الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عباد، فبعث إلى يوسف فخبرّه تحقيقاً لما توقّعا من غدر ابن فردلند1. وشاع ذلك في عسكر المسلمين كلّه، فشّع في قلوبهم الأمل الكبير بالنّصر، وأعطتهم البشرى معنويات عالية، وتأكّدوا أن المعركة ستكون يوم الجمعة، فاستعدّوا لذلك، فكانت تعبئة نفسية جيّدة.
1 نفح الطيب جـ4 ص 365/ الروض المعطار ص 91.
المعركة الفاصلة:
وصحّ ما توقعه المسلمون ففي السحر من يوم الجمعة 2 1 رجب عام 479 هـ1، هاجم الفونسو القوات الإسلامية بجميع قوّته الرّهيبة، هجوماً عامّاً، ظناً منه أن الّذي أمامه هي جميع القوات الإسَلاميّة، فتصدّى له الفرسان العشرة آلاف من المرابطين بقيادة أبي سليمان داود ابن عائشة، وعلى الرغم من عدم قدرتهم على الصمود أمام سيل الفرسان النّصارى، فقد استطاعوا تحطيم حدة وعنف هجمة النصارى، وتكسير موجتهم، بعد أن خسروا كثيراً من الشهداء، وتمّ الترّاجع إلى معسكر قوات الأندلس. واستمرّت صدمة النصارى رغم تكسّر حدّتها شديدة، فتراجعت القوات الأندلسية، ودارت عليهم الدائرة، وثبت ابن عبّاد وأبلى برغم ذلك بلاء حسناً، ثم أرسل كاتبه ابن القصيرة إلى يوسف يستحثه.
ولم يكن يوسف غافلاً، فقد كان يرقب المعركة، من على ربوته، ولمّا تأكّد أن الفونسو اقتحم معسكر الأندلسيين بجميع قواته، أخذ يدفع بعض قواته إلى قلب المعركة أرْسالاً لمساعدة ابن عبّاد، ليساعده على الثّبات، ثم حمل بنفسه بقوّته الاحتياطية إلى محلة الأذفونش من خلف جيش النّصارى، فاقتحمها المسلمون، ودخلوها، وفتكوا فيها، وقتلوا.
ثم أمر أمير المسلمين بضرب الطّبول، وزعقت البوقات، فاهتزّت الأرض، وتجاوبت الجبال والآفاق 2. ودوّت:"الله أكبر" وأشعل النار في المعسكر القشتالي، فطار لبّ الفونسو، واضطّربت قلوب النّصارى، وعادوا إلى محلّتهم بغضب، فصدموا جيش أمير المسلمين، فأفرج لهم عن محلتهم، ثم كر ّعليهم، فأخرجهم منها، ثم كرّوا عليه فخرج لهم عنها، ولم تزل الكرّات تتوالى في خطة محكمة لأمير المسلمين لإضعاف فرسان النّصارى،
1 الروض المعطار ص 83/ دول الطوائف ص 323/ أو في منتصف رجب: أعمال الأعلام جـ3 ص 242/ وفيات الأعيان جـ3 ص 329/ في حين وصفها آخرون في رمضان. العبر جـ3 ص 293/ وفيات الأعيان ج 5 ص 29.
2 انظر: نفح الطيب جـ4 ص 366- 368 عن ابن خلكان جـ6 ص 116 وهو ينتقل بدوره عن كتاب تذكير العاقل وتنبيه الغافل للبياسي.
وإنهاك رجّالتهم، تمهيداً للقضاء عليهم جميعاً، وفي أثناء ذلك جمع جيش الأندلس شتاته وعادت إليه معنوياته فتحوّل مع الأرْسال المرابطيّة وفرسانهم إلى الهجوم المضادّ، فوقع الجيش الصّليبي بين مطرقة المرابطين وسندان ابن عباد.
وقدّم ابن تاشفين الجمال حيث كان لها نفع عظيم، إذ كانت خيول فرسان النصارى تجفل منها، وتلوي أعناقها عندما تسمع رغاءها، لعدم تعوّدها على رؤيتها. كما كان لقرع الطّبول أثر في تخلخل أفئدة النّصارى. فتوالى استنزاف قوّة النّصارى. ويوسف يحمل بنفسه وهو على فرسه يرغب في الصبر والاستشهاد ويقول بأعلى صوته:
"يا معشر المسلمين، اصبروا لجهاد أعداء الله الكافرين، ومن رزق منكم الشّهادة فله الجنّة، ومن سلم فقد فاز بالأجر العظيم والغنيمة". وتمتّع المسلمون بمعنويّات عالية فقاتلوا قتال من يطلب الشهادة ويتمنّى الموت 1، وكانت كلمات يوسف مع بسالته تعمل عملها في إذكاء حماس المسلمين، وقيل إن لصموده وقوته وسرعة حركته، قتلت تحته في هذه المعركة ثلاث أفراس 2.
