحمة الله عليهم ــ أن قصد صاحبه قصد الحالف لا قصد الناذر، وأنه من باب الأيمان لا من باب النذور، وهذا المعنى يوجب أن يكون الطلاق والعتاق المحلوف بهما كذلك، ليس بينهما فرق مؤثر؛ فليتدبر اللبيب هذا التناقض العظيم، والكلام في هذه المسائل بلا أصل يعتمد عليه من نص ولا قياس = يعللون حكم الأصل بعلة مختصة، ثم يثبتون الحكم بعلة أخرى، وتلك العلة توجب ضد ذلك الحكم، وهذا كلام مَنْ لم يُحْكِم الأصل الذي بنى عليه قوله، وهم معذورون في مثل هذا الموضع الذي اضطرب فيه أكثر الناس.
فإنْ قلت: بل ذاك مدرك وهذا مدركٌ ثانٍ؛ فالكفارة تجب لهذا ولهذا، فقد سلمتَ أَنَّ الكفارة تجب حيث لم يذكر الاسم المعظم، وحينئذٍ؛ فإنْ لم تذكر مدركًا يمنع دخول الحلف بالطلاق والعتاق = لم يكن معك فرق أصلًا، لا مؤثر ولا غير مؤثر، وليس معك إلا حكاية المذهب.
ثم يقال: إذا كان هنا مدركٌ ثانٍ وهو أنه التزم شيئًا أوجبه على نفسه = لزمك أَنْ توجب الكفارة في كل من أوجب شيئًا ولم يفعله، فيلزمك وجوب الكفارة [146/ ب] في نذر المباحات والمعاصي، وهذا مذهب أحمد وغيره دون الشافعي.
وأيضًا؛ فيقال: إذا وجبت الكفارة لأنه التزم شيئًا أوجبه على نفسه، فإنَّ اليمين تكون تارة حضًّا وتارة منعًا؛ فالحض فيها إيجاب والمنع فيها تحريم؛ فكما
(1)
قِسْتَ على اليمين من الإلزام ما كان فيه إيجاب على نفسه = فقس عليها ما كان فيه تحريم على نفسه.
ومعلومٌ أنه إذا عَلَّقَ الظهار والحرام والطلاق والعتاق على وجه اليمين، فقد حَرَّمَ على نفسه بهذا التعليق كما أوجب بذاك التعليق، وكل من الإيجاب والتحريم يكون موجب اليمين.
فإنْ قلتَ: قوله: «كفارة النذر كفارة يمين» محمولٌ عندنا على نذر اللجاج والغضب
(2)
.
قيل: المذاهب تتبع الأدلة الشرعية، [والأدلة الشرعية]
(3)
لا تتبع مذهبًا، وليس لأحد أن يتأول كلام الله ورسوله على ما يوافق مذهبه إِنْ لم يقم عنده
(1)
في الأصل: (فكلما)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(2)
قال البيهقي في السنن الكبير (20/ 110) ــ ومثله في معرفة السنن والآثار (14/ 169) ــ: وذلك محمول عند أهل العلم على نذر اللجاج الذي يَخرج مَخرج الأيمان، والله أعلم. ثم قال: وهو ــ إنْ صحَّ ــ محمول عند مَن لا يقول بظاهره على نذر اللجاج والغضب، والله أعلم.
(3)
إضافة يقتضيها السياق.
دليلٌ شرعيٌ على أَنَّ الله ورسوله أراد ذلك الكلام؛ فإنَّ المقصود بالتأويل: معرفة مراد المتكلم بكلامه، فإنْ لم نَعرف ذلك ولم يَقم على مراده دليلٌ= كُنَّا قائلين على الله ما لا نعلم، ثم جاعلين كلام
(1)
الله ورسوله تبعًا لكلامنا.
وقوله: «كفارة النذر كفارة يمين» لفظٌ عامٌّ لا وجه لتخصيصه.
ونذر اللجاج والغضب ليس بنذر في الحقيقة، بل هو يمين داخل في قوله تعالى:{ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]، وموجَب هذا النص: أَنَّ كل نذر لم يوف به ففيه كفارة يمين، وهذا مذهب أحمد وغيره؛ كما أن كل يمين لم تَبرَّ فيها ففيها كفارة يمين، لكن الوفاء بالنذر واجب ليس كاليمين، فإذا قُدِّرَ أنه لم يف به= كان فيه كفارة يمين، ثم إيجاب كفارة يمين في النذر إذا لم يوف به يدل على أن نذر اليمين فيه كفارة يمين أيضًا، لأنه قصد بنذره اليمين = فكان أولى بالتكفير.
ولهذا كان هذا لا يجب فيه فعل المنذور، بل تُجزئُهُ الكفارة بخلاف الناذر المحض، فإنَّ عليه الوفاء، فإنْ لم يفِ كان عليه كفارة يمين.
وتَبيَّن بالنص والإجماع أَنَّ [147/ أ] كفارة اليمين تجب في أعم مما ذكره من الحلف بالاسم المعظم، وحينئذٍ؛ فالحالف بالطلاق والعتاق والحالف بالنذر كل منهم قصد بما عَلَّقَهُ لله الحلف، وهو كاره للزوم ما عَلَّقَه، لم يقصد لا وجوبًا ولا وقوعًا.
وما ذكرتَه في أنه لا حنث على الحالف في أظهر قولي الشافعي رضي الله عنه فهو كما ذكرت، فإنَّ هذا اختيار أئمة أصحابه العراقيين
(1)
في الأصل: (لكلام).
والخراسانيين
(1)
.
وما ذكرتَ من توقف المصريين والماوردي ليس مما يعارض هذا
(2)
،
(1)
قال السبكي في «التحقيق» (42/ ب): (وقوله: (إنَّ الأظهر من قول الشافعي عدم حنث الناسي) هو في ذلك تابعٌ للرافعي وجماعة كثيرةٍ من العراقيين وغيرهم، وقد قال ابن المنذر في الإشراف: إنَّ القول بالحنث هو المشهور من مذهب الشافعي عند أصحابه).
(2)
قال السبكي في «التحقيق» (43/ أ): (وقد قال صاحب الحاوي: البغداديون من أصحابنا ذهبوا إلى تصحيح القول بعدم الحنث في الناسي لما ارتكبوا من مخالفة أبي حنيفة. وأما البصريون فقال شيخنا أبو القاسم الصيمري: ما أفتيتُ في يمين الناسي بشيءٍ قط. وحكى عن شيخه أبي الفياض أنه لم يُفت فيه بشيءٍ قط. وحكى أبو الفياض عن شيخه أبي حامد المروروذي أنه لم يفت فيه بشيءٍ قط.
قال: وهو أحد البصريين؛ فاقتديت بهذا السلف، ولم أُفت فيها بشيءٍ قط، لأنَّ استعمال التوقِّي أحوط من فرطات الأقلام [وفي الحاوي: ورطات الإقدام].
قال ابن الصلاح: ومع هذا؛ فالقول بالحنث هو الأرجح دليلًا، وإنْ كان أعوص، وهو قولٌ لكثيرٍ [من] العلماء السالفين والخالفين، وهو قول أئمة المذاهب الأربعة، والشافعي وأحمد وإن اختلفت الرواية عنهما؛ فالحنث أثبت عنهما.
وفي كتاب الهداية في مذهب أحمد أنه يحنث في الطلاق والعتاق ولا يحنث في اليمين بالله ــ تعالى ــ والظهار. قال: وهو [قول] أكثر شيوخنا، وعنه أنه لا يحنث في الجميع.
وقال القاضي حسين: إنه لا خلاف فيما إذا قال: والله لا أدخل عامدًا ولا ناسيًا، فدخل ناسيًا أنه يحنث. وفي هذا جوابٌ عن متمسَّكهم بأنَّ مقصوده المنع، وهو أقوى ما لهم، والحديث محمول على نفي المؤاخذة والذم [بياض مقدار كلمة]، وقد رأيت شيخنا ابن الرفعة في آخر عمره يتوقف ولا يُفتي فيها بشيء، وقال لي: إنه [بياض مقدار كلمة] من ذلك أنه أَوجبْ على ما نصَّ الشافعي، والله أعلم).
وهؤلاء أعلم بمذهبه وأصوله من غيرهم، ولم يكن مقصودنا هنا ترجيح هذا القول على غيره حتى نبسط القول فيه، بل المقصود ما يلزم أصحابه.
فصلٌ
قال: (وما ذكره ــ يعني: المجيب ــ من تضعيف الفرق بأنَّ العتق والطلاق [فيه] حقٌّ لآدمي فلا يرتفع بالكفارة، بخلاف الأيمان بغير ذلك، وضَعَّفَهُ بإجزاء الكفارة فيما إذا قال: فعليَّ أَنْ أُعتق أو أُطَلِّق.
قلنا: الفرق بينهما أَنَّ هذا التزام بخلاف ذلك كما أشرنا، ويرشد
(1)
إلى هذا قول الفارق فلا يرتفع، فإنه يؤذن بالوقوع؛ أي: فلا يرتفع بعد ذلك)
(2)
.
والجواب: أن الذين فَرَّقُوا في مسألة الناسي بين الحلف باليمين المكفَّرة وغير المكفَّرة، وهو الحلف بالطلاق والعتاق بناءً على اعتقادهم أَنَّ هذه غير مكفرة = فَرَّقُوا بأنْ قالوا: اليمين التي ليست مكفرة يتعلق بها حَقُّ آدمي فتعلق به مع النسيان كالإتلاف، ولأنه حكمٌ عُلِّقَ على شرط فوجد بوجدان الشرط؛ كالمنع من الصلاة بعد العصر.
فيقال لهم بعد المنع من تقسيم الأيمان إلى مكفرة وغير مكفرة: حَقُّ الآدمي يتعلق بالوجوب المعلق كتعلقه بالوقوع المعلق. فإذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فعليَّ أَنْ أعتق عبدي وأُطَلِّقَ امرأتي؛ فقد تعلق به حق آدمي، وهو لو نَذَرَ عتق عبد مُعيَّن تعيَّن ووجب عليه عتقه؛ فإن كان الموجِب للفرق تَعَلُّقُ حق الآدمي فيجب في مثل هذه الأيمان ألا يعذر الناسي والجاهل، وهم يعذرونه
(1)
في الأصل رسمت هكذا: (وتريد) بدون نقط، والمثبت من «التحقيق» .
(2)
«التحقيق» (43/ أ)، وما بين المعقوفتين زيادة من «التحقيق» .
لأنها عندهم يمين مكفرة وإِنْ تعلق بها حق آدمي، وهي مع [147/ ب] هذا عندهم يمين مكفرة.
وقول المُفَرِّق: إِنَّ العتق والطلاق فيه حق لآدمي فلا يَرتفع بالكفارة؛ بناه على أصله في أنه وقع فلا يرتفع بالكفارة، وهذا كقول مَنْ يُلزم بالوفاء في نذر اللجاج والغضب، ويقول: قد وجب في ذمته فلا يرتفع بالكفارة، وإلا فمن يقول: إنه لم يحنث لا يُسَلِّم أن العتق والطلاق وقع، وكذلك مَنْ يقول بإجزاء الكفارة لا يقول: إنه وقع واحد منهما، ولو وقع لم يرتفع بعد وقوعه، بل ما قَصَدَ به اليمين لم يقصد به الإيقاع فلا يقع، بل تجزئه كفارة يمين، وإن أوقعه لم يكن عليه شيء غير ذلك.
وكذلك مَنْ لا يُحَنِّث الناسي والجاهل يقول: وجود فعلهما وعدمه
(1)
لم يأتيا بالمخالفة.
وأيضًا؛ فالناسي والجاهل إنما عُذِرَ في اليمين المكفرة لأنه لم يقصد المخالفة، فصار كمن فعل المنهي عنه ناسيًا، وهذا المعنى موجود في جميع الأيمان.
ولكن أحمد ــ على قوله بلزوم ذلك ــ قطع شَبَهَ ذلك بالأيمان وجعله إيقاعًا، كما منع من الاستثناء في ذلك في إحدى الروايتين عنه، وكما جعل الحلف بهما ليس بإيلاء؛ وقد تقدم أَنَّ أحمد تارة كان يجعل الحلف بهما من باب الإيقاع لا اليمين، وتارة يجعله من باب اليمين.
(1)
أي: سواء.
فقوله: فالفرق يَتوجَّه على أنه لم يجعلهما من الأيمان إذ كان لا كفارة فيهما عنده ولا استثناء في إحدى الروايتين عنه؛ فيوجَّه هذا: أنه طلاق وعتق معلَّق
(1)
بصفة= فيقع إذا وجدت، لكن قد تبين بالدليل أَنَّ جَعْلَهُ لهما أيمانًا هو الصواب الذي يدل عليه الكتاب والسنة، وأَنَّ الواجب إثبات حكم الحلف بهما إذا حلف بهما في جميع الأيمان، لا يجعل ذلك في حكمٍ يمينًا وفي حكمٍ غير يمين، مثل أَنْ يقال: الحلف بهما في الاستثناء يمين، وفي الكفارة ليس بيمين، وفي الإيلاء ليس بيمين؛ فإنَّ هذا تناقض بَيِّنٌ، بل الواجب أَنْ يقال في الحلف بهما ما قيل في الحلف بالنذر = وهو أنه يمين في الكفارة وفي الاستثناء، وكذلك الإيلاء على القول الصحيح الذي هو ظاهر مذهب أحمد كما ذكره أبو بكر عبد العزيز [148/ أ] وغيره، وعامة نصوص أحمد تدل عليه.
وأما كون الحلف بالنذر ليس بإيلاء، وإنما كان الإيلاء ما كان باسم الله كما يختاره الخرقي والقاضي وطائفة؛ فهو قول ضعيف جدًا مثل قول الشافعي القديم، وهذا يناسب قول من لا يجعل الحلف بالنذر يمينًا مكفرة ولا نذرًا، بل لا يجعله موجبًا لشيء كطائفة من السلف، وهو مذهب داود وابن جرير الطبري
(2)
.
فإذا قيل: الحلف بالنذر ليس يمينًا ولا نذرًا، فإنَّ هذا يناسب ألا ينعقد به الإيلاء، وأما مع إيجاب الكفارة فيه أو إلزامه النذر فالقول بأنه لا ينعقد به الإيلاء = قولٌ ضعيف جدًا ليس فيه شيء من الفقه.
(1)
كرر الناسخ كلمة (معلق).
(2)
انظر ما تقدم (ص 509 - 510).
وأما قولهم في الحلف بالطلاق والعتاق: إنه حكم معلق بشرط يوجد عند وجود شرطه؛ فينتقض بنذر اللجاج والغضب، فإنه معلق بشرط، وهو مع هذا يعذر فيه الناسي والجاهل لأنه يمين مكفرة.
وأيضًا؛ فالحكم المعلق بشرط تارة يقصد به اليمين وتارة لا يقصد به اليمين، وقد ثبت بالنص والآثار والقياس أَنَّ قصد اليمين وصفٌ مؤثرٌ، وهم يُسلِّمون ذلك، وحينئذٍ فلا يجوز إلغاؤه، والواجب أَنْ يُلحق الحالف بالطلاق والعتاق إذا فعل المحلوف عليه ناسيًا أو جاهلًا بسائر الحالفين؛ كما هو مذهب جماهير السلف والخلف، فإن المشهور قولان: إما الحنث في الجميع، وإما عدم الحنث في الجميع.
وأما التفريق ــ فهو وإن اختاره طائفة كبيرة من أصحاب أحمد ــ فهو ضعيف، والذين نقلوا عن أحمد التسوية بمنزلة الذين نقلوا الفرق فيما وجدته من كلام أحمد، فلم يكن جوابه بالفرق أكثر من جوابه بالتسوية، ولكن اختار الفرق من اختاره من أصحابه كما يختارون أقوالًا وغيرُها أكثر في أجوبته، كما اختار الخرقي والقاضي وغيرهما أن الماء المتغير بالطاهرات ليس بطهور، وأكثر أجوبة أحمد على أنه كالمتغيِّر بأصل الخِلْقَة [148/ ب] وبما يشق صونه عنه
(1)
.
وأما تفريق المعترض بين ما عورضوا به وبين ما يحلف بالعتق والطلاق، بأنَّ الأول التزام بخلاف هذا.
فيقال له: أولًا: التضعيف وارد على فرقهم بأن هذا فيه حق لآدمي
(1)
مختصر الفتاوى المصرية (ص 13)، الاختيارات الفقهية للبعلي (ص 8 - 9).
بخلاف هذا، فكونه حقًّا لآدمي يتناول ما إذا التزم حقًّا لآدمي أو أوقع ما يتضمن حقًّا لآدمي، وفي كون أحدهما التزامًا لا يقدح في كون كل منهما حقًا لآدمي، فعلم أن كونه حقًّا لآدمي وصفٌ غير موجِب للوقوع.
بل ثَمَّ جوابٌ آخر، وهو: أَنَّا لا نُسَلِّم أَنَّ الطلاق والعتاق حق لآدمي، بل هما حقان لله؛ أما الطلاق فباتفاق الأئمة، ولهذا لو شهد به شهود من غير تقدم دعوى أحدٍ صَحَّت شهادتهم به باتفاق الأئمة، وحقوق الآدميين ليست كذلك.
وأما العتق؛ فإذا شهدوا به ابتداءً صحت شهادتهم عند الأكثرين وهو مذهب الشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد وأصحاب أحمد وغيرهم، وقال أبو حنيفة: لا تقبل، لأنَّ فيها حقًّا للعبد، والأكثرون قالوا: المُغَلَّب فيه حق الله، فالطلاق قد اتفقوا على أنه حق لله.
وأيضًا؛ فلو كان الطلاق حقًّا لآدمي = لوجب بالنذر إذا قال: لله عليَّ أَنْ أُطلقك، كما يجب العتق إذا قال: لله عليَّ أَنْ أعتقك؛ ولَمَّا لم يجب بالنذر= عُلِمَ أنه ليس فيه حق لآدمي، وليس هو قربة إلى الله؛ فلهذا لم يجب بالنذر، وإن كان فيه له حَقُّ التحريم الذي يوجبه الطلاق، فإنَّ حرمة الفروج حق لله ــ تعالى ــ، ليس للعباد إحلال ما حرمه الله من الفروج، كتحريم الخبائث وذوات المحارم فإنها حق محض لله، ليس لأحد إحلال ما حرمه الله، بخلاف ما حُرِّمَ لحق الآدميين كالأموال والدماء، فإنه يجوز الإبراء والعفو عنها، ويجوز بذل المال ابتداءً وإن لم يجز بذل الدم، بخلاف الفروج فإنها لا تباح بالإباحة، ولا يسقط إثمها وعقوبتها بالعفو.
فصلٌ
قال: (قال المجيب: والمقصود هنا: أَنَّ هذا القول يُخَرَّجُ على أصل أحمد من وجوهٍ متعددةٍ.
قلنا: لم يُبيِّن ذلك من وَجْهٍ من الوجوه الخمسة يَسلم من النزاع)
(1)
.
فيقال: إِنْ أراد نزاعًا قادحًا [149/ أ] فلا ريب أَنَّ الوجه الأول والثاني الأمر
(2)
فيهما ظاهر، وليس في ذلك نزاع يَقدح، وأما الثالث فالأمر فيه أخفى ولكن هو متوجِّهٌ، وكذلك الرابع، وأما الخامس ففيه نزاع أقوى من ذلك ولكن يمكن توجيهه ــ أيضًا ــ كما تقدم، وثَمَّ وجوهٌ أُخَر.
* * * *
(1)
«التحقيق» (43/ أ).
(2)
في الأصل: (فالأمر).
فصلٌ
قال المعترض:
(قال المجيب: وكذلك يُخَرَّج على أصل الشافعي وغيره [ممن يوافقه على مسألة نذر اللجاج والغضب].
قلتُ: فَرَغَ من تخريجه على مذهب أحمد، وَشَرَعَ في تخريجه على مذهب الشافعي وغيره ــ كما زعم ــ ظانًّا أَنَّ ذلك فَرْدٌ من أفراد مسألة اللجاج والغضب.
وحُقَّ لنا الآن أَنْ نُبدي الفرق بينهما؛ فنقول: تصرفات الشخص التي يستقل بها: تارةً تكون في نفسه خاصة كالنذر، فإنَّ موجَبه التزام شيء في الذمة ولا أثر له في غيره، وتارة تكون في غيره ويَرِدُ على مَحَلٍّ خارجٍ يباشر
(1)
به؛ كالطلاق والعتق الواردين على الزوجة والمملوك.
فإنَّ معنى الطلاق: قَطْعُ العصمة لا التزام قطعها، ومعنى العتق: قَطْعُ ملك اليمين لا التزام قطعه، وكلٌّ من التصرفين يكون مُنَجَّزًا ومعلقًا؛ فتارة يكون النذر منجزًا كقوله: لله عليَّ؛ فهو التزام في الحال، وتارة يكون معلقًا كقوله: إِنْ شفى الله مريضي فعليَّ كذا؛ فهو التزام مُعَلَّقٌ بصفة.
وكذلك الطلاق والعتق تارة يكون منجزًا، وهو: إيقاع الطلاق في الحال، وتارة يكون معلقًا وهو: إيقاعٌ بتلك الصفة، فالمعلِّقُ للطلاق موقعٌ له؛ غايته: أنه ما أوقعه مطلقًا وإنما أوقعه مقيدًا بصفة، فيقع بتلك الصفة، ويتأخر الوقوع إلى أَنْ توجد تلك الصفة.
(1)
في «التحقيق» : (يتأثر).
فقد تبيَّن أَنَّ تعليق الطلاق من باب التصرف الذي يوقعه الشخص؛ إما بأنْ ينجزه في الحال، وإما أَنْ يجعله منوطًا بتلك الصفة الذي هو أَحَدُ نوعي التطليق الممكن منه شرعًا، ويُسَمَّى الأول: الطلاق المباشر، ويسمى: إيقاعًا، والثاني يُسَمَّى: عقد طلاق بصفة، ويسمى: عقد صفة.
فعقد الطلاق والعتاق بالصفة مزيلٌ للنكاح والملك، وَيَتَوَقَّفُ الزوال على الصفة، كما أَنَّ عقد الهبة مزيلٌ للملك ويتوقف على القبض، والبيع ناقلٌ للملك ويتوقف على انقضاء الخيار عند من يقول به، [149/ ب] بل الإيجاب مقتضٍ لذلك، ويتوقف على القبول.
إذا تقرر ذلك؛ فنقول: نذر اللجاج والغضب معناه: التزامُ أمرٍ على تقديرِ ثبوتِ أمرٍ يُقْصَدُ عدمه، أو عَدَمُ أَمرٍ يُقصد ثبوته؛ فكل ما كان كذلك فهو في معنى نذر [اللجاج والغضب]
(1)
كقوله: العتق يلزمني لأفعلنَّ كذا؛ فإنه التزم العتق على تقدير عَدَمِ ذلك الفعل، أو: العتقُ يلزمني لا فعلتُ كذا؛ فإنه التزم العتق على تقدير ذلك الفعل، ومقتضاه أنه لو حصل الشرط المذكور = لزمه إنشاء العتق لا وقوع العتق على عبيده لما قلناه: إنَّ مورد النذر هو الذمة لا غير.
وكذلك جميع أمثلة نذر اللجاج والغضب من هذا الباب، كقوله: إن فعلتُ كذا فعليَّ أَنْ أعتق أو أتصدق أو أحج أو أُطَلِّق؛ إن لم يشترط القربة، وما أشبه ذلك حتى لو قال: إِنْ فعلتُ كذا فعليَّ أَنْ أُعتق عبدي فلانًا كان من نذر اللجاج، لأنَّ المشروط التزام إنشاء عتقه لا وقوع عتقه، والملتزم للإنشاء
(1)
زيادة من «التحقيق» .
قد يفي بما وجب عليه وقد لا يفي، وأما المعلق للوقوع فغير متمكن من الرجوع عن مقتضاه.
والمعلِّقُ للطلاق والعتق؛ المشروطُ في كلامه صيرورةُ المرأة طالقًا والعبد حرًا، لا أنه ينشئ لهما طلاقًا وعتقًا، هذا مقتضى كلامه ومقصوده، وبين المعنيين بونٌ عظيم؛ فقد لاح الفرق بين هذا وبين نذر اللجاج.
نعم؛ هو فيه شَبَهٌ من جهة أَنَّ كلًّا منهما مَنَعَ نفسه من الشرط المذكور أو حَثَّهَا
(1)
، ولكنه بسببين
(2)
مختلفين؛ في نذر اللجاج بسبب خوفه من لزوم ما التزمه على ذلك التقدير، وهنا بسبب خوفه من وقوع ما أوقعه على ذلك التقدير، وما حصل الحث والمنع إلا بهذا الاعتبار؛ فهذا فَرْقٌ جليٌّ واضح يُبين أَنَّ هذا ليس من نذر اللجاج في ورد ولا صَدَر.
ومن هنا ــ والله أعلم ــ كان الإمام أبو الفتح محمد بن محمود الطوسي
(3)
ــ أحد الأئمة من متأخري الشافعية ــ يفتي في قوله: الطلاق يَلزمني؛ بعدم الحنث، ويقول: التزام ما لا يلزم فلا يلزم، وذلك مستفيضٌ عنه
(4)
.
(1)
في الأصل: (أَوْجَبَهَا)، والمثبت من «التحقيق» .
(2)
في الأصل: (بشيئين)، والمثبت من «التحقيق» .
(3)
هو: شهاب الدين محمد بن محمود بن محمد، أبو الفتح الطوسي الشافعي، نزيل مصر، ممن عليه مدار الفتاوى في مذهب الشافعي، ولد سنة (522)، وتوفي سنة (596).
انظر في ترجمته: تاريخ الإسلام (12/ 1088)، طبقات الشافعية لابن كثير (2/ 699)، طبقات الشافعية الكبرى (6/ 401).
(4)
قال في حاشية عميرة (3/ 325): (وكذا حَكى في المطلب عن الطوسي ــ تلميذ ابن يحيى صاحب الغزالي ــ أنه كان يُفتي بعدم الوقوع في قول: عليَّ الطلاق، وإنْ نوى في قول القائل: الطلاق يلزمني، لأنه التزام ما لا يلزمه. وكان يقول: الطلاق وُضِعَ لِحَلِّ النكاح لا لليمين.
قال الزركشي بعد حكاية ذلك: والحق الوقوع، لاشتهاره في معنى الطلاق، وكأنه لم يشتهر له في ذلك الزمان). وانظر: النجم الوهاج (7/ 485).
وممن أخبرني به: أبو العباس أحمد بن الرفعة
(1)
عنه [150/ أ] مرسلًا.
وأخبرني به متصلًا أبو عمرو عثمان بن محمد بن أبي سعد
(2)
أنه سمعه من ضياء الدين ابن [القصنطين]
(3)
ــ أحد أصحابه ــ عنه، وأنه كان يقول: إِنَّ الطلاق وُضِعَ لِحَلِّ قَيْدِ النكاح ولم يوضع لليمين، وفي هذه الحكاية عنه إشعارٌ لا يوجب به شيئًا، وكذلك المنقول عنه؛ حتى قال لي ابن الرفعة: إنه كان الشخص يأتي إليه وهو على باب منازل العز يقصد الركوب، فيقول: قلت: الطلاق يلزمني ما أفعل كذا، أو فعلته؟ فيقول: وأنا أقول: الطلاق يلزمني ما أركب هذه البغلة ثم يركبها، كأنه يلمح
(4)
أَنَّ المعلق ههنا التزام الطلاق وهو لا يلزم.
على أَنَّ هذه الفتوى في هذا الزمان لا يمكن القول بها لشهرة هذا اللفظ في معنى التعليق، حتى إنه ما صار يُفهم منه إلا ذلك، وكأنَّ هذه القضية
(1)
هو: أحمد بن محمد بن علي بن الرفعة، نجم الدين أبو العباس، من كبار أئمة الشافعية في زمانه، ولد سنة (645)، وتوفي سنة (710).
انظر في ترجمته: طبقات الشافعية لابن كثير (2/ 854)، طبقات الشافعية الكبرى (9/ 24)، وانظر: الجامع لسيرة ابن تيمية (ص 425، 509).
(2)
لم أجد له ترجمة!
(3)
كذا في الأصل، وفي «التحقيق»:(القصطي). ولم أجد له ترجمة!
(4)
في الأصل: (ليمح).
منقولة عرفًا إلى هذا المعنى، وإلا فليس لها دلالة من حيث اللغة على التعليق ولا على الحلف.
وتوسعوا في ذلك حتى طردوه في قوله: الطلاق يلزمه لا فعلت؛ كذا حُكِيَ عن أبي سعيد أحمد بن محمد بن نمير الخوارزمي الضرير
(1)
ــ وأبو سعيد هذا كان معاصرًا للقاضي
(2)
أبي الطيب، ومات قبل أبي الطيب، يقال: لم يكن في وقته بعد أبي الطيب أفقه منه
(3)
ــ أنه قال في الجواب عن قولهم: أَنتِ طالق لا دخلت الدار: ليست (لا) بدلًا من حرف الشرط، وإنما وقع الطلاق بالدخول، لأنَّ قوله: أنت طالق يصلح أَنْ تقام مقام أُقْسِمُ أو أَحْلِفُ؛ الدليل عليه: أنه لو قال: أَنتِ طالقٌ إِنْ [حلفتُ، ثم قال: أنتِ طالقٌ إنْ]
(4)
دخلتِ الدار طلقت
(5)
)
(6)
.
(1)
هو: أحمد بن محمد بن علي بن نمير، أبو سعيد الخوارزمي الضرير، أحد الفقهاء الشافعيين، وكان يُقَدَّم على أبي القاسم الكرخي وأبي نصر الثابتي، توفي عام (448).
انظر في ترجمته: تاريخ بغداد (6/ 233)، طبقات الشافعية لابن الصلاح (1/ 391)، طبقات الشافعية الكبرى (4/ 84).
(2)
في الأصل: (القاضي)، والمثبت من «التحقيق» .
(3)
وهذه الكلمة قالها الخطيب في تاريخ بغداد (6/ 233).
(4)
ما بين المعقوفتين من «التحقيق» وطبقات الشافعية.
(5)
وتكملة كلامه: (فإنه يقع الطلاق بالقول الثاني؛ فقد صار التعليق حلفًا، وإذا صار حلفًا ثم عقب بِ (لا) صاحب؛ كقوله: والله لا دخلتُ. ولو قال: والله لا دخلت الدار كان يمينًا.
وذلك أنَّ اليمين على الإثبات تكون بِ (إنْ) واللام؛ فيقول: (والله لا دخلت الدار) في النفي، ويقول في الإثبات:(لتدخلنَّ الدار)، ويقول: إنْ دخلتِ فأنت طالق).
طبقات الشافعية لابن الصلاح (1/ 392 - 393).
(6)
«التحقيق» (43/ أ - 44/ أ).
والجواب
(1)
: أَنَّ ما ذكره من الفرق الصوري بين النذر وبين تعليق العتق والطلاق، وهو أن النذر لا بُدَّ أَنْ يتضمن التزامَ فعلٍ يُنشئه، فيكون مضمون النذر: إيجابُ فِعلٍ يفعل لله ــ تعالى ــ وإن كان في عينٍ معينة، فإذا قال: لله عليَّ أَنْ أعتق هذا العبد، أو قال: هذه الشاة هدي أو أضحية، أو قال: إِنْ شَفى الله مريضي فثلث مالي صدقة ونحو ذلك = ففي جميع هذه المواضع: عليه أَنْ يفعل فعلًا؛ فيعتق العبد، ويذبح الأضحية والهدي، بل ويفرق لحم ذلك، ويقسم الصدقة بين [150/ ب] الفقراء.
وهذا الفعل الواجب بالنذر هو متمكن من فعله وتركه، بخلاف العتق والطلاق المعلق، فإنه وقوع مجرد؛ فإذا عُلِّقَ وَقَعَ عند الصفة بغير فعل منه، والوقوع لا يوجب عليه فعلًا يفعله، وإنما يوجب عليه ترك ما كان مباحًا له قبل العتق والطلاق من الاستمتاع والحبس وما يتبع الملك؛ فإذا زال ملكه حرم عليه ما يحرم على غير المالك من غير أن يجب عليه فعلٌ في الذمة ينشئه.
فيقال له: أولًا: الجواب من وجوه: منع لزوم ما ذكره من النذر، ومنع انتفائه مطلقًا في العتق والطلاق، ثم بيانُ عدم تأثيره، ثم بيان أن هذا يوجب عدم الطلاق والعتق المحلوف به بطريق الأولى.
الوجه الأول: أَنْ يقال: ليس مِنْ شَرْطِ كُلِّ نذر أن يلزمه فعل يفعله بعد النذر، بل قد لا يوجب المنذور عليه إلا مجرد الكف والإمساك، فلو قال: إِنْ شفى الله مريضي فداري وقف على الفقراء والمساكين= صارت وقفًا بوجود
(1)
انظر (ص 108 وما بعدها، 516 وما بعدها).
الشرط، ولا يتوقف ذلك على فعل، وكذلك في قوله: فبعيري هدي وأضحية لله، أو قال: إِنْ شَفَى الله مريضي ففرسي حبسٌ في سبيل الله ونحو ذلك؛ يلزم ذلك بوجود الشرط، وليس له رَفْعُهُ بعد وجود الشرط، وإنما عليه فعل آخر يفعله بعد ذلك، وهذا زيادةٌ في الوجوب بخلاف قوله: لله عليَّ أنْ أُعتق؛ فإنه لا يَصير حُرًّا حتى يعتقه.
وأيضًا؛ فلو قال: إِنْ شفى الله مريضي فداري وقفٌ على الفقراء والمساكين ونَظَرُهَا لفلان، أو قال: فمالي صدقة وولايةُ قَسْمِهِ لفلان، أو قال: فبعيري هدي أو أضحية وأمره إلى فلان؛ فهنا إذا وجد الشرط يلزم النذر، ولم يبق عليه فعل يفعله، بل إنما عليه الكَفُّ عن التصرف في ذلك المال حتى يتسلمه مَنْ له النظر فيصرفه في مصارفه الشرعية.
فعلم أنه ليس من شرط النذر أن يكون المنذور التزام عمل في الذمة، بل قد يكون حقًّا متعلقًا بعينٍ من الأعيان لا يمكنه رفعه بعد وقوعه؛ بل إما أَنْ يوجب عليه فعلًا في العين، أو لا يوجب عليه إلا كما يوجبه [151/ أ] العتق من امتناعه من تصرف المالك.
وكذلك لو قال: إِنْ شفى الله مريضي فعليَّ أَنْ أبرئ الناس من الديون التي لي عليهم؛ فالإبراء إسقاطٌ محضٌ كالعتق.
ولو قال: إِنْ شَفَى الله مريضي فزيد وعمرو برآء مما لي عليهما من الدين= كان هذا بمنزلة قوله: فعبدي فلان حرٌّ؛ أي: قد برئ مما لي عليه من الملك.
وكذلك لو قال: إِنْ شَفَى الله مريضي فقد عفوت عن القَوَد الذي أستحقه على فلان؛ فهذا المنذور إسقاط حق مال أو قود لا يثبت في الذمة، ولا
يحتاج إلى إنشاء تصرف يتصرف فيه.
فإذا قال على وجه اللجاج والغضب: إِنْ سافرتُ معكم فقد برئ الناس من جميع أموالي، أو فكلُّ مالٍ لي على الناس صدقة عليهم؛ فهو بمنزلة: كُلُّ عبد لي حر، ومع هذا ليس هذا بعتق ولا طلاق، بل فيه كفارة يمين.
فعلم أَنَّ التكفير في نذر اللجاج والغضب ليس موقوفًا على أن يكون المنذور التزام فعل يفعله، بل هذه الصور إيقاعٌ للإسقاطِ والإبراء، أو إيقاعٌ للوقف والهدي والأضحية؛ كما أَنَّ العتق إيقاع أيضًا، ليس ذلك التزام شيءٍ في الذمة.
ثم منها ما لا يوجب عليه إلا الكف والإمساك كالعتق والطلاق، ومنها ما يوجب عليه أفعالًا أخر مع وقوع ما عَلَّقَهُ؛ فيكون هذا أبلغ من العتق.
فإذا قال: فبعيري هدي وهذه الشاة أضحية، بل إذا قال: فثلث مالي صدقة = كان قد أوقع حكمًا في غيره، وأوجب فعلًا آخر، وهذا أبلغ من مجرد إيقاع حكم في معين.
فإذا كان قصد اليمين يمنع ثبوت الإيقاع وما أوجبه من الفعل، فمنع ثبوت الإيقاع وما اقتضاه من الترك= أولى وأحرى.
ولو قال: إِنْ شفى الله مريضي فعليَّ صوم شهر أو صوم يوم الاثنين والخميس= كان الواجب عليه إمساكًا في وقت بعينه، لم يجب عليه أفعال يفعلها.
وإذا قال: فعبدي حر؛ وجب عليه اعتقاد زوال الملك والامتناع من استعباده وتخلية سبيله.
الوجه الثاني
(1)
: أَنْ يقال: بل في تعليق العتق والطلاق قد يجب عليه فعلٌ
(2)
في الذمة، فإنه إذا زال الملك وجب عليه أَنْ يُبَيِّنَ للعبد والمرأة زوال [151/ ب] ملكه عنهما، وأن يخلي سبيلهما فيرفع الموانع المانعة لهما من الانطلاق، ويمتع المرأة ــ والمتعة واجبة عند الجمهور ــ؛ إما لِكُلِّ مطلقة، وإما لكل مطلقة سوى المطلقة بعد المسيس، وإما للمطلقة قبل الفرض والمسيس؛ وهي ثلاث روايات عن أحمد، الأُولى اختيار طائفة من السلف والخلف، والثانية مذهب الشافعي وهو مروي عن ابن عمر رضي الله عنهما
(3)
، والثالثة مذهب أبي حنيفة واختيار كثير من أصحاب أحمد
(4)
.
وبالجملة؛ فعليه أَنْ يُسَرِّحَ المطلقة بإحسان؛ كما قال تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 49] فأمر بالتمتع والتسريح، وهما فعلان يثبتان في الذمة يمكنه أن يفعلهما وألا يفعلهما.
وقال تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] فعليه في الطلاق الرجعي أَنْ يمسك بمعروف أو يُسَرِّحَ بإحسان،
(1)
انظر (ص 573).
(2)
في الأصل: (فعلًا)، والصواب ما أثبتُّ.
(3)
أخرجه مالك في الموطأ (668) ــ ومن طريقه الشافعي في مسنده (1273) ــ، وعبد الرزاق في مصنفه (12224)، وسعيد بن منصور في سننه (1773)، وابن أبي شيبة في مصنفه (10/ 87/رقم 19023) وغيرهم ولفظه:(لكل مطلقة متعة إلا التي يطلقها وقد فرض لها صداق ولم تمس؛ فحسبها ما فرض لها).
(4)
مجموع الفتاوى (32/ 26 وما بعدها).
وكلاهما فعلٌ يفعله.
وأيضًا؛ فاعتقاده زوال الملك وامتناعه من الاستعباد والاستمتاع فعلٌ يَقصده وينشئه من حين وقوع الطلاق، وهذا كالصوم فإنه مأمور به وإن كان كفًّا وإمساكًا.
فلو قال: إِنْ فعلتُ كذا فلله عليَّ صومُ شهرٍ، أو إِنْ شفى الله مريضي فعليَّ صوم شهر = لم يكن الواجب بهذا النذر إلا إمساكًا يمسكه، ولو قال: لله عليَّ صومُ يوم الاثنين والخميس أو صوم الشهر الفلاني = كان الواجب صوم زمانٍ معيَّنٍ، وذلك إمساكٌ في ذلك الزمان، والصوم هنا ليس في الذمة ولا يحتاج إلى إنشاء فعل، بل إنما عليه الإمساك عن الفطر مع النية، وإذا وقع العتاق والطلاق فعليه الإمساك عن الاستعباد والاستمتاع مع اعتقاد زوال الملك، وهو لو حلف بنذر صوم معين أو مطلق أجزأته كفارة يمين.
فتبيَّن أَنَّ العتق والطلاق قد يوجب أفعالًا من جنس ما يوجبه النذر، وأَنَّ النذر قد يوجب إيقاعَ حكمٍ في عينٍ مِنْ جِنْسِ ما يوجبه الإعتاق والتطليق؛ وظهر بهذا أَنَّ ما ذكر من [152/ أ] أن النذر إنما موجِبه شيء في الذمة لا أثر له في غير الناذر = كلامٌ باطل، بل من النذر ما يكون موجِبه ثبوتَ حكمٍ في شيء غيره، وَيَرِدُ على محلٍّ خارجٍ عنه يتأثر به كالطلاق والعتاق الواردين على الزوجة والمملوك، مثل: ورود الوقف على العين الموقوفة، وورود جعل المال المعيَّن هديًا وأضحية وصدقة على العين المعينة، وهذا مما اتفق عليه العلماء؛ اتفقوا على أَنَّ النذر ينقسم إلى مطلق في الذمة ومُعيَّن، كما أَنَّ الهدي والأضحية تنقسم إلى مطلق في الذمة ومعين، فليس من شرط المنذور أَنْ يكون مطلقًا في الذمة يمكنه فعله وتركه.
