المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحلف بصيغة (العتق يلزمني) كالحلف بصيغة (الطلاق يلزمني) - الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق - جـ ٢

[ابن تيمية]

الفصل: ‌الحلف بصيغة (العتق يلزمني) كالحلف بصيغة (الطلاق يلزمني)

يكن قولهم خلافًا لقول الشافعي عند ابن حزم، بل كان موافقًا لقول الشافعي عنده.

فإنَّ الشافعي يقول فيمن حلف بنذر العتق إنه تجزئه كفارة يمين، ويُفَرِّق بين ذلك وبين مَنْ حَلَفَ بوقوع العتق، وقد وافقه على ذلك أحمد وإسحاق وأبو عبيد ومحمد بن نصر وغيرهم، وابن حزم صَرَّحَ بأنَّ قول الشافعي هذا يخالف قول هؤلاء الذين نقل قولهم في العتق من الصحابة والتابعين، ومنهم طاووس.

فإذا قيل عن ابن حزم: يحتمل أَنْ يكون نَقْله عن طاووس فيمن حلف بنذر العتق؛ كان كذبًا على ابن حزم.

وأيضًا؛ ف‌

‌الحلف بصيغة (العتق يلزمني) كالحلف بصيغة (الطلاق يلزمني)

، والمعترض قد رجَّحَ قولَ الجمهور الذين يقولون: إِنَّ هذا حلف بوقوع الطلاق لا حَلِفٌ بنذره = فكذلك يجب أَنْ يجعل هذا موجب الإطلاق في قوله (العتق يلزمني) أنه حلف بوقوع العتق لا حلف بنذره، كما أَنَّ هذا هو المعروف عند الناس من قول القائل: الحرام يلزمني والظهار يلزمني إِنْ فعلتُ كذا، وأيمان المسلمين تلزمني إِنْ فعلت، وأيمانُ البيعة تلزمني إِنْ فعلت كذا؛ فإنَّ هذا حلف بلزوم هذه الأيمان له إِنْ فَعَلَ لا حلف بنذر هذه الأيمان.

فإنَّ الناس لا يَقصد أحدهم في العادة على أَنْ أَحْلِفَ في المستقبل بأيمان البيعة وأيمان المسلمين إِنْ فعلتُ، ولا يَقصد يلزمني أَنْ أُحَرِّمَ أو أُظاهر فيما بعد إِنْ فعلت، ولا يقصد يلزمني أَنْ أُطَلِّقَ أو أعتق فيما بعد إِنْ فعلت، فلا يَقصد أنه إذا حنث لزمه أن ينشئ بعد ذلك طلاقًا وعتقًا وظهارًا

ص: 702

وتحريمًا، وينشئ الحلف بأيمان البيعة وأيمان المسلمين، كما إذا قال: إِنْ شفى الله مريضي فعليَّ الحجُّ، إِنْ فعلتُ كذا فعليَّ الحج، إِنْ فعلتُ كذا فقد لزمني الحج = فإنَّ هذا يقصد إذا فَعَلَ لزومَ إنشاءِ حَجٍّ له بعد ذلك [196/ أ]، وأما هناك فإنما يقصد إذا حنث أنه قد لزمه الطلاق والعتاق، ولزمه ما يلزم الحالف الحانث إذا حلف بأيمان المسلمين وأيمان البيعة.

[الوجه السادس]: قوله: (وتقدم قول محمد بن نصر: إنه روي عن الحسن وطاووس مثل قول أبي ثور

(1)

؛ فيحتمل أَنْ يريد مثل قوله في التفرقة بين الطلاق والعتاق، ويحتمل أَنْ يريد مثل قول أبي ثور في العتق خاصة)

(2)

.

فيقال له: وعلى كلا التقديرين؛ فيكون قد نقل عن طاووس أَنَّ الحالف بالعتق إذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فكل مملوك لي حر = أَنْ يُكَفِّرَ يمينه، والكلام هنا إنما هو في قول طاووس في العتق.

فقد تبين أَنَّ نقل محمد بن نصر حجةٌ عليك في إثبات قول طاووس كنقل ابن حزم، وقد انضم إلى ذلك نقل ابن المنذر، ونقل الطبري، ونقل أبي عمر بن عبد البر، وغيرهم من العلماء.

وترديدك الاحتمال في هذا المقام لا ينفعك في نفي هذا النقل، بل ذكر هذا الاحتمال هنا من باب التغليط والمغالطة

(3)

؛ كذلك الاحتمالات

(1)

انظر (ص 167).

(2)

«التحقيق» (45/ أ).

(3)

في الأصل: (التغليظ والمغلظة)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

ص: 703

التي ذكرتها في قول طاووس في الطلاق، فهاتيك لو قُدِّرَ أنها تنفعك لم تنفعك.

فهذه الاحتمالات القرمطية التي تذكرها في قول طاووس، وفي نقل محمد بن نصر عنه، لو نفعتك لن تنفعك فيما قصدته هنا من نفي قول طاووس في العتق، بل هي حجةٌ صريحةٌ على كلا الاحتمالين على نفي مقصودك هنا.

ولا عجب أَنْ يحتج

(1)

الشخص بحجة وتكون عليه لا له إذا كان ذلك في سياقِ رَدِّ الحق الذي لا يمكن رَدُّه، فإنَّ هؤلاء المجادلين في هذه المسألة بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، أخرجهم الجدل بالباطل إلى أن جحدوا ما عُلم بالحس وبالعقل وبالسمع وبالشرع وبالخبر، فصاروا يقولون: كُلُّ مَنْ عَلَّقَ شيئًا بقصد اليمين فلا بُدَّ أَنْ يريد وقوع ما عَلَّقَهُ عند وجود الشرط وإنْ كان كارهًا له وللشرط إذا لم يوجد الشرط، بل إذا وجد الشرط فقد أراده كما يريده المعلِّق غيرُ الحالف.

فصاروا يَدَّعون على مَنْ أراد أَنْ يمنع نفسه، فقال: إِنْ سافرتُ معكم [196/ ب] إِنْ كلمتُ فلانًا فنسائي طوالق وعبيدي أحرار ومالي صدقة وعليَّ ثلاثون حجة وصوم الدهر ولا أماتني الله على الإسلام وقطع الله يدي وذبح أولادي على صدري ونحو ذلك من الأمور التي يشتد كراهة الإنسان لها وامتناعه من إرادة وقوعها.

ومعلومٌ بالاضطرار أنه لا يريد وقوعه سواء وجد الشرط أو لم يوجد

(1)

كررها الناسخ في الأصل.

ص: 704

الشرط

(1)

فيقولون: بل هذا قاصد لوجودها إذا وجد الشرط، كما يقصد غير الحالف

(2)

الطلاق إذا قال: إِنْ أعطتني ألفًا فهي طالق، أو إذا طَلَعَ الهلال فهي طالق، أو إذا أَدَّيْتَ لي ألفًا فأنت حر، أو إِنْ شفى الله مريضي فعليَّ الحج وعليَّ الصدقة بألف؛ فيجعلون كلَّ مُعَلِّقٍ مريدًا لوقوع الجزاء عند الشرط سواء كان الشرط مرادًا أو غير مراد، وسواء كان الجزاء مكروهًا دون الشرط أو لم يكن مكروهًا، لكنْ إذا عَلَّقَه فلا بُدَّ أَنْ يقصد وجوده عند الشرط.

ومعلومٌ أَنَّ قولهم هذا خلاف لما يعلمه الناس علمًا يقينيًّا ضروريًّا من أنفسهم، بل ولما يعلمه بعضهم من حال بعض، فإنهم يعلمون أَنَّ أحدًا لا يقصد أَنْ تلزمه هذه اللوازم التي تزيل عنه نعم الله عليه في دينه ودنياه، وتجعله قد وُتِرَ أهلَه وماله ودينه وآخرته، فإنَّ أحدًا لا يقصد أَنْ يلزمه هذا بحال، فضلًا عن أَنْ يقصد إذا فعل فعلًا من الأفعال مثل سفره إلى بلد أو يُكَلِّم بعض الناس أو تزويج بنته أو إعطاء عشرة دراهم يقدر عليها، بل كل عاقل يعلم أَنَّ بَذْلَ هذه الأمور أيسر على كل عاقل من لزوم تلك المكاره، وأنه إذا خُيِّرَ بينَ أَنْ يفعل هذه الأفعال وبينَ أَنْ تلزمه تلك اللوازم = اختار أَنْ يفعلها وأضعافها، ولا تلزمه بعض تلك المصائب العظيمة في دينه ودنياه؛ فضلًا عن أَنْ تلزمه كلها.

وإذا كان معلومًا بالاضطرار أَنَّ هذه الأفعال أحب إليه من لزوم تلك المصائب، فلا يختار إذا فعل هذا الفعل أَنْ تلزمه تلك المصائب العظيمة،

(1)

بعده في الأصل: (أو لم يوجد)، وهو تكرار، والصواب حذفه.

(2)

بعده في الأصل: (مثلما يقصد)، ولعل الصواب حذفها.

ص: 705

فيجتمع عليه إِنْ فعلَ ما كان يكرهه وإن لزومه

(1)

[197/ أ] تلك المصائب، وكان حين اليمين كارهًا للفعل، وكارهًا لتلك المصائب، ثم ندم فيما بعد على التزام الفعل، فصار يختار الفعل ولا يختار أَنْ تلزمه تلك المصائب.

وأما كونه يختار أن تلزمه تلك الصفات إذا فعل الفعل؛ فهذا ممتنع منه، ومن سائر

(2)

العقلاء لا سيما وهو حين اليمين كان كارهًا للفعل؛ فكيف يختار إذا وجد المكروه الأدنى أَنْ يوجد هو والمكروه الأعلى؟! فهو كاره لكلٍ منهما إذا انفرد، وكراهته للمصائب أعظم؛ فكيف يختار إذا وجد هذا أَنْ يوجد هذا؟! فيكون قد اختار اجتماع هذا مع هذا، وهو قط لم يختر أن تكون تلك المصائب وحدها؛ فكيف يختارها إذا قرنت بما هو مكروه عنده؟! وقد زاده اقترانها به كراهة لها، ولم يتجدد له عند الاجتماع معنىً يزيل كراهة هذه المصائب.

وأما إذا قُدِّرَ أنه عند الاجتماع يُحْدِثُ معنًى يوجب إرادةَ ما عَلَّقه؛ فهذا ليس بحالف، وهذا يكون في مثل تعليق الطلاق.

فإنَّ الطلاق يريده الإنسان تارة ويكرهه أخرى، فإذا عَلَّقَهُ على فعلٍ مكروهٍ فقد يقع مع كراهته له وإِنْ وجد الفعل فيكون حالفًا، وقد يكون مع إرادته له عند الفعل فلا يكون حالفًا.

ولهذا لَمَّا كان تعليق الطلاق على وجه الحض والمنع: يكون تارةً مع كراهته [له]

(3)

عند الشرط فيكون حالفًا، وتارة مع إرادته فلا يكون حالفًا = وقعتِ الشبهةُ لكثيرٍ من الناس في هذا الباب، كالمعترض وأمثاله، بخلاف

(1)

كذا في الأصل، ولعل صواب العبارة: وإلا لزمته. أو: وإنْ لم يفعل لزمته.

(2)

كرر الناسخ: (ومن سائر).

(3)

إضافة يقتضيها السياق.

ص: 706

ما لا يكون إلا يمينًا.

ولكن مع كونه قاصدًا للحلف يمتنع أَنْ يكون مريدًا للجزاء في جميع أنواع اليمين، ولو كان مريدًا لم يكن حالفًا، فإنَّ الحالف لا بُدَّ أَنْ تكون كراهته للجزاء الذي علقه أبلغ وإِن وجد الشرط مع

(1)

كراهته للشرط، فيتميز عن المانع الذي ليس بحالف بوجهين:

أحدهما: أنه يكره الجزاء وإِنْ وُجِدَ الشرط.

والثاني: أنه يكرهه أبلغَ من كراهة الشرط، بخلافِ الذي يقصد الإيقاع، فإنَّ كراهته للشرط أبلغُ، وعند وقوع [197/ ب] الشرط لا يكره الجزاء، بل يدفع أعظم المكروهين ــ وهو الشرط ــ بالتزام أدناهما ــ وهو الجزاء ــ عنده. وأما الحالف؛ فالجزاءُ أكره الأمرين له، وأدومهما كراهة.

فهؤلاء لَمَّا تكلموا فيما لم يعرفوه؛ التزموا جحد العلوم الضرورية التي يعرفها الناس من أنفسهم، ولا يقال: فقد سبقهم بعض العلماء إلى هذا.

فيقال: الذي سُبِقُوا إليه القولُ بلزومِ الجزاءِ عند الشرط؛ فهذا مما قاله مَنْ قاله من علماء المسلمين، لكن هؤلاء لم يُعرفْ عن أحدٍ منهم أنه قال: إنَّ الحالف يقصد لزوم الجزاء وإِنْ وُجِدَ الشرط، فهذا ما علمتُ أحدًا من علماء المسلمين قاله، ولكنْ لمَّا ظَهَرَ الكلامُ والبحثُ التامُّ في هذه المسألة نقلًا وبحثًا = صار بعض مَنْ يجادل بها إذا ذُكِرَ له أَنَّ الحالف لم يقصد لزوم الجزاء، يقول: بل قصده!

وهم وإِنْ جحدوا ما يُعلم بالاضطرار، فقد لا يكونون معاندين جاحدين

(1)

وضع الناسخ علامة اللحق في الهامش وكتب (من)، وكتب عليها حرف (خ).

ص: 707

لما يعلمونه، بل اشتباه الأمر عليهم، وعدم تمييزهم

(1)

بين نوع ونوع = أوجب أَنْ جعلوا أحد النوعين مثل الآخر.

وقد عُلِمَ أَنَّ المعلِّق قد يقصد الإيقاع، فظنوا كُلَّ مُعَلِّقٍ يقصد الإيقاع حتى الحالف، فجحدوا ما يعلم بالاضطرار مِنْ عَدَمِ تمييزهم

(2)

وتفريقهم بين نوعٍ ونوعٍ.

والحِسُّ يغلط إذا لم يكن معه عقل يُميِّز بين المشتبهات؛ فكذلك قد يغلطون في حسهم الباطن إذا لم يكن معهم ما يعقلون به الفرق بين نوع ونوع؛ ولهذا قيل: غلطوا في العقل ــ أيضًا ــ وغلطوا في السمع؛ حيث أنكروا أن تكون هذه أيمانًا في اللغة وَعُرْفِ الصحابة الذين خوطبوا بالقرآن، وغَلطوا في الشرع؛ حيث ألغوا ما اعتبره الشارع من الصفات المعتبرة فيه، كوصف كون الكلام يمينًا، وَعَلَّقُوا الحكمَ بكون الكلام تعليقًا جُعِلَ فيه الجزاء لازمًا للشرط، وهذا وصفٌ مُلْغًى مُهدَرٌ في الشرع، لم يعلق به حكمًا لا في النفي ولا في الإثبات.

وغلطوا في الجزم بمذاهب

(3)

السلف حيث يحكون عن الصحابة والتابعين ما لم يقولوه، ويُقَوِّلُونهم أقوالًا لم [198/ أ] يقولوها، مع اعترافهم ببطلانها فصار فيهم نوعٌ من القرمطة في السمعيات والسفسطة في العقليات، حيث خرجوا عما يُعرف بالأدلة السمعية والعقلية.

(1)

في الأصل: (تميزهم).

(2)

في الأصل: (تميزهم).

(3)

في الأصل: (الجزو هل مذاهب)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

ص: 708

وهذا يظهر لكلِّ مَنْ تأمل كلام هذا المعترض وأمثاله في مثل هذه المسألة، فإنَّ المقصود بالجواب عن اعتراضاته ليس هو ذمهم والرد عليهم ولا ذمه، بل هو مشكورٌ محمودٌ مثنًى عليه مُكْرَمٌ، لِمَا ذكره مما استفرغ فيه وسعه، حيث كان ذلك من أسباب ما ظهر من الهدى ودين الحق الذي بعث الله ــ تعالى ــ به رسوله صلى الله عليه وسلم.

ولكن المقصود: رَدُّ جنسِ الكلام الباطل الذي يناقض ما يناقضه من الهدى ودين الحق. والمردود: القول الباطل نقلًا وبحثًا، مِنْ أَيِّ قائل كان، فإنَّ ما يقوله زيد قد يقوله وما هو أفسد منه عمرو وبكر.

الوجه [السابع]: أَنْ يقال: قد ذكرتَ هنا أنك أبديت احتمالات فيما نُقِلَ عن طاووس، كما ذكرت احتمالات أُخَر عنه، مع اعترافك أنك لم تر عنه نصًّا ظاهرًا خلاف ما نقله المصنف عنه، ولا ريب أنك لم تذكر عنه نصًّا ظاهرًا بخلاف ما نقله المصنف وغيره، لا في الحلف بالعتق ولا في الحلف بالطلاق، وهذا الذي رددتَ عليه لم يكن مُصَنَّفًا، ولكن أنت تُسمِّيه مصنفًا، ولكن هو جواب سائل؛ ولهذا لم يستوعب المجيب الكلام فيه في المسألة نقلًا وبحثًا، وإنما كتبه على البديهة كما يكتب جواب المسائل.

ولما لم يكن الكلام فيه مستوفًى ظَنَّ هذا المعترض وأمثاله أَنَّ هذا هو غاية ما في المسألة من النقل والبحث، فَطَمِعَ مثل هؤلاء في رَدِّ ذلك، وإِنْ كانوا مع قلته لم يردوه بحق، فلمَّا انتشر الكلام فيها وظهر لهم بعد هذا من النقل والدليل ما لم يكن في هذا الجواب= تكعكع مَنْ كان يتحدى بما عنده من العلم والبيان، وكتموا ما كانوا كتبوه في حكم هذه الأيمان، وبلغني أَنَّ

ص: 709

المعترض [لمَّا]

(1)

رأى بعض ما ذُكِرَ ــ غَيْرَ الجواب المختصر ــ بَسَطَ هذا الاعتراض هذا البسط؛ ولهذا وقع فيه ما وقع من التكرار، وأنه لما رأى ما هو أبلغ [198/ ب] من ذلك استعفى عن معاودة الاعتراض

(2)

.

والمقصود هنا: أَنَّ المجيب لم يذكر في ذلك الجواب المختصر كلامَ طاووس وغيره في الطلاق، بل ذكر الخلاف مجملًا بأنه إذا حنث فللعلماء فيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه إذا حنث وقع به الطلاق والعتاق.

والثاني: لا يقع به شيء ولا كفارة عليه.

والثالث: عليه الكفارة.

ولمَّا لم يذكر المجيب كُلَّ قولٍ ومَنْ نقله = طَمِعَ مَنْ طَمِعَ في الاعتراض على الجواب المختصر، ولكن المجيب وغير المجيب قد نقلوا عن طاووس أن الحالف بالطلاق لا يقع به الطلاق، وذكروا إسناد هذا النقل، فإنه رواه عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن ابن طاووس، عن أبيه. ورواه سفيان بن عيينة، عن ابن طاووس، عن أبيه

(3)

.

وابن حزم

(4)

فيمن نقله عن طاووس، وذكره من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج، أخبرني ابن طاووس، عن أبيه أنه كان يقول بالحلف بالطلاق ليس شيئًا. قلتُ: أكان يراه يمينًا؟ قال: لا أدري.

(1)

إضافة يقتضيها السياق.

(2)

انظر (ص 18 وما بعدها) من المقدمة.

(3)

انظر ما تقدم (ص 220).

(4)

في المحلى (ص 1785).

ص: 710

وقال المعترض:

(يحتمل أن يكون مراده ليس صوابًا، فإنه مكروه لأنه حلف بغير الله، أو أنه لا بأس به، أو أَنَّ مراده إذا أكره على الحلف به، وَرَجَّحَ هذا الاحتمال).

فيقال له: صَرْفُ اللفظِ إلى معنىً يخالفُ ظاهرَهُ يحتاج إلى أمور: أَنْ يكونَ اللفظ مستعملًا في عُرْفِ ذلك المتكلم في ذلك المعنى، وإلى أَنْ يكون عنده دليل يبين أنه لم يرد ظاهره، وإلى ألا يُعرف عنه ما يُبين مراده خلاف ذلك؛ وهذه الثلاثة منتفية هنا

(1)

.

فإنَّا قد ذكرنا عن طاووس، وعن أَجَلَّ منه مثل ابن عباس وغيره، أَنَّ مرادهم بمثل هذا اللفظ في هذا: أنه لا يقع به الطلاق وإن لزمته الكفارة، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في الحرام: ليس يمينًا

(2)

. وقال: إنه يمين مكفرة

(3)

. وكما سئل طاووس عن الخلع، فقال: ليس بشيء

(4)

. وذُكِرَ ذلك عن ابن عباس

(5)

، وبَيَّنَ مراده أنه ليس بطلاق بل فرقة بائنة. وكما قالت عائشة رضي الله عنها في نذر اللجاج والغضب: ليس شيئًا

(6)

. ومرادها: أنه لا يلزم وإِنْ وجبت فيه الكفارة.

فعادتهم [199/ أ] ينفون بهذا اللفظ ما يَظُنُّ السائل أنه ثابت وهو منتفٍ،

(1)

مجموع الفتاوى (6/ 360).

(2)

تقدم تخريجه في (ص 222)، وهو في صحيح البخاري بلفظ: ليس بشيء.

(3)

تقدم تخريجه في (ص 222)، وهو في صحيح مسلم.

(4)

تقدم تخريجه في (ص 218).

(5)

تقدم تخريجه في (ص 218).

(6)

أخرجه ابن الجعد في مسنده برقم (ح 2404).

ص: 711

وإِنْ أثبتوا به شيئًا آخر، كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكهان، فقال: ليسوا بشيء

(1)

.

وكذلك ما ذُكِرَ [مِنْ]

(2)

قول سعيد بن المسيب لَمَّا سُئِلَ عن الإيلاء: ليس بشيء

(3)

. ومرادُهُ أنه ليس بطلاق عند مضي الأجل، كما يقوله بعض الناس، فإنَّ مذهب سعيد هو قول الجمهور: أنه يوقف؛ فإما أن يفيء وإما أَنْ يُطَلِّقَ، فمراده بقوله: ليس شيئًا: نَفْي كونه طلاقًا.

كما أراد طاووس بقوله: (ليس شيئًا) في الخلع وفي الحلف بالطلاق أنه ليس طلاقًا

(4)

.

