المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الجواب من وجهين: - الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق - جـ ٢

[ابن تيمية]

الفصل: ‌الجواب من وجهين:

فصلٌ

قال المعترض:

(ولهذا البحث الذي حررناه

(1)

، وهو أَنَّ [اسم] اليمين لا تشمل اليمين بغير الله ــ تعالى ــ قال جماعة من العلماء: إِنَّ الإيلاء لا يكون إلا بالله

(2)

، ولم يجعلوا التعليق بالطلاق وغيره

(3)

داخلًا في قوله: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] كما هو أحد قولي الشافعي؛ فمقتضى قول هؤلاء أَنَّ التعليق لا يسمى يمينًا لأنَّ الإيلاء هو اليمين، فما دخل في مسماها دخل في مسماه)

(4)

.

و‌

‌الجواب من وجهين:

أحدهما: أَنَّ هذا القول هو القول القديم للشافعي، وهو إحدى الروايات عن أحمد، اختارها الخرقي والقاضي وغيرهما، وأما جمهور العلماء فعلى أَنَّ الإيلاء ينعقد إما بكل يمين مكفَّرة كالرواية الثانية [277/ ب] عن أحمد، وذكر أبو بكر عبد العزيز أَنَّ هذا مذهب أحمد أنها بكل يمين من أيمان المسلمين كالرواية الثالثة عن أحمد، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي في الجديد، وذكر بعضهم هذا إجماعًا قال ابن المنذر:[وأجمعوا على أنَّ كل يمين مَنَعَتْ جِماعًا أنها إيلاء]

(5)

.

(1)

كذا في الأصل، وفي «التحقيق»:(حركناه).

(2)

الحاوي (10/ 337)، والبيان للعمراني (10/ 277).

(3)

كذا في الأصل، وفي «التحقيق»:(ونحوه).

(4)

«التحقيق» (48/ ب)، وما بين المعقوفتين منه.

(5)

بياض مقدار سطر وكلمتين، والمثبت من الإجماع لابن المنذر (ص 118).

ص: 964

ولو كان جمهور العلماء يقولون: إنَّ هذا ليس بإيلاء، لم يكن قولهم حجة؛ فكيف والجمهور يقولون إنه إيلاء؟!

وحينئذٍ؛ فمن قال: إنه ليس بإيلاء، فليس قوله حجة لازمة باتفاق المسلمين.

الثاني: أَنَّ هذا القول لو كان حقًّا فمأخذ أصحابه أَنَّ الحلف بغير الله ــ تعالى ــ منهيٌ عنه وإن كان يمينًا، فهم يُسَلِّمُونَ أنه يمين، ولكن يقولون: هي يمين منهيٌ عنها، كما يقول طائفة من السلف والخلف في الحلف بالنذر أنه يمين، ولكن هي يمين منهي عنها فلا كفارة فيها عندهم، وهذا مذهب ابن جرير وداود وأصحابه وطردوا ذلك في الحلف بالطلاق وغيره، فهم لم ينازعوا في أنها يمين، بل صَرَّحُوا بأنها أيمان، لكن قالوا هي منهيٌ عنها فلا ينعقد بها الإيلاء، فَيُخَرَّجُ

(1)

منه مثل قول هؤلاء، أنها أيمان منهيٌ عنها فلا كفارة فيها.

وقد ناظر القائلون بأنها أيمان منعقدة مشروعة مَنْ قال بثبوت الإيلاء بها، كما ذكر ذلك مَنْ ذَكَرَهُ من أصحاب الشافعي وغيره؛ فقالوا ــ وهذا لفظ أبي الطيب الطبري

(2)

ــ: (وأما احتجاجه بكلام الشافعي ــ رحمة الله عليه ــ على أَنَّ هذا ليس بإيلاء، فهو في معنى الإيلاء. فيقال له: الشافعي قد صَرَّحَ بأنَّ هذه التعليقات التي يقصد بها اليمين يمين لا نذر، فقال: ولو قال: مالي في سبيل الله أو صدقةٌ على معاني الأيمان؛ فمذهب عائشة رضي الله عنها وَعِدَّةٌ

(1)

في الأصل: (يُخَرَّجُ)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

(2)

لم أجد هذا النقل عنه فيما بين يدي من المصادر.

ص: 965

من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعطاء، والقياس أَنَّ عليه كفارة يمين. قال: ومن حنث في المشي إلى بيت الله؛ ففيه قولان: أحدهما: قول عطاء: عليه كفارة يمين؛ ومذهبه أَنَّ أعمال البر لا تكون إلا بما فرض الله عليه، أو تبررًا يراد به الله. قال الشافعي: التبرر أَنْ يقول: لله عليَّ إِنْ شفاني أَنْ أَحُجَّ له نذرًا، فأما إِنْ لم أقضكَ حقك [278/ أ] فعليَّ المشي إلى بيت الله؛ فهذا من معاني الأيمان لا من معاني النذور).