وقول المعترض: (الفرقُ: نذر اللجاج والغضب معناه: التزام أمر على تقدير ثبوت أمر يقصد عدمه، أو عَدَمُ أَمرٍ يقصد ثبوته) ليس بحدٍّ جامع، بل منه ما يكون إثبات حكم في عين معينة خارجة عنه، يرد النذر على ذلك المحل الخارج المعين.
فقوله: (إِنَّ مورد النذرِ الذمةُ لا غير) خطأٌ محض باتفاق العلماء، وليست أمثلة نذر اللجاج والغضب منحصرة في قوله: فعليَّ أَنْ أتصدق أو أعتق أو أحج أو أطلق ونحو ذلك من الصيغ الذي تُثْبِت وجوب فعلٍ في الذمة، بل من أمثلته ما يقتضي إثبات حكم في عين معينة، كقوله: إِنْ فعلت فثلث مالي صدقة، وفرسي وقف على الفقراء والمساكين، وماشيتي هدي في سبيل الله أو أَضَاحِيْ لله، ومالي الذي في ذمم الناس فهم برآء منه، وقاتل أبي وأخي بريءٌ من القَوَد الذي لي عليه وأمثال ذلك؛ فهذا ونحوه مُعَلَّقُ الوقوعِ كمعلَّق الطلاق والعتاق، وهو لو علَّقَهُ تعليق نذر لوقع، ولم يكن متمكنًا من الرجوع عن مقتضاه، كما لا يتمكن المطلِّق والمعتِق الذي شرط في كلامه صيرورة المرأة طالقًا والعبد حرًّا من غير أن ينشئ لهما طلاقًا وعتقًا.
وكذلك هنا؛ عَلَّقَ مصيرَ المال وقفًا وهديًا وأضحية وصدقةً من غير أن ينشئ لها وقفًا وهديًا وأضحية ولا إبراء من الدين والقود ونذر تصدق، بل قد يجب عليه موجَب [152/ ب] كونه هديًا ووقفًا وصدقة، وذاك زيادة عملٍ واجبٍ في الذمة من غير أن يتمكن من رَفْع
(1)
ما أوقعه من هذه الأعيان، وهو مع هذا إذا كان قصده بالتعليق اليمين أجزأته الكفارة، ولم يصر ذلك وقفًا ولا هديًا ولا أضحية، ولا تَبرأ ذمة المعين إذ كان قصده اليمين لم يقصد
(1)
في الأصل: (وقع)، والصواب ما أثبتَ كما سيأتي في الفقرة التالية.
إيقاع ذلك عند الشرط.
الجواب الثالث: أنه بتقدير أن يكون النذر وجوب فعل في الذمة؛ فيقال له: لا ريب أَنَّ المعلَّق في النذر وجوب تلك الأفعال، كما أن المعلَّق هناك وقوع العتق والطلاق، ولو كان التعليق نذرًا محضًا ــ وهو نذر التبرر ــ للزم ثبوت هذا الوجوب المعلق في الذمة، ولم يمكنه رفع وجوب هذه الأفعال عن ذمته بكفارة ولا غيرها، ولم يكن متمكنًا من رفع هذا الوجوب، كما لا يتمكن من رفع وقوع الطلاق والعتاق، فالوجوب كالوقوع.
ثم إذا قصد بالنذر اليمين لم يثبت هذا الوجوب عند الشرط، بل تجزئه كفارة يمين إلا أَنْ يَلزم مقتضى التعليق، وهو فعل ما أوجبه؛ كذلك في تعليق الطلاق والعتق على وجه اليمين لا يثبت هذا الوقوع عند الشرط، بل تجزئه كفارة يمين إلا أن يلزم مقتضى التعليق ــ وهو وقوع الطلاق والعتق ــ فينشئ حينئذٍ إعتاقًا وطلاقًا، وإذا فعل ذلك لم يكن عليه كفارة يمين هنا، كما ليس عليه كفارة يمين إذا فعل ما عَلَّقَ وجوبه؛ هذا مذهب الجمهور.
وذكر أحمد بن حنبل أَنَّ هذا إجماعًا، وفيه قولٌ للشافعي اختاره طائفة من الخراسانيين، وذُكِرَ ذلك رواية عن أحمد حكاها جماعة من أصحابه أنه لا بُدَّ من الكفارة.
والمقصود: أنَّ ثبوت الوجوب في الذمة بالتعليق القَسَمِيِّ والإيقاعي كثبوت الوقوع بالتعليق القسمي والإيقاعي، ليس بينهما فرق مؤثر أصلًا البتة، فإذا كان قصد اليمين مانعًا من ثبوت الوجوب = كان ــ أيضًا ــ مانعًا من ثبوت الوقوع.
الجواب الرابع: أَنَّ قولَ المفرِّقِ بينهما: إنه إذا قال: (إِنْ فعلتُ كذا فعليَّ أَنْ أُعتق عبدي [153/ أ] فلانًا؛ كان هذا من نذر اللجاج والغضب، لأنَّ المشروط التزام إنشاء عتقه لا وقوع عتقه، والملتزم للإنشاء قد يفي بما وجب عليه وقد لا يفي، وأما المعلِّقُ للوقوع فغير متمكن من الرجوع عن مقتضاه، والمعلِّق للطلاق والعتاق المشروط في كلامه
(1)
صيرورة المرأةِ طالقًا والعبد حرًّا؛ لا أنه ينشئ لهما طلاقًا وعتقًا، هذا مقتضى كلامه ومقصوده، وبينَ المعنيين بَونٌ عظيم؛ فقد لاحَ الفرق بين هذا وبين نذر اللجاج والغضب).
يقال له: الفَرْقُ كالجمع؛ فلا يجوز أَنْ يُجْمَع بين فرعٍ وأصلٍ ولا يفرق بينهما في الأحكام الشرعية إلا بالصفات المؤثِّرة في الشرع التي عَلَّقَ بها الشارع الأحكام لا بغير ذلك من الصفات، وإِنْ كانت من أظهر الأمور
(2)
، وَمَنْ جَمَعَ بينَ ما فَرَّقَ الله بينه كان بمنزلة الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا، وقالوا: تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله= فقاسوا الميتة على المُذَكَّى، والربا على البيع.
(1)
في الأصل: (كلاهما)، والمثبت هنا هو المثبت في أول الفصل، والمثبت - كذلك - في «التحقيق» .
(2)
قرر هذا المعنى ابن تيمية في كثيرٍ من المواضع منها: مجموع الفتاوى (20/ 395)(21/ 27)(23/ 297)(24/ 35)(27/ 316)، الفتاوى الكبرى (6/ 267)، مجموعة الرسائل والمسائل (2/ 4)، جامع المسائل (2/ 206)، المستدرك على مجموع الفتاوى (2/ 155)، الاستقامة (1/ 343)، الصارم المسلول (3/ 771)، شرح عمدة الفقه (1/ 330).
وانظر: (ص 101 وما بعدها، 931).
ومَنْ فَرَّقَ بين ما جمع الله بينه كان بمنزلة من يقول: الميراث للابن الكبير الذي يَرُدُّ الغَارةَ دون النساء والصبيان، فَيُفَرِّق في الميراث بين ما جمع الله بينه، فإنَّ الله ــ تعالى ــ سَوَّى في الميراث بين الصغير والكبير، والغني والفقير، وإِنْ كان قد فَرَّقَ بينهما في أحكام أخرى.
ومن الأول
(1)
أَنْ يقول: إِنَّ البُضْعَ كالمال، فإذا مات الإنسان ورث وليه امرأته كما يرث ماله، أو يقول: الظهار كالطلاق، لأنه لفظٌ قُصِدَ به الطلاق، فيكون كنايةً فيه كسائر الكنايات؛ ونحو ذلك من الأقيسة التي تتضمن الجمع بين ما فَرَّقَ الله ــ تعالى ــ بينه.
ومن الثاني أَنْ يقول: إذا كان الحانث في يمينه غنيًّا فينبغي أَنْ يؤمر بكفارة الظهار، فإنَّ فيه تغليظًا
(2)
عليه بخلاف الفقير، فيريد أَنْ يفرق بين ما جمع الله ــ تعالى ــ بينه، وكذلك إذا قال: يجوز للإنسان أَنْ يعتق عبد غيره ويؤدي ثمنه، لأنَّ هذا قربة إلى الله ــ تعالى ــ بخلافِ الطلاق، والنبي صلى الله عليه وسلم قد سَوَّى بينهما حيث قال:[153/ ب]«لا عِتْقَ لابن آدم إلا فيما يملك، ولا طلاق لابن آدم إلا فيما يملك»
(3)
، ونظائر هذا كثيرة
(4)
.
فإنَّ كثيرًا من الصفات التي يَظُنُّ كثير من الناس أَنَّ لها ما يؤثر
(5)
في الجمع والفرق، وهي ملغاة عند الله ــ تعالى ــ ورسوله صلى الله عليه وسلم، وما ذكره هذا
(1)
أي: الجمع بين ما فَرَّق الله ورسوله بينه.
(2)
في الأصل: (تغليظ)؛ والصواب ما أثبتُّ.
(3)
تقدم تخريجه في (ص 480).
(4)
انظر بعضًا منها في المواضع التي تقدم ذكرها قريبًا.
(5)
في الأصل: (يرى)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
المُفَرِّق وأمثاله من هذا الباب.
فيقال له: المعلَّق في النذر إذا كان هو وجوب فعل يلتزمه في ذمته، والمعلَّق في الطلاق والعتاق هو وقوع حكم في محل معين لا يحتاج إلى إنشاء طلاق وعتاق= عديم التأثير، فإنه إذا عَلَّق فعل ما يقصد به النذر، كقوله: إِنْ شفى الله مريضي أو سَلَّم مالي الغائب فعليَّ أَنْ أحج حجة أو أتصدق بألف درهم أو أصوم شهرًا أو عليَّ أن أعتق عبدي فلانًا = فالمعلَّقُ هنا: وجوب فعل في ذمته قد التزمه عند الشرط، وقد يَفي بما وجب عليه وقد لا يفي، وليس المشروط عتقًا بل إنشاءُ عتق، ومع هذا فلما كان تعليقًا لازمًا ثبت الوجوب في ذمته، ولم يكن مخيَّرًا بين الفعل والترك بالنص والإجماع.
قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75 - 77] وهذا نذرٌ في الذمة لا شيء معين.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يطيع الله فليطعه»
(1)
، وقال في ذم القَرْنِ الرابع:«ويَنذرون ولا يُوفون»
(2)
، وقال:«آية المنافق ثلاث: إذا حَدَّثَ كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان»
(3)
، والناذر قد وعد الله ــ تعالى ــ وعدًا يجب عليه الوفاء به، كما قال تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ
(1)
تقدم تخريجه في (ص 6).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه برقم (2535) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري (33)، ومسلم (59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77].
وبالجملة؛ هذا النذر لازمٌ بالإجماع، وقد ذكر بعضهم أنه يجزئ فيه الكفارة، وذكر بعضهم هذا عن أحمد، وهذا غلط على أحمد، وما عُلِمَ بهذا القول قائلٌ معين، وبكل حال؛ فهو يوجب إما المنذور وإما الكفارة.
ولكن ذُكِرَ هذا عن بعض أهل الحديث محتجين بقوله صلى الله عليه وسلم: «كفارة النذر كفارة يمين»
(1)
، وليس لهذا القول أصل معروف عن أحمد، والوفاء بنذر الطاعة واجب بالكتاب والسنة والإجماع.
وبالجملة؛ فهذا مُسَلَّمٌ بين طوائف الأمة، وإذا كان كذلك مع أن الناذر التزم في ذمته فعل أشياء وقد وجبت عليه لما كان قادرًا = عُلِمَ أَنَّ كون المنذور التزامُ فعلٍ في الذمة ليس هو وصفًا مانعًا من لزوم الجزاء وثبوتِ الوجوب في الذمة إذا حصل التعليق الموجب لذلك، فلما سقط هذا في نذر اللجاج والغضب عُلِمَ أَنَّ المُسْقِطَ ليس هو هذا الوصف المشترك بين نذر التبرر ونذر اللجاج والغضب، بل وصف مختص بنذر اللجاج والغضب إذ لو كان المُسْقِطُ مشتركًا لم يجب شيء من المنذورات، وهو خلاف ما اتفقوا عليه، وخلاف ما سَلَّمه كل منازع، وخلاف النص.
ويتبين بذلك أَنَّ هذا المُفَرِّق فَرَّقَ بوصفٍ مُهْدَرٍ مُلغًى في الشرع، وجعل هذا الوصف مانعًا من الوجوب وليس بمانع منه، بل الوجوب ثابت معه إذا حصل النذر الموجب، وأَنَّ الوجوب إنما لم يحصل في نذر اليمين لانتفاء
(2)
النذر الموجب، لا لكون المنذور فيه التزام فعلٍ في الذمة.
(1)
تقدم تخريجه في (ص 92).
(2)
هكذا قرأتها.
فالفرق الشرعي هو: فَرْقٌ يعود إلى نفس عقد التعليق، وقصدِ المعلِّق الناذر والحالف، لا فَرْقٌ يعود إلى نفس المعلَّق؛ هل هو التزام فعل في الذمة أو إيقاع حكم في عين؟ ومعلومٌ أَنَّ الفرق العائد إلى عقد النذر وقصد المعلِّق الناذر الحالف المطلق المعتق، غيرُ الفرق العائد إلى الأمر المعلَّق هل هو إلزام أم إيقاع؟ والشارع إنما اعتبر الفرق العائد إلى العقد والعاقد، لا الفرق العائد إلى المعقود عليه؛ فليتدبر اللبيب هذا، يتبين له غلط من أَلغى الصفات الشرعية التي ناط الشارع بها
(1)
الأحكام، واعتبرَ صفاتٍ بدعيةً ما أنزل الله بها من سلطان، ويتبين له أن العقد الموجب للأمر المعلَّق موجَبه، وإِنْ كان المعلَّق وجوب فعل في الذمة، وأنه إِنْ [154/ ب] كان غير موجَب لم يوجِبه، وإن كان المعلَّق وقوع حكم في عين.
ويقال لهذا المُفَرِّقِ بالفروقِ الجاهلية التي ما أنزل الله بها من سلطان، المعرضِ عن الفروق الشرعية الدينية التي أنزل الله بها سلطانه ــ وهو كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم [
…
]
(2)
ــ: الوقوعُ المعلَّق هنا كالوجوب المعلَّق هناك، وأنت تجعل الوجوب لازمًا في نذر التبرر، ولا تجعله لازمًا في نذر اليمين، وكلاهما قد اقتضى تعليقُهُ التزامَ فعلٍ في الذمة، فلو كان كونه التزام فعل في الذمة هو المانع من وجوبه = لم يجب بالنذر شيءٌ في الذمة، وليس الأمر كذلك؛ بل يجب في الذمة ما أوجبه النذر، وإنما لم يجب في نذر اليمين لأنه لم يقصد النذر، بل قصد اليمين، وهو كارهٌ للزوم الجزاء وإِنْ وُجِدَ الشرط، وهذا المعنى بعينه موجود في تعليق الطلاق والعتاق، فإنْ كان
(1)
في الأصل: (بهذا)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(2)
بياض في الأصل مقدار كلمة، ويظهر أنَّ الكلام متصل؛ والله أعلم.
المعلِّق قاصدًا للوقوع وقع ولم يرتفع، وإِنْ كان قاصدًا لليمين لم يقع طلاق ولا عتاق، كما لم يجب هناك حج ولا صلاة ولا صيام ولا صدقة.
وقوله: (الملتزم للإنشاء قد يَفِي بما وَجَبَ عليه وقد لا يفي).
يقال له: له
(1)
اختيار في الفعل، لكن لا اختيار له في وجوب الفعل عليه، بل هو في تعليق النذر يجب عليه الفعل، وإِنْ كان قد يفي وقد لا يفي، ثم هذا الوجوب انتفى في تعليق اليمين المسمى بنذر اللجاج والغضب، وأما وقوع الطلاق والعتاق فلا اختيار له في رَفْعِهِ إذا أوقعه منجَّزًا أو معلقًا تعليقًا يَقصد به إيقاعه.
وأما إذا كان قصده اليمين فلا نُسَلِّم أنه وقع، بل ولا يمكن وقوعه مع هذا القصد، كما لا يمكن ثبوت وجوب تلك الأفعال مع قصد اليمين، لكن إِنْ وَفَّى بموجب التعليق فأوقعه وقع بإيقاعه لا بنفس التعليق ولا كفارة عليه، كما أنه هناك إِنْ وَفَّى بفعل ما أوجبه التعليق من العبادات برئت ذمته ولا كفارة عليه، لأنه فعل ما أوجبه التعليق، كما أنه هنا أوقع ما أوجبَ التعليقُ وقوعه، لكن هناك يبرأ بالفعل الذي عَلَّقَ وجوبه ولم يجب، وهنا يبرأ [155/ أ] بإيقاع العتاق والطلاق الذي علق وقوعه ولم يقع، فإنَّ المقصودَ من وجوب الفعل نفس الفعل، والمقصود من الإيقاع الوقوع؛ [فالوقوع المعلق لا يقع بحال لا بذلك التعليق، وقد علق الوجوب ومع قصد اليمين إلا بإيقاعه لا يحصل الوجوب]
(2)
، لكن انعقد سبب الوجوب، فإذا فعل ما انعقد سبب وجوبه برئت ذمته، كما لو فعله بعد الوجوب، فإنَّ غايةَ سبب
(1)
كتب الناسخ فوقها كلمة (صح).
(2)
ما بين المعقوفتين لم يتضح لي معناه!
الوجوب إِنْ ثبتتْ الوجوب، ولو أثبته لبرئ بفعل الواجب.
وأما تعليق الإيقاع فمقصوده المتضمن للوقوع، فإذا قصد اليمين لم يحصل إيقاع ولا وقوع، لكن إذا أوقعه فقد فعل ما انعقد سبب وقوعه، وغايته: سبب
(1)
الوقوع أن يكون موجبًا للوقوع، فإذا أوقعه فقد برئ، فإنه فعل ما يقتضيه التعليقُ الموجِبُ للإيقاعِ؛ فكيف بما هو سبب للإيقاع من غير إيقاع؟
الوجه الخامس: قوله: (فقد لاح الفرق بين هذا وبين نذر اللجاج والغضب).
فيقال له: بل قد تبين أنهما سواء عند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن الفرق بينهما من جنس فرق الجاهلية، وإنما فرق الشارع بين مَنْ يقصد اليمين ومن يقصد النذر، ولم يفرق بين من عَلَّقَ شيئًا في الذمة وعلق حكمًا في عين.
فالشارع فَرَّقَ بين نذر اللجاج والغضب ونذر التبرر؛ فأوجب نذر التبرر مع ما ذكره من الوصف المانع من لزومه، وهو كونه التزم أمرًا في الذمة، فهذا الوصف جعله المفرِّق هو المانع من وجوب المنذور، والشارع لم يجعله مانعًا من وجوب المنذور، بل جعل المانع هو قصد اليمين، وقصد اليمين هو المشترك بين اليمين بالنذر واليمين بالطلاق والعتاق، وأما التزام فعل في الذمة فهو مشترك بين نذر التبرر ونذر اليمين، والشارع فَرَّقَ بالوصف الأول الذي ألغاه هذا المفرق، وجَمَعَ بالوصف الثاني الذي اعتبره هذا المفرق، فَفَرَّقَ بين ما جمع الله ورسوله بينه، [155/ ب] وَجَمَعَ بين ما
(1)
هكذا قرأتها، وتحتمل غير ذلك.
فَرَّقَ الله ورسوله بينه، حيث اعتبر بالوصف المشترك بين نذر التبرر ونذر اليمين، وهذا وصفٌ ملغًى عند الشارع
(1)
، وألغى الوصف المشترك بين الحلف بالنذر والحلف بالطلاق والعتاق، وقد اعتبر الشارع هذا الوصف = فكان في جمعه وفرقه جامعًا مُفَرِّقًا بوصفٍ لم يجمع الله به ولا رسوله، وتاركًا للجمع والفرق الذي اعتبره الله ورسوله.
= جَعَلَ المؤثِّر في نذر اللجاج كونه إلزامًا في الذمة، وهذا الوصف منتفٍ في الحلف بالطلاق والعتاق، موجودٌ في تعليق النذر، وَقَصَدَ بذلك أَنْ يُفَرِّقَ بين الحلف بالنذر والحلف بالطلاق والعتاق، ولو كان ما قاله صحيحًا لم يجب نذر شيءٍ في الذمة لوجود هذا الوصف، والشارع إنما جعل المؤثر في التعليق الذي يقصد به اليمين= كونه قصد اليمين، لا لكونه التزم شيئًا في الذمة، وهذا الوصف موجود في الحلف بالعتاق والطلاق؛ فيجب التسوية بينهما في ذلك.
الجواب السادس: قوله: (نعم؛ هو فيه شَبَهٌ منه من جهة أَنَّ كلًّا منهما منع نفسه من الشرط المذكور أو حثها).
يقال له: ليس الشبه بينهما مجردَ ما ذكرتَهُ من الحثِّ والمنع من الشرط، فإنَّ هذا المعنى موجود في تعليق الوعيد؛ كقوله تعالى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]، فإنَّ هذا فيه حَثٌّ على الشرط وَمَنْعٌ منه، وليس هو من الأيمان في شيء، ولا يُسَمِّي أحد هذا يمينًا، ولا حُكْمُهُ حُكْمُ اليمين.
(1)
كتب الناسخ في الهامش: (الشرع) وفوقها حرف (خ).
وكذلك إذا عَلَّقَ الطلاق بصفة يكرهها، ولكن يختار الطلاق إذا وقعت، كقوله: إذا تزوجتُكِ فأنتِ طالق؛ فإنَّ هذا وإن كان مقصوده المنع من الشرط، فلم يقل أحد من الصحابة أَنَّ هذا يمين، بل ولا من التابعين، ولا قال مُسْلِمٌ أَنَّ هذا يمين مكفرة، وإنما النزاع فيما إذا حلف بمثل ذلك.
ولكن وجه الشبه بينهما: أَنَّ كلًّا منهما فيه حضٌّ ومنع، مع أَنَّ المعلِّقَ لا يريد الجزاء عند الشرط، فالمعلِّق لا يريد الشرط ولا الجزاء إذا وجد الشرط، [156/ أ] فهما مشتركان في كراهة الشرط وكراهة الجزاء وإن وجد الشرط.
الجواب السابع: قوله: (ولكنه بسببين مختلفين؛ في نذر اللجاج بسبب خوفه من لزوم ما التزمه على ذلك التقدير، وهنا بسبب خوفه من وقوع ما أوقعه على ذلك التقدير، وما حصل الحث والمنع إلا بهذا الاعتبار).
فيقال له: هذا القدر المشترك بينهما، وهو أن كلًّا منهما منع نفسه أو حثَّهَا بسبب خوفه من المحذور الذي علَّقه وهو يكره لزومه إياه، وهو معنى اليمين الذي به فُرِّقَ بين نذر اللجاج والغضب وبين نذر اليمين، وكون الخوف هنا من لزوم ما التزمه، والخوف هنا وقوع ما أوقعه = فَرْقٌ عديمُ التأثير، وكما أن لزوم ما التزمه على ذلك التقدير لا يثبت مع قصد اليمين فكذلك وقوع ما أوقعه لا يثبت على ذلك التقدير مع قصد اليمين، فدعوى المدعي أن قصد اليمين مانع من اللزوم وليس مانعًا من الوقوع تفريق بين المتماثلين، وليس هنا فرق شرعي أصلًا.
الجواب الثامن: قوله: (فهذا فرقٌ جليٌّ واضحٌ).
يقال له: فَرْقٌ بين كون هذا المعلَّق لزومًا والمعلَّق هنا وقوعًا، وقد تبين أن هذا الفرق ليس له تأثير في الشرع، بل قد يكون المعلق لزومًا ولا يجب
(1)
إذا كان قصده اليمين، وإنما امتنع اللزوم لقصد اليمين لا لكونه لزومًا، وقصد اليمين موجود في تعليق الوقوع؛ فدعواه أن نذر اليمين لا تَلزمه
(2)
لكونه لزوم أمرٍ التزمه = كلامٌ باطلٌ، فإنَّ هذا الوصف ثابت في نذر التبرر وقد لزمه فيه ما التزمه؛ فعلم أن هذا الوصف تارة يثبت معه اللزوم وتارة لا يثبت، فلم يكن له أثر في إثباته ونفيه، وإنما المؤثر في نفي اللزوم كونه قَصَدَ اليمين، وهذا المعنى موجود في تعليق الوقوع إذا قصد به اليمين؛ فالفرق الواضح في دين المسلمين يوجب الفرق بين ما جَمَعَ بينه والجمع بين ما فَرَّقَ بينه بخلاف ما ذكره.
وأما قوله: إِنَّ هذا بَيِّنٌ؛ أَنَّ هذا ــ يعني: تعليق الطلاق والعتاق ــ ليس من نذر [156/ ب] اللجاج والغضب في وِرْدٍ ولا صَدَر = فكلامُ من لا معرفة له بما في هذه المسألة من المنقولات، ولا بما فيها من الأدلة الشرعية.
فإنْ قَصَدَ أَنَّ تعليق الطلاق والعتاق إذا قُصِدَ به اليمين ليس معناه معنى نذر اللجاج والغضب في أن كلًّا منهما قصد به اليمين لم يقصد به لزوم الجزاء = فهذه مكابرة، وإِنْ أراد أَنَّ المعلَّق في هذا التزامٌ لفعلٍ، وفي هذا إيقاع لحكم؛ فقد قدمنا أَنَّ هذا الوصف ممنوع في الأصل والفرع، وأنه لو كان كذلك لكان فرقًا عديم التأثير، وأَنَّ المؤثِّرَ في الفرق إنما هو قصد اليمين، وأما كونه التزامًا لفعل فثبت لزومه إذا قصد النذر.
(1)
في الأصل: (ويجب)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(2)
في الأصل: (تلزمه)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
وأيضًا؛ فقد ثبت عن غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم التسويةَ بين تعليقِ النذر وتعليقِ العتق إذا قصد به اليمين، بل لم يُنقل عن الصحابة رضي الله عنهم إلا التسوية بين تعليق العتق وتعليق النذر إذا قصد به اليمين، لم يُنقل عن أحدٍ منهم لا بإسنادٍ صحيح ولا ضعيف أنه فَرَّقَ بين نذر العتق والطلاق وبين تعليق النذر إذا قصد بهما اليمين.
فإذا كان الصحابة رضي الله عنهم لم يُنقل عنهم إلا التسوية بينهما سواء قالوا هما يمين يُكفرها أو قالوا بلزوم ما التزمه = كان المُفَرِّقُ بينهما مخالفًا لإجماع الصحابة الذي لم يعلم فيه نزاع بينهم، وكان مُفرِّقًا بين ما سوّى الصحابة بينهما، وكان ــ أيضًا ــ ملغيًا للمعنى الذي اعتبره الله ــ عز وجل ــ ورسوله صلى الله عليه وسلم وهو معنى اليمين، ومعلِّقًا للحكم بوصف ملغًى عند الله ــ تعالى ــ ورسوله صلى الله عليه وسلم وهو كونه التزامُ فعلٍ مع أَنَّ هذا الملتزم يلزمه ما التزمه إذا كان ناذرًا؛ فالوصف منتقضٌ عديم التأثير، والفرق بمثل هذا في غاية الفساد.
فإنَّ الوصفَ يَبطلُ بالنقض ويَبطلُ بعدم التأثير؛ فكيف إذا اجتمعا جميعًا؟! فإنه لا يكون مطردًا ولا منعكسًا، بل يثبت والحكم منتفٍ، وينتفي الحكم وهو ثابت، فقد يكون الالتزام موجودًا والحكم ــ الذي هو الكفارة ــ منتفٍ، ويثبت الحكم ــ الذي هو الكفارة ــ والالتزام في الذمة منتفٍ.
وقوله: (ليس من نذر اللجاج والغضب [157/ أ] في وِرْدٍ ولا صَدَر)؛ فكلامٌ يستلزم إسرافًا
(1)
إما من
(2)
قلة العلم والفقه، وإما من قلة العدل والإنصاف.
(1)
في الأصل: (إسرافٌ).
(2)
في الأصل: (في).
فإنَّ جماهير علماء المسلمين من السلف والخلف يُسَوون بين تعليق الطلاق والعتاق وبين تعليق النذر؛ إما في لزوم المعلَّق، وإما في القول بالتكفير، وإما في نفي هذا وهذا.
والمنقول عن الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ في هذا الباب بالإسناد الصحيح والضعيف ليس في شيء منه التفريق، بل إنما فيه التسوية بينهما؛ إما في الكفارة ــ وهي النقل الثابت بلا ريب عنهم ــ، وإما في الإلزام بالجميع، وأَمَّا الفرق
(1)
بينهما فلم ينقله أَحَدٌ علمناه عنهم بإسنادٍ صحيح ولا ضعيف.
وأيضًا؛ فلا يستريب عاقل أَنَّ بَيْنَ التعليقين إذا قُصِدَ بهما اليمين قَدْرًا مشتركًا، وهو قصد اليمين، فإنَّ هذا معلوم بالضرورة، ولا يستريب عاقل أَنَّ كونَ المعلِّق قصد بتعليقه اليمين وصفٌ مؤثر عند جمهور علماء المسلمين من السلف والجمهور، وهو الثابت عن الصحابة وعامة التابعين = مِنْ جنس التعليق الذي يقصد به اليمين، ثم جمهورهم يقولون: هي يمين مكفرة، ومنهم مَنْ قال: هي يمين غير محترمة، وليست من أيمان المسلمين، فلا كفارة فيها.
وأما القول بأنَّ القاصد قصد يمينًا لازمًا
(2)
بقوله بل
(3)
يلزمه ما علَّقه= فليس هو قولًا مشهورًا عن الصحابة والتابعين، وإنما اِشْتَهَرَ بعد ذلك، ثم القائلون به يسوون بين تعليق النذر وتعليق الطلاق في لزوم الجميع، والذين
(1)
في الأصل: (لِفَرقٍ)، والصواب ما أثبت.
(2)
هكذا قرأتها، وحرف الزاي ساقط من الأصل.
(3)
كذا في الأصل، ولعلها:(بأن).
فَرَّقُوا بين التعليقين من المتأخرين كالشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبي عبيد ومَنْ قد يُنقل عنه ذلك من السلف، كرواية منقولة عن الحسن البصري
(1)
بأنهما يشتركان في وصف بظن
(2)
المجتهد= فهؤلاء يعترفون أنه مؤثر، ولهذا يذكرون ما يذكرونه من الفرق؛ لا يقول عالمٌ منصفٌ: إِنَّ هذا ليس من وِرْدٍ ولا صَدَر.
ومعلومٌ أَنَّ التصريح بالفرق بين تعليق الطلاق والعتاق كما أنه ليس منقولًا بإسناد عن الصحابة فليس هو مما كثر نقله عن التابعين، بل لست أعلم نقلًا مصرحًا إلا في رواية الحسن البصري روي عنه بخلافها، وخلافُهَا أثبت عنه؛ روي ذلك من وجهين، لكن قد [157/ ب] يقال ذلك بطريق التخريج، كما يقال نقيضه بطريق التخريج، فإنه قد تنقل
(3)
عنهم أجوبة قليلة في مسائل من تعليق الطلاق الذي يحلف به أنه يلزمه الطلاق؛ وحينئذٍ فيكون قولهم في العتق كذلك لعدم الفرق.
ومِنْ هؤلاء مَنْ نُقِلَ عنه في تعليق النذر أنه تجزئ فيه الكفارة
(4)
؛ كما نُقِلَ هذا وهذا عن عطاء وبعض التابعين.
وحينئذٍ؛ فهذا التخريج يقابَل بمثله من وجهين:
أحدهما: أَنْ يقال: بل يخرج عنهم في تعليق النذر ــ أيضًا ــ أنه يَلزم، كما قالوا في تعليق الطلاق الذي يقصد به اليمين، أو أَنْ يقال: بل مِنْ هؤلاء
(1)
تقدمت هذه الرواية في (ص 133).
(2)
في الأصل: (يظن)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(3)
في الأصل: (يقال)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(4)
كتب الناسخ في الحاشية: (كفارة) وفوقها حرف (خ).
مَنْ قال في تعليق العتق إن فيه كفارة وإنه لا يلزم الحالف به؛ وحينئذٍ فالطلاق لا يلزم الحالف به بطريق الأولى.
ومِنْ هؤلاء مَنْ عُرِفَ قولُهُ في تعليق النذر ولم يُعرف قوله في تعليق الطلاق والعتاق، ولكنهم علقوا الحكم بكونها يمينًا، وهذا معنًى موجود في كل تعليق يقصد به اليمين، فيكون قولهم في تعليق الطلاق والعتاق إذا قصد به اليمين أنه يكفر.
ففي الجملة؛ [فمنهم]
(1)
مَنْ لم يُعرف مِنْ قولِهِ أنه يفرق بين تعليق الطلاق الذي يقصد به اليمين وبين تعليق النذر، لكن كثيرٌ منهم عُرِفَ قوله في تعليق النذر الذي يقصد به اليمين أنه لا يلزمه ولم يُعرف قوله في تعليق الطلاق والعتاق، ومنهم مَنْ عُرِفَ قولُهُ أَنَّ تعليق العتاق عنده كتعليق النذر ولم يُعرف قوله في تعليق الطلاق، ومنهم مَنْ نُقل عنه في بعض مسائل تعليق الطلاق أنه يلزم ولم يُعرف قوله في تعليق العتق والنذر أو في أحدهما، ومنهم مَن اختلفتِ الروايةُ عنه في بعض ذلك.
فإنْ لم يجز نقل قول أحد بالتخريج والاستنباط والقياس= لم يجز أن ينقل عن أحد منهم الفرق بين تعليق الطلاق والعتاق، وفي تعليق النذر نقلٌ شاذٌ كروايةٍ عن الحسن نُقِلَ عنه من وجهين، أَثبتُ منها ما يخالفها.
وإِنْ جاز نقل أقوالهم بالتخريج والاستنباط والقياس؛ فمعلومٌ أَنَّ القولَ الذي عُرِفَ أَنَّ الجمهورَ يقولونه من التسوية بين تعليق الطلاق [158/ أ] والعتاق وبين النذر؛ إما في لزوم المعلق وإما في لزوم التكفير وإما في
(1)
إضافة يقتضيها السياق.
عدمهما = أولى أن ينقل عنهم من الفرق؛ فإن الجميع من التعليقات التي يقصد بها اليمين إما في اللزوم وإما في الإلغاء وإما في التكفير = أظهر من الفرق بين تعليق وتعليق، فإنَّ هذا لم يُؤْثَر عن الصحابة، ولا عُرِفَ أنه قولُ واحدٍ من التابعين لم يُختلف عنه فيه، وهو ضعيف جدًّا متناقض، حيث جَعَلَ قصد اليمين تارة يجعل التعليق يمينًا وتارة لا يجعله يمينًا، بل وجعل قصد اليمين مانعًا من اللزوم في الذمة ولم يجعله مانعًا من اللزوم في الأعيان، واللزوم في الذمة أقوى من اللزوم في الأعيان، فإنَّ التصرف في الذمة أوسعُ وألزم من التصرف في الأعيان، وشروط لزومه أيسر بخلاف التصرف في الأعيان فإنها أضيق وشروط لزومها أكثر
(1)
.
ولهذا؛ قد ينفذ تصرف المحجور عليه لحق الغير كالمفلس والعبد في الذمة لعدم الضرر في ذلك على السيد والغرماء، ولا ينفذ في العين لتعلق حق الغير بها، والصبي والمجنون تثبت الحقوق في ذممهما ولا تثبت في أبدانهما؛ ولهذا يجب في ذممهما ديون الآدميين كثمن المبيع وبدل القرض بتصرف الولي، ويثبت في ذممهما كثير من حقوق الله ــ تعالى ــ كالخراج والعُشْرِ وصدقة الفطر والزكاة عند أكثر العلماء، ولا يجب على أبدانهما حَدٌّ ولا حَجٌّ ولا صلاة ولا صيام.
ويثبت في الذمة ما يتعلق بحق الغير، فلو قال: إِنْ شفى الله مريضي فلله عليَّ أَنْ أشتري عبد فلان لأعتقه= لزم ذلك، وكان عليه فعل ذلك إن استطاعه. ولو قال: فعبد فلانٍ حر= لم يلزم أن يصير حرًّا باتفاقهم، بل غاية
(1)
مجموع الفتاوى (33/ 221)، الفتاوى الكبرى (3/ 244).
وانظر: (ص 786).
ما يقال: إنه يلزمه أَنْ يشتريه ويعتقه أو إنه يكفر كفارة يمين، لم يقل أحد: إنه يصير حرًّا لأن التصرف في الأعيان له شروط متعددة يقف عليها، بخلاف التصرف في الذمة فإنه أسرع لزومًا.
ولهذا؛ لما كان إيجاب الشارع إنما هو على أعيان العباد لم يوجب ما لا يطيقونه، ولما كان النذر يوجبه العبد في ذمته فقد يوجب ما لا يطيقه، ولهذا جَعَلَ الشارعُ النذرَ كالدين الذي في [158/ ب] الذمة، يفعل عن الميت بغير إذنه، بخلاف ما يوجبه الرب بالصلاة المفروضة، لا يصليها أحد عن أحد حيًّا ولا ميتًا بلا نزاع نَعرفه
(1)
.
وكذلك الصوم المفروض عند جماهير العلماء إنما بدله عند العجز أن يطعم عن كل يوم مسكينًا، كما كان كذلك في الكفارة جعل الله الإطعام بدلًا عن الصيام في حقِّ المكفِّر بقوله تعالى:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4]، وكما خَيَّرَ الله ــ عز وجل ــ في أول الإسلام بين الصيام وبين إطعام مسكين، ثم قال:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184]، فجعل صيام يوم خير من إطعام مسكين، ولهذا كان جمهور السلف والخلف على أَنَّ العاجز عن صيام رمضان يطعم عن كل يوم مسكينًا، ولا يأمر أحدًا يقضي عنه الصوم باتفاق
(1)
قال في مجموع الفتاوى (30/ 203): صلاة الفرض لا يَفعلها أحدٌ عن أحدٍ لا بِأُجرة ولا بغير أُجرة باتفاق الأئمة.
انظر: مجموع الفتاوى (10/ 439)(25/ 269)، الفتاوى الكبرى (1/ 185)(2/ 475)، جامع المسائل (4/ 245)(5/ 350)، مسألة في المرابطة بالثغور (ص 38)، منهاج السنة (5/ 228).
العلماء
(1)
.
وأما الصوم المنذور فيفعل عن الميت
(2)
، كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه
(3)
، وهو مذهب ابن عباس وغيره من السلف، وقول فقهاء الحديث كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهما.
وابن عباس رضي الله عنهما نفسه الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يصوم عن الميت وليُّهُ [روي عنه أنه]
(4)
يفرق بين صيام النذر وصيام الفرض، واتبعه أحمد وإسحاق وغيرهما، وصومُ الفرض لم يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم:«من مات وعليه صيام صام عنه وليه»
(5)
؛
فإنَّ الله ــ سبحانه ــ لم يوجب الصيام على مَنْ يَعجز عنه، والميت عاجز بخلاف [الميت الناذر]
(6)
فإنه أوجبه في ذمة نفسه، وذلك يتناول ما يقدر عليه وما يعجز عنه.
ولهذا كان مذهب فقهاء الحديث أن جميع العبادات المنذورة تفعل عن الميت حتى الاعتكاف والصلاة كما نقل عن الصحابة، وهو أصح
(1)
مراتب الإجماع (ص 72)، جامع المسائل (4/ 245 - 247)، منهاج السنة (5/ 228).
(2)
مجموع الفتاوى (24/ 310)، الفتاوى الكبرى (3/ 30)، جامع المسائل (4/ 245 - 247)، منهاج السنة (5/ 228).
(3)
سيأتي تخريج بعضها.
(4)
في الأصل: (وأنه)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(5)
أخرجه البخاري (1952)، ومسلم (1147) عن عائشة رضي الله عنها.
وأخرجه البخاري (1953)، ومسلم (1148) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
وأخرجه مسلم (1149) من حديث بريدة رضي الله عنه بمعناه.
