المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تحرير فتوى الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى - السلفيون وقضية فلسطين في واقعنا المعاصر

[مشهور آل سلمان]

الفصل: ‌تحرير فتوى الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى

‌تحرير فتوى الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى

-

نرتب فتوى الشيخ رحمه الله بأجزائها المتفرقة المؤتلفة في نقاط واحدة محددة (1) :

(1) هذه النقاط موجودة في كتاب «ماذا ينقمون من الشيخ» (ص 21-24) ، اطّلع عليها الشيخ وأقرها، وهذه صورة خطه بالإقرار:

ص: 18

- الهجرة والجهاد ماضيان إلى يوم القيامة.

- ليست الفُتيا مُوَجَّهةً إلى بلدٍ بعينِه، أو شَعْبٍ بذاتِه.

- وقد هاجر أشرف إنسان وأعظمه محمدٌ عليه الصلاة والسلام، من أشرف بُقعة وأعظمها؛ مكَّةَ المكرمة، وكلُّ إنسان -منذ خلق الناس وإلى الساعة- دون محمد عليه الصلاة والسلام منزلةً، وكل بقاع الأرض دونها شرفاً وقُدسيّةً.

- وتجب الهجرة حين لا يجد المسلمُ مُستَقَرّاً لدينه في أرض هو فيها امتُحن في دينه، فلم يعد في وُسعه إظهارُ ما كلَّفه اللهُ به من أحكام شرعيّةٍ، خَشْيَةَ أن يُفتَنَ في نفسه من بلاء يقع عليه، أو مسِّ أذى يُصيبُه في بدنه فينقلب على عَقِبَيه.

وهذه النقطة هي مناطُ الحُكم في فتوى الشيخ، والمُرتَكزُ الأساسُ فيها

- لو كانوا يعقلون! - وبها يرتبطُ الحُكمُ وجوداً ونفياً.

ولكن -وللأسف الشديد- قد غيَّبَ ذلك وأخفاهُ وكَتَمَهُ الناقِدون الحاقِدون الحاطِبون في مُحاضراتهم و (ملاحِمِهم) المنبريَّة الانتخابية!!

قال الإمامُ النَّووي في «روضة الطالبين» (10/282) :

«المسلم إذا كان ضعيفاً في دار الكُفر، لا يقدرُ على إظهار الدين حَرُمَ عليه الإقامةُ هناك، وتجبُ عليه الهجرةُ إلى دار الإسلام

» .

- وحين يجدُ المسلمُ موضعاً -داخل القطر الذي يعيش فيه- يأمنُ فيه على نفسه ودينِه وأهلِه، ويَنْأَى فيه عن الفِتنة التي حلَّت به في مدينته أو في قريته، فعليه -إن استطاع- أن يُهاجرَ إلى ذلك المكان داخلَ قُطره نفسِه، وهذا أَوْلى -ولا شك- مِن أن يُهاجِرَ إلى خارج قُطرِه، إذ يكون أقربَ إلى بلده لِيُسرعَ بالرجوع إليه بعد زوال السببِ الذي من أجله هاجر.

ص: 19

وهذه نقطة أخرى -أيضاً- قد غيَّبها أولئك (القوم) الذين لم يَرْقبُوا في الشَّيخ، والعلمِ، والنّاسِ، إلاًّ ولا ذِمَّةً

- إذن؛ فالهجرةُ كما أنَّها مشروعةٌ من قُطر إلى قُطر، فهي مشروعةٌ مِن قرية أو مِن مدينة إلى قرية أو مدينةٍ داخل القُطر نفسه، والمهاجرُ يعرفُ مِن نفسِه ما لا يعرفُه منه غيرُه.

وهذا -ثالثاً- قد غيَّبه أولئك المُهَرِّجون على المنابر، والراقصون على الصحائف! زاعمين أنَّ الشَّيخَ يأمُرُ أهلَ فلسطين بالخروج منها!! نعم؛ هكذا

-واللهِ- من غير تفصيلٍ أو بيان!! ولكن:

فما يَبْلُغُ الأعداءُ مِن جاهِلٍ

مَا يَبْلُغُ الجاهِلُ مِن نَفْسِه!

- والهجرةُ من قُطرٍ إلى قُطر لا تُشرَعُ إلاّ بدواعيها وأسبابها مِن مثل ما كرنا في فقرة مَضَتْ؛ ومن أعظم هذه الأسباب: أن تكون الهجرةُ للإعداد واتِّخاذ الأُهبة التي أمر الله بها {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ

} ؛ لإجلاء الأعداء عن أرضٍ مِن أرضِ المسلمين، وتَخليصِها من أيديهم؛ ليعودَ إليها حُكمُ الإسلام كما كان مِنْ قَبلُ.

فالهجرةُ -إذن- من الإعداد الذي أمر اللهُ به وحَضَّ عليه، ومَنْ أبطأ فيها -وقد تَهَيَّأت أسبابُها ودواعيها- فقد عصى اللهَ، ونأَى بجانبِه عن أمره.

فإِنْ عَلِمَ المسلمُ أو المسلمون أنَّهم ببقائهم في ديارهم يزدادون وَهْناً إلى وَهْن وضَعفاً إلى ضعف، وأنَّهم إنْ هاجروا ذهبَ الوَهْنُ عنهم، وزال الضَّعفُ منهم، وبَقُوا -بعد علمهم هذا- ولم يُهاجروا -إن استطاعوا-؛ فهم آثمون عاصون أَمرَ الله، ورُبَّما عُوقبوا بمعصيتهم هذه عقوبةً أعظمَ وأشدَّ نُكراً، تتلاشى فيها شخصيتُهم، وتغيبُ معها صورتُهم، وتَضِلُّ بها عقيدتُهم، ثم لا يجدون لهم من دون الله وليّاً ولا نصيراً.

