الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- صلى الله عليه وسلم، ولم يرد إلينا ردة أحد بسببها، بل لم يرد عتاب أحد منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليها رغم خسارتها، مما يشهد لهم بالإيمان الصادق المتين. والله أعلم بحكمته.
شبهات أخر:
نتقل بعد ذلك إلى الشبهات التي لبست الأمر على الباحث، والتي أوردها في بحثه على أنها تساعده في دعواه، وهي في الحقيقة عليه، لا له، كما سنبيِّنُ.
ويمكن تصنيف شبهاته إلى ستة أصناف:
1 -
شُبهات من أحاديث ظاهرها أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجتهد، وأنَّ الصحابة كانوا يراجعونه ويردُّونه فيرجع.
2 -
أحاديث ظاهرها أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم اجتهد فأخطأ فعاتبه ربه.
3 -
أمور يدعى أنه اجتهد فيها صلى الله عليه وسلم وأخطأ وبقي الخطأ معمولاً به حتى اليوم.
4 -
حوادث يدعى أنَّ الصحابة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - خالفوا فيها أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وغيَّرُوا حُكمه.
5 -
حادثة يدعى أنَّ التابعين رضي الله عنهم خالفوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وغيَّرُوا حُكمه.
6 -
شُبهات من أحاديث يتوهَّم الباحث منها أنه صلى الله عليه وسلم اجتهد في المعاملات ولم يحصن بوحي حين الاجتهاد ولا بعده.
وسنحاول إزاحة الغشاوة، وإزالة اللبس، وكشف الزيف، ودحض الشبهات.
أما الصنف الأول فذكر منه:
1 -
مشورة الحُباب في بدر، وقد اخترنا فيما سبق أنَّ دراسة الأماكن وما يصلح منها لفن الحرب هو من شؤون الدنيا التي تترك لأهل الاختصاص. وليس فيها دلالة على المعاملات التي يقصدها.
2 -
وذكر منه أنه صلى الله عليه وسلم نزل عن رأيه في البقاء في المدينة (يوم أُحُدْ)، واستحباب لقومه وخرج. وهذا أيضاً من قبيل الخبرة بما يصلح الحرب. فليست دليلاً على المعاملات.
3 -
وذكر منه تفاوض الرسول صلى الله عليه وسلم مع غطفان ونزوله عند رأي أصحابه بعدم قبول الصلح، وهذا كسابقيه.
4 -
وذكر منه حديث أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أبا هريرة أنْ يُبَشِّرَ الناسَ أنَّ من قال لا إله إلَاّ الله دخل الجنة، فقابله عمر فمنعه من التبشير وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألَاّ يفعل فقبل رأي عمر.
5 -
وحديث أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم حرَّمَ قطع شجر الحرم فقال العباس: إلَاّ الإذخِر. فقال صلى الله عليه وسلم: «إِلَاّ الإِذْخِرَ» .
6 -
وحديث أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكسر القدور الفخارية التي طبخت فيها الحمر الأهلية، فطلب عمر الاكتفاء بغسلها، فوافقه صلى الله عليه وسلم واكتفى بغسلها. وللجواب على هذا نقول: مع أنَّ بعض العلماء يقولون: إنه اجتهاد في الصورة، وأنَّ الله تعالى أوحى إليه أنْ قُلْ لأبي هريرة: يبشِّرُ وسيأتيك عمر مانعاً له من التبشير فاقْبَلْ قولَ عمر، ليتَدَرَّبَ المسلمون على التفكير وتدبير الأمور، ودراسة المُقدمات، والنتائج ومراعاة المواقف.
وأوحى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنْ حَرِّمْ قطع شجر الحرم، فسيقول لك العباس: إلَاّ الإذخر، ليظهر للناس فضل الله ورحمته ومِنَّتِهِ على خلقه في الترخيص، وليتعلَّمُوا أنْ يلتجِؤوا إلى الله المُشَرِّعُ بطلب العفو والتخفيف.
وأوحى الله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنْ مُرْ بكسر القُدُورِ، فيقول لك عمر راجياً: أو نكتفي بغسلها؟ فاقبِلْ مشُورَةَ عمر، ليحسَّ المسلمون مدى رحمة الله بهم، فقد روى أنَّ بني إسرائيل كان عليهم أنْ يقطعوا الجزء المُتَنَجِّسَ من الثوب تشديداً عليهم. مع أنَّ بعض العلماء يقول ذلك وأنه اجتهاد في الظاهر
ووحي في الحقيقة لكنا نقول: ليكن اجتهاداً منه صلى الله عليه وسلم حين أمر بالتبشير، وحين أمر بكسر القدور، وحين نهى عن قطع شجرالحرم، لكن ما المانع:
أنْ تكون استجابته بالترخيص بقطع الإذخر، واستجابته لعدم التبشير، واستجابته للغسل بدل الكسر عن طريق الوحي؟
وهل يستبعد سرعة نزول الوحي بذلك؟
وهل يستبعد أنه صلى الله عليه وسلم يرى جبريل ويسمعه دون أنْ يراهُ الناس أو يسمعوه؟
ولم يستبعد أنْ يكون وحياً من الأول بالجزء الأول، ثم وحياً بالثاني بعد السؤال؟
يقول الباحث صفحة «40» : «إذْ لو كانوا يعلمون أنه يتكلم عن وحي لما جرؤ واحد منهم على إبداء رأيه» .
