المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ فتوى الشيخ المحدث محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله تعالى - السلفيون وقضية فلسطين في واقعنا المعاصر

[مشهور آل سلمان]

الفصل: ‌ فتوى الشيخ المحدث محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله تعالى

الغلام، وقال: باسم الله رب الغلام، صاح الناس كلهم، الرب رب الغلام، فحصل فيه إسلام أمة عظيمة، فلو حصل مثل هذه القصة لقلنا إن هناك مجالاً للاستدلال، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قصها علينا لنعتبر بها، لكن هؤلاء الذين يرون تفجير أنفسهم إذا قتلوا عشرة أو مئة من العدو، فإن العدو لا يزداد إلا حنقاً عليهم وتسمكاً بما هم عليه» (1) .

*‌

‌ فتوى الشيخ المحدث محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله تعالى

-

لشيخنا محدث هذا العصر محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله كلام حول حكم هذه العمليات، مفاده ومؤداه لا يخرج عما سبق تقريره في فتوى الشيخ ابن عثيمين (2) ، وقد أخطأ عليه كثير من الشانئين، فأكلوا لحمه، وأقاموا عليه الدنيا وما أقعدوها، كشأنهم في حرب الخليج، ولما هدأت الأحوال، تبيَّن لهم أن صنيعهم رماد، وأنهم علقوا الناس بسراب، وأنهم متعجِّلون، وهيهات لهم -في وقت الأحداث الجسام- أن يمسكوا ألسنتهم، لأنه لا وجود لهم إلا بها، ووجودهم صياح وعويل، دون ثمرة أو تأصيل، وزمن (العواطف) ولَّى أو كاد، ولن يبقى الوجود -إن شاء الله تعالى- إلا للأصيل، الذي أحكم تصوراته وأفعاله وأقواله بالدليل، على قواعد أهل العلم والتبجيل، وهذا أول النصر، لا سيما لهذا الجيل.

إن فتوى الشيخ -رحمه الله تعالى- تدور على الجواز بشروط، من أهمِّها: أن يقع تقدير المصالح المترتبة عليها من أمير للجيش، وإلا دبَّت الفوضى. وأن تقدير الشيخ رحمه الله في العمليات التي وقعت في (فلسطين) -أعادها الله إلى حضيرة الإسلام والمسلمين- لم تترتب عليها الآثار المتوخّاة في الشرع، ولهذا

(1) مجلة «الفرقان» الكويتية (العدد 79)(ص 18-19) ، وجريدة «الفرقان» الكويتية، 28 صفر/العدد (145)(ص 20) .

(2)

وفي كلامه رحمه الله زيادة شرط (بأمر قائد الجيش) ، كما سيأتي قريباً.

ص: 61

فهو يمنعها (1) ،

مع قوله -فيما سمعتُ منه-: «إنَّ مآل أصحابها إلى الله عز وجل، أرجو الله أن يتقبَّلهم» (2) .

وهذا نص كلامه -رحمه الله تعالى- في هذه العمليات:

السائل: بعض الجماعات تقر الجهاد الفردي مستدلة بموقف الصحابي أبي بصير، وتقوم بما يسمى بعمليات استشهادية (وأقول: انتحارية) ، فما حكم هذه العمليات؟

فأجاب الشيخ بالسؤال:

كم صار لهم

؟

(1) القول بأن الشيخ يمنع هذه العمليات من أصلها ليس صحيحاً، ومن أراد أن يحرر مذهب عالم أو باحث أو شيخ أو مفت، فعليه أن يرجع إلى كلام صاحبه دون واسطة، وأن يعمل على جمع ما ورد عنه، فإن تعذر؛ فالرجوع إلى العارفين به، ولا سيما أن للشيخ تلاميذ معروفين، وأما الاقتصار على كلام أو فتوى دون إحاطة، والتلويح به وتحميله ما لا يحتمل، وسياقه في معرض التنفير منه، ومن منهجه؛ فهذه من ألاعيب الحزبيين، وسرعان ما يظهر عواره، و (حبل الكذب قصير) ، وللكلام صلة تأتي في تعليقي على كلام الشيخ، والله المسدد..

(2)

مآل القائمين بهذه العمليات إلى الله عز وجل، ولا يجوز لأحد -كائن من كان- إلا أن يعلق الأمر هكذا، وتقدم هذا في كلام الشيخ ابن عثيمين -أيضاً-، ويقول الشيخ صالح السدلان -حفظه الله- بعد تقريره المنع:«ثم نأتي على بعض الصور من الأعمال الانتحارية، التي يقوم بها بعض المسلمين بقصد إغاظة العدو، وإن كان فعله لا يقدم ولا يؤخر، ولكن مع كثرة هذا الفعل ربما يضعف العدو أو يخيفه، كما قد يحدث في الأعمال الانتحارية التي لم تحقق من الأهداف ولا خمسة في المئة من هدف المنتحرين، فهذا العمل الذي يقوم به بعض الأشخاص يختلف من شخص لآخر، فربما يكون هذا الذي= =يقوم بعمل فدائي انتحاري يكون قد أثّر عليه من قبل من يرى ذلك، فيدخل بنية أنه مقاتل ومجاهد ومدافع عن مبدأ أو شعار أو غير ذلك، فإن كان هذا المبدأ حقاً، وهذا المنتحر إنما اعتمد على من يقول بجواز ذلك فقد لا يسمى هذا قاتلاً لنفسه؛ لأنه معذور بسبب ما يقال ويسمع» . انظر جريدة «الفرقان» (العدد 145)(ص 21) .

ص: 62

السائل: أربع سنوات.