وما صار إليه المسلمون في الأندلس، وفي غيرها من البلاد، شاهدٌ منظورٌ

ص: 20

يقُص علينا من نبئه ما يبعث مَنسِيَّ الشَّجَن، ويُنسي لذَّة الوَسَن، يُذَكِّر محظورَ السُّنن! فهل مِن مُدَّكِر؟

- ومِمّا لا شك فيه -مما كتمه -أيضاً- ناقلو الفُتيا المُشِيعون لها- أنَّ هذا كلَّه مَنُوطٌ بالقدرة والاستطاعة؛ لقوله -تعالى-: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} ، ولقوله -سبحانه-:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم} ، فإن لم يَجِد المسلمُ أرضاً يأوي إليها غير الأرض التي هو فيها؛ يَأمَنُ فيها على دينه، وينجو من الفتنة الواقع فيها، أو حيلَ بينه وبين الهجرة بأسباب مانعةٍ قاهرةٍ لا يستطيعُ تذليلَها، أو استوت الأرضُ كلُّها في الأسباب والدَّواعي الموجبة للهجرة، أو عَلِمَ في نفسه أنَّ بقاءَه في أرضه آمَنُ لدينه ونفسِه وأهلِه، أو لم يكن من مُهاجَر إلاّ إلى أرض يُحكَم فيها بالكُفر الصُّراح علانيةً، أو كان بقاؤه في أرضه المأذونِ له بالهجرة منها مُحَقِّقاً مصلحةً شرعيّةً، سواءٌ أكانت هذه المصلحةُ للأمَّة، أم بإخراج أهل الكفر من كفرهم، وهو لا يخشى الفتنةَ على نفسه في دينه، فهو في هذه الأحوال كلِّها، وفي الأحوال التي تُحاكيها، ليس في وُسعه إلا أن يبقى مُقيماً في أرضه، ويُرجَى له ثوابُ المهاجرين، فراراً بدينهم، وابتغاءَ مرضاةِ ربِّهم.

قال الإمامُ النَّوويُّ في «الرَّوضة» (10/282) -مُتَمِّماً كلامه الذي نقلتُه عنه-قَبْلُ-:

«

فإن لم يَقْدِر على الهجرة فهو مَعذورٌ إلى أن يَقدِرَ» .

- ويُقالُ في أهل فلسطينَ -خصوصاً- ما يُقال في مثل هؤلاء جميعاً، فلقد سُئل الشيخُ -حفظه الله- عن بعض أهل المدن التي احتلّها اليهود عام 1948م، وضَرَبوا عليها صبغةَ الحُكم اليهودي بالكليّة، حتى صار أهلُها فيها إلى حالٍ من الغُربة المُرْمِلَةِ في دينهم، وأضْحَوا فيها عَبَدَةً أذلاّءَ؟ فقال: هل في قُرى فلسطين أو في مُدُنِها قريةٌ أو مدينةٌ يستطيع هؤلاء أن يَجِدُوا فيها دينَهم،

ص: 21

ويتخذوها داراً يدرءون فيها الفتنةَ عنهم؟ فإن كان؛ فعليهم أن يُهاجروا إليها، ولا يخرجوا من أرض فلسطين، إذ إنَّ هِجرَتَهم من داخلِها إلى داخلِها أَمرٌ مَقْدُورٌ عليه، ومُحَقِّقٌ الغايةَ من الهجرة.

وهذا تحقيقٌ علميٌّ دقيقٌ يَنقُضُ زَعمَ مَنْ شَوَّشَ وهَوَّشَ مُدَّعياً أنَّ في فُتيا الشيخ إخلاءً لأرض فلسطين من أَهلِها، أو تنفيذاً لِمُخَطَّطاتِ يهود!! {مَا لَكُم كَيْفَ تَحْكُمُونَ} » .

أُفٍّ لكم أيُّها الناقدون الحاقدون! هل علمتم هذا التَّفصيلَ أم جهلتموه؟! إن كنتم علمتوه فَلِمَ أَخفَيتُموه وكَتَمتُموه؟!

وإنْ كنتُم جهلتموه! فلماذا رَضِيتُم لأنفسكم الجهلَ، وللشيخ الظُّلمَ، وللناس التَّضليلَ؟!

أم أنَّ هذه تجارتُكم تَخشَوْنَ كسادَها؟! بِئسَتِ البضاعةُ، وبئست التجارةُ!

- وَليَعلَمِ المسلمُ أنَّ الحِفاظَ على الأرض والنَّفس، ليس أولى من الحفاظ على الدين والعقيدة، بل إنَّ استلابَ الأرضِ -مِمَّن يظلُّ مُقيماً فيها رجاءَ الحفاظ عليها، غيرَ واضعٍ في حسابه الحفاظَ على دينه أولاً- قد يكون أَيسَرَ، وأشدَّ إيذاءً، وأعظمَ فتنةً.

