المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيٍ فَإِنَّمَا أَنَا - السنة والتشريع - موسى شاهين لاشين

[موسى شاهين لاشين]

الفصل: دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيٍ فَإِنَّمَا أَنَا

دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيٍ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ».

وعَنْ أَنَسٍ:

«أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ، فَقَالَ: لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ. قَالَ: فَخَرَجَ شِيصًا، فَمَرَّ بِهِمْ، فَقَالَ: مَا لِنَخْلِكُمْ؟ قَالُوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ» (1).

هذا الحديث هو عمدة أدلة الباحث في بحثه:

تَرَكَ سبب الورود وحادثته وأخذ يكرِّرُ «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِشُؤُونِ دُنْيَاكُمْ» كرَّرَهُ ثماني مرات في صفحات ثمان، يحاول أنْ يستدلَّ به على أنَّ أمور الدنيا لا علاقة لها بالتشريع».

وأنَّ أوامره صلى الله عليه وسلم ونواهيه في البيع والشراء وبقية المعاملات من هذا القبيل وليست من الدين.

وأنَّ الناس اليوم أعلم بها منه صلى الله عليه وسلم، فليتركوا تشريعه، وليُشَرِّعُوا لأنفسهم ما يرون أنه يصلحهم.

‌هُواةُ التحلُّلِ:

إنَّ هذا الحديث من زمن طويل كان المشجب الذي يعلق عليه من شاء ما شاء من أمور الشرع التي يراد التحلل منها: فبعضهم أدخل تحته الأكل والشرب والنوم والفراش واللباس والمشي والجلوس وغير ذلك من الأمور الخاصة بالحاجة والطبيعة البشرية.

والتحقيق أنه من الخطأ أنْ نُطلق هذا الإطلاق، فكل مِنْ هذه الأمور منها الواجب شرعاً، ومنها المُحَرَّمُ شرعاً، ومنها

(1) رواه مسلم.

ص: 32

المكروه، ومنها المندوب، ومنها المباح، فبعض المأكولات محرَّمٌ، وبعض المشروبات محرَّمٌ، والنوم قد يكون ممنوعاً شرعاً، كالنوم عن الصلاة، أو نوم السائق الذي يعرِّضُ حياته وحياة الراكبين معه للخطر، والفراش واللباس قد يكون مُحرّماً لاستعمال الأقمشة المُحرَّمة فيه.

وحتى إذا أردنا كيفية هذه الأمور نجد منها الممنوع شرعاً، كالأكل بالشمال، والأكل مما يلي الآخرين، وتحريك اليد في جنبات الإناء، ولباس المتكبِّرين ومشيتهم، والإسراف في الفراش، والجلوس على هيئة إقعاءة الكلب، وإقامة الرجل الرجل في مجلسه ثم الجلوس فيه، والجلوس على الطرقات إلَاّ بحقها. نعم. في هذه الأمور مباحات، اختار الرسول صلى الله عليه وسلم أحدهما ولم يمنع الآخر، فكان مثلاً يحب من اللحم الذراع، ومن المشروب اللبن، وكان فراشه من جلد حشوه ليف، وكان يمُرُّ على بيوته صلى الله عليه وسلم الشهر والشهران، ثلاثة أهلَّة في شهرين وما يوقد في بيته نار لعدم وجود ما يطهى بالنار، وإنما كان يعيش هو وأهله على التمر والماء.

في حين كان بعض الصحابة يحب الفخذ من اللحم، وينام على لين الفراش، ويلبس من أفخر الثياب، ويأكل من أشهى الطعام، وليس في شيء من ذلك التزام شرعي، شأن جميع المباحات، وإنْ كانت نية التأسي به صلى الله عليه وسلم والاقتداء به في المباحات لا تخلو من أجر وثواب.

فإذا أريد إدخال المباحات من الأكل والشرب والنوم واللباس والمشي والجلوس في حديث «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِشُؤُونِ دُنْيَاكُمْ» فلا بأس، حتى في المعاملات، كل إنسان أعلم

ص: 33

بشؤون دنياه في الأمور المباحة، له أنْ يشتري سيارة أو أنْ يشتري بيتاً، وله أن يبيع حديقة أو أنْ يبيع عمارة من ملكه ما دام ذلك مباحاً شرعاً.

لكن إدخال المعاملات الممنوعة شرعاً تحت هذا الحديث هو الذي لم نسمع به من قبل، لم يسبق به الباحث على مدى علمي، وأرجو ألَاّ يتبعه في ذلك أحد بعد، بل أرجو له أن يعدل عن رأيه، والحق أحق أنْ يتبع.

والباحث نفسه يشعر أنه أتى أمراً يفزع له كل مسلم، وتقشعرُّ منه جلود الذين يخشون ربهم بالغيب، فهو يقول صفحة «62»:«لا داعي للانزعاج، هذه نتيجة منطقية حتمية، ولو أنها قد تصدم بعض الناس، لأنهم لم يتعودوا أنْ يسمعوا أو يقرأوا مثلها» .

ويقول في صفحة «45» : «أرجو أن يُحَكِّمَ القارئ عقله معي، وَيُحَكِّمَ المنطق السليم، ولا تَقْلَقُ نفسُهُ لمجرَّد رأي ربما لم يسمعه من قبل، وربما يكون مخالفاً لما استقرت عليه نفسه»

ونعود إلى حديث تأبير النخل، فنقول:

إنَّ هناك أعمالاً للبشر تكتسب عن طريق العلم والتدريب والممارسة والتجارب والخبرة. كالزراعة والنجارة والحدادة والغزل والنسيج والحياكة ومعرفة خصائص النباتات والمعادن ونحو ذلك مما يتخصَّصُ فيه ويُجيده بعض البشر.

