المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ من كلمات العلماء السلفيين في قضية فلسطين - السلفيون وقضية فلسطين في واقعنا المعاصر

[مشهور آل سلمان]

الفصل: ‌ من كلمات العلماء السلفيين في قضية فلسطين

خامساً: لا بد من (مراعاة الخلاف)(1) في بعض الصور، وبعض الملابسات، ويقضي هذا: الفصل (2) بين (حكمها الشرعي) ومآل (القائمين) عليها، إذ مدار التقدير على الاجتهاد.

سادساً: جميع ما سبق، هو محاولة تأصيل لهذه (العمليات) على وفق قواعد الشرع ومقاصده، على ضوء ما قرره أهل العلم، والكلام هذا في (نازلة) جديدة لم تكن معروفة قديماً بجميع حيثياتها وتفصيلاتها، وأما تنزيل الأحكام على واقعة معينة، وإعمال تطبيقاتها وتحقيق المناط فيها، فإنه من عمل العلماء المعتبرين، وأهل الفتوى الراسخين، يخرجون كل واقعة بعينها على قواعدها، مراعين نتائجها وثمارها، بعد إحكام تصورها، ومعرفة واقعها، وبالاستعانة بتقرير أهل الخبرة والمعرفة من المجاهدين من حيث أضرارها ومفاسدها، والله المستعان، لا ربّ سواه.

*‌

‌ من كلمات العلماء السلفيين في قضية فلسطين

هذه كلمات مبثوثة في بطون الكتب والمجلات، جمعتُها من هنا وهناك، يلمس فيها قارؤها حقائق مريرة، وتومئ إلى قضايا خطيرة، وأفكار رئيسة، وهي بمثابة (الدبابيس) تارة، و (أحكام فقهية) تارة أخرى، وفي بعضها (ما يجب علينا) تجاهها، وفي بعضها الآخر (كلمات) في مؤتمرات، وفيها -أيضاً- (قواعد) لا تتغيّر بتغيّر الأحداث والزمان، عملت على جمعها ونشرها على حد الحكمة القائلة:(من كتم داءه قتله) ، وعلى الرغم من ذلك، فسنعمل على سردها دون شرح -ولو كان في بعضها جرح- وهي جميعاً لأئمة من العلماء السلفيين العاملين المتأخّرين، والله الموفّق للصالحات، والهادي إلى الخيرات.

(1) انظر في ضرورة معرفة ذلك: «الموافقات» (5/106) وتعليقي عليه.

(2)

انظر ما قدمناه (ص 37-38، 39-40، 60، 62، 67) .

ص: 79

* قال محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله:

«إن فلسطين وديعة محمد صلى الله عليه وسلم عندنا، وأمانة عمر في ذمتنا، وعهد الإسلام في أعناقنا، فلئن أخذها اليهود منا ونحن عصبة إنّا إذاً لخاسرون» (1) .

* وقال -أيضاً-:

«أيها العرب! إن قضية فلسطين محنة، امتحن الله بها ضمائركم وهممكم وأموالكم ووحدتكم، وليست فلسطين لعرب فلسطين وحدهم، وإنما هي للعرب كلهم، وليست حقوق العرب فيها تنال بأنها حق في نفسها، وليست تنال بالهوينا والضعف، وليست تنال بالشعريات والخطابيّات، وإنما تنال بالتصميم والحزم والاتحاد والقوة.

إن الصهيونية وأنصارَها مصممون، فقابلوا التصميم بتصميم أقوى منه، وقابلوا الاتحاد باتحاد أمتن به.

وكونوا حائطاً لا صدع فيه

وصفّاً لا يُرقَّعُ بالكسالى» (2)

* وقال -أيضاً-:

«يا بخس فلسطين!

أيبيعها من لا يملكها، ويشتريها مَن لا يستحقها

؟ يا هوان فلسطين!