والعدوُّ الكافر الذي يحتلُّ أرضاً -وأهلُها مُقيمون فوقَها- يملكُ الأرضَ ومَن عليها وما عليها، فالكفرُ لا يَحفظُ للإسلام عهداً، ولا يرعى للمسلمين إلاًّ ولا ذمَّة، ولا يُقيم لهم في أرضهم وخارج أرضهم وَزناً.

قال أبو عبيدة: وتكلم الشيخ -رحمه الله تعالى- على هذه المسألة بإسهاب في كتابه «السلسلة الصحيحة» عند حديث رقم (2857)، وهذا نصه:

«إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله، وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وفارقتم المشركين، وأعطيتم من الغنائم الخمس وسهم النبي صلى الله عليه وسلم،

ص: 22

.. والصفي (1) -وربما قال: وصفيَّة-؛ فأنتم آمنون بأمان الله وأمان رسوله» (2) .

وتعرض للفتنة التي ألمت به، وصرح بموقفه من المسألة ببيانٍ ناصع، وحجة واضحة، وشدّ فهمه للنصوص بكلام بعض العلماء المحققين، وهذا كلامه بحرفه ونصّه وفصّه:

«قلت: في هذا الحديث بعض الأحكام التي تتعلق بدعوة الكفار إلى الإسلام، من ذلك: أن لهم الأمان إذا قاموا بما فرض الله عليهم، ومنها: أن يفارقوا المشركين ويهاجروا إلى بلاد المسلمين، وفي هذا أحاديث كثيرة، يلتقي كلها على حضّ من أسلم على المفارقة، كقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، لا تتراءى نارهما» ، وفي بعضها أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط على بعضهم في البيعة أن يفارق المشرك، وفي بعضها قوله صلى الله عليه وسلم:

«لا يقبل الله عز وجل من مشرك بعد ما أسلم عملاً، أو يفارق المشركين إلى المسلمين» .

إلى غير ذلك من الأحاديث، وقد خرجت بعضها في «الإرواء» (5/9-33) ، وفيما تقدم برقم (636) .

وإن مما يُؤْسَفُ له أشد الأسف، أن الذين يُسْلمون في العصر الحاضر

-مع كثرتهم والحمد لله- لا يتجاوبون مع هذا الحكم من المفارقة، وهجرتهم

(1)(الصَّفِيّ) : ما كان صلى الله عليه وسلم يصطفيه ويختاره من عرض المغنم من فرس أو غلام أو سيف، أو ما أحب من شيء، وذلك من رأس المغنم قبل أن يخمَس، كان صلى الله عليه وسلم مخصوصاً بهذه الثلاث (يعني المذكورة في الحديث: الخمس والسهم والصفي) عقبة وعوضاً عن الصدقة التي حرمت عليه. قاله الخطابي. (منه) .

(2)

أخرجه عبد الرزاق (4/300/7857) ، وأحمد (5/77، 78) ، والخطابي في «غريب الحديث» (4/236) ، والبيهقي (6/303 و9/13) ، وإسناده صحيح على شرط الشيخين. (منه) .

ص: 23

إلى بلاد الإسلام، إلا القليل منهم، وأنا أعزو ذلك إلى أمرين اثنين:

الأول: تكالبهم على الدنيا، وتيسّر وسائل العيش والرفاهية في بلادهم بحكم كونهم يعيشون حياة مادية ممتعة، لا روح فيها، كما هو معلوم، فيصعب عليهم عادة أن ينتقلوا إلى بلد إسلامي قد لا تتوفر لهم فيه وسائل الحياة الكريمة في وجهة نظرهم.

والآخر -وهو الأهم-: جهلهم بهذا الحكم، وهم في ذلك معذورون، لأنهم لم يسمعوا به من أحد من الدعاة الذين تذاع كلماتهم مترجمة ببعض اللغات الأجنبية، أو من الذين يذهبون إليهم باسم الدعوة؛ لأن أكثرهم ليسوا فقهاء، وبخاصة منهم جماعة التبليغ، بل إنهم ليزدادون لصوقاً ببلادهم، حينما يرون كثيراً من المسلمين قد عكسوا الحكم بتركهم لبلادهم إلى بلاد الكفار! فمن أين لأولئك الذين هداهم الله إلى الإسلام أن يعرفوا مثل هذا الحكم والمسلمون أنفسهم مخالفون له؟!

ألا فليعلم هؤلاء وهؤلاء أن الهجرة ماضية كالجهاد، فقد قال s:«لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل» ، وفي حديث آخر:«لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» ، وهو مخرج في «الإرواء» (1208) .

ومما ينبغي أن يعلم، أن الهجرة أنواع ولأسباب عدة، ولبيانها مجال آخر، والمهم هنا الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام مهما كان الحكام فيها منحرفين عن الإسلام، أو مقصرين في تطبيق أحكامه، فهي على كل حال خير بما لا يوصف من بلاد الكفر أخلاقاً وتديناً وسلوكاً، وليس الأمر -بداهة- كما زعم أحد الجهلة الحمقى الهوج من الخطباء:

«والله لو خُيّرت أن أعيش في القدس تحت احتلال اليهود وبين أن أعيش في أي عاصمة عربية، لاخترت أن أعيش في القدس تحت احتلال

ص: 24

اليهود» ! وزاد على ذلك، فقال ما نصّه:

«ما أرى إلا أن الهجرة واجبة من الجزائر إلى (تل أبيب) » !!

