الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في الذمة لا يزول إلا بالأداء، لا يزول ببطلان محله، بخلاف صفات الأعيان فإنها تزول ببطلان محلها، فإذا كان قصد اليمين يمنع وجوب ما يجب في الذمة فَلَأَن يمنع الوقوعَ خارجَ الذمة بطريق الأولى والأحرى.
الوجه الثالث
(1)
: أَنْ يقال: هَبْ أنه سُلِّمَ لك كون الكفارة مع الالتزام وسقوطها مع عدم الالتزام؛ فأين الدليل الشرعي الدال على أَنَّ هذا الوصف مؤثِّرٌ في الشرع، هو الذي عَلَّقَ الشارعُ به الحكم؟ ومعلومٌ أنه ليس لأحدٍ أَنْ يُعَلِّق الأحكام الشرعية بما شاء من الصفات، فإنَّ هذا ابتداءُ شرعٍ من تلقاء نفسه، يَدْخُلُ به صاحبه في معنى الذين قيل فيهم:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ [223/ أ] الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، وفي معنى الذين ذمهم بقوله:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]، وقوله تعالى:{قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} [الأنعام: 150] وأمثال ذلك مما ذم الله به من يحلل ويحرم ويشرِّع بلا كتاب منزل من الله.
الوجه الرابع:
أَنْ يقال: المعنى المؤثر في سقوط اللزوم ووجوب الكفارة في نذر اللجاج والغضب إنما هو كونه يمينًا؛ كما نَصَّ على ذلك الأئمة والعلماء القائلون بهذا القول، كالشافعي وأحمد وغيرهما، وكما نص عليه الصحابة والتابعون القائلون بذلك، وهذا الوصف هو المؤثر في الكتاب والسُنة، فإنَّ الله ــ عز وجل ــ جَعَلَ في الأيمان كفارة يمين، ولم
(1)
في الأصل: (السادس) والذي بعده (الوجه السابع)، ولم يتقدم سوى الوجه الأول والثاني، ولعل هذا بسبب تداخل الأوجه الخمسة التي ذكرها في الوجه الثاني (ص 784 وما بعدها).
يجعل ذلك في غير الأيمان، فلمَّا كان الناذر نذر اللجاج والغضب قَصْدُهُ اليمين وجبت فيه كفارة يمين، وهذا المعنى موجود سواءً كان النذر؛ إما في الذمة فيمكَّن من فعله وتركه، أو وقوعًا مضافًا إلى عينٍ معينة لا يمكن دفعه بعد وقوعه.
وهؤلاء قلبوا الشريعة؛ فجعلوا كونه يمينًا ليس هو الموجب للكفارة، ولا كونه غير يمين هو المانع من ثبوتها، بل كونه التزامًا هو الموجب للكفارة، وكونه غير التزام يمنع ثبوت الكفارة، والله ــ سبحانه وتعالى ــ إنما عَلَّقَ وجوبَ الكفارة بكونه يمينًا، وهم قلبوا الشريعة في موضعين:
أحدهما: جعلهم الوصف المؤثر في اللزوم كونه تعليقًا.
والثاني: كون الوصف المانع من اللزوم كونه التزامًا، وهو في ذلك تعليق؛ وليس معهم دليل شرعي على أن المؤثر في اللزوم هو التعليق، ولا دليل شرعي على أن المانع من اللزوم والموجب للكفارة كونه التزامًا، ولا الوصف الأول مؤثر عندهم، بل كثير من التعليقات لا يجعلونها لازمة؛ ولا الثاني مانعًا، فكثير من الالتزامات يجعلونها لازمة. ثم نَفْيُ وجوبِ الالتزام لا يوجب ثبوت الكفارة، فما الموجب لثبوت الكفارة؟!
وإنما الشريعة التي بعث الله ــ تعالى ــ به رسوله صلى الله عليه وسلم أَنَّ الوصف المؤثر في [223/ ب] الوقوع واللزوم كونه مُطَلِّقًا ومعتقًا وناذرًا سواء كان بصيغة تنجيز أو بصيغة تعليق. والوصف الموجب للكفارة المسقطُ للزوم هو كونه يمينًا سواء كان المعلَّق التزامًا أو وقوعًا، وسواء كانت بصيغة تعليق أو صيغة قسم.
وَمَنْ تَدَبَّرَ هذه المعاني وتصورها تصورًا جيدًا = عَلِمَ علمًا يقينًا خَطَأَ
هذا القول الذي أهدر فيه المعاني المعتبرة في الشرع، واعتبر المعاني المهدرة، مع تناقض أصحابه، وعلم أَنَّ القول الذي دَلَّ عليه الكتاب والسنة هو موافق للشرع مُطَّرِدٌ غير متناقض.
فذاك القول لَمَّا كان من عند غير الله كان فيه اختلافًا كثيرًا، وهذا القول لما كان من عند الله كان متشابهًا يصدق بعضه بعضًا؛ وهكذا جميع الأقوال التي ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بها توافق الأدلة الشرعية والعقلية فلا تتناقض، بخلاف الأقوال المخالفةِ لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإنها مخالفة للشرع والعقل متناقضة.
فصلٌ
وأما قوله: (واستعمل النقض في القياس، وهو إنما توصفُ به العلة) فهو مع أَنَّه من المؤاخذات اللفظية التي لو فتح المجيب بابها على المعترض لطال الزمانُ بكثرة ما يرد عليه منها؛ فإنَّ هذا الاعتراض يدل على جهلِ صاحبه، وأنه لم يعرف من كلام الناس في هذا الباب إلا شيئًا يسيرًا؛ وإلا فالنقض لا تختص به العلة كما ادعى هذا المعترض الذي برز على أقرانه وظهر فضله عليهم في فعله ما يعجزون عن فعله، فإنه يتكلم كثيرًا مما لا يحققه، ويقفوا ما ليس له به علم، ويخوض من النقول والبحوث فيما لا يعرف حقيقته.
ولا ريب أن المقصرين في هذه المسألة معذورون لكونهم لم يجدوا فيها من النقل والبحث ما يصلون به إلى تحقيقها، لكن من رحمة الله ــ تعالى ــ أنهم ابتداءُ ظنهم أنهم يصلون إلى آخرها من قريب، وأَنَّ فيها نقولًا وأدلة
تشفيهم، فلما أمعنوا النظر والكشف و [البحث]
(1)
، وطالت مدة النظر والمناظرة، وتبيَّن لكلِّ
(2)
الناس منها ما لم يكن يعرفه = عَرَفَ ــ حينئذٍ ــ مَنْ عَرَفَ عجزه، وعرف العاقل عذر المقصِّر، وعرف أَنَّ من كمال الدين الذي بعث الله ــ سبحانه وتعالى ــ به رسوله صلى الله عليه وسلم اشتمال الشريعة على مثل هذه الحكم [224/ أ] والأحكام التي تبين ما أنعم الله به من كمال دين الإسلام.
والمقصود هنا: أَنَّ لفظ النقض لا يختص بالعلة باتفاق النظار المستعملين لهذا اللفظ، بل النقض يرد على الحد والدليل والعلة والقضية الكلية.
فالدليل يرد عليه
(3)
النقض سواء كان قياسًا أو غير قياس؛ فلك أَنْ تقول: دليلك منتقض، ولك أَنْ تقول: قياسك منتقض، ولك أَنْ تقول: عِلَّتُكَ منتقضة، وتقول: ينقض دليله بكذا، ونَقضُ قياسه بكذا، ونقض علته بكذا.
وكل ما وَجَبَ طرده وَرَدَ عليه النقض؛ فالحدُّ لمَّا وجب فيه الطرد والعكس فَسَدَ بالنقض، والعلة لمَّا وَجَبَ فيها الطرد ــ عند من يقول بامتناع تخصيصها ــ فَسَدت بالنقض، وَمَنْ يُجَوِّزُ تخصيصها لفوات شرطٍ أو وجود مانعٍ يجيز
(4)
النقض بالفرق بين صورة النقض وبين صورتي الأصل والفرع.
(1)
بياض مقدار كلمة، لعلها ما أثبت أو نحوها.
(2)
. في الأصل زيادة: (من)، وحذفها أنسب.
(3)
في الأصل: (على)، والصواب ما أثبتُّ.
(4)
في الأصل: (يُجْبِر).
والقياس ــ أيضًا ــ لمَّا وجب فيه الطرد بطرد علته ورد عليه النقض؛ فانتقاض القياس بانتقاض علته، واطراده باطراد علته؛ ولهذا يقال: طرد القياس في كذا، كما يقال: طرد العلة في كذا، ويقال: هذا قياس مُطَّرِد وقياس منتقض
(1)
، كما يقال علته مطردة، وما اتصف بالطرد عند وجود الاطراد اتصف بالنقض عند وجود الانتقاض، فإنَّ المنتقض ضد المطرد.
فصلٌ
قال: (وقوله: وهو عندهم يمين اعتبارًا بمعناه؛ موافقٌ لما قلناه من موافقة التعليقات المذكورة لليمين بالله في الالتزام، فكذلك جعلت يمينًا، لا أَنَّ المعتبرَ كونُ الحثِّ والمنع حاصلًا فيها خاصة، لأنَّ الحث والمنع فرعٌ عن الالتزام الحامل عليه).
فيقال: تقدم بيانُ أَنَّ هذا خطأ محض على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى الصحابة وأكثر التابعين وسائر من وافقهم من علماء المسلمين؛ وذلك من وجوه:
أحدها: أَنَّ النذر فيه التزام، بل النذر هو: التزام قربة لله ــ تعالى ــ؛ ومع هذا فالنذر عقدٌ لازم يجب الوفاء به بالنص والإجماع، فلو كان مجرد كون التعليقات موافقة اليمين في الالتزام يشرع تكفيرها من [224/ ب] غير فعلِ ما التزمه = لم يجب على أحدٍ من الناذرين الملتزمين الوفاء بنذره، بل تجزئه كفارة يمين؛ وهذا خلاف الكتاب والسنة والإجماع، وقد ذكر بعض المتأخرين في ذلك نزاعًا عن بعض أهل الحديث؛ كما ذكره ابن عبد البر
(1)
رسم الكلمة في الأصل: (متلعب)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
وذكره ابن خويز منداد
(1)
في خلافه عن أحمد.
وهذا غلط [على أحمد]
(2)
وعلى مَنْ نُقِلَ هذا عنه من علماء المسلمين؛ وسبب غلطهم عليه: أَنَّ أحمد وغيره يأخذون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كفارة النذر كفارة يمين»
(3)
فظنوا أنهم يجوزون تكفير كل نذر من غير وفاء، وهذا القول لا يُعرف عن أحد من علماء المسلمين، بل يعرف أنه كذب على أحمد وَمَنْ نُقِلَ عنه من العلماء.
وأحمد وغيره يوجبون تكفير النذر إذا لم يُوفَ به إما لتفريط وإما لعجز.
وأحمد يوجب البَدَل إذا تَعذَّر الأصل، ولا يقول بإجزاء الكفارة، لكن إذا عجز عن الأصل والبدل أوجب كفارة يمين، وَمَنْ فَرَّطَ أوجب عليه البدل والكفارة، وَإِنْ لم يُفَرِّط أوجب البدل وفي الكفارة روايتان، مثلُ ما إذا نذر صيام أيامٍ بعينها؛ فإنْ أفطر لعذر كالمرض أَمَرَهُ بالبدل وهو القضاء وفي الكفارة روايتان، وَإِنْ أفطر لغير عذرٍ أمره بالبدل وهو القضاء وبالكفارة،
(1)
في الأصل: (جرير منذاذ)، والصواب ما أثبتُّ.
وهو: محمد بن أحمد بن عبد الله ــ وقيل: علي ــ، واختلف في كنيته فقيل: أبو بكر، وقيل: أبو عبد الله. له كتابٌ كبيرٌ في الخلاف، وعنده شواذ عن مالك، وله اختيارات وتأويلات على المذهب في الفقه والأصول لم يُعرِّج عليها حُذَّاق المذهب، توفي سنة (390).
انظر في ترجمته: ترتيب المدارك (7/ 77)، الديباج المذهب (ص 268)، لسان الميزان (7/ 359).
(2)
إضافة يقتضيها السياق.
(3)
تقدم تخريجه في (ص 92).
والكفارة لما فوته من التعيين، وأما القادر على ما نذره من الطاعة فلا يختلف قول أحمد وغيره من علماء المسلمين أنه يجب عليه فعل المنذور، وليس له أن يتركه إلى الكفارة بخلاف اليمين فله أن يحنث فيها ويكفر إذا لم يكن ما حلف عليه ترك واجب ولا فعل محرم.
والفرق بينهما: أَنَّ الناذر نَذَرَ لله فالتزم شيئًا لله، فعليه أَنْ يفعل ما التزمه لله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من نذر أن يطيع الله فليطعه»
(1)
، وذم الذين ينذرون ولا يوفون، كما ذم الله هؤلاء في كتابه بقوله:{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75 - 77].
وأما اليمين؛ فإنْ قَصَدَ الحالف أَنْ يحض نفسه أو غيره أو يمنعه؛ فهو مريدٌ لمراد نفسه ووكَّد [225/ أ] ذلك بالحلف بالله، فهو ملتزم بالله لا ملتزم له، فإن التزم لله بالله صار ناذرًا حالفًا كالمذكور في الآية
(2)
.
والمقصود هنا: أنَّ الناذر نذر التبرر ملتزم، وقد لزمه ما التزمه بالنص والإجماع؛ فلو كانت العلة في إجزاء الكفارة في نذر اللجاج والغضب كونه التزامًا لأجزأ كل ناذر الكفارة، ولم يجب عليه الوفاء بنذره، كالقول الذي حكاه بعض المتأخرين
(3)
ولا يُعرف به قائل معروف من العلماء.
(1)
سبق تخريجه في (ص 6).
(2)
قاعدة العقود (1/ 106).
(3)
وهو الذي أشار إليه قريبًا من كلام ابن عبد البر وغيره.
ثم إِنْ قُدِّرَ أَنَّ هذا نزاعٌ سائغٌ، وأَنَّ هذا القول صحيح؛ فهذا أعظم حجة على المعترض وأمثاله، فإنه يقال لهم: إذا كان كُلُّ معلِّق للنذر سواء كان نذر تبرر أو نذر يمين تجزئه الكفارة ولا يلزمه ما جعله لازمًا له؛ فالطلاق والعتاق أولى ألا يلزم مَنْ جَعَلَهُ لازمًا له مع قصده اليمين.
بل قد يقال: إذا كان النذر المعلَّق لا يلزمه، فالطلاق المعلَّق لا يلزم بطريق الأولى والأحرى، ويكون هذا مما يحتجُّ به مَنْ يقول: الطلاقُ المعلَّقُ لا يلزم بحال، لكن النذر فيه كفارة يمين، وهذا الطلاق عند هؤلاء لا كفارة فيه، وهذا القول محدث لا يُعرف به قائل من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، لكن عُرِفَ به قائلون من المتأخرين.
وأما القول بأن النذر لا يلزم فما علمت به قائلًا مسمًّى، وقد عَرَفْتَ غَلَطَ مَنْ نقل ذلك عن أحمد وأمثاله.
الوجه الثاني: أَنَّ الالتزام موجود في الضمان والكفالة وغير ذلك، وليس
(1)
في ذلك كفارة باتفاق العلماء، بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«الزعيم غارم»
(2)
.
والعلماء المعروفون متفقون على لزوم ضمان الدين في الذمة، وجمهورهم يقولون بلزوم ضمان النفوس والأعيان وضمان المجهول وضمان ما لم يجب، كما في قوله:{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72].
(1)
في الأصل: (فليس)، والصواب ما أثبتُّ.
(2)
سبق تخريجه في (ص 98).
الوجه الثالث: أَنَّ مشابهة ذلك لليمين في الالتزام يقتضي وجوب الالتزام، لا يقتضي ثبوت الكفارة، فإنَّ كونَ الشيءِ التزامًا إنما يُناسب وجوب ما التزمه لا يناسب سقوطه ولزوم الكفارة.
الوجه الرابع: أَنَّ الكفارة في اليمين لم تجب لكونها التزامًا، بل لما في الحنث من هَتْكِ حرمة الأيمان بالله ــ تعالى ــ، فإنْ لم يكن في [225/ ب] نذر اللجاج والغضب معنى هذا الهتك لم تجب فيه كفارة اليمين.
والنذر لمَّا كان داخلًا في اليمين أو مثل اليمين وجبت فيه كفارة اليمين إذا تَعَذَّرَ الوفاءُ به، كما في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«كفارة النذر كفارة يمين»
(1)
، وقال عقبة بن عامر رضي الله عنه:«النذر حَلْفَةٌ»
(2)
، وكالذي روي عن عمر
(3)
وجابر
(4)
وابن عباس
(5)
رضي الله عنهم وغيرهم
(6)
أنهم جعلوا النذر يمينًا، وهو مذهب أحمد وغيره.
(1)
تقدم تخريجه في (ص 92).
(2)
سبق تخريجه (ص 118).
(3)
سبق تخريجه في (ص 225).
(4)
أخرجه مسدد ــ كما في إتحاف الخيرة المهرة (5/ 362)، والمطالب العالية (8/ 582) ــ عن جابر رضي الله عنه قال:(النذر يمين).
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة (12300) بلفظ: (مَنْ حلف بنذر على يمين فحنث؛ فعليه كفارة يمين مغلظة). وأخرجه برقم (12303) ولفظه: (النذر يمين مُغَلَّظة).
(6)
أخرج مسدد ــ كما في إتحاف الخيرة المهرة (5/ 361)، والمطالب العالية (8/ 582) ــ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:(النذر يمين). وقال البوصيري: هذا إسنادٌ موقوف، وزيد بن رفيع مختلف فيه.
وأما إذا كان الالتزام لله؛ فهذا نذر يجب الوفاء به، ونذر اللجاج والغضب ما لو التزمه لله للزمه، لكن لم يقصد أن يلتزمه لا لله ولا لغير الله، بل قصد أن يكون لازمًا له على تقدير شرط انتفائه ليكون لزومه مانعًا له من ذلك الشرط، وهو يعتقد أَنَّ ذلك الشرط لا يكون، ولو علم أنه يكون لم يلتزم ذلك على تقدير وجوده، ومتى قصد أن يلتزمه على تقدير وجوده لم يكن حالفًا.
الخامس: قوله: (لا أن
(1)
المعتبر كون الحث والمنع حاصلًا فيها
(2)
خاصة)
(3)
.
يقال له: ما قال أحد أَنَّ اليمين وجبت فيها الكفارة بمجرد حصول الحض والمنع، ولا جعل أحد من العلماء لا المجيب ولا غيره كل ما فيه حض أو منع يمينًا مكفرة، بل هذا الغلط الذي بنى عليه المعترض كلامه من أوله إلى آخره، وشاركه في ذلك مَنْ ظَنُّهُ كَظَنِّهِ.
وظنوا أن اليمين إنما كانت يمينًا لأجل ما فيها من الحض والمنع، وأَنَّ من قال: كُلُّ يمينٍ من أيمان المسلمين فهي مكفرة ــ كما دَلَّ عليه الكتاب والسنة ــ فإنه يلزمه أَنْ يجعل قوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]، وقوله سبحانه وتعالى:{مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] يمينًا مكفرة. وقوله: إذا
(1)
في «التحقيق» : (لأن).
(2)
في الأصل: (منها)، والمثبت من «التحقيق» وما تقدم.
(3)
«التحقيق» (46/ ب).
تزوجت فلانة فهي طالق يمينًا مكفرة، وكذلك إذا قال: إن تزوجتها فهي عليَّ كظهر أمي مكفرةٌ كفارة يمين لا كفارة ظهار، ولم يُفَرِّقُوا بين الحاض والمانع الذي يقصد الجزاء عند الشرط، فيكون موقعًا للطلاق والعتاق وَمُتَوَعِّدًا، وبين مَنْ يكره الجزاء عند الشرط فيكون حالفًا؛ إما يمينًا من أيمان المسلمين، وإما يمينًا من غير أيمان المسلمين.
السادس: [226/ أ] قوله: (لأنَّ الحث والمنع فرعٌ عن الالتزام الحامل عليه)
(1)
كلامٌ مقلوبٌ، بل الالتزام فرعٌ عن الحث والمنع الحامل عليه، فإنه يَقصد الحض والمنع أولًا، فيحمله ذلك على أَنْ يلتزم عند الحنث
(2)
اللوازم المكروهة، ليس الالتزام هو الحامل له على الحث والمنع، لكن الالتزام حامل له
(3)
على الوفاء بموجب الحض والمنع، فهو إذا أراد أَنْ يحنث بترك ما حَضَّ نفسه عليه أو يفعل ما منع نفسه منه = منعه لزومُ ما التزمه [بتقدير الحنث]
(4)
من الحنث
(5)
.
ثم إِنْ كان يرى أنه يلزمه ما التزمه ــ وهي أمور مكروهة عنده ــ كان المنع شديدًا، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الله شَرَعَ كفارة اليمين كان المانع له وجوب كفارة اليمين، والكفارة عبادةٌ لله وطاعةٌ لا تمنع المسلم من فعل مأمور ولا ترك محظور، ولا تمنعه من فعل مباح يكون أحب إليه من إخراج الكفارة.
(1)
«التحقيق» (46/ ب).
(2)
في الأصل: (الحث)، والصواب ما أثبتُّ.
(3)
في الأصل: (عليه)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(4)
مقدار كلمتين عليها سواد، وتحتمل ما أثبتُّ.
(5)
في الأصل: (الحث)، والصواب ما أثبت.
نعم؛ لو قال: والله لا آخذ هذا الدرهم فوفاؤه أحب إليه من الحنث
(1)
والكفارة، بخلاف ما لو قال: لا آخذ هذه المائة فالحنث والكفارة أيسر عليه.
السابع: أَنْ يقال: كون الحض والمنع باليمين أوجب التزام ما التزمه، وكون الالتزام يمنعه من الحنث
(2)
ليس هو الموجب للكفارة إن لم يكن عند الحنث ما فيه هتك الإيمان، وإلا فلو التزم ما لا يَقدح في إيمانه لم يكن ذلك من أيمان المسلمين المكفرة، فلو قال: أنا بريء من الشيخ فلان، أو فلست ابن فلان، أو فلانٌ
(3)
ولد زنا، أو لستُ رجلًا إِنْ لم أفعل كذا، أو أكون نجسًا إِنْ لم أفعل كذا؛ كان قد التزم ما يقتضي أن يكون مذمومًا إذا لم يفعل، ولم يلتزم هتك حرمة إيمانه فلا كفارة في هذا.
بخلاف ما لو قصد بالنذر اليمين فقال: لله عليَّ نذرًا إِنْ قدرت على فلان لأقتلنه، وهو لا يقصد بقتله التقرب إلى الله ــ تعالى ــ لكن يقصد قتله؛ فهذا نذرٌ معناه معنى اليمين، تجزئ فيه كفارة يمين، ولا يجب عليه فعل المنذور، بل ولا يحل له إذا كان ذاك معصومًا بالنص والإجماع، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه»
(4)
.
* * * *
(1)
في الأصل: (الحث)، والصواب ما أثبتُّ.
(2)
في الأصل: (الحث)، والصواب ما أثبتُّ.
(3)
في الأصل: (فلانًا)، والصواب ما أثبتُّ.
(4)
سبق في (ص 6).
فصلٌ
قال المعترض:
[226/ ب] (قال ــ يعني المجيب
(1)
ــ: والأصل الذي قاس
(2)
عليه ــ يعني: المقدسي ــ ممنوعٌ، فإنَّ الطلاق فيه نزاع، بل إذا لم يُوقعوا العتاق مع كونه قربة فأولى ألا يُوقعوا الطلاق.
قلتُ
(3)
: من أين له النزاع في الطلاق ولم يَنقله عن أحدٍ بهذا الوصف الذي هو يَدَّعِيه؟ أعني: وجوب الكفارة، وإثبات الأولوية لا يُسَوِّغُ النقلَ لو سلمت؛ وقد تقدم الكلام عليها)
(4)
.
والجواب من وجوه:
أحدها: أَنَّ هذا قياسٌ قاسوه ليحتجوا به على فساد قول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان، مثل: ابن عمر وحفصة وزينب الذين قالوا: إنَّ الحالف بالعتق إذا قال: كل مملوك لي حر تجزئه كفارة يمين.
وقد تقدم أَنَّ هذا ثبت عن عدد من الصحابة والتابعين أكثر من نقيضه، وهو قول الذين قالوا: إنه يلزمه العتق؛ فالذين نُقِلَ عنهم من الصحابة والتابعين ــ كما ذكر ــ أنه تجزئه كفارة يمين أكثرُ وأجلُّ من الذين قالوا يلزمه العتق؛ فاحتج عليهم مَنْ بعدهم بأنْ قالوا: عُلِّقَ على شرطٍ، وهو قابل
(1)
مجموع الفتاوى (33/ 195).
(2)
في الأصل: (قال)، وفي الفتوى المعترض عليها:(مشى)، والمثبت من «التحقيق» .
(3)
القائل هو: السبكي.
(4)
«التحقيق» (46/ ب).
للتعليق= فيقع بوجود شرطه كالطلاق.
فأجاب المناظر عن الصحابة والتابعين ــ الذين هم أَجَلُّ قدرًا وأكثر عددًا ممن خالفهم من أهل عصرهم ــ بنقض القياس، وفساد الفرق بين صورة النقض وغيرها كما تقدم.
وأجاب عنهم بجوابٍ ثانٍ؛ وهو: منع الحكم في أصل القياس، فإنه من المعلوم باتفاق الناس أَنَّ القائس ليس له أن يقيس إلا على أصل معلوم إما بإجماع أو بدليل
(1)
، فإنْ كان ثابتًا بالنص وإجماع الأمة فهذا أحسن الأصول التي
(2)
يقاس عليها، وَإِنْ كان ثابتًا بنصٍّ والمناظرُ يُنازِعُ فيه جاز عند الأكثرين أن يُثبت حكمه بالنص ويَقيس عليه، ولا يكون إذا منع حكم الأصل منقطعًا.
وقال بعض أهل الجدل: يكون منقطعًا، لأنَّ هذا انتقال من مسألة إلى أخرى. وليس كما قال، بل هذا إثبات مقدمة من مقدمات دليله بالدليل، ولو كان من منع [227/ أ] بعض مقدمات دليله منقطعًا يُمنع من إقامة الدليل عليها= لانسدَّ باب المناظرة والاستدلال، ولكان المجادل بالباطل يغلب المجادل بالحق بلا علم أصلًا، بل بمجرد توجيه منعه، ولأنَّ المناظر تلو
(3)
الناظر فهو يذكر الطريق التي بها يعلم الحكم.
(1)
مجموع الفتاوى (9/ 259)، تنبيه الرجل العاقل (1/ 150)، أصول الفقه وابن تيمية (1/ 192 - 193).
وانظر ما سيأتي قريبًا.
(2)
في الأصل: (الذي)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(3)
كذا في الأصل.
ومن أهل الجدل مَنْ فَرَّقَ بين المنع المشهور والمنع الخفي، وهذه نزاعات في الاصطلاحات الجدلية أيها أقرب إلى المقصود بالجدل المشروع الذي مقصوده بيان
(1)
الحق وإقامة حجته على المسترشد الطالب للعلم وعلى المخالف الجاحد للحق.
وإن أراد إثبات حكم الأصل بقياس؛ فهل له ذلك؟ فيه قولان للناس معروفان، هما قولان في مذهب أحمد وغيره، فمن منع ذلك قال: هو تطويل، أو قياس فاسد، فإنه إِنْ قاسَ على الثاني بالعلة التي بها قاسه على الأول فتطويل، وَإِنْ كان بغير تلك فالقياس فاسد. وَمَنْ جَوَّزَ ذلك؛ فقال بعضهم: هذا يجوز كتعليل الحكم بعلتين؛ وهو ضعيفٌ، لأنَّ مِنْ شَرْطِ القياس اشتراك الفرع والأصل في العلة، فإذا كان الأصل الثاني إنما أثبته بعلة الأول = امتنع أَنْ يقيس عليه بغير تلك العلة، فإنه لم يثبت الحكم فيه بها.
ولكن الصحيح أَنَّ هذا يجوز؛ لكون مشاركة الفرع للأصل الثاني أظهر، ولجواز أَنْ يقيس في الأول بقياس العلة وفي الثاني بقياس الدلالة وبالعكس، أو بقياس أحدهما بإبداء الجامع وفي الآخر بإلغاء الفارق والعلة في القياسين واحدة، ويجوز أَنْ يثبت الحكم بقياس مع شمول نص الأصل للفرع لتوارد دليلين على مدلول واحد فكذلك هنا؛ يقاس الفرع بالأصل الأول وبالأصل الثاني.
وإن كان حكم الأصل ــ أيضًا ــ مجمعًا عليه بين الأمة جاز القياس عليه،
(1)
هكذا قرأتها.
وإن كان متفقًا عليه بين المتناظرين
(1)
كانت هذه حجةً جدليةً لا علمية؛ وذلك يستفاد به بطلان قول أحد الخصمين إما في تلك المسألة وإما في غيرها، لا يستفاد العلم بها ولا بغيرها في نفس الأمر.
فإنه إذا قاس على أصلٍ مُسَلَّمٍ بينهما؛ فغايته أَنْ يُسَوِّي بين [227/ ب] الفرع وذلك الأصل، ويقول لمناظره: أنت قد فَرَّقْتَ بينهما فأخطأت في الفرق.
وحينئذٍ؛ فيقول له مناظره: يمكن أَنْ يكون خطئي في موافقتك على الأصل، ويمكن أَنْ يكون خطئي في مخالفتك في الفرع ولم تُقِم دليلًا على أحدهما؛ فلا يَلزم من كوني مخطئًا في نفي الحكم في الفرع أَنْ تكون أنت مصيبًا في إثبات الحكم فيهما، بل قد يكون الصواب قول ثالث وهو نفي الحكم فيهما
(2)
، وحينئذٍ؛ فيكون خطئي حيث قيل في إثباته في الأصل وحده أقل من خطئك حيث أثبته فيهما.
وكثيرٌ من الأقيسة التي يستعملها متأخروا الفقهاء هو من هذا الباب، يَقيسون وينقضون بما يُسَلِّمُهُ المنازع وإن لم يُقِمْ عليه حجة علمية.
إذا عُرِفَ هذا؛ فَمَنْ أَرادَ أَنْ يَقيس قياسًا يُبَيِّنُ
(3)
به غلط أَحَدِ القولين الذي قائله من الصحابة والتابعين أكثر وأجل من أهل القول الآخر، فقاس التعليق القسمي بالعتق على التعليق القسمي بالطلاق= لم يكن له بُدٌّ أَنْ يُثْبِتَ
(1)
في الأصل: (المناظرين)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(2)
منهاج السنة (3/ 216)، المستدرك على مجموع الفتاوى (2/ 228).
(3)
في الأصل: (بين)، والصواب ما أثبتُّ.
هذا الأصل إما بنص وإما بإجماعٍ من الصحابة والتابعين الذي احتج عليهم بقياسه، أو بإجماعٍ جدلي مُسَلَّمٍ منهم؛ وإلا فإذا كان مناظرًا لابن عمر وحفصة ــ أم المؤمنين ــ وزينب رضي الله عنهم، وَمَنْ ذُكِرَ معهم كابن عباس وعائشة وأم سلمة وأبي هريرة وطاووس وعطاء والحسن البصري والقاسم وسالم وسليمان بن يسار وقتادة رضي الله عنهم وغير هؤلاء، ولم يُعرف أنه خالف هؤلاء من الصحابة والتابعين إلا رواية تروى عن بعضهم، ومعهم مَنْ هو دونهم؛ فإذا قاس العتاق على الطلاق فمن أين له أَنَّ هؤلاء الصحابة والتابعين كلهم يُسَلِّمون له أَنَّ الحلف بالطلاق يلزم؟ ومن أين له نص على ذلك من كتاب وسنة؟
ومعلومٌ أنه لم يُنقل عن أحدٍ من هؤلاء الصحابة في وقوع الحلف بالطلاق نقلٌ صحيحٌ صريحٌ، بل النقل الصحيح عنهم يدل على أنهم لا يُفَرِّقُون بين الحلف بالطلاق والحلف بالعتاق، بل يُسَوُّون بين الجميع، كما أنه لم يفرق أَحَدٌ من الصحابة بين الحلف بالطلاق والعتاق والحلف بالنذر، بل المنقول عنهم روايتان:
إحداهما: أَنَّ في الجميع [228/ أ] كفارة يمين، والثانية: أنه يلزمه الجميع، لكن هذه الرواية ضعيفة من وجوه، وقد أجمع العلماء على ترك العمل بها، فلم يَعمل أحد من العلماء المعروفين بكل ما فيها.
فإذا كان الصحابة رضي الله عنهم ليس لهم إلا قولان والتابعون ومن بعدهم أجمعوا على ترك أحد القولين = تعين الأخذ بالقول الآخر للصحابة، ولم يجز أن يكون الصواب في قول ثالثٍ أُحْدِثَ بعدهم، وهو الفرق بين الحلف بالطلاق والعتاق والحلف بالنذر، ولا يكون الصواب في القول الآخر الذي
أجمع الناس بعد الصحابة على تركه مع ضعف روايته عنهم
(1)
.
وإذا كان المنقول عن الصحابة يدل على أَنَّ المؤثر عندهم في التكفير كون التعليق يمينًا، وَأَنَّ التعليق الذي قُصِدَ به اليمين هو عندهم يمين مكفرة = فالعموم المعنوي الذي يدل عليه كلامهم يبين ذلك، ونقل عنهم ألفاظٌ عامةٌ تدل على الحلف بالطلاق وغيره، ولم يَنقل أَحَدٌ عنهم أنهم فَرَّقُوا بين الحلف بالطلاق والحلف بالعتاق، بل ولا عُرِفَ في المسلمين مَنْ قال هذا القول قبل أبي ثور ــ رحمة الله عليه ــ، وأبو ثور لم يَنقل هذا الفرق عن أحدٍ قبله، ولكن رَكَّبَهُ من دليلين: من ظاهر القرآن عنده، ومما ظنه إجماعًا؛ وجماهير العلماء الأولين والآخرين يقولون هذا فرقٌ فاسد، وفساده ظاهر جدًّا = أفيجوز أن يجعل الأكثر الأفضل من الصحابة والتابعين قالوا هذا القول المفرق، ويقول إنهم أخطأوا في هذا الفرق، وقالوا قولًا يعلم صبيان الفقهاء أنه خطأ، من غير أن ينقل هذا القول عنهم أحدٌ لا بإسنادٍ صحيحٍ ولا ضعيفٍ ولا بنقلٍ مرسلٍ، ومن غير أَنْ يكون في خلافهم ما يدل عليه، بل على خلافه.
فليس مع مَنْ يُلزم الصحابة والتابعين بهذا إلا مجرد ظنِّ واحد بعد القرون الثلاثة أنه لا نزاع في الطلاق، وهذا غايتُهُ أَنْ يَدَّعِي إجماعًا انعقد بعدهم على مسألةٍ ما تكلموا فيها، ومثل هذا الإجماع لا يكون حجة عليهم في نفس الأمر إِنْ لم يكن معه نَصٌّ يكون حجة عليهم، وإلا فيمتنع أن يأمر الله ــ تعالى ــ الصحابة والتابعين باتباع إجماعِ [228/ ب] قومٍ لم يُخْلَقُوا
(2)
بعد.
(1)
انظر ما تقدم (ص 392).
(2)
في الأصل: (يختلفوا)، ولعل الأقرب ما أثبتُّ.
فتبيَّن أَنَّ هذا القياس لا يجوز أَنْ يُحتجَّ به على الصحابة والتابعين إِنْ لم يكن الأصل منصوصًا عليه، وإلا فلو قُدِّرَ أَنَّ فيه إجماعًا متأخرًا لم يجز الاحتجاج به عليهم، فضلًا عن ألا يكون فيه إجماع لا قديم ولا حديث.
والمجيب المناظر عن أكابر الصحابة والتابعين ــ رضوان الله عليهم ــ قال: الأصل الذي قاس عليه ممنوع، وجواب هذا المنع لا يكفي فيه دعوى إجماع متأخر لو كان موجودًا، بل لا يحتج فيه بإجماع إلا أَنْ يكون إجماع الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ على أَنَّ الطلاق المحلوف به يلزم، ولو نُقِلَ ذلك صريحًا عن واحد أو اثنين أو ثلاثة منهم؛ أفيلزم أَنَّ القائلين بالكفارة في العتق يسلمون لهم الحكم في الطلاق؟ بل ينازعونهم فيه، فلا يَفْصِلُ بينهم إلا كتاب وسنة، فكيف ولم يُنقل ذلك عن أحدٍ من الصحابة؟ بل المنقول الثابت عنهم يدل على التسوية بينهما في التكفير وعدم اللزوم.