يقولون: إن فلسطين منسك للأديان السماوية الثلاثة، وإنها قبلة لأهل تلك الأديان جميعاً، فإن كان ما يقولون حقاً -وهو حق في ذاته- فإن أحق الناس بالائتمان عليها العرب؛ لأنهم مسلمون، والإسلام يوجب احترام الكتب والكتابيين، ويوجب الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين، ويضمن إقامة الشعائر لليهود والمسيحيين، لا اليهود الذين كذّبوا الأنبياء وقتلوهم، وصلبوا -بزعمهم- المسيح الصادق، وشرّدوا حواريِّيه من

(1)«البصائر» ، العدد 22، سنة 1948م.

(2)

«البصائر» ، العدد 5، سنة 1947م.

ص: 80

فلسطين، وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد ما جاءهم بالبينات» (1) .

* وقال -أيضاً-

«ووالله -يميناً برَّة- لو أن القوى -روحيَّها وماديَّها- انطلقتْ من عُقُلها وتظافرت، وتوافتْ على فلسطين وتوافرت، لدفنت صهيون ومطامعه وأحلامَه إلى الأبد، ولأزعجتْ أنصارَه المصوتين إزعاجاً يطيّر صوابَهم، ويُحبط ثوابهم، ويطيل حماتهم، ويكبت أصواتهم، ولأحدثت في (العالم الغربي) تفسيراً جديداً لكلمة (عربي) » (2) .

* وقال -أيضاً-:

«هل من الصحيح أن التفجيع والتوجّعَ والتظلّم والتألّم والأقوال تتعالى، والاحتجاجات تتوالى، هي كل ما لفلسطين علينا من حقّ؟ وهل من المعقول أن التفجّع وما عطف عليه -مجتمعات في زَمن، مقترِنات في قرن- تنفع حيفاً، أو تفلّ لظلم سيفاً، أو ترُدّ عادية عاد، أو تسفّه حلم صهيون في أرض الميعاد؟! لا

والذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى» (3) .

* وقال -أيضاً-:

«إن الواجب على العرب لفلسطين يتألّف من جزأين: المال والرجال، وإن حظوظهم من هذا الواجب متفاوتة بتفاوتهم في القرب والبعد، ودرجات الإمكان وحدود الاستطاعة ووجود المقتضيات وانتفاء الموانع، وإن الذي يستطيعه الشرق العربي هو الواجب كاملاً بجزأيْه؛ لقرب الصريخ، وتيسُّر الإمداد، فبين فلسطين ومصر غلوة رام، وبينها وبين أجزاء الجزيرة خطوط وهمية خطَّتها يدُ الاستعمار، وإذا لم تمحُها الجامعة فليس للجامعة معنى؟ وإذا

(1)«البصائر» ، العدد 22، سنة 1948م.

(2)

«البصائر» ، العدد 25، سنة 1948م.

(3)

«البصائر» ، العدد 25، سنة 1948م.

ص: 81

لم تهتبلْ لمحوها هنا اليوم فيوشك أن لا يجود الزمان عليها بيوم مثله» (1) .

الواجب الشرعي مع يهود الجهاد في سبيل الله (2) -تعالى-، وما عداه من حلول (احتجاجات، مظاهرات،

) طرق غير شرعية، لا تنكأ عدواً، ولا تسرُّ صديقاً.

* كلمة موجزة في شأن فلسطين من الوجهة العلمية:

قال العلامة المحدث السلفي أحمد شاكر رحمه الله تحت عنوان (تحية المؤتمر العربي في قضية فلسطين) ما نصه:

«يا حماة الحمى، وقادة الإسلام، وزعماء المسلمين!

لو كنت شاعراً لنظمت في تحية ضيوفنا العظماء الكرام قلائد الدرر، ولو كنت خطيباً لنثرت بين أيديهم بدائع الزهور، واعترافي بعجزي أبلغ الأعذار.