كذا قال فضّ فوه، فإن بطلانه لا يخفى على مسلم مهما كان غبياً! ولتقريب ما ذكرت من الخيرية إلى أذهان القراء المحبين للحق الحريصين على معرفته واتباعه، الذين لا يهولهم جعجعة الصائحين، وصراخ الممثلين، واضطراب الموتورين من الحاسدين والحاقدين من الخطباء والكاتبين:

أقول لأولئك المحبين: تذكروا على الأقل حديثين اثنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم:

أحدهما: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» .

أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.

والآخر: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون» ، وهو حديث صحيح متواتر رواه جماعة من الصحابة، وتقدم تخريجه عن جمع منهم برقم (270 و1108 و1955 و1956) ، و «صحيح أبي داود» (1245)، وفي بعضها أنهم «أهل المغرب» ؛ أي: الشام، وجاء ذلك مفسراً عند البخاري وغيره عن معاذ، وعند الترمذي وغيره مرفوعاً بلفظ:

«إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم، ولا تزال طائفة من أمتي

» الحديث.

وفي هذه الأحاديث إشارة قوية إلى أن العبرة في البلاد إنما هي بالسكان وليس بالحيطان، وقد أفصح عن هذه الحقيقة سلمان الفارسي رضي الله عنه حين كتب أبو الدرداء إليه: أن هلم إلى الأرض المقدسة، فكتب إليه سلمان:«إن الأرض المقدسة لا تقدس أحداً، وإنما يقدس الإنسانَ عملُه» (1) .

(1) قال أبو عبيدة: رواه ابن أبي شيبة في «المصنف» (1/182 - ط. دار الفكر) ، = =وأبو القاسم البغوي -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/150) -، وعبد الله ابن أحمد في «زوائد الزهد» (2/90 - ط. دار النهضة) ، وعنه وكيع في «أخبار القضاة» (3/200) ، وأبو نعيم في «الحلية» (1/205)، والدينوري في «المجالسة» (رقم 1238 - بتحقيقي) -ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/150 - ط. دار الفكر) - عن يحيى بن سعيد الأنصاري: أن أبا الدرداء كتب إلى سلمان الفارسي: أن هلم إلى الأرض المقدسة، فكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تقدس أحداً

ثم ذكر كلاماً، وبعضهم اختصره.

وهذا إسناد منقطع، يحيى بن سعيد لم يدرك القصة.

قال أبو نعيم: رواه جرير، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن هبيرة: أن سلمان كتب إلى أبي الدرداء، نحوه.

أقول: هذا سند ظاهرهُ الاتصال، عبد الله بن هُبيرة هذا من الثقات، وظاهره أنه أدرك سلمان، لكن سلمان مات في حدود (35-40هـ) ، وهذا مات سنة (126) ، وله خمس وثمانون سنة، فهو لم يدرك سلمان قطعاً.

ورواه أبو نعيم -أيضاً- من طريق مالك بن دينار: أن سلمان كتب إلى أبي الدرداء

وهذا إسناد منقطع -أيضاً-.

ص: 25

(موطأ مالك 2/235) .

ولذلك فمن الجهل المميت والحماقة المتناهية -إن لم أقل وقلِّة الدين- أن يختار خطيب أخرق الإقامة تحت الاحتلال اليهودي، ويوجب على الجزائريين المضطهدين أن يهاجروا إلى (تل أبيب) ، دون بلده المسلم (عمّان) مثلاً، بل دون مكة والمدينة، متجاهلاً ما نشره اليهود في فلسطين بعامة، و (تل أبيب) و (حيفا) و (يافا) بخاصة من الفسق والفجور والخلاعة، حتى سرى ذلك بين كثير من المسلمين والمسلمات بحكم المجاورة والعدوى، مما لا يخفى على من ساكنهم، ثم نجاه الله منهم، أو يتردد على أهله هناك لزيارتهم في بعض الأحيان.

وليس بِخَاف على أحد أوتي شيئاً من العلم ما في ذاك الاختيار من

ص: 26

المخالفة لصريح قوله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً. إِلَاّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً. فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 97-100] .

قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» (1/542) :

«نزلت هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكناً من إقامة الدِّين، فهو ظالم لنفسه، مرتكب حراماً بالإجماع، وبنص هذه الآية» .

وإن مما لا يشكُّ فيه العالم الفقيه، أن الآية بعمومها تدل على أكثر من الهجرة من بلاد الكفر، وقد صرَّح بذلك الإمام القرطبي، فقال في «تفسيره» (5/346) :«وفي هذه الآية دليل على هجران الأرض التي يُعمل فيها بالمعاصي، وقال سعيد بن جبير: إذا عُمل بالمعاصي في أرض فاخرج منها، وتلا: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} » .

وهذا الأثر رواه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/174/1) بسند صحيح عن سعيد، وأشار إليه الحافظ في «الفتح» ، فقال (8/263) :«واستنبط سعيد ابن جبير من هذه الآية وجوب الهجرة من الأرض التي يعمل فيها بالمعصية» .

وقد يظن بعض الجهلة من الخطباء والدكاترة والأساتذة، أن قوله صلى الله عليه وسلم:«لا هجرة بعد الفتح» (1) ناسخ للهجرة مطلقاً، وهو جهل فاضح بالكتاب

(1) متفق عليه، وهو مخرج في «الإرواء» (1057) . (منه) .