فإنْ قيل: فقد نُقِلَ عن ابن عمر رضي الله عنهما وغيره فتاوى في الطلاق المعلق بالصفة
(1)
، وقد يَدُلُّ بعضها على أَنَّ المعلِّق كان حالفًا.
قيل: أما المنقول عن ابن عمر رضي الله عنهما فليس بظاهر أنه كان حالفًا، فضلًا عن أَنْ يكون صريحًا.
وبتقدير أَنْ يكون ابن عمر ــ رضوان الله عليهما ــ أفتى في الحالف باللزوم، فذلك موافقٌ لإحدى الروايتين عنه، فقد رُوي عنه في الحلف
(1)
يريد بذلك ما ذكره البخاري معلَّقًا عن نافع: طلَّق رجلٌ امرأته البتَّةَ إنْ خرجت. فقال ابن عمر: إنْ خرجتْ فقد بُتَّتْ منه، وإنْ لم تخرج فليس بشيء.
وانظر كلام المجيب عن هذا فيما تقدم (ص 378 وما بعدها، 425 وما بعدها).
بالعتق والنذر رواية أنه يَلزم، ولم ينقل أحدٌ عنه الفرق بين الطلاق والعتاق وبين النذر، فضلًا عن أَنْ يفرق بين الطلاق والعتاق؛ فإذا قُدِّرَ أنه أفتى في الحلف بالطلاق باللزوم = كان ذلك موافقًا
(1)
للرواية التي أفتى فيها في الحلف بالعتق والنذر باللزوم، وقد روي عنه ذلك في النذر من طريق سالم، وروي فيهما من طريق عثمان بن حاضر.
فإنَّ ابن عمر عنه في نذر الصدقة بالمال ثلاث روايات، وإذا كان هذا موافقًا لإحدى روايتيه= أمكنه إذا احتج من يُناقض الرواية الأخرى عنه بقياسِ [230/ أ] ذلك على الطلاق، وألزمه أنه أفتى به= أَنْ يقول ابن عمر: إنما أفتيت به على قولي بلزوم المعلَّق وإِنْ قَصَدَ به اليمين، أما على قولي بأنه إذا قصد اليمين يكفِّر= فلم أُفْتِ به.
وهذا الجواب إذا أجاب به ابن عمر كان في غاية السداد والاستقامة؛ فلأيِّ شيءٍ نَقطع بأنَّ ابن عمر لا يجيب بجوابٍ مستقيمٍ سديدٍ يدل على علمه وفقهه، ونُلزمه بالجواب الذي نَعرف به خطأ من أجاب به، وأنه من أنقص الناس في العلم والفقه؟
ولو قُدِّرَ أَنَّ ابن عمر رضي الله عنهما سَلَّمَ الحكمَ في الطلاق رواية واحدة ــ كما يظنه هذا المعترض ــ، وزعم أَنَّ ابن عمر مخطئٌ إذا كان قد أفتى في الحلف بالعتق بالكفارة، لأنه زعم أنه قوله في الطلاق رواية واحدة= فهذا غايته أَنْ يكون حجةً جدليةً بَيَّنُوا بها خطأ ابن عمر في زعمهم، ليس في موافقة ابن عمر لهم ما يقتضي أَنَّ سائرَ الصحابة الذين أفتوا بالكفارة في الحلف بالعتق وغيرهم أجمعوا على وقوع الطلاق، وما لم يحصل نَصٌّ أو
(1)
في الأصل: (موافق)، والجادة ما أثبتُّ.
إجماع من الصحابة على الطلاق = لم يكن لهم حجة على الذين [أفتوا]
(1)
بالكفارة في الحلف بالعتق، ولا سبيل إلى نَصٍّ أو إجماع، بل ولا سبيلَ إلى تضعيفِ هذا القول.
وأما غير ابن عمر؛ فلو قُدِّرَ أَنَّ غيره من الصحابة أفتى بلزوم الطلاق لم يلزم قولًا
(2)
، فكيف ولم ينقل ذلك عن أحدٍ منهم صريحًا، وكيف يلزم أكابر الصحابة والتابعين بالفرق الذي يُحكم عليهم فيه بالخطأ وقلة العلم والفقه من غير نقل عنهم يدل على ذلك، وإنما يدل على نقيضه؟! وهل هذا إلا من باب قدح آخر الأمة في أولها؟! ودعواهم أَنَّ آخرها أفقه وأعلم من أولها؟! وهذا من جنس أقوال أهل البدع.
مع أَنَّ هؤلاء الذين يخالفون هؤلاء الصحابة ليس معهم ــ ولله الحمد ــ لا كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح ولا معنى معقول، ليس معهم إلا ظَنُّ مخطئٍ لا يغني من الحق شيئًا، وهذا الظن ألزمهم بهذه اللوازم التي أوقعتهم في تحريف معاني الكتاب والسنة، وبطريق القدح في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة التابعين لهم بإحسان، بل وفي تغيير
(3)
شريعة [229/ب] الإسلام باعتبار ما ألغاه الله ــ تعالى ــ ورسوله، وإلغاءِ ما اعتبره الله ورسوله، وَإِنْ كان مَنِ اتقى الله ما استطاع منهم ومن غيرهم من أولياء الله المتقين= هو
(4)
مأجور على اجتهاده وتقواه، مغفور له ما لم تصل إليه قواه.
(1)
إضافة يقتضيها السياق.
(2)
كذا.
(3)
في الأصل: (تغير)، والصواب ما أثبتُّ.
(4)
في الأصل: (وهو).
قال تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78 - 79]، فهذان نبيان كريمان، فَهَّمَ اللهُ ــ سبحانه وتعالى ــ أحدهما الحكومة، وأثنى على كلٍّ منهما بما آتاه من الحكم والعلم، والعلماء ورثة الأنبياء، فإذا خَصَّ أحدهما بفهمٍ وعلمٍ في مسألة= لم يمنع ذلك أَنْ يُعَظَّمَ الآخَرُ ويُثنى عليه بما أعطاه الله من العلم والحكم، لا سيما والآخر قد يكون في مسألة أخرى هو المصيب
(1)
.
وكل مجتهد مصيب؛ بمعنى: أنه هو مطيع لله إذا استفرغ وسعه، فاتقى الله حق تقاته
(2)
.
وأما بمعنى معرفة حكم الله الباطن، فلا يكون المصيب إلا واحدًا
(3)
؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ
(1)
انظر ما تقدم (ص 181).
(2)
مجموع الفتاوى (24/ 20)، الفتاوى العراقية (2/ 840).
(3)
مجموع الفتاوى (4/ 438)(13/ 124 - 125)(19/ 204)(20/ 19 وقد سئل فيها: هل كل مجتهد مصيب؟ أو المصيب واحد والباقي مخطئون؟)(33/ 150)، الفتاوى الكبرى (3/ 268)(4/ 27)(6/ 96، 223)، جامع المسائل (5/ 78)، المستدرك على مجموع الفتاوى (2/ 234)(3/ 205)، اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 151)(2/ 381)، منهاج السنة (5/ 84 وما بعدها)(6/ 27)، الإخنائية (ص 107، 456)، الاستقامة (1/ 37، 50).
وقد ذكر ابن رشيق في أسماء مؤلفات ابن تيمية (ص 308 الجامع) قاعدة بعنوان: قاعدة في المخطئ في الاجتهاد هل يأثم؟ وهل المصيب واحد؟
فله أجر»
(1)
، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ لَمَّا حكم في بني قريظة:«لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات»
(2)
، وكما قال صلى الله عليه وسلم لأميره:«وإذا حاصرت أهل حصن فسألوك أَنْ تُنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله؛ فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك»
(3)
، وكما دعا سليمان ــ عليه السلام ــ بثلاث دعوات، فقال: أسألك حكمًا يوافق حكمك
(4)
.
وهذا كجهة الكعبة إذا اشتبهت، وصلى أربعة طوائف كل طائفة باجتهادها إلى جهة، فالكل مصيبون بمعنى: أنهم مطيعون لله، والذي أصابَ جهة الكعبة واحدٌ منهم.
والمقصود هنا: أنه إذا قال المناظر عن الصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ أنهم قد يمنعون حكم الأصل، لم يكن للمحتج عليهم جواب إلا بأن يثبت حكم الأصل بنصٍّ أو إجماعٍ في زمنهم، بأن ينقل إجماع الصحابة في زمن ابن عمر وحفصة وزينب على أَنَّ الطلاق المحلوف به يقع، أو أَنْ ينقل [230/ أ] أَنَّ المفتين في العتق يوافقونه على وقوع الطلاق المحلوف به.
(1)
أخرجه ابن الجارود (برقم 996)، وأبو عوانة في مسنده (4/ 168) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وهو عند البخاري (7352)، ومسلم (1716) من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه بلفظ:«إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر» .
(2)
تقدم تخريجه (ص 39).
(3)
تقدم تخريجه (ص 39).
(4)
تقدم تخريجه (ص 40).
وإذا قيل بموافقة هؤلاء فقط وَعُلِمَ أنهم يقولون بالفرق بين الحلف بالطلاق والعتاق= كان قولهم كقولهم ولزم تخطئتهم في أحد القولين، إما في نفي الكفارة في الطلاق وإما في إثباتها في العتق، لم يلزم أَنْ يكون قولهم في العتق خطأ إِنْ لم يكن وقوعه على الحالف بالطلاق ثابتًا بنص أو إجماع الصحابة في ذلك الزمن، وإلا فمجردُ قول بعضهم الذي لا يثبت به الإجماع لا يعلم به الإجماع، ومجرد تسليم المنازع في العتاق للطلاق لا يفيد الإجماع، وليس شيء من ذلك حاصلًا لا تسليم هؤلاء ولا إجماع الصحابة، بل ولا قول ثلاثة من الصحابة ولا اثنين، بل ولا واحد، بل المنقول عنهم يدل على خلاف ذلك.
ونحن في هذا المقام لا نحتاج أن نثبت نزاعًا بين الصحابة، بل المحتج بالقياس عليه أن يثبت الحكم في الأصل، إما بنص وإما بإجماعهم= وإلا كان قياسه الذي احتج به عليهم حجة فاسدة على فساد قولهم إنَّ العتق المحلوف به فيه كفارة يمين.
وَمَنْ أحكم معرفة الأدلة الشرعية وحذق في استعمالها = تبين له من غلط الناس في مواضع كثيرة ما لا يتبين لغيره، وَعَرَفَ مِنْ عظمة قَدْرِ الكتاب والسنة، وعظمة الصحابة، وعظمة الشريعة وكمالها وتناسبها واعتدالها مالم يعرفه غيره، وعلم أَنَّ الصحابة أفضل القرون وأعلمها وأعدلها وأفقهها، وَأَنَّ كل غلط وقع فمن عدم علم الناس لا من قصور في تبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم وبيانه، بل قد بَلَّغَ البلاغ المبين، فصلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا، وجزاه عَنَّا أفضلَ ما جزى نبيًا عن أمته، بأبي هو وأُمِّي صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثاني
(1)
: أَنَّا لو لم نعلم أحدًا نَقَلَ النزاع في المسألة؛ ولكن لم نعلم أن الصحابة كانوا مجمعين على وقوع الطلاق المحلوف به، بل لم نعلم ذلك منقولًا عن أحدٍ منهم، وناهيك بأئمة الإسلام وعلمائهم الذين فَرَّعوا من مسائل الأيمان في الطلاق ما شاء الله تعالى= لم يَنقل أحد منهم عن الصحابة في الحلف بالطلاق شيئًا، ولكن [230/ ب] نقل بعضهم عن بعض الصحابة مسائل في الطلاق المعلق بالصفة، مثلما نَقَلَ سفيان في جامعه أثرًا عن ابن مسعود رضي الله عنه
(2)
، ونقل ــ أيضًا ــ عن علي وأبي ذر ومعاوية وابن عمر رضي الله عنهم بعضها يبين فيه أنه ليس بيمين
(3)
، بل يقصد به الإيقاع، وبعضها محتمل والأظهر فيه ذلك، وليس فيها ما هو ظاهر فيمن قصد اليمين، ووجدنا أَثبتَ القولين عنهم وَمَنْ قائلوه أَجَلُّ وأكثر من قائلي الآخر يفتون في النذر والعتق المحلوف به بكفارة يمين = أمكن أَنْ نَجزم بأنَّ هؤلاء أخطأوا، ونقول: إنهم مجمعون على وقوع الطلاق المحلوف به والعتق [المحلوف به]
(4)
، وليس معنا إلا ظَنُّ مَنْ جاء من بعد القرون الثلاثة، لإجماع لم يذكر فيه أحدًا من الصحابة، ومراده به أنه لا يعلم نزاعًا، ومراد الآخر قول الأكثرين، ومراد الثالث إجماع مَنْ حَفِظَ قولَهُ؛ فهؤلاء
(1)
تقدم الوجه الأول في (ص 799).
(2)
سبق تخريجه في (ص 437).
(3)
بعض هذه الآثار سبق تخريجها، وفيه ما لم أجده كالنقل عن معاوية. وقد ذكر المعترض في «التحقيق» (ق 13) بعض هذه الآثار وتكلم عليها، كما أنَّ المجيب أشار لها في مجموع الفتاوى (33/ 223)، والفتاوى الكبرى (3/ 246)، وستأتي الإشارة إليها قريبًا في (ص 853 - 854).
(4)
بياض مقدار كلمتين، ولعله ما أثبتُّ.
الثلاثة أئمةُ مَنْ نَقَلَ الإجماع في المسألة.
أبو ثور أقدمهم وأجلهم، وقد فَسَّرَ مراده بما ينقله من الإجماع: أني لا أعلم منازعًا.
وابن جرير
(1)
[بَيَّنَ]
(2)
مراده بالإجماع الذي ينقله وهو ما قاله الجمهور.
وابن المنذر لم يذكر إجماعًا عامًّا، بل إجماعَ مَنْ حَفِظَ قولَهُ؛ وكلٌّ من هؤلاء يذكر مثل هذا الإجماع في أحكام لم يعرف فيها للصحابة قولًا، بل لمن بعدهم، وفيها ما لا يَعرف فيه قولًا للتابعين بل لمن بعدهم، ومراده بالإجماع: إجماع مَنْ تَكَلَّمَ في هذه المسألة وَعَرَفَ أنه تكلم فيها.
فإذا لم يكن معنا إلا مثل هذا النقل عن مثل هؤلاء العلماء؛ أيجوز لنا أن نجزم بأن أفاضل الصحابة والتابعين رضي الله عنهم كانوا يقولون هذا الفرق الذي أخطأوا فيه؟! وأَنَّ الصحابة كانوا مجمعين على وقوع الطلاق المحلوف به؟ مع أَنَّا لا نجزم بقول ثلاثة منهم فيه، بل ولا اثنين، بل ولا واحد، بل يظهر لنا من كلامهم أنهم يسوون بينه وبين الحلف بالعتق والنذر، فهل يحلُّ مع هذا أن نلزمهم قولًا يستلزم أنهم أخطأوا خطأً فاحشًا؟ ونجزم بخطئهم من غير أَنْ يكون عنهم شيء يدل على ذلك البتة، بل عنهم ما يدل على نقيضه.
فإنَّ الذي يوجب الجزم بخطئهم في العتق الجَزْمُ [231/ أ] بإجماعهم على الطلاق، وما لم يجزم باتفاقهم على الطلاق وأنه حصل عليه منهم
(1)
في الأصل: (حزم)، والصواب ما أثبتُّ، كما في (ص 597، 699).
(2)
إضافة يقتضيها السياق.
إجماع معصوم، أو قد ثبت حكمه بنص من كتاب وسنة = لم يجز أن يجزم بوجوب قياس العتق عليه، فيمتنع ــ والحالة هذه ــ أَنْ يقوم عليهم حجة بالطلاق وهو المطلوب.
والقائس الجامع هو الذي عليه بيان ثبوت الحكم في الأصل إما بنص وإما بإجماع منهم، وَنَقْلُ مثل أبي ثور وأمثاله للإجماع لا يُفيد لا علمًا ولا ظنًّا بأنَّ واحدًا منهم قال ذلك، فضلًا عن إجماعهم؛ لجواز أَنْ يكون الإجماع الذي ظَنَّهُ إجماعُ مَنْ بعدهم.
الوجه الثالث: أَنْ يقال: النزاع ثابت في الطلاق أقوى من ثبوت نفي النزاع؛ فإنه منقول عن طاووس وَمَنْ وافقه، وعن أبي جعفر وجعفر بن محمد ومن وافقهما، وعن أبي عبد الرحمن الشافعي وعن داود وابن حزم ومن وافقهم، وببعض هؤلاء يثبت النزاع، ولم يزل النزاع في ذلك من حين تكلم السلف في هذه المسألة لم يكن عصرٌ من الأعصار إلا وفيه مَنْ يقول: إنَّ الطلاق المحلوف به لا يلزم.
وإذا كان النزاع ثابتًا في الطلاق؛ فمن
(1)
احتج على من دون الصحابة والتابعين بقياس العتق على الطلاق فمنعوه الحكم في الأصل= احتاج أَنْ يقيم عليه حجة من كتاب وسنة، ولم يمكنه إقامته هنا بإجماع ولا بقياس، لأنه ليس هنا أصل يقاس به الطلاق المحلوف به إذ كان هو الأصل الأول عند من قاس عليه.
فتبين أَنَّ هذه المسألة لا يمكن أحدًا أَنْ يحتجَّ فيها بحجة صحيحة إِنْ لم
(1)
رسمها الناسخ: (لِمَن).
يأتِ بكتاب وسنة وهذا منتفٍ؛ فالحكم فيها باللزوم باطل.
الوجه الرابع: قوله: (وهو لم يَنقله عن أحد بهذا الوصف الذي هو يدعيه؛ أعني: وجوب الكفارة)؛ عنه جوابان:
أحدهما: أَنَّ الكلام في قياس العتاق على الطلاق في لزومه، والطلاق فيه نزاعان ــ كما ذكرهما ابن حزم وغيره ــ أحدهما: هل هو طلاق فيلزم أم هو يمين فلا يلزم؟ سواء قيل: هي يمين منعقدة مكفرة، أم يمين غير منعقدة ولا مكفرة.
ثم النزاع الثاني إذا قيل هي يمين؛ فمن أَيِّ النوعين هي؟ وكلٌّ من نوعي النزاع كافٍ في المنع، ولو قُدِّرَ أنه لم يقل أحدٌ بتكفير الحلف بالطلاق كما حكاه أبو ثور = لم يجز قياس العتق المحلوف به عليه [231/ ب].
فإنه يقال: الطلاق المحلوف به لا يقع ولا كفارة فيه، وأما العتق فلا يقع وفيه الكفارة، لأنَّ العتق قربةٌ تجب بالنذر، فإذا عَلَّقَ وقوعَهُ تعليقَ يمين = كان كما لو عَلَّقَ وجوبه، وتعليقُ وجوبِهِ بقصد اليمين فيه الكفارة؛ فكذلك تعليق وقوعه.
وأما الطلاق؛ فلو عَلَّقَ وجوبه لم يجب فيه كفارة عند كثيرٍ من العلماء، كما لو عَلَّقَ وجوبه في نذر التبرر، فإنه عند هؤلاء لا يقع ولا يجب فيه الكفارة، وكذلك إذا كان تعليق يمين، وكذلك إذا كان تعليق وقوع يقصد به اليمين، فلو قُدِّرَ أَنَّ بعض السلف قال ذلك كان قولًا معروفًا.
وحينئذٍ؛ فإذا قالوا: العتق المحلوف به لا يلزم ويكفر، والطلاق لا يلزم ولا يكفر= كان هذا قولًا سائغًا متوجهًا، وكان نسبةُ هذا القول إليهم أولى من
أَنْ ينسب إليهم أنهم يقولون: الطلاق المحلوف به يلزم والعتق لا يلزم، فإنَّ هذا في غايةِ الفساد، ولم يُنقل هذا عن أحد قبل أبي ثور للعذر الذي ذُكِرَ عنه.
وأيضًا؛ فطائفة من التابعين وَمَنْ بعدهم يقولون في تعليق النذر المحلوف به: لا يلزم ولا كفارة فيه ــ وكذلك يقول ابن حزم ــ، فهذا في العتق والنذر.
وداود وابن حزم وغيرهما يقولون بهذا في العتق والطلاق والنذر، وابن جرير الطبري وابن حزم يجعلان هذا قولًا لبعض الصحابة ــ كما تقدم ــ؛ وإذا قُدِّرَ هذا قولًا= كان قولهم في الطلاق المحلوف به إنه لا يلزم ولا كفارة فيه بطريق الأولى.
وحينئذٍ؛ فمن أوجب الكفارة في العتق المحلوف به دون الطلاق إِنْ قُدِّرَ فسادُ فَرْقِهِ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ الطلاق يمكن نفي الكفارة فيه = لم يمكنه أَنْ ينفي الكفارة في العتق وهو قول معروفٌ، وهذا إذا قاله وَسَوَّى بين العتق والطلاق في عدم اللزوم كان خيرًا من أَنْ يُفَرِّقَ بينهما، فَيُلْزِمَ بالطلاق دون العتق، كما فعل ابن جرير لظهور فساد هذا القول، ولأنَّ هذا لم يُنْقَل عن أحدٍ من السلف لا من الصحابة ولا من التابعين، بل ولا يُعرف عن أحدٍ قبل أبي ثور، وتبعه [ابن]
(1)
جرير، لكن اختلفا في الكفارة في الحلف بالعتق [232/ أ] والنذر، وهما مع ضعفهما فقول أبي ثورٍ أوجه.
الجواب الثاني: أَنْ يقال: قوله: (وهو لم يَنقله عن أحدٍ بهذا الوصف الذي هو يَدَّعِيه).
(1)
ساقطة من الأصل، والصواب إثباتها.
فيقال له: قد ذَكَرَ هذا القول كما ذكر القولين الآخرين، وذكر أَنَّ في المسألة ثلاثة أقوال، ولا يلزم إذا لم يُسَمِّ قائله ألا يكون قولًا له قائلٌ معروف، فعدم تسميته في جواب فتيا ليس بحجة أصلًا، بل لو لم يعلم اسم قائله وقد نَقَل النزاع فيه ناقل يَعرفُ نزاعَ العلماء = كان نقله مقدمًا على نقل النافي.
وهذه الكتب مملوءة بذكر الأقوال في التفسير والفقه والأصول وغير ذلك، وكثير من الناقلين لا يُسمي القائل في كثيرٍ من الأقوال، حتى في نقل مذهب بعض الفقهاء كثيرًا ما يذكرون الوجهين، ولا يسمون مَنْ قالهما، وقد يسمون القائل لأحدهما ولا يسمون قائل الآخر.
فإذا قُدِّرَ عالمٌ جَزَمَ بأنَّ في المسألة قولين، وآخر قال: لا أعلم فيها نزاعًا؛ لوجب ــ بلا ريب ــ تقديم قول الجازم بالنزاع على النافي لعلمه بالنزاع، بل لو جزم أحدهما بثبوت النزاع وجزم الآخر بنفيه = لَقُدِّمَ المثبتُ على النافي
(1)
.
وقد نقل أبو محمد بن حزم في كتاب (الإجماع)
(2)
الأقوال الثلاثة، ولم يُسَمِّ قائلَ هذا ولا هذا ولا هذا، والمجيب أجاب بجواب مختصر على البديهة لمن طلب منه الجواب، فكتب ما تيسر كتابته إذ ذاك، وَسَمَّى ما تيسرت تسميته، ولم يكن ذلك مصنفًا تذكر فيه الأقوال وقائلوها والأسانيد إليهم وذكر من نقل ذلك عنهم، بل ذلك مذكور في المصنفات في هذه المسألة، وإن لم يكن ذلك مذكورًا في جواب ذلك الاستفتاء الذي يسميه
(1)
أصول الفقه وابن تيمية (1/ 195).
(2)
(ص 301).
المعترض تصنيفًا.
بل لو قُدِّرَ أَنَّ المجيبَ لم يذكر النزاع في الجواب أصلًا؛ فقوله: بأن الطلاق فيه نزاعٌ جزمٌ منه بالنزاع، وقول المعترض: من أينَ له؟ وهو لم يذكر ذلك في الجواب؛ كلامٌ غير مستقيم، فإنَّ المجيبَ لا يستفيد العلم بذلك من كلامه في هذا الجواب، فإذا لم يكن ذلك في هذا الجواب يقال له: من أين له ذلك؟ وهل [232/ ب] يقول عاقل إنَّ المواضع التي يستفاد منها علم ذلك هو نفس هذا الجواب، والعالم إذا ذكر شيئًا في موضعٍ ولم يذكره في موضعٍ آخر؛ هل يقال: من أين له؟ وهو لم يذكره في ذلك الموضع.
والجواب المختصر إذا قيل فيه: وكان الطلاق فيه نزاعٌ= كفى، ولم يحتج في هذا المقام إلى إثبات النزاع، فإنه في مقام الاعتراض على من احتج على الصحابة، فالمحتجُّ عليه أَنْ يثبت إجماعهم.
فإذا قيل: لا نسلم الحكم في الأصل كان عليه أن يثبته بنص أو إجماع الصحابة، ولكن المجيب بَيَّنَ سند منعه لئلا يُظَنَّ أنه منع منعًا لم يَسبقه إليه أحد. فقال: الصحابة لا يُسَلِّمُونَ الحكم في الطلاق، فإنَّ فيه نزاعًا محكيًا، فلا تقوم حُجةُ المحتجِّ حتى يُثْبِتَ الأصلَ بنصٍّ أو إجماع صحابي بخلاف ما لم يُذْكَر فيه نزاع أصلًا، فإنه قد يظن أن المسألة ما زالت إجماعية.
الوجه الخامس: قوله: (وإثبات الأولوية لا يُسَوِّغُ النقل لو سلمت)؛ عنه جوابان:
أحدهما: أَنَّ الأولوية ذكرت هنا لدفع حجة المحتج على الصحابة، فإنه احتج عليهم بقياس الحلف بالعتق على الحلف بالطلاق. فقيل له: الطلاق
فيه نزاع، والصحابة رضي الله عنهم إذا لم يثبتوا العتق المحلوف به فألا يثبتوا الطلاق المحلوف به بطريق الأولى والأحرى، فلا يُسَلِّمون لك الحكم في الطلاق = فهذا تقرير لمنعهم الحكم في الطلاق، وإظهار علمهم وفضلهم، وأنهم أَجَلُّ قَدْرًا من أن يخفى عليهم فساد هذا الفرق الذي لا يخفى على صبيان الفقهاء، فيسلمون لك الطلاق وينفون العتق، بل هم إذا لم يوقعوا العتق مع كونه قربة فأولى ألا يوقعوا الطلاق، بل يمنعونك الحكم فيه فلا يصح قياسك الذي احتججت به عليهم.
وإذا لم يكن للصحابة في الطلاق كلام أصلًا، ولا خطر على قلوبهم ذكره، وألزمهم القياس أن يوقعوا العتق كما يقع الطلاق = لم يجز أن نقول إنهم يوقعون الطلاق مع أنه أولى بألا يقع من العتق وفيه النزاع، بل جَعْلُهُم يعتقدون الطلاق والحالة هذه، وجعلهم قائلين بالفرق الفاسد = كذبٌ عليهم وظلمٌ لهم.
وأَمَّا [233/ أ] إذا قيل هم يقولون ذلك بطريق الأولى؛ فالمراد به: أَنَّ هذا لازمُ قولهم، وهو لازمٌ يقتضي صحة قولهم واستقامته، وأما عكسه فيقتضي فساد قولهم وتناقضه.
ولازم المذهب سواء كان مذهبًا أو لم يكن، إذا كان يدل على صحة المذهب واستقامته = لم يكن في إلزام القائل به طعنٌ عليه ولا على مذهبه، بل فيه نصره ونصر قوله، بخلاف اللازم الذي يقتضي فساد قوله وتناقضه.
وإذا قال العالم قولًا له لازم يقتضي استقامة قوله وسداده. قال المناظر عنه لمن يلزمه بذلك القول: هو يَلتزمه؛ وذلك لا يضره
(1)
.
(1)
انظر ما تقدم (ص 514 - 515).
فلو لم يكن الطلاق أولى بألا يقع من العتق، وكان الصحابة قد قالوا في الحلف بالعتق لا يلزم = لم يجز أن يقول هم يفرقون بينه وبين الطلاق فيكون قولهم فاسدًا، بل يقول: إذا قالوا بذلك في العتق أمكنهم طرد ذلك في الطلاق ولم يتناقض قولهم، وكان هذا جوابًا صحيحًا عنهم وإن لم يعرف قولهم.
الثاني: أَنْ يقال: لا نُسَلِّم أَنَّ المذاهب لا تُعرف بالقياس، بل مذاهب المجتهدين تُعرف بما يدل عليها من كلامهم من عموم وتنبيه خطاب ومفهوم موافقة ومفهوم مخالفة ومن تعليل وقياس أولى؛ كما يُعرف بذلك حكم صاحب الشرع، بل كما يُعرف بذلك مراد سائر العلماء في كتبهم، فإذا عرف قول العالم في قضيةٍ عُلِمَ قوله فيما هو أولى بذلك الحكم
(1)
.
ثم نقول: إِنْ كانت أقوال العلماء لا تنقل بما يدل على مرادهم من قياس أولى وتعليل وغير ذلك بل بالنص الخاص = لم يجز أن ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين أنه قال: إِنَّ كلَّ حالف بالطلاق يلزمه الطلاق إذا حنث، ولا كُلَّ مَنْ عَلَّقَ الطلاق بصفة يقع به إذا وجدت الصفة، فإنَّ هذا اللفظ العام في ذلك لم ينقل عن أَحَدٍ من الصحابة والتابعين، وقد تقدم ما استقصاه المعترض من أقوالهم، وما جمع في ذلك من أقوالٍ بعضها يدل على مراده وبعضها لا يدل، ولم ينقل في ذلك قولًا عامًّا عن الصحابة والتابعين، وإنما نَقَلَ أقوالًا خاصة في قضايا خاصة؛ فإنْ [233/ ب] كانت المذاهب لا تُنقل بالقياس فنقله ونقل غيره لهذا القول عن أحدٍ من السلف كذبٌ عليهم، وإذا كان النقل عن بعضهم ولو أنه واحدٌ كذبًا، فكيف بنقلٍ عن كل واحد واحد
(1)
انظر ما تقدم (ص 85).
منهم حتى ينقل إجماعهم على ذلك؟!
وهذا المعترض قد نقل من الأقوال بالقياس الفاسد ما تقدم التنبيه على بعضه، وهو يمنع نقلها بالقياس الصحيح! مع أَنَّ المجيب لم ينقلها، وإنما ذكر أَنَّ أصحابها أجل قدرًا من أن يخفى عليهم جواب الطاعن عليهم الذي ينسبهم إلى الفرق الفاسد بين العتاق والطلاق، وأنهم أجل قدرًا من أَنْ يخفى عليهم أولوية الطلاق بعدم الوقوع ــ وحينئذٍ ــ فيمكنهم مَنْعُ الحكمِ في الطلاق، فيدفع طعن الطاعن عليهم وإبطاله لمذهبهم، والقائلون بهذا أجل قدرًا وأكثر عددًا من القائلين بلزوم العتق من الصحابة والتابعين.
* * * *
فصلٌ
قال المعترضُ:
(قال المجيب: وأبو ثور لم يسلم الطلاق، لكن قال: إِنْ كان فيه إجماع فالإجماع أولى ما اتُّبِعَ، وإلا فالقياس أنه كالعتاق، وقد علم أنه ليس فيه إجماع.
وأما ما ذكره من [الزيادة في] حديث أبي رافع وأنهم قالوا: أَعتقي جاريتك؛ فهذا غلطٌ، فإنَّ هذا الحديث لم يذكر أحد فيه أنهم قالوا: أَعتقي جاريتك. وقد رواه أحمد والجوزجاني والأثرم وابن أبي شيبة وحرب الكرماني وغير واحد من المصنفين
(1)
.
قال المعترض
(2)
: (وأبو ثور لم يُسَلِّم الطلاق).
(1)
ترك المجيب باقي كلامه الذي نقله المعترض، وسأنقله إتمامًا للفائدة: (فلم يذكروا ذلك؛ وكلام أحمد في عامة أجوبته يُبيِّن أنه لم يذكر واحدٌ منهم ذلك، وإنما أجاب بكون الحلف بعتق المملوك إنما ذكره التيمي، وأبو محمد يَنقل ذلك من جامع الخلال، والخلال ذكر ذلك في ضمن مسألة أبي طالب ــ كما بيَّنَّاه ــ، وذلك غلط على أحمد، وأبو طالب له ــ أحيانًا ــ غلطات في فهم ما يرويه؛ هذا منها.
وأما ما نقله عن أحمد في أنَّ الاستثناء لا يكون إلا في اليمين المكفَّرة؛ فهذا نقَلَهُ عن أحمد غيرُ واحد؛ مع أنَّ أبا طالبٍ ثقة، والغالب على روايته الصحة، ولكن إنما غلط في اللفظ. وأما ما نقَلَهُ في الاستثناء فيما يكفَّر فلم يَغلط فيه، بل نقَلَهُ كما نَقَلَهُ غيرُهُ).
انظر ما تقدم في (ص 272 وما بعدها).
(2)
كذا في الأصل، حيث بدأ المعترض في مناقشة كلام المجيب جملة جملة، فنقل الجملة الأولى وبدأ يناقشها.
قلنا: قد نقل ابن المنذر عنه كما تقدم عند حكايته الإجماع، ونقله عنه صريحًا هناك، والمثبت مقدم على النافي.
وأبو ثور نفسه نقل الإجماع ــ كما تقدم ــ من نقل محمد بن نصر عنه)
(1)
.
والجواب:
أَنَّ المرادَ دفعُ احتجاجِ من احتج على أبي ثور ــ رحمة الله عليه ــ بقياسِ العتاق على الطلاق، وأبو ثور لم يُسَلِّم أَنَّ الكتاب أو السنة أو القياس يدل على وقوع الطلاق، ولم يُسَلِّم أَنَّ دلالةَ القرآن على تكفيرِ أيمانِ المسلمين ينفي تكفير الطلاق، ولم يُسَلِّم أَنَّ في الطلاق معنًى يوجبُ وقوعَهُ بخلافِ العتق؛ فمن احتج على أبي ثور بقياس العتق على الطلاق وطالبه بالفرق كان [234/ أ] مخصومًا معه، فإنه لم يقل: إني رأيت في الطلاق وصفًا يختص به يقتضي الوقوع، ولا قال: رأيت في العتق معنًى ينفي الوقوع يختص به دون الطلاق = حتى يحتج عليه بالقياس، فإنَّ وقوعَ الطلاق ليس هو عنده مقتضى القياس، بل مقتضى القياس وظاهر القرآن ألا يقع وهو مقتضى الدليل عنده، وإنما تركه للمعارض الذي ظنه معارضًا؛ وهو ظنه الإجماع على نفي تكفير الطلاق = فصار هذا عنده موضع استحسان على خلاف الأصل والدليل والقياس، كما يفعل ذلك كثيرٌ من العلماء في مثل ذلك.
وإذا كان أبو ثور لم يفرق إلا لما ظنه من الإجماع ولو علم النزاع لم يفرق = عُلِمَ أَنَّ قولَه في نفس الأمر هو التسوية بينهما لا التفريق؛ كالأقوال
(1)
«التحقيق» (46/ ب)، وما بين المعقوفتين منه.
المعلَّقة للعلماء إذا قال الإمام: قد روي في ذلك حديث فإنْ كان صحيحًا قلت به، أو إذا قال
(1)
: هذا قولي إلا أن يكون في المسألة إجماع، أو إلا أَنْ يصح الحديث المخالف له، وإنما قلت بذلك لأجل هذا الحديث لا لمعنى آخر؛ فإنْ كان ضعيفًا فلا أقول به ونحو ذلك
(2)
.
فإذا عُلِمَ أنه لم يَعدل عنه علم أنه في نفس الأمر لا يعدل عنه، وحينئذٍ فليس لأحدٍ أَنْ يحتجَّ عليه بالطلاق؛ فإنَّ جوابه له: أَنَّ الطلاق إما أَنْ يكون فيه إجماع وإما ألا يكون؛ فإنْ كان فيه إجماع فهو عذري في الفرق، وإنْ لم يكن فيه إجماع لم أُسَلِّمْ الحكم في الأصل وَسَوَّيتُ بينهما.
فهذا بيان لجوابه في نفس الأمر على قوله، وَإِنْ كان هو لم يعلم النزاع ليجيب بالمنع، وقد تقدم لفظ أبي ثور أنه قولٌ مُعَلَّق لا مُطْلَق
(3)
.