(6)
في الأصل: (الميتاذر)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
الروايتين عن أحمد، لأن النذر المطلق في الذمة، والله ــ تعالى ــ أحق بقبول قضاء
(1)
الدين الذي في ذمة الميت من العباد؛ كما بين النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ذلك، فجاءته امرأة فقالت: يا رسول الله، إِنَّ أمي ماتت وعليها صوم نذر؛ أفأصوم عنها؟ قال:«أرأيتِ لو كان على أمك دين [159/ أ] فقضيتيه، أكان يؤدي ذلك عنها؟» قالت: نعم. قال: «فصومي عن أمك» ، وفي لفظ:«فدين الله أحق أَنْ يقضى» ، وفي رواية:«أحق بالقضاء» رواه ابن عباس في الصحيحين
(2)
، وفي لفظ: جاء رجل
(3)
، وبهذا اللفظ وصل البخاري سنده.
فالله ــ سبحانه وتعالى ــ أرحم، ودينه أوجب، ولم يأت في مباني الإسلام ما يُفعل عن الغير إلا الحج، فإنه أَذِنَ للولد أن يحج عن أبيه الشيخِ الكبيرِ، لأنَّ العاجز لا يَقدر أَنْ يحج بنفسه ولا ماله بدون بدن غيره فدخلته النيابة للحاجة، بخلاف الصلاة المفروضة فإنه يقدر أَنْ يصلي بنفسه، والصوم المفروض يمكنه أن يطعم عن نفسه
(4)
.
فالشارع أوجب مباني الإسلام على بدنه، فإنْ عجز ففي ماله، فإن عجز عنهما قام غيره مقامه؛ ولهذا قام ولي الصبي والمجنون عنهما مقامهما في الزكاة عند الجمهور، وأما العاقل البالغ فلا بُدَّ أَنْ يؤديها إما بنفسه وإما بنائبه، فيقصد إخراجها؛ فإنْ أَخَذَهَا الإمامُ كُرْهًا سقطت عنه في الظاهر كسقوط الديون التي توفى عنه، ولكن لا يثاب على ذلك إذا لم يقصد
(1)
في الأصل: (بقضاء)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(2)
أخرجه البخاري (6699)، ومسلم (1148).
(3)
أخرجه النسائي (2643).
(4)
شرح عمدة الفقه (2/ 141، 165، 236 وما بعدها)، منهاج السنة (5/ 228).
إخراجها؛ فدخلت النيابة فيما هو حق للعباد دون ما هو حق لله ــ تعالى ــ، فالشارع عليم حكيم رحيم يوجب العبادات بحسب طاقة العباد، وأما الناذر فهو الموجِب على نفسه، وقد نُهِيَ عن النذر، لكن قد يوجب على نفسه ما يعجز عنه؛ فمن رحمة الشارع به أنه جَوَّزَ له أن يأتي ببدل النذر إذا عجز عن المنذور، وإقامة غيره مقامه إذا فات
(1)
، وحيث عجز عن الأصل والبدل جُوِّزَ له أن يكفر كفارة يمين.
ولهذا كان ظاهر مذهب أحمد أَنَّ ما حَلَفَ عليه الإنسان وعَجَزَ عنه يكفر كفارة يمين، كما يكفر ما عجز عنه من المنذور بكفارة يمين، فإنَّ اليمين سبب للإيجاب، فلا بُدَّ من فعل المحلوف عليه أو الكفارة، كما في النذر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«كفارة النذر كفارة يمين»
(2)
.
ولهذا كان مذهب أحمد أن إيجاب العبد على نفسه لا يخلو عن فعل الواجب أو بدله أو كفارة يمين، وكذلك تحريمه على [159/ ب] نفسه فيه الكفارة، بخلاف إيجاب الشارع، فإنه لا يوجب إلا ما يقدر العبد عليه، فما عجز عنه سقط بغير كفارة، كما يسقط عنه واجبات الصلاة التي يعجز عنها، وكذلك ما له بدل إذا عجز عن الأصل؛ وهذه المسائل لبسطها موضع آخر.
والمقصود: أَنَّ الوجوب في الذمة أوسع وأيسر في الشرع، وشروطه أقل، وموانعه أقل، والوقوع أكثر شروطًا وأكثر موانع، ومع هذا فالتعليق الذي يُقصد به اليمين يَمنع الوجوب في الذمة، فإذا كان مانعًا من ثبوت الوجوب واللزوم في الذمة= فَلَأَنْ يكون مانعًا من ثبوت الوقوع واللزوم في
(1)
وضع عليها الناسخ (خ)، وفي الهامش (مات) ثم وضعها حرف (خ).
(2)
سبق تخريجه في (ص 92) وهو في صحيح مسلم.
الأعيان بطريق الأولى والأحرى، فإن كل ما منع اللزوم في الذمة منع اللزوم في الأعيان ولا ينعكس؛ فمن جعل قصد اليمين يمنع اللزوم في الذمة ولا يمنع اللزوم في الأعيان فقد عكس الشريعة، فإن جاز أن تُنقل أقوال الصحابة والتابعين بالتخريج والقياس والاستنباط، فَنَقْلُهُ لما يوافق أصول الشرع ويدل عليه كلامهم أولى من نقله على وَجْهٍ لا يدل عليه كلامهم ويلزمهم مع ذلك مخالفتهم لأصول الشرع.
فصلٌ
وأما ما ذكره المعترض عن أبي الفتح الطوسي أنه كان يفتي في قوله: الطلاق يلزمني بعدم الحنث، ويقول: إلزام ما لا يلزم فلا يلزم، وأن ذلك مستفيضٌ عنه
(1)
؛ فهذا القول منقول صريحًا عن أبي حنيفة نفسه.
قال أبو الحسين القدوري في شرح مختصر الكرخي: قال محمد في الأصل
(2)
: إذا قال رجل: عليَّ المشي إلى بيت الله وكل مملوك لي حر وكل امرأة لي طالق إذا دخلت الدار. فقال رجلٌ: عليَّ مثلما جعلتَ على نفسك إِنْ دخلتُ الدار، ثم دخل الثاني الدار، فإنه [يلزمه المشي]
(3)
، ولا يلزمه العتاق والطلاق.
ثم قال: ألا ترى أنه لو قال: عليَّ طلاق امرأتي، فإن الطلاق لا يقع عليه.
(1)
«التحقيق» (43/ ب).
(2)
(2/ 368).
(3)
في الأصل: (لا يلزمه شيء)، وهو خطأ لمخالفته لما في كتب الحنفية، ولعدم استقامة الكلام به.
قال: وهذا يُستدل به على أَنَّ مَنْ قالَ: الطلاقُ عليَّ واجب أَوْ لِيْ لازم لا يقع طلاقه.
وكان أصحابنا بالعراق يقولون فيمن قال: الطلاق لي لازم: إنه يقع طلاقه لِعُرْفِ الناس أنهم يريدون به الطلاق، وكان محمد بن مسلمة
(1)
يقول: إِنَّ الطلاق يقع [160/ أ] بكل حال.
وحكى الهندواني: عن علي ابن
(2)
أحمد، عن
(3)
[نصر]
(4)
بن يحيى، عن محمد بن مقاتل أنه قال: المسألة على الخلاف. قال أبو حنيفة ــ رحمه الله تعالى ــ إذا قال: الطلاق لي لازم أو عليَّ واجب لم يقع. وقال محمد: يقع في قوله لازم ولا يقع في قوله واجب. وحَكَى [ابن]
(5)
سماعة عن أبي يوسف في نوادره في رجل قال: أَلزمتُ نفسي طلاق امرأتي، أو ألزمت نفسي عتق عبدي هذا؛ إِنْ أرادَ الطلاق والعتاق فهو واقع، وإلا لم يلزمه.
وكذلك لو قال: ألزمت نفسي طلاق امرأتي هذه إنْ دخلتُ الدار، أو عتق عبدي هذا فدخل الدار وقع الطلاق والعتاق إِنْ نوى ذلك، وإذا لم ينو فليس بشيء
(6)
.
وهذا القول المنقول عن أبي حنيفة هو قول طائفة من أصحاب الشافعي
(1)
في المبسوط (9/ 34)، وبدائع الصنائع (5/ 89): محمد بن سلمة.
(2)
كذا في الأصل بالألف.
(3)
في بدائع الصنائع: (بن).
(4)
بياض في الأصل مقدار كلمة أو كلمتين، والمثبت من بدائع الصنائع.
(5)
في الأصل: (أنَّ)، والمثبت من بدائع الصنائع.
(6)
انظر: بدائع الصنائع (5/ 89).
الخراسانيين كالقفال وصاحب التتمة
(1)
،
ويفتي به طائفة من أصحاب الشافعي في زماننا من أهل خراسان والجزيرة وبعض أهل تَبريز
(2)
وغيرهم
(3)
.
وحجة هذا القول: أَنَّ قولَ القائلِ: الطلاقُ يلزمني، أو العتق يلزمني، أو أيمان المسلمين تلزمني، أو أيمان البيعة تلزمني = صيغةُ نذر لا صيغة إيقاع، وهذا اختيار بعض المالكية مثل أبي [عمر]
(4)
بن القطان، ذكر ذلك في الحلف بأيمان المسلمين.
وقد تنازع الناس في هذه الصيغ: هل هي صريح في الإيقاع، أو كناية فيه، أو ليست صريحًا فيه ولا كناية؟ على ثلاثة أقوال، وهي ثلاث أقوال في
(1)
هكذا قرأتها. وانظر: مجموع الفتاوى (33/ 131)، الفتاوى الكبرى (3/ 305)، قاعدة العقود (1/ 301 - 302)(2/ 310).
وقد نسب هذا القول إلى (صاحب شرح التنبيه)، كما وجد هذا النقل عنه في آخر رسالة الاجتماع والافتراق في مسائل الأيمان والطلاق بخط ابن رشيق (ص 99)، ونقله ابن القيم ــ أيضًا ــ في إغاثة اللهفان (2/ 793).
(2)
بفتح أولها وكسره، من أشهر مدن أذربيجان، وهي مدينة عامرة حسناء، وأهلُها من أيسر أهل البلاد وأكثرهم مالًا، ولها أسوار محكمة، وبها عِدَّةُ أنهرٍ وبساتين محيطة بها.
انظر: الأماكن للهمداني (ص 152)، معجم البلدان (2/ 13)، آثار البلاد وأخبار العباد (ص 339)، مراصد الاطلاع (1/ 252).
(3)
انظر تسمية بعضهم في: إعلام الموقعين (4/ 433 وما بعدها)، ومعطية الأمان من حنث الأيمان (ص 234 وما بعدها).
(4)
بياض في الأصل مقدار كلمة أو كلمتين، ولعله ما أثبتُّ؛ فإنَّ لأبي عمر اختيارات وأقوال ينقلها المالكية في كتبهم.
مذهب أبي حنيفة والشافعي، وأما أصحاب مالك وأحمد فعندهم أنها صريحة في الإيقاع إلا ما ذكرته عن ابن القطان، وهذا ظاهر مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي، ولكن يحتمل النذر فإن نوى بها ذلك جاز.
ومنشأ النزاع: أَنَّ لفظ الطلاق يراد به الإيقاع ويراد به الوقوع، يقال: طلقها تطليقًا وطلاقًا، فطلقت المرأة طلاقًا، فلفظ الطلاق يراد به ما يراد بالتطليق، ويراد به ما يراد بالمصدر طلقت طلاقًا؛ وهذا كما يقال: أنبتَ الله الزرعَ إنباتًا ونباتًا، ويقال: نَبَتَ نباتًا.
فإذا قال: الطلاقُ والعتقُ يلزمني؛ فقد يراد به: يلزمني أَنْ أُطَلِّق أو أُعْتِق [160/ ب]، وكذلك إذا قال: أيمان المسلمين أو البيعة تلزمني؛ فقد يراد به: يلزمني أَنْ أحلف بأيمان المسلمين والبيعة، فيكون معنى كلامه: عليَّ أَنْ أُطَلِّق، وعليَّ أن أعتق، وعليَّ أن أحلف بأيمان المسلمين والبيعة.
ولو قال: عليَّ أن أطلق كان نذرًا، والنذر لا يجب الوفاء به إن لم يكن طاعة، فإذا لم يكن مأمورًا بالطلاق لم يثبت في ذمته، ولم يجب عليه أن يطلق باتفاق العلماء.
ولكن تنازعوا في لزوم الكفارة؛ والمنصوص عن أحمد أَنَّ عليه الكفارة إذا نذر الطلاق، وكذلك قال أصحاب أبي حنيفة [و]
(1)
الخراسانيون من أصحاب الشافعي إذا قصد بذلك اليمين يكون مراده: والله لأطلقنك.
وقد يراد به: وقوعُ الطلاقِ يلزمني، أو وقوع العتق يلزمني، والحلف بأيمان البيعة وأيمان المسلمين تَلزمني؛ قال هذا على سبيل قصد الأيمان=
(1)
إضافة يقتضيها السياق.
كان بمنزلة قوله: أَنتِ مُطَلَّقة، وأَنتِ طالق، ونحو ذلك من الصيغ التي يقصد بها الإنشاء، وقد يراد بها الإخبار بتقديرِ أنتِ
(1)
مُطَلَّقَةٌ قبل هذا، أو أَنتِ طالق قبل هذا؛ إما مني وإما من غيري، كما يقول الرجل عن امرأة غيره: هي طالق، وهي مطلَّقة؛ يقصد الإخبار بأنَّ زوجها طلَّقَهَا لا أنه هو أنشأ طلاقها.
لكن لو قال لزوجته: أَنتِ أو هي أو فلانة طالق أو مُطَلَّقَة وقصد به إنشاء الطلاق لا الإخبار عن طلاقٍ متقدم = كان تطليقًا بلا نزاع.
فكذلك قوله: الطلاق لازمٌ لي أو العتق لازمٌ لي إذا قصد به أَنَّ وقوعه لازمٌ لي في الحال أو يلزمني في الحال = كان إيقاعًا ولم يكن نذرًا، ولكن كثيرًا ما يستعمل ذلك في اليمين، بل هو الغالب؛ فيقول: الطلاق يلزمني أو لازم لي لأفعلنَّ كذا؛ كما يقول: الحرام يلزمني لأفعلنَّ كذا، والحج يلزمني لأفعلنَّ كذا، والظهار يلزمني لأفعلنَّ كذا، أو إِنْ لم أفعل كذا؛ فهنا قد جعل ذلك لازمًا له إذا حنث، والحنث مستقبل، ولم يجعل ذلك لازمًا له في الحال.
وصيغة المضارع واسم الفاعل تصلح للحال والاستقبال
(2)
؛ فلهذا يراد بها هذا تارة وهذا تارة.
وإذا قال: أيمان المسلمين أو أيمان البيعة تلزمني لأفعلنَّ كذا، أو إِنْ لم [161/ أ] أفعل كذا؛ فقد يحتمل: يلزمني الحلف بها، وقد يحتمل: يلزمني الحنث فيها مع الحلف؛ فإنَّ الحالف هو الذي يلتزم عند الحنث ما يكره
(1)
في الأصل: (بتقديرات)، والصواب ما أثبتُّ.
(2)
انظر: الدراسات اللغوية والنحوية في مؤلفات ابن تيمية (ص 450، 454)، التحبير شرح التحرير (1/ 350).
لزومه له، والذي يكرهه هو الحنث فيها، وأما مجرد الحلف بها إذا لم يرد الحنث فيها= فلا محذور عليه فيه.
فمقصود القائل بقوله: أَيمان المسلمين أو أَيمان البيعة [تلزمني]
(1)
إن فعلت كذا؛ أي: يلزمني ما يلزم الحالف بأيمان المسلمين إِنْ فعلتُ كذا، وإِنْ أرادَ: يلزمني ما يلزم الحالف بأيمان المسلمين إِنْ فعلت كذا = كان مراده قد حَلَفْتُ بالأيمان التي يحلف بها المسلمون لا أفعل كذا، وإذا حَلَفَ بأيمان المسلمين لا يفعل كذا= كان مقتضاه أنه عند الحنث يلزمه ما يلزم الحالف بيمينِ يمينٍ منها، لكنَّ اللفظ هنا عامٌّ، وإِنْ لم ينطق بكل يمين بخصوصها، بخلاف ما إذا قال: والله لأفعلنَّ، والطلاق لي لازم لأفعلنَّ، وعليَّ الحج لأفعلنَّ ونحو ذلك، فإنَّ هذا حلف بيمينِ يمينٍ منها على سبيل التخصيص والتفصيل.
والمعترض قد قال عن الطوسي: كأنه لمح أن المعلق ههنا التزام الطلاق وهو لا يلزم، وهذا معنى قولنا: إنه نذر الطلاق؛ فإنَّ النذر التزام المنذور كما يلزم الضامن دين المدين مع بقائه عليه، والضمان يلزم بالنص والإجماع.
وأما النذر إذا لم يُعَلَّق بشرط فقد ذهب الصيرفي وأبو إسحاق من أصحاب الشافعي إلى أنه لا يلزم كالوعد عندهم. قالوا: ولأنه عقد تبرع، والتبرعات لا تَلزم بالعقد، بل بالقبض بخلاف المعاوضات، كما إذا قال: إِنْ شفى الله مريضي فعليَّ أَنْ أُعتق؛ فهذا فيه شوب المعاوضة.
(1)
إضافة يقتضيها السياق.
والجمهور على خلاف هذا القول، ونقضوا عليهم بالضمان، فإنَّ الضمان التزام للمدين قضاء دينه بدون المعاوضة وقد لزمه، والناذر التزم لله عبادة، وكلاهما ملتزم، لكن هذا التزم لله ــ تعالى ــ طاعة وهذا التزم للمخلوق قضاء دينه؛ والوعد فيه نزاعٌ وتفصيلٌ ليس هذا موضعه
(1)
.
وقد سمى الله النذر وعدًا
(2)
، فلا نقول: إِنَّ كل وعد لا يلزم الوفاء به؛ ولكن النزاع هل نفس الوعد يوجب أو لا يوجب إلا في صورٍ [161/ ب] مخصوصة كالنذر والضمان؟
وقوله: (إِنَّ الفتوى في هذا الزمان لا يمكن القول بها) كلامٌ صحيح، بل ولا في غير هذا الزمان، اللهم إلا أَنْ يكون قد كان بعض الناس يقصد بها النذر، ولعل هذا قد كان في زمن أبي حنيفة، ولهذا جعل هذا نذرًا، وإلا فالذي يعرف من عامة من يتكلم بهذه الصيغة أنه يقصد بذلك الإيقاع لا النذر، فيحمل كلامهم على ما هو المعروف من معناه عندهم.
وأما تعليله بقوله: (لشهرةِ هذا اللفظ في معنى التعليق) فهذا تعليلٌ باطلٌ، فإنَّ هذا اللفظ يستعمل منجزًا ومعلقًا، فيقول الرجل: الطلاق يلزمني منك، أو الطلاق لازمٌ لي.
(1)
انظر: الفروع (6/ 391 - 393).
(2)
وانظر: مجموع الفتاوى (28/ 649 - 650).
وقد يقول: الطلاق يلزمني ثلاثًا؛ ومراده: إيقاع الطلاق بها وأنها تصير مطلقةً منه، ليس مراده: أنه قد لزمني أَنْ أطلقك فيما بعد، واللفظ يحتمل أن يراد به ذلك المعنى الآخر.
وكذلك اللفظ المعلق؛ إذا قال: إِنْ فعلت كذا فالطلاق لازم لي أو يلزمني؛ فإنه ظاهر في أنه يلزمه وقوعه، ويحتمل أَنْ يراد به النذر؛ أي: يلزمني أَنْ أُطَلِّق فيما بعد؛ فكلٌّ من التعليق والتنجيز ظاهر في لزوم الوقوع، ويحتمل أَنْ يرادَ به النذر وليس لكونه معلقًا تأثير، بل هو عديم التأثير وجودًا وعدمًا.
فإنَّ النذر قد يُعَلَّق كما يُعَلَّقُ الإيقاع، والإيقاعُ قد ينجز كما قد ينجز النذر، بل التعليق في النذر يصح بالإجماع، وفي الطلاق نزاع؛ والطلاق المنجَّز يقع بالإجماع، وفي النذر المنجَّز نزاع.
فقول القائل: (لشهرة هذا اللفظ في معنى التعليق حتى إنه ما صار يفهم منه إلا ذلك؛ وكأنَّ هذه القضية منقولة عرفًا إلى هذا المعنى) تعليلٌ باطلٌ، وكلامٌ باطلٌ؛ فإنَّ اللفظ مشهورٌ في قصد الإيقاع لا في قصد النذر، سواء كان منجزًا أو معلقًا، وهذا هو العلة في وقوع الطلاق، فإنَّ معناه عند الإطلاق هو: إيقاع الطلاق لا نذر الطلاق، ثم إذا قصد به النذر؛ فقد يكون منجزًا ومعلقًا، فليس كونه تعليقًا هو المشهور، ولو كان هو المشهور لم يصلح أن يكون ذلك علة في وقوع الطلاق المنجز بهذا اللفظ والجملة الواحدة، كقوله:(الطلاق يلزمني منك) لا تعليق فيها
(1)
[162/ أ].
(1)
في الأصل: (منها)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
فإنْ قيل: المعترضُ إنما قصدَ بقولِهِ: (لشهرة هذا اللفظ في معنى التعليق) أي
(1)
: إذا تكلم به معلقًا، كقوله: إِنْ سافرتُ فالطلاق يلزمني، وجعل صيغة القسم كصيغة التعليق.
قيل: نعم؛ ونحن نُسَلِّم أنه أراد ذلك، لكن احتمال اللفظ لمعنًى في حالِ تعليقه كاحتماله له في حال تنجيزه، فليس المؤثر في وقوع الطلاق في حال التعليق كونه
(2)
تعليقًا، بل لأنه تعليق لوقوع الطلاق، وإلا فلو قصد بالتعليق النذر = كان تعليقًا للنذر لا للطلاق، فلم يقع به طلاق، ولا يجب عليه إذا لم يكن الطلاق طاعة لله أَنْ يُطَلِّقَ، بل إنما يجب عليه
(3)
إذا حلف ليفعله أو نذر ليفعلنَّه= كفارة يمين، وإنما المؤثر في وقوعه: كون الصيغة مشهورة في معنى إيقاع الطلاق لا في نذره.
وأما قوله: (وإلا فليس لها دلالة من حيث اللغة على التعليق ولا على الحلف)؛ فلم يُرِدْ به الصيغة المنجَّزَة، فإنَّ تلك ليست تعليقًا وحلفًا؛ فالمشهور من معناها هو: الإيقاع، وهذا موافقٌ للغة؛ كما تقدم من أَنَّ لفظ الطلاق يراد به اسم مصدر التطليق
(4)
، ويراد به مصدر الفعل المطاوع له، وهو طَلُقَتْ طلاقًا، فإنه يقال: طَلَّقْتُهَا فَطَلُقَت، وليس لقولهم: طَلُقَتْ مَصْدَرٌ إلا هذا، بخلاف قولهم: طَلَّقَهَا، فإن مصدره القياسي هو التطليق، والطلاق
(1)
في الأصل: (إلا)، ولعل صوابها ما أثبتُّ.
(2)
في الأصل: (لكونه)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(3)
في الأصل زيادة: (كفارة يمين)، والأقرب حذفها حيث يغني عنها ما جاء في آخر الجملة.
(4)
في الأصل: (التعليق)، والصواب ما أثبت كما سيأتي.
اسم للمصدر، كالكلام مع المتكلم، والنبات مع الإنبات، والحركة مع التحريك ونحو ذلك
(1)
؛ فالمصدر يدل على الحدث مع إضافة إلى فاعل
(2)
، واسم المصدر يدل على الحدث فقط
(3)
؛ فالكلام يدل على القدر المشترك بين التكليم والتكلم، والحركة تدل على القدر المشترك بين التحريك والتحرك، والطلاق يدل على القدر المشترك بين طَلَّقَ الرجل امرأته وبين طلقت هي، ثم قد تدل على أحدهما مع قرينة مخصصة كما يقال: طلق طلاقًا، فيكون بمعنى التطليق، ويقال: طلقت المرأة طلاقًا، فيكون مصدر الفعل المطاوع، وكذلك يقال: كَلَّمَهُ كلامًا، وتكلم زيد كلامًا، ويقال: أنبته إنباتًا، ونبت هو نباتًا، وإنما أراد الصيغة المعلَّقةَ
(4)
والمحلوف بها.
ومع هذا؛ فقوله: (ليس لها دلالة من حيث اللغة على التعليق ولا على الحلف) خطأٌ؛ أما في صيغة [162/ ب] التعليق فظاهر، فإنه إذا قال: إِنْ دخلتِ الدار فالطلاق لازمٌ لي؛ فهذا تعليق في اللغة لا يستريب في ذلك أدنى من له معرفة بمثل هذه الأمور في اللغة، وكذلك إذا قال: إِنْ فعلتِ كذا
(1)
جامع المسائل (1/ 284).
(2)
مجموع الفتاوى (10/ 238)(12/ 513)(15/ 273)(16/ 227)(20/ 420)، الفتاوى الكبرى (5/ 219)، مجموعة الرسائل والمسائل (3/ 139)، درء تعارض العقل والنقل (8/ 83).
وانظر: اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية وتقريراته في النحو والصرف (ص 226)، والدراسات اللغوية والنحوية في مؤلفات ابن تيمية (ص 449).
(3)
اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية وتقريراته في النحو والصرف (ص 235).
(4)
في الأصل: (المتعلقة)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
فالحرام يلزمني أو فالعتق يلزمني أو الحج يلزمني أو الصدقة بمالي تلزمني، أو فأيمان المسلمين تلزمني، أو قال: الطلاق يلزمني إنْ فعلت كذا، أو العتق يلزمني إنْ فعلته، أو الحج أو الصدقة بمالي أو صوم شهر يلزمني إِنْ فعلته؛ فهذه صيغة تعليق في اللغة بلا ريب، سواء قَدَّمَ الشرط أو أَخَّرَهُ.
وأما الشبهة في صيغة القسم إذا قال: الطلاق يلزمني لأفعلنَّ كذا أو العتق يلزمني لأفعلنَّه أو الحرام يلزمني لأفعلنه أو أيمان المسلمين أو أيمان البيعة تلزمني لأفعلنه أو لا أفعله ونحو ذلك؛ فهذه صيغة قَسَمٍ، لأنه تَلَقَّى الجملة الثانية بلام القسم التي يتلقى بها جواب القسم في مثل قوله: والله لأفعلنَّ، وهذه اللام التي يتلقى بها جواب القسم من خصائص القسم، لا تكون إلا فيه؛ ولهذا إنما يستعمل معها الألفاظ المستعملة في جواب القسم، نفيًا وإثباتًا
(1)
.
فكما تقول: والله لأفعلنَّ أو لا أفعل تقول: الطلاق يلزمني لأفعلنَّ أو لا أفعل؛ ولَمَّا لم يكن من لغة العرب أن يذكروا الإثبات إلا مؤكدًا = صاروا يقولون: والله أفعل، ومرادهم: ما أفعل؛ كقوله تعالى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} [يوسف: 85] أي: لا تفتأ؛ أي: تزال تذكر يوسف حتى تكون حَرَضًا، لأن عدم لوازم الإثبات دل على أَنَّ المراد النفي، فَحَذَفَ حرف النفي اختصارًا، إذ كان في الكلام ما يدل عليه، وكثير من العامة يقصد الإثبات بمثل هذا، فيقول: والله أقوم؛ أي: لأقومنَّ، وهذا إذا قصد الإثبات حُمِلَ على عُرْفِهِ دون لغة العرب، كما لو قال: أَنْ دَخَلَ الدارَ بالفتح، ومراده:
(1)
انظر (ص 67، 527، 875).
التعليق على دخول مستقبل
(1)
.
وهذا يوافق ما ذكره عن أبي سعيد الخوارزمي الضرير ــ الذي يقال: إنه لم يكن في أصحاب الشافعي في وقته بعد أبي الطيب الطبري أفقه منه ــ أنه قال في الجواب عن قولهم: أنت طالق لا دخلت الدار؛ ليست (لا) بدلًا من حرف الشرط، وإنما وقع الطلاق بدخوله، لأنَّ [163/ أ] قوله: أنت طالق يصلح أَنْ يقام مقام: أُقْسِمُ وأَحْلِفُ؛ والدليل عليه: أنه لو قال: أنت طالق إِنْ حلفت، ثم قال: أنت طالق إِنْ دخلتِ الدار = طلقت.
وهذا الذي ذكره عن أبي سعيد قد ذكره غير واحد من العلماء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، وذكروا أنهم استعملوا في ذلك صيغة القسم، وخالفهم طائفة قليلة فقالوا ــ واللفظ لأبي عبد الله بن تيمية
(2)
ــ: (فأما ما يخرجه العامة مخرج الشرط بغير هذه الحروف ــ يعني: بغير حروف
(1)
مجموع الفتاوى (32/ 87)، الفتاوى الكبرى (3/ 209)، الصعقة الغضبية للطوفي (ص 565 وما بعدها).
(2)
هو: فخر الدين محمد بن الخضر بن محمد الحراني، الفقيه المفسِّر الواعظ، ولد سنة (542)، وتوفي سنة (622).
انظر في ترجمته: ذيل طبقات الحنابلة (3/ 321)، المقصد الأرشد (2/ 406)، سير أعلام النبلاء (22/ 288).
ولم يطبع له إلا كتاب (بلغة الساغب) لكن كتاب الطلاق والأيمان غير موجودين فيه!
ومن مؤلفاته التي وجدتُ ابن تيمية يُصرِّح بالنقل منها: التلخيص، وترغيب القاصد، وشرح الهداية لأبي الخطاب.
انظر: مجموع الفتاوى (20/ 288)(31/ 226)(34/ 112، 114 وما بعدها)، الفتاوى الكبرى (5/ 93، 305)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 614، 616)، المستدرك على مجموع الفتاوى (5/ 66، 68).
الشرط ــ كقوله: أنتِ طالق لأتزوجنَّ عليك، أو أنتِ طالق لأفعلنَّ كذا = فيصح إذا نوى التعليق وكان
(1)
جاهلًا بالعربية، وإن كان عالمًا ونوى التعليق خُرِّجَ على روايتي
(2)
تعليق المطلِّق بالنية)
(3)
؛ فهؤلاء لم يجعلوا هذا اللفظ في اللغة قَسَمًا ولا جعلوه تعليقًا، بل جعلوه في لحن العامة الذي ينوون به الشرط، كما لو قال:(أَنْ دخلتِ الدار فأنت طالق) بالفتح؛ فإذا نوى به ما يقصده العامة وكان جاهلًا بالعربية = كان شرطًا، كما لو نواه، وجعلوه في العربية حُكْمُهُ حكم المنجز.
وأنَّ قوله: (أنت طالق لأخرجنَّ) جملتان [لا]
(4)
ارتباط لإحداهما بالأخرى، كقوله: أنت طالق عند الخروج
(5)
، فإذا نوى التعليق بذلك كان كما لو نواه باللفظ المطلق، فخرجوه على روايتي
(6)
تعليق الطلاق بالنية؛ وهذا القول ضعيف جدًا من وجوه:
أحدها: أن هذه الصيغة صيغة قسم لا شرط.
الثاني: أَنَّ هذا موافقٌ للغة لا مخالفٌ لها.
الثالث: أنها سواء كانت
(7)
في عرف الناس يقصدون بها ارتباط الطلاق
(1)
في الأصل: (فكان).
(2)
في الأصل: (روايتين)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(3)
لم أجد مَنْ نقلَ كلام أبي عبد الله هذا، ويبدو أن النقل عنه ينتهي هنا.
(4)
إضافة يقتضيها السياق.
(5)
في الأصل: (الخرج).
(6)
في الأصل: (روايتين)، والصواب ما أثبتُّ.
(7)
في الأصل زيادة: (إنها)، وبحذفها يستقيم الكلام.
بالفعل، ليس إحدى الجملتين منفصلة عن الأخرى، فحمل كلامهم على ذلك غلط.
الرابع: أنه لا يُعرف في اللغة مَنْ تكلم بهذا، وجعلهما جملتين منفصلتين، لا اتصال لإحداهما بالأخرى، حتى يقال: إنَّ لها معنًى في اللغة بخلاف معناها عند العامة، بخلاف قولهم: أَنْ دخلتِ الدار فأنت طالق بالفتح؛ فإنَّ معنى هذا في اللغة: لأجل دخول الدار أنت طالق، وهو كقوله: أنت طالق لدخولك الدار [163/ ب] فلهذا كان له معنى في اللغة، ومعنى في عرف الجهال بالعربية، بخلاف قوله: أنت طالق لأفعلنَّ كذا، فإنه ليس له معنى في اللغة يخالف معناه المعروف عند العامة.
لكن لو قُدِّرَ أَنَّ هذا يخالف قياس العربية، لكان من العربية المولَّدة لا من العربية الملحونة.
فإنَّ العربيةَ أربعةُ أنواع: عربية محضة، وعربية معربة؛ وكلاهما نَطَقَ بها العرب العرباء، وعربية مولَّدة؛ وهي ما نطق بها المولَّدون من العرب ــ كما يقسم الشعراء إلى عرب ومولَّدين ــ كلفظ الماهية والكيفية والبيطرة ونحو ذلك؛ والرابع: عربية ملحونة
(1)
.
الخامس: أنه لو قُدِّرَ أَنَّ معناها عند العامة يخالف معناها في اللغة، فإذا تَكَلَّمَ بها النحوي وقصد ما يَقصده العامة حُمل على ذلك، فإنَّ النحوي
(1)
انظر: مجموع الفتاوى (5/ 147)(6/ 99)(31/ 47)(32/ 252)، الفتاوى الكبرى (4/ 258)، مجموعة الرسائل والمسائل (5/ 52)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 391)، المستدرك على مجموع الفتاوى (5/ 139)، الجواب الصحيح (5/ 10 - 11).
يتكلم بالكلام المعرب تارة، وبالكلام الملحون أخرى؛ وإنما النزاع إذا أَطلق؛ هل يُحمل كلامه على العربية أو على مقتضى كلام العامة؟ على وجهين؛ كما أنه لو نوى موجب اللفظ في العربية وهو لا يعرفه؛ فوجهان.
وعلى هذا؛ فإذا قصد المتكلم بذلك القَسَمَ والتعليق لم يبق في ذلك نزاع أصلًا، كما لو قال: أنت طالق واحدة في ثلاث، ونوى وقوع واحدة فقط، وأن يكون التكسير ظرفًا لا يقع به شيء؛ فلهذا يقبل منه وإن كان حاسبًا، وكذلك لو نوى الجمع، ولكن إذا لم ينو شيئًا؛ ففيه أوجه: هل يقع واحدة أو ثنتان أو ثلاث أو يُفَرَّق بين الحاسب وغيره؟
* * * *
فصلٌ
قال: (وقد يستشكل تعليق الإنشاء، ويقال: كيف جاز تعليق الطلاق والعتق مع كونهما إنشاءين؟ وإنْ كان هذا السؤال لا يَصْدُرُ من المُصَنِّف لكونه موافقًا على صحة التعليق، ولا من جهة الظاهرية لموافقتهم على تعليق العتق.
فاعلم أَنَّ تعليق الطلاق والعتق ليس من باب تعليق الإنشاء، فإنَّ الإنشاء هو الإعتاق والتطليق، وأما العتق والطلاق فهما أَثَرَاهُمَا؛ فالإنشاء في الحقيقة هو التعليق الذي هو يُصَيِّرُ الطلاق والعتق مُعَلَّقَين بذلك الشرط [164/ أ]، والوقوعُ المعلَّق أَثَرُ ذلك الإنشاء؛ والإنشاء من مقولة الفعل، والوقوع من مقولة الانفعال.
فالزوج لم يُعَلِّق تطليقًا ولا إعتاقًا، وإنما عَلَّقَ طلاقًا وعتقًا؛ ويُبيِّنُ ذلك قول الفقهاء: التعليق مع الصفة تطليق، فلم يجعلوا الوقوع المعلق وحده تطليقًا؛ والله أعلم)
(1)
.
والجواب: أَنَّ هذا الكلام قد تقدم منه مبسوطًا، وتقدم الكلام عليه، ولكن ــ والله أعلم ــ كان قد اعترض أولًا اعتراضًا مختصرًا ذكر فيه هذا الكلام، ثم بسط الاعتراض بما تقدم ذكره له أولًا؛ فلهذا تكرر هذا منه، ولا نؤاخذه في ذلك؛ بل نقول: مَنْعُهُ هُوَ من تعليق الإنشاء حجةٌ عليه، فإنَّ الوقوعَ تَبَعٌ للإيقاع مستلزم له، يمتنع وقوع بلا إيقاع، فإنْ كان الإيقاع لا يجوز تعليقه لم يجز تعليق الوقوع.
(1)
«التحقيق» (44/ أ).
ومعلوم أنه لم يوقع الطلاق عند الصفة لا منجزًا ولا معلقًا وإنما عَلَّقَهُ قبل ذلك، فإنْ لم يكن التعليق إيقاعًا منجزًا ولا معلقًا لم يقع الطلاق بحال، وكذلك سائر التعليقات؛ وإن كان إيقاعًا في الحال لِمَا يقع في المآل= فإما أن يكون الإيقاع منجزًا أو معلقًا؛ فإن كان منجزًا لزم الوقوع في الحال، وإنْ كان معلقًا فالإيقاع عنده لا يقبل التعليق.
وإنْ قال: هو إيقاعٌ منجَّز مقتضاه وقوعٌ مُؤَخَّرٌ= لم يكن هذا معقولًا، بل المعقول: أن الإيقاع المنجَّز حكمه: وقوعٌ منجَّز.
وإنْ قال: [الإيقاع]
(1)
المنجز تارة يُجعل وقوعه منجزًا، وتارة يُجعل وقوعه معلقًا = كان معناه أنه أوقع الآن ما لا يقع الآن، بل يقع فيما بعد.
فيقال له: هذا مكابرة؛ فإنه لم يوقع الآن شيئًا، بل الآن عَلَّقَ الطلاق، ومجرد التعليق ليس إيقاعًا في الحال، وإنما هو إيقاع عند الصفة، فإن لم يكن الإيقاع معلقًا= فلم يوقعه لا منجزًا ولا معلقًا.
وأيضًا؛ فالوقوع لازم للإيقاع الشرعي، والإيقاع الشرعي مستلزم للوقوع، يمتنع وجودُ أحدِهما دون الآخر، والإيقاع عِلَّةٌ تامةٌ للوقوع وهو الإيقاع الجازم، فلا يتأخر الوقوعُ عن عِلَّتِهِ [164/ ب] التامة، والإيقاع الجازم عِلَّةٌ تامة للوقوع، فلو كان المعلِّق قد وُجِدَ منه إيقاعٌ تامٌّ لَلَزِمَ وجودُ الوقوع في الحال؛ فعلم أنه لم يوجد منه في الحال إيقاع تام، وإنما يتم إيقاعه إذا حصلت الصفة، فإنه قصد أن يقع عند الصفة، لم يقصد أن يقع قبل ذلك، فإذا وُجِدَتِ الصفة عُلِمَ أنه أراد الوقوع حينئذٍ.
(1)
في الأصل: (الإنجاز)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
فإنَّ مراد الإنسان نوعان: نوع يريده إرادةً جازمةً، ونوعٌ يريده إرادةً معلقةً بشرطٍ؛ فإذا وُجِدَ الشرطُ كان مرادًا له، وإنْ لم يوجد لم يكن مرادًا له، وهذا معنى قول جمهور الفقهاء مع الصفة تطليق، فلم يجعل الوقوع المعلَّق وحده تطليقًا، فَعُلِمَ أنه لم يصر مُطَلِّقًا إلا بالتعليق ووجود الصفة، والتطليق هو إيقاع الطلاق؛ فَعُلِمَ أنه لم يقع منه عند التعليق إيقاع جازم ولا تام ولا منجز، وإنما وقع منه تطليق معلق بالصفة.
ومن الفقهاء مَنْ قال: التعليق ليس بتطليق البتة؛ والطلاق الواقع بوجود الصفة لم يوقعه هو، بل هو وقع؛ وعلى هذا ينبني النزاع فيما إذا قال: إنْ طلقتكِ فعبدي حر أو فلانة طالق، فإنَّ هذا يتناول ما نجزه من الطلاق بعد هذا، وذلك ما يعلقه بعد هذا بشرطٍ يقع الطلاق عنده في المشهور عند أكثر العلماء
(1)
، وهو قول جمهور أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما.
ومنهم مَنْ قال: إذا وقع بعد هذا بتعليقٍ متأخر لم يكن تطليقًا، فلا توجد الصفة؛ وهذا أحد الوجهين في مذهبه ذكره القاضي أبو يعلى وهو ضعيف، وأما الطلاق إذا وقع بصفةٍ متقدمةٍ على هذا التعليق لم يكن قد طَلَّقَ بعد التعليق الثاني، بل وقع الطلاق بالتعليق الأول، فلا تحصل الصفة فلا يحصل المعلَّق بها، اللهم إلا أَنْ يقصد مجرد حصول المعلَّق سواء كان بتعليقٍ متقدم أو بغير ذلك.
* * * *
(1)
وضع الناسخ عليها حرف (خ)، وفي الهامش كتب (الفقهاء) وفوقها حرف (خ).