وهذا مردودٌ؛ لأنهم كانوا يعلمون كذلك أنَّ الوحي ينزل مُخَفَّفاً بناء على طلبهم، فإبداء رأيهم يرجون به تعديل القرار عن طريق الوحي أيضاً.
فها هو سعد بن عُبادة، بعد أنْ نزل قوله تعالى في سورة النور:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} (1)، وهو يعلم حق العلم أنه وحي .. وجدناه يناقش فيه، ويُبدي رأيه، فيقول: والله يا رسول الله. إني لأعلم أنها لحق، وأنها مِنَ الله، ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعاً قد تَفَخَّذَهَا رجلٌ
(1)[النور: 4].
لم يكن لي أنْ أهيجه ولا أحركه حتى أتى بأربعة شهداء؟ فوالله إني لا آتي بهم حتى يقضي حاجته.
فنزل الوحي في الحال والقوم جلوس بآية اللعان.
ويقول الباحث صفحة «39» : «ولو كان نطق الرسول وكلامه في هذا المجال بوحي من الله ما كانت هذه الوقفة والمراجعة وهذا الاستثناء، بل كان يعمد الوحي مباشرة من أول الأمر إلى استثناء الإذخر» .
وهذا مردود أيضاً؛ فقد نزل قول الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} (1). وبعد فترة من الزمن، قيل: شهر. نزل جبريل بقوله تعالى: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} . فهل يقال: لو كان وحياً لنزل من الأول: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} ثم إنَّ الباحث لا يملك دليلاً على أنَّ هذه الأحداث كانت باجتهاد ولم تكن بوحي؛ لأنَّ الدليل الوحيد أنْ يقول صلى الله عليه وسلم: هذا اجتهاد مني. ولم يحصل ذلك. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: «باب لا يحل القتال بمكة» قال ابن المنير: «والحق أنَّ سؤال العباس كان على معنى الضراعة وترخيص النبي صلى الله عليه وسلم كان تبليغا عن الله إما بطريق الالهام أو بطريق الوحي ومن ادعى أن نزول الوحي يحتاج إلى أمد متسع فقد وهم» (2).
هذا
…
وعلى سبيل إرخاء العنان للخصم، وعلى فرض أنَّ هذه الأحكام كانت باجتهاد، وأنَّ الرجوع إلى رأي الصحابة
(1)[النساء: 95]
(2)
[فتح الباري: 4/ 49، طبعة دار المعرفة، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي].
كان باجتهاد، أين شرع الله في قطع شجر الحرم؟ وفي غسل القدور؟ ما حكم من يقطع شجر الحرم؟ وما حكم من يأكل في هذه القدور بعد غسلها؟ لا يملك الباحث إلَاّ أنْ يقول: قطع شجر الحرم حرام إلَاّ الإذخر، ويُعذَبُ فاعله بالنار يوم القيامة، الأكل في القدور بعد غسلها حلال، لا يأثم الآكل ولا يعاقب يوم القيامة.
إذاً الحكم في النهاية حُكم الله، والتشريع في النهاية تشريع الله، ولو كان أساسه اجتهاداً، ونتيجة لذلك لا يملك مسم مخالفته وتغييره.
ثم هذا كله خارج عن دائرة المعاملات التي يركز عليها الباحث هدفه، فلا يفيده.
الصنف الثاني: أحاديث ظاهرها أنه صلى الله عليه وسلم اجتهد فأخطأ فعاتبه ربه، ذكر فيها الباحث أسرى بدر، والإذن لبعض المنافقين بالتخلف عن الغزو، واستغفاره صلى الله عليه وسلم للمنافقين، وإعراضه صلى الله عليه وسلم عن الأعمى، وهذا الصنف ضد الباحث وليس له - وإنْ أشعر بأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجتهد - لكنه يؤكِّدُ أنه صلى الله عليه وسلم لا يقر على خطأ، وأنَّ قراراته وأحكامه صلى الله عليه وسلم كانت تحت المراقبة والتوجيه.
الصنف الثالث: أمور يَدَّعِي فيها الباحث أن الرسول صلى الله عليه وسلم اجتهد فيها، فأخطأ، وبقي الخطأ حتى اليوم. ومَثَّلَ الباحث لها بحديث الذباب، وشغل به نحو عشرين صفحة، وكان مما قال صفحة «110»: «إنَّ حديث الذباب وغيره
من الأحاديث التي وردت في شؤون الطب إنما هي من الأمور الدنيوية العلمية التي لم يبعث الرسول لبيانها وتبلغيها للناس، وإنما كانت مجرد معارف دنيوية متناقلة، إما عن تجربة لهم، وإما عن أقوال عرفوها عمَّن قيل عنهم في ذلك الزمن: إنهم أطباء
…
وليس شيء من ذلك عن وحي من الله».