قال أبو ثور: (مَنْ حلف بالعتق فعليه كفارة يمين ولا عتق عليه، وذلك أَنَّ الله ــ تعالى ــ أوجبَ في كتابِهِ كفارةَ اليمين على كل حالف، فقال تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] يعني: فحنثتم).
قال أبو ثور ــ رحمه الله تعالى ــ: (وَكُلُّ يمينٍ حَلَفَ بها الإنسان فحنث، فعليه الكفارة على ظاهر الكتاب، إلا أَنْ تجتمع الأمة على أنه لا كفارة عليه في شيء).
(1)
كتبها الناسخ في الهامش وفوقها حرف (ظ)، وفي الأصل:(وقيل) وفوقها حرف (خ).
(2)
انظر (ص 607).
(3)
انظر ما تقدم (ص 7).
قال: (ولم يجتمعوا على ذلك إلا في الطلاق، فأسقطنا عن الحالف بالطلاق الكفارة وألزمناه الطلاق للإجماع، وجعلنا في العتق الكفارة لأنَّ الأمة لم تجتمع على ألا كفارة فيه)
(1)
[234/ ب].
فهذا أبو ثور ــ رحمه الله تعالى ــ يُصَرِّحُ بأنَّ كل يمين حَلَفَ بها الإنسان فعليه الكفارة على ظاهر الكتاب إلا أَنْ تُجْمِع الأمة على أَلا كفارة فيه، فأثبتَ الكفارة في كل يمين إلا إذا كان إجماعٌ على نفي الكفارة، وَظَنَّ أَنَّ في الطلاق إجماعًا على نفي الكفارة فيه، فإذا قُدِّرَ انتفاءُ هذا الإجماع: فأيُّ القولين هو قوله؟! قوله: إِنَّ كل يمين يحلف بها الإنسان فعليه الكفارة على ظاهر الكتاب إلا أن تجمع الأمة على ألا كفارة فيه؛ فإذا كان حلف لم تجتمع الأمة على ألا كفارة فيه = كان قولَ أبي ثور ــ رحمه الله تعالى ــ فيه إنَّ فيه الكفارة بهذه العبارة الصريحة.
وقوله: ولم يجتمعوا إلا في الطلاق إثباتٌ لإجماعهم في الطلاق، والإجماع عنده معناه: عدم العلم بالنزاع، فإذا قُدِّرَ أَنَّ ثَمَّ نزاعًا لم يعلمه = كان الإجماع منتفيًا قطعًا، وكان هذا مما أثبت فيه الكفارة لا مما نفى فيه الكفارة، فإنه أثبتَ الكفارةَ إلا على تقدير شرطٍ وذاكَ منتفٍ، ونفاها فيه على تقدير ثبوته وليس بثابت؛ فَعُلِمَ أنه لا ينفيها في نفس الأمر.
ولو قال: عبدي حر إلا أنْ تكون الأمة قد اجتمعت على عدم تكفير الحلف ــ وَظَنَّ أنها أجمعت ــ، ثم تبين بعد موته أنه لا إجماع = حُكِمَ بعتق العبد لوجود الموجِب لعتقه وانتفاء عدم شرط العتق.
(1)
اختلاف الفقهاء للمروزي (ص 492)، وتقدم في (ص 166).
فقول المجيب: أبو ثور لم يُسَلِّم الطلاق، لكن قال: إِنْ كانَ فيه إجماع؛ فالإجماعُ أولى ما اتبع، وإلا فالقياس أنه كالعتق= جوابٌ عن أبي ثور لمن احتج عليه بقياس العتق على الطلاق، فإنَّ أبا ثور لم يسلم الحكم في الطلاق ابتداءً، بل قال: كل يمين يَحلف بها الإنسان فعليه الكفارة على ظاهر الكتاب إلا أَنْ تجتمع الأمة على خلاف ذلك؛ فكان مقتضى ظاهر الكتاب وهو مقتضى القياس عنده: تكفير الحلف بالطلاق كتكفير سائر الأيمان، وهو قد أخبر أنه يقول بذلك إلا أَنْ يكون ثَمَّ إجماع، ثم ظَنَّ الإجماع في الطلاق فقال بنفي تكفيره لظن الإجماع، لا لأنه عنده مقتضى دلالةِ النص والقياس، بل لأنَّ الإجماعَ عنده أولى بالاتباع من الظاهر والقياس، فإذا عُلِمَ أنه [235/أ] ليس ثَمَّ إجماع منع الحكم في الطلاق على أصله
(1)
.
فلو قال الشافعي أو أحمد بن حنبل أو غيرهما مثل هذا، فقال: مقتضى الدليل عندي كذا وأنا أقول به إلا أَنْ يكون ثَمَّ إجماعٌ على خلافه وَظَنَّ الإجماع، ثم وَجَدَ أصحابه النزاع لقالوا: قوله المعلَّق هو القول الذي قاله وعلقه على عدم الإجماع، كالقول الذي يعلقه على صحة الحديث وأولى.
وأما قوله: وأبو ثور نفسه نقل الإجماع؛ فقد علمنا ذلك، لكنْ مراده بذلك: أني لا أعلم نزاعًا، وأني أظن عدم النزاع؛ هكذا قال عن نفسه فيما يحكيه من الإجماع، ليس نقله للإجماع كنقله لما سمعه من أقوال العلماء منهم أو ممن نقل عنهم، بل هذا أمرٌ اجتهادي مستنده الاستقراء وتتبع الأقوال، فلمَّا لم يجد فيما بلغه من أقوال العلماء من قال بالتكفير = ظَنَّ أنه لا قائل به.
(1)
غير واضحة في الأصل.
كما يقول أهل الحديث: لم يرو هذا غيرُ فلان، وكما يقول بعض أتباع الأئمة: لم يذكر هذا القول أو هذا الوجه إلا فلان؛ فهذا كله مستنده فيه الاستقراء والتتبع، وهو قولٌ باجتهاد واستقراء يقع فيه الصواب والخطأ، ليس هو من باب نقل الأحاديث وأقوال العلماء التي تنقل بالسماع أو بما يوجد في الكتب عنهم.
ولهذا يُفَرَّقُ في الشهادة واليمين بين الإثبات والنفي؛ فإذا حَلَفَ على الإثبات حَلَفَ على البَتِّ، وإذا حَلَفَ على النفي لفعل غيره أو الدعوى على غيره لم يحلف إلا على نفي العلم.
إذا قال: أبوك غصبني أو اقترض مني أو اشترى مني، وكذلك الشاهد إذا شَهِدَ بحصر الورثة قال: ليس له وارث غيره، مع أَنَّ العلم بانتفاء هذا يحصل كثيرًا، أو قال: إنه مفلس ليس له مال، أو إنه رشيد لا يُضَيِّعُ مالَهُ؛ فمثل هذه الشهادات التي تتضمن نفيًا وتُعلم بالاجتهاد إنما تُقبل من أهل الخبرة بذلك، فتقبل كما تقبل شهادات الاجتهاد؛ ولهذا قد يَمنع من مثل هذه الشهادات من [يطلب اليقين]
(1)
بالشهادة.
ولهذا إذا كانت هذه الشهادة مما تُعلم أسبابها = لم تقبل إلا مُفَسَّرةَ السببِ كالجرح والإخبار [عَمَّا يُعْلَم بالسمع والرؤية]
(2)
والشهادة باستحقاق القَوَد ونحو ذلك؛ فالخبر الذي مستنده اجتهاد الشاهد هو من جنس القيافة [235/ ب] والخرص والتقويم، ومن جنس الفتيا والحكم بالاجتهاد؛ ليست مثل الخبر عن الأمور المعلومة بالسمع والرؤية.
(1)
بياض مقدار كلمة تقديره ما أثبت.
(2)
بياض مقدار كلمتين تقديره ما أثبت.
فنقلُ أبي ثور للإجماع الذي مستنده عنده استقراؤه لأقوال العلماء هو من الخبر عن اجتهاده واستقرائه = ليس خبرًا كأخبار المحدثين وشهادة الشهود بالأمور المعلومة بسمع أو رؤية.
فإذا قال: كل يمين مكفرة إلا يمينًا فيها إجماع، وقال مع ذلك: هذه اليمين قد ظننت فيها إجماعًا، ثم تبين أنه لا إجماع فيها = كان قوله المعلَّق فيها هو التكفير.
* * * *
فصلٌ
قال المعترض:
(وقوله: (وقد عُلِمَ أنه ليس فيه إجماع).
قلنا: لم نَعلم؛ وهو لم يَنقله عن أحدٍ غير داود وابن حزم وغيرهما من المتأخرين)
(1)
.
يقال له: العلمُ أمرٌ إضافي؛ فمَن عَلِمَ الشيءَ ثَبَتَ عِلْمُهُ به، ومَن لم يعلمه لم يثبت علمه به، وقد عَلِمَ غيرُ واحدٍ من الناسِ النزاعَ في الطلاق.
وقد رأى المجيب ممن علم النزاع في الطلاق عددًا كثيرًا من الثقات يخبرون به عن غيره من العلماء القائلين به المفتين به، بل
(2)
رآه في كتب متعددة
(3)
ممن يقوله ذاكرًا وآثرًا.
هذا يقول: رأيته في الكتاب الفلاني.
وهذا يقول: سمعتُ فلانًا يفتي به مَنْ حَلَفَ بالطلاق وحنث بكفارة يمين، وإذا كان معسرًا أفتاه بصيام ثلاثة أيام.
وهذا يقول: كان فلان وفلان من كبار أهل العلم والدين يُفتون بذلك، وهم من أفضل أهل بلادهم علمًا ودينًا.
(1)
«التحقيق» (46/ ب).
(2)
في الأصل: (لو)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(3)
في الأصل: (معددة)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
وهذا يقول: هذا مذهب فلانٍ ذَكَرَهُ في الكتاب الفلاني أو نَقَلَهُ عنه فلان.
فأما الذين يقولون من المتأخرين بأنَّ الطلاقَ المحلوفَ بِهِ لا يلزم ويفتون بذلك في الشرق والغرب= فعددٌ كثيرٌ لا يمكنا إحصاؤهم، وقد جُمِعَ ذِكْرُ طائفةٍ منهم في غير هذا الموضع
(1)
.
وأما مَنْ نُقِلَ ذلك عنه من السلف؛ فهو منقول عن طاووس ومن وافقه، وعن أبي جعفر محمد بن علي وأبي عبد الله جعفر بن محمد ومن اتبعهما ــ وهؤلاء قبل أبي ثور ــ، وهو قول أبي عبد الرحمن الشافعي ــ وهو من أقران
(1)
أشار السبكي رحمه الله في الورقات التي لَخَّصَهَا من كتابه «التحقيق» (5/ أ) إلى بعضهم فقال: (وقال في تصنيفٍ آخر أنه ما زال يُفتى بذلك ويُقضى به في بلاد الحجاز والعراق والشام ومصر والمغرب إلى اليوم، ونَسَبَهُ في تصنيف آخر إلى ثلاثةٍ من المتأخرين: ابن عبد السلام، وابن علوان، وابن جوسق).
وقد كتب ابن رشيِّق في آخر رسالة (الاجتماع والافتراق في مسائل الأيمان والطلاق) ما يلي: (وقد حكى جماعة من الصلحاء والعدول في هذه الأيام أن بالمغرب جماعة من المفتين فيهم مَن يُعد من المجتهدين من كثرة علومه وتفننه، وفيهم من يشتهر صلاحُه وزهده= أنهم يفتون الحالف بالطلاق إذا حنث بكفارة يمين، فيهم مَن مات ومن هو حيّ إلى الآن، منهم الشيخ أبو يحيى الهيكوري من أهل مليانة، وأبو علي بن علوان من أهل تونس، وخطيب تونس أبو موسى، وبعض فقهاء سبتة، والشيخ الإمام أبو عبدالله بن القطان من أهل مرّاكش، والشريف أحد المفتين بها أيضًا، والشيخ أبو علي الكفيف من أهل آسف، والشيخ عمر بن عيسى الذرعي أحد المفتين بوادي سِجِلْماسة، والفقيه عبدالعزيز أبو فارس في ظاهر آسف، وجماعة لم تبلغنا فتياهم من طريق صحيح، والله أعلم).
أبي ثور ــ، وهو قول داود وابن حزم ومن اتبعهما على قولهما، وكلٌّ من هؤلاء قد اتبعه على قوله عددٌ كثير.
فإنَّ [236/ أ] الأقوالَ في الطلاق المعلَّق بالصفة والمحلوف به أربعة أقوالٍ، كُلُّ قولٍ قالَهُ عالمٌ متبوع، واتبعه عليه طائفة.
منهم مَنْ قال: الطلاق المعلَّق بالصفة والمحلوف به لا يقع بحال؛ وهذا قول طائفة من أهل السُنة والشيعة متقدمين من زمن أبي ثور ومتأخرين بعده.
ومنهم مَنْ قال: بل المحلوف والمعلق تعليقًا يقصد به اليمين لا يقع، وأما المعلَّق الذي يقصد إيقاعه فيقع؛ وهذا أَصَحُّ الأقوال، وهو قول طاووس وغيره من السلف، وهو معنى ما يُروى عن أبي جعفر وابنه جعفر وغيرهما، وعليه تدل أقوال الصحابة، وهو قول أكثر أصحاب داود، وكلٌّ مِنْ هؤلاء له أتباع كثيرون جدًا.
ثم مِنْ هؤلاء [مَنْ]
(1)
يقول: إِنَّ فيه كفارة يمين؛ كطاووس وغيره، وهو معنى قول الصحابة رضي الله عنهم وهو أصح الأقوال، ومنهم مَنْ يقول: لا كفارة فيه كداود وابن حزم.
وقد ذكر ابن حزم في كتاب (الإجماع)
(2)
الأقوالَ الثلاثة في الحلف بالطلاق: قولُ مَنْ يقول هو طلاق فيلزم، وقولُ مَنْ يقول هو يمين فلا يلزم ولا كفارة فيه، وقول من يقول هو يمين فلا يلزم ولكن فيه كفارة.
(1)
إضافة ليست في الأصل.
(2)
(ص 129).
فصلٌ
وأما قوله: (وهو لم ينقله إلا عن داود وابن حزم وغيرهما من المتأخرين)
(1)
.
فيقال: ليس الأمر كذلك؛ بل قد قال
(2)
: (هذا القول مأثور عن بعض السلف، وهو قول داود وابن حزم وغيرهما من المتأخرين).
وليس مراده ببعض السلف ما توهمه المعترض حيث قال: (قوله: عن بعض السلف سبقه إليه ابن حزم، فقال: إنه صح عن طائفة من السلف. ورواه عن علي وشريح وعطاء وطاووس والحكم بن عتيبة
(3)
بألفاظ ليس فيها شيء صريح)
(4)
، فإنَّ ظَنَّهُ أَنَّ مرادَهُ بذلك هم هؤلاء الذين ذكرهم ابن حزم رجم بالغيب، وهو ظن خطأ؛ فإنَّ المجيب لا يوافق ابن حزم على نقل هذا القول عن هؤلاء، بل قد ذكر في كلامه أن ما ذكره ابن حزم عن علي وشريح وغيرهما يدل على نقيض مقصوده.
وأيضًا؛ فقول طاووس ليس هو أنه لا يلزم ولا كفارة عليه، بل طاووس يقول: لا يقع [236/ ب] الطلاق المحلوف، بل هو يمين منعقدة، بل هو يمين من أيمان المسلمين المنعقدة المكفرة؛ فكيف نقل المجيب عنه أنه كان يقول لا يقع ولا كفارة فيه؟!
بل المجيب يقول: إِنَّ هذا القول لم يُنقل عن أحد من الصحابة، ولكن قال: هو مأثور ــ أي: منقول ــ عن بعض السلف؛ كأبي جعفر وجعفر بن
(1)
«التحقيق» (46/ب).
(2)
أي في الفتوى المعترض عليها (33/ 187).
(3)
في الأصل: (عتبة)، والصواب ما أثبتُّ.
(4)
«التحقيق» (3/أ- ب).
محمد وغيرهما، فإنه وُجِدَ عنهم نقولٌ بأسانيد متصلة أنهم كانوا يفتون في الحلف بالطلاق أنه لا يلزم، وَنَقَلَ ذلك عنهم غير واحد من المنتحلين لمذاهبهم المقلدين لهم فيها في الحلف والتعليق مطلقًا أنه لا يقع طلاق محلوف به ولا معلق؛ كقول أبي عبد الرحمن الشافعي وابن حزم.
لكن المجيب لم يجد ذلك مسندًا إلا في تعليق يقصد به اليمين، ووجد بعض الأجوبة لم تتعرض لنفي الكفارة، وبعضها نفى القول بوجوب شيء على الحالف مطلقًا؛ فلهذا قال: هو مأثور عن بعض السلف؛ فإنه مأثور عن هؤلاء، وعن أبي عبد الرحمن، وكان في زمن الشافعي وأحمد وأبي ثور وكُلُّ هؤلاء قبل داود، فكان قول داود وابن حزم مأثورًا عن بعض السلف غير الذين سماهم ابن حزم.
والمجيب ذكر داود وابن حزم وبعض المتأخرين، وداود وابن حزم يقولان إنه لا يلزم طلاق ولا كفارة عليه، وذكر أَنَّ هذا قول بعض السلف، وقد تقدم أَنَّ هذا ذُكِرَ في جوابِ سائلٍ مستفتٍ لم يُذكر في مصنف يذكر فيه الأقوال وأسماء أصحابها ومن نقل ذلك عنهم، ويستوعب الكلام في ذلك نقلًا للمذاهب واستدلالًا عليها= وحينئذٍ؛ فَعَدَمُ نَقْلِ ذلك في الجواب لا ينفي لا علمه ولا علم غيره بالنزاع من طرق أخرى.
وإذا كان بعض الناس لم يعلم النزاع= لم يكن عَدَمُ علمه نافيًا لعلم من علمه كأمثال ذلك؛ فكم من مسألة فيها نزاع يعلمه بعض الناس ولا يعلمه آخرون.
* * * *
فصلٌ
قال: (فأما غيرهما فيحتاج أَنْ يبينه حتى يُنظر فيه؛ وأما داود وابن حزم فإنَّ جماعة من أئمتنا قالوا: لا مبالاة [237/ أ] بخلافهم)
(1)
.
والجواب من وجوه:
أحدها: أَنَّ النزاع في وقوع الطلاق المحلوف به ليس مختصًا بأهل الظاهر دون القائلين بالقياس، ولا مختصًّا بالشيعة
(2)
دون
(3)
أهل السنة، ولا مختصًّا بالخلف دون السلف، ولا بالسلف دون الخلف، بل هو موجود في أهل الظاهر وفي أهل القياس.
فأبو عبد الرحمن الشافعي من أعظم الناس قولًا بالقياس، وأنصرهم لأصول الشافعي. قال أبو عمر بن عبد البر
(4)
فيه: كان (يُعْرَفُ بالشافعي لتحققه به، وَذَبِّهِ عَنْ مذهبِهِ، صَحِبَهُ ببغداد، وكان يُنَاظِرُ على مذهبه، وكان من أَجِلَّةِ العلماء وحُذَّاقِ المتكلمين العارفين بالإجماع والاختلاف، وكان رفيعًا
(1)
«التحقيق» (46/ ب).
(2)
في الأصل زيادة: (هل الظاهر)، وقام الناسخ بشطبها.
(3)
في الأصل زيادة: (القائلين بها)، وقام الناسخ بشطبها.
(4)
في الانتقاء في فضائل الأئمة الفقهاء (ص 108)، والمترجم فيه اسمه: أحمد بن محمد بن يحيى الأشعري، والذي تقدمت ترجمته: أحمد بن يحيى بن عبد العزيز؛ فهل هما اثنان؟ لم أجد ما يشير إلى شيءٍ من ذلك، ولا تفسيرًا لكلام ابن عبد البر في مقابل كلام غيره.
انظر ما تقدم (ص 380).
عند السلطان وذوي الأقدار، عالمًا بالحديث والأثر، متبعًا
(1)
في العلم مع تمكن النظر والجدل والاقتدار على الكلام، وهو أول مَنْ خَلَّفَهُ الشافعي بالعراق في الذب عن أصوله ومذهبه والنصرة لقوله حتى عُرِفَ به، وهو أحد العشرة الذين اختارهم المأمون لمجلسه والكلام بحضرته وسماهم إخوته ورسمهم في الديوان بذلك، وله مصنفات جليلة، توفي ببغداد).
وهذا حال هذا الرجل ببغداد في ذلك الوقت، وهي أعظم مدائن الإسلام إذ ذاك علمًا، حتى قال الشافعي رضي الله عنه ليونس:(هل رأيت بغداد؟ قال: لا. قال: ما رأيت الدنيا)
(2)
.
وهذا معروفٌ عن طاووس ومن وافقه، وهو من أجل التابعين، وأجلِّ أصحاب ابن عباس رضي الله عنهما حتى قال خُصَيف:(هو أعلمهم بالحلال والحرام)
(3)
.
وهو ــ أيضًا ــ مأثورٌ عن أبي جعفر محمد وعن ابنه جعفر وغيرهما من فقهاء أهل البيت رضي الله عنهم، وهؤلاء من أئمة الإسلام باتفاق أهل السنة والشيعة، لا يختلف اثنان من علماء المسلمين بأنهم مِنْ أعظم مَنْ يُعْتَدُّ بقولِهِ في مسائل الإجماع والنزاع، لكنَّ الرافضة غلت فيهم حتى جعلتهم معصومين، وجعلوا قولهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ومعلومٌ أَنَّ غلو النصارى في المسيح ــ صلى الله على نبينا وعليه وسلم ــ لا يوجبُ نقصَ قَدْرِهِ، وكذلك الغالية في علي بن
(1)
في الانتقاء: (مُتَّسِعًا).
(2)
أخرج القصة: الخطيب في تاريخ بغداد (1/ 292) وغيره.
(3)
التاريخ الكبير لابن أبي خيثمة (السفر الثالث)(1/ 306).
أبي طالب وأئمة أهل البيت رضي الله عنهم لا يوجب نَقْصَ قدرهم.
وعلى هذا القول تدل أقوال الصحابة، وإِنْ كان ليس عنهم بصريح لا بالنفي ولا بالإثبات لعدم شهرة هذه المسائل في زمانهم، [237/ ب] وإنما اشتهر الحلف بالطلاق لما حَلَّفَ الحجاج الناس بذلك، وأدخلها في أيمان البيعة، وكان ذلك لَمَّا تَأَمَّر على العراق بعد موت ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم وغيرهما من الصحابة
(1)
.
وبذلك يفتي من المتأخرين مَنْ لا يُحصى عدده
(2)
.
وإذا كان كذلك؛ فقول القائل: (أما داود وابن حزم فإنَّ جماعة من أئمتنا قالوا: لا مبالاة بخلافهم) لو صَحَّ قولُ هؤلاء لم يقدح؛ فإنَّ هذا لا يمكن أن يقولوه فيمن ذكر من السلف، ولا يمكن أن يقولوا ذلك في أبي عبد الرحمن الشافعي، بل جمهور هؤلاء يَعتدون بخلاف جميع طوائف المسلمين حتى المعتزلة والشيعة وغيرهم، ومعلومٌ أَنَّ القولَ بعدمِ وقوعِ الطلاقِ المحلوفِ به يَقولُ به من أئمة هؤلاء من لا يحصى عدده لأنهم كثيرون.
والجواب الثاني: أَنْ يقال: الاعتبارُ في الأقوال بأدلتها لا بقائليها، فلا يُنظر إلى من قال، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه للحارث بن حِلِّزَة ــ لَمَّا قال له الحارث:(يا علي؛ أَتظنُّ أَنَّا نَظُنُّ أَنَّ طلحة والزبير كانا على باطلٍ وأنت على حقٍّ؟) ــ فقال: (يا حارثة؛ إنه ملبوسٌ عليك! اعرف الحقَّ
(1)
انظر ما تقدم (ص 25، 42 - 44).
(2)
انظر ما تقدم (ص 829).
تعرف أهله، إِنَّ الحق لا يُعرف بالرجال، وإنما الرجال يعرفون بالحق)
(1)
.
والأقوال التي رُدَّتْ على مَنْ ردت عليه من أهل البدع، وانخفضت بها أقدارهم= رُدَّتْ لمخالفتها الكتاب والسنة، لا لمجرد خلاف غيرهم لهم فيها.
أترانا نحتج على المعتزلة والرافضة بإجماع مَنْ سواهم من أهل السنة على خلافهم؟ وهل يحتج بهذا عاقل؟! أم يحتج بالكتاب والسنة وبإجماع السلف الذين اتفقنا نحن وهم على أَنَّ إجماعهم حجة، كما يحتج بإجماع الصحابة رضي الله عنهم على المعتزلة وبأقوال أهل البيت على الإمامية.
وقد كان أبو بكر بن داود إذا ناظر ابن سُريج فقال له: إجماع. يقول له: لعلك تُسَمِّي لي فلانًا وفلانًا، وقد طعن كثيرٌ من الناس في كثير من الأئمة، ولم يوجب ذلك منع الاعتداد بقوله
(2)
.
فكثيرٌ من الحنفية والمالكية طعنوا في الشافعي رضي الله عنه في نَسَبِهِ وعلمه وعدالته
(3)
، وقالوا: لا يعتد به في الإجماع، وذكروا لذلك شبهًا.
(1)
أخرجه البلاذري في أنساب الأشراف (3/ 990) ولفظ كلام علي ــ رضي الله عنه ــ: (يا حارِ؛ إنك ملبوسٌ عليك، إنَّ الحقَّ والباطل لا يُعرفان بأقدار الرجال؛ اعرف الحقَّ تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف مَنْ أتاه). وذكره قبل ذلك بلفظ قريبٍ منه في (3/ 961).
والأثر مشهور باللفظ الذي ذكره المجيب في كثيرٍ من الكتب؛ كالبيان والتبين للجاحظ (3/ 211)، وتلبيس إبليس لابن الجوزي (2/ 483) وغيرهما.
(2)
تاريخ بغداد (3/ 158)، تاريخ الإسلام (6/ 1026).
(3)
انظر في كلام بعض الأئمة في بعض ما تقدم (ص 626 - 627).
ومنهم مَنْ هو عظيمٌ عند المسلمين مثل القاضي إسماعيل بن إسحاق كان [238/ أ] يقول: لا يُعتد بخلاف الشافعي.
وأكثر أهل الحديث طعنوا في أبي حنيفة رضي الله عنه وأصحابه طعنًا مشهورًا امتلأت به الكتب، وبلغ الأمر بهم إلى أنهم لم يرووا عنهم في كتب الحديث شيئًا، فلا ذِكْرَ لهم في الصحيحين والسنن
(1)
.
وطعنَ كثيرٌ من أهل العراق في مالك رضي الله عنه وقالوا: كان ينبغي له أَنْ يسكت فلا يتكلم.
وكثيرٌ من أصحاب داود ــ رحمه الله تعالى ــ يُرَجِّحُ مَذْهَبَهُ على مذهب أبي حنيفة ومالك رضي الله عنهما وغيرهما، وقد ناظرني على ذلك طائفة منهم.
فإذا قال القائل: جماعة من أئمتنا قالوا: لا مبالاة بخلافهم.
قيل لهم: وهؤلاء وغيرهم يقولون: لا مبالاة بخلاف مَنْ ذكرتَهُ من أئمتكم، لا سيما وهؤلاء الذين قالوا هذا القول فيهم؛ ليس فيهم مجتهد.
وداود ــ رحمه الله تعالى ــ وأصحابُهُ أعلمُ بكثيرٍ من علوم الإسلام منهم؛ أعلم بالحديث وأقوال الصحابة رضي الله عنهم والتابعين والإجماع والاختلاف، وأولئك فيهم مِنْ قِلَّةِ العلمِ بالحديث والآثار ومذاهب فقهاء الأمصار ما يوجب لأجله أَنْ يُعَدُّوا في ذلك من غثاء العامة.
وقد ذكرهم أبو إسحاق الشيرازي ــ رحمة الله عليه ــ في طبقات
(1)
انظر: المصنف لابن أبي شيبة (20/ 53 وما بعدها)، كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد (1/ 80 وما بعدها)، وقد ألفت عدة كتب في بيان حال أبي حنيفة وأصحابه عند المحدثين ما بين مدافع عنه ومثبت لكلام أهل العلم.
الفقهاء، فقال بعد أَنْ ذكر المجتهدين
(1)
: (ثم انتهى الفقه بعد ذلك في جميع البلاد التي انتهى إليها الإسلام إلى الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد وداود، وانتشر الفقه عنهم في الآفاق، وقام بنصرة مذاهبهم أئمةٌ ينتسبونَ إليهم وينصرون أقوالهم، وهذا بعد أَنْ ذَكَرَ داود).
وقال
(2)
: (أَخَذَ العلم عن إسحاق بن راهويه وأبي ثور، وكان زاهدًا متقللًا، وانتهت إليه رئاسة العلم ببغداد. قال: وقيل: كان في مجلسه أربع مائة طيلسان أخضر).
قال
(3)
: (وانتقل فقهه إلى جماعة من أصحابه؛ فمنهم: ابنه أبو بكر، ومنهم: أبو بكر القاساني، ومنهم: إبراهيم بن محمد نفطويه، ومنهم: أبو الحسن بن المغلِّس أخذ العلم عن ابن داود، وهو إمام جليل في المذهب، له كتاب يُعْرَفُ بِـ (الموضح)
(4)
، وعنه انتشر علم داود في البلاد، وأخذ عن ابن المغلس أبو الحسن حيدرة بن عمر، وعنه أَخَذ البغداديون مذهب داود).
إلى أَنْ قال
(5)
: (ثم انتقل [238/ ب] إلى طبقة أخرى، فمنهم: قاضي القضاة أبو سعد
(6)
بشر بن الحسين ــ وكان إمامًا من أصحاب داود ــ،
(1)
(ص 97).
(2)
(ص 92).
(3)
(ص 175).
(4)
وهو كتاب قد وضعه على كتاب المزني، ونَقْلُ المجيب من طبقات الفقهاء فيه اختصار.
(5)
(ص 177).
(6)
في طبقات الفقهاء: (سعيد).
ومنهم: القاضي أبو العباس المقصودي
(1)
صاحب كتاب [النير]
(2)
).
إلى أَنْ قال
(3)
: (ثم انتقل إلى طبقة أخرى؛ فمنهم: القاضي أبو الحسن الخرزي
(4)
أخذ العلم عن بشر بن الحسين
(5)
، وكان نظارًا).
قال أبو إسحاق
(6)
: (سألت القاضي أبا عبد الله الصَّيْمَرِي ــ وكان إمام أصحاب أبي حنيفة في زمانه ــ فقلت له: هل رأيتَ أَنْظَرَ من الشيخ أبي حامد؟ فقال: ما رأيت أَنظرَ منه ومن أبي الحسن الداودي)
(7)
. وذكر عن أبي الحسين القدوري أنه قال: (أبو حامد عندي أفقه وأَنْظَر من الشافعي). وهذا القول وَإِنْ كان فيه مبالغة من أبي الحسين أُنْكِرَتْ عليه، فإنه يدل على براعة أبي حامد، وقد ذكر الصيمري أنه لم يَرَ أَنظرَ منه ومن الظاهري الداودي، والحنفي مذهبه في غاية المناقضة لمذهب الداودي، فهذا الثناء والمقارنة بأبي حامد دليلٌ على البراعةِ في النظر.
وذكر أبو إسحاق ناسًا آخرين مثل
(8)
: القاضي أبي الفرج الشيرازي.
(1)
في طبقات الفقهاء: (المنصوري).
(2)
بياض مقدار كلمة، والمثبت من طبقات الفقهاء.
(3)
(ص 178).
(4)
تحتمل في الأصل (الجزري)، وقد وقع اضطراب في بعض كتب التراجم هل هو (الجزري) أو (الخرزي)، والمثبت من طبقات الفقهاء، ولعله هو الصواب؛ والله أعلم.
(5)
في الأصل: (الحسن)، والمثبت من طبقات الفقهاء، وما تقدم قريبًا.
(6)
(ص 124).
(7)
الداودي هو: الخرزي.
(8)
(ص 179).
قال: (وكان إمامًا في مذهب داود، وعنه
(1)
أخذ فقهاء شيراز مذهب داود). قال: (وكنت أناظره وأنا صبي). وذكر غيره منهم علماء أكابر مثل: عبد الله بن محمد بن أخت داود الظاهري. ومنهم: المنذر بن سعيد البلوطي وغيرهم
(2)
.
وهؤلاء وَإِنْ كانت لهم أقوال شنيعة فيما يظنون أنه ظاهر الكلام؛ كمسألة صَبِّ البولِ في الإناء ثم صبه في الماء الدائم ونحو ذلك= فلكثيرٍ من أهل القياس من الأقيسة الشبهية والطردية ما هو أشنع وأقبح من هذا الظاهر، وفي أقوالهم من مخالفة النصوص الصحيحة والسنن الثابتة ما هو أكثر من مخالفة أهل الظاهر للقياس الجلي.
فصلٌ
وأما قوله: (والإنصاف أَنَّ خلافهم في الأمور النقلية التي مستندهم فيها الحديث أقوى في الغالب، وأما ما يستندون فيه إلى كونه لا دليل عليه وما أشبه ذلك من الأدلة التي يعتمدونها= فليس بالقوي؛ كهذا.
والمنقول [239/ أ] عن داود وقوع الطلاق إذا عُلِّقَ بالوقت)
(3)
.
فيقال: لا ريبَ أَنَّ كلامهم الذي يستندون فيه إلى محض الاستصحاب يخطئون فيه، وأما إذا استندوا إلى ما يَدَّعُونَهُ من الظاهر الذي ينفون فيه
(1)
في الأصل: (وعن)، وهو خطأ.
(2)
انظر: المدرسة الظاهرية بالمشرق والمغرب للدكتور أحمد بكير محمود. وطبقات أهل الظاهر للشيخ مازن بن عبد الرحمن البيروتي.
(3)
«التحقيق» (46/ ب).
الدلالات المعلومة؛ كجحد دلالة فحوى الخطاب فقولهم فيه خطأ قطعًا، كقولهم في النهي عن التأفيف أنه لا يدل على النهي عما هو أبلغ منه، وقولهم في النهي عن البول في الماء أنه لا يدل على النهي عن صب البول فيه من الإناء
(1)
،
وكذلك مخالفتهم للقياس الجلي مثل العلة المنصوصة، لكن هذا كله لهم فيه قولان مشهوران، لكن ابن حزم يختار نفي دلالة الفحوى وقياس العلة، فلهذا شَنُعَ غلوه في الظاهر.
ولكن قولهم في الطلاق ليس هو مما بنوه على ذلك؛ فإنَّ لهم في الطلاق قولان، أضعفهما: قول ابن حزم إنَّ الطلاق المعلق بالصفة لا يقع بحال، وهو قول أبي عبد الرحمن الشافعي، وقول شيوخ الإمامية
(2)
؛ وهذا القول ضعيفٌ، لكنْ مع ضعفه فلا يمكن الموقعين لكلِّ طلاقٍ معلق بالصفة أَنْ يقيموا حجة شرعية على صحة قولهم وفساد قول هؤلاء.
ولهذا لم يَقْدِر المعترض ــ مع اجتهاده ــ على ذكر حجة صحيحة يصحح بها هذا القول ويبطل قولهم، فإنَّ كلا القولين ضعيف مخالف لدلالة الكتاب والسنة وآثار الصحابة رضي الله عنهم والقياس الجلي.
وهؤلاء القائلون بوقوع المعلَّق ليس لهم ضابط شرعي دَلَّ عليه الكتاب والسنة في الفرق بين ما يعلق وما لا يعلق، ولهذا بَيَّنَّا أَنَّ هؤلاء مع ضعف قولهم لا يمكن هؤلاء إقامة حجة صحيحة عليهم.
(1)
مجموع الفتاوى (22/ 331 - 332)، الفتاوى الكبرى (2/ 161)(6/ 617)، الاستقامة (1/ 7)، الإخنائية (ص 420 وما بعدها).
وانظر آخر الفصل السابق.
(2)
قاعدة العقود (1/ 305).
وأما القول الثاني للظاهرية فهو الفرق بين التعليق الذي يقصد به الإيقاع والذي يقصد به اليمين، فهذا القول كالفرق الذي عليه الجمهور في تعليق النذر بين ما يقصد به النذر وما يقصد به اليمين، وهذا القول هو الذي يدل عليه أقوال الصحابة، وعليه يدل الكتاب والسنة والاعتبار، لكن هم لا يوجبون الكفارة في [239/ ب] هذه الأيمان كلها لأنها عندهم من الحلف بغير الله تعالى كالأيمان بالمخلوقات.