فقال الشيخ ناصر: ربحوا أم خسروا؟

السائل: خسروا.

فقال الشيخ ناصر: من ثمارهم يعرفون (1) .

السائل: بالنسبة للعمليات العسكرية الحديثة، فيه قوات تسمى بالكوماندوز، فيكون فيه قوات للعدو تضايق المسلمين، فيضعون فرقة انتحارية تضع القنابل ويدخلون على دبابات العدو، ويكون هناك قتل

فهل يعد هذا انتحاراً؟

الجواب: لا يعد هذا انتحاراً؛ لأنّ الانتحار؛ هو: أن يقتل المسلم نفسه خلاصاً من هذه الحياة التعيسة

أما هذه الصورة التي أنت تسأل عنها، فهذا ليس انتحاراً، بل هذا جهاد في سبيل الله

إلا أن هناك ملاحظة يجب الانتباه لها، وهي أن هذا العمل لا ينبغي أن يكون فردياً شخصياً، إنما هذا يكون بأمر قائد الجيش

فإذا كان قائد الجيش يستغني عن هذا الفدائي، ويرى أن في خسارته ربح كبير من جهة أخرى، وهو إفناء عدد كبير من المشركين والكفار، فالرأي رأيه ويجب طاعته، حتى ولو لم يرض هذا الإنسان فعليه الطاعة

الانتحار من أكبر المحرمات في الإسلام؛ لأنّ ما يفعله إلا غضبان على ربه ولم يرض بقضاء الله

أما هذا فليس انتحاراً، كما كان يفعله الصحابة يهجم الرجل على جماعة (كردوس) من الكفار بسيفه، ويعمل فيهم بالسيف حتى يأتيه الموت، وهو صابر؛ لأنه يعلم أن مآله إلى الجنة

فشتان بين من يقتل نفسه بهذه الطريقة الجهادية وبين من يتخلص من حياته بالانتحار، أو يركب رأسه ويجتهد بنفسه، فهذا يدخل في باب إلقاء النفس في التهلكة (2) . (ا. هـ)

(1) سلسلة «الهدى والنور» (شريط 527) .

(2)

سلسلة «الهدى والنور» (شريط 134) .

ص: 63

كما نعرض هنا لنص الفتوى التي أفتى بها الشيخ ناصر الدين الألباني، رداً على سؤال وجه إليه حول العمليات، فأجاب رحمه الله:«إن العمليات الانتحارية التي تقع اليوم تجوز ولا تجوز» ، وتفصيل هذا الكلام الذي يوهم التناقض ظاهر أنها تجوز في النظام الإسلامي، في الجهاد الإسلامي، الذي يقوم على أحكام الإسلام، ومن هذه الأحكام أن لا يتصرف الجندي برأيه الشخصي، وإنما يأتمر بأمر أميره؛ لأنّ النبي s كان يقول:«من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني» ، فإذا كان هناك -ونرجو أن يكون قريباً- جهاد إسلامي، على النظام الإسلامي وأميره لا يكون جاهلاً، وإنما يكون عالماً بالإسلام، خاصة الأحكام المتعلقة بالجهاد في سبيل الله، هذا القائد أو هذا الأمير المفروض أنه يعرف، وأخذ مخطط ساحة المعركة وتصورها في ذهنه تماماً، يعرف -مثلاً- إذا كانت هناك طائفة من الجيش لها نكاية في الجيش الإسلامي، ورأى أن يفادي بجزء من جنوده. ثم قال: وهذا مثال، وأنا لست عسكرياً، لكن الإنسان يستعمل عقله، فكلنا يعلم أن الجنود ليسوا في البسالة والشجاعة سواء، وليسوا في مرتبة واحدة في معرفة أصول القتال وأحكام القتال، فأنا أتصور أن هذا القائد سيأخذ رجلاً، من الذين يصلحون للطبخ والنفخ، من الذين لا يصلحون للقتال؛ لأنه لا يحسن القتال، ليس عنده شجاعة، ويقول له: تسلح بالقنابل أو اركب الطائرة، واذهب بها إلى الجماعة الموجودين في الأرض الفلانية

هذا انتحار يجوز، أما أن يأتي واحد من الجنود كما يفعلون اليوم، أو من غير الجنود وينتحر في سبيل قتل اثنين أو ثلاثة أو أربعة من الكفار فهذا لا يجوز؛ لأنه تصرف شخصي ليس صادراً عن أمير الجيش، وهذا التفصيل هو معنى قولنا: يجوز ولا يجوز.

وهذا كلام آخر للشيخ رحمه الله حول هذه العمليات، نختم به النقل عنه:

السائل: ما حكم الذين يموتون في عمليات جهادية على الحدود مع

ص: 64

اليهود؟

الجواب:

أولاً: إذا قصدوا الجهاد في سبيل الله عز وجل فهو بنياتهم؛ للحديث المعروف في «صحيح البخاري ومسلم» ، وهو من الأحاديث التي افتتح البخاري كتابه «الصحيح» به، وأخرجه الإمام مسلم في «صحيحه» في كتاب الجهاد؛ لبيان أن الجهاد لا يكون جهاداً في سبيل الله إلا إذا خلصت النية لله تبارك وتعالى، وقد كنا ذكرنا في جلسة سبقت، أنه يشترط في العمل الصالح الذي يرفعه الله عز وجل مقبولاً لديه شرطان اثنان: أن يكون على وجه السنة، وأن يكون خالصاً لله عز وجل.