ص: 27

والسنة وأقوال الأئمة، وقد سمعت ذلك من بعض مدعي العلم من الأساتذة في مناقشة جرت بيني وبينه، بمناسبة الفتنة التي أثارها عليّ ذلك الخطيب المشار إليه آنفاً، فلما ذكرته بالحديث الصريح في عدم انقطاع التسوية المتقدم بلفظ: «لا تنقطع الهجرة

» إلخ

لم يحر جواباً!

وبهذه المناسبة أنقل إلى القراء الكرام ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في الحديثين المذكورين، وأنه لا تعارض بينهما، فقال في «مجموع الفتاوى» (18/ 281) :

«وكلاهما حق، فالأول أراد به الهجرة المعهودة في زمانه؛ وهي الهجرة إلى المدينة من مكة وغيرها من أرض العرب؛ فإن هذه الهجرة كانت مشروعة لما كانت مكة وغيرها دار كفر وحرب، وكان الإيمان بالمدينة، فكانت الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام واجبة لمن قدر عليها، فلما فتحت مكة وصارت دار الإسلام، ودخلت العرب في الإسلام، صارت هذه الأرض كلها دار الإسلام، فقال: «لا هجرة بعد الفتح» ، وكون الأرض دار كفر ودار إيمان، أو دار فاسقين ليست صفة لازمة لها: بل هي صفة عارضة بحسب سكانها، فكل أرض سكانها المؤمنون المتقون هي دار أولياء الله في ذلك الوقت، وكل أرض سكانها الكفار فهي دار كفر في ذلك الوقت، وكل أرض سكانها الفساق فهي دار فسوق في ذلك الوقت، فإن سكنها غير ما ذكرنا، وتبدَّلت بغيرهم فهي دارهم.

وكذلك المسجد إذا تبدَّل بخمارة أو صار دار فسق أو دار ظلم أو كنيسة، يشرك فيها بالله كان بحسب سكانه، وكذلك دار الخمر والفسوق ونحوها إذا جعلت مسجداً يعبد الله فيه -جل وعز- كان بحسب ذلك، وكذلك الرجل الصالح يصير فاسقاً والكافر يصير مؤمناً أو المؤمن يصير كافراً أو نحو ذلك، كل بحسب انتقال الأحوال من حال إلى حال، وقد قال -تعالى-:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً} الآية، نزلت في مكة لما كانت دار كفر، وهي مازالت في نفسها خير أرض الله، وأحب أرض الله إليه، وإنما أراد سكانها،

ص: 28

فقد روى الترمذي مرفوعاً أنه قال لمكة وهو واقف بالحزورة: «والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن قومي أخرجوني منك لما خرجت» (1)، وفي رواية:«خير أرض الله وأحب أرض الله إلَيّ» ، فبيّن أنها أحب أرض الله إلى الله ورسوله، وكان مقامه بالمدينة ومقام من معه من المؤمنين أفضل من مقامهم بمكة لأجل أنها دار هجرتهم؛ ولهذا كان الرباط بالثغور أفضل من مجاورة مكة والمدينة، كما ثبت في «الصحيح» :«رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطاً مات مجاهداً وجرى عليه عمله، وأجرى رزقه من الجنة، وأمن الفتان» (2) .

وفي «السنن» عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل» (3) .

وقال أبو هريرة (4) : لأن أرابط ليلة في سبيل الله، أحب إلي من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود. ولهذا كان أفضل الأرض في حق كل إنسان أرضٌ يكون فيها أَطْوَعَ لله ورسوله، وهذا يختلف باختلاف الأحوال، ولا تتعين أرض يكون مقام الإنسان فيها أفضل، وإنما يكون الأفضل في حق كل إنسان بحسب التقوى والطاعة والخشوع والحضور، وقد كتب أبو الدرداء إلى سلمان: هلم إلى الأرض المقدسة! فكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تقدس أحداً، إنما يقدس العبدَ عملُه. وكان النبي s قد آخى بين سلمان وأبي

(1) إسناده صحيح، وهو مخرج في «المشكاة» (2725) . (منه) .

(2)

رواه مسلم وغيره، وهو مخرج في «الإرواء» (1200) . (منه) .

(3)

قلت: وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم والذهبي، وهو مخرج في تعليقي على «المختارة» (رقم 307) . (منه) .

(4)

بل هو مرفوع، كذلك رواه ابن حبان وغيره بسند صحيح، وهو مخرج في «الصحيحة» (1068) . (منه) .

ص: 29

الدرداء، وكان سلمان أفقه من أبي الدرداء في أشياء من جملتها هذا.

وقد قال الله -تعالى- لموسى عليه السلام: {سُأُرِيكُم دَارَ الفَاسِقِينَ} وهي الدار التي كان بها أولئك العمالقة، ثم صارت بعد هذا دار المؤمنين، وهي الدار التي دل عليها القرآن من الأرض المقدسة، وأرض مصر التي أورثها الله بني إسرائيل، فأحوال البلاد كأحوال العباد، فيكون الرجل تارة مسلماً وتارة كافراً، وتارة مؤمناً، وتارة منافقاً، وتارة برّاً تقياً، وتارة فاسقاً، وتارة فاجراً شقيّاً.

وهكذا المساكن بحسب سكانها، فهجرة الإنسان من مكان الكفر والمعاصي إلى مكان الإيمان والطاعة؛ كتوبته وانتقاله من الكفر والمعصية إلى الإيمان والطاعة، وهذا أمر باق إلى يوم القيامة، والله -تعالى- قال:{وَالَّذِينَ آمَنُواْ [مِن بَعْدُ] وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ} [الأنفال: 75] .