وكما أراد ابن عباس في قوله في الحرام: ليس شيئًا؛ أي: ليس طلاقًا.

وكذلك محمد بن عبد الله الأنصاري

(5)

لما سَأَلَ ابن عون عن الدرهم الزائف: أَيَسَعُ الرجلَ أَنْ يشتري به شيئًا؟ قال: بَيَّنَهُ؟ قلتُ: لا. قال: كان محمد يكرهه. قلتُ: فإنْ بَيَّن. قال: كان محمد لا يراه شيئًا. أي: لا يراه

(1)

تقدم تخريجه في (ص 220).

(2)

إضافة يقتضيها السياق.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة (18898)، وسعيد بن منصور في سننه (2/ 50)، والطبري في تفسيره (4/ 85) وغيرهم عن عمرو بن دينار أنه سأل ابن المسيب

إلخ. وإسناده صحيح.

(4)

في الأصل: (شيئًا)، والصواب ما أثبت، كما تقدم في (ص 218 - 220، 636 - 638) وغيرها.

(5)

في جزء أحاديثه (ص 48) ولفظه: سألتُ ابن عون عن الدرهم الزائف؛ أتسمح للرجل أن يَشتري به شيئًا؟ قال: بِبَيِّنَةٍ [كذا، ولعلها: يُبَيِّنُهُ]؟ قلت: لا. قال: كان محمد يكرهه. قلتُ: فإنْ بيَّن؟. قال: كان محمد لا يُحِبُّهُ.

قال أبو عبد الله الأنصاري: قال لي: فما تقول لو أنَّ رجلًا باع سلعةً وبها عيب؟ قلتُ: يُبيِّن العيب. قال: لا أكرهه. قلتُ: وكذلك الدرهم الزائف إذا لم يُبيِّن. قال: فإنْ بيَّن العيب؟ قلتُ: لا أرى بأسًا. قال: وكذلك الدرهم الزائف.

ص: 712

حرامًا. فنفى بقوله شيئًا ما ظَنَّهُ السائلُ من التحريم.

كما نفت عائشة بقولها في نذر اللجاج والغضب: ليس شيئًا؛ ما ظَنَّهُ السائل من لزوم النذر له مع إثباتها للكفارة فيه.

وأهل الجرح والتعديل يقولون في المحدث الواهي: ليس بشيءٍ؛ ينفون عنه ما يقصد به ويُظَن فيه من العمل بروايته.

وأصل هذا: أَنَّ قولَ القائل: ليس بشيء؛ نفيٌ لحقيقة الشيء، فإذا كان الشيء يراد به شيء، وذاكَ المرادُ منتفٍ فيه= قيل: ليس بشيء، كما يقال عمن يُقْصَدُ منه العلم أو العدالة أو العطاء أو الشجاعة ولا يكون كذلك= يقال فيه: ليس بشيء؛ فَيُنْفَى بذلك ما يقصد به.

وكذلك اللفظ الذي يعتقد أنه خبر مطابق لمخبره إذا لم يكن مطابقًا؛ قيل فيه: ليس بشيء.

وكذلك العقد الذي يعتقد أنه ثبت موجبه إذا انتفى عنه موجبه قيل: ليس بشيء.

ومعلومٌ أَنَّ عقد التعليق يقتضي ثبوت المعلق عند الشرط، سواء كان المعلق نذرًا أو طلاقًا أو عتقًا، فإذا لم يكن موجبه ثابتًا بل كان مرتفعًا للكفارة أو غيرها، قيل في تعليق النذر كما قالت عائشة: ليس بشيء، وقيل في تعليق الطلاق كما قال طاووس: ليس شيئًا.

وكذلك [199/ ب] قول الرجل لامرأته: أنت عليَّ حرام؛ مقتضى هذا اللفظ ثبوت التحريم، فلما كان هذا اللفظ عند ابن عباس رضي الله عنهما قد انتفى موجبه قال: ليس بشيء.

ص: 713

وإذا كان السائل يعتقد ثبوت موجبه، اجتمع فيه

(1)

أنه موجب اللفظ وأنه اعتقاد السائل، فصار قوله فيه:(ليس بشيء) أوكد وأوكد، كالكهان الذين

(2)

يَطلب منهم الصدق فيما يخبرون به، ويظن فيهم الصدق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم:«ليسوا بشيء»

(3)

.

والعرب يقولون: ليس زيد بشيء إلا شيئًا لا يُعبأ به؛ فينفون به ما يقصد من مثله إلا ما لا يعبأ به، وقد يكون هناك سبب يقتضي [ذلك]

(4)

.

وقد يعتقد الرجل في الكلام أمرًا، فيقال له: ليس بشيءٍ؛ لنفي ما اعتقده فيه، كقول ابن المسيب في الإيلاء: ليس بشيء؛ أي: ليس بطلاق

(5)

.

فهذا الثاني معروف في كلام العرب عامة، وكلام علماء الصحابة والتابعين خاصة، وكلام طاووس وشيخه ابن عباس خاصة الخاصة، قد عُرِفَ مرادهم بمثل هذا الكلام في مثل هذه العقود التي تنازع الناس فيها، هل هي طلاق أم غير طلاق؟ كالتحريم والخلع والحلف بالطلاق، فيقولون: ليست بشيء؛ ومرادهم: ليست بطلاق، وإذا عرف مرادهم وعادتهم التي يريدونها بمثل هذا اللفظ، ولم يكن عنهم ما يناقض ذلك، بل سائر النقول عنهم

(6)

توافق ذلك= امتنع أَنْ يحملَ كلامهم على غير ذلك.

(1)

فوقها حرف: (ظ).

(2)

في الأصل: (الذي)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(3)

تقدم تخريجه في (ص 220).

(4)

إضافة يقتضيها السياق.

(5)

تقدم في (ص 712).

(6)

في الأصل: (منهم).

ص: 714

وطاووس قد عُرِفَ مِنْ مذهبه أَنَّ التعليقات التي يقصد بها اليمين ــ كتعليق العتاق والنذر ــ أنها ليست عنده موجبة لمقتضاها وهو العتق والنذر، ومثل ذلك يقولون عنه في عادتهم: ليس بشيء؛ أي: ليس نذرًا ولا طلاقًا.

وقد عُرِفَ من عادة طاووس وطائفته أنهم يقولون في العقود المتنازع فيها هل هي طلاق أم لا؟ ليست شيئًا؛ أي: ليست طلاقًا، كما قالوا مثل ذلك في: الخلع والتحريم والحلف بالطلاق، غايَتُهُ أَنْ يكونَ صيغةَ تعليقٍ للطلاق.

فإذا قال فيه: ليس الحلف بالطلاق شيئًا، وقد عُرِفَ إطلاقُ مِثْلِ هذا العقد الذي اشتبه هل هو طلاق أو غير طلاق؟ [200/ أ] فقال: ليس بشيء؛ ومراده: ليس بطلاق، وَعُرِفَ أَنَّ التعليق الذي يقصد به اليمين عنده لا يلزم به ما عُلِّقَ به حتى العتق، وَعُرِفَ ــ أيضًا ــ من عادتهم أنهم إذا نَفَوا لزوم المعلق قالوا: ليس بشيءٍ = كان هذا مما يوجب علمًا يقينًا لا يستريب فيه عالمٌ عادلٌ أَنَّ مراد طاووس بقوله: ليس الحلف بالطلاق شيئًا؛ أَيْ: ليس بطلاق لازم، والشَّكُّ في هذا بعدَ معرفةِ هذا من أبلغ السفسطة.

ولهذا لما قال ابن جريج لابنه: أكان يراه يمينًا؟ قال: لا أدري.

وابن جريج عالم مكة وإمامها، وعبد الله بن طاووس من أَجَلِّ أهل الدين والعدالة والصدق فيما ينقله عن أبيه، وهو من أَجَلِّ مَنْ يَعتمد أهل الصحيح على روايته عن أبيه، بل من أعظم أهل زمانه، حتى قال أيوب لمعمر: إِنْ كنت راحلًا إلى أحدٍ، فعليك بابن طاووس، فهذه راحلتي. وفي لفظ: هذه رحلتي إليه

(1)

. وقال معمر: ما رأيت ابن فقيه مثل ابن طاووس.

(1)

روى ذلك: الفسوي في المعرفة والتاريخ (1/ 710)، والبخاري في التاريخ الكبير (5/ 123)، وابن أبي خيثمة في تاريخه (السفر الثالث)(1/ 323)، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (5/ 98).

ص: 715

فقيل له: ولا هشام بن عروة. فقال: حسبك بهشام بن عروة، ولكن لم أر مثل هذا

(1)

.

وابن جريج عَلِمَ أَنَّ مراده أنه ليس بطلاق، ثم سأله هل كان يراه يمينًا؟ فقال: لا أدري. وهذا يبطل كونه أراد يمين الإكراه

(2)

، فإنَّ المكره إذا أكره على الطلاق، فلا يقع ولا يلزمه

(3)

يمين عند أحد من العقلاء، ولا يَشك عاقل أنه لا يلزمه الطلاق، بل يلزمه يمين، فلمَّا جَزَمَ ابنه بأنه قال: ليس شيئًا، وَشَكَّ هل هو يمين؟ عُلِمَ أنه لم يرد بما نقله عن أبيه من أنه أُكْرِهَ على الحلف بالطلاق.

وقد قال هذا المعترض: إِنَّ (هذا الاحتمال هو الذي انقدح في نفسي وقوي، لأني رأيتُ هذا الأثر في مصنف عبد الرزاق في باب طلاق المكره، بعد أثر عن ابن جريج عن عطاء في الرجل يضطره الأمير إلى الطلاق في أمرٍ هو له ظالم. قال: ليس عليه بأس أَنْ يحلف؛ فعبد الرزاق الراوي عن ابن جريج للأثرين

(4)

جميعًا، وهو أقرب عهدًا بأصحابهما

(5)

، وأقرب إلى

(1)

روى ذلك: الفسوي في المعرفة والتاريخ (1/ 710)، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (5/ 98).

(2)

كتب الناسخ في الهامش: (المكره) وبجانبها (صح) وفوقها (خ).

(3)

في الأصل: (فلم يقع لا يلزمه)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(4)

في «التحقيق» : (الأثرين).

(5)

في الأصل: (عهد بأصحابها)، والمثبت من «التحقيق» .

ص: 716

معرفة

(1)

مرادهما= قد خَرَّجَ ذلك في باب الإكراه، وَبَوَّبَ للحلف بالطلاق بابًا مفردًا غير هذا، ولم [200/ ب]

(2)

يخرج الأثر فيه؛ فَدَلَّ على أنه فَهِمَ ما قلناه)

(3)

.

فيقال له: معلومٌ أَنَّ علم عبد الله بن طاووس بمراد أبيه ومراد ابن جريج وقد سمعه من طاووس= أتم وأعظم من علم عبد الرزاق، فإنَّ هؤلاء أقرب عهدًا.

وكذلك سفيان بن عيينة عن ابن جريج؛ فإنَّ هؤلاء أعلم وأفضل وأفقه من عبد الرزاق باتفاق المسلمين.

وعبد الرزاق كما قال أحمد فيه: لم يكن من الفقهاء أهل الاستدلال، وإنما كان محدثًا ناقلًا لقول غيره

(4)

، وابن جريج أحد الأئمة في الفقه.

مع أَنَّ ذكر عبد الرزاق له في هذا الباب هو لمناسبته ما تقدم، فإنَّ الحاجةَ إلى معرفةِ الحلف بالطلاق في أيمان المكرهين أعظم، فإنه كثيرًا ما يُكره الرجل على الحلف بالطلاق، فيظن أنه إذا حنث لزمه الطلاق، فذكر

(1)

في الأصل: (معفرة)، والمثبت من «التحقيق» .

(2)

كرر الناسخ (ولم).

(3)

«التحقيق» (7/ ب - 8/ أ).

(4)

نقل أبو يعلى في طبقات الحنابلة (2/ 392) عن أبي بكر المستملي قال: سألتُ أحمد عن عبد الرزاق كان له فقه؟ فقال: ما أقَلَّ الفقه في أصحاب الحديث.

انظر: الآداب الشرعية (2/ 67)، المقصد الأرشد (2/ 537)، موسوعة أقوال الإمام أحمد في رجال الحديث وعلله (2/ 355).

ص: 717

هذا مع ذلك ليبين أَنَّ طاووسًا يفتي المكره بما أفتاه عطاء أنه لا يلزم الطلاق الذي حلف به، ثم لما ذكره مرة لم يُعِدْهُ في ذلك الباب، كما جرت عادتهم أنهم يكتفون برواية الحديث والأثر في أحد البابين وإِنْ كان مناسبًا لهما جميعًا.

وبالجملة؛ فليس فيما فعله عبد الرزاق ما يدل على أنه فَهِمَ اختصاص ذلك بالمكره، ولو قال ذلك = لم يكن فهمه مساويًا لفهم شيخه ابن جريج الذي هو أعلم منه وأقرب عهدًا بالمتكلم، وكذلك فهم عبد الله ابنه.

ثم يمتنع أن يكونوا نقلوا قوله في المكره خاصة مع الجزم بأنه ليس بطلاق، والشك هل هو يمين أم لا، فإنَّ هذا لا يصدر من عاقل يتصور ما يقول، فإنه إذا كان الحلف بالطلاق هو تطليقًا عند طاووس يلزمه إذا أوقعه مختارًا، ثم قال في المكره عليه: لا يقع به طلاق؛ فهل يمكن مع هذا أَنْ يكون المكره على الطلاق يقال: إِنَّ ما أُكْرِهَ هل هو يمين أم ليس بيمين، وهل يشك ابنه الذي عَرَفَ مراده بقوله: ليس بشيء؛ أنه قد يكون عنده يمينًا وقد لا يكون، وكيف يتصور إذا لم يقع طلاق المكره أَنْ يكون يمينًا؟

ثم لفظ طاووس: الحلف بالطلاق ليس شيئًا؛ يذكر لفظ الحلف [201/ أ] لا لفظ الطلاق، وأطلق اللفظ وعممه ولم يخص منه المكره. فإذا قيل: المراد به المكره، لم يكن لذكر لفظ الحلف اختصاص بذلك، وَلَوَجَبَ ذِكْرُ لفظِ الإكراه؛ فكيف يجوز حمل كلام الرجل على معنى لفظٍ لم يَذكره، ويُلغى معنى اللفظ الذي ذكره، ويجعل لفظ العام المطلق خاصًّا مقيدًّا بلا دليل؟

فإنَّ المكره سواء أكره على إيقاعه أو الحلف به لا يلزمه، ولم يُفَرِّق أحدٌ

ص: 718

من العلماء بين الإكراه على الطلاق والإكراه على الحلف به فيما ذكره الناس؛ بل الجمهور يقولون: طلاق المكره لا يقع سواء كان موقعًا أو حالفًا، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد، وأما أبو حنيفة فيقول بلزوم الطلاق للمكره، وغاية الحالف أَنْ يكون موقعًا فيلزمه.

والحكاية التي ذكرها عن الأوزاعي تُناسب ذكر عبد الرزاق لهذا في باب الإكراه، فإنَّ ذاك الرجل من الصحابة كان عليًّا رضي الله عنه، وعبد الرزاق كان باليمن، وكان مع موافقته لسائر أهل السنة في محبة علي وموالاته يبالغ في ذلك [حتى]

(1)

نُسِبَ بسبب ذلك إلى التشيع؛ فَذَكَرَ قول طاووس مع قول عطاء ليعرف أن المكره على الحلف به لا يقع به الطلاق، لا لأن طاووسًا خَصَّ المكره مع عموم كلامه لكل حالف، ومع تخصيصه الحالف دون المُطَلِّق، ومع أن ابنه وابن جريج السائل لابنه يشكان هل جعله يمينًا أم لم يجعله، ولو كان كلامه مختصًّا بالمكره لم يكن للشك وجه كما تقدم.

وأما قول القائل: مراده: أنه لا بأس به؛ فهذا أفسد مما تقدم، فإنَّ هذا اللفظ لا يحتمل هذا المعنى في عُرْفِ طاووس وأمثاله بوجهٍ من الوجوه، كما لا يحتمل ذلك في قوله لما سُئِلَ عن الخلع، فقال: ليس بشيء. وقول ابن عباس إذا حَرَّمَ امرأتَهُ فليس بشيء

(2)

. وقول عائشة رضي الله عنها في نذر اللجاج والغضب: ليس بشيء

(3)

. وقول ابن المسيب في الإيلاء: ليس

(1)

إضافة يقتضيها السياق.

(2)

تقدم تخريجه في (ص 222).

(3)

تقدم تخريجه في (ص 711).

ص: 719

بشيء

(1)

؛ وكذلك تأويله ليس بصواب؛ فإنه أولًا: هذا يناقض قوله لا بأس به؛ فياليت شعري كيف يُفسَّرُ مراد الرجل بقولين متناقضين؟!

ثم قد عرف عادة طاووس في [201/ ب] مثل هذا اللفظ، فلا يجوز حَمْلُ كلامِهِ على غير عادته المعروفة من خطابه.

وأيضًا؛ مثل هذا اللفظ استعملوه لمثل هذا المعنى.

وما ذَكَرَهُ من رواية أبي الزبير عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: فَرَدَّهَا عليَّ

(2)

ولم يرها شيئًا

(3)

، وعامة الناس فهموا من ذلك: أنه لم يَرَهَا طلاقًا؛ وهذا مما يُبَيِّنُ أَنَّ هذا هو المفهوم من مثل هذا اللفظ في عُرْفِ السلف.

ثم طائفة قالت: نافع روى عن ابن عمر خلافَ ذلك

(4)

، وقد تابعه يونس وغيره

(5)

، وهو أثبت من رواية أبي الزبير، وطائفة تثبت رواية أبي الزبير، وذكروا لها شاهدًا من بعض الطرق عن نافع كما فعله ابن حزم

(6)

(1)

تقدم تخريجه في (ص 712).

(2)

في الأصل زيادة: رضي الله عنه؛ وهو خطأ.

(3)

أخرجه أبو داود (2185) وغيره.

وانظر: البدر المنير (8/ 68)، إرواء الغليل (7/ 129)، صحيح أبي داود (الأم)(6/ 389).

(4)

أخرجه مسلم (1471).

(5)

تابعه يونس بن جبر، وسالم بن عبد الله، وعبد الله بن دينار، وأنس بن سيرين، وطاووس؛ ورواياتهم أخرجها مسلم في صحيحه (1471).

(6)

المحلى (ص 1751 - 1754).

ص: 720

وغيره، ولو كان المفهوم منها لم يره صوابًا = لكانت رواية أبي الزبير كرواية غيره، وهذا خلاف ما عليه جمهور الناس.

وإذا قيل: إِنَّ بعض العلماء ــ كالشافعي ــ فَسَّرَهَا بهذا.

قيل له: مَحَلُّ النزاع لا يثبت بمحلِّ النزاع، فإنْ لم يثبت عرفُ استعمالٍ لهذا اللفظ أَنَّ أولئك كانوا يريدون به هذا في مثل هذا الكلام، وإلا فلا يجوز الاحتجاج بقولٍ قد خالفَ قائلُهُ جمهورَ الناس بلا حجة، بل نقول: الأصلُ في اللفظِ عدم الاشتراك، وإذا كانَ المرادُ ما قلناه؛ لزم عدم الاشتراك.

وإذا جُعِلَ يستعمل في هذا تارة وفي هذا تارة؛ كان إثباتًا للاشتراك بلا حجة أصلًا، بل بمجرد الدعوى؛ وهذا لا يجوز.

ومتى عُرِفَ أنهم يستعملون اللفظ في معنًى كانَ حَمْلُ لفظهم على ما جرت عادتهم بإرادته.

ثم هذه القرمطة في كلام طاووس نفسه، مثل القرمطة في كلام من نَقَلَ قولَهُ كمحمد بن نصر، فإنه نقل عن طاووس والحسن مثل قول أبي ثور، فقال:(يحتمل أن يكون مراده أَنَّ طاووسًا فَرَّقَ بين الطلاق والعتاق كأبي ثور)، ومعلومٌ أنه لم يَنْقُلْ أَحَدٌ لا محمد بن نصر ولا ابن جرير ولا مَنْ بعدهم كابن عبد البر وابن حزم، ولا مَنْ قبلهم كالشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبي ثور وغيرهم عَنْ أَحَدٍ من علماء المسلمين أَنَّهُ فَرَّقَ بين الحلف بالطلاق والعتاق، ولو كان هذا موجودًا لكان هذا مِنْ أعظمِ ما

ص: 721

يَستند إليه أبو ثور [202/ أ] وابن جرير في تفريقهما، مع أنهما أعلم بأقوال السلف.

ومعلومٌ أَنَّ أبا ثور قد عَرَفَ النزاعَ في العتق، فلو عَرَفَ أَنَّ طاووسًا أو غيره فَرَّقُوا بينهما لذكر ذلك.

وأيضًا؛ فهذه الكتب المصنَّفة في أقاويل السلف مثل: مصنف عبد الرزاق ومصنف ابن أبي شيبة وسنن سعيد بن منصور وغيرها، ليس في شيء منها نَقْلٌ عن طاووس بأنَّ الطلاقَ المحلوفَ بِهِ يقع، ولا نَقَلَ ذلك عنه أحد من أهل الخلاف، فلو كان عند ابن نصر عن طاووس نَقْلٌ بأنه يُفَرِّقُ بين الطلاق والعتاق كأبي ثور = لكان هذا النقلُ موجودًا عِنْدَ مَنْ قَبْلَهُ أو عند أحدٍ منهم

(1)

، وَلَنَقَلَ ذلكَ المصنِّفون لأقوال السلف والمصنفون للخلاف.

ثم النقل الصريح الثابت عنه أنه كان يقول: الحلف بالطلاق ليس شيئًا، وكان يراه يمينًا منعقدة مكفَّرة، وكذلك الحلف بالعتق والنذر عنده يمين منعقدة، وليس عتقًا ولا نذرًا، بل جميع ذلك عنده يمين منعقدة مكفرة؛ فهذا قوله المنقول عنه بالأسانيد التي يُصَدِّقُ بعضها بعضًا، ليس في شيءٍ من ذلك أنه كان يُفَرِّقُ بين الحلف بالعتق والطلاق، ولا أنه كان يرى الحالف بالطلاق يلزمه الطلاق.