ولا شك أن الجهاد هو من الأعمال الصالحة التي فرضها الله عز وجل؛ تارة فرض عين، وتارة فرض كفاية، وأناط بالجهاد بقاء العز للأمة المسلمة، وعلى العكس من ذلك إذا أهملوا الجهاد في سبيل الله، كما جاء في الحديث الصحيح:«سلط الله عليهم ذلاً لا ينزعه -لا يرفعه عنهم- حتى يرجعوا إلى دينهم» .

فلا داعي لإثبات أن الجهاد عبادة -وعبادة عظيمة جداً-، ولكن هذه العبادة لا تقبل عند الله -عز ووجل- إلا إذا خلصت لله وليس لحزبية، أو دفاع عن أرض، والأرض كلها لله، يملّكها من يشاء من عباده، ذلك الحديث الذي افتتح الإمام البخاري كتابه «الصحيح» -كلكم يسمعه-، ولكن من الظن العمل به، قال عليه الصلاة والسلام:«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه» . هذا الحديث صريح جداً؛ لأنّ الهجرة التي ذُكرت في هذا الحديث، والمقصود بها هو الجهاد في سبيل الله عز وجل، إنما يقبله ربنا تبارك وتعالى إذا كان بنية خالصة لله، لا يريد من وراء ذلك شيئاً من حطام الدنيا،

ص: 65

أو مما يتعلق بها، قال عليه السلام-على سبيل المثال-:«فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه» . ذكر المرأة والمال يصيبه الإنسان في الجهاد، لا يبتغي من وراء هذه إلا الله، فهو ونيته.

قلت: ذكر ذلك على سبيل المثال، وإلا فالنية تُفسَد بكثير من الأمور، ليست امرأة ينكحها، أو دنيا يصيبها فحسب، فقد يكون يريد من جهاده ومن قتاله أن يقال: إنه مجاهد، لا يريد مالاً ولا يريد امرأة في السبي، وإنما يريد أن يقال: فلان مجاهد، فهذا هو ونيته؛ أي: ليس له جهاد.

فالجواب إذن: إذا خلصت النية من المجاهد لله، لا شك أنه يثاب على ذلك لما يستحقه، ولكن هذا الجهاد الذي جاء السؤال عنه، ليس هو الجهاد الذي أمر الله به، فأنا أقول: هو ونيته؛ لأنه قصد الجهاد، لكن الجهاد يجب أن يُعد له عدته، كما قال الله -تعالى- في الآية المعروفة:{وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} ، هذا هو الجهاد حين يعلن وتتخذ له العدة، هو الذي لا يجوز التخلف عنه، أما الجهاد بمعنى ثورة أفراد، يثورون ولو انتقاماً لأرضهم، فذلك ليس جهاداً، نعم؛ يكون الدفاع عن الأرض واجباً، أما هذه الهجمات التي في أكثر الأحيان تكون الخسارة المترتبة عليها أكثر من الربح -كما هو مشاهد- في كثير من أمثال هذه الهجمات، فليس هذا هو الجهاد الذي يوجب على المسلمين كافة أن ينفروا

-كما جاء في القرآن-، إنما هو الجهاد الذي أشار الله عز وجل إليه في آية أخرى:{وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً} ، ولذلك فعلى المسلمين -كما صرحنا بهذا في أكثر من مناسبة- أن يعودوا إلى أنفسهم، وأن يفهموا شريعة ربهم فهماً صحيحاً، وأن يعملوا فيما فهموا من شرع الله عز وجل ودينه عملاً صادقاً خالصاً، حتى يتكتلوا ويتجمَّعوا على كلمة سواء؛ حينئذ يفرح

ص: 66

المؤمنون بنصر الله تبارك وتعالى. (1)

ا. هـ.

تاسعاً: نخلص مما تقدم إلى ما يلي:

أولاً: إن مشايخ الدعوة السلفية (الألباني، ابن عثيمين، وغيرهما) لا يمنعون العمليات لذاتها (2) ، وإنما يعلِّقون حكمها بما يترتَّب عليها، ومن نقل عنهم خلاف ذلك فهو مخطئ.

ثانياً: إنهم يفرقون بين مفرداتها، وينظرون إلى ملابساتها وظروفها، واختلاف أزمنتها وأمكنتها بحسب الحالة التي تقع فيها هذه العمليات: هل هي حالة ضرورة لا غنى عن القيام بها، أم لا؟، ويفرقون -أيضاً- بين حكمها ومآل القائمين عليها عند الله عز وجل.

ثالثاً: إن (أمر قائد الجيش) من شروط القيام بهذه العمليات، إذ هي من (جهاد الطلب) ، ولا يتصور ذلك إلا بأمير، أما (جهاد الدفع) فلا يحتاج إلى أمير ولا إلى إذنه، سمعتُه من شيخنا الألباني -رحمه الله تعالى- أكثر من مرة.

(1) من شريط «التحري في الفتوى» (رقم 2) .

ومن كلام شيخنا -رحمه الله تعالى- في «ضغيف الترغيب والترهيب» (1/357) في التعليق على حديث رقم (719) -وفيه ذكر لـ (المسجد الأقصى) -، قال عنه:«هو أحد المساجد الثلاثة التي تشد الرحال إليها، وقد احتلّه اليهود في جملة ما احتلوا من (فلسطين) ، أعادها الله إلى المسلمين، كما أعادها إليهم من بعد احتلال الصليبيين إياها، لكن الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} ، فعلى المسلمين أن يغيّروا ما في أنفسهم من العقائد المنحرفة، والأخلاق السيئة، إن أرادوا حقاً أن يغير الله ما نزل بهم» .