إنما مثلت أمامكم أداءً لغرض، وقياماً بواجب، وكم كنت أتمنى أن يقوم في مقامي هذا والدي الشيخ محمد شاكر وكيل الأزهر سابقاً، وما حبسه عن ذلك إلا المرض، فقد ألزمه الفراش منذ بضع سنين، ولولا هذا لسمعتم صوته يجلجل في أنحاء العالم الإسلامي؛ انتصاراً للمظلومين، ودفاعاً عن فلسطين.

وإني أتشرّف بأن أُرحّب بنواب الأُمم الإسلامية وممثليها باسمه واسم إخوانه الذين جاهدوا معه في الصفوف الأولى لهذه النهضة.

وما يكون لي أن أتحدث إليكم في السياسة وأنتم هداتها وأساطينها، ولو بدا لي هذا لأقعدني الخجل والعجز، ولكني أتحدث إليكم بكلمة موجزة في شأن قضية المسلمين من الوجهة العلمية الدينية.

لقد ألقى الإنكليز الحديد والنار على فلسطين، حماية لقضية خاسرة،

(1)«البصائر» ، العدد 25، سنة 1948م.

(2)

الجهاد الشرعي له شروط، ليس هذا محل بسطها وشرحها.

ص: 82

وانتصاراً لأمة لا تقوم لها قائمة، ولن تكون لها دولة.

كلكم مسلم أو عربي، والمسلم يؤمن بالله وبرسوله وبالقرآن الذي نزل على رسوله، والمسيحي (1) العربي يصدق بنبوة محمد، ويعرف أن البشائر التي في القرآن بشائر صدق، وأن آياته كلها حق.

والله -تعالى- يقول في شأن هؤلاء اليهود: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلَاّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} [آل عمران: 112] .

ويقول في شأنهم: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة: 64] .

ثم الله يحكم عليها حُكماً أبدياً: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ. وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً} [الأعراف: 167-168] .

أيها السادة! هذه صواعق من الله تنصَبُّ على رؤوس أعدائكم، وعلى رؤوس حماتهم، هذا وعد الله لكم بنصركم عليهم، والله منجز وعده، وحسب أعدائكم عهد بلفور، وهو وقومه واليهود أعجز من أن يفوا بعهده، بل هم أعجز من أن يخلفوه؛ لأنّ الله هو الذي يتولّى إخلافه بأيديكم وأيدي أعدائكم.

{فَلَا تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] .

{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 39] .

(1) الصواب أن يقول: (نصراني) .

ص: 83

أيها السادة! قد أكون أصغر سناً من أكثركم، وأظنني أقلّكم جميعاً علماً ومعرفة، ولكني أطمع في تواضعكم إذا قمت في حضرتكم بواجب النصيحة للمسلمين؛ ليكون ذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين.

إنكم تمثّلون أُمة الإسلام، أُمة واحدة عربية، لا تفرق بينَها فوارق الجنسية، الأعجمي المسلم عربي الدين واللسان، والعربي عربي مسلماً كان أو مسيحياً، وسِمة هذه الأمة عند الله العزة:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] ، وإنكم تناوئون أمة قد ضربها الله بالذل والصَّغار، وضمن لكم النصر عليهم وإن استنصروا بسائر أمم الأرض:{كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} ، فلا تعطوهم من أنفسكم ما لا مطمع لهم فيه وإن بلغوا أسباب السماء.

إن هؤلاء الأذلاء كتب الله عليهم الجلاء، فقد أجلاهم النبي s عن المدينة وأرباضها، ثم جلاهم الفاروق عن الحجاز، ثم سكت عنهم المسلمون، بل حموهم حين رأوهم مضطهدين مستضعفين، فلما عادوا سيرتهم من البغي والعدوان، أعادهم الله سيرتهم من الجلاء، فجلاهم الألمان والطليان عن بلادهم، وستكون عاقبة أمرهم -إن شاء الله- أن يجليهم المسلمون عن كل بلاد الإسلام.