وهذا المعترض قد بالغ في مطالعة الكتب لعلَّه يَظْفَرُ عنه بشيء، فاعترف بأنه لم ير عنه نصًّا ظاهرًا يخالف ما نقله المجيب، ولهذا لم أنقل عنه شيئًا، وهو لم يذكر عنه في لزوم العتق لفظًا محتملًا بنقيض ما ذكره

(1)

في الأصل: (وعنه أحد)، والصواب ما أثبتُّ.

ص: 722

المجيب، فضلًا عن أَنْ يكون ظاهرًا.

وأما الطلاق؛ فَذَكَرَ

(1)

عنه أجوبة، وكلها إنما تدل على أَنَّ الحلف بالطلاق عنده يمين منعقدة، ليس فيها ما يدل على أنه يقع به الطلاق عنده، وهذا يوافق ما يذكره المجيب عنه من أَنَّ الحلف بالطلاق عنده يمين مكفرة لا يقع به الطلاق.

فذكر أَن ابن المنذر

(2)

نقل عنه في الاستثناء في الطلاق إذا كان بيمينٍ حَلَفَ بها: أنه لا شيء عليه.

قال

(3)

: (ولو لم يكن يعتبره

(4)

، لم يكن لفرض الاستثناء معنًى)

(5)

.

فيقال له: وهذا يوافق ما ذكرناه عنه من أنها [202/ ب] يمين معتبرة عنده.

قال: (ثم قال ابن المنذر

(6)

: وفيه قول ثالث: إنه إن بدأ بالطلاق فليس له استثناء، وروي ذلك عن طاووس، وإذا حَلَفَ

(7)

على شيء واستثنى فله استثناؤه.

(1)

أي: المعترض.

(2)

في الإشراف (5/ 219).

(3)

أي: المعترض.

(4)

كذا في الأصل، وفي «التحقيق»:(تكن معتبرة).

(5)

«التحقيق» (25/ أ).

(6)

في الإشراف (5/ 220).

(7)

في «التحقيق» زيادة: (بالطلاق)؛ وليست في الأصل ولا الإشراف.

ص: 723

قال

(1)

: وقال أحمد: هما سواء؛ وإنما يكون الاستثناء في الأيمان، والطلاق والعتاق ليس بيمين)

(2)

.

فيقال له: وهذا ــ أيضًا ــ يدل على أن طاووسًا يُفَرِّق بين الحلف بالطلاق وبين إيقاع الطلاق؛ فيرى الحلف به يمينًا منعقدة فيها الاستثناء بخلاف الإيقاع، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد نقلها ابن الحكم، وما نقله ابن المنذر عنه هو رواية

(3)

ثانية

(4)

نقلها الأثرم.

قال: (وَنَقَلَ القاضي أبو الطيب الطبري [عنه] موافقته لمذهبنا في أنه إذا عَلَّقَ طلاق امرأته على صفة أو شرط فإنَّ ذلك يصح، ولا يقع إلا بعد وجودها

(5)

، ولا فَرْقَ بين أن يكون الشرط متحققًا أو الصفة وبين أن يكون متظننًا؛ فالمتحقق مثل أَنْ يقول: إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق، [إذا جاء يوم الجمعة فأنت طالق]، والمتظنن مثل أَنْ يقول: إذا قدم أبوك أو جاءت القافلة [فأنت طالق].

قال

(6)

: هذا نقل

(7)

أبي الطيب، وهو صريحٌ في مخالفة طاووس

(1)

ابن المنذر في الإشراف (5/ 220).

(2)

«التحقيق» (25/ أ).

(3)

في الأصل: (روايته)، والصواب ما أثبتُّ.

(4)

هكذا قرأتها، وتحتمل: ثابتة.

(5)

كذا في الأصل، وفي «التحقيق»:(وجودهما).

(6)

أي: المعترض.

(7)

كذا في الأصل، وفي «التحقيق»:(كلام).

ص: 724

لمذهب ابن حزم)

(1)

، وقد صدق المعترض في ذلك، فإنَّ هذا صريحٌ في أَنَّ الطلاق المعلق بالصفة عنده يقع، خلافًا لأبي عبد الرحمن وابن حزم وغيرهما.

وهذا مع قوله: (ليس الحلف بالطلاق شيئًا) يُبَيِّنُ أَنَّ قوله في تعليق الطلاق كقوله في تعليق العتاق وتعليق النذر، يُفَرِّقُ بينَ التعليقِ الذي يُقصد به اليمين، والتعليق الذي يقصد به النذر والطلاق والعتاق، وهذا هو الثابت عن الصحابة، وهو أصح الأقوال في هذا الباب، وهو مما يبين أَنَّ قولَ طاووس قول متناسق

(2)

غير متناقض.

ثم إِنَّ المعترض قال: (وفي كتاب سعيد بن منصور أثر يمكن أَنْ يؤخذ منه عن طاووس مثلما أخذ عمن علل إبطال الحلف بالطلاق قبل النكاح [بالتقدم]

(3)

، وذكر ما رواه عن ابن المسيب فيمن قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق. وقال سعيد: مُطَلِّقٌ ما لم تتزوجه

(4)

. وذكر عن عطاء وطاووس [203/ أ] مثل ذلك)

(5)

.

قال المعترض: (فلو كان طاووس يعتقد أَنَّ الحلف بالطلاق مُلغًى= لم

(1)

«التحقيق» (25/ أ)، وما بين معقوفتين زيادة منه.

(2)

في الأصل: (مناسب)، ولعل الأقرب ما أثبتُّ.

(3)

زيادة من «التحقيق» .

(4)

ولفظه في السنن (1/ 293/ ح 1037): جاء رجلٌ إلى سعيد بن المسيب فقال: ما تقول في رجل قال: إنْ تزوجت فلانة فهي طالق؟ فقال له سعيد: كم أصدقها؟ قال له الرجل: لم يتزوجها بعد؛ فكيف يصدقها؟! فقال له سعيد: فكيف يُطلِّق ما لم يتزوجه؟!

(5)

(1/ 293/ ح 1038).

ص: 725

يقل مثل ذلك، وكذلك يقتضي بأنه لا يقول: بأنَّ أَثَرَهُ

(1)

وجوب الكفارة، لأنَّ التقدم على النكاح لا يمنعها، وإنما يمنع وقوعَ النكاحِ؛ فَدَلَّ على أنه قائلٌ به

(2)

إذا صدر بعد النكاح.

وروى ما ذكره ابن أبي شيبة

(3)

عن عطاء وطاووس ومجاهد والنخعي والزهري قالوا: إذا قال الرجل لامرأته: أَنتِ طالق إِنْ لم يفعل

(4)

كذا وكذا إِنْ شاء الله؛ فله ثنياه)

(5)

.

فيقال له: وقد تقدم القول غير مرة بأنَّ إدخال تعليق الطلاق بالنكاح في الحلف بالطلاق الذي قيل فيه: إنه يُكَفَّر = في غاية الغلط على المجيب وعلى غيره، فلم يقل المجيب ولا يقول عالم من علماء المسلمين إنَّ المعلِّق للطلاق على النكاح أو على شرطٍ آخر ــ إذا كان مقصوده وقوع الطلاق عند الصفة ــ أنه يُكَفِّرُ يمينه؛ فَذِكْرُ هذا النوع في هذا الباب من الغلط الذي أَدَلَّ المعترض وغيره في غلط عظيم، وهو من أصول غلطهم في هذا الباب.

فإنَّ التعليق الذي يقصد به الإيقاع، سواء كان تعليقًا على النكاح أو على شرط آخر = ليس فيه إلا قولان: قولٌ بالوقوع وقولٌ بعدمه، لم يقل أحد في مثل هذا إنَّ فيه كفارة يمين، وأكثر تعليق الطلاق المنقول عن السلف هو من هذا الباب، أفتوا فيه بالوقوع، لأنه ليس بيمين عندهم، وإنما تنازعوا في

(1)

في الأصل: (إنَّ أمره)، والمثبت من «التحقيق» .

(2)

في الأصل: (فائدته)، والمثبت من «التحقيق» .

(3)

(18325)، وأخرجه ــ أيضًا ــ سعيد بن منصور في سننه (2/ 35/ ح 1813).

(4)

كذا في الأصل و «التحقيق» ، وفي المصنف:(أفعل).

(5)

«التحقيق» (25/ أ).

ص: 726

التعليق على الملك؛ فقيل: يقع، وقيل: لا يقع؛ وعلى القولين: لا كفارة في ذلك، ولم يقل أحد: إنَّ في هذا كفارة.

ولكن لو حلف بذلك، فقال: إِنْ فعلتُ كذا فكل امرأة أتزوجها طالق، أو قال: الطلاق يلزمني من فلانة إِنْ تزوجتها لا أسافر؛ فهذا إِنْ قيل: إِنَّ تعليق هذا الطلاق يلزم إذا كان مجردًا عن اليمين، فإذا حلف به، ففي تكفيره النزاعُ المذكورُ في الحلف بالطلاق.

وإِنْ قيل: إِنَّ هذا لا يلزم إذا كان مجردًا، فلا شيء فيه إذا حلف به، فإنه ــ حينئذٍ ــ إذا قال: كل امرأة أتزوجها [203/ ب] فهي طالق؛ كان لغوًا لا يقع به طلاق.

فإذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فكل امرأة أتزوجها فهي طالق، بمنزلة أَنْ يقول: إِنْ فعلتُ كذا فامرأة زيدٍ طالق، أو إِنْ فعلتُ كذا ففلانة طالق إِنْ دَخَلَتِ الدارَ ثم تزوجها ثم دَخَلَتْ؛ هذا على قول مَنْ يقول: إنه إذا حلف بنذر الطلاق والمباحات كان كما لو نذرها لا يلزمه شيء، وأما من سَوَّى بين نذرها وبين الحلف ــ كما يقوله أحمد وأصحاب أبي حنيفة والخراسانيون من أصحاب الشافعي ــ فيقولون: إذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فعليَّ أَنْ أُطَلِّقَ امرأتي فعليه كفارة يمين. وإذا قال: عليَّ أَنْ أطلق امرأتي. فأحمد رضي الله عنه يوجب الكفارة ــ أيضًا ــ وأبو حنيفة رضي الله عنه، وهؤلاء الخراسانيون ــ رحمة الله عليهم ــ يوجبونها إذا قصد اليمين.

أيضًا؛ يجب أَنْ يقال: إنه لا كفارة في ذلك، فإنَّ هذا لم ينذر ولم يحلف، والكفارة إنما تجب في نذر أو يمين.

ص: 727

وإذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فعليَّ أَنْ أطلقها إنما يجب إذا قصد اليمين أو النذر، فإنَّ الناذر إذا قال: فعليَّ أَنْ أطلقها كان بمنزلة قوله: والله لأطلقنها، وهذا يمين. كما لو قال ابتداءً: لله عليَّ أَنْ أُطلقها وقصده اليمين، فإنهم يوجبون عليه الكفارة، ولا يشترط في نذر اليمين أن يكون قربة، لكن يقال: لا يكون بمنزلة قوله: فوالله لأطلقنها إلا إذا كان قصده بقوله: فلله عليَّ أَنْ أُطَلِّقَهَا؛ حَضَّ نفسِهِ على الطلاق لا التقرب به، كما إذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فلله عليَّ أَنْ أَدْخُلَ في هذه المدينة، وإِنْ فعلَ زيدٌ كذا فلله عليَّ أَنْ أقتله؛ ومراده حَضَّ نفسه، ليس مراده أنه التزم لله شيئًا، وإِنْ كان كارهًا للزومه له.

وبهذا الفرقان؛ تظهرُ حقيقة هذا الموضع المشكل، فإنه إذا قال: لله عليَّ أَنْ أفعل قد يقصد بذلك حَضَّ نفسه فقط لا التقرب إلى الله؛ فهذا حالفٌ عليه كفارة يمين في مذهب أحمد وأبي حنيفة، وكذلك ذكره الخراسانيون من أصحاب الشافعي كالقاضي حسين.

فإذا عَلَّقَ ذلك بشرطٍ كانت يمينًا معلَّقة بشرط، كما إذا قال: إِنْ سافرتُ معكم فلله عليَّ ألا أسافر بعدها، وإِنْ كلمتُ فلانًا فلله عليَّ ألا أكلمه أبدًا، وإذا فعلتُ كذا فلله عليَّ أَنْ أُطَلِّقَ [204/ أ] امرأتي؛ فهذه يمين مكفَّرة، سواء كانت مطلقة أو معلقة.

وأما إذا نذر ذلك معتقدًا أنه قربة مثل أَنْ يظن أَنَّ التبتل أفضل من التزوج، وَأَنَّ الله يحب طلاق امرأته، فيقول: لله عليَّ أَنْ أطلقها يقصد التقرب بذلك إلى الله؛ فهذا عند أحمد عليه كفارة يمين أيضًا، وعلى قول أصحاب أبي حنيفة والشافعي إِنَّ نَذْرَ المباحِ إذا لم يقصد به اليمين لا شيء عليه

ص: 728

[و]

(1)

لا يلزمه كفارة، فلو حلف بذلك، فقال: إِنْ فعلتُ كذا فلله عليَّ أَنْ أُطَلِّق امرأتي يعتقد طلاقها قربة هو بمنزلة قوله: فعليَّ أَنْ أذبح نفسي لله أو فعليَّ لله ألا أتزوج أبدًا يقصد بذلك التقرب إلى الله؛ فأحمد يوجب عليه الكفارة إذا لم يفعل، كما لو قال: والله إن فعلت فلأطلقنَّها، وأما على قول أبي حنيفة والشافعي إذا كان في مُطْلَقِهِ

(2)

ــ وهذا لا تلزمه كفارة ــ فكذلك في مُعَلَّقِهِ بطريق الأولى والأحرى.

وعلى هذا؛ فإذا قال: إِنْ فعلتُ كذا فكلُّ امرأةٍ أتزوجها طالق، أو ففلانة إِنْ تزوجتها طالق لا يلزمه كفارة إذا كان ذلك مجردًا، فإذا كان معلقًا بالفعل ــ وقلنا: لا يقع به طلاق، وليس هو نذرًا ولا يمينًا، بل هو إيقاع لطلاق ــ لم يقع، فلا معنى لوجوب الكفارة.

وأما مَنْ ظَنَّ أن الخراسانيين يوجبون عليه الكفارة إذا قال: إِنْ فعلتُ فعليَّ أَنْ أُطَلِّقَ امرأتي تطليقًا، فهو كمن نقل عن أبي حنيفة أَنَّ نذرَ المعصية فيه الكفارة مطلقًا كما أطلق ابن المنذر والخطابي، وأصحابه العارفون بمذهبه ذكروا أنه يوجب الكفارة إذا قصد اليمين، وهكذا ذكر الخراسانيون.

وأما أحمد؛ فإنَّ النذر عنده يمين، فهو يوجب الكفارة على كل مَنْ نذر ولم يوف، كما يوجبها على كل مَنْ حَلَفَ وحنث، سواء كان الفعل طاعة أو معصية.

وأما من قصد وقوع الطلاق منجزًا أو معلقًا على الملك أو معلقًا بصفة أخرى ولم يقع به = فلا أحد من المسلمين يُلْزِمُ هذا بكفارة يمين، وإذا حلف بهذا فهو أولى ألا تجب فيه كفارة، كما لو حلف بطلاق امرأةِ غيره،

(1)

إضافة يقتضيها السياق.

(2)

في الأصل: (مطلق)، والصواب ما أثبتُّ.

ص: 729

وأحمد [204/ ب] في إحدى الروايتين يقول فيمن قال: عبد فلانٍ حرٌّ لأفعلنَّ ولم يفعل: تلزمه كفارة يمين، ولا يقول فيمن قال: امرأةُ فلانٍ طالق إن لم أفعل ولم يفعل أنه تلزمه كفارة يمين، لأنَّ طلاق امرأة الأجنبي لا يقع إلا من زوجها أو وليِّه أو وكيله، بخلاف عتق عبده، فإنه يقع من غيره إذا انتقل إليه، فكان عتقُ عبد الغيرِ ممكنًا بخلاف طلاق امرأته.

ولهذا؛ إذا قال: والله لأعتقنه، كان قد حلف على ممكن فتلزمه الكفارة إذا لم يفعل.

وأما إذا قال: والله لأطلقنَّ امرأةَ فلانٍ، وَغَرَضُهُ أني أُوْقِعُ بها الطلاق بلا ولاية ولا وكالة، فهذا حلف على ممتنع، كما لو قال: والله لأجعلنَّ فلانًا الحر المسلم لي مملوكًا، وإِنْ قَصَدَ أني أتسبب في طلاقها أو أُلْزِمُهُ بطلاقها، فهذا حَلِفٌ على ممكن كما لو عَنَى بكونِهِ مملوكًا استخدامه، أو عَنَى به ملكًا محرمًا مخالفًا للشريعة، وهذا كما لو عَنَى بقوله:(لأطلقنها)

(1)

لأخرجنها مِنْ ملكه بغير اختياره حكمًا جاهليًّا لا إسلاميًّا؛ كما يقول: والله لأسرقنَّ أولادَ المسلمين أو لأسبينَّهم، ومراده القهر والاستيلاء؛ فهذه يمين منعقدة، وعليه أَنْ يُكفِّر يمينه، ولا يفعل ما حلف عليه من معصية الله ــ تعالى ــ.

وإذا أراد الملك الشرعي والطلاق الشرعي؛ فهذا مع امتناعه، كما لو حَلَفَ على ممتنعٍ ليفعلنَّه، وفي لزوم الكفارة لهذا قولان في مذهب أحمد وغيره، كما لو قال: لأصعدنَّ إلى السماء، أو لأشربنَّ الماء الذي في هذا الإناء ولا ماء فيه.

* * * *

(1)

في الأصل: (لا أطلقنها)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

ص: 730

فصلٌ

قال المعترض:

(وأما الحسن؛ فقال ابن حزم

(1)

: صَحَّ عنه فيمن قال لامرأته: أنتِ طالقٌ إِنْ لم أضرب غلامي، فَأَبَقَ الغلام

(2)

قبل أَنْ يفعل ما قال، فقد ذهبت منه امرأته.

وقد نقل ابن المنذر عنه فيما إذا قال لعبده: إِنْ بعتك فأنت حر، أنه يَعْتِقْ مِنْ مال البائع ــ يعني: إذا باعه ــ، فهذا تصريحٌ منه بوقوع العتق في الحلف به

(3)

.

ونقل عنه أبو الحسن علي بن الحسين الجوري أنه إِنْ باعَهُ على ألا خيار لواحد منهما، لم يكن لهما خيار المجلس فلا يعتق؛ فالحكايتان عنه [205/ أ] متفقتان على خلاف ما نقله عنه.

وكذلك روى ابن حزم

(4)

عنه كرواية ابن المنذر مع زيادة أَنَّ المشتري تقدم منه تعليق العتق على الشراء، لكن الرواية التي نقلها المصنف عنه من رواية حماد بن سلمة، عن حبيب بن الشهيد ــ وهما من الثقة والجلالة ما هما ــ.

(1)

في المحلى (ص 1784).

(2)

في المحلى بعد هذا: قال: (هي امرأته ينكحها ويتوارثان حتى يفعل ما قال؛ فإنْ مات الغلام قبل أنْ يفعل ما قال فقد ذهبت منه امرأته).

(3)

انظر (ص 133).

(4)

في المحلى (ص 1421).

ص: 731

وكذلك قال ابن عبد البر

(1)

: إنَّ يونس روي عنه أنه جاءه رجل فقال: إني جعلت كل مملوك لي حر إِنْ شاركت أخي. قال: شارك أخاك، وَكَفِّرْ عن يمينك.

فإنْ صَحَّ النقلان عنه، فيحتمل أَنْ يكون له في المسألة قولان، ويحتمل أَنْ يكون الحسن ــ والله أعلم ــ لاحَظَ فَرْقًا لطيفًا بين تعليق عتق العبد المعيَّن، وبينَ قولِهِ: كُلُّ مملوكٍ لي حر، وَغَلَبَ على العبارة الثانية شائبة اليمين بخلاف الأولى، أو يكون الحسن جعل (إِنْ) نافية لا شرطية، فإنَّ لفظَ الحالفِ الذي سأل: كل مملوك له حر إِنْ دَخَلَ على أخيه، وهذه يحتمل أن تكون نافية، فإنه يصح أَنْ يقال: كل مملوك لي حر لا دخلت على أخي؛ وحينئذٍ ليس هنا تعليق البتة بل هو قَسَمٌ محض، ولا يَلزم مِنْ كونِ الحسن يوجب الكفارة فيه أَنْ يوجبها في التعليق وإِنْ أريد به الحلف.

وفي الرواية التي نقلناها عن الحسن لا تحتمل (إِنْ) غير الشرطية فيجمع بينهما بذلك، أو يكون مقصوده كُلَّ ما يملكه في المستقبل، أو يكون الحالف لا مملوك له وقت اليمين؛ فهذه احتمالات في تحقيق مذهب الحسن رضي الله عنه.

وروى ابن حزم ــ أيضًا ــ

(2)

من طريق حماد بن سلمة قال: أخبرنا زياد الأعلم، عن الحسن البصري فيمن قال لآخر: إِنْ بعت غلامي هذا منك فهو حر [فباعه]

(3)

. قال الحسن: ليس بحر، ولا يُعْلَمُ مَدْرَكُ الحسن في ذلك هل

(1)

في الاستذكار (15/ 46).

(2)

في المحلى (ص 1784).

(3)

زيادة من «التحقيق» .

ص: 732

هو لإلغاء التعليق عنده أو لغيره؟

والظاهر: أنه لاعتقاد زوال الملك بالبيع، فلا يمكن وقوع العتق كما [هو]

(1)

مذهب جماعة ممن يُصَحِّح التعليق؛ فهذا طريق في الجمع بين النقلين)

(2)

.

والجواب من وجوه:

أحدها: أَنَّ إثبات النزاع في الحلف بالعتق مشهورٌ عند العلماء، اتفق عليه جميع مَنْ نَقَلَ الخلافَ والنزاعَ [205/ ب] ونَقَلَهُ

(3)

مثل: أبي ثور ومحمد بن نصر وابن المنذر وابن جرير وابن عبد البر وابن حزم، ونقلوه عن جماعة من أئمة الصحابة والتابعين، ونقل النزاع في ذلك أصحابُ الشافعي وأحمد وغيرهما من المصنفين الذين يذكرون خلاف السلف والخلف: أَنَّ ذلك قول جماعة من الصحابة، وذكر ابن جرير أنه قولُ ابنِ عمرَ وعائشةَ وحفصةَ وأُمِّ سلمةَ وعطاءٍ وطاووسٍ والقاسمِ وسالمٍ

(4)

. قال: وجماعة يكثر عددهم من أئمة الصحابة والتابعين رضي الله عنهم.