فهذا تصريح الشافعي رضي الله عنه بأنَّ هذا التعليق الذي هو نذر اللجاج والغضب من معاني الأيمان لا من معاني النذور.

وأما قول الشافعي في الإيلاء: (ومن أوجب على نفسه شيئًا يجب عليه إذا أوجبه، فأوجبه على نفسه إِنْ [جامع امرأته]

(1)

فهو في معنى المولي، لأنه [لا يَعْدُو أَنْ يكون]

(2)

ممنوعًا من الجماع إلا بشيءٍ يلزمه)

(3)

. فهذا لا يدخل فيه نذر اللجاج والغضب على أصله المنصوص المشهور في مذهبه، فإنه لا يجب عليه ما التزمه فيه بل تجزئه كفارة يمين، وقد تقدم كلامه بأنَّ هذا من معاني الأيمان لا معاني النذور، وأَنَّ القياس أَنَّ عليه كفارة يمين، كما قاله عائشة رضي الله عنها وعدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعطاء.

فإذا كان الشافعي يجعل هذا من معاني الأيمان لا من معاني النذور ويجعل فيه كفارة يمين= لم يكن هذا داخلًا

(4)

في قوله: (إنه أوجب على

(1)

في الأصل: (أوجبه)، والمثبت من الأم.

(2)

في الأصل: (لا يُعْذَر إِنْ كان)، والمثبت من الأم.

(3)

الأم (6/ 670).

(4)

في الأصل: (داخل).

ص: 966

نفسه شيئًا يجب عليه إذا أوجبه)؛ فإنَّ هذا لا يجب عليه إذا أوجبه، ولكن قد قال هذا على قول مَنْ لا يجعله يمينًا مكفرة بل يجعله نذرًا لازمًا، فهؤلاء يجعلونه في معنى المولي مع أَنَّ هذا هو قول مالك رضي الله عنه وأصحابه وهم يُسَمُّونه يمينًا.

* * * *

ص: 967

فصلٌ

قال: (ومنهم مَنْ يجعله مندرجًا في الآية، وهو مطالب بالدليل ــ أيضًا ــ فالمباحث لا تقليد فيها)

(1)

.

فالجواب عنه من وجوه:

أحدها: أَنَّا نتكلم أولًا مع من يسلم لنا أَنَّ هذا إيلاء داخل في الآية، كما نتكلم ــ أولًا ــ مع من يسلم لنا أَنَّ نذر اللجاج والغضب داخل في الآية؛ فهؤلاء لا ينازعونا أَنَّ التعليق الذي يقصد به اليمين يمين، فيلزمهم دخول تعليق الطلاق والعتاق الذي يقصد به اليمين في الآية، ولا يمكنهم أَنْ يقولوا: إِنَّ التعليق الذي يُقصد به اليمين ليس بيمين، بعد تسليمهم أنه يمين وإيلاء يتناوله لفظ الإيلاء واليمين في القرآن.

الثاني: أنه

(2)

تبين أن هذا يمين بما قدمناه من الأدلة الكثيرة.

الثالث: أَنْ نقول: هَبْ أنه لا يتناوله لفظ اليمين والإيلاء؛ [278/ ب] فأنتم تُسَلِّمُون أَنَّ حكمه حكم اليمين والإيلاء بالقياس لما فيه من معنى اليمين والإيلاء؛ فكذلك ثبت حكم تعليق الطلاق والعتاق الذي يقصد به اليمين بالقياس، ونقول: كما قستموه على اليمين في الإيلاء، وقستم نذر اللجاج والغضب على اليمين في الكفارة، وقستموه على اليمين في الاستثناء= فقيسوه على اليمين في الكفارة قياسًا في معنى الأصل؛ وهذه ثلاث أقيسة، كل قياس يقول به أكثر العلماء، فالجمهور جعلوه إيلاءً أو

(1)

«التحقيق» (49/ أ).

(2)

في الأصل: (إن)، ولعل الصواب ما أثبتُّ.

ص: 968

كالإيلاء، والجمهور جعلوه يمينًا مكفرة أو كاليمين المكفرة، والجمهور جعلوه يمينًا يَنفع فيها الاستثناء لا سيما مَنْ قال مع ذلك لا ينفع الاستثناء في الطلاق والعتاق وينفع في الحلف بهما كما هو قول كثيرٍ من السلف والخلف.

إلى هنا انتهى كلام

المصنف المجيب

رحمة الله تعالى عليه

وبه كَمَلَ المجلد الثاني

كتبه وما قبله لنفسه، العبد المعترف بتقصيره في يومه وأمسه: محمد بن أبي بكر بن أحمد بن هارون بن أسعد السلمي الساوجي غفر الله له ولوالديه بكرمه، ووافق الفراغ منه يوم السبت الثالث من ذي الحجة سنة أربع وأربعين وسبعمائة، وصلى الله على سيد الأولين والآخرين، محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، الحمد لله رب العالمين.

* * * *

ص: 969