فصلٌ
قال المعترض:
(قال ــ يعني المجيب ــ: وأبو ثورٍ طَرَدَ هذا الأصل، وقال بموجبه في العتق، وقال: إِنْ لم يكن في الطلاق إجماعٌ فهو بمنزلة العتق، وقد تبيَّنَ أنه لا إجماع فيه، فإذا كان الصحابة أفتوا في الحلف بالعتق أنه لا يقع مع أنه [165/ أ] قربة وطاعة وَبِرٌّ = فَأَنْ يقولوا في الحلف بالطلاق أنه لا يقع بطريق الأولى والأحرى [لأنه ليس فيه قُربةٌ ولا طاعة؛ بل إما مكروهٌ وإما محرم].
وأما الرواية الأخرى عن ابن عباس وابن عمر؛ فقد قال أحمد: ما سمعناه إلا من عبد الرزاق عن معمر.
وعثمان بن حاضر قد قيل: إنه سمع من ابن عباس، وقال أبو زرعة
(1)
: هو يماني حميري ثقة. وقد روى له أبو داود وابن ماجه.
والأثر الأول أثبتُ؛ ورجالُهُ من أئمة العلم والفقهاء الذين يعلمون ما يروون، وهذا الأثر فيه غربة
(2)
، ولم يثبت لنا لفظه، فإنْ صَحَّ كان في ذلك نزاعٌ بين الصحابة.
وقد ذكر البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أثرًا في الطلاق يحتمل أن يكون من هذا الباب، ويحتمل ألا يكون منه.
ثم قال: قلتُ: أما نقله عن أبي ثور؛ فاعلم أَنَّ أبا ثور نُقِلَ عنه التصريح
(1)
الجرح والتعديل (6/ 148).
(2)
كذا في الأصل و «التحقيق» ، وتحرّف في مجموع الفتاوى إلى (تمويه).
بالإجماع في مسألة الطلاق، وكذلك عن الإمام محمد بن نصر المروزي، وهو من أعلم الناس باختلاف الصحابة ومن بعدهم في الأحكام.
قال ابن عبد البر في الاستذكار
(1)
: قال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي: إذا حلف بالمشي إلى مكة ــ وساق كلامه إلى قوله ــ قال أبو عمر: الخلاف الذي ذكر أبو ثور في العتق هو: ما رواه معتمر بن سليمان ــ يعني: أثر ليلى بنت العجماء ــ، ثم قال: قلت: وقد تقدم الكلام عليه.
وكذلك نقل ابن المنذر الإجماع؛ قال
(2)
: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم قولَهُ على أن الحالف بالطلاق على زوجته في أمر لا يفعله ففعله أن الطلاق يقع عليها؛ هذا قول مالك وأهل المدينة والليث بن سعد وأهل مصر والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأصحاب الرأي وأبي عبيد)
(3)
.
والجواب: أن أول مَنْ نَقَلَ في هذه المسألة إجماعًا هو أبو ثور، وعنه تلقى ذلك من نقله، كمحمد بن نصر وابن عبد البر.
وأما ابن جرير الطبري ــ وإِنْ كانَ هو لم يذكره ــ فالإجماع عنده هو قول الجمهور؛ فلا يحتج بنقله.
وأما ابن المنذر؛ فلفظه
(4)
: أجمع كل من نَحفظ عنه قولَه؛ وعادة ابن المنذر إذا ذكر مثل هذا ينقل [165/ ب] قول من حفظ قوله في تلك المسألة،
(1)
(15/ 44 وما بعدها).
(2)
في الأوسط (12/ 134).
(3)
«التحقيق» (44/ أ - ب)، وما بين المعقوفتين زيادة منه.
(4)
في الأصل: (فلفظ)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
ولم ينقل ذلك إجماعًا للأمة ولعلمائها، لأنه لا يكون قد عرف أقوال سائر العلماء في ذلك، فَنَقَلَ قولَ من حفظ قولَهُ؛ وهذا يدل على أن ابن المنذر لم يعلم أقوال سائر العلماء في هذه المسألة، ولم ينقل فيها إجماعًا يَحتج به، كما ذكر ألفاظه في مثل هذا الإجماع وفي غيره بما يتبين مراده.
وذكرنا مع ذلك أن كثيرًا من الإجماعات التي نقلها عن جميع العلماء يكون فيها نزاع لم يبلغه؛ فكيف بما يَنقل فيه قول من حفظ قوله؟! فإنَّ مثل هذا يكون فيه كثيرًا نزاع لم يعرفه.
فإذا أراد أن ينقل الإجماع العام، قال: أجمع أهل العلم على أن الصلاة لا تجزئ إلا بطهارة إذا وجد المرء السبيل إليها
(1)
.
وأجمع أهل العلم على أن خروج الغائط من الدبر، وخروج البول من الذكر وقُبُلِ المرأة، وخروج المذي، وخروج الريح من الدبر، وزوال العقل بأيِّ وجهٍ زال= ينقضُ كل واحد منها الطهارة ويوجب الوضوء
(2)
.
وقال: أجمع أهل العلم أن الضحك في غير الصلاة
(3)
لا ينقض الطهارة ولا يوجب وضوءًا
(4)
.
وأجمعوا على أن الضحك في الصلاة ينقض الصلاة
(5)
.
(1)
الإجماع (ص 29).
(2)
الإجماع (ص 29 - 30).
(3)
كتب في الهامش: (صلاة).
(4)
الإجماع (ص 30).
(5)
الإجماع (ص 31).
وأجمع أهل العلم على أن أول وقت الظهر زوال الشمس
(1)
.
وأما إذا قال: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم؛ فإنه يدل على أن هذا القول قول مَنْ يَعرِفُ قولَه في تلك المسألة، ولم يعرف فيها سائر أقوال العلماء؛ سواء سماهم أو لم يسمهم، وهذا إجماع خاص لا عام؛ كقوله
(2)
: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم وعلماء الأمصار على أَنَّ [القذف و] قول الزور والكذب والغيبة [لا يوجب طهارة]
(3)
؛ هذا مذهب المدني والكوفي والشافعي وأحمد وإسحاق، قال: وقد روينا عن غير واحد من الأوائل أنهم أمروا بالوضوء من الكلام الخبيث. قال: وذلك عندي استحباب ممن أمر به، لأنَّا لا نعلم حجةً توجب في شيء من الكلام وضوءًا.
وكذلك قوله
(4)
: أجمع من نحفظ قوله أنَّ الوضوء غير جائز بماء الورد، وماء الشجر، وماء العصفر، ولا تجوز الطهارة إلا بماء مطلق يقع عليه اسم الماء. ومعلومٌ أَنَّ في ذلك نزاعًا؛ أما ماء الورد ونحوه ففيه [166/ أ] نزاع عن ابن أبي ليلى والأوزاعي وغيرهما، وأما المياه التي تجري من الشجر فيجوز التوضؤ به في مذهب أبي حنيفة أيضًا.
ثم قال
(5)
: وأجمع أهل العلم على أن الاغتسال والوضوء لا يجوز بشيء من الأشربة سوى النبيذ؛ ففي الأشربة حكى إجماع أهل العلم، وهو
(1)
الإجماع (ص 41).
(2)
في الأوسط (1/ 334)، وما بين المعقوفتين منه.
(3)
في الأوسط: (لا تنقض طهارةً ولا توجب وضوءًا).
(4)
في الأوسط (1/ 358).
(5)
في الأوسط (1/ 359).
الإجماع العام، وفي ماء الورد حكى إجماع مَنْ يحفظ قوله، ومثل هذا كثير.
ثم يقال: كثيرٌ ممن يفتي بوقوع الطلاق المحلوف به، يفتي بأقوال قد ذكر ابن المنذر الإجماع على خلافها، فإنَّ منْ أجودِ حيلهم: الاحتيالُ بخلع اليمين
(1)
؛
فهو خيرٌ من السُّرَيجية، وخير من نكاح التحليل، وخير من التحيُّل على إفساد النكاح، ومع هذا؛ فقد قال ابن المنذر لما ذَكَر آية الخلع
(2)
: قد حَرَّمَ الله على الزوج في هذه الآية أن يأخذ منها شيئًا مما آتاها إلا بعد الخوف الذي ذكره الله ــ تعالى ــ، ثم أكد تحريم ذلك بتغليظ الوعيد على كل من خالف أمره، فقال:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} الآية [البقرة: 229]، وبمعنى كتاب الله جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خالع بين خولة
(3)
بنت سلول وبين زوجها لما قالت: إني لا أستطيعه، وأكره الكفر في الإسلام
(4)
.
قال
(5)
: وبه قال عوام أهل العلم، وحظروا على الزوج أَخذَ شيءٍ من مالها إلا أن يكون النشوز من قبلها، روينا ذلك عن ابن عباس وعطاء ومجاهد والشعبي والنخعي وابن سيرين والقاسم بن محمد وعمرو بن شعيب وعروة بن الزبير والزهري وحميد بن عبد الرحمن وقتادة، وبه قال:
(1)
انظر: مجموع الفتاوى (32/ 146)(33/ 39، 64، 148)، الفتاوى الكبرى (3/ 237، 267، 300)(6/ 99)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 545).
وانظر ما تقدم (ص 45).
(2)
الأوسط (9/ 316)، الإشراف (5/ 259).
(3)
كذا في الأصل والأوسط والإشراف، وفي مصادر التخريج:(جميلة).
(4)
أخرجه البخاري (5273) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(5)
في الأوسط (9/ 317)، الإشراف (5/ 259).
الثوري ومالك وإسحاق وأبو ثور.
وحكي عن النعمان أنه قال: إذا جاء الظلم والنشوز من قبله فخالعته= فهو جائزٌ ماضٍ، وهو آثم لا يحل [له]
(1)
ما صنع ولا يُجبر
(2)
على رَدِّ ما أخذ.
قال أبو بكر بن المنذر
(3)
: وهذا مِنْ قولِهِ خلافُ ظاهرِ الكتاب، وخلاف الخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلاف ما أجمع عليه عوام أهل العلم من ذلك.
قال: ولا أحسب مَنْ قال
(4)
لامرئٍ: اجتهد بنفسك
(5)
في طلب الخطأ، ما وجد أمرًا أعظم من أن ينطق [166/ ب] الكتاب بتحريم شيءٍ، ثم يُقَابِلُهُ مُقَابِلٌ بالخلاف نصًّا، فيقول: بل يجوز ذلك ولا يجبر على رَدِّ ما أَخَذَه.
وقال قائل ــ يعني الشافعي ــ: لَمَّا جاز أن يأخذ ما طابت به نفسًا على غير طلاق = جاز أن يأخذ منها ما أعطته على طلاق أو فسخ نكاح.
قال
(6)
: وهذا وإن لم يكن في باب الخطأ أقربُ مما مضى من خلاف الكتاب والسنة فليس بدونه، لأنه يحرم في باب المعاوضات [ما حَرَّمَه
(1)
ما بين المعقوفتين من الإشراف.
(2)
كذا قرأتها، وهي كذلك في الأوسط.
(3)
في الأوسط (9/ 317)، الإشراف (5/ 360).
(4)
في الإشراف: (أَنْ لو قيل).
(5)
في الإشراف: (أَجْهِد نفسك).
(6)
الإشراف (5/ 260).
الله]
(1)
من الربا، ويجيز الهبات والعطايا في غير باب المعاوضة، وهذا سبيل كل من خالف كتابَ الله والخبرَ الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال
(2)
: وإنه ليبلغني أَنَّ كثيرًا ممن نصب نفسه للفتيا في النوازل يُعَلِّمُ مَنْ حلف بطلاق زوجته ثلاثًا ليفعلنَّ كذا أو لا يفعله، وكل واحد من الزوجين يَرُدُّ إلى صاحبه ما أوجب الله عليه أن يقول له: خُذْ منها كذا وافسخ عنها نكاحها، أو طَلِّقها على ما تأخذ منها طلقة [ثم احنث وتزوَّجها، وتكون عندك على ما بَقي من الطلاق]
(3)
فليس فيما قلناه حديث، فيحتال القائل بما ذكرناه عنه أن يطعن في إسناده، ولا تلك آية تحتمل التأويل فيحتال في دفعها بالتأويل، وإنما هو ظاهر لا يحتمل إلا معنىً واحدًا.
فلو تكلم المتكلم عن عطاء والزهري والثوري حيث أجازوا الشغار، وقالوا: إنما أجزناه لتراضيهما به، وأنتم لا يفسد العقد عندكم بفساد المهر، أو قال: بعض من يجيز نكاح المحرم أنا أبيحه بقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]، وأَنَّ العقد بولي وشهود، والنكاح في نفسه مباح، وإنما نهى عن العقد في وقتٍ؛ كما قال مَنْ خالفنا في عقد البيع بعد النداء لصلاة الجمعة: أَنَّ ذلك لوقت وهو جائز، فلما رأيتك لا تلتفت إلى الوقت اقتديت بك، وأجزت نكاح المحرم إذ هو لوقت، هل يقابَل مَنْ خالف هذه
(1)
ما بين المعقوفتين من الإشراف.
(2)
في الإشراف (5/ 260).
(3)
من الإشراف.
الأشياء إلا بأن يقال له: إِنَّ النكاح لا ينعقد بما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
، وإذا نهاك الله ــ عز وجل ــ ورسوله صلى الله عليه وسلم عن شيءٍ بَطَلَ عقدُ النكاح؛ كما أبطلت البيع الذي عُقِدَ على الربا، ما بينَ شيءٍ مِنْ ذلكَ فَرْقٌ.
فهذا ابن المنذر قد بَيَّنَ بكلامِهِ أنه لم يعلم أحدًا ممن مضى [167/ أ] أفتى بالخلع لأجل حَلِّ اليمين، وهو قد أنكر على من فسخ الخلع إذا لم يكن النشوز من قبلها، وإِنْ كان قاصدًا للخلع، وذكر أنه مخالف للكتاب والسُّنة وقول عوام أهل العلم، وهذا غايةُ ما يذكر من الإجماع في مثل هذه المسائل.
وإذا كان العمدةُ في نقلِ الإجماعِ على أبي ثور؛ فأبو ثور قال: مَنْ حَلَفَ بالعتق فعليه كفارة يمين ولا عتق عليه، وذلك أَنَّ الله ــ عز وجل ــ أوجب في كتابه كفارة اليمين على كل حالف، فقال:{ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] يعني: فحنثتم.
قال أبو ثور ــ رحمة الله عليه ــ: فكل يمين حلف بها الإنسان فحنث فعليه كفارة على ظاهر الكتاب، إلا أنْ تجتمع الأمة على أنه لا كفارة عليه في شيءٍ ما، ولم يجمعوا على ذلك إلا في الطلاق، فأسقطنا عن الحالف بالطلاق الكفارة، وألزمناه الطلاق للإجماع، وجعلنا في العتق الكفارة لأنَّ الأمةَ لم تجتمع على أنه لا كفارة فيه؛ هذا لفظ أبي ثور
(2)
.
(1)
كما في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه (1409) من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه مرفوعًا: «لا يَنكح المحرم، ولا يُنكِح، ولا يخطب» .
(2)
نقل كلام أبي ثور المروزيُ في اختلاف الفقهاء، وسبق في (ص 7).
وأبو ثور قد عُرِفَ مِنْ قولِهِ صريحًا أَنَّ الإجماع عنده معناه: عدم العلم بالنزاع لا العلم بعدم النزاع؛ وبهذا سَلِمَ مِنْ إنكارِ أحمد على مَنْ يَدَّعِي الإجماع؛ كقول أحمد في رواية ابنه عبد الله
(1)
: من ادعى الإجماع فقد كذب لعل الناس قد اختلفوا؛ هذه دعوى بشر المَرِيْسِي والأصم
(2)
، لكن يقول: لا نعلم الناس اختلفوا أو لم يبلغه.
وكذلك نقل المَرُّوذِي عنه
(3)
أنه قال: لا يجوز للرجل أن يقول أجمعوا، إذا سمعتهم
(4)
يقولون: أجمعوا؛ فاتهمهم، لو قال: إني لا أعلم مخالفًا لكان.
وكذلك نقل
(5)
عنه أبو طالب أنه قال: هذا كذب! ما علمه أَنَّ الناس مجتمعون؟ ولكن يقول لا أعلم فيه اختلافًا، فهو أحسن مِنْ قوله إجماع الناس
(6)
.
وكذلك نقل أبو الحارث عنه: لا ينبغي لأحدٍ أَنْ يَدَّعي في قوله الإجماع،
(1)
(ص 438).
(2)
سيأتي التعريف بهما في (ص 775 وما بعدها).
(3)
نقلها: أبو يعلى في العدة (4/ 1060)، وابن تيمية في المسوَّدة (2/ 617).
(4)
في الأصل: (سمعتم)، والتصويب من العدة لأبي يعلى والمسوَّدة.
(5)
في الأصل زيادة: (به)، والصواب حذفها.
(6)
لا أعلم أنَّ مسائله مطبوعة، وقد نقلها: أبو يعلى في العدة (4/ 1060)، وابن تيمية في المسوَّدة (2/ 617).
لعل الناس اختلفوا
(1)
.
وأبو ثور كان قرين أحمد ــ رحمة الله عليهما ــ وبلده بغداد، وكانت أكثر بلاد الإسلام علمًا في ذلك الزمان، وهو كان أشهر أهل ذلك العصر بالاجتهاد والإفتاء بعد أحمد، وكان أحمد كثيرًا ما يُسأَلُ عما يقول، ولهذا كان هو أول [167/ ب] من ذكره أبو إسحاق في طبقات الفقهاء المجتهدين بعد أحمد بن حنبل، وذكر بعده: ابن جرير الطبري وداود بن علي الأصبهاني
(2)
.
وكان أحمد يثني عليه تارة حتى يقول: (هو عندي في مِسلَاخ الثوري)
(3)
، وإذا بلغه عنه أقوال مخالفة للسنة وأقوال الصحابة كإباحته ذبائح المجوس وغير ذلك، يتكلم فيه بكلام غليظ
(4)
.
ومع هذا؛ فأبو ثور لم يَدَّعِ عَدَمَ العلم بالنزاع إلا في نفي الكفارة لا في وقوع الطلاق، ولو قُدِّرَ أَنَّ الأمة لم يقل فيها أحد بالكفارة لم يلزم اتفاقهم على وقوع الطلاق، فإنه قد كان في زمن أبي ثور، وقبل أَنْ تصنف الكتب منهم مَنْ يقول: الطلاق المعلَّق بالصفة لا يقع؛ ومنهم مَنْ يُفَرِّق بين التعليق الذي يُقصد به اليمين وبين التعليق الذي يُقصد به الإيقاع، فيوقع الثاني دون المحلوف به؛ وكان منهم مَنْ يَرَى أَنَّ التعليق الذي يُقصد به اليمين كتعليق
(1)
لا أعلم أنَّ مسائله مطبوعة، وقد نقلها: أبو يعلى في العُدة (4/ 1060)، وابن تيمية في المسوَّدة (2/ 617).
(2)
طبقات الفقهاء (ص 91). وترتيب فقهاء بغداد كما ذكرهم الشيرازي هكذا: أحمد بن حنبل، ثم أبو ثور، ثم القاسم بن سلام، ثم داود بن علي، ثم ابن جرير الطبري.
(3)
تاريخ بغداد (6/ 579)، وتقدم في (ص 14).
(4)
تقدمت الإشارة إلى شيءٍ من ذلك في صفحة (14 - 15).
النذر لغوٌ
(1)
ليس فيه لزوم ولا كفارة، فإذا قُدِّرَ إجماعهم على نفي التكفير= لم يلزم إجماعهم على اللزوم، بل أبو ثور قام عنده الدليل على أَنَّ التعليقَ ــ تعليق الطلاق والعتاق والحلف بها ــ عقدٌ صحيح في الشرع، ورأى أَنَّ القرآن يدل على تكفير كل يمين، فعمل بموجب ذلك. فما علم فيه نزاعًا؛ هل يكفر أو لا يكفر؟ فأوجب فيه الكفارة، وما ظن أنه لا نزاع في تكفيره ــ وهو الطلاق ــ ألزمَ به، لأنه لم يمكنه أَنْ يقول: إِنَّ التعليق ــ لا سيما التعليق الذي يقصد به اليمين ــ باطلٌ؛ لا لإجماعٍ حكاه في ذلك، بل لما عَرَفَهُ من الدليل، ولم يمكنه القول بالكفارة لأنه لم يعلم به قائلًا، وظنَّ الإجماع على خلافه؛ فلزم من ذلك أن يقول بوقوع الطلاق لا لأن الكتاب اقتضى ذلك عنده ولا السنة ولا القياس، بل كلامه يدل على أَنَّ ظاهر النص يقتضي تكفير كل يمين، وأنه لو عرف أَنَّ قائلًا يقول بتكفير الحلف بالطلاق = لوجب القول بذلك لدلالة الكتاب عليه.
وهذا معنى قول المجيب حيث قال: أبو ثورٍ طَرَدَ هذا الأصل، وقال بموجبه في العتق، وأَنَّ الطلاق [168/ أ] عنده بمنزلة العتق إذا لم يكن فيه إجماع، وقد تبين أنه لا إجماع فيه = فيلزم على أصل أبي ثور أنه لا يقع الطلاق المحلوف به بل يكفر، وذلك على أصله ألزم منه على أصل الشافعي وأحمد، وهذا بمنزلة الأقوال المعلقة للشافعي وغيره من الأئمة إذا قال: قد روي في المسألة خبرٌ إِنْ صَحَّ قلتُ بِهِ
(2)
؛ فيعلم أنه إذا كان صحيحًا فإنه
(1)
في الأصل: (لغوًا)، والجادة ما أثبتُّ.
(2)
وقد ألَّف تقي الدين السبكي رسالة بعنوان (معنى قول الإمام المطلبي: إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي) طبعت عدة مرات. كما ألَّف الشيخ سعيد عبد القادر باشنفر رسالة بعنوان (النظر فيما علَّق الشافعي القول به على صحة الخبر) وقد جمع اثنتان وخمسون مسألة علَّق الشافعي القول فيها على صحة الحديث.
قوله، أو إذا قال العالم: هذا هو قولي لولا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من كلامه، فإذا علِمَ أَنَّ ذاك الحديث باطل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
فإذا كان أبو ثور يقول: كلُّ يمينٍ حَلَفَ بها الإنسان فحنث فعليه الكفارة، إلا أَنْ تجتمع الأمة على أنه لا كفارة عليه في شيءٍ ما، ثم قال: ولم يجتمعوا على نفي الكفارة إلا في الطلاق.
ومعنى الإجماع عنده: أني لم أعلم فيه منازعًا، فإذا عُلِمَ أَنَّ في الطلاق نزاعًا هل يكفر أم لا؟ علم يقينًا أن قول أبي ثور هو أَنَّ الطلاق يُكَفَّر؛ فإنه أوجب الكفارة في كل يمين يحلف بها الإنسان إلا إذا كان إجماعٌ بخلاف ذلك، فإذا عُرِفَ انتفاء الإجماع= لزم طرد عموم قوله الذي صَرَّحَ بعمومه، كعموم دليله وتعليله.
وما ذكره أبو ثور من دلالة
(2)
الكتاب أصل متيقنٌ عنده، وأما الإجماع فليس معه فيه إلا ظن، وتعارَضَ عنده ظن الإجماع وظن ظاهر القرآن؛ فكان ظَنُّهُ للإجماع أقوى فقدَّمَهُ.
وهذا حال المجتهدين إذا تعارض عندهم ظنان رجحوا أقواهما، ومن عرف عنده هذا الظن وترجح عنده نفيُ الإجماع ووجود النزاع = بَقِيَ عنده ما دل عليه الكتاب والسنة والاعتبار في تكفير أيمان المسلمين من الدليل
(1)
كذا في الأصل وكأنَّ ثَمَّ سقطًا، وانظر ما سيأتي في (ص 822 - 823).
(2)
في الأصل (لا له)، والصواب ما أثبتُّ.
السالم عن المعارض المقاوم؛ فيجب عليه العمل عنده، فكيف إذا علم امتناع اجتماع الأمة على مثل هذا؟! وعلم أنه ليس للأمةِ إجماعٌ على حكم يخالف ذلك الظاهر والقياس إلا إذا كان مع الإجماع من النص والقياس ما يدل على أن الأول منسوخ أو يفسر بما يوافق نص الإجماع؛ فأما أن يكون الإجماع مخالفًا للكتاب والميزان فهذا لا يكون قط.
* * * *
فصلٌ
قال المعترض:
(فهؤلاء ثلاثة أئمة [168/ ب] نقلوا الإجماع؛ وكذلك الشيخ أبو حامد الإسفراييني نَفَى الخلافَ في ذلك، ومرادُهُ: نَفْيُ الخلافِ بين العلماء لا نَفْيُ الخلافِ المذهبي؛ يَفْهَمُ ذلكَ مَنْ نَظَرَ في كلامه، فلا نَعدل عن ذلك إلا بنقلٍ صريحٍ عن إمامٍ معتبر؛ هذا في الطلاق.
وأما العتق: فلولا نقل محمد بن نصر المروزي عن أبي ثور ما رأيت كان محل النظر؛ فإنَّ ابن المنذر نقل عن أبي ثور في الإشراف
(1)
فيما إذا قال لعبده: إِنْ لم أضربك فأنت حر، وأراد بيعه أنه إذا لم يجعل لذلك وقتًا لا يقع العتق [عليه]، وهذا يقتضي أنه إذا جعل له وقتًا وقع.
وقد رأيتُ [ابن زَرْقُون]
(2)
في كتابه الأنوار [في الجمع بين المنتقى والاستذكار] نَقَلَ فيما نقله من الاستذكار نِسْبَةَ
(3)
محمد بن نصر موافقةَ أبي
(1)
(8/ 123)، وقد تقدَّم في (ص 133).
(2)
كلمة أو كلمتين لم أستطع قراءتهما، ولعلها اسم مؤلف كتاب (الأنوار)، وفي «التحقيق» مكان ما بين المعقوفتين: أبا (بياض مقدار أربع كلمات) ابن درفول (كذا) الإشبيلي. والصواب ما أثبتُّ.
وهو: محمد بن سعيد بن أحمد بن عبد البر الأنصاري الإشبيلي، يُكنى أبا عبد الله، ويُعرف بابن زرقون، من تصانيفه المشهورة: الأنوار في الجمع بين المنتقى والاستذكار، ولد سنة (502)، وتوفي سنة (586).
انظر في ترجمته: التكملة لكتاب الصلة (2/ 64)، الديباج المذهب (ص 285)، الوفيات لابن قنفذ (ص 295).
(3)
كتبها الناسخ بطريقة ملتبسة، والمثبت من «التحقيق» .
ثور إلى الحسن وطاووس والقاسم وسالم وابن يسار
(1)
وقتادة، ولم أَرَ أَنَا في الاستذكار إلا الحسن وطاووس لا غير)
(2)
.
والجواب: أَنَّ ابن المنذر لم ينقل إجماع العلماء، وإنما نقل قول مَنْ يحفظ قوله في المسألة، وليس هذا بنقل إجماع علماء المسلمين، ولم يسم ابن المنذر فيما ذكره أحدًا من الصحابة والتابعين، بل ولا تابعي التابعين سوى مالك وأبي حنيفة والليث بن سعد؛ ومعلوم كثرة العلماء في هذه الأعصار الثلاثة، لم يذكر قول ابن جريج والمكيين، ولا قول سليمان التيمي وأمثاله من البصريين، ولا ذكر قول الشاميين، ولا ذكر من الطبقة الرابعة سوى الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور.
فهل يقول عالم أَنَّ هذا هو الإجماع المعصوم الذي يقوم مقام نص الكتاب والرسول صلى الله عليه وسلم؟! بل كثيرٌ منهم يُقَدِّمُهُ على نَصِّ الكتاب والرسول، ويقول: يُستدل بهذا الإجماع على أَنَّ ذلك النص منسوخ، ومنهم مَنْ يُجَوِّزُ النسخ بالإجماع.
وأما ابن نصر فهو تَبَعٌ لأبي ثور في ذلك، وأبو ثور قد عُرِفُ مراده بنقل الإجماع، وأنه لم يَعلم فيه نزاعًا، فلم يبق مع المعترض إلا عَدَمُ علم أبي ثور بالنزاع؛ وهذا غاية ظن أبي ثور.
وأيضًا؛ فإنَّ هؤلاء الثلاثة وأمثالهم وأضعافهم نقلوا النزاع في العتق لحديث ليلى [169/ أ] بنت العجماء وغيره، وهذا المعترض طعن في ذلك ــ كما تقدم ــ، مع أَنَّ القول بالكفارة في الحلف بالعتق إذا قال: كل مملوك
(1)
في الأصل: (بشار)، والمثبت من «التحقيق» ومما تقدم.
(2)
«التحقيق» (44/ ب). وانظر: (ص 648) فيما يتعلق بالنقل عن الاستذكار.
لي حر إِنْ فعلتُ كذا؛ نقله عن هؤلاء الصحابة: أبو ثور ومحمد بن نصر وأبو بكر بن المنذر ومحمد بن جرير وابن عبد البر وابن حزم وغير واحد من العلماء أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم.
فكيف يَحتج بما نقله بعض هؤلاء من الإجماع ولم يحتج بما نقلوه كلهم في النزاع؟! مع أَنَّ ما ينقلونه [من النزاع]
(1)
هم به أعلم مما ينقلونه من نفي النزاع، فإنَّ العلم بنفي النزاعِ إما متعذر وإما متعسر، وأما العلم بثبوته فهو متيسر.
ومع أن نقلهم للنزاع قد ذكروه
(2)
بالإسناد المعروف عن الصحابة، وأما نقلهم للإجماع فلم يذكروا عن عالم من علماء المسلمين إسنادًا، بل ولا بلغهم في ذلك قولٌ عن أكثر علماء المسلمين، فإذا طَعَنَ فيما ينقل من
(3)
أقوال بعض السلف المسندة المعروفة، فكيف يمكن مع هذا نقل أقوالهم كلهم؛ مع أَنَّا لا نعرف لجمهورهم في ذلك قولًا، وليست هذه المسألةُ مما ظهر للعامة والخاصةِ أنها من دين الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يقال: إِنَّ المسلم لا بُدَّ أَنْ يُقِرَّ بها، ولا هي ــ أيضًا ــ مما عُرِفَ أنها اشتهرت في الصحابة أو في جميع المسلمين ولم يُنْكِر ذلك منكر، حتى يقال: إنها إجماع إقراري.
فأنواع الإجماع التي يمكن الاستدلال بها ثلاثة: إجماع إحاطي، وإجماع إقراري، وإجماع استقرائي
(4)
؛ فالأول: ما يحيط علمًا بأن الصحابة
(1)
في الأصل: (للنزاع)، والصواب ما أثبتُّ.
(2)
في الأصل: (ذكره)، والصواب ما أثبتُّ.
(3)
في الأصل: (عن).
(4)
انظر: مجموع الفتاوى (19/ 267)، جامع المسائل (3/ 324)، نقد مراتب الإجماع (ص 286).
أو التابعين كانوا عليه، مثل ما علمنا أنه
(1)
من دين الرسول صلى الله عليه وسلم الظاهر المعروف الذي لا ينكره إلا من هو كافر به.
والثاني: أَنْ يشتهر القول أو العمل في السلف فلا ينكره منكر؛ فهذا إجماع إقراري، فإنَّ الأمة لا تجتمع على الإقرار على باطل، بل كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم معصومٌ في قوله وفعله وإقراره= فكذلك الأمة معصومةٌ في قولها وفعلها وإقرارها، وهذا كجعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الأرض المفتوحة عنوة فيما بين المسلمين وغير ذلك
(2)
.
وإذا قيل في مثل ذلك: قد يكون [169/ ب] بعضهم أنكرها.
قيل: لا يسقط الفرض بإنكار الخطأ إلا إذا ظهر الإنكار، ولو أنكر ذلك منكرٌ لكان مما تتوفر الدواعي على نقله؛ كما نقلوا نزاع ابن عباس رضي الله عنهما في العول والعمريتين
(3)
، ونزاع ابن الزبير رضي الله عنهما في ميراث المبتوتة
(4)
وأمثال ذلك.
(1)
في الأصل: (أن).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (4235) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: أَمَا والذي نفسي بيده، لولا أَنْ أَترك آخرَ الناسِ بَبَّانًا ليس لهم شيء، ما فتحت قريةً إلا قَسَمتُها كما قَسَمَ النبي صلى الله عليه وسلم خيبر، ولكني أتركها خزانةً لهم يَقتسمونها.
(3)
تقدم تخريجه في (ص 393).
(4)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (7/ 62) من طريق ابن أبي مُليكة أنه سأل ابن الزبير عن الرجل يُطلِّق المرأة فَيَبُتُّهَا ثم يموت وهي في عِدَّتِهَا؟ فقال ابن الزبير: طَلَّق عبد الرحمن بن عوف ابنةَ الأصبغ الكلبي، ثم مات وهي في عِدَّتها، فورَّثَها عثمان. قال ابن الزبير: وأمَّا أنا فلا أرى أنْ ترث المبتوتة. وقال ابن أبي مليكة: وهي التي تَزعم أنه طلَّقها مريضًا.
انظر: الجامع في أحاديث وآثار الفرائض (ص 246، 254 - 256).
وأما الثالث: فهو الإجماع الاستقرائي، وهو أن يتتبع
(1)
العالم ما أمكنه من أقوال العلماء فلا يجد أحدًا خالف في ذلك، ومعلوم أَنَّ علمه بأقوالهم التي بلغته أتم من علمه بنفي يُنازعه الغير لهم
(2)
.
وهذا المعترض يطعن في نقل أقوالهم المنقولة عنهم، فكيف يمكن مع هذا أن يقال: إنهم اتفقوا على قولٍ في مثل هذه المسائل التي لم يظهر أنها من دين الرسول صلى الله عليه وسلم ظهورًا عامًّا، ولا هي مما اشتهرت في الصحابة ولا في جميع التابعين فأقروا بها ولم ينكرها منكر، وإنما غاية المنقول في ذلك فتاوى خاصة في قضايا معينة عن بعض التابعين، لا يُعرف أن تلك الأقوال بلغت جميع التابعين، بل ولا أكثرهم، بل ولا يُعرف أنها بلغت جميع مَنْ في بلد المفتي منهم.
وهذا المعترض قد قال فيما بعد لمَّا تكلَّمَ على حديث ليلى بنت العجماء قال: (وبالجملة؛ فهذا محل اشتباهٍ، لما تقدم من الفرق بين الألفاظ المتعدية
(3)
.
قال: ومِنْ هنا ــ والله أعلم ــ قال مَنْ قال: إِنَّ مثل هذه المذاهب القديمة لا يجوز للعامي تقليدها، وليس
(4)
ذلك لأمرٍ يرجع إلى أصحابها ــ حاشى لله ــ، بل هم أئمة الهدى وينابيع العلم، ولكنه لم يُعتنَ بجمع أقوال قائليها
(1)
في الأصل: (يتبع).
(2)
كذا في الأصل، والمعنى واضح.
(3)
في «التحقيق» : (المتقدمة).
(4)
في الأصل: (فليس)، والمثبت من «التحقيق» .
وتدوينها اعتناءً تامًّا حتى يستدل ببعضها على بعض، وبِبَيِّنِهَا
(1)
على مجملها، وبخاصِّها على عامها، ومقيَّدِها على مطلقها، كما فعل أتباع المذاهب المشهورة، وتناقلوها نقلًا مستفيضًا بحيث صار يحصل لكثيرٍ من المتمذهبين الظنُّ القوي بأنَّ تلك الأحكام هي قول إمامه ومذهبه، وتناقلها
(2)
المرجِّحُونَ لها قرنًا بعد قرن، عددًا يبلغ حد التواتر في معظم المسائل والقواعد من لدن زمن إمامه إليه، لا لفتيا مطلقة تُنقل عن إمامٍ لا يُدرى ما أراد بها، وهل اقترن بها مقتضى [170/ أ] ذلك أم لا؟
فكنَّا نودُّ لو دُوِّنَت
(3)
تلك المذاهب كما دُوِّنَت هذه، ولكن في كتاب الله وسنة رسوله التي تكفَّل الله بحفظهما بقوله:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] كفايةٌ عن كل مذهبٍ، وغَناءٌ عن كل قائل)
(4)
.
فيقال له: إذا كان هذا قولك في أقوال السلف المعروفة المنقولة عنهم بالإسناد ألفاظهم فيها، وأنت لا تجزم بقولهم في تلك المسائل؛ فكيف تجزم بقول كل واحد من السلف في مسألة ليس معك فيها نقل إلا عن قليل من التابعين لا يبلغون عشرين نفسًا؟! ثم مع هذا تدعي إجماع الصحابة والتابعين وتابعيهم على ذلك.
وتعتمد في نقل الإجماع على نقل أبي ثور ونحوه للإجماع، وأنت لا تقبل نقلهم لأقوالٍ نقلوها بالإسناد، ونقلوا ألفاظ أصحابها، وجميع العلماء
(1)
في «التحقيق» : (وبمبيَّنِهَا).
(2)
في الأصل: (تناقلوها)، والمثبت موافق لما في «التحقيق» .
(3)
في الأصل: (دريت)، والمثبت من «التحقيق» .
(4)
«التحقيق» (46/ أ).
بعدهم وافقوهم على نقل هذا النزاع، ولم يقل أحدٌ جاء بعدهم إنهم أخطأوا في نقل النزاع، ثم تحتج بنقلهم للإجماع وقد أنكر غيرهم عليهم هذا الإجماع، وقالوا: إنهم أخطأوا فيه، وأَنَّ المسألةَ مسألةُ نزاعٍ لا مسألةُ إجماعٍ ولو لم يخالفهم، فلا يكون نقلهم لقول كل واحد واحدٍ من العلماء ونفي منازعة أحد من العلماء لهم مع أنهم لم يذكروا إسنادًا إلى كل واحد، ولا معهم إسناد بنفي المنازع= بأعظم من نقلهم لقول بعض الصحابة والتابعين التي نقلوها بالإسناد ونقلوا ألفاظهم التي تعرف مذاهبهم، فإذا قَدَحَ في النقل الراجح الذي هُمْ به أعلم فَلَأَنْ يقدح في النقل المرجوح الذي لا يعلمونه كعلم ذاك بطريق الأولى.
وإذا كان في كتاب الله ــ تعالى ــ وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم التي تَكَفَّلَ الله ــ عز وجل ــ بحفظهما كفاية عن كل مذهبٍ، وَغَنَاء عن كل قائل؛ ففيها غَنَاءٌ وكفايةٌ عن المذاهب المشهورة وغيرها، ووجب مع هذا أَنْ ليس في الأقوال ما هو حق إلا ما وافق الكتاب والسنة، وكل إجماعٍ معصوم فهو موافق للكتاب والسنة، وما خالف الكتاب والسنة امتنع أن يكون إجماعًا صحيحًا؛ فالاعتبار بالكتاب والسنة.
وأما مسائل النزاع؛ ويقال: إنها مجمعٌ عليها أو مختلفٌ فيها [170/ ب]؛ فإنها إِنْ كانت مجمعًا عليها فلا بُدَّ أَنْ تكون مُبَيَّنَةً في الكتاب والسنة، وإِنْ كانت متنازعًا فيها فالصواب فيها ما وافق الكتاب والسنة.
وأما أبو حامد الإسفراييني ــ رحمه الله تعالى ــ فمراده: نفي الخلاف في المذهبين، مذهب أبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهما كما دَلَّ عليه سياقُ كلامِهِ، وهذه عادةٌ معروفة لمصنفي الخلاف.
والطرائق في الخلاف يحتجون على منازعهم بما يُسَلِّمُونَهُ، ويقول: ثبت بالإجماع؛ أَيْ: مِنَّا ومنكم، وكثيرٌ من أدلة المصنفين في الخلاف إنما يعتمدون فيها على النقليات الجدلية التي يُسَلِّمُهَا المنازع، إذ كان مقصودهم بيان أَنَّ قولهم أرجح مِنْ قول ذلك المنازع لهم؛ ولهذا لا يثبتون إلا ضعف قوله ورجحان قولهم على قوله، وهذا لا يفيد العلم ولا يفيد الاستدلال على حكم الله ورسوله.
ومما يُبَيِّنُ ذلك: أَنَّ أبا حامد قال: (الثاني: أنْ يعلِّق به عتقًا أو طلاقًا فيقع ذلك عند وجود الشرط بلا خلاف، لأنه طلاق وعتق معلق بصفة يقع عند وجودها).
فقد نفى الخلاف في الحلف بالعتاق كما نفاه في الحلف بالطلاق، ومن هو دون أبي حامد يعلم النزاع في العتق، وهو مذكور في الكتب التي ينقل منها أبو حامد الخلاف، مثلُ كتب أبي بكر بن المنذر وغيره.
