الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المنحث الثاني: جهود الصحابة والتابعين في حفظ السنة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
مدخل
…
المبحث الثاني: جهود الصحابة والتابعين في حفظ السنة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
كان مصدر التشريع في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام كتاب الله وسنة رسوله، ينزل الوحي فيبلغه النبي الكريم إلى الناس كافة، ويبين مقاصده، ثم يطبق أحكامه، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم المرجع الأعلى في جميع أمور الأمة، في القضاء والفتوى، والتنظيم المالي والسياسي والعسكري، ويعالج الأمور على مرأى من أصحابه رضي الله عنهم.
ثم ما لبث أن انتقل إلى الرفيق الأعلى، وانقطع الوحي ولم يبق أمام الأمة إلا القرآن الكريم والسنة الشريفة، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم:"تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي"(1) .
وتمسك الصحابة والتابعون بسنته عليه الصلاة والسلام استجابة لأوامر الله عز وجل وطاعة لرسوله عليه الصلاة والسلام.
(1) أخرجه مالك في الموطأ 2/899، كتاب القدر، باب النهي عن القول بالقدر، ح 3 وصححه الألباني كما في السلسلة الصحيحة 4/355، ح 1761.
منهج الصحابة والتابعين في المحافظة على السنة:
رأينا حرص الصحابة والتابعين على التمسك بالسنة المطهرة، وحسن اقتدائهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وتتبعهم آثاره، ووقوفهم عند أحكامه عليه الصلاة والسلام متى ثبتت عندهم، وقد نهج الصحابة والتابعون
سبيلاً قويماً للمحافظة على الحديث النبوي، ويتضح هذا المنهج من احتياطهم في رواية الحديث، وفي تثبتهم في قبول الأخبار، هذا إلى جانب ما عرضناه من تمسكهم بالسنة وحضهم الناس على الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم.
1 – احتياط الصحابة والتابعين في رواية الحديث:
احتاط الصحابة في رواية الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم خشية الوقوع في الخطأ، وخوفاً من أن يتسرب إلى السنة بعض التحريف، وهي المصدر الأول بعد القرآن الكريم، ولهذا اتبعوا كل سبيل يحفظ على الحديث نوره، فحملهم ورعهم وتقواهم على الاعتدال في الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى إن بعضهم آثر الإقلال منها خوفا من الوقوع في الخطأ والزّلل لا زهداً فيه، واشتهر من بين الصحابة عمر بن الخطاب-رضي الله عنه بشدة إنكاره على من يكثر الحديث.
والتزم الصحابة هذا المنهج، فلم يرووا الأحاديث إلا حين الحاجة، وكانوا حين يروونها يتحرون الدقة في أدائها، وكثيراً ما كان يقول بعضهم بعد رواية الحديث (نحو هذا، أو كما قال ،أو شبيها بذلك)(1)
ونرى من الصحابة من تأخذه الرعدة، ويقشعر جلده، ويتغير لونه حين يروي شيئاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ورعاً واحتراما لحديثه عليه الصلاة والسلام.
(1) كما في سنن ابن ماجه 1/11، المقدمة باب التوقي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ح 23 و24.
من هذا ما رواه عمرو بن ميمون قال: ما أخطأني ابن مسعود عشية خميس إلا أتيته فيه قال: فما سمعته بشيءٍ قط قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان ذات عشية قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فنكس، قال: فنظرت إليه، فهو قائم محللة أزرار قميصه، قد اغرورقت عيناه، وانتفخت أوداجه، قال: أو دون ذلك، أو فوق ذلك، أو قريباً من ذلك أو شبيهاً بذلك" (1)
ولم ينهج الصحابة هذا السبيل لقلة ما لديهم من الحديث، بل فعلوا ذلك كله حرصاً على السنة وصيانة لها، واحتياطاً للدين ورعاية لمصلحة المسلمين، لا زهداً في الحديث النبوي ولا تعطيلاً له.
وقد ثبت عن الصحابة جميعاً تمسكهم بالحديث الشريف واجلالهم إياه، وأخذهم به، وقد تواتر خبر اجتهاد الصحابة إذا وقعت لهم حادثة شرعية من حلال أو حرام، وفزعهم إلى كتاب الله تعالى، فان وجدوا فيه ما يريدون تمكسوا به، وأجروا (حكم الحادثة) على مقتضاه، وإن لم يجدوا ما يطلبون فزعوا إلى (السنة) ، فإن روي لهم خبر أخذوا به ونزلوا على حكمه، وإن لم يجدوا الخبر فزعوا إلى الاجتهاد بالرأي.
وطريقة أبي بكر وعمر في الحكم مشهورة: كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به، وإن لم يجد في كتاب الله تعالى نظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن
(1) أخرجه ابن ماجه 1/10، المقدمة، باب التوقي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ح 23 وقال المحقق وفي الزوائد: إسناده صحيح، احتج الشيخان بجميع رواته.