وذكر محمد بن نصر أنه قول [

]

(5)

وقول طاووس والحسن.

وذكر ابن عبد البر أنه قول الحسن وطاووس والقاسم وسليمان بن يسار وقتادة. ذكره ابن زرقون في كتاب الأنوار.

(1)

ما بين المعقوفتين زيادة يقتضيها السياق، وفي «التحقيق»:(ذلك).

(2)

«التحقيق» (45/ أ - 45/ ب).

(3)

كذا في الأصل.

(4)

في الأصل: (وسالمًا)، والجادة ما أثبتُّ.

(5)

بياض مقدار كلمتين أو ثلاث.

ص: 733

وإذا كان كذلك؛ فبعض هؤلاء هو الناقل للإجماع المدَّعَى في الطلاق، فإنْ قَدَحَ في نقلهم للنزاع في العتق فالقدح في نقلهم للإجماع أولى. وإذا لم يكن مع المدعي نقلُ إجماعٍ معتبر، فلو لم يعلم النزاع بطلت حجته، وقيل له: ليس معك إجماع تحتج به؛ فإما أَنْ تَعلم النزاع فعليك بالدليل، وإِنْ لم تعلم إجماعًا ولا نزاعًا فأمسك عن الكلام ولا تتكلم فيما لا تعلم.

ثم إذا عُلِمَ ــ قطعًا ــ النزاعُ ولو مِنْ واحدٍ، بقي نزاعًا معلومًا

(1)

لا يعارضه نقلٌ معتبر للإجماع، فيجبُ ــ حينئذٍ ــ الرجوعُ إلى الكتاب والسنة نصًّا واستنباطًا.

والنقل في النزاع في الحلف بالعتق والحلف بالطلاق ثابت بأسانيد لا يحتاج معها إلى نقلِ ناقلٍ مُرْسَلٍ نَقْلُهُ بخلافِ نقلِ الإجماع، فإنه ليس معه به نقل مسند، ليس معه فيه إلا نقل مرسل، وهو نقل هؤلاء؛ فإذا بطل نقلهم للنزاع والإجماع، والنزاع ثابت بالأسانيد المتصلة، والإجماع ليس به إسناد متصل= ثبت النزاع دون الإجماع، وهو المطلوب.

وإِنْ كان نقلُ هؤلاء متبعًا فكلهم أَثْبَتَ النزاعَ في العتق، وبعضهم أَثبتَ النزاعَ في الطلاق ــ أيضًا ــ.

وَمَنْ قُدِّرَ أنه نَفَى النزاع في العتق كأبي إسحاق الجوزجاني، وَمْن أشار إليه ابن جرير؛ فإثباتُ هؤلاء مقدَّم على نفيه، وكذلك مَنْ نَفَى من هؤلاء النزاع في الطلاق فالإثبات [206/ أ] مُقَدَّمٌ على نفيه لو كان نفيه مما يحاط به؛ فكيف إذا لم يكن معه إلا الظن؟! وهذا لو لم يكن معنا بالنزاع إسناد متصل، بل تعارض النقل المرسل للإجماع والنزاع، وأما إذا ثبت النزاع بالإسناد المتصل؛ فهذا لا يعارضه نقل الواحد من هؤلاء إذا جزم الواحد من

(1)

في الأصل: (نزاع معلوم)، والصواب ما أثبتُّ.

ص: 734

هؤلاء بنفي النزاع؛ فكيف إذا كان مراده نفي علمه بالنزاع أو ظنه عدم النزاع؟

الوجه الثاني: أَنَّ النقلَ الثابتَ المتصل عن غير واحد من السلف يُغْنِي عن نقل الناقلين الإجماع والنزاع؛ وَمِنْ هؤلاء الحسن، وقد ثبت ذلك عن الحسن من طريقين ثابتين بإسناد متصل، ولم يذكر المعترض عنه إسنادًا متصلًا يعارض ذلك.

فأما قوله: (إِنَّ ابن المنذر نقل عنه فيما إذا قال لعبده: إِنْ بعتك فأنت حر أنه يَعتق مِنْ مالِ البائع ــ يعني: إذا باعه ــ).

فيقال: هذا نقلٌ مرسلٌ، لم يُسنده ابن المنذر، وابن المنذر نفسه نَقَلَ عنه فيمن حلف بالعتق [

]

(1)

.

وأيضًا؛ فروى ابن حزم عنه من طريق حماد بن سلمة، حدثنا زياد الأعلم، عن الحسن البصري فيمن قال لآخر: إِنْ بعتُ غلامي منك فهو حر، فباعه. قال الحسن: ليس بحر. وقد ذكرها المعترض

(2)

.

فهذه الرواية المسندة تُناقض تلك المرسلة، فكيف تُعَارَضُ الروايات الثابتة المسندة عن الحسن برواية لا يعلم إسنادها؟!

ولكن روى حرب الكرماني روايةً مسندةً عنه

(3)

بوقوع الطلاق والعتاق المحلوف به [

]

(4)

.

(1)

بياض مقدار سطر وربع تقريبًا، وانظر ما تقدم في (ص 133 - 134).

(2)

في (ص 732).

(3)

تقدمت الإشارة إليه في (ص 149).

(4)

بياض مقدار سطر إلا ربع.

ص: 735

فصلٌ

قال المعترض:

(واعلم أنه لو صح النقلان عنه، ولم يمكن الجمع بينهما، وفرضنا أنه أفتى بأحدهما في وقت ثم بالآخر في وقت آخر، فيكون الثاني رجوعًا عن الأول، ولا يعلم الثاني منهما، فلا يثبت الخلاف بالشك ولا الإجماع بالشك؛ بل نتوقف، فإن اتفق إجماع من بعده اعتبر)

(1)

.

والجوابُ من وجوهٍ:

أحدها: أَنَّ الخلاف في ذلك ليس هو قول الحسن وحده، بل قول عددٍ من أئمة الصحابة [206/ ب] والتابعين ــ كما تقدم ــ، فلو فرض أَنَّ الحسن خالفهم قولًا واحدًا= لم يوجب ذلك رفع نزاعهم؛ فكيف إذا كان أثبتُ الروايتين عنه موافقتَهُم؟!

الثاني: أنه لو قُدِّرَ أنه لم يعلم آخر الروايتين، وكلاهما قاله في وقت؛ فقد

(2)

تنازع الناس في المجتهد إذا قال في المسألة قولين، هل يذكر الأول عنه؟

والصحيح الذي عليه الجمهور: أنه يحكى عنه كلا القولين، لأنَّ العلماء ليسوا كالأنبياء ــ عليهم الصلاة والسلام ــ الذين يكون آخر قوليهم ناسخًا للأول، بل هم قالوا بالاجتهاد ليبينوا ما هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فقد يكون قوله الأول هو الصواب دون الثاني، فلا يمكن الجزم بأنَّ آخر قوليه هو الصواب.

(1)

«التحقيق» (45/ ب).

(2)

في الأصل: (وقد).

ص: 736

نعم؛ قد يقال: المُقَلِّدُ لَهُ تَقْلِيدُ آخِرِ قوليه؛ فإنَّ الأول قوله

(1)

، وأما المجتهد الذي يَحكي أقوال العلماء؛ فيحكي كُلَّ واحدٍ من قوليه كما يَحكي أقوال سائر العلماء، لجواز أَنْ يكون الصوابُ هو الأول دون الثاني

(2)

.

ولهذا اتفق العلماء على حكاية الخلاف المنقول عن الصحابة والتابعين والعلماء بعدهم وإِنْ نُقِلَ عن أحدهم في المسألة روايتان وأكثر. ولو لم يكن قوله إلا القول الثاني وهو لا يُعلم = لم يَجُز أَنْ يُحكى قولٌ عمن اختلفت الرواية عنه، لأنَّ قوله هو الآخر، وهو غير معلوم، فلم يُعلم له قول في المسألة، وَمَنْ لا يُعلم قوله لا يُحكى له قول ولا يُقَلَّد له قول.

فلما اتفق الناس على نقل الأقوال والروايات المختلفة عن الصحابة والتابعين وَمَنْ بعدهم من العلماء، والاعتداد بذلك في الإجماع والنزاع = دَلَّ ذلك على أَنَّ هؤلاء يَعتدُّون في الإجماع والنزاع بالروايات الثابتة المنقولةِ عن السلف، وَإِنْ كان عن أحدهم روايتان. وفي إجماع أهل العلم قاطبةً على ذلك إبطالٌ لقولِ هذا المعترض:(إذا لم نعلم الثانية لا يثبت الخلاف بالشك ولا الإجماع بالشك، بل نتوقف).

والعلماء قاطبة يذكرون ما عن الصحابة وغيرهم من الروايات المختلفة

(1)

كذا.

(2)

المعتمد لأبي الحسين البصري (2/ 312)، العدة لأبي يعلى (5/ 1616)، شرح مختصر الروضة (3/ 625)، المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران (ص 380).

وانظر: مجموع الفتاوى (18/ 43)(20/ 207)، وما تقدم في (ص 278 - 279).

ص: 737

حتى مع علمهم بالأول، كما يذكرون عن عمر رضي الله عنه في مسألة [207/ أ] الحمارية الملقَّبَة بالمشرَّكة روايتين

(1)

، فيذكرون أَنَّ عامة الصحابة اختلف عنهم فيها إلا عن علي وزيد رضي الله عنهما

(2)

.

وأيضًا؛ فالقول الأول من المجتهد الذي وافق فيه سائر أهل العلم مُقَدَّمٌ على الثاني عند كثير من الناس أو أكثرهم، فإنهم متنازعون في انقراض العصر هل هو شرط في الإجماع

(3)

أم لا؟ فَمَنْ جعله شرطًا يُجَوِّزُ للعالم

(1)

أخرجه عبد الرزاق (10/ 249)، والبخاري في التاريخ الكبير (2/ 332) من طريق وهب بن منبِّه، عن الحكم بن مسعود عنه. وقال: لم يتبيَّن لي سماع وهب من الحكم. وقال الذهبي في الميزان (1/ 580): هذا إسناد صالح.

وللأثر طرقٌ أخرى انظرها في: الجامع في أحاديث وآثار الفرائض (ص 277 - 281).

(2)

أما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقد ورد عنه من طرق عدم التشريك؛ انظرها في مصنف ابن أبي شيبة (31753 - 31757).

وذكر وكيع بن الجراح أنه ليس أحدٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا اختلفوا عنه في المشركة إلا علي فإنه كان لا يُشَرِّك. أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (31759) بإسناد صحيح.

وأما زيد بن ثابت رضي الله عنه فالثابت عنه التشريك؛ أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1/ 44/ برقم 5) وله طرق أخرى يتقوَّى بها، إلا أنه ورد عنه بإسناد ضعيف عدم التشريك؛ أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1/ 58/ برقم 26)، وابن أبي شيبة في مصنفه (31758).

انظر: الجامع في أحاديث وآثار الفرائض (ص 283 - 284). وقد أطال ابن تيمية الكلام عن مسألة المشركة في جامع المسائل (2/ 297).

(3)

في الأصل: (الاجتهاد).

ص: 738

أَنْ يرجع عن قوله الأول الذي وافق فيه الباقين، ومن لم يجعله شرطًا لم يجوِّز له الرجوع، وأشهر الروايتين عن أحمد أنه

(1)

يشترط انقراض العصر، بل يجوز له الرجوع عن القول الذي وافق فيه الباقين، وهذا قول كثيرٍ من العلماء من أصحاب الشافعي وأحمد، وهو اختيار القاضي أبي يعلى وغيره.

والقول الثاني: إنه ليس بشرط؛ فلا يجوز له الرجوع، وهو الذي ذكره أبو سفيان

(2)

عن أصحاب أبي حنيفة، وهو قول كثيرٍ من المتكلمين، وبعض أصحاب الشافعي، وهو القول الآخر في مذهب أحمد، اختاره أبو الخطاب وغيره

(3)

.

وقد قال أحمد في رواية عبد الله: الحجةُ على مَنْ زَعَمَ أنه إذا كان أمرًا مجمعًا عليه ثم افترقوا: أَنَّا نقفُ على ما أجمعوا عليه حتى يكون إجماعًا= أَنَّ أُمَّ الولدِ كان حكمها حكم الأَمَةِ بإجماع، ثم أعتقهنَّ عمر، وخالفه عليٌّ بعد موته، فرأى أَنْ تُسترق

(4)

؛ فكان الإجماع في الأصل أنها أمة.

(1)

في الأصل زيادة: (لا)، والصواب حذفها، لأنه بإضافتها لا يكون هناك فرقٌ بين هذا القول والقول الثاني، ثم إنَّ اختيار أبي يعلى القول باشتراط انقراض العصر هو الموافق لما في العُدَّة.

(2)

ولم يتبيِّن لي مَنْ هو؟ إلا أنَّ المجيب ينقل من العدة في أصول الفقه (4/ 1097)، وقد نسبه القاضي في مواضع بالسرخسي، وأنَّ له مسائل، وهو من تلاميذ أبي بكر الرازي.

(3)

التمهيد (3/ 348)، العدة في أصول الفقه (4/ 1095)، الإحكام لابن حزم (4/ 544)، التبصرة في أصول الفقه (ص 375)، اللمع (ص 184).

وانظر: الفتاوى الكبرى (6/ 165)، المسودة (2/ 624).

(4)

أخرجه عبد الرزاق (7/ 291/ ح 13224)، وسعيد بن منصور في سننه (2/ 86/ برقم 2046)، وابن أبي شيبة (22010)، والبيهقي في السنن الكبير (21/ 535/ ح 21824)(21/ 519/ ح 21794)، وفي السنن الصغير (4/ 228)، ومعرفة السنن والآثار (14/ 468) وغيرهم.

ص: 739

قال: وَحَدُّ الخمر؛ ضَرَبَ أبو بكرٍ أربعين، ثم ضرب عمر ثمانين، وضرب علي في خلافة عثمان أربعين. وقال: ضَرَبَ أبو بكر أربعين وكَمَّلَهَا عمرُ ثمانين، وَكُلٌّ سنة

(1)

.

فالحجةُ عليه في الإجماع في الضرب أربعين، ثم عمر خالفه فزاد أربعين، ثم ضَرَبَ عليٌّ أربعين

(2)

.

قال القاضي

(3)

: (فظاهر هذا: أنه اعتبر انقراض العصر، لأنه اعتد بخلاف عليٍّ بعد عمر في أم الولد، وكذلك اعتد بخلاف عمر بعد أبي بكر في حد الخمر)، وبسط هذا له موضع آخر

(4)

.

والمقصود: أنَّ قول العالم الأول عند كثيرٍ من الناس يجب اعتباره إذا وافق الباقين دون الثاني؛ فكيف يقال: قوله الثاني هو قوله مطلقًا؟

فإنْ قيل: فهذا حجة عليكم في مسألة [207/ ب] الحلف بالعتق، فإنَّ قول الحسن بالكفارة إِنْ كان هو الأول فقد رجع عنه، وإِنْ كان هو الثاني فقد خالف الإجماع.

(1)

أخرجه مسلم (1707).

(2)

نقله أبو يعلى في العدة (4/ 1095).

(3)

في العدة (4/ 1096).

(4)

لم أجد بحثًا مبسوطًا للمجيب حول هذه المسألة، وانظر: الفتاوى الكبرى (6/ 165)، المسودة (2/ 624)، أصول الفقه وابن تيمية (1/ 319).

ص: 740

قيل: هذا إنما يكون لو كان الناس غير الحسن قد أجمعوا على ذلك، وقد ثبت أَنَّ الصحابة والتابعين أفتوا في الحلف بالعتق بالكفارة، وَأَنَّ النقل عنهم بذلك أثبت من النقل بنفي الكفارة.

وأيضًا؛ فكل ما نقل عن الصحابة إنما فيه التسوية بين الحلف بالعتق والنذر؛ نُقِلَ عنهم الإفتاء بالكفارة فيهما، وَنُقِلَ عنهم الإفتاء باللزوم فيهما، لكنْ هذه الرواية الثانية فيها ما لم يَقل به أحدٌ من علماء المسلمين = فانعقد الإجماع على خلافها، فتكون باطلة؛ بخلاف الرواية الأولى فإنه ليس فيها شيء إلا وقد قال به بعض التابعين بل كثير منهم؛ وحينئذٍ فَمَنْ فَرَّقَ بين الحلف بالطلاق والعتاق وغيرهما فقد خالف إجماع الصحابة.

فصلٌ

وأما قوله: (فلا يثبت الخلاف [ولا الإجماع] بالشك، بل نتوقف؛ فإن اتفق إجماع مَنْ بعده اعتبر).

فعنه أجوبة:

أحدها: أنه قد ثبت أَنَّ القول بثبوت الكفارة في الحلف بالعتق أثبت عن الصحابة والتابعين من نقيضه، فضلًا عن أَنْ يكون نقيضه مجمعًا عليه.

الثاني: أنه لو فُرِضَ إجماعُ العصر الثاني على أحدِ القولين، فهل يرتفع النزاع؟ في ذلك نزاعٌ مشهور في مذهب أحمد وغيره، والمشهور في مذهبه: أنه لا يرتفع النزاع؛ وهو قول الأشعري، وكثير من أصحاب الشافعي، واختيار القاضي أبي يعلى وغيره.

ص: 741

والثاني: يرتفع؛ وهو قول كثيرٍ من المعتزلة، وأصحاب أبي حنيفة، وبعض أصحاب الشافعي، وهو اختيار أبي الخطاب وغيره

(1)

.

وأصلُ هذه المسألة: أَنَّ قولَ الميت هل يُعْتَدُّ بِهِ أم لا؟

فيقال: إِنْ كانت الأقوال تموت بموت قائلها، ولا يعتد إلا بأقوال الأحياء = لم يجز تقليد أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم، وبطل اعتمادُ مِثْلِ هذا المعترض وأمثالِهِ على ما ينقلونه من المذاهب المتبوعة.

وإذا لم يجز تقليدهم [208/ أ] لم يَبْقَ إلا تقليدُ مَنْ كان مجتهدًا في أهل العصر، ولم يعتد إلا بخلافه لا بخلاف الأربعة وغيرهم.

وحينئذٍ؛ فالمنازعون في هذه المسألة عامتهم مقلدون، لا يعرفون ما فيها من الأدلة الشرعية ومذاهب العلماء، والذين انتدبوا للمعارضة فيها ــ قبل المعترض وأمثاله ــ لا يَعرفون ما فيها من الأقوال والأدلة، فلا يُعْتَدُّ بقولهم فيها = فوجب عليهم السكوت عن الكلام فيها، لأنَّ الكلام إما بتقليد ــ والتقدير: أَنَّ تقليد الموتى لا يجوز ــ، وإما بالاستدلال والاجتهاد فلا بُدَّ معه من معرفة الأقوال من الطرفين وما فيها من الأدلة، وإلا كان كلامًا بلا علم، ولم يوجد ذلك

(2)

.

(1)

مجموع الفتاوى (20/ 584)(23/ 399)، الفتاوى الكبرى (2/ 328) المستدرك على مجموع الفتاوى (2/ 121 - 124).

وانظر: الفصول في الأصول (3/ 339)، المستصفى (2/ 389)، العدة (4/ 1105)، البرهان (1/ 454)، التمهيد (3/ 346 وما بعدها).

(2)

التمذهب (3/ 1220 وما بعدها).

ص: 742

وإِنْ قيل: إِنَّ الأقوال لا تموت بموت قائلها؛ فالصحابة والتابعون لهم بإحسان أولى أَنْ تكون أقوالهم باقية مذكورة يعتد بها في الإجماع والنزاع؛ وحينئذٍ فلا يقع إجماع معصوم على خلاف أحد قوليهم إِنْ لم يكن معه حجة شرعية تكون حجة على أولئك الموتى

(1)

.

ومعلومٌ أَنَّ قول مَنْ بعدهم لا يكون حجة عليهم، لكن إِنْ كان قد ظهر في العصر الثاني نَصٌّ خَفِيَ على بعض أهل العصر الأول = فهذا ممكن؛ كما ظهر حديث سُبَيْعَةَ الأسلمية في المتوفى عنها

(2)

، وحديث التسوية بين الأصابع في الدية

(3)

،

وحديث بَرْوَع بنت وَاشِق

(4)

، وغير ذلك من الأحاديث التي خالفها بعض الصحابة لكونهم لم يعرفوها

(5)

.

(1)

انظر مبحثًا نفيسًا في التمذهب بمذاهب الصحابة والتابعين في كتاب (التمذهب دراسة نظرية نقدية)(2/ 740)، وإحالات المؤلف التي ذكرها في هذا المبحث.

(2)

أخرجه البخاري (4909)، ومسلم (1485) من حديث أم سلمة رضي الله عنها.

(3)

أخرجه عبد الرزاق (9/ 385)، والبيهقي السنن الكبير (8/ 163) وغيرهم.

وأصل قضاء النبي صلى الله عليه وسلم بالتسوية بين الأصابع في صحيح البخاري (6895) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: «هذه وهذه سواء» يعني: الخنصر والإبهام.

(4)

أخرجه أبو داود (2114، 2116)، والترمذي (1145)، والنسائي (3354)، وابن ماجه (1891).

وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه. وصحح ابن حبان (9/ 407)، والحاكم في المستدرك (2/ 196).

وانظر: علل الحديث لابن أبي حاتم (4/ 91)، العلل للدارقطني (14/ 47)، نصب الراية (3/ 201)، البدر المنير (7/ 680)، إرواء الغليل (6/ 358) صحيح سنن أبي داود (الأم)(6/ 341).

(5)

انظر: رفع الملام (ص 9 وما بعدها).

ص: 743

وحينئذٍ؛ فتكون الحجة عليهم هذا النص الذي هو مستند مَنْ بعدهم، الذي لو علموا به في حياتهم لوجب عليهم اتباعه، وإلا فيمتنع أن يكون الصحابة تنازعوا ثم أجمع التابعون على أحد قوليهم بغير حجة ظاهرة يجب اتباعها على من مات لو علم بها.