إن أُوربة لم تتمكن من دول الإسلام في فترة ضعفهم إلا حين أرهبتهم بغُول التعصّب، حتى صار كل مسلم يتخاذل عن دينه وعن شريعته، خشية أن يُتَّهم بالتعصب، ثم ألقَتْ بينهم بدعة القوميات؛ لتفتنهم عن وحدتهم وقوّتهم.

وإني ليُلقى في روعي أن سيكون مؤتمركم هذا فاتحة لعشرات من أمثاله، تبنون فيه حصن الإسلام، وتذودون عن حوضه، حتى تعود هذه الأمة أُمة واحدة -كما أمرها الله-.

ولا تخافوا تهمة التعصب التي يريدون أن يصلوا من ورائها إلى ما

ص: 84

يسمونه (حقوق الأقليات) ؛ فما كان المسلمون يوماً معتدين ولا ظالمين، وإن كلمة (حقوق الأقليات) لها ما بعدها، من تغلغل النفوذ الأجنبي في كل شأن من شؤون المسلمين.

ولقد قال الزعيم الخطير صاحب المعالي محمد علي علوبة باشا، بالأمس بالمؤتمر، كلمة خالدة أرجو أن تكون على ذكر منا دائماً، قال:

«وليعلم اليهود أنهم إذا فرحوا اليوم بظفر يستند إلى حراب غيرهم، فإنهم سينهزمون لا محالة يوم تغيب هذه الحراب عنهم، وأحداث الدهر كثيرة، والفرص آتية لا ريب فيها، ومَن أنذر فقد أعذر» .

وإني أعتقد أن هذه الكلمة مما يلهم الله بعض عباده؛ فهي عبرة لمن شاء أن يعتبر، وهي نذير لمن شاء أن يتدبّر النذر، وأستغفر الله لي ولكم» (1) .

* وقال السيد محمد رشيد رضا رحمه الله:

«إن حكم الإسلام في عمل الإنكليز واليهود الصهيونيين في فلسطين، حكم قوم من أهل الحرب أغاروا على وطن من دار الإسلام، فاستولوا عليه بالقوة، واستبدّوا بأمر الملك فيه، وشرعوا في انتزاع رقبة أرضه من أهله بتدابير منظمة؛ ليسلبوهم المِلك (بكسر الميم) كما سلبوهم المُلك (بضمها) ، وحكم من يساعدهم على عملهم هذا (امتلاك الأرض) بأي نوع من أنواع المساعدة، وأية صورة من صورها الرسمية (كالبيع) ، وغير الرسمية (كالترغيب) ؛ حكم الخائن لأمته وملته، العدو لله ولرسوله وللمؤمنين، الموالي لأعدائهم وخصومهم في مِلكهم ومُلكهم، لا فرق بينه وبين المجاهد معهم للمسلمين بماله ونفسه، فالذي يبيع أرضه لليهود الصهيونيين في فلسطين، والذي يسعى في شراء أرض غيره لهم من سمسار وغيره؛ كالذي يساعد أي قوم من الأجانب على قومه فيما

(1)«كلمة الحق» (مقالات وأبحاث أحمد شاكر)(ص 195-198) .

ص: 85

يحاولون من فتح بلادهم بالسيف والنار، وامتلاك أوطانهم، بل أقول -ولا أخاف في الله لومة لائم، ولا إيذاء ظالم-: إن هذا النوع من فتح الأجنبي لدار الإسلام هو شر من كل ما سبقه من أمثاله من الفتوح الحربية السياسية والدينية على اختلاف أسمائها في هذا العصر؛ لأنه سلب لحق أهل الوطن في ملك بلادهم وحكمها، ولحقهم في ملك أرضها لأجل طردهم منها، ومن المعلوم بالبداهة أنه إذا بقي لنا ملك الأرض تيسر لنا إعادة ملك الحكم، وإلا فقدناهما معاً.