فقولهم في نفي وقوع الطلاق في غاية القوة، وقولهم في نفي التكفير قول يقول به بعض التابعين الذين يقولون في نذر اللجاج والغضب لا شيء عليه، وهو قول ابن حزم معهم، فليس في أقوالهم التي اعتددنا بخلافهم فيها ما انفردوا به عن غيرهم، ولا ما بنوه على أصولهم الضعيفة التي انفردوا بها.
وكذلك المعتزلة والخوارج والشيعة ــ قد ذكرنا في غير هذا الموضع اختلاف العلماء من أصحاب أحمد وغيره ــ هل يعتد بخلافهم؟ على قولين
(1)
؛ وَبَيَّنَّا أَنَّ كل قول انفرد به طائفة من هؤلاء عن أهل السُنة فإنه لا يكون إلا خطأ، وما وافقهم فيه بعض أهل السنة: فقد يكون قولهم فيه صوابًا؛ وحينئذٍ ــ فلا ريب ــ أنه يعتد بأقوالهم التي وافقهم فيها بعض أهل السنة لجواز أَنْ يكون ذلك القول هو الصواب، فإنَّ المقصودَ الأعظم بحكاية أقوال العلماء الاستدلال على القول الصواب منها، ولا يجوز أَنْ يهمل قول يحتمل أنه حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وعلى هذا؛ فهذه مسائل الحلف بالطلاق وتعليقه قد وافقوا في أقوالهم
(1)
انظر ما تقدم (ص 659).
فيها بعض أهل السُّنة، بل القول الذي وجدته مسندًا عن العلماء من ولد علي رضي الله عنهم كأبي جعفر محمد بن علي وابنه جعفر إنما هو في التعليق الذي يُقصد به اليمين أنه لا يلزم= لم أجد لهم قولًا مسندًا في كل تعليق، وكأن الذين نقلوا قولهم بالمعنى الذي فهموه لَمَّا وجدوه في تعليقٍ= جعلوه كذلك في كل تعليق، ولم يفرقوا بين ما يقصد به اليمين وما لا يقصد، كما أَنَّ مَنْ يحكي عن بعض الصحابة وكثير من التابعين أَنَّ الطلاق المحلوف به يقع= وَجَدَ قولهم في بعض التعليق فجعل كل تعليق كذلك، سواء قصد به اليمين أو لم يقصد.
فتبين أَنَّ الاعتداد في مثل هذه المسألة بخلاف أهل الظاهر الذي لم يستندوا فيه إلى أصولهم الضعيفة، وبخلاف الشيعة الذين وافقهم عليه بعض أهل السنة= هو اعتداد بخلافهم فيما يعتد فيه بخلاف المخالف باتفاق المسلمين، وَأَنَّ الاعتداد بخلافهم [240/ أ] في مثل ذلك جائز عند جماهير الأولين
(1)
.
فقول المعترض: (مثل ما يستندون فيه إلى أنه لا دليل عليه كهذا، فلا يعتد بخلافهم) ظَنٌّ منه أَنَّ مستندهم فيه أنه لا دليل على ذلك، وهذا متوجه على قول ابن حزم إنَّ المعلق بالصفة لا يقع بحال، وأما مَنْ فَرَّقَ بينَ أَنْ يقصد الإيقاع وبين أن يقصد اليمين، فهذا يقيم الدليل على أن الأول مُطَلِّق والثاني حالف، فليس استناده إلى أنه لا دليل على ذلك.
* * * *
(1)
وضع الناسخ هنا علامة اللحق، وفي الهامش كتب (والأولين) وبعدها (صح) وفوقها (ظ).
وانظر: الاعتداد بخلاف الظاهرية في الفروع الفقهية «دراسة تأصيلية» للدكتور: عبد السلام بن محمد الشويعر.
فصلٌ
قال المعترض:
(وبالجملة؛ فهم أعذر من المصنف من جهة عِزَّةِ النصوص الدالة على جواز التعليق، وتَخيُّلِ أَنَّ الإنشاءات لا تَقبل التعليق، كما قدمناه وقدمنا الجواب عنه، وأما مَنْ يُسَلِّم التعليق فأقل عذرًا)
(1)
.
والجواب من وجوه:
أحدها: أَنَّ الكلام هنا في ثبوت النزاع في وقوع الطلاق المحلوف به، وقد عرف ذلك من وجوه متعددة، عن غير واحد من علماء المسلمين سلفهم وخلفهم؛ وقد ذكرنا أَنَّ للناس في الطلاق المعلق والمحلوف به ثلاثة
(2)
أقوال:
أحدها: وقوعهما.
والثاني: انتفاء وقوعهما والتكفير فيهما، ولا يثبت بإسنادٍ ثابتٍ واحدٌ من القولين، ولا ما يدل عليه عن الصحابة، بل ولا نُقِلَ لفظ صريح عن التابعين بأنَّ كل طلاق معلق ومحلوف به يقع، ولا كل طلاق معلق ومحلوف به لا يقع.
والثالث: أنه يقع المعلق الذي يُقصد إيقاعه عند الصفة دون المحلوف به كالمعلق الذي لا يقصد إيقاعه عند الصفة، وهذا الفرق ثابت عن الصحابة رضي الله عنهم في تعليق الحلف بالعتق والنذر، وكلامهم يدل على أَنَّ الحلف
(1)
«التحقيق» (46/ ب).
(2)
في الهامش كتب (أربعة) وفوقها حرف (خ).
بالطلاق كذلك، وقد صَرَّحَ به من التابعين ومن بعدهم كثير من العلماء في الطلاق والعتق والنذر، وأصحاب هذا القول لهم في الكفارة في الحلف بالطلاق والعتاق والنذر قولان.
الوجه الثاني: أَنْ يقال: قوله: (هم أعذر من المصنف من جهة عِزَّةِ النصوص الدالة على جواز التعليق، وتَخَيُّلِ أن الإنشاءات لا تقبل التعليق)، يتضمن أَنَّ من لم ير وقوع الطلاق المعلَّق لِتَخَيُّلِ أنه لا يقبل التعليق وعدم دلالة النصوص عليه= أعذر ممن يُفَرِّق بين التعليق الذي يقصد به الإيقاع والتعليق [240/ ب] الذي لا يقصد به الإيقاع.
والذين قالوا لا يقع الطلاق المعلَّق طائفةٌ قليلة كأبي عبد الرحمن وابن حزم وشيوخ الإمامية، وأما المفرق بين تعليق وتعليق، فهذا القول الثابت عن الصحابة رضي الله عنهم، وهو قول أكابر التابعين، وجمهور علماء المسلمين من الأولين والآخرين؛ لكن منهم مَنْ طَرَدَ أصله ومنهم من تناقض فاستثنى الحلف بالطلاق والعتاق أو أحدهما، وهؤلاء الذين استثنوا ذلك ليس معهم بهذا الفرق أَثَرٌ مسند عن الصحابة لا صحيح ولا ضعيف، بل قولهم مخالفٌ للقولين المنقولين عن الصحابة؛ فإنَّ عن الصحابة في تعليق النذر والعتق روايتين، والرواية الواحدة مع ضعفها اتفق العلماء بعدهم على خلافها= فوجب أَنْ تكون تلك الرواية الأخرى الثابتة هي الصواب، لا سيما ومعها الكتاب والسنة والقياس الجلي ودلالة الإجماع على أنها الصحيحة، إذ لم يكن للصحابة إلا قولان مع اتفاقهم على التسوية بين التعليق القسمي والإيقاعي، إما في اللزوم وإما في عدم اللزوم.
وأما القول بعدم لزوم الطلاق المعلق مطلقًا فقولٌ لم يُعرف عن أحدٍ
من الصحابة، ولا نُقِلَ عن أحدٍ من التابعين به نقل صريح، بل النقولات الكثيرة المتواترة عن التابعين، بل وعن الصحابة تقتضي وقوع الطلاق المعلق إذا قصد وقوعه عند وجود الصفة.
وكلام المعترض يتضمن ترجيح هذا القول الشاذ على القول المُفَرِّقَ بين تعليق وتعليق، وهو القول الثابت عن الصحابة وأكابر التابعين وجمهور العلماء، بل هو القول الذي لا يقومُ دليلٌ شرعي لا من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس إلا عليه.
الوجه الثالث: قوله: (تَخيل أَنَّ الإنشاءات لا تقبل التعليق) يدل على أَنَّ مستند هؤلاء في منع التعليق هو هذا التخيل، وهذا التخيل لم يَذْكُر أحد من العلماء أنه مستنده؛ فليس هو قطعًا مستند مَنْ نَفَى وقوع الطلاق المعلق، لا من الفقهاء القَيَّاسِين كأبي عبد الرحمن، ولا من أهل الظاهر كابن حزم، ولا من الشيعة.
فإنَّ أبا عبد الرحمن بَيَّنَ مستنده، وهو قياسه ذلك على المتعة كما تقدم.
وأما ابن حزم فَبَيَّنَ مستنده، وهو أنه [241/ أ] لم يَرِدْ بذلك نص في دعواه، وأما كونه يقبل التعليق أو لا يقبله فهو لا يلتفت إلى مثل هذا الكلام، ولو كان يقبل التعليق ولم يرد به نص لم يكن تعليقًا صحيحًا.
والمعترض قد سَلَّمَ أَنَّ الإنشاء لا يقبل التعليق، وإنما الذي يقبله عنده موجب الإنشاء لا نفس الإنشاء، وَسَلَّمَ أنه لا يكفي في صحة التعليق وغيره من العقود الأدلة العامة، بل لا بُدَّ من دليل خاص يدل عليه ولم يذكر دليلًا خاصًّا كما تقدم، فكان ما ذكره من الأصول التي اعتمدها حجة على بطلان تعليق الطلاق لا على صحته.
وما نقله عن ابن حزم وغيره من أن مأخذهم تخيل فساد تعليق الإنشاءات= غلطٌ عليهم؛ وكذلك الشيعة المانعون من تعليقه عمدتهم ما فهموه من المنقولات عن الفقهاء الذين لا يقلدون إلا لهم؛ وهم كأبي جعفر وجعفر، فليس في هؤلاء مَنْ مستنده ما ذكره المعترض= فتبيَّن غلطُهُ على هؤلاء وهؤلاء.
الوجه الرابع: أنه إذا قُدِّرَ أَنَّ المستند عِزَّةُ النصوص، فهذا مستند نفاة القياس كابن حزم، وأما أبو عبد الرحمن الشافعي فليس هذا مستنده.
الوجه الخامس: أَنَّ هذا لو كان مستندًا؛ فإنما هو مستند من نفى وقوع الطلاق المعلق مطلقًا، ليس هو مستند من فَرَّقَ بين التعليق الإيقاعي والقسمي.
والنافي لوقوع الطلاق مطلقًا من الظاهرية هو ابن حزم، وأما داود فليس هذا مذهبه، وَإِنْ كان الشاشي صاحب (الحلية)
(1)
قال: (وَحُكِيَ عن داود أَنَّ الطلاق المعلَّق بالصفة لا يقع مطلقًا). فابن حزم أعلم بمذهب داود، وقد ذكر ابن حزم الإجماع على وقوع الطلاق المعلَّق مع ذكره النزاع في الطلاق المحلوف به، وذكره الأقوال الثلاثة: هل هو طلاق فيلزم أم هو يمين مكفرة
(1)
هو أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسين الشاشي، شيخ الشافعية في زمانه، ولد سنة (429)، وتوفي سنة (507). وله كتاب باسم (حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء) طبع كاملًا في مؤسسة الرسالة الحديثة، ويسمى ــ أيضًا ــ بـ (المستظهري) لأنه صنفه لأمير المؤمنين المستظهر بالله. والنقل فيه (7/ 110).
انظر في ترجمته: سير أعلام النبلاء (19/ 393)، طبقات الشافعية الكبرى (6/ 70)، معجم المؤلفين (3/ 60).
أم يمين غير مكفرة؟ وهذا الفرق هو القول الصحيح.
ومن نفى الطلاق من هؤلاء المفرقين، فإنما نفاه لكون الحالف ليس بمطلِّق، لا لأنَّ الطلاق المعلَّق لا يقع، بل هو واقع عنده قابل للتعليق؛ وهذا يتبين بِـ
الوجه [السادس]
(1)
: وهو أنه يقال: لا نسلم عِزَّةَ النصوص، [241/ ب] بل هو يقول: النصوص الشاملة للطلاق يَشمل مُطْلَقَهُ وَمُعَلَّقَهُ، كما أَنَّ نصوص العتق يَشمل مطلقه ومعلَّقه، وكذلك نصوص النذر يَشمل مطلقه ومعلَّقه، بل يَشمل مطلقه بالإجماع وفي معلَّقِهِ نزاع.
وكذلك نحن نقول: نصوصُ الضمان يَشمل مُطْلَقَهُ وَمُعَلَّقَهُ، ونصوص الإذن والولاية يَشمل المطلق والمعلَّق، وذلك أَنَّ قول النبي صلى الله عليه وسلم:«الولاء لمن أعتق»
(2)
، وقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أعتق شركًا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد
…
»
(3)
ونحو ذلك= يتناول العتقَ المُطْلَقَ والمعلَّق بصفة إذا وقعت.
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يطيع الله فليطعه»
(4)
يتناول النذر المطلق والمعلق.
فكذلك قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}
(1)
في الأصل: (السابع)، وهو خطأ، وقد استمر هذا الخطأ فيما بعد هذا من الأوجه.
(2)
تقدم تخريجه في (ص 98).
(3)
أخرجه البخاري (2522)، ومسلم (1501) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(4)
تقدم تخريجه في (ص 6).
[البقرة: 228] يتناول الطلاق المرسل والطلاق المعلق، فإنَّ كونَهُ معلقًا بمنزلة كونه مؤقتًا، وهو إيقاعٌ للطلاق في تلك الحال لا في غيرها، وهذا لا يُخرجه عن أَنْ يكون طلاقًا، كما لا يَخرج العتق والنذر عن أن يكون عتقًا أو نذرًا.
ومعلومٌ أَنَّ كون الطلاق طلاقًا والعتق عتقًا والنذر نذرًا هو ثابت؛ سواء كان بلفظٍ عربي أو عجمي، وسواء كان بلفظ صريح أو كناية، وسواء كان مرسلًا مطلقًا أو كان مختصًّا بحالٍ دون حال وبصفةٍ دون صفة؛ وهذا موضع يشتبه على كثيرٍ من الناس؛ فإنَّ التقييد تارة يكون في اللفظ وتارة يكون في المعنى
(1)
.
فأما التقييد اللفظي: فتارة يكون المسمى بالمقيد لا يدخل في اللفظ المطلق، كما لا يدخل المني المسمى بالماء الدافق الذي يخرج من بين الصلب والترائب، والمذكور في قوله:«إنما الماء من الماء»
(2)
في قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]، وتارة يدخل كما يدخل ماء البحر وغيره في اسم الماء.
وكما يدخل في الرقبةِ السوداءُ والبيضاءُ في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92].
وأما التقييد المعنوي: فكما يَتصور الإنسان في نفسه إنسانًا مطلقًا، ويتصوره مقيَّدًا بكونه عربيًّا وعجميًّا ومسلمًا وكافرًا ونحو ذلك مع علمه بأنَّ
(1)
مجموع الفتاوى (2/ 164)(12/ 67)(32/ 305)، مجموعة الرسائل والمسائل (3/ 55)(4/ 20)، اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 192).
(2)
تقدم تخريجه في (ص 398).
معنى الإنسان ثابت مع هذه القيود.
وإذا عُرِفَ هذا؛ [242/ أ] فمعنى الطلاق والعتاق والنذر ثابت؛ سواء تكلم به بلفظ عربي أو عجمي، وسواء تكلم به بلفظ هو صريح كالنص والظاهر، أو بلفظ هو كناية كاللفظ المجمل الذي يراد به هذا تارة ومعنى آخر تارة، لكنه إذا أراده بلفظ الكناية بَيَّنَ مراده [
…
]
(1)
يعني الطلاق ثابتًا به.
وكذلك كون الطلاق مرسلًا لا يقف على شرط، وكونه مقيدًا معلقًا بشرط يقع في حال دون حال، فإنَّ هذا لا يمنع ثبوت حقيقة الطلاق ومعناه في تلك الحال المقيدة، ولا يمنع شمول لفظ الطلاق لهذا وهذا، كما يَشمل لفظ العتق والنذر لهذا وهذا، وكما يشمل لفظ الرقبة والإنسان لما يوجد فيه المسمى وَإِنْ كان مخصوصًا بقيودٍ لا توجد في غيره.
يُبَيِّنُ هذا: أَنَّ الطلاق المطلق عن جميع القيود لا وجود له في الخارج، بل وكذلك سائر مسميات الألفاظ ومعانيها إذا أُخِذَتْ مجردة عن كل قيد= لم يكن لها وجود في الخارج، بل تُقَدَّرُ في الأذهان من غير أَنْ يكون لها وجود في الأعيان
(2)
.
فالطلاق المنجَّز مقيَّدٌ بكونه منجَّزًا، وطلاق السنة الحلال مقيَّدٌ بكونه طلاق سنة حلالًا، وطلاق البدعة مقيَّد بكونه طلاق بدعة محرم، لكن هذا القيد
(1)
بياض مقدار كلمة.
(2)
كثيرًا ما يُكرر ابن تيمية هذا المعنى؛ انظر لذلك ــ مثلًا ــ: مجموع الفتاوى (2/ 89، 163، 166)، مجموعة الرسائل والمسائل (4/ 19/ 21)، جامع المسائل (2/ 185)، درء تعارض العقل والنقل (6/ 43، 98)(10/ 108)، تلبيس الجهمية (1/ 328)(3/ 148).
أوجب اختصاصه بالتحريم والنهي، وهل هو مانع من لزومه؟ على القولين فيه كاختصاص البيع المحرم والنكاح المحرم بكونه محرمًا منهيًّا عنه.
والطلاق بعوضٍ مُقَيَّدٌ بكونه طلاقًا بعوض، لكنَّ هذا القيد أوجب كونه بائنًا، ثم البائن عند أكثر فقهاء الحديث يمنع أن يكون من الطلاق المطلق في كتاب الله ــ تعالى ــ الذي جعله الله رجعيًا وَجُعِلَ ثلاث مرات وَجُعِلَ فيه تربص ثلاثة قروء في كل مرة.
وأما كون الطلاق معجلًا أو مؤخرًا، وبالعربية أو بالعجمية، وبالصريح أو بالكناية= فهي صفات لا تؤثر في اختلاف أحكامه الشرعية إذا أُوْقِعَ، فإنَّ الذي أوقعه أوقعَ الطلاقَ الذي شرعه الله، لكن أوقعه إما
(1)
مجردًا وإما مقيدًا ببعض الأحوال، وإما بصريح وإما بكناية، وإما بعربية وإما بعجمية؛ فكما أَنَّ ألفاظ النصوص تتناول الطلاق بأيِّ لفظٍ كان من [242/ ب] عربي أو عجمي، ومن صريح أو كناية؛ فكذلك تتناوله كيف ما أوقعه إذا لم يكن إيقاعه محرمًا، سواء كان مجردًا أو مقيدًا.
وابن حزم يمنع وقوع الطلاق المعلق والطلاق بالكناية، وكذلك شيوخ الإمامية، وهذا القول مخالف لما استفاضت به الآثار عن الصحابة والتابعين، ومخالف للأدلة الشرعية، فإنَّ اعتبارَ لفظٍ معين للطلاق كاعتبار لفظ معين للعتق والنذر والبيع والنكاح وسائر العقود، وذلك كاعتبار لفظ العربي دون غيره، ومعلومٌ أَنَّ هذا خلاف النص والإجماع في أكثر المواضع.
(1)
في الأصل (أو)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
فلا ريب أَنَّ البيع يصحُّ بكل لسان، وكذلك الإسلام والكفر، وكذلك الطلاق، وكذلك النكاح عند عامة علماء المسلمين، وإنما فيه نزاع شاذ ذهب إليه بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد، والأئمة المتقدمون لم يقولوا شيئًا من ذلك، ولا يوجد هذا في كلام أحمد ولا كلام عامة متقدمي أصحابه، بل ولا يوجد في كلامه وكلام قدماء أصحابه تعيين لفظ الإنكاح والتزويج، ولكنَّ الشافعي اشترط ذلك، ووافقه بعض متأخري أصحاب أحمد؛ كأبي عبد الله بن حامد وصاحبه القاضي أبي يعلى وَمَنْ تَلَقَّى ذلك عنه كأبي الخطاب وغيره
(1)
.
ومأخذ الشافعي رضي الله عنه في ذلك: أَنَّ النكاح يُشترط فيه الإشهاد، والإشهادُ إنما يكون على الصريح دون الكناية، إذ الصريح عنده لا بُدَّ أن تقترن به النية لا يُكتفى فيه بدلالة الحال، والنية باطن [
…
]
(2)
، وليس له صريح إلا هذان اللفظان.
وهذه المقدمات ممنوعة ــ هي أو بعضها ــ على أصل أحمد وجمهور
(1)
قال المرداوي في تصحيح الفروع (7/ 134): وقال الشيخ تقي الدين في قاعدة القياس بعد إطلاق الوجهين: و «التحقيق» أن المتعاقدين إنْ عَرَفَا المقصود انعقدت بأيِّ لفظٍ كان من الألفاظ التي عَرَفَ بها المتعاقدان مقصودهما؛ وهذا عامٌّ في جميع العقود؛ فإنَّ الشارع لم يَحُدَّ حدًّا لألفاظ العقود، بل ذكرها مطلقةً.
انظر: مجموع الفتاوى (20/ 533 وما بعدها)(29/ 7)(32/ 302، 309، 156 مهم)، الفتاوى الكبرى (3/ 271 ــ 271 مهم)(5/ 486)، تيسير الفقه الجامع للاختيارات الفقهية لابن تيمية (1/ 410)(2/ 645)، اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية الفقهية (6/ 19)(8/ 318) والإحالات التي ذكرها صاحبا الكتابين الأخيرين.
(2)
بياض مقدار كلمة. وانظر: مجموع الفتاوى (20/ 534 - 535).
العلماء
(1)
كمالك وأبي حنيفة وغيرهما؛ فإنَّ الإشهاد في اشتراطه روايتان عن أحمد؛ إحداهما: لا يشترط؛ وهو مذهب مالك وداود وغيرهما. قال أحمد رضي الله عنه: (ليس في الشهادة على النكاح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث ثابت)
(2)
.
وأما كون الإشهاد لا يكون إلا على الصريح، فهذا مما نازع فيه الجمهور؛ فإنَّ [243/ أ] الكناية مع دلالة الحال صريحٌ عند الجمهور: أحمد ومالك وغيرهما، وإذا اقترن بها لفظ يميز معناها كانت كالصريح باتفاقهم، كما إذا قال: تصدقتُ بهذا صدقةً مُحَبَّسة؛ فمتى نوى بلفظ الصدقة لفظًا من ألفاظ الوقف أو حكمًا من أحكامه كان صريحًا عندهم؛ فكذلك إذا قال: مَلَّكْتُ بنتي على ما أمر الله به في الزوجة من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان؛ فهذا صريح في النكاح، وبسط هذه المسائل له موضع آخر
(3)
.
والمقصود هنا: التنبيه على أَنَّ الصواب هو الفرق بين التعليق القسمي والتعليق الإيقاعي، دون الفرق بين الطلاق المجرد والمعلق كما قاله ابن حزم، خلاف ما قاله المعترض من أَنَّ صاحب هذا القول أعذر من صاحب ذاك القول.
الوجه [السابع]
(4)
: أَنْ يقال: مَنْ مَنَعَ تعليقَ الطلاق مطلقًا فقد خالف
(1)
في الأصل: (العقلاء) وهو تعبير غريب على شيخ الإسلام في مثل هذا الموطن.
(2)
نقلها ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (32/ 35)، الفتاوى الكبرى (3/ 189)، ونسبها الزركشي في شرح مختصر الخرقي (5/ 23) إلى رواية الميموني.
(3)
مجموع الفتاوى (32/ 16)، الفتاوى الكبرى (6/ 103).
(4)
في الأصل (الخامس)، والصواب ما أثبتُّ.
الآثار المتواترة عن الصحابة والتابعين، فإنَّ إيقاع الطلاق المعلَّق مأثور عن علي وابن مسعود وأبي ذر ومعاوية وابن عمر رضي الله عنهم، بل قد تنازع الصحابة رضي الله عنهم في تعليقه على الملك؛ فأوقعه ــ مع ذلك ــ ابن مسعود وغيره، ولم يوقعه علي وابن عباس رضي الله عنهم، وعللوا ذلك بكونه طلاقًا معلقًا، مع كونه تعليقًا قبل النكاح، فلو كان الطلاق المعلَّق لا يقع عندهم بحال لم يوقع هذا منهم أحد، ولو كان لا يقع عند بعضهم لَعَلَّلَ بذلك مَنْ لم يوقع هذا منهم، فلما أعرضوا عن هذا التعليل وعللوا بما يختص بهذا النوع= عُلِمَ أَنَّ كونه معلقًا ليس مانعًا عندهم من الوقوع.
والمعترضُ جعل هذا التعليق يمينًا، وَظَنَّ أَنَّ ذلك يقتضي أَنَّ كونه يمينًا ليس بمانع عندهم، واعتقد أَنَّ المجيب يجعل هذا من الأيمان التي فيها كفارة.
وقد تقدم التنبيه على هذا الغلط، وَبُيِّنَ أَنَّ هذا القول لم يقله أحد، ولا يقوله عاقل يدري ما يقول، وَأَنَّ الذين تنازعوا في الطلاق المحلوف به هل هو طلاق أو يمين منعقدة مكفرة أم يمين غير منعقدة ولا مكفرة؟ لم يدخل في نزاعهم [243/ ب] الطلاق المعلَّق الذي يقصد إيقاعه عند الصفة سواء عُلِّقَ على الملك أو على غير الملك، بل هذا المعلق لم يقل أَحَدٌ إنه يمين مكفَّرة ولا غير يمين مكفَّرة، وإنما النزاع هل هو طلاق أم ليس بطلاق؟ وإذا قيل ليس بطلاق
(1)
فليس هو يمينًا من الأيمان، لا من أيمان المسلمين المكفرة المنعقدة ولا من الأيمان المنهي عنها كأيمان المشركين، فلا يقول
(1)
في الأصل (بطلاس)، وهو سبق قلم.
قط عاقل: إِنَّ من عَلَّقَ الطلاق بصفة يقصد إيقاع الطلاق عندها أَنَّ هذا من الأيمان التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها، ولا من الأيمان التي جعل الله ــ تعالى ــ فيها الكفارة؛ فمن ظن أن أحدًا من العلماء جَعَلَ هذا من أجل هذين= فقد غلط غلطًا بينًا لا يغلط مثله من له معرفة بأقوال العلماء في مسائل الأيمان والطلاق؛ فكيف يكون أعذرُ ممن فَرَّقَ بين التعليق الذي يقصد به اليمين والذي يقصد به الإيقاع؟!
وهذا الفرق هو الذي دَلَّ عليه الكتاب والسنة واللغة والعقل والعرف، وهو القول الثابت عن الصحابة وجمهور التابعين، وَمِنْ بعدهم عامةُ علماءِ المسلمين الأولين والآخرين يقولون بهذا الفرق، لكن منهم من يجعل التعليق القسمي لغوًا، ومنهم من يجعله يمينًا منعقدة، ومنهم من يستثني بعض ذلك؛ كالحلف بالطلاق والعتاق والظهار والحرام على ما في استثناء هذه من النزاع.
وأما مَنْ يجعل التعليق القسمي كالتعليق الإيقاعي مطلقًا، فهذا قولٌ قاله بعض التابعين ومن وافقهم، ومع هذا فلم يطرده أحدٌ من الأئمة، وقد روي عن الصحابة فيه رواية ضعيفة لم يقل بها أحد من الأئمة، بل الذين قالوا هذا تناقضوا واختلفوا، كما ذُكِرَ هذا في موضع آخر
(1)
.
الوجه [الثامن]: قوله: (وأما مَنْ سَلَّمَ التعليق فأقل عذرًا).
فيقال له: جميع الأمة قد سَلَّمَت التعليق في النذر وغيره كالعتق، ومع هذا فجمهور سلفهم وخلفهم فَرَّقُوا بين التعليق الذي يقصد به اليمين
(1)
تقدم في (ص 844 وما بعدها).
والتعليق الذي يقصد به الإيقاع، فكيف [يكون]
(1)
هؤلاء أقل عذرًا ممن يقول الطلاق المعلق [244/ أ] لا يقع بحال، وهو قول شاذٌ لا يُعرف عن أحدٍ من السلف؟! ثم هو قول في غايةِ الفسادِ، والفرقُ بين التعليق الذي يقصد به اليمين والتعليق الذي يقصد به الإيقاع في غاية القوة؛ بل نحن نعلم قطعًا أنه من الفرقان الذي بعث الله ــ تعالى ــ به رسوله صلى الله عليه وسلم وأنزل به كتابه، ونعلم قطعًا أَنَّ الطلاق المعلق إذا قُصِدَ إيقاعه عند الصفة يقع، فهل يَجعل مَنْ سَوَّى بينهما في النفي أعذرُ ممن فَرَّقَ إلا مَنْ هو مِنْ أَبعدِ الناس عن معرفة دين الإسلام؟! بل هذا القول يستلزم قول الذين قالوا {لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء: 51].
الوجه [التاسع]: أنه لو قال قائل: مَنْ منع وقوع الطلاق المعلق مطلقًا، أو قال: إِنَّ الطلاق المحلوف به لا طلاق فيه ولا كفارة فهو أعذر ممن ألزم الطلاق المعلق المحلوف به مطلقًا= لكان قولُ هذا القائل أَسَدُّ ممن جعل نافي الطلاق مطلقًا أعذر ممن فَرَّقَ بين التعليقين، لأنَّ ذاك يقولُ: الأصلُ بقاءُ النكاح، والأصلُ براءةُ الذمةِ من الكفارة، وهذه الأيمان نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم فلا تنعقد ولا كفارة فيها.
والملزِمُ بالطلاقِ إِنْ نازعه في كونها أيمانًا كابر مكابرة يعرفها العامة والخاصة.
وَإِنْ سَلَّمَ أنها أيمان، وقال: هي أيمان محرمة منهيٌّ عنها؛ بَطَلَ قَولُهُ.
وإِنْ قال: أيمانٌ منعقدة مُكَفَّرَة؛ بطل قوله.
(1)
إضافة يقتضيها السياق.
وَإِنْ قال: أيمان منعقدة غير مكفرة؛ فقد خالف الكتاب والسنة، وأتى بقول مبتدع؛ إذ ليس في شرع المسلمين يمين من الأيمان إلا منعقدة مكفرة، أو باطلة لا منعقدة ولا مكفرة؛ وأما يمين منعقدة غير مكفرة فهذا ليس من شرع المسلمين، وإنما هو من شرع أهل الكتاب، وكانوا عليه في أول الإسلام قبل أَنْ نَزَّلَ الله ــ تعالى ــ كفارة الأيمان.
ومع هذا التوجيه؛ فنحن نقول: التسوية بين التعليقين في اللزوم وإِنْ كان قولًا ضعيفًا، فقول مَنْ نفى لزومهما جميعًا أضعف منه، وقولُ مَنْ جعل الحالف بالطلاق يلزمه الطلاق أقوى من قول من [244/ ب] يقول لا يلزمه لا طلاق ولا كفارة، ومن جعل هذا تعليقًا لازمًا ويمينًا لازمة أقوى مِن قول مَن جعل هذا تعليقًا باطلًا ويمينًا غير منعقدة.
فإنَّ قولَ الملزمين من جنس الشرع المنسوخ، وقولُ المبطلين من جنس شرع الجاهلية الذي لم يشرعه الله ــ عز وجل ــ قط؛ وقولٌ شُرِعَ ثم نُسخ أرجحُ من قول ما شرعَ قط، وكل مسألة فيها نزاع فالقول الصواب فيها هو موافق لشرع الرسول المحكم، وما خالفه فهو إما من جنس الشرع المنسوخ أو من جنس ما لم يشرع قط؛ والأول خيرٌ من الثاني
(1)
.
فإنَّ هذه الأيمان هي من أيمان المسلمين بلا ريب؛ فالقول بانعقادها وعدم الكفارة فيها من جنس الشرع المنسوخ، وما كانوا عليه أولًا من أَنَّ اليمين يَلْزَمُ صاحبَها ما حَلَفَ عليه، وَأَنَّ مَنْ حَرَّمَ شيئًا حَرُمَ عليه كما حَرَّمَ إسرائيل على نفسه. والقول بأنها لا تنعقد ولا شيء فيها بمنزلة مَنْ جَعَلَ
(1)
انظر ما تقدم في (ص 38).
الأيمان والتحريم قولًا باطلًا لا شيء فيه بحال وهذا لم يشرع قط؛ فما زال في كل شريعة للأيمان والتحريم حكم معتبر، إما اللزوم وإما الكفارة.
فنحن وإن علمنا أَنَّ قول هؤلاء الملزمين بهذه الأيمان أرجح من قول من أهدرها، فَمَنْ عَكَسَ ذلك وجعل من جعلها لازمة أقل عذرًا ممن أهدرها= فقوله أرجح مِن قول مَن جعل قول بعض الظاهرية النافين للطلاق المعلَّق مطلقًا أعذر ممن فرق بين التعليق القسمي والإيقاعي، فإنَّ هذا جَعَلَ أضعف الأقوال أرجح من أرجح الأقوال، بخلاف الذي قبله فإنه جعل أضعفها أرجح من متوسطها.
وهذا له نظائر في كلام المعترض؛ يَذكرُ من النقل والاستدلال والمنع والطعن ما هو من أسقط شيءٍ
(1)
، ومما أجمع العلماء على فساده؛ كما تكرر ذلك في غير موضع
(2)
.
* * * *
(1)
في الأصل: (شيئًا)، والجادة ما أثبتُّ.
(2)
من هذه المواضع (ص 55، 56، 66، 81، 83، 134 - 135، 156، 192، 253، 342، 386) وغيرها.
فصلٌ
قال: (وذكر بعد ذلك تضعيف زيادة قوله: (وأعتقي جاريتك)[و] قد قدمنا ذلك عنه، وهو محل نظر كما قلنا؛ والله أعلم)
(1)
.
والجواب: أَنْ يقال: إذا جاء الحق البيِّن الذي لا يندفع جعله
(2)
موضعَ شك، وإذا جاء [245/ أ] موضع الشك والوقف [جعله] موضع قطعٍ بالباطل، وهذا شأن صاحب الباطل يحتج بالمتشابه ويدفع المحكم، يدع اليقين ويتمسك بالشك.
وذلك [أنَّ]
(3)
حديث ليلى بنت العجماء مما تداوله العلماء خلفًا عن سلف، واتفقوا كلهم على أَنَّ الصحابة أفتوا فيها بعدم اللزوم، وقال جمهورهم أفتوهم كلها في ذلك بالكفارة في الجميع، وَظَنَّ ابنُ حزمٍ أَنَّ ابن عمر أفتى بالكفارة في الجميع، وَأَنَّ حفصة أفتت بعدم اللزوم وعدم الكفارة، والذين بلغهم طريق أشعث بن عبد الملك مع طريق سليمان التيمي اتفقوا على صحة ذكر العتق فيه، وقد تابعهما على ذلك جسر بن الحسن، وأما أحمد فلم يبلغه إلا طريق التيمي فعلل ذكر العتق بانفراد التيمي به، وذكر رواية عثمان بن حاضر التي فيها الإلزام بالعتق وغيره.
وأما حديث ليلى فلم يَنقل قَطُّ أَحدٌ أنهم ألزموها فيه بالعتق؛ بل كُلُّ مَنْ رَوى العتق فيه ومن أثبت رواية العتق فيه اتفقوا على أنهم لم يلزموها بالعتق،
(1)
«التحقيق» (46/ ب).
(2)
في الأصل (جعل)، والصواب ما أثبتُّ.
(3)
بياض في الأصل مقدار كلمة، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
وقد رَوى هذا أحمد بن حنبل وأبو ثور ومحمد بن نصر وحرب الكرماني وأبو بكر الأثرم وإسماعيل بن سعيد
(1)
الشالنجي وأبو بكر بن المنذر وإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني وأبو بكر النيسابوري وأبو الحسن الدارقطني وأبو بكر البيهقي وأبو عمر بن عبد البر وأبو محمد بن حزم وغيرهم من العلماء، وكلهم متفقون على ذلك، لم يقل أحد منهم لا في روايته ولا فيما ذكره أنهم ألزموها بالعتق، فكيف يَجعل هذا محل نظر؟!
والإمام أحمد قد نَقَلَ عنه غيرُ واحد هذه المسألة، والكلام على ذكر العتق؛ فكلهم ينقل عنه أَنَّ من ذكر العتق لم يذكر فيه (أَعتقي جاريتك)؛ ولكن كان يذكر حديث عثمان بن حاضر، ولكن وقع غلط في رواية أبي طالب، وذكره أبو محمد في مغنيه.