قالت طائفة من السلف: هذا يدخل فيه من آمن وهاجر وجاهد إلى يوم القيامة، وهكذا قوله -تعالى-:{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 110](1) يدخل في معناها كل من فتنه الشيطان عن دينه أو أوقعه في معصية، ثم هجر السيئات وجاهد نفسه وغيرها من العدو، وجاهد المنافقين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك، وصبر على ما أصابه من قول أو فعل. والله سبحانه وتعالى أعلم» .

فأقول: هذه الحقائق والدرر الفرائد من علم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، يجهلها جهلاً تاماً أولئك الخطباء والكتّاب والدكاترة المنكرون لشرع الله {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} ، فأمروا الفلسطينيين بالبقاء

(1) وقع في هذه الآية خطأ مطبعي في الأصل، كما سقط منه ما بين المعقوفتين في الآية. (منه) .

ص: 30

في أرضهم وحرموا عليهم الهجرة منها، وهم يعلمون أن في ذلك فساد دينهم ودنياهم، وهلاك رجالهم وفضيحة نسائهم، وانحراف فتيانهم وفتياتهم، كما تواترت الأخبار بذلك عنهم بسبب تجبّر اليهود عليهم، وكبسهم لدورهم والنساء في فروشهن، إلى غير ذلك من المآسي والمخازي التي يعرفونها، ثم يتجاهلونها تجاهل النعامة الحمقاء للصياد! فيا أسفي عليهم إنهم يجهلون، ويجهلون أنهم يجهلون، كيف لا وهم في القرآن يقرؤون:{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلَاّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} !

وليت شعري ماذا يقولون في الفلسطينيين الذين كانوا خرجوا من بلادهم تارة باسم لاجئين، وتارة باسم نازحين، أيقولون فيهم: إنهم كانوا من الآثمين، بزعم أنهم فرغوا أرضهم لليهود؟! بلى. وماذا يقولون في ملايين الأفغانيين الذين هاجروا من بلدهم إلى (بشاور) ، مع أن أرضهم لم تكن محتلة من الروس احتلال اليهود لفلسطين؟!

وأخيراً

ماذا يقولون في البوسنيين الذين لجأوا في هذه الأيام إلى بعض البلاد الإسلامية، ومنها الأردن، هل يحرِّمون عليهم -أيضاً- خروجهم، ويقول فيهم -أيضاً- رأس الفتنة:«يأتون إلينا؟ شو بساووا هون؟!» .

إنه يجهل -أيضاً- قوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ، أم هم كما قال -تعالى- في بعضهم:{يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً} ؟!

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً

ويأتيك بالأنباء من لم تزود»

انتهى.

قال أبو عبيدة:

متى أفتى العالم المشهود له بالعلم من قبل المعتبرين، واستخدم قواعد

ص: 31

العلماء في الاستنباط، ولم يصادم نصّاً صريحاً صحيحاً، ولم يخرق إجماعاً معتبراً، فقوله يدور بين الأجر والأجرين، ولا يجوز أن يتَّهم في نيّته، وأن يسفّه رأيه، وإنما يناقش مناقشة علمية، بالحجّة والبرهان، وتراعى حرمته ومنزلته، ولا تهدر حسناتُه وجهوده (1) .

(1) الأمثلة على ذلك كثيرة؛ من أشهرها: ما حازه أهل الحرب من أموال المسلمين على وجه الإغارة، فإذا أسلم من هو في يده، كان ملكاً له، ولم يكن لمالكه الأول من المسلمين اعتراض عليه فيه.

هذا مذهب المالكية.

انظر: «المدونة» (1/378-379) ، «التفريع» (1/358) ، «الإشراف» (3/421-422 رقم 1741 - بتحقيقي) ، «الرسالة» (190) ، «المعونة» (1/608) ، «أسهل المدارك» (2/14) ، «قوانين الأحكام» (171) ، «بداية المجتهد» (1/398) ، «الذخيرة» (3/441) ، «عقد الجواهر الثمينة» (1/474) .

وهذا مذهب الحنفية.

انظر: «السير الكبير» (4/1279) ، «القدوري» (114) ، «تحفة الفقهاء» (3/523) ، «بدائع الصنائع» (9/4356) ، «البناية» (5/753) ، «فتح القدير» (6/3) ، «الاختيار» (4/133) ، «تبيين الحقائق» (3/260) ، «البحر الرائق» (5/102) ، «رؤوس المسائل» (360) .

بينما قال الشافعية: هو باق على ملك المسلم، وله أخذه منه بغير عوض.

انظر: «مختصر المزني» (273) ، «المهذب» (2/243) ، «المجموع» (21/218) ، «حلية العلماء» (7/661) ، «روضة الطالبين» (10/293، 294، 335) ، «مختصر الخلافيات» (5/51 رقم 317) .

وهذا مذهب الحنابلة.

انظر: «مسائل أحمد» (243) لأبي داود، «المغني» (13/117، 121) ، «الإنصاف» (4/159) ، «تنقيح التحقيق» (3/342) ، «منتهى الإرادات» (1/ 638-640) ، «تقرير القواعد» (3/412-414 - بتحقيقي) ، «ذيل طبقات الحنابلة» (1/120) .