وإذا كان كذلك؛ امتنع تقدير هذا في مسألتنا، فإنه ليس مع القائل بأنَّ الحالف بالطلاق أو العتاق أو النذر يُلْزَمُ

(1)

نَصٌّ يرفع النزاع، بل دلالة النص والقياس على خلاف قوله في غايةِ القوةِ والظهورِ، وكُلُّ عالِمٍ يعترف بذلك، ولكن يعتذر بخلاف المذهب، أو بخلاف ما يظنه من الإجماع.

والصواب [208/ ب] في مسألة إجماع التابعين على أحد قولي الصحابة: أَنَّ ذلك إذا وقع، وجب القول بأنَّ ذلك الإجماع معصومٌ، فإنَّ الأمةَ معصومةٌ في كُلِّ عصرٍ عن الضلال، فلو قُدِّرَ إجماعُ التابعين كلهم على ضلال لكانت الأمة قد أجمعت على الضلال، ولا يغني هدى

(2)

العصر الأول عن ضلال العصر الثاني، لكن دعوى إجماع مَنْ بعد الصحابة على أحد قوليهم متعذرٌ في الغالب أو متعسر، وأما إجماع مَنْ بعد التابعين على أحد قوليهم فالعلمُ بهذا في غاية البعد والامتناع.

ولهذا؛ ما زال الناس يذكرون أقوال الصحابة والتابعين، ويحتجون لأحدِ القولين بالأدلة الشرعية، ولا يحتج على بطلانِ أحدِ قولي الصحابة بمجرد إجماع مَنْ بعدهم من غير دلالة كتاب ولا سنة ولا اعتبار.

(1)

أي: يُلْزم الحالف بما التزمه.

(2)

في الأصل: (هذا)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

ص: 744

فصلٌ

قال: (وكذلك نقول؛ إذا اتفق مثل هذا لإمام من أئمة المذاهب، ولم يعلم القول المرجوع عنه = لم يجز للعامي تقليده في شيءٍ منهما، إلا أَنْ يَنْضَمَّ إلى أحدهما ترجيح مِنْ قواعده أو من أحد من أصحابه فيقلده)

(1)

.

والجواب أَنْ يقال: إدخالُ جواز التقليد وعدمه في باب المناظرة بالأدلة الشرعية غير مناسب، ولا فائدة فيه، فإنَّ ما ذكره مبنيٌّ على أصول:

أحدها: أَنَّ تقليد الميت هل يجوز أم لا؟ وفيه قولان مشهوران، ومن الناس مَنْ يقول: الأكثرون على أنه لا يجوز تقليد الميت؛ فعلى هذا لا يجوز للعامي اتباع الأول ولا الثاني

(2)

.

وَإِنْ قيل: إنه يجوز تقليد الميت ــ وعليه عمل أكثر الناس

(3)

ــ فهو تقليد الحي

(4)

؛ والعالم إذا أفتى عاميًّا في مسألة ثم تغير اجتهاده لم يجب على العامي أَنْ يرجع عَمَّا أفتاه به، فإنَّ الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، ولو حَكَمَ حاكمٌ في مسألةٍ باجتهاد، ثم تغير اجتهاده لم ينقض حكمه فيها

(5)

.

(1)

«التحقيق» (45/ ب).

(2)

انظر ما تقدم في (ص 280).

(3)

بل عليه عمل جميع المقلِّدين في جميع أقطار الأرض؛ كما قال ابن القيم في إعلام الموقعين (6/ 129).

(4)

كذا في الأصل.

(5)

انظر: تغيُّر الاجتهاد (1/ 268).

ص: 745

وأيضًا؛ فالقولان المتقدم والمتأخر للعالم كقول عالمين، ليسا كقول نبي نَسَخَ بآخر قوليه قولَه الأول، بل هما كقول عالمين يجوز أَنْ يكون الحق في كلٍّ منهما.

وقد تنازع العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم فيما إذا [209/ أ] كان للمجتهد قولان متقدم ومتأخر، هل يضاف إليه القول الأول كما يضاف إليه المتأخر؟ على قولين مشهورين لهم.

بل إذا صَرَّحَ بالرجوع عن القول الأول، هل يجعل الأول قولًا له؟

(1)

على قولين؛ لأنَّ المجتهد ليس بنبي يُجزم بأنَّ قوله الثاني ناسخ للأول، بل هو قال أولًا باجتهاده كما قال ثانيًا باجتهاده؛ كالمجتهد في القبلة إذا ترجَّح عنده أولًا أنها في جهة ثم ترجح عنده ثانيًا أنها في جهة أخرى، فقد يكون اجتهاده الأول أصوب، كما لو اختلف اجتهاد رجلين.

والمقلِّد إذا اختلف عليه اجتهاد عالمين: فإما أَنْ يُخَيَّر، وإما أَنْ يُرَجِّحَ أحدَهما إما ترجيحًا بصفاته كالعلم والدين، وإما ترجيحًا بما يظهر له من رجحان قولِهِ على قولِ غيرِهِ، وبسط هذه له موضع آخر

(2)

.

وليس كلامنا فيما نحن فيه مستلزمًا لهذا، لكن المعترض أَدْخَلَ في ذلك ما لا يستلزمه؛ وعلى هذا: فإذا كانت قواعد الإمام وأصوله تقتضي رجحان قوله الأول قُدِّمَ، وكذلك إذا كانت أدلةُ الشَّرْعِ توافقُ قولَهُ الأول كان هو الراجح، وإذا قَدَّمَ مَنْ يسوغ تقليده مِنْ أصحابِهِ قولَهُ الأول قَلَّدَهُ العامي،

(1)

انظر ما تقدم (ص 278 وما بعدها).

(2)

الفتاوى الكبرى (5/ 556)، المسوَّدة (2/ 955).

ص: 746

فلا يتعين تقليده في القول الثاني في أظهر قولي العلماء، بل إِنْ كان قولُهُ هو الثاني دون الأول وَجَهِلَ ذلك= فلا قول له في المسألة بحال، فلا يقلده أحد إنما يقلد غيره.

فصلٌ

قال: (بل أزيد على ذلك وأقول: إنه إذا صحَّ لنا أَنَّ أَحدَ القولين مرجوع عنه؛ فهو إما أَنْ يكون الموافق لقول بقية العلماء أو المخالف؛ فإنْ كان المخالف هو المرجوع عنه، والموافق هو المرجوع إليه= فيثبت الإجماع به مع قول بقية الأمة، ولا اعتبار

(1)

بالخلاف المتقدم.

وَإِنْ كان المتقدم هو الموافق فقد صَحَّ وانعقدَ الإجماعُ [به مع بقية الأمة، ولا اعتبار بالقول المرجوع إليه المخالف لمخالفته الإجماع]، فالإجماعُ ثابتٌ على كلا التقديرين؛ فهذه طريقةٌ يمكن أَنْ يقالَ بها

(2)

إذا تحققنا أَنَّ جميعَ العلماء غير ذلك الإمام قائل بأحدِ قوليه، فلينظر في ذلك؛ والله أعلم)

(3)

.

والجواب من وجوه:

أحدها: أَنَّ هذا الكلام إنما يفيد لو كان التابعون [209/ ب] كلهم أجمعوا على أَنَّ العتق المحلوف به يلزم، ولم يخالف إلا الحسن في إحدى الروايتين.

(1)

في الأصل: (والاعتبار)، والمثبت من «التحقيق» .

(2)

في الأصل و «التحقيق» : (فيها)، والصواب ما أثبت كما سيأتي (ص 753).

(3)

«التحقيق» (45/ ب - 46/ أ)، وما بين المعقوفتين من «التحقيق» .

ص: 747

وقد تبين أَنَّ الأمر بخلاف ذلك، وأَنَّ جماعةً من أئمة الصحابة والتابعين يقولون بأنَّ العتق المحلوفَ به فيه كفارة ــ كما تقدم غير مرة ــ، بل القائلون من الصحابة والتابعين بأنَّ فيه كفارة يمين أكبرُ وأجلُّ من القائلين بلزوم العتق.

الثاني: أَنَّ دعوى الإجماع في ذلك مقابَلٌ بما هو أظهر منه من دعوى الإجماع على نقيضه، وذلك أَنَّ القول بالتكفير هو القول الثابت عن الصحابة رضي الله عنهم، ونقيضه ضعيف، والرواية المخالفة لهذه متروكة بإجماع العلماء.

فالصحابة ــ رضوان الله عليهم ــ روي عنهم في الحلف بالعتق والنذر روايتان؛ رواية التكفير ــ كما في حديث ليلى بنت العجماء ــ، وروايةُ التزام النذر ــ كما في حديث عثمان بن حاضر ــ، وهذه الرواية متروكة باتفاق العلماء، فإنَّ فيها أَنَّ الحلف

(1)

بالمال يجزئ فيه الزكاة، وَأَنَّ الحلف بالذبح يجب فيه بدنة، مع قولهم: إنَّ العبد يعتق، ولم يقل أحد من العلماء بهذه الثلاثة.

وإذا كانت هذه الرواية مع ضعفها متروكة بالإجماع، فقد أجمع التابعون وَمَنْ بعدهم على ترك أحد قولي الصحابة، فإنْ كان إجماع التابعين بعد تنازع الصحابة يرفع النزاع، فقد أجمع التابعون على بطلان القول بهذه الرواية، ولم يَبْقَ عن الصحابة إلا الرواية الأولى، والصحابة لم يقولوا إلا هذا أو هذا، وفي كليهما

(2)

سَوَّوا بين العتق والنذر، فَمَنْ فَرَّقَ بينهما، أو قال بلزوم العتق والنذر كما قَدَّرَه = فقد خالف إجماعهم، لم يقل بقولهم هذا ولا بقولهم هذا.

(1)

في الأصل: (الحالف)، ولعلها ما أثبتُّ.

(2)

في الأصل: (كلاهما).

ص: 748

وإذا اختلف الصحابة على قولين؛ لم يكن لمن بعدهم إحداث قول ثالثٍ عند عامة العلماء، فإنَّ إحداثَ قول ثالث كإحداث قول ثانٍ، إذ كان الصواب لا يخرج عن أقاويل الصحابة

(1)

؛ ولهذا قال أحمد بن حنبل: (يلزم مَنْ قال: يخرج من أقاويلهم إذا اختلفوا: أَنْ يخرج من أقاويلهم إذا اجتمعوا)

(2)

.

وقال ــ أيضًا ــ: (إذا اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تَخَيَّرَ من أقاويلهم [210/ أ] ولا يخرج عن قولهم إلى مَنْ بعدهم)

(3)

، وهذا قول عامة العلماء، وإنما نازع في ذلك شذوذ.

وحينئذٍ؛ فإذا لم يكن للصحابة إلا قولان، قول بلزوم العتق والنذر وقول بتكفيرهما جميعًا، والرواية بلزومهما متروكة باتفاق التابعين بعدهم = تعين أَنْ يكون القول بتكفيرهما هو القول الصواب، لئلا يلزم اتفاق الصحابة أو التابعين على الخطأ، فإنه إِنْ كان الصواب حديث عثمان بن حاضر، وقد

(1)

مجموع الفتاوى (13/ 59)(15/ 95)(21/ 291)(27/ 208)(34/ 125)، الفتاوى الكبرى (6/ 498)(6/ 524)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 625)، شرح عمدة الفقه (1/ 333)، تنبيه الرجل العاقل (2/ 609 وما بعدها).

(2)

نصَّ على ذلك في رواية عبد الله وأبي الحارث؛ كما نقله أبو يعلى في العدة (4/ 1059)(4/ 1113)، والمسودة (2/ 616).

وقريب منه ما ذكره صالح في مسائله (2/ 165).

(3)

نصَّ على ذلك في رواية الأثرم؛ كما نقله أبو يعلى في العدة (4/ 1113).

وروى الخطيب البغدادي في الفقه والمتفقه (1/ 534)، وابن الجوزي في تعظيم الفتيا (ص 67) عن الأثرم هذا الأمر من فعل الإمام أحمد.

ص: 749

أجمع التابعون وَمَنْ بعدهم على خلافه = انعقد الإجماع على خطئه، وَإِنْ كان الصواب أحد الأقوال التي قالها مَنْ بَعْدَ الصحابةِ = لزم إجماع الصحابة على خطأ.

فثبت أنه إذا لم يكن للصحابة إلا قولان؛ وقد أجمع التابعون على بطلان أحدهما = أَنْ يكون الصواب هو القول الآخر، وهو المذكور في حديث ليلى بنت العجماء، فيكفر العتق وغيره. ويلزم مِنْ ذلك: أَنَّ الطلاقَ المحلوفَ بِهِ لا يلزم بطريق الأولى، فدعوى الإجماع على العتق المحلوف به والطلاق المحلوف به بهذه الطريق وغيرها = أظهرُ من دعوى نقيض ذلك، بما ذكر في الطريق الفاسدة.

ولا ريب أَنَّه إِنْ كان إجماعٌ في هذه المسائل فهو إجماع خفي، والطريق إليه الظَّنُّ، لا يمكن أَنْ يكون إجماعًا ظاهرًا مقطوعًا به معروفًا لعامة العلماء؛ وحينئذٍ فيستدل بالنقول الصحيحة ولوازمها التي يثبت بها أحد الإجماعين إِنْ كان في المسألة إجماع، وإلا فالكتاب والسنة يثبت بهما نصًّا واستنباطًا تفصيل النزاع.

الثالث: أنه لو فُرِضَ أَنَّ الحسن أو غيره من المجتهدين قال قولًا وافق فيه غيره، ثم رجع عن ذلك؛ كما وافق علي بن أبي طالب لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما في المنع من بيع أمهات الأولاد ثم رجع عن ذلك

(1)

= فهذا مبنيٌّ على مسألة: انقراض العصر؛ وَمَنْ قال: إِنَّ الإجماع لا يستقر إلا بانقراض العصر يقول: يجوز للمجتهد أَنْ ينازع بعد الموافقة، وأنه إنما يتم الإجماع

(1)

تقدم تخريجه في (ص 739).

ص: 750

إذا ماتوا ولم يتنازعوا؛ كما تقدم التنبيه عليه

(1)

، وإلا فمثل علي بن أبي طالب والحسن [210/ ب] البصري وأمثالهما من أئمة الصحابة والتابعين أَجَلُّ قدرًا مِنْ أَنْ يقال عنهم إنهم خالفوا الإجماع المعصوم، واتبعوا غير سبيل المؤمنين، والإجماع إنما انعقد بهم، وهم أحدُ أركانه، فإنْ لم يُقِمْ دليلًا على ضلالهم إذ

(2)

فعلوا ذلك = لم يتم قوله: (لا اعتبار بالقول المرجوع إليه المخالف للإجماع).

الوجه الرابع: أَنْ نقول: مَنْ نُقِلَ عنه من الصحابة والتابعين أَنَّ العتق المحلوف به يجب فيه الكفارة أكبر وأجل ممن نقل عنه القول بلزوم العتق؛ أما الصحابة: فهذا منقولٌ عن ابن عمر وحفصة وزينب وعائشة وأم سلمة وابن عباس رضي الله عنهم، ومنقولٌ عن طاووس والحسن وعطاء والقاسم وسالم وسليمان بن يسار وقتادة ــ رحمة الله عليهم ــ، وَذَكَرَ ابن جرير أنه روي هذا القول عن ابن عمر وعائشة وحفصة وأم سلمة وعطاء وطاووس والقاسم وسالم وجماعةٌ يَكْثُرُ عددهم من أئمة الصحابة والتابعين، وأما القول بلزوم العتق فلم يُنْقَل عن أحدٍ من الصحابة إلا في روايةٍ ضعيفةٍ جدًّا مخالفةٍ لِمَا ثبت عنهم بالأسانيد الثابتة، وقد اتفق العلماء على ترك العمل بتلك الرواية فلم يَعمل أحدٌ بجميع ما فيها.

وأما التابعون؛ فقد تقدم هذا

(3)

في حديث عبد الله بن عثمان

(4)

قال: حَلَفَ أخي عمر بن عثمان بعتق جاريةٍ له أَلا يشرب من يدها إلى أَجَلٍ

(1)

في (ص 739).

(2)

في الأصل: (إذا)، ولعل الأقرب ما أثبتُّ.

(3)

لعله في الجزء الأول المفقود من هذا الكتاب.

(4)

في الأصل: (عمر)، والمثبت من مصنف ابن أبي شيبة.

ص: 751

ضَرَبَهُ، فَنَسِيَ قبل الأجل فشرب، فاستفتيت له عطاء ومجاهدًا وسعيد بن جبير وعليًّا الأزدي فكلهم رأى أنها حُرَّة

(1)

، وهذا إنما رواه

(2)

عبد الرزاق عن مجاهد وسعيد بن جبير

(3)

، وقد اعترف المعترض بأنَّ الأصح عن عطاء أنها لا تعتق؛ لكونه لا يرى تحنيث الناسي، فكيف وقد نقل ابن جرير عن عطاء أَنَّ العتقَ المحلوفَ بِهِ يكفره كما تقدم، فلم يَبْقَ معه إلا اثنان أو ثلاثة من التابعين.

وهذا المعترض قد اجتهدَ غايةَ الاجتهادِ فيما نَقَلَ عن الصحابة والتابعين في الطلاق والعتق المحلوف بهما، ولم يَنقل عن الصحابة في الحلف بالعتق إلا حديث [211/ أ] عثمان بن حاضر، ولا عن التابعين فتيا في العتق إلا هذه الفتيا التي ليس فيها إلا قول اثنين أو ثلاثة من التابعين، وهذا مما يبين أَنَّ ذلك في غايةِ القلة عن التابعين، إذ لو كان كثيرًا منتشرًا لروي فيه عدة قضايا عن جماعةٍ منهم، بل الذي وقفنا عليه ــ والذي ذكره بعد الاجتهاد هذا المعترض ــ من أقوال الصحابة والتابعين في الحلف بالعتق يقتضي أَنَّ القائلين بأنه يكفر أكثر من القائلين أنه لا يكفر، فذاكَ منقولٌ عن سبعةٍ من التابعين، وهذا منقولٌ عن ثلاثةٍ، وذاك منقول عن عدد من الصحابة، وهذا لو صَحَّ فإنما فيه نقل عن اثنين منهم أو ثلاثة، وإذا كان القائلون من الصحابة والتابعين بأنه يكفر أكبر وأجل من القائلين باللزوم تبين أَنَّ مُدَّعِي إجماعهم على اللزوم في غايةِ الجهلِ بأقوالِ السلفِ.

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة (19389).

(2)

في الأصل كرر الناسخ كلمة: (رواه).

(3)

والأثر لم أجده عند عبد الرزاق فيما بين يدي من كتبه.

ص: 752

ومعلومٌ أَنَّ طاووسًا

(1)

وعطاء والحسن والقاسم وسالمًا وسليمان بن يسار وقتادة أكثر وأجل من مجاهد وسعيد بن جبير وعلي الأزدي، ولكن لمَّا اشتهر القول بلزوم العتق في المتأخرين، وهو قول الأربعة وأتباعهم = صار مَنْ لم يَعرف أقوال السلف يَظُنُّ ذلكَ إجماعًا لعدم علمه بقول السلف.

ولقد كان الكشف عن أقوال السلف في مثل هذه المسائل مِنْ نِعَمِ الله ــ تعالى ــ على الأمة، وكان اجتهاد مثل هذا المعترض وأمثاله في البحث عن أقوال السلف في مثل هذه المسائل مما يبين الله به الدين ويكشف به خطأ المخطئين الذي يظنون إجماعًا معصومًا في مسألةٍ قولُ أكثرِ السلف فيها بخلاف ذلك، وعليه يدل الكتاب والسنة والاعتبار

(2)

، ولكن نظائر هذا كثيرة مما يغلط فيه الغالطون من ظَنِّ إجماعاتٍ لا حقيقةَ لها لاشتهار العمل عندهم لأسبابٍ اقتضت ذلك؛ إِمَّا من العامةِ، وإِمَّا من الولاة، وإما منهما

(3)

؛ فيظن مَنْ لا يعرف غير ذلك أَنَّ هذا قول جميع علماء المسلمين، كما قد ذكرنا نظائر ذلك في غير هذا الموضع

(4)

.

الوجه الخامس: قوله: (فهذه طريقة يمكن أَنْ يقال بها

(5)

إذا تحققنا أَنَّ جميع [211/ ب] العلماء غير ذلك الإمام قائلٌ بأحدِ قوليه؛ فلينظر في ذلك).

فيقال له: قد نظرنا وسبرنا، فوجدنا جمهور العلماء من السلف قائلون

(1)

في الأصل (طاووس

وسالم)، والجادة ما أثبتُّ.

(2)

مجموع الفتاوى (28/ 57)، العقود الدرية (ص 316، 321).

(3)

انظر: التمذهب (2/ 649 وما بعدها) والمراجع التي أحال عليها في أسباب بقاء المذاهب وانتشارها.

(4)

انظر أمثلة ذلك في نقد مراتب الإجماع.

(5)

في الأصل: (فهذه طريقين يمكن أن يقال بهما)، والمثبت مما تقدم (ص 747).

ص: 753

بذلك القول الذي يطلب الإجماع على نقيضه، وأَنَّ هذا القول هو الثابت عن الصحابة، ولم يُنقل عنهم نقيضه إلا في روايةٍ ضعيفةٍ متروكةٍ بإجماعِ العلماء بعدهم، فيلزم مِنْ كونِ إجماع الصحابة حجة أو إجماع التابعين بعدهم حجةً أَنْ يكون الصواب هو القول بإجزاء الكفارة، لأنَّ الصحابة ليس لهم إلا قولان، وقد أجمع التابعون على ترك أحدهما = فتعين أَنْ يكون الصواب هو القول المذكور في حديث ليلى بنت العجماء بالتكفير في العتق وغيره.

ولا ريب أَنَّ هذا هو الصواب الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار، مع دلالة الإجماع الخفي عليه، كما بيناه.

وحينئذٍ؛ فالطلاق لا يلزم الحالف بطريق الأولى، كما دَلَّ على ذلك كلامُ الصحابة عمومًا، فإنَّ الحلف بالطلاق ليس فيه نقلٌ خاصٌّ عن الصحابة لا نفيًا ولا إثباتًا، ولكن كلامهم وتعليلهم يقتضي أنه لا يلزم الحالف كالعتق وأولى، بل تجزئ فيه الكفارة.

فصلٌ

قال: (هذا الكلام كله في مذهب الحسن في العتق، وأما في الطلاق: فالرواية التي رواها ابن حزم بوقوع الطلاق لا معارض لها، والله أعلم)

(1)

.