(قال أبو بكر الخلال في جامعه
(2)
: قال
(3)
هارون بن عبد الله: قيل لأبي عبد الله: أليس قد كان ابن عباس يرى الاستثناء بعد حينٍ؟ قال: إنما هذاك
(4)
في القول ليس في اليمين، كان يذهب [245/ ب] إلى قول الله:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24] قال أبوعبد الله: [إنما] هذا في القول ليس في اليمين، وإنما يكون الاستثناء
(1)
في الأصل: (سعد)، والصواب ما أثبتُّ.
(2)
نقله المجيب في الفتوى المعترض عليها. مجموع الفتاوى (33/ 196)، كما نقلها المعترض في «التحقيق» .
(3)
كررها الناسخ.
(4)
كذا، وفي مجموع الفتاوى:(هذا).
جائزًا فيما يكون فيه الكفارة إذا حلف بالطلاق والعتاق لا يكفر. فقد نص على أَنَّ الاستثناء إنما يكون في اليمين المكفرة، فإذا كان قد نَصَّ مع ذلك على جواز الاستثناء فيما إذا حلف بالطلاق والعتاق= لزم إجزاء الكفارة في ذلك.
قلتُ
(1)
: النص الأول الذي نقله هارون معناه: حَصْرُ الاستثناء فيما فيه الكفارة، ونفي الكفارة عن الحلف بالطلاق والعتاق؛ أي: فلا يجوز الاستثناء فيهما)
(2)
.
والجواب: قوله: (النص الأول الذي نقله هارون معناه: حَصْرُ الاستثناء فيما فيه الكفارة، ونفي الكفارة عن الحلف بالطلاق والعتاق؛ فلا يجوز الاستثناء فيهما) فيقال له: هذا صحيح؛ وإذا كان الاستثناء محصورًا فيما فيه الكفارة، وهو منفي عما لا كفارة فيه، وقد قال في إحدى الروايتين: إن الاستثناء مشروع في الحلف بالطلاق والعتاق؛ لزم من ذلك أن يكون في هذا الحلف الكفارةُ، وَأَنْ يكون قوله بنفي الكفارة عن الحلف بهما على قوله بنفي الاستثناء فيهما، وهو الرواية الأخرى عنه، وإلا فلو قيل: إنه يشرع فيهما الاستثناء ولا يشرع فيهما الكفارة؛ لزم من ذلك أَنْ يكون الاستثناء مشروعًا فيما لا كفارة فيه، فلا يكون منفيًا عما لا كفارة فيه، بل يكون ثابتًا مع انتفاء الكفارة في الحلف بالطلاق والعتاق؛ وهذا مناقض للحصر المذكور الذي اعترف به المعترض ولا يمكن فيه نزاع.
(1)
القائل هنا هو: السبكي.
(2)
«التحقيق» (46/ ب ــ 47/ أ) ولكلامه تكملة.
فإذا قال القائل: لا يثبت الاستثناء إلا إذا ثبتت الكفارة، ثم أَثْبَتَ الاستثناء ولم يُثبت الكفارة تناقض قوله.
فَعُلِمَ أَنَّ قول أحمد هذا إنما يستقيم على إحدى الروايتين عنه، وهي قوله: إنَّ الاستثناء ليس في الحلف بالطلاق والعتاق ولا في إيقاعهما. وعلى هذا فإذا قيل: لا كفارة في ذلك، وقيل الاستثناء إنما يكون جائزًا فيما يكون فيه الكفارة، وهذا لا كفارة فيه فلا استثناء فيه= كان كلامًا مستقيمًا.
وأما إذا فَرَّقَ بين [246/ أ] الإيقاع والحلف، وقيل الحلف بهما فيه استثناء، وقيل مع ذلك إنما يكون الاستثناء جائزًا فيما فيه الكفارة؛ لزم أَنْ تكون الكفارة حيث كان الاستثناء، لا تنتفي الكفارة إلا إذا انتفى الاستثناء، فإذا كان الاستثناء ثابتًا كانت الكفارة ثابتة، وإلا بطل الحصر، وهو قول القائل: إنما يكون الاستثناء جائزًا فيما تكون فيه الكفارة، وقيل حينئذٍ: الاستثناء في الحلف بهما جائز ولا كفارة فيه، فكذلك في إيقاعهما.
فصلٌ
وأما قوله: (فهو مَسُوقٌ لنفي الاستثناء عما [ليس]
(1)
فيه الكفارة لا لإثبات الاستثناء في كل ما فيه كفارة)
(2)
؛ فعنه جوابان
(3)
:
أحدهما: أَنَّ هذا إذا سُلِّمَ فهو حجةٌ لنا، فإنه إذا كان قد نَفَى الاستثناء عما ليس فيه الكفارة وأثبت الاستثناء في موضعٍ امتنعَ انتفاءُ الكفارة في ذلك
(1)
زيادة يقتضيها السياق.
(2)
«التحقيق» (47/ أ).
(3)
الجواب الثاني (ص 866).
الموضع، إذ لو لم يكن فيه كفارة لوجب نفي الاستثناء عنه، فإنَّ الاستثناءَ يُنفى عن كل موضع انتفت فيه الكفارة.
فالحلف بالطلاق والعتاق إذا قُدِّرَ انتفاء التكفير فيه لزم انتفاء الاستثناء فيه، لأنَّ انتفاء الاستثناء لازم لانتفاء الكفارة، فحيث انتفت الكفارة انتفى الاستثناء، فإذا لم ينتفِ
(1)
الاستثناء لم تنتف الكفارة، بل يثبت مع الاستثناء؛ إذ لو لم يثبت للزم أَنْ يكون الاستثناء ثابتًا مع انتفاء الكفارة، وهذا يُناقضُ قولَ القائل: إذا انتفت الكفارة انتفى الاستثناء.
وهذا أمر بَيِّنٌ معلوم بالضرورة، ويمكن التعبير عنه بأنواعٍ من العبارات، مثل أَنْ يقول: نفي الكفارة مستلزم لنفي الاستثناء، فإنه إذا انتفت الكفارة انتفى الاستثناء؛ فإنه لا يُنفى الاستثناء إلا مع نفي الكفارة، فلا يُعْدَم الاستثناءُ إلا إذا عُدِمَت الكفارة، فَعَدَمُ الكفارةِ مستلزمٌ لعدمِ الاستثناء، وإذا تحقق الملزوم تحقق اللازم، وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم، فإذا انتفى اللازم وهو عدم الاستثناء بثبوت نقيضه وهو وجود الاستثناء= لزم انتفاء الملزوم وهو عدم الكفارة بثبوت نقيضه وهو وجود الكفارة.
فصلٌ
وأما قوله: (والنفي الثاني
(2)
الدال على جواز الاستثناء في الحلف بالطلاق [246/ ب] والعتاق ــ إِنْ صَحَّ ــ يدل على عدم انحصار الاستثناء فيما فيه الكفارة، فيكون ذلك اختلافًا من أحمد في أنه هل من شرط الاستثناء أَنْ
(1)
في الأصل: (ينتفي)، والصواب ما أثبتُّ.
(2)
في الأصل: (النافي)، والمثبت من «التحقيق» .
تكون اليمين مما تُكَفَّر أم لا؟ ولذلك أثبت أصحابه روايتين في جواز الاستثناء في الحلف به، فهذا
(1)
التصرف [في كلام الإمام] أولى من أَنْ يُجعل النصُّ الدال على جواز الاستثناء دالًّا على جواز التكفير مع التصريح بنفيه)
(2)
.
فيقال: هذا كلامُ مَنْ لم يَعرف نصوص أحمد ومذهبه وتعليله؛ فإنَّ عامَّهُ في عامة نصوصه يمنع الاستثناء بالمشيئة في الطلاق والعتاق، وَإِنْ كان قد توقف في ذلك في بعض أجوبته، ولأجل توقفه خَرَّجَ بعض أصحابه رواية عنه بعدم الوقوع.
وأحمد ــ رحمة الله عليه ــ في نصوصه يحتج على أَنَّ الطلاق والعتاق لا كفارة فيهما: بأنَّ الكفارة إنما تكون فيما فيه الاستثناء
(3)
، والنص إنما جاء في الاستثناء في اليمين لم يجئ نَصٌّ بالاستثناء في طلاق وعتاق، فقال أحمد: الطلاق والعتاق ليسا بيمين، لأنهما لو كانا من الأيمان لكان فيهما كفارة فلا يكون فيهما استثناء، فإنَّ الاستثناء إنما يكون فيما يكفر، فإنه لا يكون إلا في اليمين، واليمين هو مما
(4)
يكفر، والطلاق والعتاق لا كفارة فيهما فلا استثناء فيهما.
وأحمد جَزَمَ بنفي الاستثناء في الطلاق والعتاق لهذه العلة، واختلف
(1)
في الأصل: (هذا)، والمثبت من «التحقيق» .
(2)
«التحقيق» (47/ أ)، وما بين المعقوفتين منه.
(3)
في الأصل: (الكفارة)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(4)
في الأصل: (ما)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
جوابه في الحلف بهما؛ فتارة جَعَلَ ذلك كإيقاعهما فمنع من الاستثناء فيه، وتارة جَعَلَ الحلف بهما من الأيمان فَسَوَّغَ الاستثناء فيه. فلو كان أحمد رضي الله عنه ــ كما قاله المعترض ــ لا يَخُصُّ الاستثناء فيما فيه الكفارة، بل يقول به فيما يكفر وما لا يكفر= قال به في الطلاق والعتاق، كما قاله أبو حنيفة والشافعي رضي الله عنهما، بل هو في إحدى الروايتين يمنع الاستثناء في إيقاعهما والحلف بهما، وفي الأخرى يجوِّز الاستثناء في الحلف بهما دون إيقاعهما، ولا يقول بالاستثناء في إيقاعهما والحلف بهما حتى يقال: إنه لا يحصر الاستثناء فيما فيه الكفارة بل يراه فيما يكفر وفيما لا يكفر، فإنَّ هذا لم يَنُصَّ عليه قَطُّ، بل نصوصه متطابقة على أَنَّ الاستثناء إنما يكون فيما فيه الكفارة، [247/ أ] والطلاق والعتاق لا كفارةَ فيه فلا استثناء فيه، فهذا تارة يريدُ به الحلف والإيقاع جميعًا، فيقول: إِنَّ ذلك لا كفارة فيه فلا استثناء فيه، فهذا يوافق قوله: إِنَّ الحلف بهما ليس فيه استثناء.
وأما إذا قال: الحلف بهما فيه استثناء وإيقاعهما ليس فيه استثناء؛ فهذه الرواية لا تطابق ما ذكره من إثبات الاستثناء فيما لا يكفر سواء كان حلفًا أو إيقاعًا، فإنه إنما أثبته في الحلف دون الإيقاع، فكيف يُكْذَبُ عليه، ويقال: بل مقصوده: أنه لا ينحصر الاستثناء في المكفر، بل يثبت فيما لا يكفر سواء كان حلفًا أو إيقاعًا؟ وهو إنما أثبت الاستثناء في الحلف بهما دون إيقاعهما، ولا يطابق ــ أيضًا ــ إثبات الاستثناء دون الكفارة في الحلف، وإنما يطابق ما ذكرناه، وقد بسطنا كلام أصحابه في هذه الرواية وتعليلها في غير هذا الموضع، مثل قول الشيخ أبي محمد رحمه الله
(1)
.
(1)
كذا في الأصل. وقد تقدم إشارة لذلك.
الوجه الثاني
(1)
: أَنَّ أحمد يجعل الاستثناء والكفارة متلازمين، فكل ما فيه الكفارة يدخله الاستثناء عنده، وما لا تدخله الكفارة لا يدخله الاستثناء عنده، حتى إنه في الظهار والحرام يصح فيه الاستثناء عنده، نَصَّ عليه، وهو قول جمهور أصحابه، وخالفه بعضهم كابن بطة أو العكبري
(2)
وابن عقيل فقال: لا استثناء في ذلك؛ لأنه إنشاءٌ لعقدٍ من العقودِ فهو كالطلاق والعتاق.
وأما الحلف بالنذر؛ فما رأيت أحدًا حكى خلافًا في مذهبه أنه يَنْفَعُ فيه الاستثناء، بل قالوا كما قال أبو محمد ــ رحمة الله عليه ــ في مغنيه
(3)
: (يصحُّ الاستثناء في كل يمين مُكَفَّرَة كاليمين بالله والظهار والنذر).
قال أبو علي بن أبي موسى في إرشاده
(4)
ــ وهو من أصحهم نقلًا
(5)
ــ: (من استثنى في يمين تدخلها كفارة فله ثنياه).
قال أبو محمد: (ولأنها أيمان مُكَفَّرَةٌ يدخلها الاستثناء كاليمين بالله ــ تعالى ــ، فلو قال: أنتِ عليَّ كظهر أمي إن شاء الله، أو
(6)
أَنتِ عليَّ حرامٌ إن شاء الله، أو إِنْ دخلتِ الدار فأنت عليَّ كظهر أمي إن شاء الله، أو لله عليَّ أَنْ
(1)
هذا هو الجواب الثاني عن قول المعترض الذي تقدَّم نقله (ص 862).
(2)
كذا العبارة في الأصل.
وفي مجموع الفتاوى (35/ 316): وقال طائفة من أصحابه؛ منهم: ابن بطة والعكبري وابن عقيل: لا يصح فيه الاستثناء. وفي الفروع (9/ 186)، والإنصاف (23/ 243) نسبة هذا القول: لابن شاقلا وابن بطة وابن عقيل.
(3)
(13/ 486).
(4)
الإرشاد (ص 408)، والنقل ما زال مستمرًا من المغني.
(5)
انظر في الثناء على نقل ابن أبي موسى: جامع المسائل (4/ 174).
(6)
في الأصل: (و)، والمثبت من المغني.
أتصدق بمائة درهم إنْ شاء الله= لم يلزمه شيء، لأنها أيمان فتدخل في قوله:«مَنْ حَلَفَ فقال: إن شاء الله؛ لم يحنث»
(1)
)
(2)
.
[247/ ب] ومن قال من أصحابه: إِنَّ الظهار لا استثناء فيه، قال: لأنه إنشاء للتحريم فهو كسائر العقود التي ينشئها، كما ينشئ الطلاق والعتاق بخلاف اليمين، فإنه لما حلف على فعلٍ وقال: إن شاء الله= عَلَّقَ الفعل بالمشيئة [فإن]
(3)
وجد الفعل علمنا أَنَّ الله شاء ذلك وَبَرَّ في يمينه، وإن لم يوجد الفعل علمنا أَنَّ الله ــ تعالى ــ لم يشأه فلم يوجد الشرط فلم يحنث في يمينه، فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
بخلاف قوله: أَنتِ طالقٌ إِنْ شاء الله؛ فإنَّ الله ــ سبحانه ــ قد شاءَ الأحكامَ عندَ وجود أسبابها، فإنه لا يقع الطلاق إلا بتطليق العبد، فإذا أراد بقوله: إن شاء الله وقوعَهُ بهذا الكلام، فلا ريب أَنَّ الله قد شاءه حين تكلَّم بهذا الكلام، وإن أراد وقوعه بغيره امتنع أَنْ يقع إلا أَنْ يوقعه هو، فيكون معنى كلامه: أنت طالق إن شاء الله أن أطلقك بعد هذا فتطلقين، ولو أراد هذا لم يقع به طلاق بهذا اللفظ، ولكن قد يريد بالتعليق عدم وقوع الطلاق.
فقوله: أَنتِ طالقٌ إن شاء الله، ومشيئةُ الله للطلاق ممتنعة بدون إيقاع العبد له، فإنه إذا شاءه جَعَلَ العبد موقعًا له، وإذا أراد هذا فهو يخرج على تعليق الطلاق بشرطٍ ممتنع؛ هل يمنع وقوعه أو يقع ويلغوا الشرط؟
وأما قول بعض الفقهاء أنه عَلَّقَهُ بمشيئة مَنْ لا تُعلم مشيئته؛ فهذا
(1)
تقدم تخريجه في (ص 286).
(2)
هنا انتهى النقل من المغني.
(3)
ما بين المعقوفتين غير واضح، وقدرته بما أثبتُّ.
غلطٌ
(1)
، فإنَّ مشيئة الله معلومة لنا في ذلك، نستدلُّ عليها بوقوع الحادث، فكلُّ حادثٍ فالله شاءه، وما لم يكن فالله لم يشأه، والطلاق لا يمكن أَنْ يقع إلا بإيقاع العبد فلا يتصور أن يشاءه الله إلا إذا أوقعه العبد، ويكون هو ــ سبحانه ــ قد جعل العبد موقعًا له فوقع، وأما أَنْ يشاءَ وقوعه بدون إيقاعِ العبد له= فهذا ممتنع.
فإذا قال: أَنتِ عليَّ كظهرِ أمي إن شاء الله؛ فقال هؤلاء: هذا بمنزلةِ قولِهِ: أَنتِ طالق إن شاء الله، فالله شاء أَنْ يصير مظاهرًا لَمَّا تكلم بالظهار، وكذلك إذا قال: هذا عليَّ حرام إن شاء الله.
وأحمد رضي الله عنه نَظَرَ إلى مقصود هذا الكلام، وهو أنه قَصَدَ أَنْ يمتنع من الوطء؛ فمراده: لا أقربكِ [248/ أ] إن شاء الله، أَنَا مجتنبٌ لكِ إن شاء الله؛ فإنَّ الشارع لم يجعل موجب هذا اللفظ أن تصير كظهر أمه فتحرم عليه وتطلق كالأجنبية، بل هذا كان حكمهم أولًا، فلو كان هذا طلاقًا لا كفارة فيه لم يكن فيه استثناء على أصل أحمد، لكن الشارع جعله يمينًا مكفرة، فإذا عاد [لها]
(2)
قال: فَطَلَبَ أَنْ يجامعها كَفَّرَ يمينه قبل أَنْ يمسها، فكان حكمها في الشرع المنع لا إزالةُ مِلكٍ، وهو منع يزول بالكفارة، وصار هذا كقوله: والله لا أقربك حتى أُكَفِّر إن شاء الله.
ولهذا قال طائفة من محققي أصحاب أحمد ــ كأبي محمد وأبي البركات
(3)
ــ في قوله: أَنتِ طالقٌ إن دخلت الدار إن شاء الله، وإن دخلت
(1)
انظر بحثًا مطوَّلًا في الاستثناء بالمشيئة في الطلاق في إعلام الموقعين (5/ 462).
(2)
كلمة غير واضحة، قدَّرتها بما أثبت، وتحتمل غير ذلك.
(3)
المغني (10/ 473)، المحرر (2/ 72).
الدار فأنت طالق إن شاء الله: إنه إِنْ نَوَى عَوْدَ المشيئةِ إلى الفعل نَفَعَهُ قولًا واحدًا، كقوله: الطلاق يلزمني لأفعلنَّ كذا إن شاء الله، وَإِنْ أَطْلَقَ ففيه روايتان، وتمام ذلك
(1)
.
* * * *
(1)
كذا في الأصل، وانتقل الناسخ بعد ذلك إلى فصل جديد دون إشارة إلى وجود سقط أو نحوه.
فصلٌ
قال المعترض:
(قال ــ يعني: المجيب ــ
(1)
: فهذا الذي قاله هو مقتضى الكتاب والسنة، فإنَّ الله ــ تعالى ــ قال:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} إلى قوله: {حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] فجعل هذه الكفارة في عقد اليمين مطلقًا، وجعل ذلك كفارة اليمين إذا حلفنا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ حَلَفَ فقال: إِنْ شاء الله؛ فإنْ شاءَ فعل، وإِنْ شاءَ تَرَك»
(2)
، فما دَخَلَ في قول النبي صلى الله عليه وسلم دَخَلَ في قول الله تعالى، والطلاق والعتاق المنجَّزان لا يدخلان في مسمى اليمين والحلف باتفاق العلماء، بخلاف الحلف على الحض والمنع والتصديق والتكذيب فإنه يمين باتفاق الأئمة.
قلتُ
(3)
: فَرَغَ من نسبة القول المذكور إلى السلف وتخريجه على قواعد الأئمة كما زعم، وَشَرَعَ يتعرض للاستدلال له؛ فقال: إنه مقتضى الكتاب والسنة، فاستدلَّ بالآيةِ الكريمة، وفي الاستدلال بها على ذلك نظرٌ
(1)
مجموع الفتاوى (33/ 197).
(2)
أخرجه أبو داود (3262)، والترمذي (1531)، والنسائي (3793) ــ واللفظ له ــ، وابن ماجه (2105) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا:«مَنْ حَلَفَ فاستثنى؛ فإنْ شاء مضى، وإنْ شاء ترك غيرَ حَنِثٍ» .
قال الترمذي: حديث حسن. ثم أشار إلى الاختلاف في وقفه ورفعه. وصحح وقفه البيهقي في السنن الصغير (4/ 99).
انظر: البدر المنير (9/ 454)، العلل للدارقطني (13/ 104).
(3)
القائل هو: السبكي.
من وجهين:
أحدهما: صِدْقُ اسمِ اليمين على أصل النزاع، وهو التعليق المقتضي حثًّا أو منعًا أو تصديقًا، فإنه إنما يجب شمول الآية لذلك [248/ ب] إذا ثبت أَنَّ تسميةَ ذلك حقيقة لغوية أو شرعية، أما إذا كان ذلك عرفيًّا إما خاصًّا وإما عامًّا، وتسميةُ أهل العرف له يمينًا لمشابهة
(1)
اليمين= فلا يلزم اندراجه في الآية)
(2)
.
والجواب:
أَنَّ قوله: (فَرَغَ من نسبةِ القول المذكور إلى السلف وتخريجه على قواعد الأئمة ــ كما زعم ــ، وَشَرَعَ يتعرض للاستدلال له) = قولُ مَنْ لم يَفهم مراد المجيب وما سيق له هذا الكلام، فإنه لم يتعرض هنا للاستدلال على تكفير الطلاق، بل هو قد وعد بهذا، كما في قوله:(والمقصود: ذكر تحرير النقول عن السلف والأئمة في هذه المسائل، وسيأتي ذكر الدلائل).
وإنما ذكر المجيب هنا تقريرَ قول أحمد ــ رحمة الله عليه ــ أَنَّ الاستثناء إنما يكون فيما فيه الكفارة. فقال المجيب: (هذا الذي قاله أحمد، هو
(3)
قول أكثر السلف، وهو مذهب مالك ــ رحمة الله عليه ــ وغيره) فإنَّ النص ورد بالكفارة في الأيمان، وورد بالاستثناء في الأيمان؛ فكل ما تناوله هذا النص تناوله هذا النص، ومعلومٌ أَنَّ نَصَّ التكفير لا يتناول إنشاء الطلاق
(1)
كذا في الأصل، وفي «التحقيق»:(لمشابهته).
(2)
«التحقيق» (47/ أ).
(3)
في الأصل: (وهو)، والأجود ما أثبتُّ.
والعتاق فلا يتناوله نص الاستثناء.
فلهذا قال المجيب: فإنَّ الله ــ تعالى ــ قال: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} إلى قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] فجعل هذه الكفارة في عقد اليمين مطلقًا، وجعل ذلك كفارة اليمين إذا حلفنا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ حَلَفَ فقال: إِنْ شاء الله؛ فإنْ شاءَ فعل، وإِنْ شاءَ تَرَك»
(1)
، فما دخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم دَخَلَ في قول الله تعالى، والطلاق والعتاق المنجزان لا يدخلان في مسمى اليمين والحلف باتفاق العلماء، بخلاف الحلف على الحض والمنع والتصديق والتكذيب فإنه يمين باتفاق الأئمة.
فهذا الذي ذكره المجيب دليلٌ على الأصل الذي أَصَّلَهُ الجمهور، وهو أصلُ مالكٍ وأحمد ــ رحمهما الله تعالى ــ وغيرهما، والنصُّ ورد بالاستثناء في اليمين وورد بالكفارة في اليمين، فما دَخَلَ في نَصِّ الاستثناء دخل في نص الكفارة والطلاق والعتاق، [249/ أ][وما]
(2)
لا يدخلان في نص الكفارة اتفاقًا فلا يدخلان في نص الاستثناء.
وهذا بَيِّنٌ؛ لكن هذا يقتضي أَنَّ الاستثناء في الطلاق والعتاق لم يتناوله النص، فإنما يتناول ما هو يمين، وهذا ليس بيمين فلا يتناوله النص، فلا يتم هذا الدليل إلا بِأَنْ يقال: الاستثناء إنما يكون في اليمين، وإنما يكون فيما ورد
(1)
سبق تخريجه في (ص 870).
(2)
إضافة يقتضيها السياق.
فيه النص، والطلاق والعتاق ليسا
(1)
بيمين ولم يرد نَصٌّ بالاستثناء فيهما
(2)
= فلا ينفع فيه الاستثناء.
يوضح ذلك: أَنَّ الحكم إذا عُلِّقَ بوصفٍ مناسبٍ كان عِلَّةً لَهُ، والحكمُ ينتفي لانتفاء عِلَّتِهِ، وكونُهُ يمينًا وصفٌ مناسبٌ، فينتفي الحكم إذا انتفى كونه يمينًا.
ويقال ــ أيضًا ــ: الاستثناء في اليمين، لأنَّ المعلَّق بالمشيئة يُعْلَمُ أَنَّ الله شاءه فَوُجِدَ، وَإِنْ لم يشأه يُعْدِمُ وجودَهُ، فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يلزم من جواز التعليق على مشيئةِ الله للفعل التعليقُ على مشيئته للحكم، فإنَّ الأحكام الشرعية ليست أمرًا محسوسًا، ولا تثبت دون أسبابها ولا تتخلف عن سببها التام، فلا يوجد الطلاق بدون التطليق البتة، ولا يتخلف عن التطليق الشرعي، فلا يلزم من جواز التعليق على مشيئة الله تعالى للفعل التعليقُ على المشيئة للحكم.
ومن الفقهاء من استدل بقوله: «مَنْ حَلَفَ فقال: إِنْ شاء الله؛ فإنْ شاءَ فعل، وإِنْ شاءَ تَرَك»
(3)
على جواز الاستثناء في الطلاق، ولا ريب أَنَّ هذا غلطٌ محضٌ، فإنَّ هذا النص لا يدل على هذا البتة، بل مفهومه يدل على نقيض ذلك.
نعم؛ يدل على الحلف بالطلاق والعتاق فإنهما من الأيمان، وهذا حجةٌ
(1)
في الأصل: (ليس)، والصواب ما أثبتُّ.
(2)
في الأصل: (فيه)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(3)
تقدم تخريجه في (ص 870).
على مالك وأحمد في إحدى الروايتين، وَمَنْ قال إنَّ الحلف بهما لا ينفع فيه استثناء، وأما جمهور السلف الذين فَرَّقُوا بين إيقاعهما والحلف بهما فجوَّزوا الاستثناء في الثاني دون الأول، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وأحد القولين في مذهب مالك؛ فالحديث حجة لهذا القول لا عليه.
فصلٌ
ثم إِنَّ المعترضَ لمَّا ظَنَّ أَنَّ المجيب استدل بذلك على جواز التكفير في الحلف بالطلاق تكلم على ذلك، فقال: (في الاستدلال بها على ذلك نظر من وجهين:
أحدهما: [249/ ب] صِدْقُ اسم اليمين على أصل النزاع، وهو التعليق المقتضي حثًّا أو منعًا أو تصديقًا، فإنه إنما يجب شمول الآية لذلك إذا ثبت أَنَّ تسميةَ ذلك يمينًا حقيقةٌ لغوية أو شرعية، أما إذا كان ذلك عرفيًّا إما خاصًّا وإما عامًّا، وتسميةُ أهل العرف له يمينًا لمشابهة اليمين؛ فلا يلزم اندراجه في الآية)
(1)
.
فيقال له: عن هذا أجوبة:
أحدها: أنه ليس من شرط محلِّ النزاع أَنْ يكون بصيغة التعليق، بل قد يكون بصيغة القَسَم، كقوله: الطلاقُ يلزمني لأفعلنَّ كذا، والعتقُ يلزمني لأفعلنَّ كذا، والحِلُّ عليَّ حرامٌ لأفعلنَّ كذا، والحرام يلزمني لأفعلنَّ كذا، وأيمانُ البيعة وأيمان المسلمين تلزمني لأفعلنَّ كذا أو لا فعلتُهُ، وامرأتي طالقٌ لأفعلنَّ كذا، والحجُّ يلزمني لأفعلنَّ كذا، ونحو ذلك مما يكون الكلام
(1)
«التحقيق» (47/ أ).
فيه جملتين: جملةٌ مقسمٌ بها، وجملةٌ مُقسمٌ عليها قد تُلُقِّيَتْ بلامِ القسم التي هي من خصائص صيغة القسَم، لا يكون قَطُّ إلا إذا كانت
(1)
الجملة صيغة قَسَم، ثم فهذا من محل النزاع، ولفظ هذه لفظ القسم وليست جملة شرطية
(2)
.
الوجه الثاني: أَنَّ الجملةَ الشرطيةَ إذا كانت
(3)
بمعنى هذه التسمية، فحكمها حكمها باتفاق المسلمين، لم يُعرف أحدٌ من المسلمين فَرَّقَ بين حكمِ هذه وحكم هذه، بل مَنْ قال: إن الطلاق والعتاق والحرام والظهار والنذر يلزم في هذه قال يلزم في هذه، وَمَنْ قال لا يلزم في هذه ولا كفارة عليه قال لا يلزم في هذه ولا كفارة عليه، وَمَنْ قال في هذه تجزئه كفارة يمين ولا تَلزمه هذه الأمور قال في هذه: تجزئه الكفارة ولا يلزمه هذه الأمور، لم يُفَرِّقْ أَحَدٌ علمناه بين هذه وهذه.
فإذا قال: الطلاق يلزمني، أو الحِلُّ عليَّ حرام لأفعلن، [أو]
(4)
قال: إن لم أفعل فالطلاق يلزمني، والحِلُّ عليَّ حرام، وقد يكون المقدَّم في هذه مؤخَّر في هذه، وقد يكون ترتيبهما واحدًا، فقد يقول: إِنْ فعلتُ كذا فالطلاق يلزمني، وقد يقول: الطلاق يلزمني لأفعلنَّ كذا، لأنَّ الشرط أصله أَنْ يُقَدَّمَ على الجزاء وقد يؤخر عنه.
(1)
في الأصل: (كان)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(2)
مجموع الفتاوى (33/ 46)(35/ 245 - 246، 258)، الفتاوى الكبرى (3/ 238)(4/ 111 - 112)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 441، 538)، القواعد الكلية (ص 448 وما بعدها).
وانظر ما تقدم (ص 588).
(3)
في الأصل: (كان)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(4)
إضافة يقتضيها السياق.
ثم قد قيل: المؤخر هو الشرط، وقيل: بل هو دليل على شرط محذوف، ولكن لما كان أَصْلُ الشرطِ [250/ أ] التقديمُ أَطْلَقَ مَنْ أَطْلَقَ مِنَ الفقهاء أَنَّ المقدَّم في هذه الصيغة مؤخر في هذه، والمنفي مثبت، لأنَّ المؤخر في صيغة الجزاء هو المحلوف عليه؛ كقوله: الطلاق يلزمني لأفعلنَّ أو لا أفعل، وهذا في صيغة الشرط هو المعلَّق بالشرط، فيكون ترتيبه التقديم كقوله: إِنْ لم أفعل أو إِنْ فعلتُ فامرأتي طالق. وإذا كان حكم الصيغتين واحدًا وإحداهما صيغة قَسَم في لغة العرب؛ فالأخرى مثلها بالإجماع والمعقول.
الثالث: أَنَّ تسميةَ صيغةِ التعليق يمينًا وحلفًا استعمالٌ ثابت في لغة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ حَلَفَ بملةٍ سوى الإسلام كاذبًا فهو كما قال»
(1)
، وهذا إنما يكون في مثل قوله: إِنْ كنتُ فعلتُ كذا فأنا يهودي أو نصراني، فيحلف كاذبًا بالملة؛ فإذا كان كاذبًا استحق أَنْ يكون كما قال
(2)
.
وأما تحريف بعض المتأخرين له بقوله: المراد إذا قال: وَحَقُّ اليهودية والنصرانية؛ فإنَّ هذا لا يقال فيه: فهو كما قال، والناس لم تجر عادة أحدٍ منهم أَنْ يحلف بذلك، والمعروف عند الفقهاء وعموم المسلمين من الحديث هو المعنى الأول، فهذا المعنى هو الذي نقلته الأمة عن نبيها صلى الله عليه وسلم كما نقلت ذلك اللفظ.
الوجه الرابع: أَنَّ تسميةَ هذا التعليق يمينًا، بل وإدراجه في عموم الآية هو قول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكابر التابعين، كما تقدم النقل الثابت عنهم
(1)
تقدم تخريجه في (ص 42).
(2)
انظر ما تقدم (ص 18 وما بعدها، 57 وما بعدها).
بذلك في غير موضع، وهم أهل اللغة التي بها نزل القرآن، ولم ينازعهم أحد في أن هذا لا يسمى يمينًا.
الوجه الخامس: أَنَّ تسمية هذه أيمانًا هو لغة الصحابة رضي الله عنهم والتابعين، كما تقدم النقل عنهم بذلك، بل هو لغة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين ومن بعدهم من الأمة قرنًا فقرنًا، ولم يُعرف عن أحد من السلف أنه نَفَى تسمية هذه أيمانًا، وهذا أبلغ ما يكون من أنها أيمان في اللغة والشرع.
السادس: أنه إذا ثبت استعمال الصحابة والتابعين ومن بعدهم لاسم اليمين في هذه التعليقات، فلو لم [250/ ب] تكن أيمانًا للزم النقل والتغير على اللغة، والأصل بقاء اللغة وتقريرها لا نقلها وتغيرها
(1)
.
السابع: أَنَّ هذه التعليقات تسمى أيمانًا باتفاق الناس كلهم، فلو لم تكن أيمانًا لزم المجاز أو النقل، وكلاهما خلاف الأصل.
الثامن: أَنَّه إذا ثبت استعمال اسم الأيمان في هذه التعليقات، واستعمالها في لفظ القسم الذي يشبه معناه معنى هذه التعليقات؛ فلا يخلو: إما أَنْ تجعل حقيقةً في أحدهما مجازًا في الآخر، أو حقيقة في ما يختص بكل منهما، أو حقيقة في القَدْرِ المشترك بينهما؛ والأول يلزم منه المجاز، والثاني يلزم منه الاشتراك اللفظي، والثالث يلزم منه التواطؤ ونفي المجاز والاشتراكِ اللفظي
(2)
.
(1)
مجموع الفتاوى (20/ 244)(29/ 16)، الفتاوى الكبرى (4/ 12)(6/ 234، 269)، القواعد الكلية (ص 211)، الدراسات اللغوية والنحوية في مؤلفات ابن تيمية (ص 74).
(2)
مجموع الفتاوى (7/ 108)، الجواب الصحيح (3/ 199)، الإيمان (ص 90).
ومعلومٌ أَنَّ المجاز والاشتراك على خلاف الأصل، وَأَنَّ الأصل في كل اسم استعمل في معنيين أن يكون عامًّا لهما باعتبار معنى مشترك، لا أن يكون مجازًا في أحدهما، ولا أَنْ يكون مشتركًا اشتراكًا لفظيًّا، بل جميع الأسماء التي عُلِّقَتْ بها الأحكام مثل: اسم المؤمن والكافر والصلاة والزكاة والخمر والميسر واليمين هي من هذا الباب؛ فوجب أَنْ يحمل استعمال هذا الاسم على ذلك، لا على ما يخالف الأصل ويحتاج إلى دليل خاص
(1)
.
وأما تسمية كل تعليق يمينًا، أو تسمية التعليق الذي يراد به وقوع الجزاء عند الشرط يمينًا= فهذا لا يُعرف في استعمال أحد من الصحابة، بل ولا رأيته في كلام أحد من التابعين، بل هذا كتسمية كل إيقاع للطلاق حلفًا ويمينًا، ولا ريب أَنَّ هذا هو العُرْفُ الحادث بلا ريب.
التاسع: أَنَّ كون الكلام يمينًا هو أمرٌ يتعلق بمعناه لا بصيغة مخصوصة؛ بدليل أَنَّ ذلك المعنى يسمى يمينًا سواء كان بالعربية أو بالعجمية
(2)
، وسواء كان بجملة فعليةٍ كقوله: أحلف بالله لقد كان كذا، أو اسمية كقوله تعالى:{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72].