ولو قُدِّرَ أَنَّ أبا حامد نَفَى الخلاف في ذلك؛ فأبو ثور ومحمد بن نصر ومحمد بن جرير وأبو بكر بن المنذر وأبو عمر بن عبد البر وابن حزم وغيرهم = نقلوا النزاع في العتق عن الصحابة والتابعين، ومعلومٌ أَنَّ الواحدَ مِنْ هؤلاء أعلم بمذاهب الصحابة والتابعين وما بينهم من النزاع من أبي حامد، فكيف بمجموعهم؟!
وقد عُلِمَ أَنَّ نقل الناقل العالم مُقَدَّمٌ على نَقْلِ غيرِهِ لنفي النزاع، فإنَّ ذاك مثبتٌ والآخر نافٍ؛ هذا لو كان النافي للنزاع جازمًا بنفيه، والنفي مما يمكن العلم به؛ كنفي أسامة رضي الله عنه للصلاة في الكعبة
(1)
، فإنه جَزَمَ بنفي ذلك،
(1)
أخرجه مسلم في صحيحه (1330).
وهو نفي يُحَاطُ به، ومع هذا؛ فَقَدَّمَ العلماءُ إثباتَ بلالٍ رضي الله عنه حيث قال: صَلَّى فيه
(1)
على نفي أسامة [171/ أ]؛ فكيف وليس مع النافي إلا ظَنُّ أبي ثور لعدم النزاع؟! كما صَرَّحَ عن نفسه بأنَّ الإجماع عدم العلم بالنزاع.
فَعُلِمَ أَنَّ هذا المدَّعِي للإجماع ليس معه علمُ أحدٍ من العلماء بالإجماع، ومن ادعى العلم بالإجماع في ذلك عُلِمَ أنه كاذب، كما قاله أحمد بن حنبل، وإنما معه عدم علمه بالنزاع، أو ظَنٌّ لنفي النزاع.
فصلٌ
وأما قوله: (فلا نعدل عن هذا إلا بنقل صريح عن إمامٍ معتبر).
فجوابه من وجوه:
أحدها: أنه لا نُسلِّم أَنَّ مثل هذا حجة يجب الاعتماد عليها، فإنه إذا قال واحد أو اثنان أو ثلاثة: نحن لا نعلم في هذا نزاعًا، أو نظن أنه لا نزاع في ذلك = لم يكن هذا مما يوجب أن جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم من أولهم إلى آخرهم يجب عليهم تقليدُ هذا الظانِّ فيما ظنه، فإنه لا يجب عليهم تقليده فيما يقطع به، فكيف يجب عليهم تقليده فيما ظنه؟!
وهب أنه يجوز تقليده لبعض الناس، أو يجب على بعض الناس؛ لكن لا يقول عاقل: إنَّ جميع الأمة يجب عليها تقليده، وليس هذا مثل ترك رواية ما يرويه من الأخبار، فإنَّ ذاك خبر منه عما سمعه أو رآه، ليس هو خبرًا عما يظن بالاستقراء
(2)
، ولهذا يجب على أمثاله وعلى مَنْ هو أكبر منه أَنْ
(1)
أخرجه البخاري (506)، ومسلم (1329) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
في الأصل: (بالاستقرار)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
يرجعوا إلى خبره، كما كان الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون رضي الله عنهم يرجعون في الأخبار إلى مَنْ سمع ما لم يسمعوا، ورأى ما لم يروا.
ولا يقول أحدٌ إنه يجب على الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبي عبيد وغيرهم أنهم يرجعون إلى أبي ثور وأمثاله فيما يظنه من عدم النزاع، مع أنه عليهم أن يرجعوا إلى مَنْ هو دون أبي ثور في العلم والفقه فيما ينقله من الأخبار إذا كان ثقةً؛ وذلك أنه ليس نقل الإجماع ونفي النزاع مثل نقل ما سمع من الأخبار، فإنَّ هذا غايتُهُ فيه الاستقراء.
ثم إِنَّ هذا خبرٌ مرسل؛ فإنه يخبر أَنَّ هذا قول العلماء الذين لم يدركهم، ولا سَمَّى مَنْ أَخبرَ ذلك عنهم، بل لو نقل واحدٌ مذهب فقيهٍ من غير أن يعزوه إلى كتاب أو إسناد = لكان نقلًا مرسلًا، والغالب عليه الصواب، كما أَنَّ الغالب على مراسيل التابعين الصواب، والخطأ في ذلك أكثر [171/ ب] من الخطأ في مراسيل التابعين؛ فإذا كان مرسَل العالم المشهور لنص الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يجب اتباعه إما ألا يكون حجة وإما أن يكون حجة ضعيفة غيرها أقوى منها؛ مع أَنَّ عِلْمَهُ بأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا ممكن بطرقٍ كثيرة، فكيف بقول بعض العلماء وهو ما لا يمكنه علمه؛ بل غايته أنه يظن ألا نزاع في ذلك؟!
ولهذا لم يكن الأئمة المتبوعون
(1)
يحتجون بمثل هذا قط، وإنما يعتمد أحدهم على استقرائه واجتهاده في معرفة النزاع وعدمه، لا يقلد في ذلك غيره، مع اتفاقهم على وجوب اتباع الأخبار؛ فَعُلِمَ أَنَّ مثل هذا الكلام ليس
(1)
في الأصل: (المتبوعين)، والجادة ما أثبتُّ.
حجةً نقليةً يجب العملُ بها كما يجب العمل بالأخبار الثابتة المنقولة، لا سيما والأصوليون قد تنازعوا في الإجماع إذا نُقِلَ بخبرٍ واحدٍ هل يكون حجة أم لا؟ على قولين مشهورين
(1)
.
وهذا إذا نقل بإسناد متصل عن جميع أهل الإجماع كما نقل عن الصحابة المعروفين ونحوهم، فأما نقلُ واحدٍ متأخرٍ بعد القرون الثلاثة لإجماعٍ لم ينقله قبله أحدٌ، وليس معه فيه إلا ظن عدم النزاع؛ فكيف يجب على الأمة اتباعه بمجرد ذلك؟!
نعم من استقرأ الأقوال وتتبعها فَغَلب على ظنه= كان بمنزلة أبي ثور في ذلك، وهذا الظن قد يكون صوابًا وقد يكون خطأ، وليس له أَنْ يحتجَّ على غيره بظنه إلا كما يحتجُّ على غيره بنفي المعارض، مثل أَنْ يقول: هذا دليل عام ولا مخصص له، فإني بحثت عن المخصص فلم أجده.
وقد تنازع الناس في نفي المعارض هل هو جزء من الدليل في حق الناظر أو المناظر؟ والصحيح: أَنَّ الناظر المستدل لا يعمل بالدليل الظني إن لم يغلب على ظنه نفي المعارض المقاوم، وأما المناظر فلا يجب عليه في الاستدلال نفي المعارض مفصلًا، فإنَّ هذا يتعذر أو يتعسر، وهذا يظهر بِـ
الجواب الثاني: وهو أَنْ يقال: هَبْ أَنَّ المحتج بنقل أبي ثور هو أبو ثور نفسه، فليس عِلْمُ الإنسان بما في قلب غيره بأعظم مِنْ علم ذلك الشخص؛ فإنَّ المناظر له يقول له: مجرد ظنك ليس بحجةٍ عليَّ إِنْ لم أستقرئ أقوال العلماء فأظن ما ظننته [172/ أ] من عدم المنازع.
(1)
المعتمد (2/ 67)، البحر المحيط (4/ 441)، شرح مختصر الروضة (3/ 130).
الثالث: أَنْ يقال: المدعي للإجماع سواء اعتقده باستقرائه أو نقله عمن استقرأه = إنما يجوز له أن يحتج به ناظرًا أو مناظرًا إذا لم يكن عنده نقل بالنزاع؛ فأما مع وجود النقل بالنزاع فلا يجوز الاستدلال [به]
(1)
على المثبت
(2)
للنزاع، فإنَّ وجود النزاع ينفي الإجماع، والنقل بالنزاع في الطلاق موجود من وجوه.
لكن المقصود هنا: ذكر ما هو عند المعترض في كتبه التي ينقل منها؛ فمن ذلك: أَنَّ ابن حزم نقل في كتاب (الإجماع) له في الطلاق الأقوال الثلاثة: هل يلزم أم لا يلزم؟ وإذا لم يلزم هل يكفر أم لا؟
فقال
(3)
: (واختلفوا فيمن حلف بنحر ولده أو نحر أجنبي أو هديه
(4)
أو بالمصحف أو بالتوراة أو بنذر أخرجه مخرج اليمين أو بأنه مخالف لدين الإسلام
(5)
أو بطلاق أو بظهار أو تحريم شيء من ماله أو ما أحل الله، أو قال: عليَّ يمين، أو قال: علم الله، أو قال: حلفت، أو قال: لا يحل لي، أو قال: عليَّ لعنة الله، أو أخزاني الله= أيكفر، أم لا كفارة عليه وإن خالف ما حلف عليه؟
واختلفوا في جميع هذه الأمور التي استثنيناها أفيها كفارة أم لا؟ وفي صفة الكفارة في ذلك؟ وفي وجوب بعضها.
(1)
إضافة يقتضيها السياق.
(2)
في الأصل: (النافي)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(3)
مراتب الإجماع (ص 256).
(4)
الكلمة غير واضحة، وكذا وجدتها مثبتة في مراتب الإجماع.
(5)
وكتب الناسخ في الحاشية (الله) ثم (صح)، والذي في مطبوع المراتب كما هو مثبت.
قال: واختلفوا في اليمين بالطلاق أهو طلاق فيلزم أم هو يمين فلا يلزم؟).
فذكر في الحالف بالطلاق والظهار والنذر وسائر ما ذكره قولين: هل يكفر أم لا يكفر؟ ثم ذكر في الطلاق قولين: هل هو طلاق فيلزم أم هو يمين فلا يلزم؟
فإنْ شئت قلت: إذا لم يكفر؛ ففيه قولان: هل هو يمين لاغية أم هو طلاق لازم؟ وإن شئت قلت: إذا قيل: هو يمين؛ فهل هو يمين مكفرة أم غير مكفرة؟ فإنَّ المقصود واحد.
وهذا بخلاف الظهار والحرام فإنما ذكر فيه قولين هل يكفر أم لا؟ وذلك أَنَّ الطلاق إذا قيل هو ليس بيمين، فلا كفارة فيه باتفاق المسلمين؛ فلهذا ذكر فيه النزاع إذا قيل هو يمين هل يكفر أو لا؟ ثم ذكر النزاع هل هو يمين فلا يلزم أم هو طلاق فيلزم؟ فإذا قيل: هو طلاق لازم، فلا كفارة فيه بالاتفاق، بخلاف [172/ ب] غيره.
فإنه إذا قيل: إنَّ الحلف بالظهار ظهار، والحلف بالحرام حرام، والحلف بالنذر نذر؛ ففي الظهار الكفارة وفاقًا، وفي الحرام والنذر على أحد القولين، وأما إذا قيل: إنه ليس بظهار ولا حرام ولا نذر بل هو يمين؛ ففيه النزاع: هل هو يمين مكفَّرة أم غير مكفَّرة؟
فبكل حال؛ قد قيل فيه كفارة وإنْ قيل إنه ليس بيمين، بخلاف الطلاق فإنه إذا لم يكن يمينًا فلا كفارة فيه.
ثم ذكر في موضع آخر ــ أعني: ابن حزم ــ فقال
(1)
: (واتفقوا على أَنَّ الطلاق إلى أجل أو بصفةٍ واقعٌ إِنْ وافقت وقت طلاق، ثم اختلفوا في وقت وقوعه؛ فمن قائلٍ الآن، ومن قائلٍ هو إلى أجله.
واتفقوا إذا حان ذلك الأجل في وقت طلاق أن الطلاق واقع.
قال: واختلفوا في الطلاق إذا خرج مخرج اليمين أيلزم أم لا؟).
فقد ذكر النزاع في الطلاق الذي خرج مخرج اليمين في غير موضع من كتاب الإجماع.
وذكر ــ أيضًا ــ في المحلى قال
(2)
: (وأما مَنْ فَرَّقَ بين العتق المعيَّن وغيره فخطأ، وحجتهم في ذلك أنه عتق بصفة، وليس كما قالوا؛ بل هو يمين بالعتق، فهو باطل ــ أيضًا ــ لا يلزم.
وقالوا: قسنا العتق المعيَّن على الطلاق المعين. فقلنا: القياس كله باطل، ثم لا يصح قولكم في الطلاق المعين إذا قصد به اليمين لا من قرآن ولا سنة ولا إجماع).
فقد نفى أن يكون في الطلاق المعين إذا قصد به اليمين كتاب أو سنة أو إجماع، وهذا تخصيص منه لنفي الإجماع في الطلاق الذي قصد به اليمين دون الذي لم يقصد به اليمين، وقد ذَكَرَ الإجماع على أَنَّ الطلاق المعلق الذي لم يقصد به اليمين يقع، ثم اختار بعد ذلك في المحلى أنه لا يقع.
(1)
مراتب الإجماع (ص 129).
(2)
(ص 990).
وقد تقدم أَنَّ هذا قول أبي عبد الرحمن الشافعي، وهذا نزاعٌ لم يكن قد اطلع عليه ابن حزم ــ أيضًا ــ، كما قد ذكرنا قطعة كبيرة من إجماعاته التي فيها نزاع لم يطلع عليه
(1)
، مع أنه من أعظم نقلةِ الإجماعات اطلاعًا، وأكثرهم انتقادًا.
وقد قال في كتابه في (الإجماع)
(2)
: (وإنَّا أملنا بعون الله ــ تعالى ــ أَنْ نجمع المسائل [173/ أ] التي صَحَّ فيها الإجماع، ونفردها من سائر المسائل التي وقع [فيها] الخلاف بين العلماء).
إلى أَنْ قال
(3)
: (وقد أدخل قومٌ في الإجماع ما ليس منه؛ فقومٌ عَدُّوا قول الأكثر إجماعًا، وقومٌ عَدُّوا ما لا يعلمون فيه خلافًا وإِنْ لم يقطعوا على أنه لا خلاف فيه= فحكموا على أنه إجماع، وقومٌ عَدُّوا قول الصاحب [المشهور] المنتشر إذا لم يعلموا له من الصحابة مخالفًا [وإنْ وجد الخلاف من التابعين ممن بعدهم فعدوه إجماعًا، وقومٌ عَدُّوا قول الصاحب الذي لا يَعرفون له مخالفًا من الصحابة رضي الله عنهم وإنْ لم يَشتهر ولا انتشر إجماعًا، وقومٌ عَدُّوا قول أهل المدينة إجماعًا، وقومٌ عَدُّوا قول أهل الكوفة] إجماعًا، وقومٌ عَدُّوا اتفاق العصر الثاني على أحد قولين أو أكثر كانت للعصر الذي قبلهم إجماعًا.
(1)
طبع هذا الكتاب عدة طبعات؛ فقد طُبِعَ ملحقًا بكتاب ابن حزم (مراتب الإجماع) بعناية الكوثري، وكذا بتحقيق: حسن إسبر، وطُبِعَ ضمن جامع المسائل (3/ 323) بتحقيق: محمد عزير شمس بعنوان (فصلٌ في مؤاخذة ابن حزم في الإجماع).
(2)
(ص 23)، وما بين المعقوفتين من المراتب.
(3)
(ص 26)، وما بين المعقوفتين من المراتب.
قال: وكل هذا آراء فاسدة).
قال
(1)
: (وقومٌ قالوا الإجماع هو إجماع الصحابة فقط، وقومٌ قالوا: إجماع كل عصر إجماع صحيح، إذا لم يتقدم قبله في تلك المسألة خلاف).
قال: (وهذا هو الصحيح لإجماع الأمة عند التفصيل عليه، واحتجاجهم به، وتركهم ما أَصَّلُوه له).
إلى أَنْ قال
(2)
: (وصفةُ الإجماع: ما تُيُقِّنَ
(3)
أنه لا خلاف فيه بين أحد من علماء الإسلام، ونعلم ذلك من حيث علمنا الأخبار التي لا يتخالج فيها شك، مثل: أَنَّ المسلمين خرجوا من الحجاز واليمن
(4)
ففتحوا العراق وخراسان ومصر والشام، وأَنَّ بني أمية ملكوا دهرًا ثم ملك بنو العباس، وأنه كانت وقعة صفين والحرة؛ وسائر ذلك مما يعلم بيقينٍ وضرورة).
وقال ــ أيضًا ــ
(5)
: (إنما نُدخل في هذا الكتاب الإجماع التام الذي لا نُخالَف فيه البتة، الذي نعلمه كما نعلم أَنَّ صلاة الصبح في الأمن والخوف ركعتان).
فهذا شرطه في إجماعه؛ ومع هذا: فقد ذكر إجماعات كثيرة فيها نزاع لم يعلمه، بل فيها ما قد خالفه هو ــ أيضًا ــ، قد ذكرنا منها قطعة فيما كتبناه في الإجماع في غير هذا الموضع.
(1)
(ص 27).
(2)
(ص 28).
(3)
في الأصل: (ما بُيِّنَ)، والمثبت من المراتب.
(4)
في الأصل: (اليمين)، والمثبت من المراتب.
(5)
(ص 33).
وأما ما ينقله ابن عبد البر من الإجماعات؛ فيوجد في كثيرٍ منها من النزاع أكثر مما يوجد في إجماعات ابن حزم، وهما في عصرٍ واحدٍ وبلدٍ واحدٍ؛ مثل هذه المسألة، فإنَّ ابن عبد البر نقل فيها الإجماع مع أَنَّ من عادته أنه ينقل قول داود وأصحابه، ويقال: إنه كان أولًا على مذهبهم، كما كان أبو إسحاق الشيرازي على مذهبهم؛ ومع هذا فلم ينقل ابن عبد البر مذهبهم في ذلك كما نقله ابن حزم، لأنه [173/ ب] لما رأى ما ذكره أبو ثور وابن
(1)
نصر تبعهما في ذلك، وقد تبين أن الأصل في ذلك عدم علم أبي ثور بالنزاع أو ظنه عدم النزاع، وهذا إذا عارضه مَنْ أثبتَ النزاعَ مجملًا لم يكن لأحدٍ أَنْ يجزم بنفي النزاع، بل ولا يظنه إذا لم يعلم انتفاءه مع جزم الناقل بثبوته، فكيف وقد عرف ثلاثة أقوال أخر؟!
قولُ مَنْ يقول: الطلاق المعلق بالصفة لا يقع بحال؛ كقول أبي عبد الرحمن الشافعي وابن حزم ومن وافقهم من الإمامية كالمفيد والموسوي والطوسي وغيرهم، وإِنْ كان هؤلاء لم ينفردوا عن أهل السنة بقولٍ صواب، فإذا قالوا قولًا قاله بعض أهل السُّنَّة ذُكِرُوا تبعًا لأهل السنة، وقد ذكرنا تنازع الناس في أهل الأهواء هل يعتد بنزاعهم أم لا في موضع آخر
(2)
.
والقول الثاني: قولُ مَنْ يُفَرِّقُ بين التعليق الذي يقصد به اليمين والذي لا يقصد، لكن يقول: إذا قَصَدَ اليمين لم يقع ولا كفارة عليه كما يقول ذلك طائفة أكثر من ذلك، وهو محكي عن داود وغيره وعن طائفة من أهل البيت.
(1)
في الأصل: (وأبي).
(2)
انظر ما سيأتي: (ص 659).
والقول الثالث: مَنْ يقولُ فيما خرج مخرج اليمين: لا يلزم ولكن يكفر كفارة اليمين؛ وهو القول الثالث الذي ذكره ابن حزم، وهو قول طاووس وغيره، وبه يفتي جماعة متعددة من أصحاب مالك وغيرهم.
الوجه الرابع: قوله: (لا نَعدل عن ذلك إلا بنقلٍ صريحٍ عن إمامٍ معتبرٍ).
يقال له: ما تعني بالإمام المعتبر؟ وما تعني بكونه معتبرًا؟ ومَنْ هو الذي يعتبره؟ فما من عالمٍ من علماء المسلمين إلا وله طائفة تعتبره وتُعَظِّمُ أقواله، وطائفةٌ تُخالف أقواله وتضعفها؛ فإنْ أَردتَ مَنْ يَعتبرُ أقوالَهُ جميعُ المسلمين
(1)
.
ثم اعتبارُ أقوالِهِ؛ قد يعني به حكايتها والاعتناء بها، وقد يعني به تقليدها واتباعها، وقد يعني به الاعتداد بخلافه؛ وكل هذا مما اختلف فيه الناس: تارة بحسب علمهم وقدرتهم، وتارة بحسب قصدهم وإرادتهم؛ فهذه الطوائف تحكي أقوالَ قومٍ لا تحكيها هذه الطائفة، وتتبع أقوال قوم لا تتبعها هذه الطائفة، وتعتد بخلافِ قومٍ لا تعتد بخلافها هذه الطائفة، ومَنْ له خبرة [174/ أ] بأقوال العلماء، وقول بعضهم في بعضٍ= يَعرفُ هذا
(2)
.
(1)
كذا في الأصل، والكلام لم يتم بعد، ولعل الساقط:(فهذا ليس لأحدٍ من الناس إلا للنبي صلى الله عليه وسلم) أو نحو ذلك.
(2)
قال في مجموع الفتاوى (20/ 293) والفتاوى الكبرى (4/ 449): (ولا أحد في الإسلام يُجيب المسلمين كلهم بجوابٍ عام أنَّ فلانًا أفضل من فلانٍ فيقبل منه هذا الجواب، لأنه من المعلوم أنَّ كلَّ طائفة ترجِّحُ متبوعها فلا تَقبل جواب من يجيب بما يُخالفها فيه، كما أنَّ مَن يرجِّح قولًا أو عملًا لا يَقبل قول مَن يُفتي بخلاف ذلك، لكن إنْ كان الرجل مقلِّدًا فليكن مقلِّدًا لمن يترجَّح عنده أولى بالحق؛ فإنْ كان مجتهدًا واتبع ما يترجَّح عنده أنه الحق، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وقد قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] لكن عليه ألا يَتَّبِعَ هواه ولا يَتكلَّم بغير علم قال تعالى: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران: 66]، وقال تعالى: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} [الأنفال: 6]، وما من إمامٍ إلا له مسائل يَترجح فيها قولُهُ على قولِ غيره، ولا يَعرف هذا التفاضل إلا مَنْ خاض في تفاصيل العلم، والله أعلم).
فطائفةٌ لا تعد خلاف الشافعي خلافًا؛ كالقاضي إسماعيل بن إسحاق وغيره، وطائفة لا تعد خلاف أبي حنيفة خلافًا؛ كأكثر أهل الحديث، وطائفة تقول كان ينبغي لمالك أَنْ يَسكت؛ كما قال محمد بن الحسن وغيره، إلى أمور أخرى يطول وصفها
(1)
.
وأيضًا؛ فيقال: مَنْ هؤلاء المعتبرون الذين فرض الله ــ تعالى ــ على جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم شرقًا وغربًا ألا يعتبروا إلا أقوالهم دون أقوال مَنْ نازعهم؟ ومن أين نعلم ذلك؟ وما الدليل على ذلك؟ وهل يتكلم بهذا مَنْ يَعرف الأدلة الشرعية وأصول الفقه التي تُبنى عليها الأحكام؟
وكذلك قوله: عن إمام؛ ماذا تعني بالإمام؟ أتعني بالإمام من ائتم به طائفة من المسلمين؟ فما من عالمٍ من العلماء إلا وله طائفة تأتم به. أم تعني به من ائتم به جميع المسلمين؟ فليس في العلماء مَنْ يتبعه جميع المسلمين، بل ولا أكثرهم في مفرداته. أم مَنْ صُنِّفَتِ الكتبُ على مذاهبهم؟ فمعلوم أَنَّ الصحابة والتابعين لهم بإحسان يعتد بخلافهم بإجماع المسلمين، ولم
(1)
انظر: جماع العلم (9/ 25 وما بعدها)، الرسالة الباهرة في الرد على أهل الأقوال الفاسدة لابن حزم، وجامع بيان العلم وفضله (2/ 1087 - 1119)، جامع المسائل (5/ 72 - 75)، وما تقدم (ص 226).
تصنف على مذاهبهم كتب، ولم تصنف الكتب على مذاهبهم كما صنفت على مذاهب الأئمة الأربعة أو الخمسة أو الستة أو السبعة، بل صنفت الكتب على مذهب أبي حنيفة ومالك والأوزاعي والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود وابن جرير، وكلٌّ مِنْ هؤلاء له أتباع ولهم مصنفات على مذهبه.
ومعلومٌ باتفاق المسلمين أن الصحابة الذين هم أجل من هؤلاء يعتد بأقوالهم في الخلاف وإن لم يكونوا كذلك، وكذلك التابعون، وكذلك سائر العلماء مثل: الليث بن سعد وحماد بن سلمة وابن جريج وسفيان بن عيينة وسليمان التيمي وأشعث وغيرهم.
وأيضًا؛ فيقال: ما تعني بقولك: بنقل صريح؟ أتعني به ما يدل دلالة تبين مراده؟ أم ما يدل على خصوص محل النزاع من غير مشاركة غيره في الدلالة؟ واشتراط الثاني باطل.
وأيضًا؛ فمعلوم أَنَّ النقل في هذه المسألة عن بعض العلماء ليست [174/ ب] حجة شرعية يجب على المسلمين اتباعها، وإنما يجب اتباع ما أنزل الله ــ عز وجل ــ على رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن المطلوب من النقل هنا أَنْ نقدح في ظن الإجماع؛ فإنَّ الإجماع نوعان: قطعي؛ يُقطع بأنَّ الأمة أجمعت عليه، وظني؛ يُظنُّ أَنَّ الأمة أجمعت عليه.
وقد تنازع الناس في الإجماع هل هو حجة قطعية أم ظنية؟ وهل
(1)
يقطع بخطأ من خالفه؟
(1)
في الأصل: (وهذا)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
والتحقيق: أَنَّ ما قطعنا بأنه إجماع الأمة قطعنا بخطأ مخالفه، فإنَّا نقطع أَنَّ الأمة لا تجتمع على خطأ، وما لم نقطع بأنه إجماع الأمة لم نقطع بخطئه من هذه الجهة، لكن إِنْ علمنا خطأه من جهة أخرى قطعنا به
(1)
.
وإذا كان كذلك؛ فمن المعلوم أنه إذا كان الطريق الذي به يُعرف الإجماع نقل أبي ثور ومن اتبعه، وهو يقول: إنما معي عدم العلم بالنزاع، وظن أنه لا نزاع = كان بمنزلة مَنْ يَقول: لا أعلم في مذهب مالك أو الشافعي أو أبي حنيفة خلافًا، أو أظن أنه لا خلاف في ذلك؛ وبمنزلة مَنْ يقول: هذا الخبر لم يروه إلا فلان، أو أظن أنه لم يروه إلا فلان، أو ما أعلم رواه إلا فلان.
فإذا قال غيره: بل في مذهب فلان قول آخر، وهذا الخبر رواه آخر.
فإذا قال العالم الآخر: بل في الطلاق نزاع، لم نَبْقَ ظانِّين للإجماع، كما كنا نظنه لو لم ينقل هذا، بل جَوَّزنا ــ حينئذٍ ــ أَنْ يكون هناك نزاع اطلع عليه هذا دون ذاك، بل ومع هذا التجويز يرجح هذا، ولو لم يرجح لم نبق ظانين إجماعًا، فلا يبقى هناك إجماع احتج به.
وإذا قام عندنا دليل خالف هذا؛ فإما أن يترجح عندنا عدم الإجماع، فيجب علينا العمل بالدليل السالم عن المعارض المقاوم، وإِمَّا أَنْ يتساوى الأمران فلا يرجح واحد على الآخر فنقف؛ فأما الجزم بهذا النقل النافي
(1)
مجموع الفتاوى (19/ 270)، المستدرك على مجموع الفتاوى (2/ 113)، منهاج السنة (8/ 360)، المنتقى من منهاج الاعتدال (ص 578، 580).
دون ذاك النقل المثبت، فهذا ترجيح بلا مرجح، بل ترجيح للمرجوح على الراجح، بل ترجيح النافي على المثبت، بل ترجيحٌ لعدم العلم على العلم، وترجيحٌ للظن الضعيف على الظن القوي؛ وكل هذا لا يفعله إلا جاهل أو متجاهل.
الوجه الخامس: [175/ أ] أَنْ يقال: من المعلوم أَنَّ الله ــ سبحانه وتعالى ــ بَيَّنَ للمسلمين الدين؛ كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وقال تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]، فقد بَيَّنَ الله ــ عز وجل ــ للأمة ما تتقيه، والذي يتقونه هو ما نهاهم عنه.
وقد قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3]، وقال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]، وقال تعالى:{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123]، وقال سبحانه وتعالى:{وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213]، وقال عز وجل:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] والدلائل الدالة على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة كثيرةٌ.
وقد أمر الله ــ سبحانه ــ المسلمين بتبليغ ما بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة، وقال تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم:{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار» . رواه البخاري
(1)
، وقال صلى الله عليه وسلم:«ألا ليبلغ الشاهد الغائب» أخرجاه في الصحيح
(2)
، وقال صلى الله عليه وسلم:«نَضَّرَ الله امرأً سمع منا حديثًا فبلَّغه إلى من لم يسمعه، فربَّ حامل فقهٍ غيرِ فقيه، وربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه» رواه أهل السنن من حديث ابن مسعود وزيد بن ثابت بأسانيد حسنة
(3)
.
وإذا كان كذلك؛ فإذا دَلَّ الكتاب والسنة على حكمٍ لم يجز أن تكون
(1)
برقم (3461) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه البخاري (4406) وفي مواضع أخرى، ومسلم (1679) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
(3)
حديث ابن مسعود رضي الله عنه: أخرجه الترمذي (2657، 2658)، وابن ماجه (232) وغيرهما.
وقال الترمذي: هذا حديث حسنٌ صحيح. وصححه ابن حبان (1/ 268، 271).
وأما حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه: فأخرجه أبو داود (3660)، والترمذي (2656)، وابن ماجه (230) وغيرهم.
وقال الترمذي: حديث حسنٌ. وصححه ابن حبان (2/ 454).
انظر: جزء فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «نضر الله أو أسمع مقالتي فأدَّاها» لأبي عمرو الأصبهاني المديني، وعلل الحديث (6/ 308 - 309)، وعلل الدارقطني (12/ 363). ودراسة حديث: «نضر الله امرءًا سمع مقالتي
…
» رواية ودراية للشيخ عبد المحسن بن حمد العباد.
حجة الله الدافعة لذلك هو إجماعًا يُسْنِدُهُ بعض العلماء إلى عدم علمه بالمنازع بعد القرون الثلاثة، لأنَّ قول هذا العالم لا يعرفه جمهور الناس، ولا كان مَنْ قَبْلَهُ يعرفه
(1)
، فالعلماء الذين تكلموا في هذه [175/ ب] المسألة لا يجوز أن يكون مستندهم نقل هذا الإجماع، ولم ينقل أحد منهم إجماعًا قبله، كما كانوا ينقلون الأخبار التي يثبتون عليها الأحكام، ثم نقلها مَنْ بعدهم = فامتنع أن يكون مثل هذا النقل حجة الله التي جعلها عصمةً لعباده المؤمنين التي يهتدون بها؛ ولهذا يوجد الإجماع الذي هو إجماع يجب اتباعه معه كتاب أو سنة تقدمه على الإجماع يتبعها المؤمنون.
ولهذا كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى شريحٍ يقول: اقضِ بما في كتاب الله، فإنْ لم يكن في كتاب الله فبما في سنة رسول الله، فإنْ لم يكن في سنة رسول الله فبما قضى به الصالحون. وفي روايةٍ: فبما أجمع عليه الناس
(2)
.
وكذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: أَفْتُوا بما في كتاب الله، فإنْ لم تجدوا فبما في سنة رسول الله، فإنْ لم تجدوا [
…
]
(3)
.
(1)
في الأصل: (ولا كان مَنْ يقبله يعرفه)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(2)
أخرجه النسائي في سننه (5399) وفي الكبرى (5911) ــ ومن طريقه الضياء في المختارة (1/ 238) ـ، والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 421) وغيرهم.
ونقل ابن الملقن في البدر المنير (9/ 540) قول ابن دحية: وأحسن ما ورد في هذا الباب ما رواه الشعبي عن شريح القاضي وذكره.
وصححه إسناده ابن حجر في موافقة الخُبر الخَبر (1/ 120).
وانظر: مسند الفاروق (2/ 435 وما بعدها).
(3)
طمس في الأصل مقدار نصف سطر.
وقال النسائي: هذ الحديث جيد جيد. وصححه ابن حجر في موافقة الخُبر الخَبر (1/ 119).
انظر: سلسة الآثار الصحيحة (1/ 82).
فأمروا باتباع الكتاب والسنة أولًا وَأَخَّرُوا الإجماع، لعلمهم بأنَّ ما في الكتاب والسنة لا ينعقد إجماع على خلافه، بل متى انعقد إجماع على خلافِ نَصٍّ فلا بُدَّ أَنْ يكون هناك نَصٌّ ظاهرٌ معلومٌ ناسخٌ للنصِّ المخالف للإجماع
(1)
.
وأما ما يقوله بعض المتأخرين من تقديم الإجماع على نصوص الكتاب والسنة إما لكونه ناسخًا لها
(2)
أو دالًّا على الناسخ لها = فخطأٌ مخالفٌ لِمَا كان عليه السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فإنهم لم يكونوا يَرُدُّونَ نصوص الكتاب والسنة إلا بنصوص الكتاب والسنة، ولا يَستدلون على نسخ النص إلا بنصٍّ ينسخه لا بمجرد ظن الإجماع، وإلا فالقرآن
(1)
انظر: مجموع الفتاوى (19/ 196، 257)، وما سيأتي (ص 183).
(2)
في الأصل: (لهذا).
والسنة التي أوجب الله ــ تعالى ــ اتباعهما، وقد أمر بتبليغهما الخلق = لا يجوز أَنْ يضيع ذاك على الأمة ويحيلهم على ما لا يمكن أحدًا معرفته، وإِنْ أمكنت معرفته إنما يكون لآحادِ الناس، فإنَّ العلمَ بالإجماعِ الذي يخالف النصوص ولا نص معه لو قُدِّرَ وجودُهُ = لكان العلم به متعذرٌ أو متعسرٌ، فلو كان الواجب ترك ما دل عليه الكتاب والسنة لمثل هذا = لكان قد وجب ترك ما عُلِمَ أنه حق لما لا سبيل إلى علمه، بخلاف الإجماعات المعلومة، فإنَّ معها دلائل الكتاب والسنة توافقها
(1)
.
ولهذا جمع الله ــ تعالى ــ في الوعيد بين مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين بقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ [176/ أ] مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]، فإنَّ مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين متلازمان كلٌّ منهما حَقٌّ، كما أَنَّ طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم متلازمان كلٌّ منهما حق.
الوجه السادس: أَنْ يقال: طاووس بن كيسان من أجل أئمة المسلمين، وهو ممن ثبت عنه النقل الصريح بأن الحلف بالطلاق ليس بشيء.
بل طاووس أَجَلُّ أصحابِ ابن عباس؛ قال أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء
(2)
: (قال خصيف: أعلمهم بالحلال والحرام طاووس)
(3)
.
(1)
انظر ما تقدم (ص 14).
(2)
انظر ما تقدم (ص 13، 608).
(3)
(ص 73).
وقال سفيان بن عيينة: (قلت لعبيد الله بن أبي يزيد: مع مَنْ كنتَ تدخل على ابن عباس؟ قال: مع عطاء. قلت: فطاووس؟ قال: أيهات
(1)
ذاك، كان يدخل مع الخواص)
(2)
. وروى عن يحيى بن معين قال: (سُمِّيَ طاووسًا، لأنه كان طاووس القُرَّاء)
(3)
.
والقراءُ في لغة السلف هم: أهل العلم والدين؛ كما في الحديث الصحيح: كان القُرَّاء أهل مجلس عمر، شيوخًا كانوًا أو شُبَّانًا
(4)
.
فإنَّ لفظ المتكلِّم والمتصوِّف والزاهد والأصولي ونحو ذلك = ألفاظٌ محدثة، لم يكن الصحابة رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان يتكلمون بها.
وقال أبو حاتم بن حبان
(5)
: (طاووس كان من فقهاء أهل اليمن وخيارهم، وعُبَّادِ التابعين وزهادهم). وقد أدرك طاووس خمسين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
(6)
، ومناقبه في العلم والدين مشهورة.
وطاووس أعلمُ بمسائل الطلاق مِنْ كُلِّ مَنْ نازعه فيها، فإنه كان قد تلقى علمها عن ابن عباس، ولم يكن على عهد ابن عباس أعلمَ بذلك منه ولا أفقه
(1)
لغة في (هيهات). انظر: المخصص لابن سيده (5/ 80)، تهذيب اللغة (6/ 257).
(2)
الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (4/ 500).
(3)
تهذيب الكمال (13/ 358).
(4)
أخرجه البخاري (7286) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
(5)
في الثقات (4/ 391).
(6)
التعديل والتجريح لمن خرَّج له البخاري في الجامع الصحيح للباجي (2/ 647/ رقم 432).
منه، فإنه كان أعلم بذلك وأفقه مِنْ كل مَنْ عاصره مِنَ الصحابة مثل: عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر وغيرهما، وكان عند طاووس من علم ابن عباس ما تميز به على جمهور أصحاب ابن عباس، وإنما كان يقاربه في ذلك عكرمة، لكن طاووس أكبر
(1)
وأعظم عند المسلمين من عكرمة؛ فإنَّ المسلمين متفقون على عِظَمِ قَدْرِهِ في العلم والدين، وأَنَّ رواياته عن ابن عباس من أصح الروايات، وفقهه في الحلال [176/ ب] والحرام من أعظم الفقه، بل يقال: إنه أعلمهم بالحلال والحرام مطلقًا.
وقد ذكر عبد الرزاق في مصنفه
(2)
: عن ابن جريج قال: أخبرني ابن طاووس، عن أبيه: أنه كان يقول: (الحلف بالطلاق [باطل] ليس شيئًا. قلت: أكانَ يراه يمينًا؟ قال: لا أدري).
وكذلك رواه سفيان بن عيينة، عن ابن طاووس، عن أبيه.
وروى ابن عيينة
(3)
.
ونحوه حديث طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما أَنَّ الثلاث كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر = طلاق الثلاث واحدة
(4)
. وكان طاووس يفتي بذلك.
(1)
في الأصل: (أبر)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(2)
(6/ 406)، وما بين المعقوفتين منه.
(3)
كذا في الأصل، وليس هناك ما يدل على وجود سقط أو بياض إلا أنه تقدَّم كلام المجيب بنحو هذا في (ص 220) حيث قال بعد أن ذكر الأثر من مصنف عبد الرزاق: وقد روى هذا ــ أيضًا ــ سفيان بن عيينة، عن ابن طاووس، عن أبيه؛ وهو من حديث ابن عيينة الذي يروى من طريق المكيين.
(4)
أخرجه مسلم (1472).
ولا يلزم إلا الطلاق المباح؛ ولهذا كان سفيان بن عيينة لا يفتي في الطلاق بشيء
(1)
، لتعارض الآثار عنده في ذلك، ولو كان في الحلف بالطلاق إجماع لكان ابن عيينة من أعلم الناس به، ولم يكن يتوقف في مسألة يُجْمَعُ عليها؛ فإنَّ ابن عيينة طال عمره، وكان من أعلم أهل زمانه، وأخذ عن التابعين وتابعيهم = فلم يكن ممن يخفى عليه الإجماع في مثل ذلك، ولم يكن ممن يتوقف في الإجماع، ولم يدرك الشافعي أَجَلَّ مِنْ مالك وابن عيينة.
وقول طاووس: الحلف بالطلاق ليس شيئًا؛ معروفٌ في لغتِهِ وعادَتِهِ وعادَةِ أمثالِهِ من السلف أَنَّ المراد بذلك: أنه ليس بطلاق، وإِنْ لزم به حكم آخر.
كما روى عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه
(2)
.
وقد رواه أبو بكر عبد العزيز في الشافي: (قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن طاووس قال: سئل عن الخلع. فقال: ليس بشيء. فقال له قائل: إنك لا تزال تأتينا بشيءٍ لا ندري ما هو. قال: والله لقد جمع ابن عباس بين رجل من أهل اليمن وامرأته كان طلقها
(1)
نقل المزي في تهذيب الكمال (11/ 190) من رواية أبي الحسن الميموني عن الإمام أحمد قولَه: (كان سفيان بن عيينة إذا سُئِلَ عن المناسك سَهُلَ عليه الجواب فيها، وإذا سُئِلَ عن الطلاق اشتدَّ عليه). وقال ابن حزم في الإحكام (5/ 90): (وسفيان بن عيينة كان أكثر فتياه في المناسك، وكان يتوقَّف في الطلاق).
وانظر: إعلام الموقِّعين (2/ 43).
(2)
في مسائله (ص 399).