(2)

أفتى الأستاذ القرضاوي بحماس ولهجة شبابية، ولغة فيها اندفاع وحط على الرأي المخالف: بجواز هذه العمليات. انظر: مجلة «المجتمع» الكويتية، العدد (19/3/ 1996م) ، رقم (1201)(ص 50-51) ، ومجلة «فلسطين المسلمة» (العدد التاسع) أيلول/ 1996م. بينما (تقديراً لما يترتب عليها من أضرار) منع ما حصل أخيراً في الولايات المتحدة الأمريكية، فتأمل ولا تكن من الغافلين.

ص: 67

رابعاً: تقدير المشايخ في هذه العمليات التي جرت على أرض فلسطين، أن النتائج السلبية المترتبة عليها أكثر من مصالحها، فهم يمنعونها لهذا الملحظ، ومناقشتهم ينبغي أن تحصر في هذا المطلب، وأن يكون بالحجج والبراهين، مع معرفة قدر هؤلاء الربانيين، دون تبجح واتّهام، وإلا -والله- (على نفسها تجني براقش) !

وأما تقدير المجوزين (1) للمصالح فيها، وتغليبها على المفاسد، فهو (حقٌّ) من وجهة نظرهم، ولكن

ينقصه (العدل) ، ولله سنن لا تحابي أحداً، والسعيد والموفّق من انشغل بواجب الوقت، وأحسن فيما يستطيع من القيام به من واجبات، وتوسَّع فيها، وتوصل من خلال هذا التوسع إلى الذي كان لا يستطيعه، وأما ترك ما نستطيع، بحجة إيجاد ما لا نستطيع، فهذا يضيِّع الأمرين، ويهمل الواجبين، وهو من صنيع المخذولين المحرومين.

والحق -الذي أُراه- في هذه الجزئية -وهو عقدة المسألة في نظري-: تقرير وتقدير الخبراء في العلوم العسكرية المتخصصين في هذا الباب، وقد سبق أن أومأنا إلى رأيهم (2) .

(1) قياسهم ما يجري على أرض فلسطين بالعمليات التي حصلت في لبنان، وأدّت إلى هزيمة القوات الفرنسية والأمريكية، وبما حصل في السودان، وأدّت إلى هزيمة الجيش الأوغندي -في نظري- قياس غير صحيح، ولو سنح في البال، وقام في الخيال أن (اليهود) سيتركون (فلسطين) على إثر تصعيد هذه العمليات -ولو على مجرد الاحتمال- ما منعها أحد، ولأفتوا بمشروعيتها على استعجال! بلا (إمهال) .

(2)

راجع (ص 39) ، مع مراعاة أن يكون هؤلاء أهل ديانة، وأما إناطة الحكم الشرعي بتقدير المجاهدين أنفسهم، فيعوزه دقة، ولا سيما إنْ حُصِر المبحث في أهل فلسطين، فهذا التعليق أولى وأحرى من تعليقه بهم، لحماستهم وعدم وجود العلماء المتبحرين -كما هو معلوم- بينهم، والناظر في كلام شيخنا الألباني (مع إعمال المعاني) في اشتراط (إذن الأمير) ، يتقوى عنده هذا الملحظ، والله الواقي والهادي.

ص: 68

وأما على فرض أن هذه العمليات: «توفر على المسلمين جهداً كبيراً، وتدفع عنهم ذلاً لا يعلمه إلا الله، وذلك حينما يضحي البعض بنفسه من أجل الكل، بل إن الكفار يستعملونها -كما حصل مع اليابانيين في معاركهم مع العالم الغربي في خليج الخنازير-، وهذه العمليات الاستشهادية تحطم معنويات قوات العدو، وتلقي فيها الرعب من المجاهدين، فتحيا النفوس المسلمة، وتثير فيها العزة بقوة الإسلام» (1) ، فلا مجال للقول بمنعها، ولكن هل العمليات التي جرت على أرض فلسطين السليبة الحبيبة هكذا؟ وهل الجيوش مرابطة حواليها، لترتفع معنويات وتلقي الرعب في قلوب الأعداء؟! أم أننا نحس ونشعر أن الأضرار المترتبة عليها أكثر بألف مرة من النتائج التي تشفي صدور المؤمنين، من قتلٍ جزئيٍّ لبعض أفراد اليهود؟

فالمانعون لهذه العمليات، إنما صرحوا بذلك تخوّفاً على المسلمين من إلحاق الأذية بهم، على وجه أبشع وأشنع، ليس إلا، فإن أخطأوا في هذا التقدير، فهم مأجورون على اجتهادهم هذا، أما عدُّهم في صف الأعداء، والتندُّر بهم، والتنقُّص منهم، والهجوم وتجريء العوام والسفهاء عليهم، فلا يقع هذا إلا ممن خَفَّ دينُه، وطاش عقله، وزال يقينه، أو ممن يعمل على

(1) من كلام للأستاذ يوسف القرضاوي في مجلة «المجتمع» الكويتية (العدد 1201) ، سنة 1996م، وردده (أو بمعناه) معه غير واحد ممن ألف في المسألة؛ مثل: نواف التكروري في «العمليات الاستشهادية في الميزان الفقهي» (39-42) ، ومحمد طعمة القضاة في «المغامرة بالنفس في القتال وحكمها في الإسلام» (25-26) ، وإبراهيم العلي في مقالة له منشورة في مجلة «فلسطين المسلمة» (عدد 11)(ص 52) ، سنة 1995م. والعجب -أخيراً- من الأستاذ القرضاوي عند حصره مشروعية هذه العمليات في داخل فلسطين! وأدلته التي اعتمد عليها واقعة خارجها! فالخير في التأصيل والتركيز على الضوابط والقيود، التي من خلالها -فقط- يظهر المشروع من الممنوع، وأن نربط (الشباب) المتحمسين بـ (العلماء الكبار) الربانيين، وأن يعملوا من ورائهم، ويتقيدوا بتقريراتهم، والسعيد من عرف قدر نفسه.