فهذه الأمور ليست من مهمة الرسالة، وليست من مهمة

ص: 34

الرسول صلى الله عليه وسلم ولا من مؤهلاته أنْ يكون ماهراً فيها، ولا خبيراً بدقائقها، ولا يضيره أنه ليس عالماً بالذرةولا بطبقات الأرض، ولا بتفاعل الكيمياويات، ولا ينقل الصور والأصوات عبر الآلات، ومثل ذلك أمور الطب وفنون الحرب.

فإذا ما تكلم صلى الله عليه وسلم مع الخبراء فيه فكلامه مبني على الظن الذي قد يخطئ، كأي إنسان غير متخصِّص، ولهذا جاء في بعض روايات حديث تأبير النخل:«إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ» . «إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنّاً» وحديث تأبير النخل من هذا القبيل، فهو كلام مع المُتخصِّصين في الزراعة، العالمين بما يصلح النخيل.

فمحاولة الباحث جَرَّ هذا الحديث إلى المعاملات. لتستظل بظل هذا الحديث محاولة فاشلة ومرفوضة ومكشوفة البطلان، لما سنُبَيِّنُهُ في شرح الحديث تحليلياً، فنقول وبالله التوفيق:«أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِشُؤُونِ دُنْيَاكُمْ» جملة تقسم إلى ثلاثة مقاطع:

«أَنْتُمْ» والمراد من المخاطبين.

و «أَعْلَمُ» والمراد من المفضل عليه.

و «شُؤُونِ دُنْيَاكُمْ» وتحديد المراد منها.

وبعبارة أخرى: مَنْ؟ أعلم مِنْ مَنْ؟ وبأي شيء هم أعلم؟

أما المقطع الأول فالخطاب الشرعي عند الأصوليين هو أصالة لمن سمعوا الخطاب، وقد يقصر عليهم إذا كان التكليف لهم وحدهم، كقوله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ

ص: 35

فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} (1) فالخطاب هنا لجنود طالوت لا يتعداهم إلى غيرهم. وقد يراد بالتكليف غيرهم معهم، كقوله تعالى:

{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (2) فالتكليف قطعاً موجه للسامعين إلى يوم القيامة، لكن غير السامعين هل هم مُكلَّفون بالخطاب والنص؟ على معنى أقيموا الصلاة يا من يتأتى خطابكم بهذا التكليف في أي زمان وفي أي مكان؟ أو مكلَّفُون بالقياس على السامعين؟ قولان عند الأصوليين.

فالخطاب في الحديث «أَنْتُمْ» للعشرة والعشرين الذين كانوا يلقِّحُون النخل بالمدينة أصالة، وحين يراد غيرهم معهم يبحث في المقصود بهذا الغير ليعطي الحكم نفسه.

و «أَعْلَمُ» ، أفعل للتفضيل، فهل المفضَّل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كأنه قال:«أَنْتُمْ أَعْلَمُ مِنِّي» ؟ أو هو ومن على شاكلته مِمَّنْ يجهل هذا الشيء، أو المفضَّل عليه من عدا المخاطبين أصلاً. أي أنتم أعلم من كل الناس؟

و «شُؤُونِ الدُنْيَا» هل المراد بها مصلحة النخل فقط؟ أو مصلحة النخل وما على شاكلتها من المهن والخبرات؟ أو كل شؤون الدنيا؛ فتدخل المعاملات؟

لنتصوَّر الاحتمالات، ثم نختار منها، ما يصلح لأن يكون مراد الشرع الحكيم:

الاحتمال الأول: أنتم أيها الذين تُلَقِّحُون النخل أعلم بما يصلح النخل منِّي ومِمَّنْ لا علم له بالزراعة، أي أنتم أعلم

(1)[البقرة: 249].

(2)

[البقرة: 43].

ص: 36

بشؤون دنياكم هذه التي تباشرونها، والتي لم تنجح فيها مشورتي، أعلم مني ومن مثلي، فالحديث على هذا واقعة عين أو واقعة حال، لا يستدل بها على غيرها أصلاً.

الاحتمال الثاني: أنتم أيها الذين تٌلَقِّحُون النخل ومن على شاكلتكم مني. ومِمَّنْ ليس من أهل الصناعات، والكلام على التوزيع، على معنى: أنَّ كل أهل صنعة أعلم بها مِمَّنْ ليسوا من أهلها، كما يقال: أهل مكة أدى بشعابها.

الاحتمال الثالث: أنتم أيها الذين تٌلَقِّحُون النخل بالمدينة أعلم بما يصلح النخل مني ومن غيركم من زارعي النخل في البلاد والأزمان المختلفة، وهذا الاحتمال واضح البطلان، ففي بعض البلاد وفي بعض الأزمان من هم أعلم منهم بذلك.

الاحتمال الرابع: أنتم أيها الذين تٌلَقِّحُون النخل بالمدينة أعلم بالخبرات والصناعات المختلفة مني ومن غيري، حتى من أهل الصناعات أنفسهم، على معنى أنتم أعلم بالطب مثلاً مني ومن الأطباء. وهذا الاحتمال واضح البطلان.

هذه الاحتمالات الأربعة مبنية على أنَّ المراد من شؤون الدنيا الصناعات والمهارات والخبرات فإذا أردنا من شؤون الدنيا مصالح كل فرد أو مصالح كل مجموعة من مباحات الدنيا، كالمقارنة بين شراء بيت أو شراء سيارة كان الاحتمال الآتي:

الاحتمال الخامس: أنتم الذين تٌلَقِّحُون النخل بالمدينة ومثلكم جميع الناس أعلم بشؤون دنياكم وما يصلح لكم من

ص: 37