فيقال: لا ريب أنه لم يُنقل عن الحسن ولا غيره من السلف أنهم فَرَّقُوا في وقت واحد بين الحلف بالعتق والحلف بالطلاق، ولم يُنقل عن أحد من الصحابة ذلك، ولا الفرق بين الحلف بالطلاق والعتاق وغيرهما، ولكن هذا الفرق نُقِلَ في روايةٍ عن الحسن، وروي عنه من وجهين ما يخالفها.

(1)

«التحقيق» (46/ أ).

ص: 754

والمسائل المنقولة عن الحسن وغيره في العتق المعلَّق كثيرٌ منه ليس بيمين، بعضه يحتمل أَنْ يكون يمينًا ويحتمل ألا يكون، وما عُلِمَ أنه يمين لم يفتِ معه بأنَّ العتق لا يلزم، بل قد يكون هذا على إحدى الروايتين عنه في العتق [212/ أ] وأنه يلزم ولا تجزئ فيه الكفارة.

فقد روى حرب الكرماني بإسناد متصل عن الحسن أنه إذا حلف بالطلاق والعتاق: لزمه دون ما سواهما

(1)

، فإذا ثبت عنه الإفتاء بلزوم الطلاق المحلوف به= كان هذا موافقًا لهذه الرواية المسوية بين الطلاق والعتق.

وأما على قوله بأن العتق المحلوف به لا يلزم فلا يمكن أَنْ يجزم بأنه يقول مع ذلك بلزوم الطلاق المحلوف به، بل تعليله يقتضي أنه لا فرق بينه وبين الطلاق.

وقد علم أَنَّ كثيرًا من المجتهدين يكون لهم في الأصل قولان، ثم قد يفتون في بعض فروعه على أحد القولين، كما أَنَّ أحمد بن حنبل له في جواز الاستثناء في الحلف بالطلاق قولان مع أَنَّ أصله ومذهبه أَنَّ الاستثناء لا يكون إلا فيما فيه الكفارة، فنفيه للكفارة في الحلف بالطلاق إنما يتوجَّه على قوله بنفي الاستثناء في الحلف به، وأما على قوله بالاستثناء فيه فإنَّ ذلك لا يمكن مع قوله إنه لا استثناء إلا فيما فيه الكفارة، وإِنْ لم يقل بذلك بطل أصل مذهبه = فَعُلِمَ أَنَّ فتياه بعدم التكفير لا يتوجه إلا على أحد قوليه دون قوله الآخر، وكذلك فتياه بلزوم الطلاق المحلوف به لا يتوجه إلا على قوله بعدم لزوم العتق المحلوف به لا على قوله الآخر.

* * * *

(1)

تقدم في (ص 149).

ص: 755

فصلٌ

قال المعترض:

(وأما غير طاووس والحسن فيحتاج أَنْ يذكره، وقد تقدم منه، وذكر بعد ذلك نقل المذهب المذكور عن أبي هريرة وعائشة وأم سلمة رضي الله عنهم، ومستنده في النقل عنهم: روايةُ أشعث في أثر ليلى بنت العجماء، وقد تقدم الكلام على اضطرابه وعلى تأويله بما فيه الكفاية.

وقد نقل ابن نصر عن عائشة رضي الله عنها خلاف ذلك

(1)

.

وأيضًا؛ فقول الراوي في ذلك الأثر: وكانت إذا ذكرت امرأة بالمدينة فقيهة ذكرت زينب، وهذا اللفظ يقتضي أَنَّ زينب في ذلك الوقت كانت أفقهَ نساء المدينة، فكيف يقال هذا في حياة عائشة رضي الله عنها؟! وقد [212/ ب] قال ابن عبد البر في أُمِّ سلمة، وإنما هي زينب بنت أم سلمة رضي الله عنها.

وبالجملة؛ فهذا محلُّ اشتباهٍ، لما تقدم من الفرق بين الألفاظ المتقدمة)

(2)

.

والجواب من وجوه:

أحدها: أَنَّ أثر ليلى بنت العجماء مما اتفق جميع العلماء الذين بلغهم هذا الحديث على صحته، وأهل الفقه منهم اتفقوا على العمل به، كالشافعي

(1)

انظر تعليق المجيب على هذا العزو لابن نصر في (ص 759)، وهو الوجه الرابع مما سيأتي.

(2)

«التحقيق» (46/ أ).

ص: 756

وأحمد بن حنبل وأبي ثور ومحمد بن نصر وابن المنذر، وقد صححه مَنْ لم يعمل به كابن جرير الطبري وابن حزم وغيرهما، وصححه ابن عبد البر وغيره، وَذَكَرَهُ أصحاب الشافعي وأحمد أَوَّلُوهُم وآخروهم، مُصَدِّقِينَ له، متلقين له بالقبول، واعتمدوا عليه في كتبهم الكبار والصغار، فلا يوجد منهم مصنفٌ كتابًا يذكر فيه الآثار في هذه المسألة والاحتجاج بها إلا ذكره، كما ذكره الشيخ أبو حامد وأبو الطيب الطبري والماوردي وغيرهم من أصحاب الشافعي، وكما ذكره القاضي أبو يعلى وأبو الحسن الآمدي وأبو الخطاب وغيرهم من أصحاب أحمد.

ورواه أحمد بن حنبل وأصحابه كأبي بكر الأثرم وحرب بن إسماعيل الكرماني وإسماعيل بن سعيد

(1)

الشالنجي وإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني.

ورواه البخاري في تاريخه من عِدَّةِ طرق.

ورواه أبو بكر النيسابوري وأبو الحسن الدارقطني وأبو بكر البيهقي ومن قبلهم ومن بعدهم، وكلهم مُصَدِّقُون مُقِرُّون بصحته وسلامته من الطعن، ولم أعرف أحدًا من الأولين والآخرين عَلَّلَهُ، ولا طعن فيه، ولا توقف في صحته إلا هذا المعترض الذي يتكلم بلا علم، ويبتدع دعوى نقلٍ عن السلف لم يَدَّعِهِ أحدٌ قبله، وَيُضَعِّفُ نقلًا ثابتًا لم يُضَعِّفْهُ أحدٌ قبله، وتحريف للكلمات الثابتة عن السلف لم يحرفها أحدٌ قبله.

ولكن أحمد بن حنبل عَلَّلَ ذِكْرَ العتق فيه، لم يعلل الحديث من أصله، وقد عرف قدره وأنه لم يبلغه إلا من طريق التيمي، وأما غيره فبلغه طريق أشعث وطريق جسر بن الحسن عن بكر؛ فصار له ثلاثة طرق يصدق بعضها

(1)

. في الأصل: (سعد)، والصواب ما أثبت.

ص: 757

بعضًا [213/ أ] كما تقدم

(1)

، والذين خالفوا هذا الأثر من السلف لم يبلغهم، والذين بلغهم اتبعوه كالشافعي وأحمد وغيرهما.

الوجه الثاني: أَنَّ نَقْلَ الحلفِ بالعتق عن الصحابة مما نقله عامة من ينقل أقوال السلف؛ كأبي ثور ومحمد بن نصر ومحمد بن جرير وأبي بكر بن المنذر وابن حزم وابن عبد البر وغيرهم، والذين نقلوا الإجماع في الطلاق بعضُ هؤلاء، ونقلهم للنزاع أثبتُ من نقلهم لنفيه.

فإنْ كان نقلهم للنزاع غير مقبول لجواز الغلط عليهم في ذلك = لم يُقبل نقلهم للإجماع ونفي النزاع بطريق الأولى؛ فإنَّ الغلطَ فيه أكثر بكثير.

وحينئذٍ؛ فلا حاجة بنا إلى نقلهم لا للإجماع ولا للنزاع، بل نُثبت النزاع بالأسانيد المتصلة، والمعترض لا يمكنه أَنْ ينقل الإجماع بإسناد متصل ثابت = فثبت ما ادعيناه من النزاع، ولا تبقى معه حجة بنقل الإجماع.

وإِنْ كان نقلهم للإجماع مقبولًا فنقلهم للنزاع أولى؛ وحينئذٍ فنقلهم للنزاع ثابت بالأسانيد المتصلة ولا مخالف لهم فيه، وأما نقلهم للإجماع فقد اختلفوا فيه؛ فمنهم مَنْ نَقَلَ فيه إجماعًا، ومنهم مَنْ نَقَلَ فيه نزاعًا، وناقل النزاع مثبت فيجب تقديمه؛ هذا لو لم يُعرف النزاع من غير جهته؛ فكيف إذا عرفنا النزاع من عدة أوجه؟!

الوجه الثالث: أَنْ يقال: الذي لا ريب فيه في حديث ليلى الذي اتفقت عليه الروايات: استفتاء ابن عمر وحفصة وزينب، وأما استفتاء أبي هريرة وعائشة وأم سلمة فهو مذكور في حديث أشعث، وقد صَحَّحَ روايته طائفة

(1)

في (ص 201 - 209).

ص: 758

منهم ابن حزم، وأثبتوا استفتاء أم سلمة.

وأما ابن عبد البر فقال

(1)

: المستفتاة هي بنتها زينب، كما جاءت في رواية التيمي وغيره، وأَنَّ في المفتين ابن عمر وحفصة وزينب بنت أم سلمة، بل وعلى أنهم أفتوا في الحلف بالعتق لم يطعن أحد ممن بلغه حديث أشعث في ذكر العتق، وأحمد لم يبلغه حديث أشعث، ولا طريق جسر بن الحسن.

الوجه الرابع: قوله: (إنَّ ابن [213/ ب] نصر نقل عن عائشة رضي الله عنها خلاف ذلك) غلطٌ على ابن نصر، وإنما ذكر ذلك ابن عبد البر

(2)

عقب حكايته لما نقله عن ابن نصر، فظنَّ هذا أَنَّ ابن نصر ذكره.

وكتاب ابن نصر الذي نقل منه ابن عبد البر قوله المذكور عقبه في الاستذكار عندنا، وليس فيه نقل ابن نصر عن عائشة ما ذكره ابن عبد البر، ولكن ابن عبد البر ذكره بغير إسناد، فذكر أنه نُقِلَ عن عائشة أنها أفتت بالكفارة في الأيمان إلا في الحلف بالطلاق والعتاق، وهذه الرواية لم يذكرها هو ولا غيره لا بإسناد صحيح ولا ضعيف؛ فكيف يجوز أن تُجعل هذه معارضةً لتلك مع ما نقل عن عائشة من تعليلها وعموم ألفاظها التي تقتضي تكفير كل يمين؟!

الوجه الخامس: قوله: قول الراوي في ذلك الأثر: (وكانت إذا ذُكرت امرأة فقيهة بالمدينة ذكرت زينب؛ يقتضي أن زينب كانت أفقه نساء المدينة).

(1)

في الاستذكار (15/ 111).

(2)

في الاستذكار (15/ 45 - 46).

ص: 759

يقال له: ليس في اللفظ: أنها أفقه أهل المدينة، وإنما في اللفظ: إذا ذكرت امرأة بالمدينة فقيهة ذكرت زينب؛ فمن أين لك أَنَّ الراوي أراد الحصر؟ وأَنَّ مراده إذا ذكرت بالمدينة فقيهة لم يذكر إلا زينب، ولم لا يجوز أَنْ يكون المراد: أنها كانت تذكر مع النساء الفقهاء بالمدينة؟ كما يقال: إذا ذُكِرَ الصالحون فَحَيَّ هَلًا بعمر؛ أي: هو ممن يذكر، لم يقصد أنه لا صالح إلا عمر.

يُبَيِّنُ هذا؛ أَنَّ المدينة كان بها إذ ذاك جماعة من فقهاء النساء، لم تكن زينب مختصة بذلك، وكان بها خلا

(1)

زينب: حفصة بنت عمر بن الخطاب، فمن أين يعلم أَنَّ الراوي قصد تفضيل فقه زينب على فقه حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها؟

ثم إِنْ قُدِّرَ أَنَّ الراوي قصد أنها كانت أفقه نساء المدينة، فلا ريب أَنَّ عائشة رضي الله عنها لم تكن ــ حينئذٍ ــ موجودة؛ فيكون الصحيح رواية من ذكر ابن عمر وحفصة وزينب دون ذكر عائشة، لكن هذا لا يجزم فيه بالاحتمال.

الوجه السادس: قوله: (وبالجملة؛ [214/ أ] فهذا محل اشتباه).

فيقال له: ليس فيه اشتباه يقدح في المقصود، والألفاظ المتقدمة في ذكر العتق مؤتلفة لا مختلفة.

فقوله: (حَلَفت بالهدي والعتاقة)؛ في رواية جسر، وقوله في رواية التيمي وأشعث: قالت: (كل مملوك لها حر) = مُصَدِّقٌ تلك الرواية لهاتين الروايتين لا تخالفها.

(1)

في الأصل: (بلا)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

ص: 760

والفرق المفيد إنما يكون إذا كان بين الألفاظ تناقض، وهذا لا تناقض فيه إلا إذا حمل اللفظ على لفظٍ ليس في الكلام ما يدل عليه، وَجُعِلَ مدلولُ ذلكَ اللفظ يُخالف مدلولَ لفظ الروايتين الأخريين؛ كما فعل هذا المتكلف حيث حَمَلَ قولَهُ:(حَلَفت بالهدي والعتاقة)؛ على أنها قالت: (العتق يلزمني). وليس في لفظ الراوي ما يدل على أَنَّ هذا لفظ الحالف.

بل لا ريب أَنَّ مَنْ قال: إِنْ فعلتُ كذا فكل مملوك لي حر = حالفٌ بالعتاقة، ثم لو قُدِّرَ أَنَّ هذا لفظُهُ؛ فقوله: العتق يلزمني، كقول القائل: الطلاق يلزمني، وهذا ظاهرٌ في لزومِ الوقوعِ، فكذلك قوله: العتق يلزمني، وهذا في معنى قوله: إِنْ فعلت فكل مملوك لي حر، لكن مع هذا؛ فالذي يجب حمل الروايةِ المجملةِ على المفسرة، وهو أنه قال: إن فعلت فكل مملوك لي حر.

فصلٌ

قال: (ومن هنا ــ والله أعلم ــ قال مَنْ قال: إِنَّ مثل هذه المذاهب القديمة لا يجوز للعامي تقليدها، وليس ذلك لأمرٍ يرجع إلى أصحابها ــ حاشى لله ــ؛ بل هم أئمة الهدى وينابيع العلم، ولكنه لم يُعْتَنَ بجمعِ أقوالِ قائلها وتدوينها اعتناء تامًا حتى يستدل ببعضها على بعض، وبمبيَّنها على مجملها، وبخاصِّها على عامِّها، وبمقيَّدها على مطلقها، كما فعل أتباع المذاهب المشهورة، وتناقلوها نقلًا مستفيضًا بحيث صار يحصل لكثيرٍ من المتمذهبين الظنُّ القويُ بأنَّ تلك الأحكام هي قول إمامه ومذهبه، وتناقلها المُرَجِّحُون لها قرنًا بعد قرن، عددًا يبلغ حَدَّ التواتر في معظم المسائل والقواعد من لدن زمان إمامه إليه، لا كَفُتْيَا مُطْلَقَة تُنْقَلُ عَنْ إمامٍ لا يُدرى [214/ ب] ما أراد بها، وهل اقترن بها أمر يقتضي ذلك أم لا؟

ص: 761

وكنَّا نود لو دُوِّنَتْ تلك المذاهب كما دونت هذه، ولكن في كتاب الله ــ تعالى ــ وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم التي تَكَفَّلَ الله بحفظها بقوله:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] كفايةٌ عن كل مذهب، وغناءٌ عن قولِ كُلِّ قائل.

ولقد كان بعض شيوخنا أشار عَليَّ بأنْ أعتني بجمع ما يتصل إلينا في الروايات من مذاهب السلف، فوجهت الهمة إلى

(1)

ذلك، فوجدت كثيرًا منها بألفاظ غير صريحة، بل ولا ظاهرةٍ فيما يُراد منها فانثنيتُ عن ذلك، والله أعلم)

(2)

.

والجواب من وجوه:

أحدها: أنه ليس الكلام في جواز تقليد العامي لها، فإنَّ ذلك ــ أولًا ــ ينبني على جواز تقليد الميت، وعلى العلم بقوله

(3)

، وإنما الكلام في نقل إجماعهم ونزاعهم، فإنْ كانت مذاهب السلف لا تعلم، فلا يجوز الاحتجاج بإجماعهم، لا بإجماع الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم، وإنما يحتج بإجماع أهل المذاهب المصنفة التي صُنِّفَت فيها.

وحينئذٍ؛ فيقال: الخلاف في زمن هؤلاء الأئمة موجود في تعليق الطلاق بالصفات، فضلًا عن الحلف به، وفي الحلف بالعتق ــ أيضًا ــ فإنَّ أبا عبد الرحمن الشافعي كان في عصر الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق ونحوهم من أهل المذاهب المشهورة، وقد نازع في تعليق الطلاق بالصفات

(1)

في الأصل: (في)، والمثبت من «التحقيق» .

(2)

«التحقيق» (46/ أ).

(3)

انظر ما تقدم (ص 279 - 280).

ص: 762

مطلقًا، سواء كان قاصدًا لليمين أو قاصدًا للإيقاع.

وداود وغيره يفرِّقون بين التعليق الذي يقصد به اليمين، والتعليق الذي يقصد به الإيقاع، وأبو ثور وابن جرير وغيرهما قد نازعوا في الحلف بالعتق؛ هذا يقول يكفر وهذا يقول لا يكفر.

الوجه الثاني: أنه يمتنع مع هذا أن يحتج أحدٌ بإجماع، فإنه من المعلوم أنَّ أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين إجماعهم حجة قاطعة، ليس هم أربعة ولا خمسة ولا عشرة ولا اثنا عشر

(1)

.

وأيضًا؛ فقد اتفق العلماء على أنه ليس إجماع الفقهاء الأربعة أو الخمسة أو الستة أو السبعة أو الثمانية أو التسعة أو العشرة؛ كمالك والثوري وأبي حنيفة وابن أبي ليلى والأوزاعي والشافعي [215/ أ] وأحمد وإسحاق وداود بن علي ومحمد بن جرير = هو الإجماع المعصوم الذي يجب على جميع المسلمين اتباعه

(2)

.

الوجه الثالث: أَنَّ ما ذكره خلاف إجماع المسلمين الأولين والآخرين، فلم يَقُلْ أَحَدٌ إنه لا يجوز الاحتجاج بإجماع الصحابة ولا إجماع التابعين وتابعيهم ممن يقول الإجماع حجة، بل كُلُّ من يقول الإجماع حجة يقول: أَعْظَمُ الإجماعِ إجماعُ الصحابةِ، وتنازعوا في إجماع مَنْ بعدهم على قولين، هما روايتان عن أحمد.

(1)

الإجماع ليعقوب الباحسين (ص 117 وما بعدها).

(2)

انظر ما تقدم (ص 628).

ص: 763

ولم يقل أحدٌ إنه لا يعتد بالنزاع المنقول عن الصحابة والتابعين وتابعيهم؛ لكن تنازعوا فيما إذا أجمع العصر الثاني على أحد قولي أهل العصر الأول، وهذا إنما يكون إذا عُلِمَ إجماعُ مَنْ بعد الصحابة والتابعين على وقوع العتق والطلاق المحلوف به؛ وليس الأمر كذلك، بل النزاع في ذلك بعد التابعين أكثر منه في زمن الصحابة والتابعين، فإنَّ الصحابة والتابعين لم يعرف عنهم نزاع في التعليق الذي يقصد به الإيقاع، فجاء بعدهم مَنْ نازع في أصل تعليق الطلاق، حتى ذهب غير واحد إلى أنه لا يقع الطلاق المعلَّق بالصفات بحال، وليس هذا قول أبي عبد الرحمن بل قاله غيره، وهذا القول قولُ خَلْقٍ كثيرٍ من شيوخِ الشيعة المتقدمين والمتأخرين، وغير الشيعة من أهل السنة وغير أهل السنة، ولا يمكن الاحتجاج على هؤلاء بإجماع من سواهم من أهل عصرهم؛ فإنَّا في نفس بدعتهم التي بها فارقوا السنة والجماعة لا يمكن الاحتجاج عليهم بإجماع مَنْ سواهم؛ فكيف يحتج عليهم في مسألة عملية شرعية بإجماع مَنْ سواهم؟ بل لا بُدَّ من إقامةِ حجةٍ عليهم من الكتاب والسنة.

ولهذا كان كل فريق من أهل البدع لا بُدَّ أَنْ يكون في الكتاب والسنة ما يُبَيِّنُ فساد بدعتهم، وإذا احتج عليهم بالإجماع يحتج عليهم بإجماع مَنْ قبلهم من الصحابة لا بإجماع غيرهم من أهل عصرهم.

فتبين أنه لا يمكن الاحتجاج في المسألة بإجماع مَنْ بعد الصحابة والتابعين على من نازعهم في ذلك من أهل عصرهم من أي طائفة كانت

(1)

، لكن إِنْ كان معهم إجماع قديم احتجوا به على مَنْ نازعهم، وإلا احتجوا عليهم بالكتاب والسنة.

(1)

في الأصل: (كان)، والصواب ما أثبتُّ.

ص: 764

[215/ ب] وأيضًا؛ فالمسائل التي أجمع التابعون فيها على أحد قولي الصحابة، إنما أجمعوا لظهورِ سنةٍ لهم صَدَرَ الإجماع عنها؛ كديةِ الأصابع، وَعِدَّةِ المتوفَّى عنها الحامل

(1)

، ونحو ذلك مما لا يعلم بين العلماء المشهورين المتأخرين فيه نزاعًا، وإن كان قد يكون فيه خلاف لا نعلمه، لا يجمعون على قول يكون القرآن والحديث والقياس يدل على نقيضه، فإنَّ هذا لم يقع قط.

الوجه الرابع: أَنَّ جميع أئمة المسلمين كانوا يدونون ألفاظ الصحابة والتابعين في العلم وينقلونها، بل هذا كان هو العلم عندهم بعد ألفاظ القرآن والحديث، وكانت الكتب المصنفة مثل: موطأ مالك بن أنس، ومصنف ابن جريج، وسعيد ابن أبي عروبة، وحماد بن سلمة، وسفيان الثوري.

ومن بعدهم مثل: ابن المبارك، وابن وهب، وعبد الرزاق، ووكيع، وعبد الرحمن بن مهدي، وسعيد بن منصور وغيرهم.

ومن بعدهم مثل: كتب الشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد، وأبي ثور، ومحمد بن نصر= مملوءة بأقوالهم.