ص: 69

الانتصار لاسمه وحزبه، وعقد سلطان الولاء والبراء عليه، ولو على حساب دينه، والوقوع في أعراض العلماء، والكذب عليهم! فلا يبالي بما خرج من رأسه، وسطر قلمه!

عاشراً: لا تجوز هذه العمليات إلا بقيود؛ منها ما هو متفق عليه، ومنها ما هو مختلف فيه، وهي على النحو التالي:

أولاً: أن يقصد بها النكاية في الكفار بما لا يُمكن إلا بقتل نفسه، وأن تكون نيته الجهاد لإعلاء كلمة الله -تعالى-. فإن وجد سبيلاً وطريقاً آخر للنكاية بهم، فلا تجوز هذه العمليات مع قتل النفس بيد صاحبها! وكذلك إذا لم يترتب عليها نكاية في العدو، كما سبق نقله عن بعض الفقهاء (1) ، وهذان نقلان عن عالمين محررين مدققين، يوضحان ضرورة هذا الشرط:

الأول: قال العز بن عبد السلام: «التولي يوم الزحف مفسدة كبيرة، لكنه واجب إن علم أنَّه يُقتل في غير نكاية في الكفار، لأنّ التغرير في النفوس إنما جاز لما فيه من مصلحة إعزاز الدين بالنكاية في المشركين، فإذا لم تحصل النكاية، وجب الانهزام لما في الثبوت من فوات النفوس مع شفاء صدور الكفار، وإرغام أهل الإسلام، وقد صار الثبوت هنا مفسدة محضة ليس في طيها مصلحة» (2) .

والآخر: قال الشاطبي: «

فإن كانت المفسدة اللاحقة له دنيوية لا يمكن أن يقوم بها غيره، فهي مسألة الترس وما أشبهها، فيجري فيه خلاف كما مر، ولكن قاعدة (منع التكليف بما لا يطاق) شاهدة بأنه لا يكلف بمثل هذا، وقاعدة (تقديم المصلحة العامة على الخاصة) شاهدة بالتكليف به، فيتواردان على هذا المكلف من جهتين، ولا تناقض فيه، فلأجل ذلك احتمل الموضع

(1) انظر ما مضى (ص 41-46) ، ولا سيما كلام ابن المناصف وتقسيماته.

(2)

«قواعد الأحكام» (1/111) .

ص: 70

الخلاف، وإن فرض في هذا النوع إسقاط الحظوظ فقد يترجح جانب المصلحة العامة، ويدل عليه أمران:

أحدهما: قاعدة الإيثار المتقدم ذكرها، فمثل هذا داخل تحت حكمها.

والثاني: ما جاء في نصوص الإيثار في قصة أبي طلحة في تتريسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وقوله: «نحري دون نحرك» ، ووقايته له حتى شلت يده، ولم ينكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) ، وإيثار النبي صلى الله عليه وسلم غيره على نفسه في مبادرته للقاء العدو دون الناس؛ حتى يكون متّقىً به (2) فهو إيثار راجع إلى تحمل أعظم المشقات عن الغير، ووجه عموم المصلحة هنا في مبادرته

صلى الله عليه وسلم بنفسه ظاهر؛ لأنه كان كالجُنَّة للمسلمين. وفي قصة أبي طلحة أنه كان وقى نفسه مَنْ يعمُّ بقاؤه مصالح الدين وأهله، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، وأما عدمه؛ فتعمّ مفسدته الدين وأهله، وإلى هذا النحو مال أبو الحسين النوري حين تقدّم إلى السياف، وقال:«أوثر أصحابي نجاة ساعة» (3) في القصة المشهورة» (4) .

(1) الذي شلّت يده هو طلحة بن عبيد الله، وليس أبو طلحة كما قال المصنف، أخرج البخاري (3724) بسنده إلى قيس بن أبي حازم، قال:«رأيت يد طلحة التي وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم قد شُلَّت» . وانظر لتمام التخريج: «المجالسة» (483) و «الموافقات» (2/174) وتعليقي عليهما.

(2)

أخرج مسلم (1776 بعد 79) عن البراء، قال:«كنا -والله- إذا احمرَّ البأسُ نتَّقي به، وإنَّ الشجاع منا للذي يحاذي به؛ يعني: النبي صلى الله عليه وسلم» . وانظر تعليقي على «الموافقات» (3/69) .

(3)

القصة بطولها في «رسالة القشيري» (باب الجود والسخاء)(ص 112) ، «الحلية» (10/250) ، «تاريخ بغداد» (5/134) ، «المستجاد» للتنوخي (رقم 25 - بتحقيقي) ، «السير» (14/171) ، «ثمرات الأوراق» (ص 202) ، «اللمع» للطوسي (492) ، «طبقات الأولياء» (65) ، «أنباء نجباء الأبناء» (208-209) ، «كشف المحجوب» (421) للهجويري.

(4)

«الموافقات» (3/92-93 - بتحقيقي) .

ص: 71

ثانياً: أن تكون هذه العمليات مخططاً لها، مدروسة بإحكام من قبل القائمين عليها، غالباً على ظن القائمين بها أنَّ مصالحها مقدّمة على مفاسدها، وأن تكون المصلحة مضبوطة بقواعد العلماء وفتاويهم، مع عرض ذلك على الخبراء الحاذقين العارفين، ولا بد هنا من التنبه لأمور:

الأول: أن بعض هذه العمليات، يمكن أن تورط أصحابها بأعمال تفوق إمكاناتهم، وتعرض عناصرها لبلاء لا يطيقونه، وهذا له أثر على الحكم الشرعي لها.