وجد فيها ما يقضي به قضى به، فإن أعياه ذلك سأل الناس: هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيه بقضاء، فربما قام إليه القوم فيقولون..... قضى فيه بكذا وكذا، فإن لم يجد سنة سنها النبي صلى الله عليه وسلم جمع رؤساء الناس فاستشارهم (1) وكان عمر رضي الله عنه يفعل ذلك.
ورأى الصحابة في منهج عمر رضي الله عنه حفظ السنة، وحمل الناس على التثبت بما يسمعون، والتروي فيما يؤدون، فالتزموه من غير إفراط ولا تفريط، ولم يكثروا من الرواية مخافة رفع التدبر والتفقه، فالتزموا الاعتدال فيها.
ثم إن كثرة الرواية مظنة الوقوع في الخطأ، وبخاصة أنه ورد النهي عن التحديث بكل ما يسمعه المرء، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع"(2) ، وسار التابعون وأتباعهم على منهج الصحابة، فاحتاطوا في رواية الحديث، وعابوا الإكثار منها مخافة أن يرتفع تدبر الحديث وفهمه، قال محمد بن المنكدر:(الذي يحدث الناس إنما يدخل بين الله وبين عباده فلينظر بما يدخل)(3)
2– تثبّت الصحابة والتابعين في قبول الحديث
أمر الإسلام بالتثبت في قبول الأخبار، ونهى عن الكذب، وأمر بقول الحق، نزل بهذا الوحي الأمين، ونطق به الرسول الكريم، وعمل
(1) إعلام الموقعين لابن قيم الجوزيه 1/62.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه 1/10، المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع.
(3)
الكفاية للخطيب البغدادي ص 168.
بذلك الصحابة أجمعون، وسار على ذلك المتقدمون والمتأخرون، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] وقال عز من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً،،يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71]، وقال:{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152]{وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30] .
وقال صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"(1) وقال: "إن كذبا علي ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"(2) .
هكذا أُمر المسلمون بالصدق في كل شيء، وبالأمانة والعدل وبتحري الحق واجتناب الباطل، ولهذا فقد احتاط رجال الحديث ونقاده في قبول الحديث، وتثبتوا وتأكدوا من الأخبار التي يرويها المسلمون، وقد نهج هذا السبيل الصحابة والتابعون، ومن جاء بعدهم، وحاولوا التثبت بكل وسيلة تضمن لهم صحة المروي وضبط ناقله، بطلب الحديث من راو آخر، وجمع طرقه تارة، وبالرجوع إلى أئمة هذا الشأن تارة أخرى.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه مع الفتح 1/200، كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، ح 107.
(2)
أخرجه مسلم 1/10، المقدمة، باب تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلمح 4.
وحق للأمة الإسلامية أن تتثبت في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتستوثق له - وهو المصدر التشريعي الثاني بعد القرآن الكريم، فكما احتاط الصحابة والتابعون وأهل العلم من بعدهم في رواية الحديث، احتاطوا وتثبتوا في قبول الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمثلة تثبت الصحابة والتابعين ومن خلفهم أكثر من أن تحصى، وسنكتفي بذكر مثال عليها:
روى الإمام البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور، فقال: استأذنت على عمر ثلاثا فلم يؤذن لي، فرجعت فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع". فقال: والله لتقيمن عليه بينة، أمنكم أحد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبيّ بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم فكنت أصغر القوم فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك فقال عمر لأبي موسى: أما إني لم أتهمك ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .
ولم يكن التابعون وأتباعهم أقل اهتماما من الصحابة بالاحتياط لقبول الحديث فكانوا يتثبتون من الراوي بكل وسيلة تطمئن إليها قلوبهم وإن من يتتبع تاريخ الرواة، وكيفية تحملهم الحديث الشريف؛ ليدرك تماما جهود التابعين وأتباعهم، تلك الجهود التي بذلوها لنقل السنة إلى خَلَفهم، وهذا مثال يدل على ذلك:
1 -
عن عبادة بن سعيد التجيبي أن عقبة بن نافع الفهري أوصى بنيه فقال: (يا بني لا تقبلوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من ثقة) .
(1) أخرجه البخاري في صحيحه مع الفتح 11/26، كتاب الاستئذان، باب الاستئذان ثلاثاً، ح 6245.
ويؤكد ذلك قول كثير من العلماء كعبد الله بن عون (150هـ) وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر (المتوفى نحو سنة 153هـ) وشعبة بن الحجاج (82-160هـ)، وسفيان الثوري (97-161هـ) وغيرهم قالوا:(خذوا العلم من المشهورين) ، و (لا يؤخذ هذا العلم إلا عمن شهد له بالطلب)(1) .
(1) يراجع كتاب أصول الحديث لمحمد عجاج الخطيب ص 180 وما بعدها بتصرف.