تطليقتين ثم خلعها)
(1)
. ومراده: أنه ليس بطلاق
(2)
، وإِنْ كان فرقة بائنة.
كما روى أبو بكر الأثرم في سننه: حدثنا ابن أبي شيبة، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، [عن طاووس]، عن ابن عباس في الخلع. قال: إنما هو فرقة وفسخ، ليس بطلاق، ذكر الله الطلاق في أول الآية وآخرها، والخلع بين ذلك فليس بطلاق
(3)
.
ونظير ذلك ما أخرجاه في الصحيح عن ابن عباس أنه سُمِعَ يقول: إذا حَرَّمَ امرأته فليس بشيء، وقال:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ [177/ أ] فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، وفي لفظٍ لمسلم عنه: إذا حَرَّمَ الرجل امرأته فهي يمين يكفرها، وقال:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}
(4)
.
فابن عباس الذي أخذ عنه طاووس يقول في التحريم: ليس بشيء؛ ومعناه: ليس بطلاق، لم يرد أنه لغو، بل صَرَّحَ مع ذلك أنه يمين يكفرها، واستدل بقوله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، والنبي صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ على نفسِهِ العسل أو سُرِّيَّتِهِ فأنزل الله هذه الآية
(5)
، ولم يحرم على نفسه
(1)
تقدم تخريجه في (ص 218).
(2)
وضع الناسخ فوقها حرف (خ)، وكتب في الهامش (طلاقًا) وفوقها حرف (خ).
(3)
تقدم تخريجه في (ص 218 - 219)، وما بين المعقوفتين من المصنَّف لابن أبي شيبة.
(4)
أخرجه البخاري (5266)، ومسلم (1473) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(5)
اختلف في سبب نزول هذه الآيات هل هو بسبب شرب العسل أو السُّرِّيَّة؟
انظر الوارد في الباب في: تخريج أحاديث الكشاف (4/ 59 وما بعدها).
امرأته؛ بل قوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 1 - 2] يدل على أن مناط التحريم: تحريم ما أحلَّ الله
(1)
، وأن في ذلك كفارة يمين.
كما ذُكِرَ نظير ذلك في قوله: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] ثم قال: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89].
ونظير ذلك ــ أيضًا ــ: ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت فيمن جعل ماله في رتاج الكعبة إِنْ فعل كذا: إِنَّ في ذلك كفارة يمين
(2)
. مع قولها ــ أيضًا ــ في ذلك: ليس بشيءٍ
(3)
.
فقولهم: ليس بشيءٍ؛ معروفٌ عندهم أنهم ينفون به ما ظَنَّ السائل أنه ثابت؛ فلما كان الحالف بالنذر يظن لزومه قالت عائشة رضي الله عنها: ليس بشيء، بل هي يمين يكفرها.
وكذلك لَمَّا كان المحرِّم لامرأته يظنُّ أنه وقع به الطلاق قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس بشيءٍ، ولكنها يمين يكفرها.
ولَمَّا كان الحالف بالطلاق يظن أنه قد لزمه الطلاق قال طاووس: ليس بشيء، وشك ابنه هل هي عنده يمين يكفرها أم لغو؟ لكن نَقَلَ عنه غيرُ ابنِهِ: أنها يمين منعقدة ليست لغوًا، فكان قوله أنها ــ أيضًا ــ يمين يكفرها، وكان
(1)
في الأصل: (تحليلُ ما حرم الله)، والصواب ما أثبتُّ.
(2)
تقدم تخريجه في (ص 215، 447).
(3)
تقدم تخريجه في (ص 213 - 214).
قول طاووس ــ رحمة الله عليه ــ مِنْ جنسِ قول ابن عباس وعائشة وغيرهما.
وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الكهان. فقال: «ليس بشيءٍ»
(1)
. فنفى ما ظنه السائل من أنهم يعلمون ما يُسألون عنه، ويَصدقون في ذلك؛ فأخبر أنهم ليسوا كذلك، وإنما يقع في كلامهم بعض الصدق بسبب ما تلقيه الشياطين إليهم من استراق السمع.
[177/ ب] ومنه قوله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [المائدة: 68] أراد: لستم على حق وهدى حتى تفعلوا ذلك، فنفى ما يَدَّعونه مِنْ أنهم على حق وهدى.
ومن ذلك: قول أهل الجرح في بعض الرواة: ليس بشيء، ينفون ما يُقصد منه وهو تصديقه في نقله، فإذا قالوا: ليس بشيءٍ؛ كان نفيًا لصدقه المطلق، فلا يوثق به، بخلاف من يكثر صدقه وضبطه ويغلط أحيانًا = فهذا لا يقولون فيه: ليس بشيء
(2)
.
وقد عُرِفَ مذهب طاووس ــ رحمة الله عليه ــ من غير وجه: أَنَّ الحلف بالطلاق يمين منعقدة ليست لغوًا، مع أنها كما نقل عنه ابنه لا يقع بها طلاق، وَعُرِفَ من مذهب طاووس أَنَّ كل تعليق يقصد به اليمين فهو عنده يمين مكفرة.
(1)
تقدم تخريجه في (ص 220)، وهو في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
تقدمت الإشارة إلى معنى قولهم: (ليس بشيء) في كلام المجيب (ص 217).
قال ابن حزم
(1)
: (وصح عن طاووس أنه قال: الحلفُ بالعتاق ومالي هدي وكل شيء له في سبيل الله وهذا النحو= كفارة يمين). وقد نَقَلَ ذلكَ عن طاووس غير واحد، كمحمد بن نصر المروزي
(2)
وابن عبد البر
(3)
وغيرهما.
وروى الأثرم في سننه
(4)
: عن أحمد بن حنبل، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه في قوله:(إِنْ لم أفعل كذا وكذا فأنا مُحْرِمٌ بحجة. قال: يمين يكفرها).
وقال سعيد في سننه
(5)
: حدثنا حماد بن زيد، عن ليث، عن طاووس في الرجل يقول:(إِنْ لم أفعل كذا وكذا فامرأتي طالق إن شاء الله = فله ثنياه في الطلاق والعتاق).
وقال أيضًا
(6)
: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا ليث، عن عطاء وطاووس ومجاهد والنخعي والزهري أنهم قالوا في قول الرجل لامرأته:(أنت طالق إِنْ لم أفعل كذا وكذا إن شاء الله فلم يفعل = فله ثنياه).
فهذا يدل على أن الحلف بالطلاق منعقد عنده، ينفع فيه الاستثناء، ولو كان باطلًا ــ كما يقوله مَنْ يجعلها يمينًا لغوًا ــ لم يحتج إلى الاستثناء، بل
(1)
المحلى (ص 991).
(2)
في اختلاف الفقهاء (ص 492).
(3)
في الاستذكار (15/ 105).
(4)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (8/ 453) وإسناده صحيح.
(5)
(2/ 35/ ح 1812)، وقد تقدم (ص 221).
(6)
(2/ 35/ ح 1813)، وقد تقدم (ص 221).
كان هذا بمنزلة ما لو طَلَّقَ أجنبيةً إِنْ فعل كذا، وبمنزلة ما لو قال: وحَقِّ الطلاقِ لا أفعل كذا.
وأيضًا؛ فنقل ابن المنذر
(1)
في الاستثناء في الطلاق إذا كان بيمين حلف بها: أنه لا شيء عليه.
[178/ أ] قال ابن المنذر
(2)
: (وفيها قولٌ ثالث: إن بدأ بالطلاق فليس له استثناء، وإذا حلف بالطلاق على شيءٍ واستثنى فله استثناؤه). قال: (وقال أحمد: هما سواء، وإنما يكون الاستثناء في الأيمان، والطلاق والعتاق ليس بيمين).
وهذا الذي نقله عن أحمد هو إحدى الروايتين عنه، والرواية الأخرى عنه كقول طاووس الذي نقله عنه:(إِنْ طلقها ابتداءً لم ينفع الاستثناء، وإِنْ حَلَفَ بالطلاق واستثنى نفعه فله استثناؤه)، وهذا صريحٌ من قول طاووس أنَّ الحلف بالطلاق يمين منعقدة ينفع فيها الاستثناء، وقد فَرَّقَ بين إنشائه والحلف به [في]
(3)
الاستثناء كقول أحمد في إحدى الروايتين، وهذا يمنع أن يكون الحلف بالطلاق لغوًا عنده، ويوجب أنها يمين منعقدة، ولولم يقله لم تجب الكفارة = فكان لغوًا؛ فعلم أنه يوجب الكفارة في الحلف به.
(1)
في الإشراف (5/ 219).
(2)
في الإشراف (5/ 220) وعبارته هناك: (وفيه قولٌ ثالث: وهو إنْ بَدَأَ بالطلاق فليس له استثناء؛ روي ذلك عن طاووس.
وقال أبو عبيد: إذا قال: أنتِ طالق إن شاء الله. قال: الطلاق له لازمٌ، فإذا حَلَفَ على شيءٍ استثنى فله ثنياه).
(3)
إضافة يقتضيها السياق.
ونقل الطحاوي
(1)
عن طاووس وطائفة من التابعين أنهم كانوا يقولون: (مَنْ حَلَفَ بالله أو بالطلاق أنه لا يفعل شيئًا وفعله ناسيًا ليمينه = أنه يحنث).
وقول طاووس وغيره: إنه يحنث= دليلٌ على أنها يمين منعقدة عندهم، واليمين المنعقدة في دين المسلمين التي يحنث فيها= لا بُدَّ فيها من الكفارة أو لزوم ما عَلَّقَه.
فإذا كان قوله: (إِنَّ الطلاق لا يلزمه)، وهي يمين منعقدة عنده = عُلِمَ أَنَّ فيها الكفارة.
وأيضًا؛ فمذهب طاووس: أَنَّ النذر يمين؛ كما روى أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه
(2)
: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ليث، عن طاووس قال:(النذر يمين).
ومَنْ قال: إِنَّ الحلف بالطلاق لا يلزم ولا كفارة فيه، مع قوله هو يمين = إما أَنْ يقول: ليس هو من أيمان المسلمين، كالذين يقولون ذلك مِنْ حَلِفٍ بالنذر وغيره، أو يقول: إِنَّ الطلاق نفسه ليس قربة، فلو نَذَرَهُ لم يلزمه شيء، بخلاف العتق وغيره، فإنه لو نذره لزمه، فإذا حَلَفَ به لزمه.
وطاووس قد عُرِفَ من مذهبه: أنه يجعل التعليق الذي يقصد به اليمين يمينًا لازمة، وأنه يجعل النذر يمينًا.
فَمَنْ نَذَرَ مباحًا ــ كالطلاق وغيره ــ لزمه كفارة [178/ ب] يمين.
فإذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فامرأتي طالق، كان كقوله: لله عليَّ أَنْ أُطَلِّقَ،
(1)
مختصر اختلاف العلماء (3/ 260).
(2)
(12292).
وهذا عنده فيه كفارة يمين.
وأيضًا؛ فمذهب طاووس إذا قال: إن فعلت كذا فقطع الله يدي أو أهلكني ونحو ذلك = أنها يمين مكفرة، فيجعل التعليق الذي جزاؤه دعاء الله على نفسه يمينًا مكفرة، والتعليق القسمي الذي جزاؤه عتق عبده يمين مكفرة، والتعليق القسمي الذي جزاؤه نذر يلزمه؛ وهذا كله يدل على أَنَّ مذهبه في التعليق القسمي أن فيه كفارة يمين، فإنَّ تعليقه للطلاق والظهار والحرام أعظم من تعليقه لدعاء الله بقطع يديه، فإذا كان هذا عنده يمينًا مكفَّرة فذاك بطريق الأولى.
ومعلومٌ أنه لو قال ابتداءً: قطع الله يديه = لم يلزمه به شيء إلا التوبة، لكن لما عَلَّقَهُ بقصدِ اليمين عَلَّقَ بالشرط من الجزاء ما يكره لزومه إياه، فصار حالفًا، وهو لا يريد وقوع ما دعا الله به فصار منتهكًا لحرمة دعاء الله، حيث دعا الله ــ أي: عند وجود الشرط، ثم وُجِدَ الشرط ــ وهو لا يريد ذلك الدعاء= فعلق بالشرط نذرًا لله، ثم وجد الشرط وهو لا يريده، وهذا الدعاء هو من نوع اليمين، لكن الأكثرون يقولون: لم يلتزم هتك حرمة أيمانه فإنه لم يلتزم لله ولا بالله شيئًا، وإنما دعا الله على نفسه بشيءٍ، وطاووس يقول: بل طَلَبَ فِعْلَ اللهِ به، ودعاءُ الله تعظيمٌ له، فإذا دعاه بتقدير الشرط، ثم أراد أَنْ يكون الشرط دون ما دعاه = جعل دعاءه له لغوًا، وفي هذا انتهاك لحرمةِ دعائِهِ لله، وهو انتهاك لحرمة أَيمانه، كما لو جعل اللازم إيجابًا لله ــ تعالى ــ وتحريمًا لله، والأكثرون يقولون: هذا الدعاء لو انفرد عن التعليق ولم يقصده لم يكن منتهكًا لحرمة الأيمان.
قال تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ
إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11]، وقال تعالى:{وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11] قالوا: نزلت في دعاء الإنسان على نفسه وولده عند الغضب بما لا يريده عند الرضا، فإذا لم يكن في مُنَجَّزِهِ شيءٌ لم يكن في تعليقه شيء، بخلاف النذر والطلاق [179/ أ] والعتاق = لَمَّا كان تنجيزه لازمًا، كان تعليقه لازمًا، لكن له أَنْ يَحِلَّ ذلكَ العقد بالكفارة.
والمقصود: أنَّ طاووسًا
(1)
قد بالغ في إلزام المعلق تعليقًا قسميًّا بالكفارة، حتى ألزم بالكفارة مَنْ عَلَّقَ دعاءه لله على وجه اليمين، فكيف بمن عَلَّقَ الطلاق على وجه اليمين؟!
وأيضًا؛ فمذهب طاووس أَنَّ الحلف بالوقوع كالحلف بالوجوب.
فإذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فعبدي حر؛ فهو عنده كقوله: فعليَّ أَنْ أُعتق عبدي = كلاهما فيه كفارة يمين، وهو لو حلف بوجوب الطلاق وهو الحلف بنذره كقوله: إِنْ فعلتُ كذا فعليَّ أَنْ أُطَلِّق امرأتي لزمته كفارة يمين، لأنَّ النذر عنده يمين، فإذا نَذَرَ شيئًا ولم يفعله لزمته كفارة يمين.
وإذا قال: لله عليَّ أَنْ أُطَلِّقَ امرأتي ولم يطلقها= فعليه عنده كفارة يمين، كمذهب أحمد وغيره.
وإذا كان الوجوب المعلق عنده على وجه القسم ليس بلغو، بل فيه كفارة يمين = فكذلك الوقوع، فإنَّ كل مَنْ حلف بوجوب شيء يلزم الناذر به كفارة، كان على الحالف به كفارة باتفاق الناس الذين يقولون: إنها يمين منعقدة، وقد عرف من مذهبه أنها يمين منعقدة.
(1)
في الأصل: (طاووس).
وأيضًا؛ فلم يعرف أحد قال: إن الحلف بالطلاق لغو والحلف بالعتق والنذر يمين منعقدة، وطاووس من أصله المشهور عنه المعروف أن الحلف بالعتق والنذر يمين منعقدة مكفرة، فلا يقول: إن الحلف بالطلاق ليس يمينًا منعقدة، لكن لو قيل بنفي الكفارة، إنما يقال لكون الطلاق ليس بقربة، كما أَنَّ في نذر المعصية والمباح نفي الكفارة لكون المنذور معصية ومباحًا، لا لكون ذلك ليس نذرًا.
يُبَيِّنُ ذلك: أن الذين قالوا في تلك الأيمان: لا شيء فيها. قالوا ذلك لاعتقادهم أنها من جنس الحلف بالمخلوقات، وهذا مما يشترك فيه تعليق النذر والعتاق والطلاق إذا خرج مخرج اليمين
(1)
، فإذا كان مِنْ أصل طاووس أنها أيمان مكفرة = بطل أن يكون قوله قول هؤلاء، وهو قد جعل النذر يمينًا، ومن حلف على مباح أو محرم ولم يفعله = لزمته كفارة يمين.
والمعترض [179/ ب] معترف بأنه لم يَنقل عن طاووس ما يناقض ما نقله العلماء عنه، ولهذا قال:(لم أنقل عن طاووس شيئًا، لأني لم أر عنده بنصٍّ ظاهرٍ خلاف ما نقله المصنف)
(2)
، لكن ذكر شيئًا من جنس شبه السوفسطائية، فيما نقله العلماء عنه، فهو في ذلك من المطففين، فإنه لو قوبل فيما ينقله بمثل هذه الاحتمالات = لم يبق بيده نقلٌ عن السلف في أكثر ما ينقله عنهم، فضلًا عن كونه إجماعًا، وسيأتي الكلام على هذا قريبًا ــ إن شاء الله تعالى ــ إذا ذكرناه.
(1)
قاعدة العقود (1/ 235).
(2)
«التحقيق» (45/ أ).
فصلٌ
قال المعترض:
(وأما العتق: فلولا نقل محمد بن نصر [عن أبي ثورٍ ما رأيت] لكان فيه نظر، فإنَّ ابن المنذر نقل عن أبي ثور في الإشراف
(1)
فيما إذا قال لعبده: إن لم أضربك فأنت حر؛ وأراد بيعه أنه إذا لم يجعل لذلك وقتًا لا يقع العتق عليه، وهذا يقتضي أنه إذا جعل له وقتًا يقع)
(2)
.
والجواب: أنَّ النزاع في العتق ليس عن أبي ثور وحده، بل عن الصحابة والتابعين، كما نقله عامة من صَنَّفَ في الخلاف مثل: ابن المنذر وابن جرير الطبري وابن عبد البر وابن حزم، مع نقل أبي ثور ومحمد بن نصر.
وأما ما ذكره عن ابن المنذر؛ فابن المنذر نفسه نقله عن أبي ثور أنه فيمن حلف بعتق رقيقه ألا يفعل كذا وحنث= أن عليه كفارة يمين.
والمسألة التي نقلها ابن المنذر عن أبي ثور: فمنطوقها لا حجة فيه ــ وهو مراد ابن المنذر ــ، فإنَّ مقصودَه نقل الأقوال فيما إذا حلف ليفعلنَّ ــ وفي معناه (إِنْ) إذا دخلها النفي كقوله: إن لم أفعل كذا فامرأتي طالق وعبدي حر وعليَّ الحج ــ هل يحنث قبل أن يفوت الفعل؟ فأبو ثور يقول: لا يحنث قبل فوت الفعل، فلا يقع به العتق عند من يقول العتق المحلوف به يقع.
وما ذكره ابن زرقون فهو قد نقله من الاستذكار، فإنَّ ابن عبد البر قال
(1)
(8/ 123)، وقد تقدم نقله هذا في (ص 133).
(2)
«التحقيق» (44/ ب)، وما بين المعقوفتين منه.
في الاستذكار
(1)
: (وقد روى يونس عن الحسن أنه جاءه رجل، فقال: إني جعلتُ كل مملوك لي حرًّا
(2)
إِنْ شاركت أخي. فقال: شارك أَخاك، وكَفِّر عن يمينك).
قال: (وهو قول القاسم وسالم وسليمان بن يسار وطاووس وقتادة، وبه قال [180/ أ] أبو ثور). هذا لفظ أبي عمر ابن عبد البر عقب ذكره لحديث ليلى بنت العجماء.
* * * *
(1)
(15/ 46).
(2)
في الأصل: (حر).
فصلٌ
قال المعترض:
(قوله: وقد تبين أنه لا إجماع فيه.
قلنا: لم يتبيَّن؛ بل نحن أسعد بدعوى ثبوته
(1)
لو ادعيناه، لأنَّ معنا نقل ثلاثة أو أكثر من أئمة المسلمين، ومصادمة نقل الإجماع لا يكون بالاستدلال والقياس، وإنما يكون بالنقل الصريح)
(2)
.
والجواب من وجوه:
أحدها: أَنْ يقال: التبين وعدم التبين أمر نسبي، فإنْ كان المعترض يقول: إنه لم يتبين له، لأنه لم يقف على نزاع في ذلك؛ فهذا لا ينفي تبينه لغيره، بل وعنده من الكتب ما إذا تأمل ما فيها من النقل = تبين له ــ أيضًا ــ أنه لا إجماع في ذلك.
ففي كتاب الإجماع لابن حزم الذي نقل فيه الإجماع على وقوع الطلاق المعلَّق الذي لم يُخْرِجْهُ مخرجَ اليمين، فيه ذكر النزاع في الطلاق المعلَّق إذا أخرجه مخرج اليمين، هل هو طلاق فيلزم أم يمين فلا يلزم؟ وهل فيه كفارة أم لا كفارة فيه؟
وأيضًا؛ فهو قد اطَّلَع على قول أبي عبد الرحمن الشافعي أَنَّ الطلاق المعلَّق بالصفة لا يقع بحال؛ فهذا نزاع في كل تطليق معلق بصفة.
(1)
كذا في «التحقيق» وما سيأتي، وفي الأصل:(الإجماع).
(2)
«التحقيق» (44/ ب).
وقد تقدم ذكر أبي عبد الرحمن وتقدمه في العلم والزمان
(1)
، وأنه كان ممن صحب الشافعي رضي الله عنه ببغداد في المائة الثانية، بل قد قيل: إنه كان أجل أصحابه الذَّابِّين عن مذهبه ببغداد، بخلاف ما ظنه هذا المعترض، فإنه لم يعرف قَدْرَهُ، وظن أنه كان بعد الثلاث مائة، وهو قول ابن حزم وقولُ كثيرٍ من شيوخِ الشيعة كالمفيد وأبي جعفر الطوسي وأبي القاسم الموسوي، ونقله عن الأئمة من أهل البيت، لكن النقل الذي وجدناه مسندًا عن أبي جعفر محمد الباقر وجعفر بن محمد
(2)
وغيرهما من علماء أهل البيت ــ رضوان الله عليهم ــ إنما هو فيمن عَلَّقَ تعليقًا يقصد به اليمين فأفتوا بأنه لا يلزمه الطلاق.
وفي الجملة؛ ففي الطلاق المعلَّق بالصفة ثلاثة أقوال، كل قول له قائل معروفٌ: قولٌ بلزومه مطلقًا، وقولٌ بأنه لا يلزم، وقولٌ بالفرق بين التعليق الذي [180/ ب] يقصد به اليمين فلا يقع والذي يقصد به الإيقاع فيقع.
ثم إذا قيل: إنَّ الحالف به لا يلزمه الطلاق، فهل عليه كفارة يمين؟ على قولين.
فهذه أربعة أقوال؛ وبكل قول أفتى طائفة من علماء المسلمين، وقد ثبت من حديث ابن عيينة وابن جريج عن عبد الله بن طاووس، عن أبيه طاووس
(1)
انظر (ص 380، 833 وما بعدها).
(2)
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (4/ 401) في ترجمة أبي جعفر: (وليس هو بالمكثر، وهو في الرواية كأبيه وابنه جعفر، ثلاثتهم لا يبلغ حديث كل واحد منهم جزءًا ضخمًا، ولكن لهم مسائل وفتاوى).
أنه قال: (ليس الحلف بالطلاق بشيء)
(1)
. فقيل لابنه عبد الله: (أكانَ يراه يمينًا؟ فقال: لا أدري). رواه عبد الرزاق عن ابن جريج، وَنَقَلَ عن ابنه عنه أنه كان عنده يمينًا منعقدة
(2)
.
وطاووس من أجل كبار التابعين، وهو لم يجعل الحلف بالطلاق إيقاعًا له، بل يجعله يمينًا منعقدة موجبة للكفارة، كما يجعل الحلف بالعتق يمينًا مكفرة، والحلف بالنذر يمينًا مكفرة، فقوله مطردٌ في هذا الباب، وعلى قوله يدل ما قد ثبت نقله عن الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ في هذا التعليق الذي يقصد به اليمين.
الوجه الثاني: قوله: (نحن أسعد بدعوى ثبوته لو ادعيناه، لأنَّ معنا نقل ثلاثة أو أكثر من أئمة المسلمين) تقدم جوابه
(3)
أَنَّ ابن المنذر لم ينقل إجماعًا عامًا، وأبو ثور إنما حكى الإجماع على نفي الكفارة، وإنْ كان قد حكاه عليهما فهو كابن نصر؛ فإنَّ ابن نصر حكى الإجماع على لزوم الطلاق المحلوف به ونَفْيِ الكفارة اتباعًا لأبي ثور، وأبو ثور يقول: معنى الإجماع عندي: عدم علمي بالمنازع؛ ولو لم يقل ذلك فمعلوم أنه ليس عالمًا بنفي المنازع، وغاية ما عنده الظن، فقد عاد الأمر إلى ظَنِّ أبي ثور لعدم النزاع.
ومعلومٌ أنه لو لم يعارض ذلك إلا بعض ما يذكر من النزاع = لمنع ذلك الجزم بوقوع الإجماع، فلو لم يعارض ذلك إلا قول أبي عبد الرحمن الشافعي بنفي وقوع الطلاق المعلق = لقدح ذلك في هذا الإجماع.
(1)
كتب الناسخ في الهامش: (شيئًا)، وفوقها حرف (خ).
(2)
تقدم تخريجه في (ص 220).
(3)
في (ص 597 وما بعدها).
وكذلك لو لم يعارضه إلا نقل ابن حزم للأقوال الثلاثة في الحلف بالطلاق هل يلزم أو لا يلزم؟ وهل يكفر أم لا يكفر؟ لَقَدَح ذلك فيه، فإنَّ هذا مثبت لما يمكن الإحاطة به، وذاك نافٍ لما لا يمكن الإحاطة بنفيه، والمثبت مقدم على النافي فيما يمكن الإحاطة [181/ أ] بنفيه، فكيف فيما لا يمكن الإحاطة بنفيه؟
وكذلك النقل المتقدم عن أبي جعفر محمد وابنه أبي عبد الله
(1)
جعفر وغيرهما في الحلف بالطلاق أنه لا يلزم.
وكذلك النقل الثابت عن طاووس ــ أَجَلّ أصحاب ابن عباس رضي الله عنه ــ أنه كان يقول: (ليس الحلف بالطلاق بشيء)، ونَفْيُ لزومِ الطلاقِ المحلوفِ به قولُ غيرِ واحدٍ من المسلمين.
ونقل سُنَيْد
(2)
في تفسيره عن عكرمة أنه سئل عن رجل قال: (امرأتُهُ طالقٌ إِنْ لم يضرب غلامه مائة سوط. قال: لا يضرب غلامه، ولا يُطَلِّق امرأته، لأنَّ هذا من خطوات الشيطان). رواه عن عَبَّاد المهلبي، عن عاصم الأحول عنه في سورة
(3)
النور
(4)
.
ولو قُدِّرَ أنه لم يُعْرَف إلا نَقْلٌ واحدٌ نُقِلَ ذلك عمن لم يسمه من العلماء
(1)
في الأصل: (محمد)، وصوابه ما أثبتُّ ــ كما في ترجمته في سير أعلام النبلاء (6/ 255) وغيرها ــ، وسيأتي على الصواب.
(2)
في الأصل: (مسند)، والصواب ما أثبتُّ كما في المصادر الأخرى.
(3)
في الأصل: (سفره)، والصواب ما أثبتُّ كما في المصادر الأخرى.
(4)
هذا الأثر لم أجد مَنْ أخرجه، وقد ذكره ــ كما هنا ــ ابن القيم في إعلام الموقعين (5/ 523، 542)، والصواعق المرسلة (2/ 609) وإسناد رجاله ثقات.
ــ كما نقله ابن حزم ــ لكان هذا يمنع أن يجزم بصحة ظن أبي ثور أنه لا نزاع في ذلك؛ فإنه إذا قال قائل: ليس في مذهب فلان خلاف، أو ليس بين الأئمة الأربعة خلاف في ذلك، ولم يرو هذا إلا فلان. وقال آخر: بل في ذلك خلاف، أو قد رواه غير فلان = كنا قبل أَنْ نعلم أَيُّ القولين أرجح غيرَ جازمين بنفي النزاع، وحينئذٍ فلا يجوز دعوى الإجماع على هذا التقدير، وبطل قوله:(نحن أسعد بدعوى الإجماع لو ادعيناه).
الثالث: أنه من المعلوم أَنَّ إجماع الأمة المعصوم
(1)
لا يكون إلا عن دليلٍ شرعيٍ كنصٍّ أو قياسٍ، فإنَّ القول بلا دليل قولٌ بلا علم؛ ولهذا أنكر جماعة العلماء قول يونس بن عمران بجواز انعقاد الإجماع [
…
]
(2)
،
فإنه يمتنع انعقاد الإجماع على خلاف الدليل الشرعي.
ومعلومٌ أنه لا نَصَّ ولا قياسَ يدل على أَنَّ الذي يَقصد الحلف بالطلاق والعتاق والظهار والحرام كارهًا لوقوع ذلك عند الصفة = أنه ليس بحالف، بل هو مُطَلِّقٌ كغيره من المطلقين، ولا في الشريعة قياسٌ يدلُّ على ذلك، فإنه ليس في الشرع تعليقٌ محلوفٌ به ثبت بنص أو إجماع أنه يلزم الحالف به ما التزمه حتى يقاس هذا به، والكتاب والسنة والقياس إنما تدل على أن التعليق
(1)
في الأصل (معصوم)، ولعل ما أثبتُّ هو الصواب.
(2)
بياض مقدار نصف سطر تقريبًا.
وقول يونس بن عمران ــ وبعضهم يُسَمِّيه: موسى بن عمران أو مويس ــ هو أنه يُجوِّز أن يقول الله لنبيِّه صلى الله عليه وسلم أو لغيره من المجتهدين: احكم بما تَرى؛ فإنك لا تحكم إلا بالصواب!
انظر: المسوَّدة (2/ 916 - 917)، المعتمد (2/ 57)، الإجماع ليعقوب الباحسين (ص 269 وما بعدها).
الذي يقصد به اليمين يمينٌ من أيمان المسلمين، وهذا مقتضى الدليل عند أبي ثور ــ كما تقدم ــ، ولم يخالفه لدليل يناقض هذا.
ومعلومٌ أَنَّ الإجماع لا ينعقد على خلاف الأدلة الشرعية، بل على وفقها= فعلم امتناع الإجماع في مثل هذا، ولهذا يوجد [في]
(1)
كل صورةٍ فيها [181/ ب] إجماعٌ معلومٌ يكون فيها دليلٌ شرعيٌ يثبت به الحكم.
ثم القول بوقوع الطلاق المحلوف به ليس منقولًا نقلًا صريحًا عن أحدٍ من الصحابة، بل ولا ظاهرًا، ولم يُنقل عن التابعين لفظٌ عامٌّ أَنَّ كل مَنْ حلف بالطلاق يلزمه، بل عامة النقول فتاوى في أمورٍ جزئية: منها ما يظهر أنه يمين، ومنها ما يظهر أنه إيقاع، ومنها ما يحتمل الأمرين، والذي يظهر أنه يمين يَكرَهُ فيها الحالف لزوم ما عَلَّقَه قليلٌ بالنسبةِ إلى غيره، إنما ثبت ذلك عن نحو عشرةِ أنفس؛ فهل يجوز أَنْ يقال: قول عشرة أو خمسة عشر أو عشرين من التابعين هو إجماع معصوم يجب على الأمة اتباعه مع أن عن بعضهم نزاعًا؟ وأنه يجب ترك دلالة الكتاب والسنة والقياس الجلي لمثل هذا الذي يُدَّعَى أنه إجماع؟
والأئمة يخالفون بموجب الكتاب والسنة عندهم ما نَقَلَ فيه غيرُ واحدٍ الإجماعَ كمخالفةِ
(2)
الشافعي بإيجاب القراءة على المأموم في حال الجهر، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:«لا صلاة إلا بأم القرآن»
(3)
لما نَقَلَ أحمد بن حنبل
(1)
إضافة يقتضيها السياق.
(2)
في الأصل: (لمخالفة)، والصواب ما أثبتُّ.
(3)
أخرجه بهذا اللفظ: البزار في مسنده (7/ 146) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه وقال: وهذا الحديث قد رواه الزهري ــ أيضًا ــ بنحو هذا الكلام عن محمود عن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومحمود بن الربيع قد أدرك النبي عليه السلام.
وبنحوه أخرجه البخاري (756)، ومسلم (394).
وغيره من الإجماع على أن المأموم لا يجب عليه القراءة في هذه الحال
(1)
، ومخالفة أبي حنيفة بإيجاب قيمة الصيد نفسه
(2)
، واعتقاده أَنَّ هذا موجب القرآن ما استفاض عن الصحابة والتابعين من إيجاب المثل؛ كما أوجبوا في النعامة بدنة، وفي البقرة الوحشية بقرة
(3)
، ونظائر ذلك.
الرابع: قوله: (ومصادمة نقل الإجماع لا يكون بالاستدلال والقياس، وإنما يكون بالنقل الصريح) عنه جوابان:
أحدهما: أَنَّ هذه الدعوى ممنوعة؛ بل نقل حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو أبلغُ مِنْ نقلِ الإجماع مما قد يستدل على بطلانه بالأدلة الدالة على ذلك؛ فكيف لا يجوز أن يستدل على خطأ ناقل الإجماع بالأدلة الدالة على خطئه في نقله؟!
ومعلوم أَنَّ نقلَ الحديث المعين المسموع من الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم من الصاحب، ثم من التابع أصحُّ من نقل الإجماع؛ فإنَّ هذا نقلٌ لما علمه بالسماع، وهو نقلٌ متصلٌ لا منقطعٌ، وأما ناقل [182/ أ] الإجماع فهو ينقل عن خَلْقٍ كثيرٍ لا يمكنه الإحاطة بأقوالهم، وإذا أمكنه ذلك فهو لم ينقل ألفاظهم، وإنما نَقَلَ ما يظنه اعتقادهم، فقد يغلط في فهم مرادهم، وإذا قُدِّرَ
(1)
مجموع الفتاوى (23/ 269، 290)، الفتاوى الكبرى (2/ 288).
وانظر: الحاوي (2/ 331).
(2)
انظر: المبسوط (4/ 82)، بدائع الصنائع (2/ 198).
(3)
انظر ما ورد عنهم في: مصنف عبد الرزاق (4/ 398 - 400)، والمصنف لابن أبي شيبة (8/ 450 - 451).
أنه لم يغلط؛ فهو لم ينقل عنهم، ولا معه نقل مسند عن كُلِّ واحدٍ واحدٍ، بل غايته أنه نَقْلٌ مرسل.
وأيضًا؛ فإنه نَقْلٌ اجتهادي يُعرف بالاستقراء والتتبع مثل: ما يستقرئه النحوي من قوانين كلام العرب، فينفي أَنَّ في كلامهم عطف على الضمير
(1)
المجرور بدون إعادة حرف الجار، وقد يكون في كلامهم ما لم يبلغه كقولهم: ما فيها غيره وفرسه
(2)
.
وكذلك نقل المحدث لمن روى الحديث من الصحابة، فقد يقول: لم يروه إلا فلان وفلان، ويكون قد رواه غيرهم، وهو لم يبلغه.
ونقل الخلاف في مذاهب الأئمة، كقول القائل: لا يختلف مذهبه في كذا وكذا، وقد يكون فيه خلاف لم يبلغه.
ونقل مذاهب المتكلمين والنحاة والأطباء، فكثيرًا ما يقول القائل: اتفق المتكلمون أو النحاة أو الأطباء على كذا، ويكون فيه نزاع لم يبلغه.
وإذا كان كذلك؛ فخطأُ الناقل لها هو أبلغ من نقل الإجماع [الذي]
(3)
يُعلم بالاستدلال، فكيف لا يعلم خطؤه في نقل الإجماع بالاستدلال؟ لا سيما وعمدته في نقله ظَنُّهُ عدمَ النزاع، بل نفس العلم بالإجماع مما ينظر بالاستدلال: هل يمكن أم لا يمكن؟
فإذا كان الكلام في جنس الإجماع، وإمكانه، وإمكان العلم به
(1)
في الأصل (الظمير).
(2)
الإنصاف في مسائل الخلاف (ص 371)، أوضح المسالك (3/ 348).
(3)
إضافة يقتضيها السياق.
بالاستدلال، فَلِمَ لا يجوز الكلام في إجماع معين وإمكانه وإمكان العلم به، ووقوع ذلك بالاستدلال؟
والناس قد تكلموا في إجماع الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ على جواز
(1)
القياس: هل فيه إجماع أم لا؟ وكلٌّ من الطائفتين تكلمت في ذلك بالاستدلال؛ فطائفة أثبتت إجماعهم عليه بالاستدلال، وطائفة نازعت في ذلك
(2)
.
ولما ادعى قومٌ الإجماع السكوتي، فقال: إِنَّ بعضهم إذا قال قولًا فانتشر في الناس ولم ينكروه صار إجماعًا، نازعهم آخرون في دعوى هذا الإجماع بالاستدلال، وقالوا: لا ينسب إلى ساكت قول، وقالوا: قد يكون سكوتهم لكذا وكذا
(3)
.
وما زال الناس يَدَّعِي أحدهم [182/ ب] إجماعًا، ويقيم الآخر الدليل على بطلانه؛ فإنَّ الناس تنازعوا في إجماعات متعددة هل هي إجماعات يجب اتباعها؛ كإجماع التابعين على أحد قولي الصحابة، وكإجماعهم إذا لم ينقرض العصر حتى تنازعوا، وكإجماع التابعين دون الصحابة، وكإجماع الجمهور، وكإجماع العلماء دون العامة، أو دون العالم بالأصول والحديث، وكالإجماع المنقول بخبر الواحد ونحو ذلك.
فإذا قُدِّرَ أَنَّ ناقلًا نقل إجماعًا ومستنده اعتقادُهُ بعضَ هذه الإجماعات أنها
(1)
كتب الناسخ فوقها (كذا)، وفي الهامش: أظنه (خلاف).
(2)
أصول السرخسي (2/ 118)، القواطع في أصول الفقه (3/ 871)، كشف الأسرار (3/ 432).
(3)
انظر: قاعدة (لا ينسب لساكت قول) وتطبيقاتها الفقهية، للدكتور أحمد بن محمد السراح.
حجة، فلم لا يجوز لمن ينازعه في اعتقاده أَنْ يستدل على بطلان هذا الإجماع؟
وأيضًا؛ فالاستدلال تارة يكون على عدم علم الناقل للإجماع، وتارة يكون على ثبوت النزاع؛ وكلاهما يقدح في العلم بثبوت الإجماع.
فإذا كان الناقل ليس عالمًا بما ينقله، فَمَنْ تَلَقَّى ذلك عن نَقْلِهِ أولى ألا يكون عالمًا به، وإذا قام دليل على امتناع الإجماع المعين أو عدمه أو وجود النزاع = دَلَّ ذلك على بطلان نقله.
فإذا عرف أَنَّ الناقل للإجماع مراده ظَنُّ نفي النزاع وعدم العلم به لا الجزم بنفيه، وقد عُرِفَ أَنَّ كُلَّ من نقل إجماعًا في المسألة فقد نقل الإجماع في مسائل كثيرة وفيها نزاع ثابت = كان كثرة ما يقع من الخطأ في نقل ذلك مما يوجب ريبة قوية في نقله؛ كما إذا كثر خطأ المحدث، فإنه يبقى في نقله نوع ريبة، ولهذا لم يكن من عادة الصحابة والتابعين نقل الإجماعات.
قال الشافعي رضي الله عنه [
…
]
(1)
.
الجواب
(2)
الثاني: أنه إذا سُلِّمَ أنه لا يُصادَمُ نَقْلُ الإجماعِ إلا بنقلٍ صريحٍ للنزاع؛ فالنقل الصريح للنزاع معلومٌ من طرق متعددة ــ كما قد بُيِّنَ ــ تارةً بمن صَرَّحَ بنقل النزاع في الطلاق هل يقع أم لا يقع؟ وتارة بمن صَرَّحَ بنقل النزاع هل يكفر أم لا يكفر؟ وتارة بمن علم قولُهُ إنَّ الطلاق المعلق بالصفات لا يقع، وتارة بمن علم قوله أنه يفرق بين التعليق القسمي والتعليق
(1)
بياض مقدار كلمة.
(2)
في الأصل: (الوجه)، والصواب ما أثبتُّ، فهذا هو الجواب الثاني عمَّا ذكره في أول هذا الوجه.
الإيقاعي وأنه لا يوقع المحلوف به ولا يوجب فيه كفارة، وتارة بمن علم من قوله أنه لا يوقعه ويأمر فيه [183/ أ] بالكفارة، وتارة بمن عرف قوله أنه لا يوقعه ولم يُدْرَ أيوجب الكفارة أم لا؟ وبواحدٍ من هذه النقول تَبْطُلُ حُجَّةُ من احتج بظنِّ ظانٍّ لعدم النزاع؛ فكيف إذا اجتمعت هذه كلها؟! وهذه النقول كلها موجودة في كتب أهل السنة.