الثاني: أن هذه العمليات موجعة مقلقة للأعداء، إلا أنها متقطّعة، ولذا لا تأتي بثمارها عند العسكريين في غالب صورها إلا مع وجود جيش مقابل جيش ليجني ثمارها، إذ هي بنفسها غير شاملة ولا مستمرة ولا مدمّرة، ولا أستطيع إبداء رأي موضوعي حول (الأضرار) و (المفاسد) من جهة، و (المصالح) و (المكاسب) من جهة أخرى؛ ذلك أنَّ رأياً من هذا النوع يتطلب دراسة عميقة شاملة، لا أظنه موجوداً -على الوجه الذي يرضي- حتى عند من يجيزها ويدافع عنها (مزاودة) -ليس إلا-، ليكسب أصوات الرأي العام في الانتخابات وما شابه، وليدغدغ عواطف الشباب، وليوظفها في ترسيخ الحزبيات، من خلال تعميق الشعور بتحقيق ذاته في هذا المضمار، فتجده يتكلم عليها ويدافع عنها، ويحرص على تبنِّيها بدوافع نفسية فحسب، وهذه الأمور الخطيرة لا تحتاج إلى هذه الدرجة من الفعالية، وعلى المتحمسين أن يعلموا أنهم والمفتون بمنعها من ناحية (عملية) سواء!!

الثالث: نعم؛ هناك نواحٍ إيجابية مهمة لها (1) ،

تؤخذ بعين الاعتبار؛ من

(1) أعني: العمليات التي وقعت في فلسطين، وقد وجدتُ في كتاب «الشهادة في سبيل الله» لأحمد أبو زيد (ص 11-13) بعض الآثار الإيجابية لهذه العمليات، قال: «لقد كان للعمليات الاستشهادية آثار عظيمة على العدو الصهيوني على المستوى الداخلي، = =وعلى المستوى الخارجي، نوجزها فيما يلي:

1-

فرار (936000 تسع مئة وستة وثلاثون ألف) مستوطن -أي: ما يقارب المليون خلال أشهر الانتفاضة (!!) فقط إلى مواطنهم الأصلية في شتى أنحاء العالم، بالإضافة إلى حجز جوازات الآلاف من المستوطنين خشية الهرب، حيث كانت مدة إحضار هؤلاء المستوطنين إلى فلسطين عشرين سنة، وقد ذكرت القناة الثانية من التلفزيون العبري أن المستوطنين يعيشون حالة من الاستنفار والهلع، وقد قال أحد المستوطنين لشارون عندما زارهم في الملاجئ: إلى متى سنبقى مختبئين هنا كالكلاب؟!

2-

لقد أسقطت العمليات الاستشهادية نظرية الأمن الصهيونية، فمعظم العمليات حدثت في مناطق تحميها قوات الأمن الصهيونية، وقد كشفت العمليات الاستشهادية عن هشاشة الكيان الصهيوني، فمن يصدق أن كياناً قام قبل 53 عام لا يشعر بالأمن لغاية الآن، ومن يصدق أن 20% من الشعب الصهيوني هرب خلال ثمانية أشهر من انتفاضة الأقصى! ماذا يعني ذلك؟ إن ذلك يعني: أنه لولا الدعم الأمريكي لهذا الكيان اللقيط بأسلحة التدمير الحديثة، لتهاوى هذا الكيان الخرب.

3-

التمرد في جيش الصهاينة الذي حصل من قبل الجنود، جراء رفضهم للخدمة في منطقة المستوطنات القريبة من المناطق الفلسطينية، بسبب الخوف الشديد من الموت، فآلاف الجنود يقبعون في السجون بسبب التمرد على الأوامر، ويفضلون السجن على الخدمة في مناطق قريبة من الفلسطينيين.

4-

توقف الهجرة الصهيونية من شتى أنحاء العالم إلى بيت المقدس، فلم يصل خلال أشهر الانتفاضة أي مهاجر، مع أن المستوطنات فارغة تنتظرهم للسكن فيها، وذلك بسبب الرعب الذي وصل إلى قلوبهم وهم على بعد آلاف الكيلومترات من فلسطين، مما استدعى حضور مدير المخابرات الأمريكية يحمل في جعبته أسماء المجاهدين لاعتقالهم وتصفيتهم.

5-

إلحاق قتلى العدو من العمليات الاستشهادية بحوادث السير، حتى لا تنهار معنويات الجنود، وأكبر دليل على ذلك عملية الاستشهادي الرابع من شهداء كتائب عز الدين القسام التي قتل فيها 22 صهيوني، فما اعترف الصهاينة إلا بـ 3 قتلى، وألحقوا باقي القتلى بحوادث السير، ولكن رغم ذلك كله فقد تمرد الجنود الصهاينة على قادتهم، وامتلأت بهم السجون» .

ص: 72

أهمها: إرادة التصميم على القتل والاستشهاد، وإبقاء هذا الصوت حياً في

ص: 73

الأمة من غير إخماد، والأضرار المادية في الأرواح والأموال والعتاد، والعمل على الحدّ من الهجرة إلى هذه البلاد، وإجبار الموجودين على مغادرتها إلى غيرها قدر المكنة، وإسماع صوت الفلسطينيين المحتلين المظلومين إلى العالم.

الرابع: لكن الموازنة بين آثار هذه العمليات، يختلف من حين إلى حين، ومن مكان إلى آخر، والواقع المحسوس، والأثر الملموس، هو أكبر شاهد عليه.