هذا وإن فقد فلسطين خطر على بلاد أمتنا المجاورة لهذا الوطن منها، فقد صار من المعلوم بالضرورة لأهل فلسطين والمجاورين لهم، ولكل العارفين بما يجري فيها، من عزم اليهود على تأسيس الوطن القومي الإسرائيلي، واستعادة ملك سليمان بقوة المال الذي هم أقطاب دولته الاقتصادية، وبقوة الدولة البريطانية الحربية، إن هذا الخطر سيسري إلى شرق الأردن وسورية والحجاز والعراق، بل هو خطر سينتقل من سيناء إلى مصر.

وجملة القول: أن الصهيونية البريطانية خطر على الأمة العربية في جميع أوطانها الآسيوية وفي دينها ودنياها، فلا يعقل أن يساعدهم عليه عربي غير خائن لقومه ووطنه، ولا مسلم يؤمن بالله -تعالى- وبكتابه العزيز وبرسوله محمد خاتم النبيين -صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه-، بل يجب على كل مسلم أن يبذل كل ما يستطيع من جهد في مقاومة هذا الفتح، ووجوبه آكد على الأقرب فالأقرب، وأهون أسباب المقاومة وطرقها: المقاومة السلبية، وأسهلها: الامتناع من بيع أرض الوطن لليهود، فإنه دون كل ما يجب من الجهاد بالمال والنفس الذي يبذلونه هم في سلب بلادنا وملكنا منا.

ومن المقرر في الشرع أنهم إن أخذوها وجب على المسلمين في جملتهم بذل أموالهم وأنفسهم في سبيل استعادتها، فهل يعقل أن يبيح لنا هذا الشرع تمهيد السبيل لامتلاكهم إياها بأخذ شيء من المال منهم وهو معلوم باليقين؛

ص: 86

لأجل أن يوجب علينا بذل أضعاف هذا المال مع الأنفس لأجل إعادتها لنا وهو مشكوك فيه؛ لأنه يتوقف على وحدة الأمة العربية وتجديد قوتها بالطرق العصرية، وأنى يكون ذلك لها وقلب بلادها وشرايين دم الحياة فيها في قبضة غيرها؟! فالذي يبيع أرضه لليهود في فلسطين أو في شرق الأردن يُعدّ جانياً على الأمة العربية كلها، لا على فلسطين وحدها.

ولا عذر لأحد بالفقر والحاجة للمال للنفقة على العيال، فإذا كان الشرع يبيح السؤال المحرم عند الحاجة الشديدة، ويبيح أكل الميتة والدم ولحم الخنزير للاضطرار، وقد يبيح الغصب والسرقة للرغيف الذي يسدّ الرمق ويقي الجائع من الموت بنية التعويض، فإن هذا الشرع لا يبيح لمسلم ببيع بلاده، وخيانة وطنه وملته لأجل النفقة على العيال، ولو وصل إلى درجة الاضطرار، إنْ فرضنا أن الاضطرار إلى القوت الذي يسدّ الرمق يصل إلى حيث لا يمكن إزالته إلا بالبيع لليهود وسائر أنواع الخيانة، فالاضطرار الذي يبيح أمثال ما ذكرنا من المحظورات أمر يعرض للشخص الذي أشرَفَ على الموت من الجوع وهو يزول برغيف واحد مثلاً، وله طرق ووسائل كثيرة.

وإنني أعتقد أن الذين باعوا أرضهم لهم لم يكونوا يعلمون أن بيعها خيانة لله ولرسوله ولدينه وللأمة كلها، كخيانة أهل الحرب مع الأعداء لتمليكهم دار الإسلام وإذلال أهلها، وهذا أشد أنواعها.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 27] » (1) .

(1) مجلة «المنار» لمحمد رشيد رضا (م 33 ص 174-175) ، عدد محرم، سنة 1352هـ - مايو، سنة 1933م.

ولهذا الإمام السلفي كلام متين جيد كثير عن قضية فلسطين، لو جمعت من مجلته= = «المنار» لزادت عن مجلدتين كبيرتين.

ص: 87