كما يسمى الكلام أمرًا ونهيًا ونفيًا وإثباتًا وخبرًا واستخبارًا لأجل المعنى المخصوص المعبَّر عنه بالصيغة، بحيث يسمى أمرًا ونهيًا ونفيًا وإثباتًا وخبرًا واستخبارًا بأيِّ لغةٍ عُبِّرَ عن ذلك المعنى.
(1)
انظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة (2/ 964 - 978). وانظر ما تقدم (ص 310).
(2)
قال في قاعدة العقود (2/ 323): (وكون الكلام يمينًا أو ليس بيمين: من الحقائق العقلية الثابتة في فِطَرِ الناس، ليس مما تختلف فيه اللغات).
وكذلك تسميةُ المعنى طلاقًا ونذرًا وحلفًا [251/ أ] وكتابة هو لأجلِ معناه لا لأجل لفظٍ معين.
العاشر: أَنَّ معنى لفظ اليمين حيث استعمل يتضمن التزام أمرٍ مكروه عند الحنث والمخالفة، فلا بُدَّ في كل يمين من هذا. وحيث التزم العاقدُ أمرًا مكروهًا له يكره لزومه له وَإِنْ حَصَلَتِ المخالفةُ والحنث= فهو حالف. فهذا معنى مطرد منعكس في مسمى اسم اليمين، وما سواه فإما غير جامع وإما غير مانع.
الحادي عشر: أَنَّ التوكيل والنيابة جائز في الطلاق والعتاق، وليس بجائز في الأيمان؛ فلو كان الحلف بالطلاق والعتاق طلاقًا وعتاقًا ليس يمينًا لجاز فيه التوكيل، كما يجوز أَنْ يوكل مَنْ يُطَلِّقُ عنه طلاقًا منجزًا ومعلقًا، وكما يجوز أَنْ يطلق الولي على موليه؛ ولا يحلف أحد عن أحد لا بطلاق ولا عتاق، ولو وَكَّلَهُ في ذلك.
فعلم أَنَّ هذا من باب اليمين التي تمتنع فيها النيابة، لا من باب الطلاق والعتاق الذي تجوز فيه الوكالة، لأنَّ ذلك خُصَّ بخصوصيةٍ تتعلقُ بالقلب؛ كالإيمان بالله ــ سبحانه وتعالى ــ، وَحُبِّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وخوفِ الله ــ عز وجل ــ ونحو ذلك، وهذه الأمور لا تدخل فيها نيابة.
* * * *
فصلٌ
قال: (ولا شك أَنَّ اليمين في اللغة تطلق على الحلف بكل ما تدخل عليه أدوات القسم؛ كالحلف بالله وصفاته، والآباء ــ على عادة العرب ــ والكعبة والقرآن وغير ذلك مما يُقصد تعظيمه، فإنَّ الحالفَ مُعَظِّمٌ للمحلوف به، مُؤكِّدٌ للمحلوف عليه= كُلُّ ذلك يسمى يمينًا، لأنهم كانوا عند العهود والالتزام وأخذ المواثيق يأخذون بأيمانهم، يمسك كُلُّ واحد من المتعاقدين بيمينِهِ يمينَ صاحبِهِ؛ فَسُمِّيَ يمينًا للزوم اليمين فيه، وسمي قَسَمًا وحلفًا وعهدًا وميثاقًا وإيلاء، وَسُمِّيَ المحلوف عليه يمينًا لتلبُّسِهِ
(1)
بها؛ ومنه الحديث: «مَنْ حَلَفَ على يمينٍ»
(2)
)
(3)
.
والجواب: أَنَّ هذا الكلام يتضمن أنه لا يسمى يمينًا في الشرع إلا ما كانت فيه أدوات القسم، وأدوات القسم هي حروفه: كالباء والتاء والواو، وهذا هو الذي يَعْقِدُ له النحاة (باب القَسَم) ليتكلموا في إعراب ألفاظِ القسم.
فإنَّ أصل [251/ ب] هذا الباب: أحلف بالله؛ ثم لكثرةِ دورانِ القَسَم على ألسنتهم حذفوا الفعل كثيرًا، وصاروا يقولون: بالله، ثم عَوَّضُوا الواو عن الباء لتلازمهما؛ كما قالوا: تُخَمَه، وتُهَمَه، وتُجَاه؛ وأصل ذلك الواو، فإنه من الوجه والوهم
(4)
.
(1)
في الأصل: (للشبه)، والمثبت من «التحقيق» ، وهكذا ضبطت فيه.
(2)
تقدم تخريجه في (ص 26).
(3)
«التحقيق» (47/ أ).
(4)
اللباب في علل البناء والإعراب (1/ 375)(2/ 336)، المفصل في صنعة الإعراب (ص 512 ــ 513).
ولما كانت الواو هي البدل لم يُدْخِلُوهَا إلا على اسم ظاهر ولم يظهروا معها الفعل، ثم عَوَّضُوا التاء عن الواو في اسم الله خاصة، ونُقِلَ أنهم قالوا: تَرَبِّ الكعبة.
فهذا ونحوه مما يتكلم فيه النحاة في أدوات القسم، لكنْ أَجمَعَ المسلمونَ على أَنَّ حكمَ اليمين المذكور في كتاب الله وسنة رسوله ليس مختصًّا بما تكون فيه هذه الأدوات؛ بل يكون القَسَمُ جملةً اسميةً كقوله تعالى:{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]، ومنه في الحديث:«لعمرو إلهك»
(1)
،
وفي الصحيحين من حديث الإفك عن عائشة رضي الله عنها أَنَّ سعد بن عبادة وَأُسيد بن
(1)
أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (1/ 286)، وأبو داود (3266)، وعبد الله بن الإمام أحمد في زوائد المسند (26/ 121) وغيرهم من حديث لقيط بن عامر رضي الله عنه.
وصححه إسناده الحاكم في المستدرك (4/ 605) وتعقبه الذهبي بقوله: يعقوب بن محمد بن عيسى الزهري ضعيف، وقال الهيثمي في المجمع (10/ 340): رواه عبد الله والطبراني بنحوه، وأحد طرقي عبد الله إسنادها متصل ورجالها ثقات، والإسناد الآخر وإسناد الطبراني مرسل عن عاصم بن لقيط: أنَّ لقيطًا.
وقال ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية (7/ 46): وقد رُوِيَ مبسوطًا من وجهٍ آخر؛ كما رواه أبو بكر بن خزيمة في كتاب التوحيد (2/ 460) الذي اشترط فيه أنه لا يَحتجُّ إلا بما ثبت من الأحاديث ثم ذكره.
قال ابن القيم في حادي الأرواح (1/ 528): وأما حديث أبي رزين الذي أشار إليه البخاري فهو حديثه الطويل، ونحن نسوقه بطوله نجمل به كتابنا؛ فعليه من الجلالة والمهابة ونور النبوة ما يُنادي على صحته، ثم ذكره، وقال: هذا حديث كبير مشهور
…
إلخ.
انظر: زاد المعاد (3/ 673)، ومختصر الصواعق المرسلة (3/ 1183).
وقال ابن كثير في البداية والنهاية (7/ 339): هذا حديثٌ غريبٌ جدًّا، وألفاظُهُ في بعضها نكارة. وانظر (19/ 354).
حضير كل منهما يحلف بحضرةِ النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار فيقول: هذا كذبٌ ــ لعمرو الله ــ لا يقتله، ولا يقدر على قتله، ويقول الآخر: كذبتَ ــ لعمرو الله ــ لنقتلنَّه؛ إنك منافق تجادل عن المنافقين
(1)
.
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بَعَثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثًا وَأَمَّرَ عليهم أسامة بن زيد، فطعن الناس في إمرته، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«أَنْ تطعنوا في إمرته، فقد كنتم تطعنون في إِمْرَةِ أبيه من قبل؛ وايم الله. إِنْ كان لخليقًا للإمارة، وَإِنْ كان لمن أحب الناس إليَّ، وإن هذا من أحب الناس إليَّ بعده»
(2)
، وفي الصحيحين ــ أيضًا ــ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال سليمان بن داود: لأطوفنَّ الليلةَ على مائةِ امرأةٍ كُلٌّ منهن تأتي بفارسٍ يقاتلُ في سبيل الله. فقال له صاحبه: قل: إِنْ شاء الله. فلم يفعل، فطاف عليهنَّ جميعًا، فلم يحمل منهنَّ إلا امرأة واحدة جاءت بشقِّ رجل؛ وايم الذي نفس محمدٍ بيده لو قال: إِنْ شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون»
(3)
.
وأيضًا؛ فلو قال الرجل: عليَّ عهدُ اللهِ وميثاقُهُ لأفعلنَّ كذا؛ كان يمينًا، والجملة الأولى اسمية ليس فيها شيء من حروف القَسَمِ.
[252/ أ] وأيضًا؛ فقد ثبت في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كفارة النذر كفارة يمين»
(4)
، وقال عقبة بن عامر: النذر
(1)
أخرجه البخاري (2661)، ومسلم (2770).
(2)
أخرجه البخاري (3730)، ومسلم (2426).
(3)
أخرجه البخاري (2819)، ومسلم (1654).
(4)
تقدم تخريجه في (ص 92).
حَلْفَةٌ
(1)
.
وكذلك قال غير واحدٍ من الصحابة كعمر وابن عباس وجابر رضي الله عنهم: النذر يمين
(2)
. وسواء أريد به أنه نوع من اليمين، أو أن
(3)
حكمه حكم اليمين؛ فهو دليل على أَنَّ كفارة اليمين لا تختص بأدوات القسم.
وفي السنن عن عقبة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من نذر نذرًا ولم يسمِّهِ فكفارته كفارة يمين»
(4)
قال الترمذي: حديث صحيح. فَجَعَلَ قولَهُ: عليَّ نذرٌ موجبًا لكفارة يمين؛ وهذا قول عامة السلف والخلف، وذكره بعضهم إجماعًا، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم، وإذا كان مسمَّى اليمين المكفرة في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأمته أعم مما فيه حروف القَسَم= بَطَلَ قولُ مَنْ يقولُ إِنَّ اليمين المكفرة ما كان فيها أدوات القسم، وَعُلِمَ أَنَّ هذا قولٌ يخالفُ النصَّ والإجماعَ.
وأيضًا؛ فلو حَلَفَ بغير العربية انعقدت يمينه بالإجماع مع انتفاء الأدوات
(5)
، فلا بُدَّ أَنْ يوجد المعنى الذي يعبر عنه بهذه العبارة وغيرها؛ وحينئذٍ فقوله:(وأما التعليق فليس فيه شيءٌ من هذا) = كلامٌ لا ينفعُهُ إلا إذا بَيَّنَ أَنَّ لفظَ اليمين لا يتناول في الشرع إلا ما كان فيه أدوات القَسَم؛ وهذا لم يثبته.
(1)
تقدم تخريجه في (ص 118).
(2)
تقدم تخريجها في (ص 143).
(3)
غير واضح في الأصل، ولعلها ما أثبتُّ.
(4)
تقدم تخريجه في (ص 362 - 363).
(5)
المغني (13/ 623 - 624).
والكلام في مقامين:
أحدهما: أَنَّا لا نُسَلِّم أَنَّ اسم اليمين المكفرة في الشرع بما تسميه النحاة يمينًا، فإنَّ النحاةَ لهم اصطلاحٌ خاصٌ، كما يخصون نوعًا من الكلام باسم النُّدْبِة ونوعًا بالاستغاثة، مع أَنَّ لفظ النُّدبة والاستغاثة في اللغة أعم من ذلك، وهذا لم يُقِم دليلًا على اختصاص اسم اليمين في الشرع بما ذكره من الأدوات؛ ويكفي المنع، وتوجيهه:
الوجه الثاني: أَنَّا قدمنا دلالةَ النص والإجماع على أَنَّ مسمى اليمين في الشرع واللغة أعم مما ذكره.
فصلٌ
قوله: (وأما التعليق فليس فيه شيءٌ من ذلك. نعم؛ في التعليق على وجه اللجاج والغضب حيث يكون المشروط التزام [252/ ب][أمرٍ]
(1)
شَبَهٌ من اليمين لما بينهما من الاشتراك في الالتزام ــ كما قدمنا ــ، فسميت يمينًا لذلك على وجه التجوّز لا على سبيل الحقيقة)
(2)
.
والجواب عن هذا من وجوه:
أحدها: أَنْ يقال: قد أثبتَّ قدرًا
(3)
مشتركًا بين القَسَمِ بأدواته وبين التعليق المسمى بنذر اللجاج والغضب، وَسَلَّمْتَ أَنَّ هذا يسمى يمينًا، ثم ادَّعيتَ أَنَّ هذا مجاز.
(1)
ما بين معقوفتين من «التحقيق» ، وليست في الأصل.
(2)
«التحقيق» (47/ أ).
(3)
في الأصل: (نذرًا)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
ومعلومٌ أَنَّ اللفظ إذا جُعِلَ حقيقةً في ذلك المعنى المشترك سَلِمْنَا من المجاز والاشتراك اللفظي اللذين
(1)
هما على خلاف الأصل، وكان اللفظ متواطئًا حقيقةً في ذلك المعنى العام المشترك اشتراكًا معنويًا، ولا ريب أَنَّ التواطؤ خيرٌ من الاشتراك اللفظي والمجاز، فيكون جعله حقيقةً في القَدْرِ المشترك أولى من جعله مجازًا، وذلك المعنى المشترك موجود في الحلف بالطلاق والعتاق= فيكون مسمَّى اليمين حقيقة في ذلك كلِّهِ؛ وهو المطلوب.
الوجه الثاني: أَنَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين نَزَلَ القرآنُ بلغتهم سموا هذه التعليقات أيمانًا وأدخلوها في الآية، لم يثبتوا الحكم فيها بمجرد القياس ــ كما زعمه ــ فَعُلِمَ أنها يمين في لغتهم، داخلة في اسم اليمين المذكور في كتاب الله ــ تعالى ــ، وجمهور العلماء اتبعوهم، وهو مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، وَنَصُّوا على أَنَّ هذه التعليقات من معاني الأيمان لا من معاني النذور.
الثالث: أَنَّ القَدْرَ المشترك الذي به جُعلت هذه أيمانًا: إما في الاسم والحكم، وإما في الحكم= ليس هو كون المشروط التزامَ أمرٍ ــ كما يَدَّعِيه هذا المعترض ونحوه ــ، فإنَّ هذا المعنى موجود في نذر التبرر، فإنَّ المشروط فيه التزامُ أَمْرٍ، [إذ]
(2)
لا فرق في كون المشروط الذي هو الجزاء التزامَ أَمْرٍ بين أَنْ يقول: إِنْ شفى الله مريضي فعليَّ الحجُّ، وبينَ أَنْ يقول: إِنْ سافرت معكم فعليَّ الحج. في كلا التعليقين عَلَّقَ التزامَ الحجِّ، ومع هذا
(1)
في الأصل: (الذين)، والصواب ما أثبتُّ.
(2)
إضافة يقتضيها السياق.
فالأول نذرٌ لازمٌ، والثاني يمين مكفَّرة
(1)
.
فَعُلِمَ أَنَّ الذي به صار ذلك التعليق يمينًا مكفرة ليس هو الالتزام الموجود في النذر اللازم، بل هو معنىً آخر، وهو قَصْدُ اليمين الذي هو تعليقه لأمرٍ يكره لزومه له وَإِنْ وجد الشرط، فإنَّ هذا المعنى [253/ أ] منتفٍ في نذر التبرر وهو موجود في اليمين؛ فعلم [أنَّ تعليقه كان يمينًا مكفرة لهذا]
(2)
، لا لكون المعلَّق التزامًا
(3)
؛ وهذا المعنى موجودٌ في تعليقِ الطلاقِ والعتاقِ على وجه اليمين، فإنه عَلَّقَ ما يكره لزومه له وَإِنْ وُجِدَ الشرط فيكون يمينًا مكفَّرة.
الرابع: أَنَّ نذر اللجاج والغضب قد أجزأت فيه الكفارة، فَإِنْ كانت الكفارة وجبت فيه وليس بيمين بل لمشابهة
(4)
اليمين؛ لزم من هذا أَنْ تجزئ الكفارة فيما أشبه اليمين وإن لم يُسَمَّ يمينًا، ولا بُدَّ أَنْ يكون الشبه في المعنى الذي لأجله وجبت الكفارة، وقد بينَّا أَنَّ ذلك ليس هو كون المعلق التزامًا، بل كون المعلق أمرًا يكره لزومه له، وهذا موجود في تعليق الطلاق والعتاق على وجه اليمين، فيلزم إجزاء الكفارة فيه.
الخامس: أَنَّ الالتزام موجود في جميع العقود؛ فإنَّ الضمانَ التزامُ وفاءِ دينِ المدين مع بقائه عليه وليس هو يمينًا، والبائع التزم تسليم المبيع، والمشتري التزم تسليم الثمن؛ فلو كان المسوِّغُ للتكفير هو الالتزام= لكان
(1)
العبارة في الأصل هكذا: (فالأول يمين مكفرة، والثاني نذر لازم) وهو سبق قلم.
(2)
العبارة في الأصل هكذا: (أنه كان تعليقه يمينًا مكفرة لهذا)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(3)
انظر ما تقدم (ص 60 وما بعدها).
(4)
في الأصل: (لمشابه)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
كل ملتزم تجزئه الكفارة ولا يلزمه ما التزمه! وهذا لا يقوله مسلم، بل ولا عاقل.
فَعُلِمَ أَنَّ دعوى المدعي أَنَّ المعنى الموجِب للكفارة هو الالتزام، وهو موجود في نذر اللجاج والغضب= كلامُ من لم يعرف لا مسمى لفظ اليمين ولا المعنى الموجب للكفارة، فكان كلامه في الأيمان كلامُ من لا يَعرف دلالةَ الأدلةِ الشرعيةِ عليها، لا دلالةَ النصوصِ الظاهرة ولا المعاني الباطنة، فلا يعرف معنى اليمين في اللغة والشرع، ولا المعنى الموجب لتكفيرها وَمَنْ لم يعرف هذا= كان كلامه في القضية المعينة هل هي يمين مكفرة أو غير مكفرة أو ملحقة باليمين المكفرة= كلامًا بلا علم، وَحَسْبُ المجيب أَنْ يُبين أَنَّ كلام هذا المعارض كلام بلا علم.
* * * *
فصلٌ
قال: (وللعلماء في موجبها أقوال:
قيل: الوفاء بما نذر؛ وهو مرويٌ عن ابن عمر رضي الله عنهما، وعثمان البَتِّي، وأحد أقوال الشافعي نقله ابن المنذر عنه.
وعن ابن عمر مطلقًا؛ ورواه معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر في رجلٍ جَعَلَ ماله في سبيل الله إنْ لم يفعل كذا، ثم حنث [قال: مالُهُ]
(1)
في سبيل الله، وقد روي عن ابن عمر خلاف ذلك [253/ ب] أيضًا.
وقيل: لا شيء عليه؛ روي ذلك عن: الشعبي والحارث العكلي وحماد والحكم في اليمين بالصدقة والهدي، وكذلك عن ابن أبي ليلى في الصدقة، وعن عطاء وطاووس على خلافٍ عنهما، وهؤلاء يقولون بشمول الآية له.
وقيل: بالتخيير
(2)
بين الوفاء بما نذره وبين الكفارة؛ وهو أشهر أقوال الشافعي عند العراقيين من أصحابه، وهو الذي يقوم الدليل عليه ــ كما سنشير إلى ذلك ــ، والقائل بهذا ــ أيضًا ــ يمنع شمول الآية [له]
(3)
مطلقًا.
وقيل: الكفارة؛ وهو قولٌ مشهورٌ للشافعي، رَجَّحَهُ جماعةٌ من أصحابه، وهو مرويٌ عن
(4)
عمر بن الخطاب وابن عباس وعائشة وغيرهم من الصحابة والتابعين.
(1)
في الأصل: (قاله)، والمثبت من «التحقيق» .
(2)
في الأصل: (التخير)، والمثبت من «التحقيق» .
(3)
ما بين المعقوفتين من «التحقيق» .
(4)
هنا في الأصل زيادة (ابن)، وليست في «التحقيق» ، والظاهر أنها مقحمة.
قال الشافعي في المختصر
(1)
: ولو قال: مالي في سبيل الله أو صدقة على معاني الأيمان. فمذهب
(2)
عائشة وعدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعطاء، والقياسُ أَنَّ عليه كفارة [يمين]
(3)
.
قال: ومن حنث في المشي إلى بيت الله ــ عز وجل ــ ففيه قولان:
أحدهما: قول عطاء كفارة يمين، ومذهبه أَنَّ أعمال البر لا تكون إلا بما فَرَضَ الله، أو تبررًا يراد به الله.
قال الشافعي: التبرر أَنْ يقول: لله عليَّ إن شفاني الله أَنْ أحجَّ له نذرًا، فأما إِنْ لم أقضك حقك فعليَّ المشيُ إلى بيت الله؛ فهذا من معاني الأيمان لا معاني النذور
(4)
.
قال المزني
(5)
: قد قَطَعَ بأنه قولُ عددٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم [والقياس]، وقد قال في غير هذا الموضع: لو قال: لله عليَّ نَذْرُ حجٍّ إِنْ شاء فلانٌ فَشَاءَ، لم يكن عليه شيء، إنما النذر ما أريدَ به الله، ليس على معاني المعلِّق، والشائي غير الناذر.
والقائلون بهذا لا يلزم أَنْ يكونوا أخذوه من دلالة الآية عليه لفظًا، بل بالقياس)
(6)
.
(1)
مختصر المزني (ص 390).
(2)
في الأصل: (فذهب)، والمثبت من «التحقيق» ومختصر المزني.
(3)
ما بين المعقوفتين من مختصر المزني.
(4)
في الأصل: (النذر)، والمثبت من «التحقيق» ومختصر المزني.
(5)
(ص 390).
(6)
«التحقيق» (47/ أـ ب).
والجواب من وجوه:
أحدها: أَنَّ الأقوال للسلف ثلاثة فقط؛ إمَّا لزوم ما التزمه، وإِمَّا إجزاء التكفير، وإما أنه لا شيء عليه، وجمهور السلف على إجزاء الكفارة.
والقائلون بإجزاء الكفارة يقولون: إذا فَعَلَ ما نذره لم يكن عليه شيء آخر، وهو معنى قول مَنْ يخيِّره بين الوفاء وبين التكفير، وقد ذكر الإمام أحمد بن حنبل إجماعَ الناس على أنه إذا فعل المنذور لم يكن عليه [254/ أ] شيء آخر، وَإِنْ كان قد حُكِيَ القولُ بتعين الكفارة رواية عنه، وقول للشافعي اختاره طائفة من الخراسانيين. قال أحمد: [
…
]
(1)
.
الثاني: أَنَّ هذا المعترض ظَنَّ أَنَّ مَنْ قال بالتخيير لا يحتج بالآية، وَمَنْ قال بلزوم الكفارة لا يلزم أن يكونوا أخذوه من دلالة الآية عليه لفظًا بل بالقياس؛ وهذا الكلام فيه غلطٌ عظيمٌ على السلف والعلماء من أربعة أوجه:
من جهة أَنَّ أصحاب القول الأول لم يحتجوا بالآية لعدم دلالة الآية على ذلك، وَأَنَّ أصحاب القول الثاني وإن أمكن أن يحتجوا بالآية فلا يلزم ذلك، بل يمكن أن يكون معتمدهم القياس، ثم أخذ يُضَعِّفُ حُجَّةَ هذا القول لِظَنِّهِ
(2)
أَنَّ مَنْ جعل هذا يمينًا مكفرة واحتج بالآية لا
(3)
حجة له، ومن جهة ظَنِّهِ أنه إذا كانت الحجة في الكفارة هو القياس؛ فالجامع هو: الالتزام، وهو منتفٍ في الحلف بالطلاق، وفي هذا الكلام من سوء الفهم وقلة المعرفة ما يطول وصفُهُ، لكن يُذكر ما يتعلق بمعرفة الأحكام الشرعية وأدلتها.
(1)
بياض في الأصل مقدار ثلاثة أسطر تقريبًا.
(2)
في الأصل: (لِيُظَنَّ)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(3)
في الأصل: (ولا)، ولعل الصواب حذف الواو، أو تكون «فلا» .
وأنا أعذر المعترض وأمثاله في كثيرٍ مما يقولونه، لأنَّ مَنْ هو أكبر منهم غَلِطَ في مواضع، وهم زادوا في الغلط؛ فتضاعف الغلط وضعفت معرفتهم بالكتاب والسنة ومعاني أقوال الصحابة ومن اتبعهم.
وهو وإنْ كان قد غلط في هذه المواضع فقد أصاب وأحسن في قوله: (على أَنَّ هذا القول بالتحرير الذي يقوله المتأخرون ــ وهو: أَنَّ الواجب الكفارة عينًا بحيث لو أتى بالذي التزمه لا يكفي ــ لسْتُ أعرف الآن دليلًا عليه، لا من خبرٍ ولا من نظرٍ)
(1)
؛ فإنَّ هذا القول في غايةِ الضعف، وقد أحسن في تضعيفه، بل هو خلاف الإجماع الذي حكاه الإمام أحمد، مع تحري أحمد في حكاية الإجماع، وَرَدِّهِ على مَنْ يجزم بالإجماع، وَأَمْرِهِ له بأنْ يقول: ما أعلم خلافًا.
ولكنَّ ظَنَّ هذا المعترض أَنَّ حجة المجيب إنما [254/ ب] تتوجَّه
(2)
على تقدير نصرة هذا القول الساقط الشاذ المخالف لإجماع السلف= ظَنٌّ كاذب، بل أَنَا أُسَلِّمُ خَطَأَ هذا القول وأجزم به، مع الجزم بأنَّ هذه يمين مكفرة؛ فصار قياسًا.
وسبب الاشتباه في ذلك: أَنَّ التعليق القَسَمي كقوله: إِنْ لم أفرق بينك وبين امرأتك فمالي هدي وكل مملوك لي حر وأنا يومًا يهودية ويومًا نصرانية ونحو ذلك، وقوله: إِنْ فعلت كذا فعليَّ الحج ونحو ذلك= هو إنما يكون حانثًا الحنث الموجب للكفارة إذا وجد الشرط دون الجزاء، فإنَّ كلامه تضمن لزوم الجزاء عند الشرط، فإنْ وُجِدَ الشرطُ والجزاء لم يكن قد
(1)
«التحقيق» (47/ ب)، وسيعيد نقله المجيب مع ما بعده في الفصل التالي.
(2)
أول الكلمة غير واضح، وقدرتها بما أثبتُّ.
خالف عَقْدَهُ، وإنْ لم يوجد لا الشرط ولا الجزاء لم يكن قد خالف عقده، وأما إذا وجد الشرط دون الجزاء فقد خالف عقده؛ فلزمته الكفارة.
فالحنث الموجبُ للكفارة عينًا هو: مخالفةُ عَقْدِهِ بوجود الشرط دون الجزاء، لكن هو إذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فعليَّ الحج؛ فمقصوده: منعُ نفسِهِ من الفعل وجَعْلُ الحج لازمًا له إذا فعل لئلا يفعل، فإذا وجد الفعل فقد يُسمى حانثًا كما يسمى حانثًا إذا حلف ألا يفعل وفعل، ولكن إذا وجد الفعل وَقُدِّرَ مع ذلك أنه حَجَّ فقد وفّى بموجب عقده فلم يحنث وليس عليه شيء آخر، ولكن هو إذا فعل جاء يستفتي لينظر أيلزمه الحج أم لا يلزمه؟
فَظَنَّ هؤلاء المتأخرون الغالطون المخالفون لإجماع السلف أنه بالفعل صار حانثًا الحنث الموجب للكفارة فألزموه الكفارة عينًا، وَظَنَّ هذا المعترض الغالط أَنَّ قول هؤلاء هو قول الصحابة والتابعين الذين أفتوا بالكفارة في هذه الأيمان كعمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم وغيرهم؛ وهذا غلط عليهم، فإنَّ قول هؤلاء الصحابة هو القول الذي نَصَرَهُ الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما، وهم يفتون بالكفارة، ولو فَعَلَ ما عَلَّقَهُ لم يكن عليه شيء آخر بلا ريب، وهكذا نَقَلَ عنهم عامة العلماء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم مثل: أبي حامد الإسفراييني الذي يعتمد على نقله، فإنه قال:(وعندنا أنه مخيَّر بين أَنْ يفي بما نذره أو يُكَفِّر كفارة يمين، وبه قال: عمر وابن عمر وابن [255/ أ] عباس وعائشة وحفصة وزينب بنت أم سلمة ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن التابعين عطاء وطاووس والحسن، ومن الفقهاء أبو عبيد وأحمد وإسحاق وأبو ثور).
والصحابة رضي الله عنهم أفتوه بالكفارة لا لأنه إذا فعل ما التزمه لزمته الكفارة أيضًا، بل أمروه أَنْ يُكفِّر ولا يحتاج مع ذلك إلى فعل ما التزمه، لأنه ليس له قصد في فعله، وإنما كان يفعله إذا كان واجبًا عليه، فإذا لم يكن واجبًا عليه بل تجزئه كفارة يمين فلا داعي له إلى فعله، وقد يُنهى ــ أيضًا ــ عن فعله لما عليه في ذلك من الضرر، لأنه ليس له في ذلك نيةٌ خالصة، كما يُنهى الإنسان عن فعل ما يضره وعن سائر أفعال القرب التي يفعلها بلا نية خالصة لله ــ عز وجل ــ، وكما يُنهى عن أن يفعل ما حَلَفَ عليه إذا حلف ليفعلنَّ محرمًا، أو ليفعلنَّ فعلًا يضره، أو ليفعلنَّ قربة من القرب على وجه المباهاة والمراءاة ونحو ذلك.
فلو حلف ليحجنَّ رياءً وسمعة، أو لَيُخْرِجَنَّ ماله كله ويدع نفسه وعياله محتاجين= نهي عن فعل ذلك، وَأُمِرَ أَنْ يكفر يمينه، وَإِنْ كان لو فعل ذلك لم تجب عليه كفارة بقوله: إِنْ فعلتُ كذا فعليَّ الحج؛ غايَتُهُ: أَنْ يكون بمنزلة قوله: إِنْ فعلتُ كذا فوالله لأحجنَّ ثلاثين حجة ولأُخْرِجَنَّ مالي كله ولأصيرنَّ يهوديًا ونصرانيًا ولأطلقنَّ نسائي، وهو لو فعله وَحَجَّ لم يكن عليه كفارة، لكن لو فعله لقيل له: كَفِّرْ يمينك ولا تَحُجَّ ثلاثين حجة ولا تُخْرِج مالك ولا تَكْفُر ولا تُطَلِّق نساءك، ثم لو فعل ذلك لم يكن عليه كفارة؛ فالإلزام بالكفارة مع كونه فعل ما التزمه قولٌ ضعيفٌ جدًّا.
وهؤلاء سمعوا ما ذكره الشافعي ونقله عن السلف من أنهم جعلوا هذا يمينًا مكفَّرة، فظنوا أنه بمجرد
(1)
الفعل تتعين الكفارة ولو فعل ما التزمه؛ وليس كذلك، بل هذا كما لو قال: إِنْ فعلت فوالله لأفعلنَّ كذا وكذا، فإنه
(1)
في الأصل: (مجرد)، والصواب ما أثبتُّ.
يُقال: هذه يمين مكفرة، فإذا فَعَلَ ذلك الفعل أجزأته كفارة يمين، ولا يحتاج أَنْ يفعل الفعل الثاني الذي التزمه، بل يُنهى عنه إذا كان محرمًا أو مكروهًا، ومع ذلك فلو فعله لم تجب عليه الكفارة.
لكن بعض الناس يقول: مَنْ حَلَفَ ليفعلنَّ معصيةً فعليه الكفارة [255/ب] وإن
(1)
فعلها؛ وهذا يشبه قول هؤلاء، وبإزائه قول مَنْ يقول: مَنْ حَلَفَ على طاعةٍ لا يفعلها فكفارتها أَنْ يفعلها، وهذه أقوالٌ ضعيفةٌ.
فإنَّ الكفارةَ وَجَبَتْ لما في الحنث مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ اليمين، وإذا فَعَلَ المعصية استحق عليها عقوبة أخرى، وإذا فعل الطاعة كان له عليها ثواب غير ما يستحقه بكفارة اليمين؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، فليأتِ الذي هو خير، وليُكَفِّرْ عن يمينه»
(2)
فَأَمَرَ بالكفارة مع كون الحنث خيرًا من الإصرار على اليمين؛ فَعُلِمَ أَنَّ كون الحنث بفعل طاعة لا يُسْقِطُ اليمين بل يجب مع الحنث، وإذا لم يحنث فلا كفارة عليه وَإِنْ كان عاصيًا مستحقًّا للذم والعقاب بفعل المعصية التي التزمها لا بالحنث، وإلا فإذا حَلَفَ على يمين تضمنت تَرْكَ واجبٍ أو فعل محرمٍ= كان ينبغي على هذا القول أَنْ تجب عليه الكفارة مطلقًا سواء فَعَلَ الواجب وتَرَكَ المحرم، أو لم يفعل الواجب ولم يترك المحرم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال:«فليأتِ الذي هو خير، وليكفِّر عن يمينه» ، وقال: «أن يلج
(3)
أَحدُهم يمينَهُ آثَمُ له عند
(1)
غير واضحة في الأصل، وقدرتها بما أثبتُّ.
(2)
تقدم تخريجه في (ص 26).
(3)
في الأصل: (إِنْ يُبَح)، والصواب ما أثبت.
الله من أَنْ يُعطيَ الكفارة التي فرض الله عليه»
(1)
.
وإذا عُرِفَ هذا؛ فمن قال: يخير بين الوفاء بما نذر وبين الكفارة، فهذا أرادوا به إذا وجد الشرط، فإنه ــ حينئذٍ ــ يُخير بين أن يفعل الجزاء الذي جعله لازمًا، وحينئذٍ فلا يكون قد حنث، فلا يلزمه كفارة يمين. وبين ألا يفعله فيكون قد حنث فيلزم كفارة يمين، لكن مِنْ هؤلاء مَنْ يقول: هذا أَخَذَ شبهًا من اليمين وشبهًا من النذر، وجعلوا التخيير بناءً على هذا.
وحقيقةُ الأمر أنه لا يكون حانثًا الحنث الموجب للكفارة إلا إذا وجد الشرط ولم يوجد الجزاء، فالتخيير هو تخييرٌ بين مخالفةِ عَقْدِهِ والوفاء به، كما يُخيَّر في غير هذه اليمين بين البِرِّ والحنث، وهذا التخيير إنما يُشْرَعُ إذا كان فِعْلُ الجزاء مباحًا، فأما مع كونه مكروهًا أو محرمًا فلا يخير.
ومن قال تجب الكفارةُ عينًا؛ فلو فَهِمَ أَنَّ الكفارة إنما تجب عينًا عند الحنث الذي هو وجود الشرط وعدم وجود الجزاء= لكان قد أحسن، لكن ظَنَّ ذلك هو مجرد وجود الشرط. [256/ أ] فَجَعْلُ الكفارة تلزمه وإن فعل ما التزمه يُظْهِرُ فسادَ قولِهِ ومخالفته للأصول والنصوص
(2)
، بل ومخالفته لإجماع السلف، كما ذكره الإمام أحمد.
الوجه الثالث: أَنْ نقول: الصحابة وجمهور التابعين الذي قالوا بإجزاء
(1)
أخرجه البخاري (6625)، ومسلم (1655) من حديث أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ، ولفظه:«والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله، آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه» .
(2)
بعدها في الأصل: (بل ومخالفته للأصول والنصوص)، وهذا تكرار.
الكفارة في ذلك؛ إِمَّا أن تكون حجتهم شمول الآية لهذا التعليق، وإما القياس على اليمين؛ وعلى التقديرين فقد أثبتوا الكفارة بالقَدْرِ المشترك، وجعلوا ذلك مناطَ وجوبِ التكفير.
والقَدْرُ المشترك ليس هو الالتزام ــ كما تقدم ــ، بل هو لزوم ما يكره لزومه عند الحنث، وهذا المعنى موجود في تعليق الطلاق والعتاق إذا أريد به اليمين، فيلزم أن يجزئ في ذلك كفارة يمين، عملًا بالمعنى المشترك الذي هو عِلَّةُ الحكمِ في الأصل، أو باللفظ العام الشامل فإنه لا بُدَّ من شمول اللفظ أو
(1)
من شمول المعنى.
الوجه الرابع: أَنَّ كلام الصحابة رضي الله عنهم الذين أفتوا في ذلك بكفارة يمين وكلام التابعين وسائر العلماء الذين وافقهم= بَيِّنٌ في أَنَّ هذه يمينٌ مكفَّرةٌ عندهم، يشملها لفظ اليمين ومعناه؛ فالحكم فيها ثابت بالعموم وبالقياس، بالعموم اللفظي والمعنوي.