الخامس: إذا لم تضبط هذه العمليات برأي أهل الخبرة، وبالأناة والدراسة الشاملة، فإنها -بلا شك- ستكون مؤذيةً جداً، وستؤدي إلى إيذاء الشعب، وإلحاق الضرر البالغ به.

السادس: مما يزيد من تعقيد الموازنة بين (المصالح) و (المفاسد) المترتبة على هذه (العمليات) : أنها تقع بغتة، والقرار المترتب على إثرها بيد الأعداء، وبإمكانهم أن يفعلوا ما يريدون، ولهم أثر على كتمان هذه الآثار أو تضخيمها، أو تحجيمها، على حسب خدمة مصالحهم، والرأي العام -من خلال الإعلام وغيره- بأيديهم.

يقول بعض الباحثين: «إنَّ لكل حرب حدوداً تتم بالموافقة الضمنية بين المتنازعين، لقد تكلمت عنها كل النظريات العسكرية، وقد عمل بهذا المبدأ خلال الحروب الأخيرة، حتى التي كانت أشدها عنفاً، أن سبب هذه الحدود واضح، فكل فريق إذا ما اتخذ هذا القرار وهذا التدبير، أو استعمل ذلك الأسلوب، يعرف أن العدو يمكنه بدوره استعمال طرق مماثلة، واتخاذ تدابير مضادة تبطل مفعول الأعمال قيد الدرس، أو حتى تسيء بمصالح الفريق الأول الذي يكون قد استعملها، ولذلك -مثلاً- في الحرب العالمية الأخيرة، لم يستعمل أحد الغازات السامة، في حين أنها كانت لدى جميع الجيوش، والمرة الأخيرة التي استعملت فيها هذه الغازات حدثت في حرب الحبشة من قبل الإيطاليين، والسبب الأكيد في ذلك هو أنهم كانوا يعلمون أن باستحالة

ص: 74

الأحباش الخوض في مثل هذه الحرب، أو حتى اتخاذ أي تدبير معاكس، وكذلك خلال حرب كوريا لم يشن الأميركيون هجوماً على الصين بالرغم أن فرقاً صينية ذات أهمية دخلت الحرب إلى جانب الكوريين الشماليين، إن الأمثال في هذا المجال عديدة جداً، وفي بعض الأحيان عجيبة وغريبة، مثلاً أداء -والحرب دائرة- ثمن شهادات الاختراع من أحد المتخاصمين إلى الآخر (بصورة غير مباشرة) بغية استعمال اختراعات الطرف الثاني، إذا استعرضنا قائمة الروابط التي استمرت بكل سرية بين المتنازعين خلال الحربين العالميتين الأخيرتين نندهش لعددها ومداها، وبالأخص لا أظن خلال الحروب الأخيرة حاول المتنازعون إصابة خطوط العدة الجوية المدنية التي كانت مستمرة في العمل، ولم يحصل ذلك محبة بالعدو، بل بعد أخذ حسنات وسيئات هذه العمليات بعين الاعتبار، إنني أرى أن القواعد التي كانت تطبق وقت حرب بهذا القدر من الشدة والعنف، جديرة بأن تطبق -أيضاً- على النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني، والنزاع الإسرائيلي - العربي» (1) .

ويكشِف لك -هذا النقل- عن نظرية مقررة عند العسكريين؛ وهي: مدى خطورة وقساوة ردة الفعل المترتبة من العدو جراء هذه العمليات، وهذا يسوّغ ما ذكرناه من ضرورة الأناة وتقدير أهل الخبرة، والدراسة الشاملة لها قبل التورط فيها!

السابع: لا أمير في العلم، ولا سلطان عليه، ولا أثر للعواطف في

(1) من مقالة لماكسيم رودنسون، منشورة في كتاب «العمليات الفدائية الفلسطينية خارج فلسطين» (ص 128) ، تحرير أنيس صايغ، مركز الأبحاث - منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، 1970م.

(تنبيه) : سبق بيان خطإ استخدام (إسرائيل) و (إسرائيلي) على (اليهود) و (كيانهم) القائم.

ص: 75

أحكامه، فمتى تبرهن من خلال (التصوّرات) أو (المشاهدات) ، أنّ هذه الأضرار غالبة، فالقول بالمنع أقوى، وهو أحرى وأجدى وأولى، وهذا ما وقع في كلام مشايخنا السابق، وإلا فالنزاع معهم -كما قررنا- في تحقيق هذه الجزئية فحسب، والله الموعد.

الثامن: في غياب البنيان العقدي الصحيح، والمنهجيِّ السليم، يغدو من المستحيل -من وجهة نظر شرعية- النصر، وهو من أهم وسائله بعد الإعداد، فالأصل أن يسبق هذا تلك العمليات، على وجه ملحوظ، ويكون له في المجتمع أثر ملموس.

التاسع: مما ينبغي أن يُعلم -على ضوء ما سبق-: أن أنصاف الحلول هي أسوأ من انعدام الحلول في كثير من الأحايين، فالارتجال والفشل في إحكام هذه العمليات هو أسوأ بكثير -في نظري- من الامتناع عن القيام بها.