=

= ووجهة نظر المالكية والحنفية أنّ للكفار شبهة ملك على ما حازوه من أموال المسلمين، يدل عليه قوله -تعالى-:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ} [الحشر: 8] ، فسماهم فقراء بعد هجرتهم وتركهم ديارهم وأموالهم، ولأنه لا خلاف أنهم لو استهلكوه، ثم أسلموا، لم يضمنوه، ولو أتلفه مسلم على صاحبه للزمه غرمه، فدل ذلك على ثبوت شبهة الملك المشترك.

فلا يجوز لعاقل -فضلاً عن طالب علم- أن يتّهم الحنفية والمالكية بـ (التفريط في بلاد المسلمين) ، وأنهم يقرّون (استيلاء اليهود على فلسطين) ، وما شابه من العبارات التي لا تصدر إلا عن (الموتورين) !! (المتعالمين) !!

نعم، بلا شك أن الراجح مذهب الشافعية والحنابلة؛ لما أخرجه مسلم في «صحيحه» (رقم 1641)، وأحمد في «مسنده» (4/430) -والمذكور لفظه- وغيرهما:«عن عمران بن حصين، قال: كانت العضباء لرجل من بني عقيل، وكانت من سوابق الحاج، فأسر الرجل وأخذت العضباء، فحبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم لرحله، ثم إن المشركين أغاروا على سرح المدينة، وكانت العضباء فيه، وأسروا امرأة من المسلمين، فكانوا إذا نزلوا أراحوا إبلهم بأفنيتهم، فقامت المرأة ذات ليلة بعدما ناموا، فجعلت كلما أتت على بعير رغا، حتى أتت على العضباء، فأتت على ناقة ذلول فركبتها، ثم وجهتها قبل المدينة، ونذرت إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فلما قدمت المدينة عرفت الناقة، وقيل: ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بنذرها، أو أتته فأخبرته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بئس ما جزتها إن الله أنجاها عليها لتنحرنها» ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا وفاء في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم» .

فلو ملكها المشركون ما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبطل نذرها، وقد بحث هذه المسألة أستاذنا فتحي الدريني في كتابه «المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي» (1/289-291) ، وردها على أصولها وبينها أحسن بيان، قال -حفظه الله-: «ولخطورة هذه المسألة، وأهميتها البالغة في كل من العلاقات الدولية والقانون الدولي العام، لا بد أن نقرر ما هو الحق فيها، مؤيداً بالأدلة، وبروح التشريع الإسلامي.

إن منطق القوة لم يعهد في الشرع مزيلاً ليد محقَّة، ومقرراً ليد مبطلة، لأنه محض بغي وعدوان، وذلك بالبداهة لا يصلح سنداً للملكية؛ لكونه محرماً في الشريعة تحريماً قاطعاً.

ولو أقر مبدأ العدوان هذا، لانخرم أصل الحق والعدل، ولاضطرب حبل الأمن في العالم كله، وما أنزلت الشرائع، وأرسل الرسل، إلا لاجتثاث أصول العدوان، ولإقرار= =الحق والعدل بين البشر؛ لقوله -تعالى-:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] .

وأيضاً؛ لو كان الاستيلاء القهري بقوة السلاح من قبل الأعداء وسيلة معترفاً بها شرعاً، لامتلاكهم أموال المسلمين، واستيطان ديارهم بعد إخراجهم منها، لما وجب الجهاد -في مثل هذه الحالة- فرضاً عينياً على كل قادر على حمل السلاح رجالاً ونساءً، بالإجماع، من أجل استرداد ما استولى عليه العدو عنوة! والله -تعالى- يقول:{وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191] .

[ونظير هذا في عصرنا الحاضر، استيلاء اليهود على الأراضي العربية، عدواناً وظلماً بعد إخراج أهلها منها.

هذا والاستيلاء والأحراز، عهد طريقاً مكسباً للملكية الفردية في المبادلة، وذلك تشجيعاً للجهد الإنساني الفردي للانتفاع بما وجد في الطبيعة من خيرات واستثمارها، وذلك معقول؛ لأن من بذل جهداً فاجتنى مما وجد في الطبيعة من خير مباح لا مالك له، كان أولى من غيره بامتلاكه، ممن لم يبذل أدنى مشقة في هذا السبيل، وهذا أمر وراء استلاب الحقوق والثروات، واغتصاب الديار والأوطان بعد تشريد أهلها منها، بقوة السلاح] .

وقد تضافرت نصوص القرآن الكريم على وجوب دفع العدوان قبل وقوعه بالجهاد بالأنفس والأموال، وعلى وجوب إزالته بعد الوقوع، ولم يعهد أنه سبيل لتملك الأعداء ديار المسلمين وأموالهم.

قال -تعالى-: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] .

وإذا حرم الإسلام على أهله الاعتداء، فأحرى أن يحرم عدوان غيرهم عليهم، ولا يجعله سبيلاً لامتلاك أموالهم وديارهم!

وقال -تعالى-: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] .

لا يقال: إن الآية تدل على أن الله -تعالى- لن يجعل للأعداء سبيلاً على نفوس المسلمين دون أموالهم؛ لأنا نقول: إن كلمة «سبيلاً» نكرة في سياق النفي، فتعم كل سبيل؛ سواء أكان واقعاً على نفوسهم، أو أموالهم، أو ديارهم.

ولا يقال -كذلك-: إن الله لم يجعل للكافرين على المسلمين حجة؛ لأن الصيغة عامة فيجب إجراؤها على العموم -كما هو الأصل-، إذ لا دليل على التأويل أو التخصيص. =

=انظر: «كشف الأسرار» (1/68 وما بعدها) ، «التوضيح» (1/131 وما بعدها) ، «أصول السرخسي» (1/236) .