وكذلك كتب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن مملوءة بأقوال السلف من الصحابة والتابعين؛ فإنْ كانت مذاهبهم لا تعرف من أقوالهم، فقد أجمع أهل

(2)

المذاهب المشهورة وغيرهم على أخذ العلم من أقوالٍ لا تفيد العلم بمراد أصحابها، وما أشبه هذا بقول مَنْ يقول مِن

(1)

تقدم تخريجهما في (ص 743).

(2)

في الأصل بعد ذلك: (العلم) ويظهر عليها أثر شطب الناسخ لها.

ص: 765

الملاحدة: إنَّ ألفاظ القرآن والحديث لا تدل على مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك مَنْ قال: ألفاظ الصحابة والتابعين وتابعيهم لا يُعرف منها مرادهم!

الوجه الخامس: أَنَّ العامي المجرَّد لا يعرف المراد بألفاظ القرآن والحديث إن لم يكن له مَنْ يجمع له بين ناسخها ومنسوخها، ومجملها ومفسرها؛ فكيف يمكنه وحده معرفة قول بعض السلف؟! ولكن العالم [هو]

(1)

الذي يعرف كثيرًا من أقوالهم.

وحينئذٍ؛ فإذا أخبره العالم بقول الثوري والأوزاعي فهو كما لو أخبره بقول مالك وأبي حنيفة، لكن لا ريب أَنَّ من الناس مَنْ هو بمذهب أبي حنيفة أعلم، ومنهم مَنْ هو [216/ أ] بمذهب مالك أعلم، ومنهم من هو بمذهب الشافعي أعلم، ومنهم من هو بمذهب أحمد بن حنبل أعلم، ومنهم من هو بمذهب الثوري أعلم، ومنهم من هو بمذهب إسحاق أعلم، ومنهم من هو بمذهب داود أعلم، ومنهم من هو بمذهب الأوزاعي أعلم.

ولكن مع هذا؛ يذكر المصنفون في كتبهم في الخلاف ما يعرف به مذهب غيرهم، ويذكرون من الأقوال ما يعرف به مذاهب الصحابة والتابعين، وما زال العلماء يتداولون نقل مذاهب السلف ويذكرونها في كتبهم.

وإذا قُدِّر غلط في بعض ذلك أو خفاء أقوالهم في بعض ذلك؛ فالمذهب المشهور الذي تَرَبَّى الإنسان على معرفته، يَغلطُ كثيرًا في نقل مسائله، ويخفى عليه كثير منه؛ فالغلطُ في بعضِ الأمور لا يوجبُ الغلطَ فيما

(1)

إضافة يقتضيها السياق.

ص: 766

ضبطوه، والجهل بما خفي لا يوجب الجهل بما علم

(1)

.

الوجه السادس: قوله: (لا كَفُتْيَا مُطْلَقَةٍ تُنقل عن إمامٍ، لا يُدرى ما أراد بها، وهل اقترن بها أمرٌ يقتضي ذلك أم لا؟).

يقال له: إِنْ كانَ أَخْذُ مذاهبِ السلف من فتاويهم المنقولة عنهم لا يجوز، فما نقلته عن السلف من مذاهبهم في الطلاق باطل.

فإنك إنما معك فتاوى منقولة في قضايا جزئية، وقصةُ ليلى بنت العجماء مِنْ أَبْيَنِ وَأَحْسَنِ ما نقلَ من فتاويهم، فإنْ كنت لا تدري ما أرادوا بها، ويجوز أَنْ يكون هناك قرائن تخالف ما ظهر منها وَدَلَّتْ عليه = فَجَوِّزْ ذلك فيما نقلته من فتاويهم في الطلاق، لا سيما وأكثرُ ما نقلته تعليق يحتمل قصد الإيقاع عند الشرط ويحتمل قصد اليمين، لا سيما وقد غلطت في أكثر ما نقلته عنهم في الحلف بالطلاق، فإنَّ كثيرًا مما نقلته عن الصحابة والتابعين إنما هو في تعليق الطلاق على الملك، وظننت هذا في الحلف الذي ذُكِرَ فيه النزاع هل يكفَّر أم لا يكفر؟ فلم تُفَرِّق بين من يقصد إيقاع الطلاق عند الصفة وبين مَنْ يكره وقوعها وإِنْ وجدت الصفة، وإنما علقها لقصد الحلف بها، وحكيت مذاهبهم، فقد ظهر من غلطك في نقل مذاهبهم ما لم يظهر من غلط غيرك.

ودعواك [216/ ب] أنه لا يُعرف ما أرادوا بفتاويهم= إقرارٌ منك بأنك لم تفهم مرادهم، وإقرارك حجةٌ عليك لا على غيرك؛ وأما غيرك ممن قد عَرَفَ

(1)

انظر في أثر تربية الإنسان على قول أو اصطلاح: مجموع الفتاوى (20/ 453)(26/ 202)، الفتاوى الكبرى (1/ 461 - 462).

وانظر ما تقدم (ص 451).

ص: 767

مرادهم كما عرفه سائر علماء المسلمين ونقلوا مذاهبهم، فإنه ــ ولله الحمد ــ نَقَلَ مذاهبهم نقلًا صحيحًا، كما نَقل ذلك مَنْ قبله من العلماء.

والعلماء الذين بلغهم حديث ليلى بنت العجماء كلهم نقلوا عن الصحابة قولهم في الحلف بالنذر، بل ونقلوا قولهم في الحلف بالعتق، كما نقل ذلك أبو ثور ومحمد بن نصر ومحمد بن جرير وأبو بكر بن المنذر وأبو عمر بن عبد البر وأبو محمد بن حزم وغيرهم من العلماء.

وَمَنْ لم يَسمع العتق أو سمعه ولم يعرف أنه ثابت لم ينقله، ومن نقل إجماعًا في الطلاق كأبي ثور فقد اعترف بأنَّ مرادَه بذلك أني لا أعلم نزاعًا.

كما أَنَّ أحمد بن حنبل لَمَّا قال: لم يروه إلا سليمان التيمي؛ فمراده: أني لا أعلم رواه إلا التيمي، فأحمد نَفى رواية غير التيمي بحسب ما بلغه، وأبو ثور نفى قولًا آخر في الطلاق بحسب علمه، فنفي الرواية كنفي الرأي = كُلُّ ذلكَ ينفيه مَنْ ينفيه بحسب علمه واجتهاده؛ ولهذا دائمًا يبلغ هذا ما لا يبلغ هذا، فَيُثْبِتُ من الروايات والأقوال ما لا يعلمه الآخر.

الوجه السابع: أَنْ يقال: كثيرٌ من مذاهب الصحابة والتابعين تكون منقولة في الأمة خلفًا بعد سلف، بل تكون منقولة بالتواتر أعظم من تواتر نقلِ كثيرٍ من مذاهب الأئمة المشهورين.

فقول زيد رضي الله عنه في الفرائض أشهر عند الأمة مِنْ قول أَحَدِ الأئمة الأربعة في الفرائض، بل قول عمر رضي الله عنه في العول أشهر عند الأمة من أكثر مذاهب الأئمة عند أتباعهم، وكذلك قول ابن عباس رضي الله عنهما في العول يعرفه عامة العلماء، وهو متواتر بينهم ــ وإِنْ كان جمهورهم لا يقولون به ــ

ص: 768

أكثر من تواتر كثير من مذاهب الأئمة عند أصحابها

(1)

، بل قوله في المتعة والصرف أشهر من كثير من أقوال المتبوعين من العلماء مع أنه قول مرجوح [217/ أ] مخالفٌ للنص، وجمهور الأمة على خلافه.

فإذا كان قول الواحد من الصحابة مع ضعفه قد تداولته الأمة خلفًا عن سلف وتواتر بينهم؛ فكيف بأقوالهم القوية التي اتبعها جمهورهم؟!

وحديث ليلى بنت العجماء مما وافقه جمهور الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وفقهاء الحديث قاطبة يعملون به، فهو متلقَّى عندهم، متواتر بينهم، لكن بعضهم بَلَغَهُ بعضُ طرقه، وبعضهم بلغه طريق آخر أو طريقين، والذين بلغهم ذلك أثبتوا ما فيه ولم يَختلفوا، فلم يختلف أحد ممن بلغه طريق أشعث مع طريق التيمي في أَنَّ فيه ذكر الحلف بالعتق بقولها:(وكل مملوك لي حر إِنْ فعلت)؛ وهذا مثل أبي ثور وابن نصر وابن جرير وابن المنذر وابن عبد البر وابن حزم وغيرهم = كُلُّهم أثبتوا فيه ذكر العتق ونقلوه عن أولئك الصحابة رضي الله عنهم.

الوجه الثامن: قوله: (وكنا نَوَدُّ لو دُوِّنَتْ تلك المذاهب كما دُوِّنَتْ هذه)

(2)

.

فيقال: قد دُوِّنَتْ ــ ولله الحمد ــ ألفاظها بأعيانها في غير مصنف كما دونت

(3)

ألفاظ الأئمة، وَمَنْ نُقِلَ لَفْظُهُ على وجهه كان أبلغ من أن ينقل قوله

(1)

انظر هذه الآثار في الجامع لأحاديث وآثار الفرائض (ص 311 وما بعدها).

(2)

«التحقيق» (46/ أ).

(3)

كتب الناسخ في الهامش: (دون)، وكتبها عليها (صح) وحرف (خ).

ص: 769

بالتصرف الذي يقع فيه خطأ كثير، كما نقل الخراسانيون مذهب الشافعي بتصرفهم، فيخطئون كثيرًا فيما ينقلونه، بخلاف مَنْ يَنقل ألفاظه كالعراقيين.

فنقل مذاهب السلف المنقولة ألفاظها على وجهها أَصَحُّ مِنْ نقل طائفة من مذاهب الأئمة المشهورين.

الوجه التاسع: قوله: (ولكن في الكتاب والسُنة التي تَكَفَّلَ الله بحفظهما كفاية عن كل مذهب، وغناء عن قول كل قائل)

(1)

.

فيقال: هذا حق لمن استدل بهما، وَعَلَّقَ الأحكام بما دَلَّا عليه نصًّا واستنباطًا، وأما من عكس هذه الطريقة مثل مَنْ يُلغي ما دَلَّا عليه، ويعتبر ما ألغياه = فهذا ممن قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:«أَوَ ليست التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى؛ فماذا تغني عنهم؟!»

(2)

.

وهذا حال أهل الأقوال المبتدعة أَصَّلُوا لهم أصلًا بلا كتاب ولا سنة، ثم تأولوا ما جاء من الكتاب والسنة يخالف قولهم، كما فعلت الجهمية والرافضة ونحوهم من أهل البدع، وكل قول يخالف دلالة الكتاب والسنة [217/ ب] فهو قول مبتدَع، وَإِنْ كان قائله مجتهدًا مثابًا مغفورًا له، وإن كان من أفاضل الأولين والآخرين.

(1)

«التحقيق» (46/ أ).

(2)

أخرجه الدارمي (1/ 333)، والترمذي (2653)، والبيهقي في المدخل (2/ 301) عن أبي الدرداء رضي الله عنه.

وقال الترمذي: هذا حديث حسنٌ غريب. وقال الحاكم (1/ 179): هذا إسناد صحيح من حديث البصريين.

ص: 770

ومن ذلك: أَنْ يجعل كونُ الكلام تعليقًا هو الوصف الشرعي المؤثِّر في الحكم الشرعي، ويجعل كونه يمينًا وصفًا ملغًا مهدرًا في الشرع، فإذا كان الكلام تعليقًا ويمينًا ألغى كونه يمينًا واعتبر كونه تعليقًا = فهذا ممن لم ينتفع بالكتاب والسنة، كما لم ينتفع بهما مَنْ خالف مدلولهما.

الوجه العاشر: أَنْ يقال له: إذا كان فيهما كفاية؛ فمعلومٌ أنه لا ينعقد إجماع إلا وفيهما ما يدل على مثل ما انعقد عليه، وإلا فلو انعقد إجماع على حكم لا يكون فيهما لم يكن فيهما كفاية.

فإنْ قال: هما دَلَّا على كون الإجماع حجة، والإجماعُ يحتج به على الأحكام.

قيل له: فيحتاج حينئذٍ أَنْ يَحفظ أقوال الصحابة والتابعين وتابعيهم التي بها يُعرف الإجماع والنزاع، فالاكتفاء بالكتاب والسنة مع دعوى الإجماع لا تمكن إلا إذا كان ما انعقد عليه الإجماع مما دَلَّا عليه، فتكون دلالتهما موافقًا للإجماع، أو أن يكون أقوال أهل الإجماع والنزاع مما يجب الاعتناء بها ونقلها، وإلا فالإعراض عنها مع الاحتجاج بقولهم من غير دلالة الكتاب والسُنة عليها = تناقض؛ كما فعل هذا المعترض حيثُ يَدَّعِي الاكتفاء بهما، وَيَدَّعِي الاستغناءَ عن نقلِ أقوالِ السلف من الصحابة والتابعين، ثم مع ذلك يحتج بنقل إجماعٍ على حكمٍ لم يدل عليه كتاب ولا سنة، بل الكتاب والسنة والقياس يدل على نقيض ما ادعى من الإجماع، ومع أنه لا إجماع فيه، لكن القول المخالف للكتاب والسنة جاء من عند غير الله، فيوجد فيه اختلافٌ كثيرٌ؛ كقول المعترض وأمثاله في مسائل الأيمان والتعليقات تعليق الطلاق والنكاح وغير ذلك، ففيها من التناقض والاضطراب ما يطول بوصفه الكتاب؛ والله أعلم.

ص: 771

ومعلومٌ أنه لا يمكن معرفة إجماعهم وتنازعهم إلا بعد معرفة أقوالهم، فإنْ كانت أقوالهم لا يحتاج إليها، فلا يُحتجُّ بإجماعهم ولا يُذكر نزاعهم، فإنْ ذكر إجماعهم [218/ أ] ونزاعهم فلا بُدَّ من معرفة أقوالهم، وأما أَنْ يحتج بنقل إجماعهم مع أَنَّ غايتَهُ ظَنٌّ من الناقل لا علم له به، ويترك نقل نزاعهم الذي هو إما معلوم وإما مظنون ظنًّا أقوى من ظن نفي النزاع؛ فهذا فعل المطففين الذين لا يعدلون في ميزان العلم والمعاني التي هي أحق بالعدل فيها من ميزان الأموال والدراهم.

وأما ما ذكر من إشارة بعض شيوخه عليه بالاعتناء بجمع ما يتصل إليه من الروايات من مذاهب السلف؛ فهذا يدل على أَنَّ شيخَهُ هذا مفرطٌ في الجهل بما فعله العلماء من ذلك وبقدر المسؤول، فإنَّ هذا الباب قد أمعن العلماء فيه، ومصنفات السلف كلها كانت من هذا الباب مثل: موطأ مالك، وجامع سفيان، ومصنف ابن جريج وحماد بن سلمة وسعيد بن أبي عروبة، ثم مصنفات عبد الله بن المبارك وعبد الله بن وهب ووكيع بن الجراح وهشيم بن بشير

(1)

وعبد الرحمن بن مهدي وأمثال هؤلاء، ثم مصنف عبد الرزاق وسعيد بن منصور وأبي بكر بن أبي شيبة، ثم مصنفات الشافعي ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل وأصحاب أحمد مثل: الأثرم وحرب الكرماني وصالح وعبد الله ابني أحمد وأبي بكر المروذي وأمثال هؤلاء.

لكن منهم مَنْ يُجَرِّدُ الآثار؛ فيذكر أقوال النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين لا يخلط بشيء من الكلام والبحث، ومنهم مَنْ يخلطها بشيء من ذلك.

(1)

في الأصل: (بسر)، والصواب ما أثبتُّ.

ص: 772

وأما تصنيف أقوال العلماء من غير آثار تُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، فهذا مما أحدثه المتأخرون، لم يكن شيء منه في عهد السلف، وليس هذا مما يصلح له شيوخ شيوخ المعترض، فضلًا عنه وعن أمثاله، ويكفيك دليلًا على إفساد أقوال السلف ما فعله بهذا الأثر المشهور عندهم، الذي اتفقوا على تلقيه بالقبول والتصديق وعلى معرفة معناه، كيف بَدَّلَ من إجماعهم بتعليل إسناده وتحريف معناه، ثم يعتمد عليهم في نَقْلِ إجماعٍ نَقَلَهُ منهم واحد وتبعه بعضهم ونازعه بعضهم، وليس مع ذلك الناقل إلا ظَنٌّ لا يغني من [218/ ب] الحق شيئًا، فَيَدَعُ ما علموه من نقلهم، وجزموا بصحته، وتلقوه بالقبول، ويحتج من نقلهم بما غايته أَنْ يكون ظنًّا إذا لم يكن خطأ، فكيف إذا تبيَّن أنه خطأ؟!

وهذه عادات أهل الجهل والبدع يَطعنون في المنقولات الصحيحة الثابتة، ويحتجون بالنقول الضعيفة، وهذا معروفٌ فيهم في مسائل الأصول والفروع، فتجدهم في مسألة الرؤية يَعدلون عن الأحاديث الصحاح المتواترة عند أهل الحديث المتلقاةِ بالقبول وما يوافقها من آثار الصحابة والتابعين [إلى]

(1)

آثار ضعيفة ساقطة لا تُعرف إلا عن مجهول أو متهم.

وكذلك في باب صفات الله ــ تعالى ــ وَعُلُوِّهِ يعدلون عما في القرآن والأحاديث الصحيحة وآثارِ الصحابة والتابعين الثابتة عنهم إلى آثارٍ موقوفة ومرفوعة موضوعة.

وكذلك الرافضة يعدلون عن الأحاديث الصحيحة المتواترة إلى

(1)

إضافة يقتضيها السياق.

ص: 773

الأحاديث الموضوعة الضعيفة.

وكذلك المسائل العملية تجد أصحاب الأقوال الضعيفةِ يعدلون عن الآثار الصحيحة المتلقاةِ بالقبول والتصديق عند أهل النقل إلى الآثار الواهية؛ كالآثار في مسألة المسكر، والآثار في سهم الفارس، والآثار في طواف القارن وسعيه، والآثار في فسخ الحج إلى العمرة، والآثار في خيار المجلس، والآثار في سجدات المُفَصَّل، والآثار في أنه لا يقتل مسلم بكافر، والآثار في حرم المدينة وأمثال ذلك.

وكذلك دعوى الإجماعات في خلاف ما ثبت بالآثار، بل ونصوص القرآن؛ تارة بدعوى الإجماع على نسخها وإن كانت في القرآن والسنة المعلومة، وتارة بدعوى الإجماع على خلافها، كدعوى من ادعى الإجماع على جواز نكاح الزانية

(1)

، وأَنَّ يكون الرجل ديوثًا

(2)

، وكدعوى من ادعى نسخ العقوبات المالية

(3)

،

وكدعوى من ادعى الإجماع على أنه لا يجوز أَنْ يُكَبَّرَ على الجنائز أكثر من أربع

(4)

، ودعوى من ادعى الإجماع على وجوب الثمانين في حد الخمر

(5)

، ودعوى من ادعى الإجماع على خلاف حديث

(1)

انظر ما تقدم (ص 182).

(2)

انظر ما تقدم (ص 683).

(3)

مجموع الفتاوى (20/ 384)(28/ 109، 596)(29/ 294)، الفتاوى الكبرى (4/ 211)، مختصر الفتاوى المصرية (ص 341)، اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 49)، منهاج السنة (3/ 441).

وانظر مبحثًا لابن القيم في الطرق الحكمية (2/ 688).

(4)

انظر ما تقدم (ص 185).

(5)

انظر ما تقدم (ص 185).

ص: 774

المُصَرَّاة

(1)

، ودعوى من ادعى الإجماع على أنه لا تقبل شهادة العبد، وأنس بن مالك يَذْكُرُ [219/ أ] أنه لم يَعرف أحدًا رَدَّ شهادة العبد

(2)

، ودعوى من ادعى الإجماع على أنه لا تُقصر الصلاة في أقل من يومين

(3)

، ومثل هذا كثير.

ثم من كان من الظانين للإجماع من أهل العلم والدين، إنما يظنه لأنه لم تبلغه الآثار في النزاع فهو معذور، وآخرون تبلغهم الآثار الثابتة المسندة في خلاف ما يظنونه من الإجماع، فيسلكون السبيل التي سلكها هذا المعترض، يسلكون في تلك الآثار الثابتة سندًا ومتنًا ثم إلى تعليل سندها وتأويل متنها، وليس معهم ما يعارضها إلا ظَنٌّ كاذب لإجماع لا حقيقة له.

ولهذا كان أئمة السنة كأحمد بن حنبل يَعُدُّ هؤلاء من أهل البدع المذمومة، كما قال في رواية ابنه عبد الله: (مَنِ ادعى الإجماع فقد

(4)

كذب، لعل الناس اختلفوا، هذه دعوى بشر المريسي والأصم)

(5)

. وهذان من أكابر فقهاء الجهمية.

أما الأصم عبد الرحمن بن كيسان

(6)

: فكان من أكابر شيوخ أهل الكلام بالبصرة، وهو شيخ إبراهيم بن إسماعيل بن عُلَيَّة الذي كان يناظر

(1)

انظر ما تقدم (ص 186).

(2)

انظر ما تقدم (ص 187).

(3)

انظر ما تقدم (ص 183، 695).

(4)

في الأصل: (فهو)، وصوابها ما أثبتُّ.

(5)

تقدم في (ص 604).

(6)

انظر ترجمته في: طبقات المعتزلة (ص 56)، تهذيب الأسماء واللغات (2/ 300)، سير أعلام النبلاء (9/ 402)، لسان الميزان (5/ 121)، طبقات المفسرين للداوودي (1/ 274).

ص: 775

الشافعي بمصر، ويكتب كُلٌّ منهما ردًّا على الآخر، وكان الشافعي رضي الله عنه يقول فيه:(إبراهيم بن علية ضالٌّ على باب الضوال، يُعَلِّمُ الناسَ الضلال)

(1)

. وهو الذي يذكر له أقوال شاذة في الأصول. وأبوه: إسماعيل بن عُلَيَّة من شيوخ أهل العلم والدين، أَخَذَ عنه الشافعي وأبو يوسف وأحمد بن حنبل وغيرهم

(2)

.