وهذا موجود في تعليق الطلاق والعتاق إذا قصد به اليمين، فإنَّ الصحابة يقولون: كَفِّرْ يمينك، هذه يمين مُكَفَّرَةٌ ــ كما تقدم ذكر ألفاظهم ــ، لم يقل أحدٌ منهم: هذه مثل اليمين، بل سَمَّوهَا يمينًا، وأوجبوا فيها ما يجب في اليمين، ولم يقل أحد منهم إنها ليست يمينًا.
* * * *
(1)
في الأصل: (وإما)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
فصلٌ
قال المعترض:
(على أَنَّ هذا القول بالتحرير الذي يقوله المتأخرون، وهو أَنَّ الواجب الكفارةُ عينًا بحيث لو أتى بالذي التزمه لا يكفي= لستُ أعرف الآن دليلًا عليه لا من خبر ولا من نظر).
فيقال: قد أحسن المعترض في هذا وأصاب، ومرادهم بإيجاب الكفارة عينًا إذا وجد الشرط وإن فعل ما التزمه، وأما إذا وجد الشرط ولم يوجد الجزاء فإنه تجب الكفارة عينًا بلا ريب، لكن إيجابها مع فعل ما التزمه= هو القول المبتدع الضعيف الذي لا حجةَ له.
ثم قال: (أما الخبر؛ فهم يستدلون له بقوله صلى الله عليه وسلم: «كفارةُ النذر كفارة [256/ ب] يمين»
(1)
قال: فقد تأملت معنى هذا الحديث، والذي فهمته
(2)
منه: تبيين
(3)
كفارة النذر كما بيَّن الله كفارة اليمين في كتابه العزيز، وَلمَّا لم يقتض ذلك إيجاب كفارة اليمين مطلقًا، بل بشرط مخالفتها والحنث فيها= كذلك لا يقتضي هذا وجوب كفارة النذر مطلقًا، بل بشرط ألا يفي به، وَمَنْ وَفَّى به فقد أتى بمقتضى التزامه، فهو بمنزلة ما لو بَرَّ في يمينه فلا يحتاج إلى تكفير، وكيف يقال: إنه إذا أتى بالمنذور لا يكفي، ويقول له: لا تأت به بل كَفِّر؟! والله ــ تعالى ــ قد مَدَحَ على الوفاء بالنذر؛ فهذا ما أشرنا إليه من جهة النظر.
(1)
تقدم تخريجه في (ص 92).
(2)
في الأصل: (فهمت)، والمثبت من «التحقيق» .
(3)
في الأصل: (يبين)، والمثبت من «التحقيق» .
قال
(1)
: فإنْ قلتَ: [هذا عند القائلين بوجوب الكفارة عينًا ليس بنذر لكنه يمين.
قلتُ:]
(2)
فيبطل احتجاجهم عليه بقوله: «كفارة النذر كفارة يمين»
(3)
فإنه جعله نذرًا، وجمهور الأصحاب [حملوا]
(4)
هذا الحديث على نذر اللجاج الذي نحن نتكلم فيه، ولا دليل لهم على الكفارة فيه غيره)
(5)
.
فيقال: ما ذكره هنا هو من أحسن كلامه، وأجود ما ذكره مع احتياجه إلى تتمة وبيان؛ فيقال: أما دعوى من ادعى أَنَّ مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «كفارة النذر كفارة يمين» ليس إلا الحلف بالنذر الذي يسميه بعض الناس نذر اللجاج والغضب؛ ففي غايةِ الضعف؛ ولهذا لم يُعْرَف هذا القول عن أحدٍ من السلف، ولا قاله الشافعي ولا أحمد بن حنبل ولا أمثالهما من الأئمة الذين جعلوا في نذر اللجاج والغضب كفارةَ يمين، لكن هو قول طائفة من المتأخرين
(6)
.
وذلك أَنَّ قوله: «كفارة النذر كفارة يمين» اسمُ جنسٍ مُعَرَّفٍ بالألف واللام، فيجب أَنْ يكون عامًّا في النذر، ولم يتقدم نَذْرٌ معهود ينصرف الكلام
(1)
القائل هو: السبكي.
(2)
ما بين المعقوفتين من «التحقيق» ، وهو ساقط من الأصل.
(3)
تقدم تخريجه في (ص 92).
(4)
ما بين المعقوفتين من «التحقيق» ، وسيذكرها المجيب في (ص 902).
(5)
«التحقيق» (47/ ب).
(6)
ولا تعارض أقوال المتأخرين من الفقهاء بأقوال السلف.
انظر: جامع المسائل (4/ 255)(6/ 401، 403)(8/ 160)، الفتاوى العراقية (2/ 561، 746).
إليه
(1)
.
وأيضًا؛ فسواء أريد به جنس النذر أو نذر معين؛ من المعلوم أَنَّ الكفارة في النذر واليمين لا تجب
(2)
مع الوفاء، وقوله صلى الله عليه وسلم:«كفارة النذر كفارة يمين» لا يقتضي وجوب الكفارة مطلقًا، بل ولا إباحتها مطلقًا، بل يقتضي أَنَّ الذي يُكَفِّرُ النذرَ هو ما يكفر اليمين؛ فثبت أَنَّ النذر فيه كفارة اليمين.
وقوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] قال بعض الناس
(3)
: مراده: ذلك كفارة أيمانكم إذا حنثتم
(4)
. ولا تحتاج الآية إلى إضمار، فإنه ليس [257/ أ] في قوله:{ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} إيجاب الكفارة بمجرد اليمين حتى يحتاج أَنْ نضمر الحنث الذي به تجب الكفارة، بل النصُّ دَلَّ على أَنَّ هذا هو كفارة اليمين، كما قال تعالى:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] فهذه الكفارة هي كفارة عقد اليمين. كما يقال: كفارةُ الظهار؛ ومعلوم أنها إنما تجب إذا عاد إلى ما قال. ويقال: جزاءُ الصيد؛ ومعلومٌ أنه إنما يجب إذا قَتَلَهُ. ويقال: فديةُ الأذى؛ ومعلومٌ أنها لا تجب بنفس الأذى بل بالحلق، ومثل هذا كثير.
ومثله قوله تعالى في الآية الأخرى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] وهي الكفارة، لكن سماها تَحِلَّة، لأنها تحل عقد اليمين، وسماها
(1)
دلالة الألفاظ عند شيخ الإسلام (2/ 525).
(2)
في الأصل زيادة: (إلا)، والصواب حذفها.
(3)
هو أبو ثور؛ كما تقدم في (ص 7).
(4)
في الأصل: (حلفتم)، والصواب ما أثبتُّ. كما تقدم مرارًا، وكما سيأتي قريبًا.
كفارة لمحوها ما انعقد سببه من الإثم، والكفارات جعلها الله ماحية.
وهذا كقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] فالمراد: أَنَّ ذلك يجزئه، وقد علم أنه إنما يجب إذا أفطر، ونظائره متعددة.
فقوله صلى الله عليه وسلم: «كفارة النذر كفارة يمين»
(1)
بيانٌ لكونِ النذرِ كفارتُهُ كفارةُ يمين، ثم قد ثبت بالنص والإجماع أنه يجب الوفاء بالنذر، فإذا لم يوف به كان كاليمين التي حنث فيها تلزم كفارة يمين كما يلزمه في اليمين، وهذا قول السلف وهو مذهب أحمد وغيره.
ولهذا قال عقبة بن عامر ــ راوي الحديث ــ: النذر حَلْفَةٌ
(2)
. وقال عمر وابن عباس وجابر وغيرهم رضي الله عنهم: النذر يمين
(3)
.
فنذر اللجاج والغضب لم يسمِّهِ أَحَدٌ من الصحابة نذرًا، بل هو عندهم يمين من الأيمان، ولكن بعض الناس سماه نذر اللجاج والغضب تسميةً بعيدةً لكون صورته صورة النذر وَإِنْ لم يكن نذرًا، فإنه التزم ما عَلَّقَهُ على تقدير الشرط، لكن مع كراهته للزومه
(4)
له.
ومثله تسمية الحالف بالطلاق والعتاق مُطَلِّقًا ومعتقًا، وتسمية الحالف بالظهار والحرام مظاهرًا ومحرمًا، فيقال: طَلَّقَ إِنْ فعل كذا، وظاهر إن فعل
(1)
تقدم تخريجه في (ص 92).
(2)
تقدم تخريجه في (ص 118).
(3)
تقدم تخريجه في (ص 143).
(4)
في الأصل: (المذمومة)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
كذا، ونذر إن فعل كذا؛ أي: جَعَلَ [257/ ب] ذلك لازمًا له إن فعل كذا، وَإِنْ كان كارهًا للزومه لم يقصد أَنْ يلزمه سواء فعل أو لم يفعل.
وإذا كان كذلك؛ فدلالة الحديث على هذا: إما أَنْ يكون بشمول اللفظ له لكونه نذرًا، فيدخل في العموم مع شرط آخر، وهو أنه نَذْرٌ لم يجب الوفاء به، ويشاركه في هذا كل نذر لم يجب الوفاء به كنذر المعصية والمباح وغيرهما.
وأما تخصيصُ هذا بالحديث دون تلك، مع أَنَّ تلك نذر حقيقة وهذا قصده النذر= فبعيدٌ جدًا، ويحتاج حينئذٍ [أَنْ]
(1)
يبين أنه لا يجب الوفاء به بكون قصده اليمين لم يقصد أن يلتزم لله طاعة.
وإما أَنْ يكون نُكُولُهُ دَلَّ على أن كفارة النذر كفارة يمين؛ فَعُلِمَ أنه لا بُدَّ من الوفاء أو التكفير، لا يجوز أن يخلو منهما كقول مَنْ قال: لا شيء في نذر اللجاج والغضب كما في سائر النذور، ولا بُدَّ مع ذلك أَنْ يقال: لا يجب الوفاء به لكون قصده اليمين.
وإما أَنْ يقال: لَمَّا قال: «كفارة النذر كفارة اليمين» عُلِمَ أَنَّ الموجب للكفارة قَدْرٌ مشترك بين النذر واليمين، سواء جُعِلَ مسمى النذر نوعًا من مسمى اليمين، أو جُعِلَ نظيرَ المسمى اليمين، وإذا كان المشترك موجبًا للكفارة وقد عُلِمَ أَنَّ مَنْ قَصَدَ التقرب إلى الله فهو ناذر يلزمه الوفاء، فإنْ تَعَذَّرَ فعليه الكفارة، وَمَنْ قصد الحضَّ والمنع فهو حالفٌ يجوز له الحنث مع قدرته على الوفاء.
(1)
إضافة يقتضيها السياق.
وهذا الحالف بالنذر قَصْدُهُ قَصْدُ الحالفِ لا قَصْدُ الناذر، فتجزئه كفارة يمين كما تجزئ سائر الحالفين إذا حنث فلم يفعل ما التزمه من الجزاء، وأما إذا فَعَلَ ما التزمه من الجزاء فلم يحنث فلا كفارة عليه، بل فَعَلَ ما التزمه وَإِنْ كان لم يلتزمه لله بل نذره ليحلف به لا ليتقرب به إلى الله، كما لو قَصَدَ بالنذر اليمين مثل أَنْ يقول: لله عليَّ أَنْ أَقتلَ فلانًا ونحو ذلك، فإنَّ هذا ناذر حالفٌ فعليه كفارة يمين.
ففي الجملة؛ الاحتجاج بهذا الحديث على مسألة نذر اللجاج والغضب لا يمكن مع القول بتخصيص أَنَّ الحديث لم يُرَدْ به إلا هذه المسألة، ولا يمكن الاحتجاج به عليها مع دلالتها على غيرها إلا بمقدمة أخرى لا بمجرد ظاهر الحديث.
وأما قول هذا المعترض أن جمهور الأصحاب حملوا هذا الحديث على نذر اللجاج، ولا دليل لهم على الكفارة فيه [258/ أ] غيره؛ فليس الأمر كذلك، بل قد احتجوا بحجج بما ذكروه عن الصحابة رضي الله عنهم مع الحديث.
فاحتج أبو حامد الإسفراييني ومن وافقه بقوله صلى الله عليه وسلم: «كفارة النذر كفارة يمين»
(1)
. قال أبو حامد
(2)
: (ولم يفرق بين نذر ونذر، فهو على عمومه)؛ فاحتج بعموم الحديث، لم يخصه بنذر اللجاج والغضب.
قال: (ولأنه إجماع روي عن ستةٍ من الصحابة ذكرناهم، فأما الأربعة
(1)
تقدم تخريجه في (ص 92).
(2)
لم أجد مَن نقل كلام أبي حامد هذا.
فقد صرحوا وهم: عمر وعائشة وحفصة وزينب رضي الله عنهم، واثنان اختلفت الرواية عنهم وهما: ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، لأنَّ ابن عباس رويت عنه روايتان: إحداهما بتكفيرها، والأخرى مثل قول ربيعة. وابن عمر عنه ثلاث روايات.
فإمَّا أن نقول: قد تعارضت تلك الروايات عنهم وسقطت جملة، حتى كأنه لم يوجد منها شيء، وتجرد لنا قول أربعة من الصحابة لا مخالف لهم، أو نقول: الروايةُ التي توافق قول غيرهما من الصحابة مقدمةٌ على الرواية التي تخالفها، لأنَّ وفاق غيرهما يعضد ما روي عنهما مثل ذلك).
والماوردي ذكر نحو ما ذكره أبو حامد، فقال
(1)
: (ولأنه بانتشاره عن سبعة من الصحابة ولم يظهر خلافهم= إجماع)، وذكر الستة وزاد أم سلمة.
والقاضي أبو يعلى وأبو الخطاب وغيرهما ذكروا ما ذكروه من الآثار عن الصحابة، وذكروا آثارًا
(2)
أخر عنهم في أَنَّ النذر يمين، فإنهم يقولون بهذا وبهذا.
قال القاضي أبو يعلى
(3)
: (وهذا إجماعُ الصحابة؛ حديث عمر من رواية إسماعيل بن سعيد الشالنجي الذي قال: إِنْ عدتَ لم أكلمكَ أبدًا وكل مالي في رتاج الكعبة. فقال عمر رضي الله عنه: إِنَّ الكعبةَ لغنيةٌ عن مالك، كَفِّرْ
(1)
في الحاوي (15/ 458).
(2)
في الأصل: (آثارٌ).
(3)
لم أجد هذا النقل فيما بين يديَّ من كتب أبي يعلى، ولعله من التعليقة الكبيرة، حيث إنَّ ابن تيمية كانت له عناية بها.
عن يمينك، وَكَلِّمْ أخاك؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب، ولا قطيعة رحم، ولا فيما لا تملك»
(1)
).
وذكر حديث ليلى بنت العجماء التي قالت: (إِنْ لم أُفَرِّق بينك وبين امرأتك، فكل مملوك لي حر، ومالي هدي، وأنا يومًا يهودية ويومًا نصرانية). وَذَكَرَ الصحابة الذين أفتوها بكفارة يمين، كابن عمر ومن معه
(2)
. وقول ابن عباس في التي جعلت بُرْدَها عليها هديًا إِنْ لبسته، فقال ابن عباس:(لتكفِّر [258/ ب] عن يمينها)
(3)
.
وقول عائشة ــ أيضًا ــ فيمن جَعَلَ ماله في ميزاب الكعبة قالت: (يُكفِّر عن يمينه)
(4)
.
قال: (وروى أبو إسحاق الشالنجي بإسناده عن منصور بن عبد الرحمن الحُجبي، عن أمه، عن عائشة: مَنْ جعل ماله في سبيل الله أو في رتاج الكعبة. قالت: يكفر يمينه)
(5)
.
قال: وروى الشالنجي، عن محمد بن عبد الله السدوسي، عن ابن عباس: في النذر كفارة يمين
(6)
.
(1)
قد تقدم تخريجه في (ص 366) بلفظ مقارب.
(2)
تقدم ذكره وتخريجه في (ص 201 - 209).
(3)
تقدم ذكره وتخريجه في (ص 263).
(4)
تقدم تخريجه في (ص 215).
(5)
تقدم تخريجه في (ص 447).
(6)
تقدم تخريجه في (ص 143).
وروى ــ أيضًا ــ عن عقبة بن عامر قال: (النذر حَلْفَةٌ)
(1)
.
وروى ــ أيضًا ــ عن أبي الخير
(2)
قال: (نذرت أَنْ أصومَ بإيلياء رمضان، فشغلني شيء فلم أصم، فسألت عقبة بن عامر رضي الله عنه فقال: إنما النذر حَلْفَةٌ، كَفِّر عن يمينك)
(3)
.
قال القاضي: (فجعل هذا مذهب ستة من الصحابة، ولا يعرف لهم مخالف).
* * * *
(1)
تقدم تخريجه في (ص 118).
(2)
كذا قرأتها، وتحتمل غير ذلك، إلا أنَّ مما جعلني أُرَجِّحُ ما أثبتُّ أنَّ من أشهر الرواة عن عقبة: أبو الخير مرثد بن عبد الله اليزني، وكان لا يفارقه. انظر: تهذيب الكمال (27/ 357).
(3)
تقدم تخريجه في (ص 118).
فصلٌ
قال المعترض:
(وتمام الكشف في هذه المسألة شيءٌ أذكره على سبيل النظر فيه، وهو أَنَّ القائل: إنْ فعلتُ كذا فعليَّ عِتْقٌ مثلًا؛ تضمن كلامه أمرين:
أحدهما: الامتناعُ عن الفعل. والثاني: التزامُ العتقِ على تقدير الفعل، وتسمية هذا النوع نذرًا للمعنى الثاني لا للأول، لأنَّ النذر هو الالتزام لا الحث أو المنع، ولهذا يُشترط
(1)
في ذلك أَنْ يكون قربة كما يشرط في المنذور، والمنذور ههنا هو الإعتاق، وتسميته نذرًا لذلك، وأما تسميته يمينًا فالأسبق إلى الفهم من كلام الفقهاء أنه لأجل المعنى الأول وهو الامتناع من الفعل، فكأنه حَلَفَ ألا يَفعل ذلك الفعل، ويحتمل أَنْ يقال: إِنَّ جهةَ اليمين فيه التزام الإعتاق لأنَّ الحالفَ ملتزمٌ كما تقدم، فلذلك سمي يمينًا، والفقيه قد يَرُدُّ هذا الاحتمال في أول وَهْلَة، ولكن ينبغي أنْ يتمهل حتى ينظر فيه من جهات:
أحدها: أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كفارة النذر كفارة يمين» ؛ ففي هذا إشارة إلى أنه أعطى النذر حكم اليمين، والنذر إنما هو التزام الإعتاق لا الامتناع ــ كما تقدم آنفًا ــ فكذلك اليمين)
(2)
.
والجواب أَنْ يقال: بعضُ ما ذكره هنا بحث جيد، ومن جيد ما ذكره المعترض وهو يؤيد قول المجيب؛ فإنَّ قولَهُ: إنَّ كلامه تضمن شيئين: الامتناع عن الفعل، والتزام العتق على تقديره، وتسميتُهُ نذرًا للمعنى الثاني لا
(1)
في الأصل: (يشرط)، والمثبت من «التحقيق» .
(2)
«التحقيق» (47/ ب ــ 48/ أ).
[259/ أ] للأول= كلامٌ صحيح.
ثم قال: (وأما تسميته يمينًا؛ فالأسبق إلى الفهم من كلام الفقهاء أنه لأجل المعنى الأول، وهو الامتناع من الفعل، فكأنه حَلَفَ ألا يفعل ذلك. قال: ويحتمل أَنْ يقال: إِنَّ جهة اليمين فيه التزام الإعتاق لأنَّ الحالف ملتزم ــ كما تقدم ــ فلذلك سمي يمينًا) إلى آخره.
فيقال: أما كونه حالفًا لالتزام الإعتاق ــ كما ذكره ــ وهو المعنى المشترك الذي عُلِّقَ به وجوب الكفارة؛ فهذا في غاية الفساد إِنْ لم يقرن بذلك التزام ما يكره لزومه له، لينفصل بذلك عن نذر التبرر، فإنه لو كان جهة اليمين كونه التزم الإعتاق لكان كل ملزم للإعتاق يمينًا مكفرة، ونذر التبرر فيه التزام الإعتاق وهو واجب عليه، وهو قد عَرَفَ أَنَّ هذا القول مردود عند الفقهاء، فقال: (والفقيه قد يرد
(1)
هذا الاحتمال، لكن ينبغي له أَنْ يتمهل حتى ينظر فيه).
فيقال: حقيقةُ الأمر أن كلًّا من هذا النظر وهذا النظر يقتضي أَنَّ صاحبه لَحَظَ بعض صفات اليمين، أما كونه ممتنعًا من الفعل وحاضًّا عليه، فهذا أحد أوصاف اليمين، لكن لا يجوز أَنْ تكون يمينًا لهذا المعنى وحده، كما قد يظنه بعض الفقهاء، وكما ألزمه المعترض للمجيب وبنى عليه عامة اعتراضه، وهو هنا اعترف بفساده، إذ لو كان الموجب لليمين كونه حاضًّا ومانعًا لكان إذا قال: إِنْ فعلتُ فلله عليَّ أَنْ أطلقك؛ أي: فوالله لأطلقنك، إنما كان حالفًا لكونه مَنَعَ نفسه من الفعل لا لكونه حلف ليطلقنها إذا فعل.
(1)
في الأصل بزيادة: (عليه)، وقد تقدمت العبارة في أول الفصل بدونها.
وأما ما رجحه من أَنَّ جهةَ اليمين هو التزام العتق فهو قد لحظ فيه بعض معاني اليمين، وهو أنه لا بُدَّ في اليمين مع الحض والمنع من أن يلتزم عند الحنث أمرًا من الأمور، وإلا فمجرد قصد الحض والمنع ليس كافيًا في كونه حالفًا، إذ لو كان حالفًا بذلك لكان كل مَنْ تَوَعَّدَ حالفًا؛ كقوله تعالى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 ــ 8]، وقوله سبحانه:{مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]، وقوله ــ عز وجل ــ:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [محمد: 38] ونحو ذلك، بل لا بُدَّ أن يلتزم عند الشرط ما يَكره لزومه.
فاليمين تتضمن هذه الصفات [259/ ب] الثلاثة: الحضُّ والمنع في الطلب، والتصديق والتكذيب في الخبر، وتوكيد ذلك بالتزام أَمْرٍ من الأمور عند المخالفة، ولا بُدَّ أَنْ يكون ذلك اللازم مما يكره لزومه له وإن وجد الحنث، لتكون كراهته للزومه عند الحنث مانعًا من الحنث، وإلا فلو أراد وجوده على تقدير الحنث وَإِنْ كان مكروهًا بدون الحنث= امتنع ــ حينئذٍ ــ أَنْ يكون مانعًا من الحنث.
فإنَّ ما يراد على تقدير الحنث ملائمٌ للحنث مناسبٌ له، بل هو موجب الحنث، ومقتضاه بمنزلة المعلول، والمعلولُ الموجب المقتضي لا يكون مضادًّا منافيًا مانعًا من عِلَّتِهِ وَسَبَبِهِ وموجبه الذي يقصد المعلول إذا وجد، ولكن إذا كان الجزاء مكروهًا بتقدير الحنث يكرهه مع وجود الحنث= صار لزومه للحنث مانعًا من الحنث يقتضي التعليقُ وجودَه إذا وجد الحنث، وهو مكروهٌ على هذا التقدير فتكون كراهةُ هذا اللازم موجبةٌ لكراهةِ الملزوم، والملزوم هو الحنث، فيبقى الحالف ممتنعًا بيمينه من الحنث، وأما إذا كان
مرادًا بتقدير الحنث امتنع أن يكون مانعًا من الحنث.
ولهذا يكون الوعيد مانعًا للمتوعَّدِ من الفعل، لأنه يكره ما توعد به بتقدير الفعل فيمنعه ذلك، وأما الذي توعده بالعقوبة فلا يكون الوعيد مانعًا له من الفعل، فإنه لا يكره معاقبة المخالف له الذي توعده، وألا يمتنع من ذلك، إذ لو كان ممتنعًا كارهًا للوعد وَإِنْ وجدت المعصية= لم ينزجر العاصي، فإنه يقول: وإن عصيت فهو ممتنع من عقوبتي، وإنما يمتنع إذا عَلِمَ أنه لا يَكره عقوبَتَهُ. والمحلوفُ عليه بَرَّ قَسَمَ الحالف
(1)
كرامةً له، وكراهته أن يؤذيه بالحنث؛ إما لمحبته فيه وإما لرغبته في إبرار قسمه وإما لخوفه منه إذا حَنَّثَهُ، فجهة الحض والمنع مشتركة بين الحالف والمتواعِدِ، لكنَّ الحالف لا يحلف إلا بما يَكره وقوعه عند الحنث والمخالفة بخلاف المتواعِد.
ومن جعله من الفقهاء حالفًا لأجل امتناعه من الفعل وحَضِّهِ عليه، فهو إنما جعل ذلك في الصورة التي يقصد فيها اليمين كالتعليق الذي يقصد به اليمين، لم يجعل ذلك في كل تعليق، وهو مع قصد اليمين لا بُدَّ أَنْ يكون [260/ أ] كارهًا لوجود الجزاء، ويجعلونه حانثًا بوجود الفعل، لأنه هو الفعل الذي منع نفسه منه، وهذا الحنث يخير فيه بين الكفارة وبين فعل ما التزمه.
وأما الحنث الموجب للكفارة حتمًا فهو وجود الشرط مع عدم الجزاء؛ فهذه اليمين يُعَبَّر بالحنث فيها في مجرد وجود الفعل، وهو معنى قولنا: التزم عند الحنث ما يكره لزومه له؛ فالمراد بالحنث هنا هو: وجود الفعل الذي مَنَعَ نفسه منه، ويراد بالحنث أنه وجد الفعل اللازم ولم يوجد الجزاء اللازم
(1)
في الأصل زيادة: (لا)، وبحذفها يستقيم الكلام.
له، وهذا هو الحنث الموجب للكفارة حتمًا، حتى إنه ما دام الجزاء ممكنًا لا يحكم بتحتم الكفارة عليه لإمكان أَنْ يأتي بالجزاء، فإذا مات ولم يَأْتِ به تحتمت الكفارة، فيعبر بالحنث عن هذا وعن هذا؛ فلهذا وقعت فيه الشبهة حتى ظَنَّ بعض الناس أَنَّ الحنث الأول هو الموجب للكفارة عينًا، وإنما موجبها الحنث الثاني.
وهذا كما أَنَّ الحالف باسم الله إذا حَلَفَ بالله ليفعلنَّ كذا، فإنه إنما تتعين الكفارة إذا أراد الفعل مع انتفاء ما التزمه عند الحنث من هَتْكِ حُرْمَةِ إيمانه، وإلا فلو قُدِّرَ أنه لا يكره هَتْكَ حرمة
(1)
إيمانه، بل هو مُسْتَخِفٌّ بحرمة
(2)
الإيمان مرتدًّا عن الإسلام= امتنع مع هذا أَنْ يؤمر بكفارة يمين، فإنه التزم ما يلزمه عند الحنث ــ وَإِنْ كُنَّا لا نأمره به ــ كما إذا قال: والله إِنْ فعلتُ هذا الفعل لَأَكْفُرَنَّ بالله أو لأفعلنَّ كبيرةً من القتل والزنا وشرب الخمر ونحو ذلك، فنحن نأمره إذا فعله أَنْ يكفِّر يمينه ولا يأتي تلك الكبيرة، لكن لو قُدِّرَ أنه فعل ما التزمه من الكفر والكبائر لم نأمره بالكفارة، لأنه لم يحنث في يمينه، بل فَعَلَ ما التزمه من الكفر والكبائر.
وما ذكره من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كفارة النذر كفارة يمين»
(3)
والنذر هو: الالتزام للإعتاق لا الامتناع كلامٌ صحيحٌ، وكلاهما فيه التزام النذر واليمين، لكن النذر فيه التزامٌ لله، واليمين فيها التزام بالله، وهما مشتركان في الالتزام بالله؛ إما للتقرب إليه وإما لتوكيد الحض والمنع به.
(1)
كرر الناسخ كلمة (حرمة).
(2)
في الأصل: (لحرمةِ)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
(3)
تقدم تخريجه في (ص 92).
فصلٌ
قوله: (الثانية [260/ ب]: أَنَّا إذا جعلنا جهتي النذر واليمين واردتين على شيءٍ واحدٍ حَسُنَ النظرُ في تغليب أَيِّ الشائبتين أقوى أو تساويهما، وأَمَّا إذا جعلناه حالفًا على الفعل وناذرًا للإعتاق على ذلك التقدير فلا تزاحم بينهما)
(1)
كلامٌ صحيحٌ؛ ولهذا مَنْ جعله ناذرًا من الفقهاء ألزمه الوفاء بنذره لوجود شرطه، كما اتفقوا كلهم على لزوم النذر إذا علَّقه بشرطٍ يريدُ كونه، فلو كان في نذر اليمين ناذرًا للإعتاق كما هو ناذر له في نذر التبرر للزمه الإعتاق، بل من جعله حالفًا قال: إنه لم يقصد ما عَلَّقَهُ من التزام الإعتاق وغيره، بل هو كارهٌ للزومه إياه.
ولكن؛ يقال له: وليس هو ــ أيضًا ــ حالفًا لكونه التزم الإعتاق على ذلك التقدير كما ظننتَه، إذ لو كان كذلك لكان الملتزم للإعتاق عند الشرط الذي يريده حالفًا، وليس كذلك، بل إنما كان حالفًا لكونه التزم ما يكره لزومه له.
وقوله: (إذا جعلنا جهتي النذر واليمين واردتين على شيءٍ واحدٍ حَسُنَ النظر في التغليب أو التسوية) هو كلامُ مَنْ يَظُنُّ أنه يجتمع قصد النذر وقصد اليمين في تعليقٍ واحدٍ، وليس الأمر كذلك، بل هما يجتمعان في التعليق على طريق البدل والمعاقبة لا على طريق الاجتماع، فالحالف لا يلتزم إلا ما يكره أن يلزمه، والناذر يلتزم ما يريد لزومه، ولا تجتمع إرادةُ الفعل الموجبة له وكراهته المانعة منه في آنٍ واحدٍ، وحينئذٍ؛ فلا يحتاج إلى تغليب ولا تسوية، بل إذا قصد الجزاء عند الشرط كان ناذرًا ومطلِّقًا ومعتقًا ومظاهرًا وجاعلًا ومخالعًا وغير ذلك.
(1)
«التحقيق» (48/ أ).
وإن كان يكره لزومه له وَإِنْ وُجِدَ الشرط فهو الحالف، لا يكون حينئذٍ لا ناذرًا ولا مطلقًا ولا معتقًا، ولكن يكون قد ألزم نفسه بالنذر والطلاق والعتاق على ذلك التقدير مع كراهته للزومه، ليكون لزومه مانعًا من ثبوت الملزوم، لا لإرادته للزومه إذا وجد الملزوم؛ فالمقصود بالتعليق والربط وجعل الجزاء لازمًا للشرط ألا يكون الملزوم لأنه لا يريد اللازم البتة، بل يكرهه ويمتنع منه أعظم من كراهته لوجود الملزوم، ويكرهه ــ أيضًا ــ وَإِنْ وجد الملزوم، فهو أقوى كراهةً وأدومُ كراهةً، والملزوم الذي هو الشرط كراهتُهُ أَخَفُّ وَأَقَلُّ [261/ أ] بقاء؛ ولهذا تزول هذه الكراهة في غالب الأوقات عن الحالف، فيريد ــ حينئذٍ ــ أَنْ يوجد الشرط ولا يكرهه، وهو مع ذلك كاره للجزاء ممتنع منه لا يريده.
فإن اعتقد لزوم الجزاء؛ فقد يُرَجِّحُ إرادته للملزوم ويحتمل ضرر لزوم الجزاء المكروه، وهو الذي يفعل المحلوف عليه وَإِنْ طُلِّقَت امرأته وعتق عبيده ولزمه الحج والصدقة إذا كان ممن يرى لزوم هذه الأيمان، وقد يترجح عنده كراهته للازم فَيَلَجُّ في يمينه ويصر عليها ولا يختار الحنث خوفًا من تلك اللوازم التي لا يختار لزومها؛ فالأول يلتزم ما يضره من اللوازم لرغبته فيما يحبه من الحنث، والثاني يمتنع مما يحبه من الحنث خوفًا أن يلزمه ما يضره من اللوازم.
فلا بُدَّ للحالف الذي يريد الحنث إذا لم تكن له كفارة
(1)
أَنْ يمتنع عما يريده خوفًا من لزوم ما يكرهه، إذا كان ما يريده لا يحصل إلا به، وأما على شرع خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم الذي فيه تكفير، فيمكنه مع الكفارة أَنْ يفعل ما يختاره من الحنث، ولا يلزمه ما يكرهه من المصائب التي التزمها.
(1)
في الأصل زيادة: (إما)، وبحذفها يستقيم الكلام.
فصلٌ
قوله: (والاعتلال بأنه لم يَقصد القربة يقتضي عدم صحة النذر لفوات شرطه، [ويترتَّبُ]
(1)
عليه أنه لا حث ولا منع لعدم اللزوم على هذا التقدير= فلم يبق إلا مجرد قصد الحث والمنع وأنه غير كافٍ في اليمين، كما لو قال: إِنْ فعلت كذا فأنا زانٍ أو عاصٍ لله تعالى)
(2)
.
فيقال: هذا كلامٌ صحيحٌ؛ وهو يناقض ما تقدم ذكره له غيرَ مرةٍ من أَنَّ الفرق بين تعليق الطلاق وتعليق الإعتاق والنذر: أنه لم يقصد القربة، بعد دعاوى ممتنعة بُيِّنَ فسادها؛ فثبت أَنَّ قصد اليمين غير مانع ــ يعني: من لزوم المعلق ــ، والمقتضي لوقوع الطلاق قائم باتفاق مِنَّا ومن الخصم ــ أعني: ابن تيمية ــ؛ فإنه يُسَلِّمُ تعليقَ الطلاق على الشرط، فيرتب عليه حكمه.
قال: (فإنْ قلتَ: هذا منتقضٌ بنذرِ اللجاج والغضب، فإنه إذا قال: إِنْ كلمتُ فلانًا فعليَّ المشيُ مثلًا، لا يجب عليه المشي عندكم وعند جمهور العلماء، مع كون التعليق مقتضيًا له، وإخراجه على وجه اللجاج والحلف غيرُ مانعٍ على ما قررتم.
قلت: الجواب [261/ ب] عنه من وجهين:
أحدهما: أَنَّ هاهنا مانعًا آخر غير مجرد اليمين، وهو: كون النذر لا يلزم إلا على وجه التبرر، فلم يكن المانع مُطْلَقَ كونِهِ حالفًا، بل خصوصُ ذلك
(1)
في الأصل: (وَتَرَتَّبَ)، والمثبت من «التحقيق» .
(2)
إلى هنا موجود في «التحقيق» (48/ أ)، وفي هذا الفصل يظهر لي أنَّ ابن تيمية يَنقل كلامًا للمعترض ويجيب عنه، إلا أني لم أجد هذه النقول في «التحقيق» !
المعلق، وهو كونه نذرًا، وأنه لا يثبت إلا إذا قصد به الشخصُ الطاعةَ، فهذا التعليق على هذا الوجه الخاص مانع، ولا استحالة أن يكون الخاص مانعًا، والعام ليس بمانع.
وإنما خصصنا هذا باسم النذر دون الأول، لأنَّ المشروط في هذا التزام أمرٍ فهو وما أشبهه من باب النذر، ومسألتنا المشروط فيها ليس التزامًا وإنما هو حكم، فلم يدخل تحت هذا النذر ولم يشرط فيها القربة).
فيقال: قد تقدم الكلام على فساد هذا الفرق، وإنما المقصود هنا: أَنَّ المعترض وأمثاله معترفون بفساد ما يذكرونه من الفرق إذا رجعوا إلى فطرتهم السليمة، كما قال هنا رَادًّا على نفسه وموافقيه:(والاعتلال بأنه لم يقصد القربة يقتضي عدم صحة النذر لفوات شرطه)، وهذا كما قال:(وهم أوجبوا عليه كفارة يمين)، فلولا أَنَّ قصد اليمين هو المؤثر لما أوجبوا عليه كفارة يمين، ولو كان المؤثِّر في عدم لزوم النذر أنه لم يقصد القربة= لكان الواجب ألا يلزمه نذر ولا كفارة، وَتَرَتَّبَ على ذلك أنه
(1)
لم يؤكد الحض والمنع بأمرٍ يلزمه على ذلك التقدير، فلم يَبْقَ إلا مجرد قصد الحث والمنع من غير التزام أمر لازم على تقدير المخالفة.