كذلك لا يقال: إنه لو كانت أموال المسلمين باقية على ملكهم، رغم إخراجهم من ديارهم، لأطلق عليهم القرآن الكريم كلمة «أبناء السبيل» ؛ وهم: من انقطعت بهم صلتهم بأموالهم لبعدهم عنها، ولم يسمهم «فقراء» ؛ فدل ذلك على أنهم فقراء حقيقة، قد زالت ملكيتهم عنها؛ لأنا نقول: إن ابن السبيل؛ هو: «المسافر» الذي انقطعت به الطريق، ونفد ماله، وله طماعية في الرجوع إلى بلده، لتمكنه من ذلك، وهذا مفهوم يختلف عمن أُخرج من دياره وأمواله عنوة، وليس في وسعه أن يعود إليها، لذا صح اعتباره كأنه فقير، أضف إلى ذلك أنهم قد توطنوا بالمدينة.

انظر: «كشف الأسرار» (1/69) ، «حاشية الإزميري على المرآة» (2/76) .

ووصفهم بكونهم فقراء مجازاً، لا يشعر بزوال ملكيتهم عن ديارهم وأموالهم، بل يفيد ثبوتها لهم، بقرينة إضافتها إليهم، ولأن في إطلاق هذه الكلمة عليهم، إثارة للتعطف الداعي إلى رعايتهم، وتدبير مصالحهم، والاهتمام بشؤونهم، تخفيفاً لوطأة الظلم عنهم، وتحقيقاً لما تقتضيه الأخوة نحوهم» .

قلت: وانظر نصرة هذا الاختيار في «أحكام أهل الذمة» لابن القيم (1/291) ، وهو اختيار ابن حزم وابن تيمية، انظر:«الاختيارات الفقهية» (ص 312) ، «المحلى» (7/301) ، «الفيء والغنيمة» (161-165) ، «نصب الراية» (3/433-435) ، «فتح الباري» (6/ 183) .

والشاهد من هذا: أن لازم المذهب ليس بلازم، ولا يجوز لصاحب الفهم السليم، والنفس المطمئنة، والعقل النيّر، أن يهجم على إلصاق (التُّهم) بـ (العلماء) ، وعدم مراعاة القواعد المعمول بها -قديماً وحديثاً- عند أهل العلم، وأن العالم إذا اتبع القواعد المسلوكة، وكان أهلاً فهو بين أجر واثنين، والموفق والسعيد من حفظ لسانه -ولا سيما في حق العلماء-، ومن حسّن الظن بالناس، ولا سيما الصلحاء، والله الموفق.

ص: 32

وبناءً عليه؛ فإن منزلة الشيخ الإمام المحدث العلامة محمد ناصر الدين الألباني غير خافية على كل من له عناية وصلة بالكتاب الشرعي، فضلاً عن طلبة العلم، أو المتخصصين في سائر العلوم، ولا سيما علم الحديث

ص: 35

النبوي (1) .

ومما يخفى على كثير من محبّيه، والمتتبعين لأخباره وأحواله: جهاده في فلسطين.

قال الشيخ زهير الشاويش -حفظه الله- في مقالة (2) له بعنوان: (نقاط يسيرة من سيرة عطرة للشيخ الألباني مع الحديث النبوي الشريف) بعد كلام:

«وحتى في الإعداد للجهاد في فلسطين، وقد أعدّ الشيخ ناصر نفسه لمقاومة الاستيطان الصهيوني، وكاد أن يصل إلى فلسطين، لولا المنع الحكومي للمجاهدين» .

قلت: وصل الشيخ فلسطين سنة 1948م، وصلّى في المسجد الأقصى، ورجع مرشداً دينياً للجيش السعودي بعد ما سموه بالنكسة، وقد تاهوا في الطريق، وله في تفصيل ذلك كتاب ماتع محفوظ، اسمه «رحلتي إلى نجد» (3) .

أفلا يشفع له عزمه وهمُّه هذا عند هؤلاء، ولم يكن ذلك -فيما نحسب، والله حسيبه- إلا دفاعاً عن المستضعفين في سبيل الله -تعالى-، أم أن منهج هؤلاء تصيُّد العيوب، والفَتْش عن القوادح، حتى تحول دون وصول دعوة الكتاب والسنة بفهم السلف إلى شباب الأُمَّة، وعلى أيّ: فالحقيقة قويّة، ولا بد

(1) فالعجب من واحد من طلبة علم الحديث الحائزين على (الماجستير) فيه، أخذ يضرب خبط عشواء -كعادته- في الرد على السلفيين والعلماء الربانيين، وينشر ذلك في الجرائد، ويطلع علينا بين الحين والحين بما يدهش ويثير الغرابة والتساؤل، ولا أعلم أن له مصلحة في ذلك سوى إرضاء من معه من الحزبيين الغارقين في التعصب لأمثال القرضاوي! حتى أنه لا يساويه ولا يدانيه -عنده- بأحد! وللتفصيل مقام آخر.

(2)

منشورة في مجلة «الفرقان» العدد (115)(ص 19) .

(3)

أخبرني الأخ نظام سكجها -حفظه الله- أن إحدى بناته (حفيدة الشيخ) ، انشغلت بنسخه عن أصول الشيخ رحمه الله، ولعله يظهر قريباً، يسر الله ذلك بمنه وكرمه.

ص: 36