وبشر المَرِيْسِي كان ــ أيضًا ــ من أهل الرأي والكلام، وله مع الشافعي مناظرات معروفة، وكان من دعاة الجهمية في محنتهم

(3)

، ولهذا صَنَّفَ أهل السنة والإثبات رَدًّا عليه وعلى أصحابه، كما صنف عثمان بن سعيد الدارمي وغيره

(4)

.

فهذان وأمثالهما كانوا إذا أتاهم غيرهم بآثارٍ لا يعرفونها = دفعوها بما يزعمونه من الإجماعات المدعاة؛ فلهذا قال أحمد: هذه دعوى بشر المريسي والأصمِّ: وكان أحمد يُذَاكَرُ

(5)

في المسألة. فيقال له: قالوا: فيها

(1)

أسند هذه الكلمة: البيهقي في مناقب الشافعي (1/ 457)، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (6/ 513).

(2)

وممن نبَّهَ على ذلك: ابن تيمية في الاستقامة (1/ 337)، وابن القيم في الكلام على مسألة السماع (ص 355 - 356)، وابن حجر في الفتح (9/ 352).

(3)

هو: بشر بن غياث بن أبي كريمة المريسي، غلب علبه علم الكلام حتى صار من أعيان الجهمية، ولد سنة (138)، وتوفي سنة (218).

انظر في ترجمته: تاريخ بغداد (7/ 531)، المنتظم (11/ 31)، سير أعلام النبلاء (10/ 199).

(4)

طبع محققًا عدة مرات، وقد حُقِّقَ في رسالة جامعية، طُبعت بمكتبة الرشد الطبعة الأولى عام 1418 هـ، باسم «نقض عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد فيما افترى على الله في التوحيد» .

(5)

في الأصل: (يذاكره)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

ص: 776

إجماع. فيقول: هل عندهم فيها أثر قديم عن الصحابة أو التابعين؟ فيقولون: لا. فيذكر أَنَّ إجماعهم [219/ ب] ليس بشيء، فإنه دعوى يُعلم أَنَّ مدعيها يقول ما لا يَعلم، فإنه إذا ادعى أنه قد عَلِمَ إجماعَ الأمة في القرون المتأخرة مع تفرقها وانتشارها = فهذا مما نجزم قطعًا بأنه لا يعلمه، وإذا لم يكن معه إلا الاستقراء وهو تتبع أقوال العلماء ولم يجد خلافًا؛ فهذا يكون بحسب علمه، فأكثر المنتسبين إلى العلم لا يُحَصِّلُ لهم هذا الاستقراء لا علمًا ولا ظنًّا، لأنه ليس لهم خبرة بأقوال جميع العلماء مع كثرتهم وانتشارهم، والذين كانوا يقولون هذا لاطلاعهم على أكثر أقوال العلماء يصيبون في كثير مما ينقلونه، ويخطئون في بعض ما ينقلونه، فالمكثر

(1)

منهم لنقل الإجماع في هذه المسائل الظنية يكثر خطؤه، والمُقِلُّ

(2)

منهم لنقل الإجماع فيها يقل خطؤه، ولست أعلم أحدًا ممن يَنقل الإجماع في مثل هذه المسائل إلا وقد وجدنا فيما ينقله من الإجماعات ما فيه نزاع لم يعلمه.

وأما الإجماعات التي ينقلونها وهي صحيحة فتجدها مما دَلَّ عليه الكتاب والسنة؛ فلست أعلم إجماعًا صحيحًا إلا ومعه دلالة من الكتاب والسنة توافقه، ليكون مخالف الإجماع المقطوع به داخلًا في قوله تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].

* * * *

(1)

في الأصل: (فالمنكر)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2)

في الأصل: (والنقل)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

ص: 777

فصلٌ

قال المعترض:

(قال المجيب بعد أَنْ حكى عن أبي محمد المقدسي [ما] ذكره في شرح الخرقي

(1)

[من] وقوع العتق في ذلك، مستدلًّا بأنه عُلِّقَ على شرط، وهو قابل للتعليق، فيقع بوجود شرطه

(2)

كالطلاق. وأَنَّ أحمد قال في حديث أبي رافع: كَفِّرِي يمينك وأَعتقي جاريتك؛ وهذه زيادة يجب قبولها، ويحتمل أنها لم يكن لها مملوك سواها.

قال: قلتُ: القياس المذكور عندهم ينتقض

(3)

بكل ما يعلقه بالشرط: من صدقة المال، والمشي إلى مكة، والهدي. وقوله: إِنْ فعلتُ كذا فعليَّ أَنْ أُعتق أو أُطَلِّق، وقوله: إِنْ فعل كذا فهو يهودي ونصراني وأمثال ذلك مما صيغته صيغة الشرط وهو عندهم يمين اعتبارًا بمعناه

(4)

.

قلت

(5)

: النقضُ المذكور لا يصح؛ لما تقدم من الفرق بين تعليق الالتزام [220/ أ] وتعليق العتق والطلاق، وقد تقدم ذلك مستوفًى فلا حاجة لإعادته.

(1)

المغني (13/ 479).

(2)

في الأصل: (شرط)، والمثبت من «التحقيق» .

(3)

في «التحقيق» والفتوى المعترض عليها: (منتقض).

(4)

مجموع الفتاوى (33/ 194) وهي الفتوى المعترض عليها.

(5)

القائل هو: المعترض.

ص: 778

واستعملَ النقضَ في القياس وهو

(1)

إنما توصف به العلة.

وقوله: (وهو عندهم يمين اعتبارًا بمعناه

(2)

)؛ موافقٌ لما قلناه من موافقة التعليقات المذكورة لليمين بالله في الالتزام، فلذلك جُعِلَت يمينًا، لا أَنَّ المعتبَر كونُ الحَثِّ والمنع حاصلًا فيها خاصة، لأنَّ الحَثَّ والمنع فرعٌ عن الالتزام الحامل

(3)

عليه)

(4)

.

والجواب من وجوه:

أحدها: قول المعترض: (إِنَّ النقض المذكور لا يصح؛ لما تقدم من الفرق بين تعليق الالتزام وتعليق الطلاق والعتق) كلامٌ يتضمن الجهل بمعنى القياس صحيحه وسقيمه، والفرق بين زائغه ومستقيمه؛ وذلك: أَنَّ القياس إذا انتقض بصورة من الصور = كان هذا سؤالًا صحيحًا باتفاق الناس، لم يختلفوا أنه إذا وجد الوصف الذي عُلِّقَ به الحكم في القياس بدون الحكم أَنَّ هذا قياس منتقضٌ، وَأَنَّ هذا سؤال وارد.

لكن مَنْ يقول بأن العلة لا يجوز تخصيصها يقول: بأنَّ هذا يستلزم فسادَ القياس ولا جواب عنه، ويقول: إنه متى انتقضت العلة فسدت.

وَمَنْ يقول بأنه يجوز تخصيصها إما لفوات شرط وإما لوجود مانع، أو مَنْ يُجَوِّزُ تخصيصها لمطلق الدليل فإنه يجيز النقض بالفرق؛ فيفرِّق بين

(1)

في «التحقيق» : (وهذا).

(2)

في الأصل: (معناه)، والمثبت من «التحقيق» وما تقدم.

(3)

في الأصل: (الحاصل)، والمثبت من «التحقيق» .

(4)

«التحقيق» (46/ أ - ب)، وما بين المعقوفتين إضافة يقتضيها السياق.

ص: 779

صورة النقض وبين الأصل بِفَرْقٍ مشترَكٍ بين الأصل والفرع منتفٍ في صورة النقض، لأنَّ الوصف وُجِدَ في الأصل مقرونًا بالحكم، ووجد في صورة النقض بدون الحكم، فليس إلحاق الفرع بصورة الأصل أولى من إلحاقه بصورة النقض، فإنَّ الوصف موجود في الصور الثلاث، والحكم موجودٌ معه في صورةٍ معدومٌ معه في صورةٍ أخرى، وصورة النزاع محتملة، فليس جعلها لأجل الوصف كالأصل بأولى من جعلها مع الوصف بصورة النقض.

والناس هنا لهم ثلاثة أقوال، هي ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره؛ أحدها:[220/ ب] أنهم لا يقبلون الجواب عن النقض، لقولهم: إِنَّ العلة إذا خُصَّت تبين فسادها.

والثاني: يقبلون الجواب بذكر دليل يخص صورة النقض بانتفاء الحكم فيها، وهم الذين يُجَوِّزُون التخصيص لمطلق الدليل، ويقولون بالاستحسان الذي هو تخصيص العلة لمجرد دليل لا لمعنًى مؤثِّر.

والثالث ــ وهو أصح الأقوال ــ: أنه يقبل الجواب ببيان فرقٍ مؤثر يوجب مفارقةَ النقض للأصل والفرع بوصفٍ اختصَّ

(1)

به دونهما؛ أوجب انتفاء الحكم عنه، كتخلف الحكم لفوات شرطٍ أو وجود مانع

(2)

.

والنزاع بين مَنْ يقول بتخصيص العلة لمعنى مؤثر ومن يمنعه نزاعٌ لفظي؛ فإنَّ العلة قد يراد بها العلة التامة المستلزمة للحكم

(3)

؛ فهذه يدخل

(1)

أعاد الناسخ كتابة هذه الكلمة في الهامش، وفوقها:(بيان).

(2)

انظر ما تقدم (ص 10).

(3)

جامع المسائل (قاعدة في الاستحسان)(2/ 117)، شرح الأصبهانية (ص 58).

ص: 780

فيها كل معنى ينتفي الحكم بانتفائه، مثل: جزء العلة وشرطها وعدم المانع، وهذه متى انتقضت بطلت.

ويراد بالعلة: المعنى المقتضي للحكم وَإِنْ كان له شروط وموانع؛ فهذه يجوز تخصيصها لفواتِ شرطٍ أو وجود مانع.

وأما التخصيص بدليل لا يبين الفرق المعنوي؛ فهذا لا يقبل إلا إذا كانت العلة ثابتة بنص أو إجماع، والتخصيص كذلك، فيكون الحكم في الحقيقة ثابتًا بالخطاب، ويكون التخصيص من باب تخصيص الألفاظ لا من باب تخصيص المعاني.

إذا عُرِفَ هذا؛ فهذا القياس المذكور في أَنَّ العتق المعلق بالصفة يقع وَإِنْ قصد به اليمين. قيل فيه: بأن العتق عُلِّقَ على شرطٍ وهو قابل للتعليق فيقع بوجود شرطه، كالطلاق.

والقائسون بهذا القياس لم يقيموا دليلًا لا من نَصٍّ ولا إجماع على أَنَّ كُلَّ قابلٍ للتعليق إذا عُلِّقَ بأيِّ شرطٍ كان وقع، وهم يقولون: إن النذر قابل للتعليق، وإذا عُلِّقَ بشرط فَإِنْ كان على وجهِ اليمين لم يلزم، وإِنْ كان على وجه التقرب لزم؛ فَيُقَسِّمُونَ القابل للتعليق إذا عُلِّقَ إلى قسمين: قسم يلزم؛ وهو إذا قصد وجود الجزاء عند الشرط. وقسمٌ لا يلزم؛ وهو إذا قصد به اليمين.

[221/ أ] فإذا قالوا ذلك؛ ثم ذكروا عن منازعيهم من الصحابة والتابعين ومن اتبعهم من الفقهاء أَنَّ العتق المعلق بالصفة إذا قصد به اليمين لم يلزم وإذا قصد به الإيقاع لزم، كما قالوا هم في تعليق النذر، فإذا احتجوا عليهم

ص: 781

بقولهم: العتق عُلِّقَ على شرط وهو قابل للتعليق فيقع كالطلاق = كان هذا القياس منتقضًا بالنذر المعلَّق على شرط إذا قُصِدَ به اليمين فإنه قابل للتعليق، وهو لا يلزم إذا قصد به اليمين.

ولا فرق بين أن يكون المعلق وجوبًا في الذمة أو حكمًا في عين من الأعيان، فلو قال: إِنْ شفى الله مريضي ففرسي هذه حبسٌ في سبيل الله أو فشاتي أضحية أو هدي ونحو ذلك جاز، ولو قصد به اليمين لم يلزم.

وكذلك لو قال: إِنْ شفى الله مريضي فداري وقفٌ على المساكين جاز في أحد الوجهين في مذهب أحمد، ولو قصد به اليمين لم يلزم.

وكذلك لو قال: إِنْ شفى الله مريضي فَكُلُّ شيءٍ لي على الناس فهم في حِلٍّ منه صَحَّ ذلك في أظهر القولين. ولو قصد به اليمين لم يلزم مثل أَنْ يقول: إِنْ سافرت معكم فمالي هدي ودُوْرِي وقف ومالي على الغرماء صدقة عليهم ونحو ذلك.

فالمقصود: أنه إذا قاس قياسًا، فذكر وجود الوصف بدون الحكم، كان هذا نقضًا واردًا على القياس بلا ريب، ثم إِنْ كان هناك فرقٌ صحيح كان من باب الجواب عند من يجيز النقض بالفرق، ومَنْ لا يقبله يقول: كان ينبغي له أن يذكر في العلة.

فهذا الفرق الذي ذكره المعترض لو كان صحيحًا كان ينبغي عند هؤلاء أَنْ يذكر في القياس، فيقال: عُلِّقَ على شرطٍ على غير وجه الالتزام، أو حُكْمٌ في عينٍ معينةٍ عُلِّقَ على شرطٍ، ومن يقبل جواب النقض فإنه يَعترف بأنه سؤالٌ صحيحٌ لكن بذكر الفرق، لا نقول ــ كما قال المعترض ــ: (إِنَّ هذا

ص: 782

النقض لا يصح، لما ذكره من الفرق)؛ فإنه لو كان [ذا]

(1)

صحيحًا لما جاز أن يورد سؤال النقض على قياسٍ [221/ ب] إلا إذا لم يكن عنه جواب.

الوجه الثاني: أَنْ نقول: ما ذكرته من الفرق باطلٌ من سبعةِ أوجهٍ؛ فإنه غير مُطَّرِدٍ في النقض، ولا ينعكس في الأصل، ولا مؤثر في الشرع؛ وبيان ذلك:

أَنَّ المفرِّق إذا فَرَّقَ بين صورتين بوصفٍ اقتضى الحكم في إحداهما دون

(2)

الأخرى؛ كما إذا فرقنا بين الخمر والبنج في إيجاب الحد، بأنَّ الخمر مسكر، فيورث لذة وطربًا والنفوس تشتهيها ويدعوا إليها الطبع، فاحتاجت إلى رادعٍ شرعي، بخلاف البنج فإنه وَإِنْ غَيَّبَ العقلَ لكنه لا يُسكر، فليس فيه لذة ولا طرب ولا تشتهيه النفوس وتدعو إليها الطباع؛ وما كان كذلك = لم يحتج إلى حَدٍّ يكون رادعًا كالبول والعذرة؛ وَطَرْدُهُ: الدم والميتة ولحم الخنزير لا حدَّ فيه عند جمهور العلماء، وقد رُوِيَ عن الحسن أَنَّ فيه الحد كالخمر

(3)

.

(1)

وضع الناسخ ما بين المعقوفتين تحت قوله: (صحيحًا) وبجانبها (صح).

(2)

كررها الناسخ، ثم ضرب عليها.

(3)

لم أجده مسندًا عنه، وقد نقله المؤلف عنه في مواضع منها: مجموع الفتاوى (14/ 118)(21/ 570)، الفتاوى الكبرى (1/ 394).

وقد جاء في المحلى (ص 2215) بإسناده إلى الثوري في أكل لحم الخنزير قال: في كلِّ ذلك حَدٌّ كحدِّ الخمر. والذي يظهر لي ــ والله أعلم ــ أنَّ هذا خطأ في طبعة المحلى ــ مع مراجعتي عدة طبعات ــ؛ ويدلُّ على ذلك أنَّ ابن حزم روى هذا الأثر من طريق عبد الرزاق ــ وهو في المصنف برقم (13828) ــ ولفظه عند عبد الرزاق: ليس فيه حَدٌّ ولا تعزير.

ويؤكد هذا: أنَّ ابن حزم بعد ذلك بدأ في تفصيل الأقوال، فقال: وقولٌ فيه: أنه لا شيء فيه أصلًا، وهو قول سفيان الثوري وأَوَّلُ قولَي عطاء.

ص: 783

فهذا الفرق الذي ذكرناه بين الصورتين يوجب ثبوت الحكم به في أحدهما كأنواع المسكر، وانتفاء الحكم بانتفائه في الأخرى كأنواع البنج، ولولا ذلك لم يكن فارقًا.

وهذا المفرِّق إذا فَرَّقَ بأنَّ المعلَّق في النذر كان التزامًا في الذمة قد يفي به وقد لا يفي، والمعلَّق للوقوع حكمٌ في عينٍ لا يتمكن من الرجوع عن مقتضاه = كان صحة فَرْقِهِ مشروطةً بأنه لا يحصل نذر اللجاج والغضب إذا قصد به اليمين يمينًا إلا إذا كان التزامًا في الذمة، وبجعل كل ما كان تعليقًا لحكمٍ في عينٍ من الأعيان كتعليق الطلاق والنكاح لا يلزم وإن قصد به اليمين؛ وهو لم يقل بهذا إلا في صورة الأصل وهو نذر اللجاج والغضب الذي يُقصد به اليمين، ولا في الفرع وهو التعليق الذي يلزمه به.

وأيضًا؛ فكل معلِّق لا بُدَّ في تعليقه من التزامٍ في الذمة

(1)

؛ لكن تارة يكون مطلقًا وتارة يكون معينًا، ولو قال بذلك فليس معه دليل شرعي يقتضي تأثير هذا الوصف، بل الدليل الشرعي يدل على أن المؤثر في سقوط اللزوم ووجوب الكفارة كونه قصد بالتعليق اليمين، لا كونه قصد التزامًا في الذمة؛ فهذه خمسة أوجه تبطل فَرْقَهُ.

[226/ أ] أولها: أَنْ يقال: لو كان المعلَّق في صورة النذر الذي يقصد به اليمين وجوبُ شيءٍ بعينه لا التزامًا في الذمة، مثل أَنْ يقول: إِنْ سافرتُ

(1)

انظر ما تقدم (ص 563).

ص: 784

معكم فإبلي هدي وماشيتي أضاحي وَدُوْرِي وقف ومالي صدقة ونحو ذلك؛ فإنه تجزئه كفارة يمين، والمعلَّق هنا حكمٌ في أعيانٍ موجودةٍ خارجةٍ عن ذمته، ليس المعلَّق مجرَّد التزامٍ في الذمة؛ ومع هذا فلا يلزم إذا قصد به اليمين = فعلم أَنَّ كونَه التزامًا وصف عديم التأثير.

الثاني: أنه إذا قال: إِنْ شفى الله مريضي فعليَّ أَنْ أحج أو أتصدق بألف درهم أو أصوم شهرًا ونحو ذلك مما يلتزمه في نذر اليمين= لزمه بالنص والإجماع، وهو التزام في الذمة وقد لزمه بالنص والإجماع لَمَّا قَصَدَ به النذر، فعلم أَنَّ كونه التزامًا في الذمة لا يمنع من لزومه إذا قام المقتضي للزومه، فلما لم يُلزمه به في صورة نذر اليمين عُلِمَ أنه لم يكن ذلك لكونه التزامًا.

الثالث: أَنْ يقال: كل مُعَلِّقٍ لا بُدَّ أنْ يلتزم شيئًا في الذمة؛ لكن تارة يكون مُطْلَقًا كقوله: لله ــ تعالى ــ عليَّ أَنْ أعتق عبدًا، وتارة يكون معيَّنًا كقوله: لله عليَّ أَنْ أعتق هذا العبد، أو فهذا العبد حر. فإنَّ قوله: فهذا العبد حر وإِنْ كان يَعْتِقُ بنفس وجود الصفة، فقد أوجب ذلك عليه في ذمته اعتقاد حُرِّيَّتِهِ وامتناعه من استعباده واسترقاقه، وهذا فعل يجب عليه في ذمته، وهو غير المعين الذي اتصف به العبد، بل هذا حكمه ومقتضاه.

وكذلك؛ إذا قال: فهذه الشاة أضحية أو هذا البعير هدي أو فهذا المال صدقة فإنَّ كونَهُ هديًا وصدقة يوجب عليه تسليمه إلى مستحقِّه، فيجب عليه في الهدي سوقه إلى مكة وذبحه هناك، وكونه أضحية يوجب ذبحها في عيد النحر ويقسم لحمها، وكون المال صدقة يوجب عليه صرفه إلى مستحقيه.

ص: 785

وكذلك كون المرأة مطلقة يوجب عليه اعتقاد تحريمها عليه وامتناعه من الاستمتاع بها وتخلية سبيلها وهو التسريح بالإحسان [222/ ب] الذي أوجبه الله ــ تعالى ــ على المطلِّقِ في كتابه حيث قال: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 49]، وحيث قال تعالى:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229].

لكن في الهدي والأضحية والوقف والحبس يجب عليه فعلٌ مع الكَفِّ، وفي العتق والطلاق يجب عليه الكف والإمساك، والفعل تابع لذلك.

لكن كثرة الواجب هناك لا يُضْعِفُ وجوبه بل يقويه، فإذا كان مع قوته يَسقط مع قصد اليمين، فالواجب القليل أن يسقط مع قصد اليمين أولى وأحرى.

الرابع: منع افتراقهما في الوصف الفارق؛ وذلك أَنَّ الوجوب الثابت في الذمة لا يمكن دفعه بعد وقوعه، كما أَنَّ الطلاق والعتاق لا يمكن دفعه بعد وجوبه، وإنما يمكَّنُ من فِعْلِ الواجب وتركه، كما يتمكن من إرسال العبد والمرأة وحبسهما، فأما نفس وجوب الفعل فلا يمكن دفعه، كما لا يمكنه دفع الوقوع.

الخامس

(1)

: أَنَّ هذا الفرق عكس ما طلبه؛ فإنَّ الوجوب في الذمة أوسعُ طرقًا وأثبت، والوقوع له شروط وموانع أكثر من الوجوب في الذمة

(2)

؛ فثبوت الالتزام أقوى من ثبوت الوقوع وأوسع، ولهذا كان ما ثبت

(1)

في الأصل: (الوجه الخامس)، وحذفت كلمة (الوجه) لئلا يشتبه بالأوجه التي ذكرها في أول جوابه، وليكون مشابهًا لأوجه بيان بطلان فرق المعترض.

(2)

انظر ما تقدم (ص 573).

ص: 786