العاشر: وأخيراً

ليست جميع المعلومات متوافرة في متناول الباحثين، وهذه ملحوظات عابرة، ومما لا شك فيه أن هذه العمليات تجني بعض الفائدة المادية والمعنوية، وأما بالنسبة للحكم على أبعادها على مستوى الرأي العام، فإنه يخضع لاعتبارات الدعاية والإعلام، وأما على المستوى العسكري، فإنه لا يبدو لي أن المكاسب التي جنتها هذه العمليات حتى الآن بمقدار خسائرها الحقيقية، ومن المفارقات العجيبة أن تكون هذه العمليات ضحية السعي في سبيل الدعاية ليس إلا، ولا يجوز تغليب (الدعاية) على الثمار الحقيقية الموجهة صوب أهداف واضحة، فالركض وراء (الدعايات الفارغة) المصنوعة من (أعدائها) ، والمدائح الطنانة، الحاصلة من (منافقيها) ، ليست من المصلحة الحقيقية الشرعية، وإنما هي أصداء وأضواء كاذبة، وتعليقات فيها مبالغات جوفاء، ومظاهر خادعة، وأخطر ما فيها إشغال الشباب، وسرق أنظارهم عن الاتجاه الصحيح الواجب عليهم سلوكه، والنقد الصريح لما يشعرون به من

ص: 76

أخطاء تحيط بهم، والواجب عليهم نقدُها وتغييرها، والعاقل يقيس الأمور بنتائجها.

تلك بعض التفصيلات التي تخص (المصالح) و (المفاسد) التي تكتنف هذه العمليات على حسب محدودية معرفتي في هذا المجال، وعلى كل؛ فإن تفهم قناعات حملة الرأي الآخر بالتفصيل في هذا المحل (1) ، يقود إلى مزيد من الصواب ومزيد من النفع -إن شاء الله تعالى-.

ثالثاً: الكلام على هذه العمليات من حيث الأضرار والمصالح، حاصل مع ما يحيط بالأُمة من شرور وويلات، وإلا فالجهاد في سبيل الله عز وجل هو السبيل الشرعي لإعادة المحتلّ من الديار، ولا يجوز أن تنشغل الأمة عما يوصل إليه، فهو باب لا يفتحه الله إلا إلى خاصة أوليائه، حتى يصطفي منهم، ويجتبي إليه من يشاء، فعلى الأمة أن تكون فيها (أئمة دين) ، ولا تنال هذه المرتبة إلا بـ (الصبر) و (اليقين)، مصداقاً لقول رب العالمين:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] ، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث مزكياً معلماً، وحددت له هاتان المهمتان قبل خلقه، بدعاء أبيه إبراهيم:{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة: 129] ، فامتنّ الله على هذه الأمة بهذه الاستجابة،

بقوله: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ (2)

مُّبِينٍ}

[الجمعة: 2] ،

(1) أغفل هذا المحل جميع من خص هذه العمليات بالتأليف، وهو عقدة المسألة، كما نبهنا عليه أكثر من مرة، والله الموفق.

(2)

الضلال؛ هو: مزيجٌ من (الجهل) و (الظلم) ، ولما حُمّل الإنسان الأمانة، وصفه الله بـ {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} ، فلا يرفع (الظلم) إلا (التزكية) ، ولا (الجهل) إلا (العلم) ، وكان في دعاء إبراهيم عليه السلام السابق تقديم (العلم) على (يزكيهم) ، فاستجاب الله له بتقديم (يزكيهم) على (يعلمهم) ؛ ليوظِّف العلم الشرعي في مصلحة الأمة وأفرادها، الذين يقبلون عليه لا لـ (ذاته) ، وإنما لـ (ثماره) ، ولتعميق ما وجدوه في نفوسهم من صلاح وتزكية من خلاله..

ص: 77

ولا سبيل إلى حصول (التزكية) إلا بـ (التربية) ، ولا اليقين إلا بـ (التصفية (1)) ، وعند تحقق هذين الأمرين تسعد الأمة وتصعد، {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم: 4-5] ، ولا بد من هذا الشرط (2) ؛ حتى نبقى نسير في الاتجاه الصحيح الموصل إلى نصر الله عز وجل.

رابعاً: أن لا يترتب على هذه العمليات محاذير شرعية، من قتل الأبرياء من المدنيين، نعم؛ دفع الكفار، وإيذاؤهم، وإلحاق الضرر بهم مشروع، ولكن

لا يُقتل المدنيون، إلا إذا أعانوا على القتال بنفس أو رأي، أو لم يمكن التمييز حال اختلاطهم بالأعداء، على تفصيل تراه في كتب أهل العلم (3) .

ونذكر هذا الشرط؛ لأننا بصدد التأصيل، والدراسة الشرعية لهذه العمليات باختلاف أزمنتها وأمكنتها وملابساتها.

(1) إذ أخْذُ العلم بما علق به من (دخل) و (دخن) من شأن أهل (الخرافة) ، ولا يعمل ذلك على نصرة الدين المنزل على قلب سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.

(2)

إذ هو واجب الوقت، مع إحياء (الربانية) بين العاملين، وعَقْد سلطان الولاء والبراء، والحب والبغض على المعايير الشرعية، لا الحزبية، فالأعلم والأورع والأصلح هو الذي يُحَبّ ويقدّم ويوالى وينصر ويدافع عنه، لا لذاته وإنما لثماره، وإلا فما هو حال أمة تأكل رأسها، وتعظم ذيلها، وتهدر طاعة أولياء أمورها من العلماء؟!

(3)

انظر -على سبيل المثال-: «شرح النووي على صحيح مسلم» (12/73) ، «المجموع» (19/296) ، «مغني المحتاج» (4/222) ، «اللباب في شرح الكتاب» (4/119) ، «بدائع الصنائع» (7/101) ، «حاشية ابن عابدين» (4/307) ، «بداية المجتهد» (1/280-281) ، «منح الجليل» (3/144) ، «المغني» (9/302) ، «مجموع فتاوى ابن تيمية» (28/354-355) .

ص: 78