وأيضًا؛ فالنزاع في الطلاق المحلوف به والطلاق المعلق مشهور في كتب الشيعة، وهم ينقلونه عن أئمة أهل البيت، كأبي جعفر الباقر وابنه أبي عبد الله جعفر بن محمد وغيرهما، فإنْ كانوا صادقين في هذا النقل عنهم = فلا يستريب مسلم في الاعتدادِ بنزاع هؤلاء، وأنه لا ينعقد إجماع التابعين مع مخالفة أبي جعفر الباقر وأمثاله، ولا إجماع تابعي التابعين مع مخالفة جعفر بن محمد وأمثاله، وفي ذلك نقول كثيرة متعددة بأسانيد مختلفة يمتنع
(1)
أن تكون كلها كذبًا، لكن يقع فيها غلط أو كذب متعمد في بعضها، فإنَّ هذا يقع كثيرًا.
وبتقدير أَنْ يكون كل ما نقل عن أهل البيت كذبًا، فهؤلاء عدد كثير ــ ولهم نظر واستدلال ــ يقولون: إنَّ الطلاق المعلق بالصفة لا يقع، والطلاق المحلوف به لا يقع، وليس ذلك مما انفردوا به عن أهل السنة، بل قد وافقهم طائفة من أهل السنة.
وقد تنازع الناس في أهل الأهواء والبدع هل يعتد بخلافهم؟ على قولين مشهورين في مذهب أحمد ومذهب أبي حنيفة وغيرهما، وهذا قول عامة أصحاب الشافعي، وهو اختيار أبي الخطاب وغيره من أصحاب أحمد،
(1)
في الأصل: (يمنع).
وأكثر الناس يقولون: إنه يعتد بخلافهم إذا كانوا من أهل الملَّة، فإنهم داخلون في مسمى الأمة والمؤمنين
(1)
.
واختلفوا ــ أيضًا ــ في الاعتداد بأقوال أهل الفسق الذين يَعرفون فِسْقَ أنفسهم، لكن أكثرهم لا يَعتد بأقوال هؤلاء كما لا تُقبل شهادتهم باتفاق العلماء ولا فتياهم
(2)
.
وأما المتأولون من أهل الأهواء؛ فأبو حنيفة والشافعي وغيرهما يقبلون شهادتهم مطلقًا، وأما مالك وأحمد وغيرهما فيردُّونَ شهادتهم [183/ ب].
لكنْ تحقيق مذهب أحمد وغيره من فقهاء الحديث أنهم يُفرِّقون بين الداعية وغير الداعية في الشهادة والحديث والهَجْر
(3)
؛ فَمَنْ كانَ داعيةً إلى البدعةِ هجروه فلم يحدثوا عنه ولم يستشهدوا به بخلاف غير الداعية، ولهذا لم يُخَرِّج أصحاب الصحيح والسنن عن الدعاة إلى البدع، وخَرَّجُوا عن عدد من الخوارج والشيعة والقدرية والمرجئة، والداعية هجروه لكونه أظهر المنكر فاستحق العقوبة وأدناها الهجر.
وأما مناظرتهم في الشريعة؛ فما زال السلف والخلف يتكلمون معهم، ولا يقولون لهم: أنتم خالفتم الإجماع فلا قول لكم، وكان ابن عباس
(1)
منهاج السنة (2/ 301 - 302، 369 - 370، 476 - 479)(3/ 409)(5/ 166، 172 - 178)(6/ 380 - 381، 431 وما بعدها)، نقد مراتب الإجماع (ص 298).
(2)
العدة في أصول الفقه (4/ 1139)، والتحبير شرح التحرير (4/ 1560).
(3)
في الأصل: (والهجرة)، ولعل ما أثبتُّ أقرب.
- رضي الله عنهما يخاطب نَجْدَةَ الحروري
(1)
ونافع بن الأزرق
(2)
وغيرهما.
وإذا نازعوا الناس في مسألة من مسائل الشرع لم يقولوا لهم: قد انعقد الإجماع على خلافكم في هذه المسألة، بل يحتجون عليهم بالكتاب والسنة، وذلك أنهم وإِنْ كانوا ضالين فيما خالفوا فيه أهل السنة والجماعة فلا يلزم ضلالهم في كل شيء، لا سيما إذا كان قد وافقهم بعض أهل السنة والجماعة في تلك المسائل، ولا يجوز أن يكون الله أقام عليهم الحجة بقول منازعيهم الذين لم يَقُمْ دليل شرعي على عصمتهم، فإنَّ أدلةَ الإجماع إنما دلت على عصمة المؤمنين بلفظ المؤمنين ولفظ الأمة؛ كقوله تعالى:{وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115]، وقوله صلى الله عليه وسلم:«لا تجتمع أمتي على ضلالة»
(3)
.
(1)
أخرجها أبو داود (2728)، والترمذي (1556)، والنسائي (4133).
وقال الترمذي: وهذا حديثٌ حسنٌ صحيح. وصححه ابن حبان (11/ 155). وانظر: نصب الراية (3/ 420).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (2/ 360)، والطبري في تفسيره (7/ 43)(8/ 406)(15/ 590، 598)، وعلَّق البخاري طرفًا منها في كتاب التفسير (تفسير سورة السجدة) وغيرهم.
وقد جمع مسائل نافع الأزرق لابن عباس السيوطي في الإتقان (3/ 848 مهم)، وقد سأله مائة وثمان وثمانين مسألة. وقد حقق الدكتور محمد أحمد الدالي هذه المسائل على عدة نسخ خطية، طبعتها دار الجفان والجابي، الطبعة الأولى عام 1413.
(3)
أخرجه ابن ماجه (3950) وغيره من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
قال البوصيري في مصباح الزجاجة (3/ 228): هذا إسنادٌ ضعيف، لضعف أبي خلف الأعمى
…
وقد رُوِيَ هذا الحديث من حديث أبي ذر، وأبي مالك الأشعري، وابن عمر، وأبي نضرة، وقدامة بن عبد الله الكلابي وفي كلِّها نظر؛ قاله شيخنا العراقي رحمه الله.
وانظر: تذكرة المحتاج (ص 51)، والمقاصد الحسنة (ص 460)، وكشف الخفاء (2/ 470).
فإذا كان اسم المؤمنين وأمة محمد صلى الله عليه وسلم يتناولهم، ولهم نظرٌ واستدلالٌ، ولهم دين يُوجب قصدهم الحق = لم يبقَ وَجْهٌ لمنع الاعتداد بهم.
فإنَّ المانع من الاعتداد بهم: إما عدم العلم، وإما سوء القصد؛ فَمَنْ لم يكن عارفًا بأدلة الشرع فهو عاصٍ بخلافهم
(1)
، يجب عليه اتباع العلماء.
والعامة قد تُنُوزِعَ في الاعتداد بخلافهم؛ والأكثرون لا يعتدون بخلافهم
(2)
.
وحقيقة الأمر: أَنَّ العامة مقلدة للعلماء، فيمتنع أن يجتمع العلماء على شيء ينازعهم فيه العامة، وإذا قُدِّرَ عاميٌّ يتكلم بلا حجة فهذا جاهل لا قول له، وإنْ تكلَّمَ بحجةٍ فهو من أهل الاجتهاد [184/ أ] في تلك المسألة، وإِنْ لم يكن من أهل الاجتهاد في غيرها، فإنَّ الاجتهاد مما يقبل التبعيض والتجزؤ؛ فأكثر العلماء يخفى عليهم بعض الشرع، فلو لم يكن المجتهد إلا مَنْ يَعرف جميعَ الأحكام أو يمكنه معرفة جميع الأحكام = لم يكن في الأمة مجتهد، اللهم إلا أن يكون مثل أبي بكر الصديق رضي الله عنه الذي لم يُعرف أنه أخطأ في مسألة من مسائل الشرع فاجتهد اجتهادًا يخالف نصًّا، بخلاف غيره فإنَّ
(1)
يظهر في الأصل أثر شطب وضعه الناسخ على اللام والألف والفاء.
(2)
الفصول في علم الأصول (3/ 285)، البحر المحيط في أصول الفقه (4/ 461 وما بعدها).
لهم اجتهادات توجد مخالفةً لبعض النصوص، ومسائل توقفوا فيها وعجزوا عن معرفة حكمها
(1)
.
* * * *
(1)
جامع المسائل (4/ 56 - 57)، منهاج السنة (8/ 299)، الاستقامة (2/ 93)، بغية المرتاد (ص 500)، جواب الاعتراضات المصرية (ص 76، 78).
فصلٌ
قال المعترض:
(ودعواه أَنَّ الصحابة أفتوا في العتق دعوى عريضة، فإنَّ الصحابة جَمْعٌ مُعَرَّفٌ بالألف واللام يقتضي العموم، ولم يثبت له إلى الآن عن ثلاثة من المتأخرين منهم صريحًا؛ فكيف يسوغ هذا الإطلاق؟)
(1)
.
والجواب: أَنَّ مثل هذا السؤال لا يَستحق جوابًا، إذ غايته منازعة لفظية، ولو فُتِحَ هذا الباب على المعترض لكثرت الأسئلة المتوجهة عليه، ولكن هو يفتحه على المجيب مع أَنَّ ما يَقولُهُ معلومُ الخطأ، فإنه إنما تكون الدعوى عريضة إذا كان المجيب قد ادعى أَنَّ كُلَّ واحدٍ من الصحابة قال ذلك، والمعترض يَعلم ــ وكُلُّ من تدبر كلام المجيب ــ أنه لم يُرِدْ هذا، وإنما أراد جنس الصحابة، والمقصود هم الصحابة المذكورون في حديث ليلى بنت العجماء، وما نقل عن بعض الصحابة مما يوافق ذلك في قضايا أُخَر.
وحديث ليلى فيه: ابن عمر وحفصة وزينب، وقد روي فيه: عائشة وابن عباس وأبو هريرة، وروي: أم سلمة، وفي غيره عن ابن عباس وعائشة ما يوافق ذلك.
وحينئذٍ؛ فلامُ التعريف إما أنْ تنصرف إلى الصحابة وهم هؤلاء؛ ومعلومٌ أَنَّ أداة التعريف تفيد تعريف الاسم المذكور، فإنْ كان هناك عهد معروف انصرفت إليه، وإنْ لم يكن عهدٌ انصرفت إلى الجنس، لأنه هو العهد المعروف عند الصحابة.
(1)
«التحقيق» (44/ ب).
وإما أَنْ تكون لتعريف الجنس؛ كما إذا قال: إنَّ الصحابة بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، وفتحوا خيبر ومكة = لم يُرِد [184/ ب] أحدٌ بذلك جميع الصحابة؛ بل المراد: أن جنس الصحابة فعلوا ذلك، كما قال تعالى:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173] والمراد: أن جنس الناس قال لهم؛ أي: جِنْسُ الناسِ جَمَعَ لكم. {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] ولم يقله كل فرد فرد، وإنما قاله جنسهم، ومثل هذا كثير
(1)
.
وإذا كان سياق الكلام يدل على إرادة الجنس لم يكن للعموم ولم يمنع من الإطلاق، كما في القرآن من هذا كثير، كما ذكروا؛ كقوله تعالى:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن: 7] وليس كل الكفار أنكر البعث، بل أكثر أهل الكتاب يُقرون به، ولكن جنس الكفار ينكرونه.
وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ: 7] ومعلومٌ أنه ليس كل واحد واحد من الكفار قال ذلك.
وقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم: 73] ومعلومٌ أنه لم يقل ذلك كل كافر لكل مؤمن.
(1)
مجموع الفتاوى (15/ 47)، الفتاوى الكبرى (5/ 73)، الجواب الصحيح (3/ 111)(4/ 475)، درء تعارض العقل والنقل (7/ 88)، منهاج السنة (1/ 37).
وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [التوبة: 30] ومعلومٌ أنه لم يقل ذلك كل يهودي.
وقال تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [الأنعام: 66] ومعلومٌ أنه لم يكذب به كل فرد من أفراد قومه، والإنسان يقول لامرأته: أنت تكلمين الرجال وإنما كَلَّمَت بعضهم، وأنت تُضَيِّعين مالي وإنما أضاعت بعضه، ويقول الحالف: فلان يأكل الخبز واللحم والفاكهة ويشرب الماء الزلال؛ ومقصوده الجنس
(1)
.
ونحن الجمهور وإِنْ كُنَّا نقول بصيغ العموم، وأَنَّ العموم له صيغة موضوعة له في اللغة تدل عند تجردها عن القرائن على استغراق الجنس واستيعاب الطبقة= فلا نُنْكِرُ أن الصيغة مع بعض القرائن قد لا تفيد العموم، كما في الأمثلة المذكورة
(2)
.
ومعلومٌ أَنَّ كلام المجيب من أوله إلى آخره فيه من القرائن الدالة على أنه لم يرد العموم، وإنما أراد جنس الصحابة ما يحسن معه هذا اللفظ، ومِنْ عَنَتِ المعترض الذي يضيع الزمان بمثل هذا الهذيان.
* * * *
(1)
انظر: اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية وتقريراته في النحو والصرف (ص 132 - 136).
(2)
انظر ما تقدم في (ص 404 - 405).
فصلٌ
قال المعترض:
(ودعواه أولوية الطلاق على [185/ أ] العتق إثبات للنقل بالقياس ولا يتم، على أنه قد يمكن منازعته في ذلك بما قدمه عن ابن عباس وألزم
(1)
به أنه لا عتق إلا ما ابتغي به وجه الله = فجاز أن يكون مَدْرَكُ من أفتى بعدم وقوع العتق كونه لم يقصد التقرب، وأما الطلاق فإنه لا يشترط فيه ذلك، فلا يلزم من فتواهم بعدم وقوع العتق أَنْ يفتوا بعدم وقوع الطلاق؛ وهذا إلزام على مقتضى اعتقاده وبحثه)
(2)
.
والجواب من وجوه:
أحدها: أَنَّ دعوى أولوية الطلاق على العتق، يذكر تارة لإثبات حكم الشارع
(3)
، وتارة لإثبات مذهب المجتهد، والأول استدلال بالقياس بل بقياس الأولى، وهذا متفق عليه بين الجماهير القائلين بالقياس لا ينازع فيه إلا نفاته، والمعترض وأمثاله من مثبتة القياس لا من نفاته.
ثم يقال: إما أَنْ يكون المعترض بذلك من مثبتة القياس، وإما أن يكون من نفاته؛ فإنْ كان من نفاته سُلِكَ معهم طريقة أصحاب الظاهر، وطولبوا بالأدلة من جهة الظاهر على وقوع الطلاق المحلوف به، بل والمعلَّق، مع فَرْقِهِم بين بعض التعليقات وبعضٍ من غير ظاهر، بل ولا قياس يدل على
(1)
في «التحقيق» : والتزم.
(2)
«التحقيق» (44/ ب - 45/ أ).
(3)
في الأصل: الشاع.
ذلك؛ وحينئذٍ فليس معهم نصٌّ عام يتناول تعليق الطلاق على وجه اليمين، بل ولا معهم ظواهر تحكم في التعليقات بما حكموا به مِنْ جَمْعٍ وَفَرْقٍ.
بل ليس في الكتاب والسنة لليمين إلا حكمين: إما أَنْ تكون اليمين مكفرة، وإما أَنْ تكون غير منعقدة، وليس في الكتاب والسنة بل ولا في القياس يمينٌ منعقدة لازمة غير مكفرة، وإذا لم يكن في دين المسلمين يمين إلا يمين مكفرة أو يمين غيرُ منعقدةٍ ولا لازمة = كانت الأيمان بالعتاق والطلاق: إما يمينًا مكفرة وإما غير منعقدة، ومن ادعى أنها طلاق معلق وإِنْ قَصَدَ بها اليمين وأنها ليست أيمانًا؛ فهذا باطل، كما قد قُرِّرَ في موضعه.
ولو سُلِّمَ ذلك: احتاجوا إلى دليلٍ شرعيٍ يُفَرِّقُ بين ما يجوز تعليقه وما لا يجوز تعليقه، وأنَّ [185/ ب] الطلاق مما يجوز تعليقه = وهذا لا سبيل إليه؛ فهم محتاجون إلى مقامين:
أحدهما: أَنَّ الحالف بالطلاق مُطَلِّقٌ وليس بحالف، بل هو طلاق معلق بصفة.
الثاني: أَنْ يُبَيِّنُوا الفرق بين ما جعلوه يَقبل التعليق، وما جعلوه لا يقبل التعليق؛ ليمكنهم بعد ذلك بيانُ أَنَّ الطلاق المعلق بالصفة من أحد النوعين، وإلا فجعلهم الطلاق المعلق بصفة طلاقًا، والإبراء والهبة والبيع والنكاح والضمان والكفالة والولاية والوكالة والشركة وغير ذلك مما نازع فيه بعضهم من هذه الأنواع ليست كذلك = فلا بُدَّ له من دليل شرعي.
وإذا قالوا: مقصودنا إثباتُ الطلاق دون غيره.
قيل: النزاع مع طائفتين: مع من يقول: الطلاق المعلق بالصفة لا يقع بحال، ومع من يُفَرِّقُ بين من يقصد اليمين ومن يقصد الإيقاع، ولهذا نَصَبَ المعترض النزاع مع الطائفتين؛ فإنْ لم يُقِم الحجة على الطائفتين = لم تثبت له حجة، ولم يتم ذلك إلا بالجواب عن معارضة الطائفتين، والجواب عن المعارضة إنما يتم بالفرق بين ما جعلوه يقبل التعليق وما جعلوه لا يقبل التعليق، وإلا فالقائل بأنَّ الطلاق لا يقبل التعليق قاسه على ما سلموه له من النكاح والإبراء وغيرهما.
وإن كان المناظر من مثبتة القياس استدل عليه بالقياس مع الظواهر.
ومعلومٌ ــ حينئذٍ ــ أَنَّ العتق المحلوف به إذا لم يكن لازمًا فالطلاق أولى، وذلك لأنَّ العتق يلزم بالنذر كما تلزم سائر القرب بالنذر، بخلاف الطلاق الذي ليس بطاعة، فإنه لا يلزم بالنذر.
والعتق يجوز تعليقه بلا نزاع ذكره أحد، وكذلك النذر يجوز تعليقه بالنص والإجماع، والطلاق في تعليقه نزاع.
والعتق طاعةٌ وقربةٌ بخلاف الطلاق.
ثم إذا كان قَصْدُ اليمين يمنع لزوم العتق فَلَأَن يمنع لزوم الطلاق بطريق الأولى، وهذا قياس بَيِّنٌ أنه من أبين قياس الأولى، فإنه ما من وصفٍ يقتضي وقوع الطلاق المعلق إلا وهو يقتضي وقوع العتق المعلَّق بطريق [186/ أ] الأولى، فإذا كان العتق المعلق على وجه اليمين لا يلزم فالطلاق أولى، وما يذكر وصفٌ يمنع وقوع العتق إلا ذُكِرَ من جنسه ما هو أبلغ في منع وقوع الطلاق.
والعبرة في ذلك الفرق الذي ذكره، وهو
(1)
: كونُ العتق لم يُقصد به التقرب، والطلاق لا يشترط فيه ذلك.
فيقال: إِنْ كانَ قَصْدُ التقربِ شرطًا في وقوع العتق؛ فقصد إيقاع الطلاق يُشْرَطُ في وقوع الطلاق بطريق الأولى، ولا يُعرف أحد من المسلمين يقول: إنَّ العتق لا يقع إلا مع قصد التقرب والطلاق يقع بدون قصد الإيقاع، بل الطلاق يشترط فيه قصد إيقاعه
(2)
مطلقًا في أحد القولين للعلماء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، حكاهما أبو بكر عبد العزيز وغيره، ومذهب طائفة من العلماء.
فإذا تكلم بصريح الطلاق قاصدًا للفظ لم يقع الطلاق حتى يقصد وقوعه، وهؤلاء يقولون: لا يقع طلاق الهازل، ويضعفون الحديث المروي في ذلك
(3)
،
(1)
كذا في الأصل، ولعل الصواب: هو.
(2)
كتبها في الهامش، وكتب فوقها (صح)، والمثبت في أصل الكلام: الإيقاع.
(3)
وهو حديث: «ثلاثٌ جدهنَّ جِد، وهزلهنَّ جِد: النكاح، والطلاق، والرجعة» .
أخرجه أبو داود (2194)، والترمذي (1184)، وابن ماجه (2039) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقال الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ غريب، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم. وصححه ابن الجارود (رقم 712)، والحاكم في المستدرك (2/ 216) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، وعبد الرحمن بن حبيب هذا هو ابن أردك من ثقات المدنيين ولم يخرجاه.
وتعقبه الذهبي بقوله: فيه لين؛ يعني: عبد الرحمن بن حبيب بن أردك. وقال عنه النسائي: منكر الحديث. كما أعلَّه ابن القطان في بيان الوهم والإيهام (3/ 509) بابن أردك. وقال ابن العربي: ولا يصح منه شيء.
وانظر: الفتاوى الكبرى (6/ 63)، إعلام الموقِّعين (4/ 429)، زاد المعاد (5/ 201). وما تقدم في (ص 370).
وهذا اختيار ابن حزم وغيره
(1)
.
وأما العتق فلم نعلم أحدًا اشترط في وقوعه قصد التقرب إلا قولٌ شاذ يحكى عن بعض الناس، كما ذُكِرَ ذلك عن بعض الشيعة، وهؤلاء عندهم لفظ يُنقل عن بعض فقهاء أهل البيت
(2)
، كما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: العتق ما ابتغي به وجه الله، والطلاق ما كان عن وطر
(3)
.
وهؤلاء إذا قيل إنهم جعلوا قصد التقرب شرطًا في وقوع العتق، فهم ــ أيضًا ــ قد يجعلون وجود الوطر في الطلاق شرطًا في وقوعه، والذين نقل عنهم هذا القول من علماء أهل البيت نُقِلَ عنهم معه أَنَّ الطلاقَ المعلَّق
(1)
قال ابن حزم في المحلِّى (ص 1189): (واحتجُّوا بالآثار الواردة «ثلاثٌ جدهنَّ جد، وهزلهنَّ جد». قال أبو محمد: وهي آثار واهية كلها، لا يصحُّ منها شيء، ثم لو صحَّت لم يكن لهم فيها حُجَّة أصلًا، لأنَّ المُكرهَ ليس مُجِدًّا في طلاقه ولا هازلًا، فخرج أن يكون لهم حكمٌ في ذلك).
(2)
روى الكليني في الكافي (6/ 113) عن أبي عبد الله ــ عليه السلام ــ أنه قال: (لا عتق إلا ما أريد به وجه الله ــ عز وجل ــ).
وقال ابن القيم في بدائع الفوائد (3/ 1060): فائدة: قالت الإمامية: إنَّ العتق لا يَنفذ إلا إذا قُصِدَ به القربة، لأنهم جعلوه عبادة، والعبادة لا تصح إلا بالنية.
قال ابن عقيل: ولا بأس بهذا القول لاسيما وهم يقولون: الطلاق لا يقع إلا إذا كان مصادفًا للسنة، مطابقًا للأمر، وليس بقربة؛ فكيف بالعتق الذي هو قربة؟!
وانظر ما تقدم في (ص 5، 11 - 12، 370 - 371).
(3)
تقدم في (ص 264).
بالصفة لا يقع، فلم يعرف أحد اشترط قصد التقرب في العتق وأوقع الطلاق المحلوف
(1)
به.
مع أَنَّ ابن عباس رضي الله عنهما ومَنْ وافقه إنما مراده بذلك: أَنَّ الحالف بالعتق لم يقصد إيقاعه، والمسلم إذا قَصَدَ العتق إنما يقصد التقرب به إلى الله، فنفي قصد الإيقاع لانتفاء لازمه المعتاد؛ وهذا كقول عطاء والشافعي وغيرهما في نذر اللجاج والغضب أنه لم يقصد التقرب [186/ ب] به إلى الله ــ تعالى ــ كما تقدم نقل ألفاظهم، وإلا فابن عباس وغيره أجل من أَنْ يقول: إِنَّ عتق الكافر لا يصح، وأَنَّ العبد لا يصير حرًّا إن لم يكن صاحبه أعتقه لله.
وأيضًا؛ إذا كنا في مقام الاستدلال بالأدلة الشرعية على الحكم الشرعي= فهذا الوصف باطلٌ، فإنَّ عتق الكافر ثابت بالنص والإجماع، فعلم أنه لا يشترط في لزوم العتق قصد التقرب، وأَنَّ الحالف به إنما لم يَلزمه لكونه لم يَقصده عند الصفة، بل هو كارهٌ له، وإنما عَلَّقَهُ لقصدِ الحلف به لا لقصد إيقاعه عند الصفة، والحالف لا بُدَّ أَن يكون كارهًا لوقوعه وإن وجدت الصفة، وإلا فمن أراد وقوعه عند الصفة لم يكن حالفًا ولا كفارة في مثل هذا التعليق باتفاق العلماء، سواء قيل: إنه يلزم أو لا يلزم، وكذلك الطلاق الذي يقصد إيقاعه عند الصفة لا كفارة فيه باتفاقهم، لكن فيه قولان: قيل: يلزم؛ وهو قول السلف والجمهور، وهو الصحيح. وقيل: لا يلزم.
وأما إذا كان القياس لا يناسب مذهب المجتهد؛ فيقال لهذا المعترض: لا يخلو: إما أَنْ يكون إثبات مذاهب المجتهدين بالقياس جائزًا، وإما ألا
(1)
في الأصل (المحلوب)، والصواب ما أثبتُّ.
يكون جائزًا
(1)
.
فإنْ لم يكن جائزًا؛ لم يجز لك أَنْ تنقل عن أحد من الصحابة والتابعين أَنَّ الطلاق والعتاق المحلوف به يقع، ولا أَنَّ الطلاق المعلق بالصفة أو العتق المعلق بالصفة يقع، فإنك لم تنقل عن أحد منهم لفظًا عامًّا في كل طلاقٍ مُعَلَّقٍ، ولا كل طلاقٍ محلوفٍ به، ولا في كل عتق محلوف به، وأنت تَدَّعِي إجماعهم، وأنت لم تَنقل هذا عن واحدٍ منهم، فضلًا عن أَنْ يكون إجماعًا.
وهذا مما يتبين به التناقض العظيم في مثل هذا الكلام، فإنَّ عامة ما نُقِلَ عن السلف من الصحابة والتابعين في هذا الباب ليس معه عنهم لفظ عام، وإنما معه نَقْلٌ عنهم في صورةٍ معينة، وقد أَلحق بها غيرها، ثم إنه لم يقتصر في الإلحاق على إلحاق بعض النوع ببعض، بل يَحكِي قول أحدهم في الظهار ويجعل قوله في الطلاق مثل ذلك بالقياس، ويحكي قول أحدهم في العتق ويجعل قوله [187/ أ] في الطلاق مثل ذلك، وقد تقدم من كلامه في ذلك ما يكثر تعداده، وبنى كلامه كله على نقل مذاهب الصحابة والتابعين بالقياس.
وأيضًا؛ فَكُلُّ مَنْ نَقَلَ مذهبهم في عموم الحلف أو التعليق ليس معه إلا قضايا معينة قاس عليها سائر الباب، والشافعي رضي الله عنه قد صَرَّحَ في نقله لمذهب عطاء بذلك، وكذلك غير الشافعي مثل: أحمد بن حنبل وأبي ثور ومحمد بن نصر وابن عبد البر وغيرهم= ليس معهم في إثبات قولهم في
(1)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 382 - 401)، المدخل المفصل (2/ 1075).
وانظر: (ص 382 وما بعدها).
الحلف بالطلاق والعتاق إلا لفظ خاص في قضية معينة، قاسوا عليها غيرها، وهذا بخلاف النفي، فإنَّ طاووسًا صرح بالنفي العام، فقال: ليس الحلف بالطلاق شيئًا
(1)
.
وإِنْ كان إثبات مذاهب المجتهدين بالقياس جائزًا = بطل نفيك لإثبات أقوالهم بالقياس، وقيل ــ حينئذٍ ــ: إذا كانوا يقولون: إِنَّ العتق المحلوف به لا يلزم، فهم يقولون: إِنَّ الطلاق المحلوف به لا يلزم بطريق الأولى والأحرى؛ وهذا القياس أصح من قياسك لوجوه:
أحدها: أنهم عَلَّقُوا الحكم بكون التعليق يمينًا، وأثبتوا فيه كفارة يمين؛ وهذا المعنى موجود في كل تعليق يقصد به اليمين، وأَخْذُ قولِ العالم من تعليل كلامه أولى مِنْ أخذه من قياس لا يدل كلامه عليه، بل على نقيضه.
الثاني: أنهم لو كانوا قد نفوا العتق لكونه لم يقصد التقرب ــ كما زعم المعترض ــ لم يوجبوا كفارة يمين، فإنَّ العتق الذي لا يقع لا يجب به كفارة، ومن قال من الشذوذ: إِنَّ العتق الذي لا يقصد به التقرب لا يقع = لم يقل إنَّ فيه كفارة يمين، والصحابة رضي الله عنهم الذين أفتوا بأن العتق لا يلزم أفتوا بكفارة يمين؛ فعلم أنه يمين عندهم لكونه قصد اليمين، وهذا المعنى موجود في تعليق الطلاق الذي يقصد به اليمين.
لكن قد يقال: هذا إنما يكون على قول من يقول: إنه إذا نذر الطلاق لزمه كفارة يمين إذا لم يطلق، كما يقوله أحمد وغيره
(2)
؛ وأما مَنْ يقول: إنه
(1)
تقدم تخريجه في (ص 220).
(2)
انظر: الجامع لعلوم الإمام أحمد (12/ 604 - 605).
إذا نذر الطلاق لم يكن عليه شيء [187/ ب] فهؤلاء قد يقولون: إذا عَلَّقَهُ على وجه اليمين لزمه الكفارة، كقوله: إنْ لم أفعل كذا فعليَّ أَنْ أُطَلِّق امرأتي كما ذَكَرَ ذلك مَنْ ذَكَرَهُ مِنْ أصحاب الشافعي الخراسانيين وأصحاب أبي حنيفة.
وكذلك إذا نذر الطلاق على وجه اليمين بأنْ يقول: لله عليَّ أَنْ أُطَلِّقَ امرأتي؛ ومرادُهُ: حَضَّ نفسه؛ أي: والله لأطلقنَّ امرأتي؛ فعليه كفارة يمين إذا لم يُطلِّق عند أحمد وأبي حنيفة، وكذلك ذَكَرَهُ مَنْ ذَكَرَهُ من الخراسانيين، وأحمد يوجب عليه الكفارة سواء نذره للتقرب إلى الله لاعتقاده أَنَّ طلاقَ المرأة قربة، أو أَنَّ الطلاق والترهب قربة، أو كان قصده بالنذر الحلف، وقصده حض نفسه على الطلاق.
والمقصود: أنه على كل تقدير إذا قيل: إِنَّ العتق المحلوف به لا يلزم فالطلاق أولى ألا يلزم، وأما وجوب الكفارة فلا يقال: إذا وجبت في الحلف بالعتق فهي في الحلف بالطلاق أولى، بل هذا فيه نزاع، لكن يقال قام الدليل على أَنَّ الطلاقَ المحلوف به كالعتق المحلوف به في لزوم الكفارة في ذلك.
الثالث: أنه قد نقل عن بعضهم ألفاظ تَعُمُّ الطلاقَ والعتاق؛ كقول ابن عباس: (الطلاق عن وطر، والعتق ما ابتغي به وجه الله)
(1)
.
وما يروى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كُلُّ يمينٍ ــ وإنْ عظمت ــ فكفارتها كفارة اليمين بالله)
(2)
. فهذا يتناول الحلف بالطلاق وغيره.
(1)
تقدم في (ص 264).
(2)
تقدم تخريجه في (ص 418).
فقد تبين أنه إِنْ كان القياس صحيحًا؛ فإنه يلزم من فتواهم بعدم وقوع العتق المحلوف به، وإيجاب الكفارة في ذلك، وجعل ذلك يمينًا، وجعل تعليق العتق غير لازم إذا قصد اليمين = أن يكون الطلاق المعلَّق إذا قصد به اليمين أولى ألا يكون لازمًا، وهذا لا ينازع فيه إلا معاند قوي العناد أو جاهل قوي الجهل.
وإلا فقول القائل: العتق المحلوف به لا يلزم، بل فيه كفارة يمين لأنه
(1)
يمين مكفرة، وليس هذا التعليق الذي قصد به اليمين لازمًا مع القول بأن تعليق الطلاق الذي قصد به اليمين [188/ أ] لازم = في غاية التناقض والفساد الذي يصان عنه مَنْ هو دون الصحابة؛ ومَنْ نَسَبَ ذلك إلى فقهاء الصحابة فقد أسرف في نسبتهم إلى الغباوة وقلة الفقه.
وأبو ثور ــ رحمه الله تعالى ــ لم يقل ذلك لدليل شرعي من كتاب أو سنة ولا قياس صحيح، ولا لمعنًى اختص به الطلاق عنده، ولا لكون العتق يُشترط فيه قصد التقرب ــ كما ذكره هذا المعترض ــ بل لظنِّهِ أَنَّ الطلاق محل وفاق، فجعله موضع استحسان مخالفًا للأصول والقياس.
كما يفعل مثل ذلك مَنْ يقول بجواز تخصيص المعاني والعلل العامة بمجرد دليل، والدليل المخصِّصُ عنده هو ظنه الإجماع، وهذا الظن منتفٍ في الصحابة الذين هم أولُ مَنْ تكلَّم في هذا الباب، فلم يكن قبلهم إجماع يتبعونه، ولا عندهم ظن إجماع يهابونه؛ بل لم يتكلم أحد قبلهم في الحلف بالطلاق.
(1)
في الأصل: (فإنه)، ولعل ما أثبتُّ أقرب.
وإذا انتفى عندهم الإجماع وظن الإجماع ولم يكن عندهم إلا الكتاب والسنة وما لا دلالة عليه من المعاني المؤثرة المعتبرة في القياس؛ فمن المعلوم قطعًا لمن تدبر دلالة الكتاب والسنة نصًّا واستنباطًا أنه ليس فيهما ما يُوجب كونَ الطلاق المعلق إذا قصد به اليمين أولى بالوقوع من العتق المحلوف به، بل لا يستريب عالم بل مسلم أَنَّ العتق أولى أَنْ يقع، وأَنَّ الطلاق أولى ألا يقع، فمع استوائهما في كون كل منهما معلقًا تعليقًا قصد به اليمين يمتنع على مَنْ لم يستدل إلا بالكتاب والسنة لفظًا ومعنى ولم يكن عنده تقليد يمنعه من اتباع الدليل ولا ظَنُّ إجماعٍ يظنه معارضًا لدلالة النص والقياس = يمتنع ــ والحالة هذه ــ أَنْ يقول مَنْ له أدنى معرفة بالشرع أَنْ يحكم بوقوع الطلاق دون العتق.
فمن نسب أفضل القرون وأعلمهم وأفقههم إلى ذلك مِنْ غيرِ أَنْ يكونَ في كلامهم ما يدل على ذلك لأجل ظَنِّ شخصٍ جاء بعدهم في القرن الرابع أنه لا نزاع في الطلاق = كان الله ــ تعالى ــ حسيبه فيما نقصه من قَدْرِ الصحابة في العلم والفقه، وما جناه على الكتاب والسنة وأصول الشرع من تحريفِ [188/ ب] معانيها لأجل غالطٍ غلط بعدهم، وما حَرَّفَهُ من دين المسلمين حيث ألغى المعاني التي اعتبرها الله ورسوله من معاني الأيمان، واعتبر ما أهدره الله ورسوله من كون الكلام تعليقًا.
وقولنا: (الله ــ تعالى ــ حسيبه) كلمةُ عَدْلٍ؛ فهو يعلم إِنْ كان جاهلًا أنه جاهل ويعفو عنه، وإِنْ كان قد استفرغ وسعه، وهو يعلم إِنْ كان مذنبًا أنه مذنب أمره إلى الله ــ تعالى ــ.
ولكن المقصود بيان بعض ما يستحقه الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ من
معرفة قدرهم في العلم والفقه والدين، وما يستحقه الكتاب والسنة من بيان أحكامه المعتدلة المناسبة، وبيان شرع الرسول صلى الله عليه وسلم الذي خالف من كان قبله، وإذا كان قد غلط في ذلك كثير من الناس واشتبه هذا عليهم = كان الاجتهاد في بيان ذلك من أفضل القربات، فإنَّ بيان العلم والدين عند الاشتباه والالتباس على الناس أفضل ما عبد الله ــ عز وجل ــ به و {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28].
* * * *
فصلٌ
قال المعترض:
(وأما دعواه انحصار الطلاق في المكروه والمحرم فممنوع؛ فإنَّ الطلاق قد يكون مندوبًا كما إذا رأى على زوجته فاحشةً، أو خاف منها بأنْ لم تكن عفيفة، أو إذا حصل الشقاق وتَعَذَّرَ الاتفاق.
وأما الحديث الذي يروى: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق»
(1)
فإنه حديثٌ ضعيف. ذكره ابن الجوزي في كتاب العلل المتناهية
(2)
، وهو من رواية عبيد الله
(3)
الوصافي. قال يحيى فيه: ليس بشيء. وقال الفلاس والنسائي: متروك الحديث. وقال ابن المنذر
(4)
: ليس في النهي عن الطلاق ولا المنع خبر يَثبت)
(5)
.
والجواب من وجهين:
أحدهما: أَنْ يقال: المجيب لم يذكر انحصار كُلِّ طلاق في المحرم
(1)
أخرجه أبو داود (2178)، وابن ماجه (2018)، والبيهقي في السنن الكبير (15/ 208/ ح 15004) وغيرهم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
وانظر: إرواء الغليل (7/ 106)، وعلل الحديث لابن أبي حاتم (4/ 117)، والعلل للدارقطني (13/ 225)، والبدر المنير (8/ 65).
(2)
(2/ 149) وقال: هذا حديث لا يصح.
(3)
في الأصل: (عبد الله)، والمثبت من «التحقيق» والعلل.
(4)
في الإشراف (5/ 183)
(5)
«التحقيق» (45/ أ).
[و]
(1)
المكروه، وإنما ذكر أَنَّ الأصل في الطلاق ــ وهو: الطلاق لغير حاجة ــ المنع؛ إما منع تحريم وإما منع كراهة، وهذا مذهب جمهور علماء المسلمين؛ كأحمد بن حنبل وأصحابه، وأبي حنيفة وأصحابه [189/ أ] فإنهم يكرهون الطلاق لغير حاجة؛ إما كراهة تحريم وإما كراهة تنزيه، وأصحاب أحمد يذكرون عنه في ذلك روايتين حتى في المصنفات الصغار.
وجمهور العلماء الذين ينهون عنه لغير حاجة يَبنون أَنَّ الأصل فيه: أَنْ يكون ممنوعًا منه؛ لما فيه من المفاسد المقتضية للمنع منه، لكن قد يحتاج إليه أحيانًا فيرخَّص فيه للحاجة، ولهذا قُصِرَ على ثلاث مرات، وحرمت المرأة على زوجها بعد التطليقة الثالثة حتى تنكح زوجًا غيره، ليكون ذلك زاجرًا للمطلِّقِ أَنْ يُطَلِّقَ إذا علم أنها تحرم عليه حتى تنكح زوجًا غيره، وكان هذا الشرع أكملُ وأيسرُ من شرع النصارى الذين يمنعون الطلاق بالكلية، فيلزمون كلًّا من الزوجين بالمقام مع الآخر، ويمنعون الرجل من استبدال زوجٍ مكان زوج، كما يمنعونه من التزوج بأكثر من واحدة ومن التسري.
واليهود ــ أيضًا ــ يمنعونه من التَّسَرِّي، ومن أَنْ يتزوج بها إذا طلقها فتزوجت غيره؛ فإذا تزوجت غيره لم تحل للأول بحال= فكان الشرع الذي بعث الله ــ تعالى ــ به خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم أكمل الشرائع وأحسنها وأصلحها وأيسرها
(2)
.
وأما كون الطلاق مباحًا مستوي الطرفين بمنزلة بيع المال = مما يظهر بطلانه، وقد عُلِمَ أَنَّ ما كان فيه سببٌ يوجب تحريمه فرخَّص فيه في قدر
(1)
إضافة يقتضيها السياق.
(2)
مجموع الفتاوى (32/ 90)(37/ 277).
الحاجة، وقد يُقَدَّرُ ذلك بثلاث؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته:«لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أَنْ تُحِدَّ على ميت فوق ثلاث، إلا على زوجٍ؛ فإنها تُحِدُّ عليه أربعة أشهر وعشرًا»
(1)
، وكقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته:«لا يَحِلُّ لمسلمٍ أَنْ يهجر أخاه فوق ثلاثٍ؛ يلتقيان: فَيَصُدُّ هذا وَيَصُدُّ هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام»
(2)
، وكما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه أرخص للمهاجر أَنْ يُقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا
(3)
.