وأما ابن عباد فقد بذل جهداً مشكوراً، وأثبت كفاءة عالية في هذا اليوم، وصبر فعندما اشتدت صدمة النّصارى وانكشف بعض أصحابه وفيهم ابنه عبد الله، ضُرب على رأسه ضربة فلقت هامته حتى وصلت إلى صدغه، وجُرحت يُمنى يديه، وطُعنَ في أحد جانبيه، وعُقرت تحته ثلاثة أفراس، كلما هلك واحد قُدّم له آخر، وهو يقاسي حياض الموت ويضرب يميناً وشمالاً، وتذكّر في تلك الحالة ابناً له صغيراًَ كان مُغرماً به تركه في أشبيلية عليلاً، وكنيته أبو هاشم فقال 3:
أبا هاشم هشمتني الشّفار
…
فلله صبري لذاك الأوار
ذكرت شُخَيْصَك تحت العجاج
…
فلم يثنني ذكره للفرار
وهكذا اتّبع يوسف في قتاله للنّصارى أسلوب الكرّ والفر ّبالصّفوف المتراصة المتماسكة وهو نظام أربك النّصارى لأنهمّ لم يعهدوه من قبل. وبعد عديد من الكرّات أدرك الأمير تضعضع النّصارى، فعندئذ ضرب ضربته الأخيرة، إذ أمر حشمه السّودان، فترجّل منهم زهاء أربعة آلاف، ودخلوا المعترك بدرق اللمّط، وسيوف الهند، ومزاريق الران، فطعنوا
1 روض القرطاس ص95.
2 التواتي ص 297.
3 نفح الطيب جـ4 ص366.
الخيل، فرمحت بفرسانها 1، وترجّل معهم عدد آخر من الأجناد: فآمّن الله المسلمين وقذف الرّعب في قلوب المشركينِ 2. وطُحِنوا بين العسكرَيْن المُسْلِمَينْ. ودارت الدّائرة على قوات الفونسو، وجرح جرحاًَ بالغاً، إذِ لصق به عبد أسود طعنهُ في فخذه بخنجر، فتسلّل ومعه حوالي خمسمائة فارس مثخنين جراحاًَ وانسحب من المعركة، وفر ّجيشه، وطورد الفارّون في كلّ مكان، حتى دخل الظّلام فأمر ابن تاشفين بالكفّ عن المطاردة، وتسلّل الفونسو مع جماعته في جنح الظلام فارّاً إلى طليطلة، حيث توفّي أكثرهم في الطّريق، ولم يدخل معه طليطلة إلا حوالي مائة فارس 3.
لقد استمرّت المعركة يوماً واحداً لا غير، حطّم الله شوكة العدو ّالكافر، ونصر المسلمين، وأجزل لديهم نعمه، وأظهر بهم عنايته، وأجمل لديهم صنعه 4. وكلّ الدلائل (التي بيّناها) تشير أن خطّة أمير المسلمين كانت حسم المعركة بسرعة حتّى وإن كَثُرَت الخسائر، وذلك لاستغلال حماس المسلمين وقبل أن تفتر همة أمراء الطّوائف. وتحقّقت خطّته بأمر الله.
واستشهد عدد كبير من المسلمين بينهم عدد من العلماء الفضلاء وأعيان النّاس. ومن العلماء: ابن رميلة صاحب البشرى، وقد ترجم له ابن بشكوال في الصّلة 5فوصفه بأنه:"كان كثير الصّدقة وفعل المعروف، واستشهد بالزلاّقة مُقبلاً غير مدبر عام 479 هـ". واستشهد العالم أبو مروان عبد الملك المصمودي قاضي مرّاكش 6. والفقيه أبو رافع الفضل ولد الِحافظ العالم الأندلسي الفقيه الأديب أبي محمد بن حزم، قضى في معركة الزلاقة شهيداَ 7.
وهكذا كان العلماء على المقدّمة في كافّة الميادين، حصون الأمة وقادتها، ومثالها، قدوة للمسلمين، مثالاً صافياً نقيّاً دائماً، لا ينزوون عن الأحداث، ويبرزون في صفاء الجود والنّعمة، لا سيّما علماء القرآن الكريم والسنّة المطهرّة، وعلماء الشّريعة، والتّاريخ،
1 نفح الطيب جـ4 ص 368/ ابن خلكان جـ6 ص 116.
2 الحلل الموشية ص 43/ تاريخ المغرب الكبير ص 725.
3 نفح الطيب جـ4 ص 369/ الروض المعطار ص 93.
4 نفح الطيب جـ4 ص 367/ أعمال الأعلام جـ3 ص 244.
5 68 رقم 144/ وانظر نفح الطيب جـ4 ص 369/ الروض المعطار ص 93.
6 الروض المعطار ص 94- 95.
7 وفيات الأعيان جـ3 ص 329/ وقد حدّث عن والده: سير أعلام النبلاء جـ18 ص 186.