وهذا معنى قوله: (وترتب عليه أنه لا حث ولا منع) ــ أي: أنه لم يبق هناك حث ولا منع ــ يلزمه الوفاء به، لأنه لم يلزم على تقدير عدمه لازم لا نذر ولا يمين، لم يبق إلا مجرد قصد الحث والمنع، ومجردُ ذلك لا يوجب كونه حالفًا يلزمه كفارة يمين، وإذا لم يلزمه بتقدير المخالفة شيء وَمَثَّلَهُ بقوله: إِنْ فعلتُ كذا فأنا زانٍ وسارقٌ، فإنه إذا فعله لا يصير زانيًا ولا سارقًا
(1)
في الأصل: زيادة (لو)، وكأنها مقحمة تفسد المعنى.
ولا قاذفًا لنفسه بذلك، وكذلك لو قال: إِنْ فعلتُ كذا فأنا ولد زنا، أو إِنْ لم أفعل كذا لم أكن ابن فلان ونحو ذلك مما يُعَلِّقُ بالشرط ما يكره لزومه له، لكنه لا يلزم به حكم في الشرع، ولأنه قد عرف أنه لم يقصد الإقرار بهذه الأفعال على هذا [262/ أ] التقدير، ولم يقصد الانتفاء من نَسَبِهِ مع أَنَّ الانتفاء لا
(1)
يصح ولو قصده، وهذا الإقرار لو كان حقًّا لم يكن فيه هَتْكُ حرمة.
وهذا ــ أيضًا ــ حجةٌ عليه وعلى أمثاله؛ يبيِّن الفرقَ بين التعليق الذي يقصد به لزوم ما علقه، وبين التعليق الذي لم يقصد فيه لزوم ما علقه، فإنه لو قال: إذا جاء رأس الشهر فلفلانٍ عليَّ ألف درهم، أو قيل: هل أخذتَ مالَ فلان الذي كان في بيته؟ فقال: انظروا؛ إِنْ كان في بيتي شيء فقد أخذته، أو قال: إِنْ كنتُ أعطيت فلانًا ألف درهم فأنا ضامنها لك ونحو ذلك= كان تعليقًا يقصد به لزوم ما علقه.
ولو قيل له: سافرْ معنا. فقال: إِنْ سافرتُ معكم كان لكم عليَّ ألف درهم لم يلزمه شيء، كما لو قال: إِنْ سافرتُ معكم أكون زانيًا أو سارقًا، فلو كان كل معلِّق قد قصد لزوم ما عَلَّقَهُ لكان ضامنًا في هذه الصورة، كما كان ضامنًا في الأخرى.
ولو قال بعض أهل السفينة إذا ثقلت عليهم لمن كان له فيها شيءٌ ثقيل كالرصاص والحديد ونحوه: إِنْ ألقيتَ متاعك في البحر فعليَّ ضمانه، أو أَلْقِ متاعك في البحر وعليَّ ضمانه، أو عليَّ الثمن الذي اشتريت به وهو ألف كان ضمانًا معلقًا بشرط.
ولو قال على وجه اليمين: إِنْ سافرتُ معكم كان لك عليَّ ألف درهم لم يكن هذا ضمانًا، وكذلك لو قال: إِنْ أَعتقتَ عبدَك عَنِّي فعليَّ قيمته، أو قال:
(1)
في الأصل: (لم)، والصواب ما أثبتُّ.
أعتقه عَنِّي وعليَّ ثمنه فأعتقه لزمه ثمنه، كان قد عَلَّقَ لزوم الثمن له على إعتاقه عنه ولزمه الثمن.
ولو قال: إِنْ سافرتُ معكم فعليَّ ثمنُ عبيدك لم يلزمه ذلك ولا شيءَ عليه، لأنه لم يقصد لزوم ذلك وإنما قصد اليمين، ولكن لم يلتزم عند الحنث ما فيه هتك حرمة إيمانه، فإنَّ ضمان الثمن حقٌّ لآدمي لو جحده لم يكن ذلك هتكًا لحرمة إيمانه، كقوله: أنا زان أو أنا سارق، فإنه إقرار بالذنب لا يوجب هتك حرمة إيمانه، بخلاف قوله: إِنْ فعلتُ فأنا يهودي أو نصراني ونحو ذلك، فإنَّ التزام هذا يوجبُ هتكَ حرمةِ إيمانِهِ، ولهذا لو قَصَدَ لزومه له كان كافرًا، وهناك لو قَصَدَهُ لكان ضامنًا أو مُقِرًّا، لكن جميع ذلك فيه معنى اليمين إِنْ فعلتُ كذا، كما لو عَلَّقَ دعاءه على [262/ ب] نفسه بقوله: إن فعلت كذا فقطع الله يدي ونحو ذلك.
وهذا للعلماء في لزوم الكفارة له إذا حنث قولان: فطاووس رضي الله عنه يوجب عليه الكفارة إذا حنث
(1)
، وهو لا يكون حانثًا في الحلف بالتعليقات إلا إذا وجد الشرط دون الجزاء، ولهذا لو حَلَفَ بالنذر فقال: إِنْ فعلتُ كذا فعليَّ الحج ومالي صدقة؛ متى التزم ما عَلَّقَهُ فحج وتصدق لم يكن عليه كفارة يمين.
وكذلك لو قال: إِنْ فعلت فأنا يهودي أو نصراني إذا قُدِّرَ أنه التزم الكفر وَرَضِيَ بأنْ يكون يهوديًا ونصرانيًا صار كافرًا مرتدًّا، ولم يؤمر ــ حينئذٍ ــ بكفارة، فإنَّ الكفارة وجبت لئلا يهتك حرمة إيمانه بالله، فإذا قَصَدَ الهتك
(1)
تقدم تخريجه في (ص 641).
انهتك إيمانه فلم تنفعه الكفارة، بخلاف مَنْ جعله لازمًا له وهو يكره لزومه له، فإنَّ هذا هو الحالف.
وأما المعلِّق للنذر؛ فإنه إذا التزم ما عَلَّقَهُ وَفَّى بموجب عقده مع بقاء إيمانه، وَإِنْ لم يَفِ به فقد التزم لله على تقدير الحنث ما لم يَفِ بِهِ، وفي تَرْكِ الوفاءِ به هَتْكٌ لحرمةِ إيمانه بالله، فلزمته الكفارة على هذا التقدير إذا لم يقصد الهتك، ولو قصد الهتك بِأَلا يرى للالتزام لله ولا بالله حرمة فهو ــ أيضًا ــ كافر لا تنفعه الكفارة، كمن لا يرى للحلف بالله حرمة لاستهزائه بالله وآياته ورسوله صلى الله عليه وسلم.
* * * *
فصلٌ
قال: (الثالثة: إن صاحب التهذيب
(1)
وجماعة قالوا: إذا كان النذر هنا مباحًا أنه يلزمه كفارة يمين بتركه. قال الرافعي في المحرر
(2)
: إنه لو نذر فعل مباح أو تركه لم يلزمه، لكن إِنْ خالفَ لَزِمَهُ كفارةُ يمين على المرجح في المذهب، وَصَرَّحَ صاحب التهذيب
(3)
أنه إِنْ قال [لامرأته]: إِنْ دخلتِ الدار فلله عليَّ أَنْ أطلقك، فهو كقوله: إِنْ دخلتِ الدارَ فوالله لأطلقنَّك، حتى إذا مات أحدهما قبل التطليق لزمه كفارة يمين، فلو كانت اليمين هي جهة الامتناع لكان المحلوف عليه الدخول لا التطليق)
(4)
.
فيقال: هذه المسألة هي مذهب أحمد المنصوص عنه، وهو المشهور في مذهبه، فإنَّ مذهبه المشهور عنه القول المأثور [263/ أ] عن الصحابة وأكثر السلف، كعمر وابن عمر وابن عباس وجابر وعمران بن حصين وسمرة بن جندب رضي الله عنهم: أَنَّ النذرَ يمينٌ
(5)
؛ فمن لم يفعل ما نذره فعليه كفارة يمين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«كفارة النذر كفارة يمين»
(6)
وسواء كان
(1)
يريد: التهذيب في الفروع للبغوي (8/ 152). انظر: كشف الظنون (1/ 517).
(2)
3/ 1609.
(3)
(8/ 147 وما بعدها).
(4)
«التحقيق» (48/ أ)، وما بين المعقوفتين منه.
(5)
بعض هذه الآثار تقدم في مواضع من الكتاب، وانظر بعضًا منها في: المصنف لعبد الرزاق الصنعاني (8/ 440 وما بعدها)، والمصنف لابن أبي شيبة (5/ 8).
(6)
تقدم تخريجه في (ص 92).
المنذور مباحًا أو معصية أو طاعة، لكن إِنْ [كان]
(1)
طاعة وجب الوفاء بها، وَإِنْ كان معصية حرم ولزمته الكفارة، وَإِنْ كان مباحًا فهو مخيَّر كما يخيَّر لو حلف عليه، وعليه الكفارة إذا تركه. وفي الواجب وجهان: أصحهما أَنَّ عليه كفارة يمين إذا تركه مع ما عليه في تركه لو لم ينذره، فإنَّ النذر زاده توكيدًا.
وأما مذهب الشافعي رضي الله عنه المنصوص عنه؛ فإنه لا شيء عليه في نذر المعصية والمباح، وهو رواية عن أحمد رضي الله عنه.
ولهذا كان قول الشافعي رضي الله عنه أنه إذا نَذَرَ ذَبْحَ نفسِهِ أو ولده فلا شيء عليه، والجمهور يوجبون عليه إما كفارة يمين وإما الهدي، كما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما
(2)
، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد ومالك وغيرهم رضي الله عنهم، وهو ثلاث روايات عن أحمد؛ أصحها: أنه إِنْ نَذَرَهُ كان عليه هدي، وَإِنْ حَلَفَ عليه أَجزأَه كفارة يمين، وعلى هذا تدل عامة نصوصه، والآثار المنقولة عن ابن عباس رضي الله عنهما توافقُ هذا.
وأبو حنيفةَ نَقَلَ عنه طائفة أَنَّ نذر المعصية فيه كفارة يمين، فالمباح بطريق الأولى، لكن الذي ذكره أصحابه أنه إِنْ كان مقصوده بالنذر اليمين، فعليه كفارة يمين، وهذا ــ والله أعلم ــ هو الذي قَصَدَهُ الخراسانيون من أصحاب الشافعي، وإلا فهو مخالفة صريحة لنصوص الشافعي.
فإذا كان المنذور مباحًا وقصده بالنذر اليمين، مثل أَنْ يقول الرجل: لله عليَّ أَنْ أطلق امرأتي أو أسافر من هذه المدينة أو آكل من هذا الطعام ونحو
(1)
إضافة يقتضيها السياق.
(2)
تقدم تخريجه في (ص 348).
ذلك، فإنَّ عامة هذا يَقْصِدُ به الناذر حَضَّ نفسه على الفعل، لا يقصد به التقرب إلى الله ــ تعالى ــ، فإنه يعلم أَنَّ هذا ليس بقربة، فيكون هذا بمنزلة قوله: والله لأطلقنَّ امرأتي أو لأسافرنَّ أو لآكلنَّ فيلزمه كفارة يمين بهذا الاعتبار، وهذا [263/ ب] كلامٌ صحيح، وهو مذهب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما.
فكذلك لو نَذَرَ المعصية يقصد بذلك اليمين، كما يقول: لله عليَّ أَنْ أقتل فلانًا، وَإِنْ أظفرني الله بفلان فلله عليَّ أَنْ أقتله ونحو ذلك، وهو لا يقصد التقرب بقتله، بل يَقصد حضَّ نفسه على القتل؛ كما قال [
…
]
(1)
:
فليتَ رجالًا منكِ قد نذروا [دمي]
(2)
وقال [
…
]
(3)
:
والنَّاذِرِينَ إذا لَقِيتُهُمَا [دَمِي]
(4)
فنذر هؤلاء كان معناه معنى اليمين، لم يقصدوا بذلك التقرب إلى الله ــ تعالى ــ، فهذا فيه كفارة يمين.
وأما إذا قصد التقرب بالمباح أو المعصية إلى الله ــ تعالى ــ بأنْ يعتقد
(1)
بياض مقدار كلمة، وفي «التحقيق» (54/ أ): جميل بن معمر.
(2)
كذا قرأتها، وفي ديوان جميل بثينة (ص 124):
فليت رجالًا فيكِ قد نذروا دمي
…
وهَمُّوا بقتلي يا بثينُ لَقُونِي
(3)
بياض مقدار كلمة، وفي «التحقيق» (54/ أ): عنترة العبسي.
(4)
كذا قرأتها، وفي ديوان عنترة (ص 222):
الشَّاتِمِي عِرْضِي ولم أَشْتُمْهُمَا
…
والناذرينَ إذا لم أَلْقَهُمَا دَمِي
ذلك قربة، مثل أَنْ يعتقد أَنَّ تطليق نساءه وترهُّبَهُ طاعة، أو يعتقد قتل نفسه قربة، أو يعتقد أَنَّ امتناعه من أكل الخبز وشرب الماء قربة وكلام الناس قربة، فيقول: لله عليَّ أَلا آكل خبزًا ولا أشرب ماء ولا أكلم في شهر رمضان أحدًا، أو لله عليَّ أَلا أستظل بظلٍّ ولا أغسل رأسي ونحو ذلك؛ فهذا في مذهب أحمد وأكثر السلف عليه كفارة يمين، وَإِنْ كان طائفةٌ من المصنفين في الخلاف كالقاضي وأصحابه يجعلون لزوم الكفارة في نذر المباح والمعصية من مفردات أحمد التي انفرد بها عن الفقهاء الثلاثة، فهو انفرد بعموم ذلك من غير تفصيل. ومذهب الشافعي المنصوص عنه أنه لا شيء عليه. وكذلك الذي ذكره أصحاب أبي حنيفة بأنه لم يقصد حَضَّ نفسه عليه حتى يُجعل يمينًا، بل التزمه ليتقرب بذلك إلى الله، والله ــ تعالى ــ لم يأمره بهذا، وأولئك يقولون: بل التزامه لله إذا لم يُوف به أبلغ من التزامِهِ بالله، وهو إذا قصد اليمين فإنما تكلم بصيغة الالتزام لله، فصار بذلك حالفًا، وكونُهُ فعلًا لله زاده توكيدًا، فإنَّ هذا موجب الفعل إذا صادف محلًّا، وإنما لم يوجبه هنا لأنَّ الله ــ سبحانه ــ لا يوجب معصية ولا مباحًا.
وأما المعنى الموجب للكفارة في النذر الذي يقصد به اليمين، فهو موجود في هذا النذر وزيادة، فلا معنى لإسقاط الكفارة عن هذا.
فصلٌ
وهذه المسائل حجة لمحل النزاع؛ فإنه إذا قال لامرأته: إِنْ دخلتِ الدارَ فلله عليَّ أَنْ أُطلقك [264/ أ] لزمته الكفارة في مذهب أحمد، وقد نَصَّ أحمد على ذلك وأبو حنيفة وغيرهما، وهو المرجَّحُ في مذهب الشافعي،
كما ذكره هؤلاء الخراسانيون، كما لو قال: إِنْ دخلتِ الدارَ فوالله لأطلقنَّك، وهنا التزم أن يطلقها عند الصفة، والطلاق لم يلزمه لكونه ليس بقربة يجب بالنذر، ولزمته الكفارة لأنه نَذَرَ الطلاقَ ولم يفعله، أو لأنه نذره على وجه اليمين ولم يفعله، فهو كما لو قال: إِنْ فعلت كذا فلله عليَّ أن أعتق عبدي فهذا نذرُ يمين عليه فيه كفارة يمين، وإذا قال: إِنْ سافرتُ معكم فامرأتي طالق وعبدي حر قصده ــ أيضًا ــ اليمين، لا يريد الطلاق والعتاق عند الصفة، كما أنه هناك لا يريد وجوب الطلاق عند الصفة، وإنما جعله واجبًا عند الشرط ليمتنع بذلك من فعل الشرط، ولذلك هنا إنما جعل العتق والطلاق واقعًا عند الشرط ليمتنع بذلك من فعل الشرط، لا ليقع عند الشرط، فالمعلَّق هنا وقوعه وهناك وجوبه، وهو لم يقصد الوجوب ولا الوقوع.
فإنْ قيل: لو نذره بقصد اليمين لزمته الكفارة، ولم يجب إذا قال: لله عليَّ أَنْ أُطَلِّقَ امرأتي؛ فلذلك لزمه عند التعليق، وإذا نَجَّزَ الطلاق وقع، فكذلك يلزمه إذا عَلَّقَهُ.
قيل: لأنه إذا نذره بقصد الحض كان حالفًا. فقوله: عليَّ أَنْ أطلقك، كقوله: والله لأطلقنَّك، واليمين لا توجب فعل المحلوف عليه، بل له أَنْ يحنث ويكفر إذا نَجَّزَهُ قَصْدَ إيقاعه، فكذلك إذا عَلَّقَهُ بقصد إيقاعه عند الشرط وَقَعَ كما يقع منجزًا، فما
(1)
يقع منجزًا يقع معلقًا إذا قصد إيقاعه عند الصفة.
وأما إذا قصد اليمين عند التعليق فهو لم يقصد وقوعه كما لم يقصد الوجوب إذا قال: إِنْ فعلت فعليَّ الحجُّ، ولم يقصد وجوبه إذا قال: إِنْ فعلتُ
(1)
في الأصل: (بما)، والصواب ما أثبتُّ.
فعليَّ أَنْ أطلقك، فهنا لم يقصد وجوب الطلاق، ولو قَصَدَهُ لم يلزمه، بل عليه كفارة، وفيما إذا قال: لله عليَّ أَنْ أطلقك قصد لزومه له، لكن لا يلزم بل تجزئه الكفارة، ففيما إذا علق وجوبه بمانعان
(1)
يمنعان من الوقوع، وإذا أوجبه بالنذر فالمانع واحد، وإذا عَلَّقَهُ بقصد اليمين فالمانع واحد، فقصد التبرر مانع وقصد النذر مانع [264/ ب] وإذا حَلَفَ بنذره صار مانعان، فإذا كان قصده اليمين فهو لم يقصد إيقاعه، كما لم يقصد في نذر اليمين وجوبَ ما عَلَّقَهُ، بل جعل ذلك لازمًا له للحض أو المنع على الفعل، كما جعل وجوب الطلاق لازمًا له، [وهو لم يقصد إيجابه عند الشرط، بخلاف ما إذا حلف ليفعلنَّه بصيغة النذر]
(2)
أو غيرها، كقوله: لله عليَّ أَنْ أطلقك، أو والله لأطلقنَّك؛ فهنا قَصْدُهُ حَضَّ نفسه على الطلاق وَجَعَلَهُ لازمًا له، واليمين تقتضي إما الحنث والتكفير، وإما فعل المحلوف عليه.
وأَمَّا إذا عَلَّقَ وجوبه على فعل أو ترك، كما يعلق وجوب العبادات كقوله: إِنْ فعلت كذا فلله عليَّ أَنْ أطلق امرأتي أو فوالله لأطلقنَّك، وهذا كقوله: لله عليَّ أَنْ أحج، أو فوالله لأحجنَّ؛ فهنا
(3)
لم يقصد حَضَّ نفسه على الطلاق، ولا قَصَدَ أَنْ يطلِّق لله، فلا قصد الحلف عليه مطلقًا ولا نذره، وإنما جَعَلَ الحَلِفَ عليه أو نَذْرَهُ لازمًا له إذا حنث، كما جَعَلَ الحلف على العبادات أو نَذْرَهَا لازمًا له إذا حَنثَ في مثل قوله: إِنْ فعلتُ كذا فلله عليَّ ثلاثونَ حجة،
(1)
كذا في الأصل، ولعلها:(مانعان).
(2)
ما بين معقوفتين تكرر في الأصل، ولعله بسبب انتقال بصر الناسخ. والله أعلم.
(3)
في الأصل: (هنا)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
أو فوالله لأحجنَّ ثلاثين حجة؛ فهذا تعليقٌ للنذر واليمين على وجه اليمين، وهو متضمن يمينًا في يمين.
فقوله: إِنْ سافرتُ معكم فوالله لأحجنَّ ثلاثين حجة تضمَّنَ يمينَين، يمينًا أنه لا يسافر، ويمينًا أنه إِنْ سافر ليحجنَّ، وهكذا سائر التعليقات التي يقصد بها اليمين، وَإِنْ كان المعلَّق نذرًا أو تطليقًا أو ظهارًا أو تحريمًا إذا قال: إِنْ سافرت معكم فعليَّ الحج أو فعليَّ الطلاق أو فامرأتي عليَّ كظهر أمي ونحو ذلك= فهو يشبه قوله: فوالله لأحجنَّ أو لأطلقنَّ أو لأظاهرنَّ، لكن هناك المعلق نفس النذر والطلاق والعتاق، وهنا
(1)
المعلق الحلف على فعل ذلك، ومقصوده في الموضعين الحض أو المنع من الفعل، والنذر حَلْفَةٌ؛ فصار هذا التعليق متضمنًا يمينين، ولهذا صار فيهما حنثان حنثٌ بوجود الشرط؛ موجبه إما الكفارة وإما وجود الجزاء، وحنث ثانٍ بوجود الشرط وبعدم الجزاء، وهذا الحنث هو الموجب للكفارة عينًا كما أَنَّ قوله: إِنْ سافرت فوالله لأطلقنَّك في هذا الشهر أو عليَّ أَنْ أطلقك في هذا [265/ أ] الشهر؛ فيه حنثان: حنثٌ إذا سافر موجبه أن يطلقها أو يكفِّر، والحنث الثاني إذا سافر ولم يطلقها في ذلك الشهر؛ فموجب هذا الحنث الكفارة عينًا.
فهكذا الكلام في سائر التعليقات التي يقصد بها اليمين، وَمَنْ فَهِمَ هذا تبين له حقيقة الأمر، وَمِنْ أينَ غَلِطَ من فهم بعض صفاتها دون بعض، والمعترض قد لحظ ما ذكرته، وقد أحسن في ذلك، وهو من أجود ما ذكره من المعاني في هذا الاعتراض، لكنه هابه ولم يحقِقْهُ، وهو ينقض سائر اعتراضاته على المجيب، ومن فهم ذلك عرف حقيقة المسألة.
(1)
في الأصل: (وهناك)، والصواب ما أثبت.
فصلٌ
ولهذا قال المعترض: (فلو كانت اليمين هي جهة الامتناع لكان المحلوف عليه الدخول لا التطليق، وبهذا يتضح التخيير؛ بمعنى
(1)
أَنَّا نقول للناذر: إِنْ أتيت بالمنذور فقد وَفَّيت بالتزامك، وإلا فالكفارة تَسُدُّ مَسَدَّهُ)
(2)
.
وقد صَدَقَ في قوله: (لو كانت اليمين هي جهة الامتناع كان المحلوف عليه هو الدخول)، وأخطأ في ظَنِّهِ أَنَّ المحلوف عليه التطليق وحده؛ بل الصواب أَنَّ كليهما
(3)
محلوفٌ عليه، وهذا يَنقض ما يقوله غيرَ مرة من أَنَّ اليمين هي يمين لكونه منع نفسه من الفعل، فهو تارة يجعل جهة اليمين المنع من الفعل، وتارة يجعل جهة اليمين التزام الفعل الثاني؛ وكلاهما خطأ، بل جهة اليمين تتضمن حضًّا على الفعل الأول ومنعًا منه، ويلتزم فيها ما يكره لزومه له؛ فهي يمينٌ لاجتماعِ الأمرين فيها.
وقوله: إِنْ فعلت فوالله لأطلقنَّك في معنى يمينين في يمين، فالدخول محلوفٌ عليه ألا يكون، وقد حلف عليه بيمين أخرى تلزم إذا حنث، والطلاق محلوفٌ عليه أَنْ يكون إذا كان الدخول، وقد التزم إذا لم يطلقها ما يكرهه من الحنث، فهو حالفٌ يمينًا يحضُّ بها نفسه على الفعل بتقدير وجود فعل يمنع نفسه منه، فهو مانعٌ نفسه من الفعل الأول، ملتزم باليمين الثانية إذا فعله أَنْ يفعل الفعل الثاني، وسواء في ذلك أَنْ قال: إِنْ دخلتُ الدارَ فوالله لأطلقنَّك، أو فلله عليَّ أَنْ أطلقك، أو فَنَذْرٌ عليَّ أَنْ أطلقك ونحو ذلك؛ فمتى
(1)
في الأصل: (يعني)، والمثبت من «التحقيق» ، وسيأتي في كلام المجيب.
(2)
«التحقيق» (48/ أ).
(3)
في الأصل: (كلاهما).
فعل الأول كان حالفًا ليطلقها، فإنْ لم يطلقها مع وجود الفعل الأول لزمته كفارة في مذهب أحمد المنصوص المشهور عنه، وهو مذهب أبي حنيفة، وهو الذي [265/ ب] ذَكَرَهُ الخراسانيون مذهبًا للشافعي، ولم أجد عنه نَصًّا يخالفهم؛ فإنَّ نَصَّهُ على أَنَّ نذر المعصية والمباح لا كفارة فيه، إنما يتضمن إذا كان نذرًا محضًا بخلاف ما إذا قصد به اليمين، بل قد وجد عنه ما يوافقهم فإنه نَصَّ على ما إذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فعليَّ نذر أَنَّ عليه كفارة يمين، مع قوله فيمن قال: عليَّ نذر لا شيء عليه، وهنا إذا وجد الشرط قلنا له: أنت مخير بين أَنْ تحنث في اليمين الثانية وتكفِّر، وبين أَنْ تفعل ما حلفت عليه من الطلاق.
كما نقول له في نذر اللجاج والغضب: أنت مخير إذا وجد الشرط بين أَنْ تحنث في اليمين الثانية بتكفير، وبين أَنْ تفعل ما التزمته من العبادات، لكن لَمَّا كانت هذه العبادات لم يقصد التزامها لله ولا يفعلها لقصد التقرب بها إلى الله ــ تعالى ــ، بل لاعتقاده أنها لازمة؛ لهذا أَمَرَهُ السلف والأئمة بالتكفير ولم يخيروه كما خَيَّرَهُ طائفةٌ من المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد، وَظَنَّ طائفةٌ أخرى أن الكفارة لازمة وإِنْ فعل ما التزمه وهذا ضعيفٌ جدًّا.
فصلٌ
وأما قول المعترض: (وبهذا يتضح التخيير؛ بمعنى أَنَّا نقول للناذر: إِنْ أتيت بالمنذور فقد وَفَّيْتَ بالتزامك، وإلا فالكفارة تَسُدُّ مَسَدَّهُ) فهذا الكلام خطأ؛ وهو مبنيٌ على أصلين فاسدين:
أحدهما: أنه ناذرٌ حقيقة، والثاني: أَنَّ الناذر الملتزم تسد الكفارة مَسَدَّ نَذْرِهِ إذا لم يُوفِ به، وأنه يخيَّر بين الوفاء وبين التكفير مع كونه ناذرًا حقيقة.
وهذا الأصل الثاني فاسدٌ مخالفٌ للكتاب والسنة وإجماع الأئمة وسائر علماء الأمة المعروفين
(1)
، فإنَّ الخلاف الذي حكاه بعض المتأخرين عن بعض أهل الحديث من أَنَّ كلَّ ناذرٍ يخير بين الوفاء والتكفير قولٌ باطلٌ، لا يُعرف به قائل معروف، وقد حكوه عن أحمد، وهو خطأ على أحمد، ونصوصُ أحمد وأصحابه المتواترة على وجوب الوفاء بالنذر، وأنه ليس لكل ناذر أَنْ يمتنع من الوفاء ويكفر كما له مثل ذلك في اليمين= أشهرُ وأكثر من أَنْ يمكن ذكرها هنا.
ولكن أحمد يقول ما قاله جمهور السلف من أَنَّ كُلَّ مَنْ لم يُوفِ [266/أ] بنذره، لا بالمنذور ولا ببدله الشرعي فعليه كفارة يمين، لكن لا يجوز له أَنْ يترك الوفاء بالنذر ويُكفِّر كما يجوز للحالف على فعل مباح أَنْ يترك ما حَلَفَ عليه ويكفر، بل أحمد مذهبه مذهب سائر علماء المسلمين أَنَّ نذر الطاعة يجب الوفاء به كما دَلَّ عليه الكتاب والسنة.
ولو قُدِّرَ أَنَّ قائلًا قال هذا القول؛ فهذا مخالفٌ للكتاب والسنة ولإجماع السلف، ولمذاهب سائر علماء المسلمين المعروفين الأربعة وغير الأربعة.
ولو قُدِّرَ أنه مذهبٌ سائغٌ؛ فالكلام هنا مع من يُسَلِّم وجوبَ الوفاء بنذر التبرر مع أنه ملتزم فيه، كما هو ملتزمٌ في نَذْرِ اللجاج والغضب، فلو كان في كليهما
(2)
ناذر حقيقة وهو في كليهما قاصد
(3)
للزوم الجزاء عند الشرط= لكان الواجب التكفير فيهما، وليس الأمر كذلك؛ فإنَّ الكفارة لا تَسُدُّ مَسَدَّ
(1)
في الأصل: (المعروفون)، والجادة ما أثبتُّ.
(2)
في الأصل: (كلاهما).
(3)
في الأصل: (كلاهما قصد)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
الالتزام الواجب بالنذر مع قدرته عليه.
ولكن الفرق: أَنَّ هذا ليس بناذر حقيقة، بل هو ملتزم كما أَنَّ الناذر ملتزم، لكنَّ الناذر قَصَدَ أَنْ يلتزم الجزاء إذا وجد الشرط، وهذا لم يقصد أَنْ يلزمه الجزاء سواء وجد الشرط أو لم يوجد الشرط، ولكن التزمه ليمتنع بالتزامه مِنْ فعل الشرط، فإنه امتنع من فعل الشرط فجعل هذا الجزاء لازمًا له على تقديرٍ وهو كارهٌ للزوم الجزاء، فالتزم ما لا يُريدُ أَنْ يلزمه على ذلك التقدير، ليكون لزومه له على ذلك التقدير مانعًا له من ذلك التقدير لا لأنْ يَلزَمَهُ على التقدير، فهو ونذر التبرر يشتركان في الالتزام بمعنى أنه جعل الجزاء لازمًا له على تقدير الشرط في الموضعين، لكنْ هو في أحدهما يُريدُ الشرط ويريد لزوم ما جعله لازمًا إذا وجد الشرط، وفي الآخر يَكره الشرط ويكره لزوم ما جعله لازمًا له وَإِنْ وجد الشرط؛ فهو في نذر اليمين كارهٌ للشرط وللجزاء، وهو للجزاءِ أشد كراهةً وأدوم كراهة= فجعل هذا المكروه الأعلى لازمًا للمكروه الأدنى ليمنع ملزوم الأعلى من الأدنى، أو لِيَحُضَّ ملزوم الأعلى على الأدنى.
وفي نذر التبرر هو مريدٌ للشرط إرادةً تامةً، وَعَلَّقَ به الجزاء إما شكرًا لنعمة الله ــ تعالى ــ عليه إذا وجد الشرط، وإما لاعتقاده [266/ ب] أَنَّ التزامه للجزاء سببٌ لوجود الشرط= فصار مريدًا للجزاء إذا وجد الشرط، ولا يريده بدون الشرط، وهو مريدٌ للشرط أقوى من إرادةِ الجزاء؛ فهنا كلاهما مراد، لكنَّ الجزاء مراد على تقدير الشرط تبعًا لوجوده، كما يريد البائع أداء الثمن إذا حصل له المبيع، وأما الشرط فمراد
(1)
أصلًا واستقلالًا. وأما في نذر
(1)
في الأصل: (مراد)، والجادَّة ما أثبتُّ.
اليمين فكلاهما غير مراد بل مكروه له، وهو ممتنع منهما، ولكن هو للجزاء أشد وأدوم كراهة منه للشرط، ولكن علقه بالشرط وجعله لازمًا له ليكون لزوم الجزاء المكروه مانعًا وزاجرًا وناهيًا عن فعل الشرط، فهو كارهٌ للجزاء ممتنع منه كراهةً تامةً ثابتةً، وَعَلَّقَهُ بما هو مكروهٌ له كراهةً عارضةً خفيفةً.
والمكروه يهرب منه الناس ويدفعه عن نفسه ويُقْصيه، فيكون كلما هرب من هذا المكروه الأعلى دفعه عنه وأقصاه صار هاربًا من ملزومه وهو الشرط، وصار الشرط مدفوعًا عنه بعيدًا منه، فَقَصْدُهُ إبعادُ هذا الشرط وإقصاؤه، لكونه
(1)
مستلزمًا لذلك الذي هو أشد بعدًا منه، وأقوى بُعدًا منه؛ فإنَّ موجب التعليق أنه إذا وجد الملزوم وهو الشرط المكروه وجد لازمه وهو الجزاء الذي كراهته أقوى وأدوم، وهذا بعيدٌ قصي، وإذا انتفى اللازم ــ وهو الجزاء ــ انتفى الملزوم ــ وهو الشرط ــ؛ فكلاهما مقصي عنده بعيد منه مكروه له منتفٍ في إرادته، لم يرد الأول ولا الثاني وإن وجد الأول.
كمن غضب على بعض أصحابه وأراد إبعاده عنه، فَسَلَّمَهُ إلى عدوه الذي أشد كراهة له منه، فاستولى عليه ذلك العدو، ولم يَبْقَ تخليصُهُ ممكنًا إلا بمجيءِ عدوه إليه مثل أَنْ يكون قد ارتدَّ عندهم وصاروا يَنْصُرُونَهُ، فلو طُلِبَ قدومه لم يقدم إلا ومعه الكفار، وهو لا يختار قدوم الكفار المحاربين إلى بلاد الإسلام واستيلاءهم عليها أبدًا، لكن قد يكون قد رضي عن صاحبه وأحبَّ أَنْ يتخلص من أيدي الكفر فيهاجر إليه بدون الكفار، وقد تَعَذَّرَ ذلك للزومهم إياه وتعلقهم به، فلم يبق يمكن وجود هذا الملزوم المحبوب المراد بعد أن كان بغيضًا [267/ أ] مكروهًا إلا بهذا المكروه
(1)
في الأصل: (فكونه)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.
البغيض الذي لم يزل مكروهًا بغيضًا، وبغضُهُ وكراهتُهُ أقوى وأبقى.
فهكذا الحالف عَرَضَ له بُغْضٌ لبعضِ الأمور فأراد مَنْعَ نفسِهِ أو غيرِهِ منه فجعلَ له لازمًا هو له أعظم بغضًا، وهو منه أعظم امتناعًا، ثم قد يزول بغضه لذلك الأول ويحبه ويريده، لكن إذا وجد وجد هذا البغيض الثاني الذي بغضه أقوى وأبقى، ووجود هذا لا سبيل إليه، فإنْ كانت اليمين لا كفارة فيها لم يبقَ له سبيل إلى ذلك الفعل الذي يريده إلا بوجود هذا البغيض، وَإِنْ كانت له كفارة حَلَّلَتْ هذا العقد فأمكنه أَنْ يفعل الأول فيكونُ بمنزلةِ مَنْ خَلَّصَ أسيره من عدوه بديةٍ يدفعها إليهم.
وهكذا إذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فنسائي طوالق وعبيدي أحرار، فهو مانعٌ لنفسه من الفعل، وجاعلٌ عتقَ
(1)
عبيدِهِ وطلاقَ نسائِهِ لازمًا له على تقدير الفعل، وهو تقديرٌ يريدُ انتفاءه، لكن إرادة انتفائه عارضةٌ له، فإذا صار بعد ذلك مريدًا للفعل لا لانتفائه= لم يمكنه ذلك إذا كان التعليق لازمًا لا تحلة له إلا بوجود اللازم الذي هو مكروهٌ له، سواءٌ أرادَ الفعل الأول أو لم يرده، فإنه على التقديرين لا يريد هذا الجزاء اللازم البتة، بل يكرهُهُ غايةَ الكراهة، ويمتنعُ منه غايةَ الامتناع، وإنما جعله لازمًا ليمتنع بامتناعه منه الشرط الملزوم المكروه، لا ليوجد إذا وجد الشرط المكروه، وهذا بخلاف ما إذا قَصَدَ الطلاق عند الشرط المكروه، فقال: إِنْ فعلتِ كذا فأنتِ طالق، وهو يريد طلاقها عند الشرط؛ فهذا قاصدٌ لطلاقها عند الشرط، لكن إيقاعًا لا حلفًا عليها.
وإذا قال: إِنْ فعلتِ كذا فوالله لأطلقنَّك؛ فهو قاصدٌ لأنْ يحدث عليها
(1)
في الأصل: (لعتق)، والصواب ما أثبتُّ.