ونحن لم نثبت المنع من الطلاق بمجرد ما ذُكِرَ مِنْ قولِهِ: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» [189/ ب]، بل بالأدلة الشرعية.
الوجه الثاني: أَنْ يقال: نحن لا نحتاج إلى أن نجعل الطلاق محرمًا أو مكروهًا في حال من الأحوال، بل يكفينا أَنْ نقول: ليس بواجب ولا مستحب في غالب الأحوال، بل غايته أَنْ يكون مباحًا كالبيع والإجارة، وهذا مما لا يمكن فيه النزاع بين المسلمين، بل هذا هو الإجماع المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام.
فإنه لا يقول من يؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم: أَنَّ كل متزوِّجٍ يجب عليه أو يستحب له أَنْ يُطَلِّق امرأته؛ وحينئذٍ فعامة الحالفين بالطلاق لا يكون الطلاق
(1)
أخرجه البخاري (1280)، ومسلم (1486) من حديث أم حبيبة رضي الله عنها، وجاء عن غيرها في الصحيحين أو أحدهما.
(2)
أخرجه البخاري (6077)، ومسلم (2560) من حديث أبي أيوب رضي الله عنه، وجاء عن غيره بلفظ مقارب.
(3)
تقدم تخريجه في (ص 184).
في حقهم لا واجبًا ولا مستحبًّا بخلاف الحالف بالعتق.
فإنَّ العتق من القُرَبِ والطاعات، وقد يكون واجبًا كالعتق الواجب في الكفارة؛ كفارة اليمين أو كفارة الظهار أو القتل أو الجماع في رمضان والعتق الواجب بالنذر، وإِنْ لم يكن واجبًا كان مستحبًا مؤكد الاستحباب، حتى يقدمه كثيرٌ من العلماء إذا زاحم التبرعات في مرض الموت على غيره من التبرعات، وله نفوذ وسراية في ملك الغير؛ فإذا أعتق شقصًا له من عبد وهو موسرٌ = لزمه إعتاق باقيه، إما أَنْ يَعْتِقَ بإعتاقه لنصيبه
(1)
ويبقى منه نصيب الشريك دينًا في ذمته على أحد قولي العلماء، وإما أَنْ يتأخر العتق حتى يؤدي القيمة على القول الآخر لكن يجب عليه أداؤها، وهذان هما قولا الجمهور الآخرين في مذهب الشافعي وأحمد، والثاني قول مالك، وإما أَنْ يقال يجب هذا أو هذا واستسعاء العبد في كمال عتقه كقول أبي حنيفة.
وبالجملة؛ فالعتق في الشرع: إما واجب وإما مستحب، ولكن قد يعرض أمر يمنَع أَنْ يكون مستحبًّا، كما لو كان عليه دين وهو يطالبه وله عبد فقضاء دينِهِ به أو قيمتِهِ خيرٌ له من أَنْ يعتقه، ولهذا لو أعتقه في هذه الحال كان في نفوذ عتقه قولان للعلماء، وكذلك في سائر التبرعات من المدين الذي لا فَضْلَ له يتبرع به، بل وكذلك فيمن هو محتاج إلى ما يتبرع به.
وأما الطلاق؛ فالأصل فيه: أنه ليس بواجب [190/ أ] ولا مستحب، ولكن قد يَعرض له ما يجعله مستحبًّا أو واجبًا.
(1)
في الأصل: (لشريكه)، والصواب ما أثبتُّ.
فإنه في أحد القولين في مذهب أحمد يجب عليه أَنْ يطلقها إذا كانت مُصِرَّة على ترك الصلاة أو على فعل الفاحشة، ومذهب أحمد أنه لا يجوز له أن يتزوج الزانية حتى تتوب كما دل عليه الكتاب والسُنة، وضَعَّفَ حديث: إِنَّ امرأتي لا ترد يد لامس
(1)
، ولم يُجَوِّز للرجل أَنْ يكون ديوثًا، مع أَنَّ بعض أهل الكلام كأبي علي الجُبَّائي
(2)
ذكر الإجماع على جواز ذلك! وادَّعى أن آية النور
(3)
منسوخة بمثل هذا الإجماع، سواء قيل الإجماع هو الناسخ أو هو دليل على الناسخ؛ ولبسط خطأ المُدَّعين لهذه الإجماعات المخالفة للكتاب والسُنة وآثار الصحابة موضع آخر.
والمقصود هنا: أنه إذا كان الطلاق المحلوف به غيرَ واجب ولا مستحب، والعتق المحلوف به مستحب ولو نَذَرَهُ لصار واجبًا بالنذر، والطلاق لا يجب بالنذر، ثم الصحابة رضي الله عنهم المتقدمون أفتوا في تعليق العتق ونذر الطاعات إذا قُصِدَ به اليمين: أنه لا يلزم، لكونه يمينًا مكفَّرة،
(1)
أخرجه الشافعي في مسنده (برقم 1206)، وأبو داود (1851)، والنسائي (3465) وغيرهم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال الإمام أحمد: ليس له أصل ولا يثبت. وقال النسائي: والصواب مرسل. انظر: نصب الراية (3/ 353)، البدر المنير (8/ 177)، ولابن حجر رسالة في الكلام على هذا الحديث ذهب فيه إلى صحته، ولابن المبرد (يوسف بن عبد الهادي) رسالة مخطوطة في تخريج الحديث، ولابن القيم في روضة المحبين (ص 200 وما بعدها) توجيه حسن لمعنى الحديث.
(2)
هو: محمد بن عبد الوهاب البصري، رأس المعتزلة، توفي سنة (303). انظر في ترجمته: تاريخ الإسلام (7/ 70)، وفيات الأعيان (4/ 267)، الأنساب للسمعاني (2/ 17).
(3)
وهي قوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3].
فجعلوا كونه يمينًا مانعًا من لزوم ما هو طاعة لله ورسوله، وهو محبوب إلى الله ورسوله، لأنَّ العتق والطاعات وإِنْ كانت محبوبةً لله ورسوله= فلا تلزم إلا من ألزمه الله بها، أو مَنْ ألزم نفسه بها، وهذا المعلِّق إذا قصد اليمين فلم يقصد بها إلزام نفسه بها، بل قصد اليمين = فَلَأَنْ يقولوا: إن المعلق للطلاق إذا كان قصده اليمين لا يلزمه الطلاق الذي ليس هو بمحبوبٍ لله ورسوله بطريق الأولى والأحرى، فإنَّ قصد اليمين المانع من اللزوم هناك موجود هنا، والشارع يحب ما ألزمه هناك ولا يحب ما جعله لازمًا هنا.
ومما يبيِّن هذا: أن الشارع وَسَّعَ طريق العتق، وضَيَّقَ طُرُقَ الطلاق؛ فالعتق إذا كان من أهله في محلِّه = جاز في كل وقت، والطلاق لا يجوز في حال حيض المرأة، ولا يجوز إذا وطئها بعد الطهر حتى يتبين حملها، بل المنع من الطلاق في هاتين الحالين ثابت بالنص [190/ ب] والإجماع
(1)
.
والطلاق لم يَزُلْ به الملك ابتداء، بل إذا أوقعه بعد الدخول كانَ أَحَقَّ برجعتها ما دامت في العِدَّةِ، وإذا مات أحدهما ورثه الآخر، وإنما يَزولُ ملكه إذا انقضت العدة، بخلاف الإعتاق فإنه يزيل الملك بنفسه، ولا يبقى بعده للسيد ملك على المملوك، ولا رجعة له بعد الإعتاق، كما له في المرأة رجعة بعد الطلاق.
وأيضًا؛ فإذا زال ملكه عنها جاز له أَنْ يثبت له الملك ثانيًا بعقد ثانٍ، والعبد إذا عتق وهو مُسلم لم يَعُدْ إلى الرِّقِّ، ولو كان ذميًّا لم يَعد إلى الرق إلا أَنْ يُذنب الذنبَ الذي يبيح استرقاقه، وأما الإسلام السابق فهل يمنع
(1)
انظر من نقل الإجماع في: موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي (مسائل الإجماع في أبواب النكاح)(3/ 470 وما بعدها).
استرقاق المرتد حيث لا يتحتَّم قتله؟ فيه نزاعٌ بين العلماء، وهذا لأنَّ الرق إنما سببه الكفر والمحاربة فأباح
(1)
الله ــ عز وجل ــ لعباده المؤمنين أَنْ يستعبدوا رقاب الكفار ويأخذوا أموالهم، لأنه ــ تعالى ــ خلقهم لعبادته، وخَلَقَ الأموال ليستعينوا بها على عبادته، فلما كفروا به وحاربوا أولياءه أباح لأوليائه تملك أنفسهم وأموالهم، وَجَعَلَ ذلك فيئًا يفيئه على عباده المؤمنين، لأنهم هم المستحقون له.
أفاء إليهم؛ أي: أعاد إليهم ما هم المستحقون له شرعًا.
ولهذا كان الإسلام مانعًا من الرقِّ الشرعي، فالحر المسلم لا يجوز استرقاقه بحال، وإذا ارتدَّ عن الإسلام تحتَّمَ قتلُهُ إِنْ لم يَعُدْ إلى الإسلام، فإن أسلم بعد الأسر فهل يسترق كما يسترق الكافر الأصلي؟ فيه نزاع.
فقيل: يجوز استرقاقه، كما استرق الصحابة رضي الله عنهم من استرقوه من بني حنيفة
(2)
، ومنهم الحنفية التي تَسَرَّاهَا علي بن أبي طالب رضي الله عنه
(3)
.
وقيل: لا يجوز استرقاقه، فإنه إما أَنْ يُسلم وإما أَنْ يتحتم قتله؛ بخلاف الكافر الأصلي فإنه إذا لم يسلم لم يتحتم قتله.
والمرتدة يتحتم قتلها عند الجمهور كمالك والشافعي وأحمد، كما قتل
(1)
في الأصل: (أباح)، وبما أثبتُّ يستقيم الكلام.
(2)
وذلك في وقعة اليمامة مع مسيلمة ومن اتبعه. انظر خبرها في: تاريخ الإسلام (2/ 27 وما بعدها)، البداية والنهاية (9/ 465 وما بعدها).
(3)
أخرجه الواقدي في كتاب الردة ــ كما ساق إسناده الزيلعي ــ. ورواية ابنها محمد في «الصحيحين» .
انظر: نصب الراية (3/ 450)، البدر المنير (8/ 576).
الصديق رضي الله عنه مرتدة
(1)
، وأبو حنيفة مَنَعَ قتلها كما يمنع قتل الكافرة [191/ أ] الأصلية، والجمهور يُفَرِّقُونَ بين الردة وبين الكفر الأصلي، فإنَّ الرِّدَّةَ موجبة لقتل المرتد، بخلاف الكافر الأصلي فإنه يجوز عقد الذمة له؛ ولهذا يجب في الردة قتل من ليس من أهل القتال كالشيخ الكبير والراهب وغيرهما، ولا يجوز قتل هؤلاء عند الجمهور كأبي حنيفة ومالك وأحمد.
فإنَّ الكفر الأصلي إنما يُبيح القتل مع الحراب عند الجمهور
(2)
، والشافعي يجعل نفس الكفر هو المبيح، ويقول: إنما استثنى النساء والصبيان لكونهم يصيرون بالاستيلاء مالًا للمسلمين، ففي قتلهم تَفْوِيتُ تملك ذلك على المسلمين، فيجعل المانع كون القتل يفوت تملكهم على المسلمين، وأما الأكثرون فيقولون: بل المانع كونهم ليسوا من أهل القتال، كما عَلَّلَ النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لَمَّا مَرَّ في بعض مغازيه بامرأةٍ مقتولةٍ، فقال: «ما
(1)
أخرجه ابن شاهين في الناسخ والمنسوخ (برقم 535)، البيهقي في السنن الكبير (17/ 125/ ح 16955، 16956)، ومعرفة السنن والآثار (12/ 255)، والدارقطني (4/ 119).
قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/ 387): وأسانيد هذه القصة منقطعة. وقال الزيلعي: لكن قيل: إنَّ سعيدًا هذا لم يدرك أبا بكر فيكون منقطعًا. وحسنه المباركفوري في التحفة (5/ 21).
انظر: نصب الراية (3/ 459)، البدر المنير (8/ 574)، التلخيص الحبير (4/ 137).
وذُكِرَ أنَّ اسمها: أمُّ قرفة.
(2)
انظر: فهرس مجموع الفتاوى (37/ 164 - 165)، والنبوات (1/ 570)، وقاعدة مختصرة في قتال الكفار ومهادنتهم وتحريم قتلهم لمجرد كفرهم.
كانت هذه لتقاتل»
(1)
، ونهى عن قتل النساء والصبيان
(2)
، وفي السنن أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الشيخ الكبير والعسيف
(3)
وغيرهما ممن ليس هو من أهل القتال؛ ولهذا لو قاتل النساء والصبيان قوتلوا وقتلوا باتفاق العلماء
(4)
، وبسط هذا له موضع آخر.
والمقصود هنا: أَنَّ سبب الرق هو الكفر
(5)
، والإسلام يمنع ابتداءه ولا يمنع دوامه، فإذا أسلم بعد الاسترقاق لم يَصِرْ حرًّا، فإنه إنما تاب من الكفر بعد القدرة عليه، وذلك لا يمنع بقاء أثر العقوبة عليه ــ وهو الرق ــ، بخلافِ
(1)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده (25/ 370)، وأبو داود (2669) وغيرهما من حديث رباح بن الربيع رضي الله عنه.
وقال ابن حبان في صحيحه (11/ 113): سَمِعَ هذا الخبر المرقَّع بن صيفي عن حنظلة الكاتب، وسَمِعَهُ من جدِّهِ، وجَدُّه رباح بن الربيع وهما محفوظان.
انظر: نصب الراية (3/ 387)، البدر المنير (9/ 80)، إرواء الغليل (5/ 35)، سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 314/ ح 701).
(2)
أخرجه البخاري (3014، 3015)، ومسلم (1744) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(3)
النهي عن قتل الشيوخ: أخرجه أبو داود (2612) وغيره من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
انظر: نصب الراية (3/ 386).
والنهي عن قتل العسيف: أخرجه أبو داود (2669)، والنسائي في سننه الكبرى (8571، 8572)، وابن ماجه (2842) وغيرهم من حديث رباح بن الربيع رضي الله عنه.
انظر: مجمع الزوائد (5/ 315 - 318).
(4)
موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي لسعدي أبو جيب (ص 269 - 270).
(5)
انظر ما تقدم في (ص 416).
مَنْ أسلم قبل القدرة عليه، وذلك يرفع عنه العقوبة التي لله بالكلية؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للأسير العقيلي لَمَّا قال: يا محمد، إني مسلم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«أَمَا إِنَّكَ لو قُلتها وأنت تملك أمرك، أفلحت كل الفلاح»
(1)
.
والإعتاق يعيد الإنسان إلى أصلِ حريته، وإِنْ كان المعتَق ذميًا فعتقه كالصدقة عليه، والصدقة عليهم جائزة بخلاف الطلاق والنكاح؛ فإنَّ النكاح هو سبب دوام الآدميين، فهو أمر طبيعي في بقائهم كما أَنَّ الأكل [191/ ب] والشرب أمر طبيعي في بقاء الشخص، فلا بُدَّ منه من بقاء النوع؛ ولهذا يجب عند الضرورة إذا خاف الوقوع في الزنا.
وإذا كانت له شهوة ولكن لا يخاف الوقوع في الزنا فهل هو واجب أو مستحب؟ فيه قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد.
وإن اشتغل عنه بالصوم والصلاة، فهل هو أفضل أو الصلاة والصوم؟ فيه نزاع مشهور.
وَمَنْ لم يوجبه مع أَنَّ الآدميين لا يبقون [إلا]
(2)
به، فإنه يكتفي بالباعث الطبعي.
كما اختلف العلماء في الصناعات التي لا بُدَّ للناس منها كالحراثة والبناية؛ هل يقال: إنها فرض على الكفاية أم لا؟ على قولين في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما.
(1)
أخرجه مسلم (1641) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، وقد تقدم طرفه في (ص 124 - 125).
(2)
إضافة يقتضيها السياق.
ففي الجملة؛ هو من أصول مصالح الآدميين طبعًا وشرعًا، بخلاف الرق فإنه ثابت على خلاف مقتضى الفطرة والشرعة، وإنما يُسْتَرق مَنْ خَرَجَ عن فطرة الله التي فطر الناس عليها، وعن دينه الذي شرعه.
فالطلاق إزالة [النكاح]
(1)
الذي هو من مصالح العباد في المعاش والمعاد، والإعتاق إزالة الرِّقِّ الذي إزالته من تمام مصالح العباد في المعاش والمعاد.
فالطلاق من جنس الرق الثابت على خلاف الأصل، والإعتاق من جنس النكاح الموافق لمقتضى الأصل؛ فلهذا جاءت الشريعة الكاملة بتوسيع طرق العتق والترغيب فيه، وتضييق طرق الطلاق والمنع منه، فمن عكس ذلك فقد بَدَّلَ فطرة الله التي فطر عباده عليها، وشرعة الله التي
(2)
أرسل بها رسوله صلى الله عليه وسلم لا سيما فيمن عَلَّقَ تعليقًا يقتضي لزوم العتق له، وجعل العتق لازمًا له عند وجود الشرط، كما جعل النذر لازمًا له عند وجود الشرط، لكن كان قصده اليمين وهو يكره لزوم ما عَلَّقَهُ سواء وجد الشرط أو لم يوجد= فإذا قيل لهذا: قَصْدُ اليمين مانعٌ لك من لزوم ما جعلته لازمًا لك ــ وإِنْ كان الله يحبه ويرضاه ــ، ولم يكن جعله لذلك لازمًا عند الشرط مع كون الله يحبه ويرضاه موجبًا للزومه، ثم يجعل جَعْلَ ما لا يحبه الله ويرضاه لازمًا له، لكونه جعله لازمًا له، فيجعل مجرد جعله لازمًا موجبًا للزومه مع أَنَّ الله لا يحبه ولا يرضاه، والذي [192/ أ] يحبه ويرضاه لا يجعل جعله لازمًا موجبًا للزومه= فَمَنْ قال هذا؛ هل أبقى في الخطأ غاية؟!
(1)
إضافة يقتضيها السياق.
(2)
في الأصل: (الذي)، والجادة ما أثبتُّ.
ولو قيل لشخص: اجتهد في الخطأ؛ هل كان يقول إلا ما هو من هذا الجنس؟! فأيُّ القولين أولى أَنْ يُظَنَّ بخيار الأمة وأفضل القرون أنهم قالوا؟! هذا القول المتناقض وليس معه عنهم نقل بذلك، بل كلامهم يدل على نقيض ذلك، أو أنهم قالوا قولًا معروفًا يوافق الفطرة والشرعة، ويقبله العقل، ويدل عليه الكتاب والسُنة، ويكون قولهم به مطردًا متناسبًا سالمًا من التناقض، وكلامهم يدل عليه من جهة العموم المعنوي تارة، ومن جهة العموم اللفظي تارة.
فإنهم إذا جعلوا كونه قاصدًا للحلف [
…
]
(1)
إلا
(2)
للزوم المعلق مانعًا من أَنْ يَلزمه ما يحبه الله ويرضاه من العتق والنذر، فَلَأَنْ يجعلوا هذا القصد مانعًا من أَنْ يلزمه ما لا يحبه الله ويرضاه بطريق الأولى والأحرى.
* * * *
(1)
بياض في الأصل مقدار كلمة.
(2)
وضع الناسخ فوقها حرف (ظ).
فصلٌ
قال المعترض:
(قال المجيب: وبالجملة؛ النزاعُ في هذه المسألةِ ثابتٌ بين السلف، كطاووس والحسن البصري وغيرهما.
قلتُ: أما طاووس؛ فقد تقدم الكلام عليه
(1)
، وإبداء الاحتمالات في اللفظ المنقول عنه.
وقال ابن حزم
(2)
: إنه صح عنه في الحلف بالعتاق كفارة يمين. وهذا ــ أيضًا ــ يحتمل أَنْ يراد به: بصيغة (العتق يلزمني)؛ فلا دلالة فيه، وتقدم فيه قول محمد بن نصر أنه روي عن الحسن وطاووس مثل قول أبي ثور
(3)
، فيحتمل أَنْ يريد مثل قوله في التفرقة بين الطلاق والعتق وغيرهما، فيكون ذلك نقلًا عن طاووس لوقوع الطلاق، ويحتمل أَنْ يريد مثل قول أبي ثور في العتق خاصة، ومثل هذا الاحتمال لا يحصل النقل
(4)
، فلذلك لم أنقل عن طاووس شيئًا، لأني لم أَرَ عنه بنصٍّ ظاهر خلافَ ما نقله المصنف)
(5)
.
والجواب من وجوه:
أحدها: أَنَّ هذا تخليطٌ في الكلام، فإنَّ الكلام هنا إنما هو في إثبات
(1)
«التحقيق» (25/أ).
(2)
في المحلى (ص 991).
(3)
اختلاف الفقهاء (ص 491).
(4)
كذا في الأصل و «التحقيق» .
(5)
«التحقيق» (45/ أ).
النزاع في العتق المحلوف به، وهذا الذي قال فيه المجيب:(وبالجملة فالنزاع في هذه المسألة ثابت بين السلف كطاووس والحسن). لم يذكر [192/ ب] هنا النزاع في الطلاق، والاحتمالات التي تقدم إبداء المعترض لها مع فسادها = إنما هي فيما نقل عنه في الطلاق؛ فكيف يصلح أن يذكر هذا جوابًا فيما نقل عنه في العتق؟
الوجه الثاني: أَنْ يقال: قول طاووس: التسوية بين العتق والحلف بالنذر أنه فيه كفارة يمين، كما هو قول أبي ثور= قد نقله عامة من صنف في الخلاف مثل: محمد بن نصر، ومثل محمد بن جرير، ومثل أبي بكر بن المنذر، ومثل أبي عمر بن عبد البر، ومثل أبي محمد بن حزم وغير هؤلاء، وبعض هؤلاء هو الذي نقله، وقبل هؤلاء ذكر النزاع أبو ثور وغيره من علماء المسلمين.
وأيضًا؛ فهذا النقل موجود في الكتب التي يُذْكَرُ فيها نزاع السلف من المصنفات في مذهب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم، فالطاعن في نقل ذلك عن طاووس مخالفٌ لإجماع العلماء الذين ينقلون النزاع.
والمعترض معترفٌ بأنه ليس معه نقل عن طاووس يخالف ذلك؛ فكيف يسوغ رَدُّ ما نقله جميع العلماء عن طاووس بلا شيء أصلًا؟ وإنما رَدَّ ذلك بمثل ما رَدَّ بِهِ قولَهُ في الطلاق المحلوف به من التأويلات القرمطية، التي هي من باب تحريف الكلم عن مواضعه.
الثالث: أَنْ يقال لمثل هؤلاء: عمدتكم في المسألة على نقل بعض هؤلاء للإجماع، ومعلومٌ أَنَّ نقلهم للنزاع أثبتُ وأقوى من نقلهم للإجماع
وعدم النزاع، فإنَّ نقلَ النزاع هو نقل عن عالم قالَ قولًا في مسألة يمكن معرفته؛ إما بسماعه منه وإما بإسناد ثابت عنه؛ وأما نقل الإجماع وعدم النزاع فلا يكون علمًا إلا مع العلم بعدم النزاع؛ وهذا إِنْ كان ممكنًا فهو متعسر، وإِنْ كان غير ممكن فمتعذر؛ فالأول أيسر منه، وما كان أيسر كان العلم به أيسر.
ولهذا يقبل من نقل النزاع ما يقبل من رواية العدل، فإذا روى العدل الضابط عن بعض العلماء قولًا يقبل منه كما يقبل إخبار أمثاله من العدول الضابطين، وأما نقل الإجماع وعدم النزاع فلا ينتهض به إلا الأفراد من العلماء [193/ أ] المطلعين.
ومع هذا؛ فالغلط فيه كثير جدًا، حتى إني لا أعرف أحدًا ينقل الإجماعات إلا وقد وجد فيما ينقله من الإجماعات ما فيه نزاع لم يطلع عليه
(1)
.
وأيضًا؛ فالغلط فيه كبير جدًّا بخلاف مَنْ ينقل الأقوال عن قائل معيَّن يثبت به النزاع، فإنَّ من الحفاظ مَنْ لم يُعرف له غلط كالزهري والثوري وغيرهما، ومنهم مَنْ يَندر غلطه كشعبة وزائدة وقتادة وزهير وغيرهم، وهؤلاء وأمثالهم أحفظ الأئمة للمنقولات من أقوال العلماء وغيرهم، وهم وغيرهم كابن جريج ومالك بن أنس وحماد بن زيد وحماد بن سلمة
(1)
مجموع الفتاوى (13/ 25، 26)(19/ 272)، الفتاوى الكبرى (6/ 447، 495)، جامع المسائل (3/ 342)، منهاج السنة (7/ 286)، النبوات (1/ 479)، نقد مراتب الإجماع (ص 286 وما بعدها).
وانظر ما تقدم (ص 658).
وسفيان بن عيينة وسعيد بن أبي عروبة وسليمان التيمي والأوزاعي والليث بن سعد وعمرو بن الحارث، وَمِنْ قَبْلِ هؤلاء مِنْ صغار التابعين وكبارهم كالفقهاء السبعة وكالحسن وابن سيرين ومُطَرِّفِ بن الشِّخير وكعلقمة والأسود وعَبيدة وإبراهيم التيمي وإبراهيم النخعي وأمثالهم = هم دائمًا ينقلون المنقولات المثبتة للنزاع كما ينقلون أقوال الصحابة والتابعين بعدهم مما فيه نزاع، وذلك النقل مقبول منهم، كما يقبل منهم ما ينقلونه من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وعامة هؤلاء لا ينقلون إجماعًا، اللهم إلا أَنْ ينقلَ أَحدُهم إجماعَ الصحابة رضي الله عنهم؛ كما روي عن عَبيدة السلماني أنه قال: لم يجمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على شيء كإجماعهم على أَنَّ الأخت لا تنكح في عدة أختها، وأَنَّ الخامسة لا تنكح في عدة الرابعة
(2)
، وهذا أراد به العدة الرجعية، فالناس يسلمون الإجماع فيه، وأما الطلاق البائن فلا يُسَلِّمُون الإجماع فيه، بل ومالك والشافعي وغيرهما يقولون: إنها تباح في العدة من الطلاق البائن.
(1)
مجموع الفتاوى (13/ 350)(21/ 494)، الفتاوى الكبرى (1/ 247).
(2)
ذكره المجيب ــ أيضًا ــ في مجموع الفتاوى (32/ 72)، والفتاوى الكبرى (4/ 153)، وقد نسب حكاية الإجماع إلى عَبيدة السلماني رحمه الله جماعة من العلماء منهم: السرخسي في المبسوط (4/ 202)، والزيلعي في تبيين الحقائق (2/ 108)، والزركشي في شرح مختصر الخرقي (5/ 135) وغيرهم.
وقال ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/ 760): وذلك لحديث زرارة بن أوفى: ما أجمع أصحاب محمد على شيء ما أجمعوا على أنَّ الأخت لا تنكح في عِدة أختها
…
ثم قال (2/ 761): وأما ما ذكرتم من الإجماع؛ أما البائن، فأين الإجماع فيها؟
وأما مَنْ يَنقل الإجماعات بعد التابعين؛ كالليث والثوري ومالك فيوجد في إجماعهم نزاع لم يَطَّلِعُوا عليه، بخلاف ما ينقلونه من النزاع، فإنَّ نقلهم له ثابت.
فالليث حكى الإجماع على أنه لا تقصر الصلاة في أقل من يومين [193/ ب]، وكذلك الشافعي تبعه على ذلك؛ وقد علم النزاع في ذلك بين الصحابة والتابعين
(1)
.
والثوري حكى الإجماع على أَنَّ المطلقة الرجعية إذا ارتجعها ثم طلقها فإنها تستأنف العدة، والنزاع ثابت في ذلك معروف حتى في مذهب الشافعي وأحمد.
ومالك بن أنس ذَكَرَ الإجماعَ على الحكم بِرَدِّ اليمين
(2)
،
وعلى القسامة
(3)
؛ والنزاع في ذلك معروف.
(1)
الأم (2/ 362).
وانظر: مجموع الفتاوى (25/ 212)، الفتاوى الكبرى (2/ 467)، قاعدة في الأحكام التي تختلف بالسفر والإقامة (ص 216)، وما تقدم في (ص 183).
(2)
في الموطأ (2/ 267).
وانظر: الاستذكار (22/ 57)، الطرق الحكمية (1/ 321).
(3)
في الموطأ (2/ 453) وقال: الأمر المجتمع عليه عندنا، والذي سمعت ممن أرضى في القَسَامة، والذي اجتمعت عليه الأئمة في القديم والحديث: أنْ يَبدأَ بالأيمان المُدَّعون في القسامة فيحلفون، وأنَّ القَسَامة لا تجب إلا بأحد أمرين: إما أنْ يقول المقتول: دمي عند فلان، أو يأتي ولاة الدم بلوث من بينة ــ وإنْ لم تكن قاطعة ــ على الذي يُدَّعَى عليه الدم؛ فهذا الذي يُوجب القسامة للمدعين الدم على مَن ادعوه عليه، ولا تجب القسامة عندنا إلا بأحد هذين الوجهين.
قال مالك: وتلك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا، والذي لم يزل عليه عمل الناس أنَّ المبدَّئين بالقسامة أهل الدم والذين يدعون العمد والخطأ.
وانظر: الاستذكار (25/ 309 مهم)، الصواعق المرسلة (2/ 590 - 592).
والمقصود: أَنَّ العلماء نَقْلُهُم لِمَا ينقلونه من أقوال يَثْبُتُ بها النزاع أثبت من نقلهم لنفي النزاع.
وأبو ثور ومحمد بن نصر ومحمد بن جرير وابن المنذر وابن عبد البر وابن حزم وغيرهم قد نقلوا النزاع في الحلف بالعتق عن الصحابة والتابعين، وممن سَمَّوه طاووس، وبعضهم حكى إجماعًا في الطلاق كأبي ثور ومن تبعه، وبعضهم حكى النزاع في الطلاق ــ أيضًا ــ كابن حزم ومَنْ وافقه، فلو لم يُعلم النزاع في الطلاق والحلف به بنقول
(1)
أخرى، لكان من المعلوم قطعًا أَنَّ إثباتَ نقلهم كلهم للنزاع في العتق أولى من إثبات نقل بعضهم لنفي النزاع في الطلاق مع مخالفة بعضهم في ذلك لوجهين:
أحدهما: أَنَّ نقلَ النزاعِ أقوى وأثبت.
والثاني: أَنَّ مثبتَ النزاعِ مثبتٌ، ونافيه نافٍ؛ والمثبتُ مُقَدَّمٌ على النافي.
فإذا جعل المعترض ونحوه عمدتهم نقلهم للإجماع، وطعنوا في نقلهم للنزاع = كان هذا من أظهر الخطأ وأفحش التناقض.
الوجه الرابع: أَنَّ النزاع في العتق ليس هو قول طاووس والحسن فقط، بل منقولٌ عن غير واحد من التابعين غيرهما، وعن غير واحد من الصحابة مع ثبوت ذلك النقل.
(1)
في الأصل: (منقول)، والصواب ما أثبتُّ.
وقد تقدم اعتراف محمد بن جرير الطبري وأبي محمد بن حزم بقول مَنْ قال مِن الصحابة والتابعين: إنه إذا حلف بالعتق بقوله: (كل مملوك لي حر إِنْ فعلت كذا) = أنه يُكَفِّر يمينه ولا يلزمه العتق، وهذان مخالفان لهذا القول، يريان أنه لا يلزمه عتق ولا كفارة، كما لا يلزم ذلك عندهما في تعليق النذر إذا قُصِدَ بِهِ اليمين، وقولهما في ذلك كله قول داود [194/ أ] وأصحابه، وهو ثابت في الحلف بالنذر عن طائفة من التابعين، ويروى عن محمد بن الحسن، والطحاوي يميل إليه.
فهؤلاء يختارون في الحلف بالعتق أنه لا يلزم ولا كفارة فيه، كما يُذْكَرُ ذلك عن: داود وَمَنْ وافقه، وأبلغُ من ذلك قول أبي عبد الرحمن الشافعي وَمَنْ وافقه كابن حزم من أهل السنة، وكالمفيد والطوسي والموسوي وغيرهم من شيوخ الشيعة، وهم ينقلون ذلك عن فقهاء أهل البيت، ومعلومٌ أَنَّ خلافَ أئمة أهل البيت ــ كأبي جعفر محمد الباقر وجعفر بن محمد ــ معتدٌّ به باتفاق المسلمين، فإنَّ هؤلاء مِنْ أكابر أئمة المسلمين، ومن سادات أهل العلم والدين، وإِنْ كانت الرافضة تغلوا فيهم غلوًّا باطلًا، فذلك لا يمنع من معرفة أقدارهم، كغلوهم في علي رضي الله عنه، وغلو النصارى في المسيح ــ عليه السلام ــ.
والرافضة يجعلونهم معصومين كالرسول صلى الله عليه وسلم، ويجعلون كل ما قالوه قالوه نقلًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويجعلون إجماع طائفتهم حجة معصومة؛ وعلى هذه الأصول الثلاثة بنوا شرائع دينهم، لكن جمهور ما ينقلونه من الشريعة موافق لقول جمهور المسلمين، فيه ما هو من مواقع الإجماع، وفيه ما فيه
نزاع بين أهل السنة، فليس الغالب فيما ينقلونه عن هؤلاء الأئمة من مسائل الشرع الكذب، بل الغالب عليه الصدق، وفيه ما هو كذب خطأ أو عمدًا بلا ريب، وأقوالهم كأقوال نظرائهم من أئمة المسلمين.
لكن قد يقال: نقل هؤلاء عنهم لا يوثق به، وقد وقفت على النقل المأثور عنهم بالإسناد المتصل عندهم، فوجدته في التعليق للطلاق الذي يقصد به اليمين، أفتوا فيه: أنه لا يلزم به الطلاق.
ولفظ بعضهم يقتضي أنه لا يلزمه طلاق ولا كفارة.
ولفظ بعضهم إنما فيه نفي الطلاق لم يتعرض لنفي الكفارة.
وأما التعليق الذي يقصد به الإيقاع؛ فلم أجد نقلًا متصلًا عنهم أنه لا يلزم.
قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري لمَّا تكلمَ على مسألة الحلف بالعتق في [194/ ب] كتابه (اللطيف)
(1)
قال: (ويسألُ القائلونَ: إِنَّ العتق واقع بمملوكِ القائلِ: مملوكه فلان حر إِنْ كَلَّمَ اليوم فلانًا؛ إذا حنث في يمينه [أَتسقطون]
(2)
عنه الكفارة؟).
إلى أَنْ قال: (فإن ادعوا أَنَّ ذلك إجماع.
قيل لهم: لا علم لكم باختلاف أهل العلم، وقد روي عن ابن عمر وعائشة وحفصة وأم سلمة وعطاء وطاووس والقاسم وسالم وجماعة يكثر عددهم من أئمة الصحابة والتابعين رضي الله عنهم = أَنَّ في ذلك كفارة يمين).
(1)
انظر (ص 141).
(2)
في الأصل: (المسقطون)، والمثبت من قاعدة العقود (2/ 332).
فقد ذكر ابن جرير ــ وهو يرى أَنَّ قول الجمهور حجة، نقلته عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجعل مستند الإجماع اجتهادًا، ولا يعتد بخلاف الواحد والاثنين ــ أَنَّ القول بلزوم الكفارة فيما إذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فكل مملوك لي حر = هو قولُ جماعةٍ يكثر عددهم من أئمة الصحابة والتابعين، وذكر منهم مَنْ ذكر مثل: ابن عمر وعائشة وحفصة وأم سلمة وعطاء وطاووس والقاسم وسالم.
وطاووس واحد من جماعةٍ يكثر عددهم من أئمة الصحابة والتابعين، قالوا فيما إذا قال: إِنْ فعلت فكل مملوك لي حر: إِنَّ في ذلك كفارة يمين.
وابن جرير أَحدُ مَن اعتمد المعترض وأمثاله على نقله للإجماع في الطلاق، مع أَنَّ ذلك لا ينفعهم؛ فإنَّ الإجماع عنده قولُ الجمهور، ليس هو الإجماع الذي يقولون هم وجمهور علماء المسلمين إنه الإجماع المعصوم.
وأما نَقْلُهُ للنزاع في ذلك؛ فقد نقله عن جماعة يكثر عددهم من أئمة الصحابة والتابعين، ومثل هذا النقل يُرجع فيه إليه باتفاق العلماء؛ فقد احتجوا بنقله فيما لا يجوز الاحتجاج به عند جماهير العلماء، وتركوا نقله فيما يحتج بنقله فيه باتفاق العلماء.
فإنه من أئمة المسلمين العالمين بأقوال الصحابة والتابعين، وهو أحد المجتهدين الذين لهم أتباع ومذهب، ولهذا ذكره أبو إسحاق في طبقات الفقهاء المجتهدين
(1)
.
(1)
(ص 93).
وقال أبو محمد بن حزم
(1)
: (صَحَّ عن عائشة وأم سلمة ــ أُمَّي المؤمنين ــ، وعن ابن عمر أنه جعل في قول ليلى بنت العجماء: كل مملوك لها حر وكل مال لها هدي وهي يهودية ونصرانية [195/ أ] إِنْ لم تطلق امرأتك = كفارة يمين واحدة.
وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فيمن قال في يمينٍ: مالي ضرائب في سبيل الله، أو قال: مالي كله في رتاج الكعبة = كفارة يمين.
وعن عائشة وأم سلمة أُمَّي المؤمنين رضي الله عنهما فيمن قال: عليَّ المشي إلى بيت الله إِنْ لم يكن كذا = كفارة يمين؛ من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري، عن أشعث الحمراني، عن بكر بن عبد الله المزني، عن أبي رافع عنهما).
قال: (وروينا عن جابر بن عبد الله: النذر كفارته كفارة يمين.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما مثل هذا.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نحوه.
وعن عكرمة والحسن فيمن قال: مالي كله في رتاج الكعبة = كفارة يمين).
قال: (وَصَحَّ عن طاووس وعطاء؛ أما طاووس فقال: الحلف بالعتاق ومالي هدي وكل شيء لي في سبيل الله وهذا النحو = كفارة يمين.
وأما عطاء فقال فيمن قال: عليَّ بدنة أو قال
(2)
: ألف حجة، أو قال:
(1)
في المحلى (ص 991)، وقد تقدَّم مرارًا.
(2)
كرر الناسخ (أو قال).
مالي هدي، أو قال: مالي في المساكين = كُلُّ ذلك يمين.
قال: وهو قول قتادة وسليمان بن يسار وسالم بن عبد الله بن عمر.
قال أبو محمد: وكل هذا خلافٌ لقول أبي حنيفة ومالك والشافعي، لأنَّ الشافعيَّ أَخرجَ من ذلك العتق المعين).
فهذا ابن حزم يذكر الحلف بالعتق إذا قال: إِنْ فعلتُ فكل مملوك لي حر عن جماعةٍ من أئمة الصحابة والتابعين، وأَنَّ ذلك صَحَّ عنهم، وَذَكَرَ فيمن ذكر طاووسًا، فلو قُدِّرَ أَنَّ طاووسًا لم يصح ذلك عنه = لكان في إثبات النزاع في الحلف بالعتق بقول بعض هؤلاء كفاية.
وهذا المعترض قد رأى كلام ابن حزم في ذلك، لكنه لم ينقل إلا نقله لمذهب طاووس، ثم إنه حَرَّفَهُ، وهذا يظهر بِـ
الوجه الخامس
(1)
: فإنَّ المعترض قال: (وقال ابن حزم: إِنَّه
(2)
صَحَّ عنه في الحلف بالعتاقة كفارة يمين. قال: وهذا ــ أيضًا ــ يحتمل أَنْ يراد به بصيغة العتق يلزمني فلا دلالة فيه).
فيقال له: ابن حزم قد قال بأنَّ قول هؤلاء خلاف لقول الشافعي، فإنَّ الشافعي أخرج من ذلك العتق المعيَّن، فلو كان [195/ ب] قصده بما نقله عن طاووس هو فيما إذا حَلَفَ بنذر العتق بِأَنْ قال: إِنْ فعلتُ فعليَّ عتقُ عبد أو عتق هذا العبد، أو قال: يلزمني أَنْ أُعتق عبدًا أو هذا العبد إِنْ فعلتُ = لم
(1)
في الأصل: (الثالث)، وهو خطأ، فقد تقدَّم الوجه الثالث والرابع، وقد استمرَّ هذا الخطأ فيما سيأتي.
(2)
في الأصل: (إن)، والمثبت من المحلَّى، ومما تقدم في أول الفصل.