وفي صفحة «113» يقول: «فحتى لو سلَّمنا أنَّ في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء، فكيف يتغاضى الوحي من الله - وهو العليم الخبير - عما يحمله بقية جسمها من أمراض خطيرة؟» .
ونحن نقول له: إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك باجتهاده، وأخطأ، وأوقع المسلمين في خطر، فكيف يتغاضى الوحي - وهو العليم الخبير - عن إضرار محمد صلى الله عليه وسلم بالأُمَّة إلى الأبد؟.
ونحن نقول له: وإذا كان الله - كما نعتقد جازمين - لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فكيف يترك
الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر أمَّتَهُ بغمسها كلها؟ وقد أمرهم أن يطيعوه، وقال:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ؟ (1).
كيف يتركه يضر الأمَّة هذه الأضرار ثم يترك الرسول صلى الله عليه وسلم يجلبها للناس أربعة عشر قرنا؟
كيف لم يتغاض الله والوحي عن عبوس وجه أعمى لا يتأثر بهذا العبوس، فأنزل قرآناً يُتلى؟ ويتغاضى عن إيقاع الأمَّة كلها في حرج؟
أتعتقد أنَّ هذا يعقل؟
إني أعتقد أنه تشريع من الله، وبالايحاء والإملاء وليس بالتقرير، وهو تشريع حكيم لا شك في ذلك. ولنفهم الحديث فهماً علمياً صحيحاً.
حديث صحيح، يتكوَّنُ من فقرتين: فقرة الأمر والتوجيه: «إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ، ثُمَّ لِيَنْزِعَهُ» . وفقرة التعليل: «فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً وَفِي الْآخَرِ دَوَاءً، وَإِنَّهُ يَتَّقِى بِجَنَاحِهِِ الَّذِى فِيهِ الدَّاءُ» .
أما الفقرة الأولى فهي لم تأمر بطرح ذبابة واحدة في الإناء، وإنما تعالج حالة إذا وقعت لا حيلة للمرء في دفعها، «إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ» . أي رغماً عنكم، ولم يكن لكم حيلة في
(1)[النساء: 80].
(2)
رواه البخاري.
دفعه، والأمر بالغمس أمر إرشاد، كقولنا: إذا أعجبك الطعام فَكُلْ، أمر يَكِلُ للمأمور حريته واختياره، لا أمر إيجاب يأثم تاركه، إذْ لم يقل بذلك أحد.
إنَّ محاربة الذباب أمر مُسَلَّمٌ وبدهي ومشروع، ولكن بعض الذباب - كما لا يخفى - يتحصَّنُ بالمُبِيدات ويتعوَّدُ عليها فلا يتأثَّرُ بها، وبعض الأماكن لا يصلح فيها رش المُبيدات، فهناك فقراء في خيام أو عِشش، ولاجئون في عراء، لا يضعون طعاماً أو شراباً حتى يشاركهم فيه الذباب، والذباب من طبيعته العناد، كلما ذُبَّ وطُرِدَ عاد. فكان لا بُدَّ من تشريع لحالة قائمة. «إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ، ثُمَّ لِيَنْزِعَهُ» ، ولم يتعرَّض الحديث للأكل أو الشرب من الإناء الذي وقع فيه الذباب، بل ترك الأمر للآكل والشارب، إنْ شاء ورغب وقَبِلَ أكل أو شرب، وإنْ شاء أراق ما في الإناء، وإنْ شاء أبقاه وانتفع به في غير أكل أو شرب، كل ما يفيده الحديث رفع الحظر، والحُكم للسائل الذي وقع فيه الذباب بالطهارة والحل.
أما مسألة التقزُّز أو القبول فهذا أمر آخر، فقد تتقزَّزُ نفس من طعام هو أطيب عند نفس أخرى، وقد تقبل نفس على ما تنفر منه نفس أخرى، وهذا مشاهد وكثير في أطعمتنا وأشربتنا، وقد قرأنا أنَّ الضبَّ أُكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تقبله نفسُهُ، فقيل له: أحرام هو؟ قال: «لَا وَلَكِنْ لَيْسَ بِأَرْضِ قَوْمِي فَنَفْسِي تَعَافُهُ» (1).
وأذكر أنني في عام 1953 وفي إحدى مدن (نَجْد)
بالسعودية دُعِيتُ إلى عشاء في حفل كبير مع بعض القوم، فلم أجد أمامي سوى كومة من الجراد المسلوق، فلم أستطع أنْ أمدَّ يدي، بل لم أستطع الإمساك بأمعائي التي ثارت ونفرت، والقوم يلتهمون بشغف وحماس، فقيل لي: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ: السَمَكُ وَالْجَرَادُ وَالْكَبْدُ وَالطِّحَالُ» (1)؟ قلتُ: بلى. ولكنه ليس بأرض قومي فنفسي تعافه.
وما لنا نذهب بعيداً فكثيراً ما نرى الذباب يعق على طعامنا وحلواننا، فنذبُّهُ ونطرده بعيداً، ثم نأكل، ولا فرق بين وقوع الذباب على التمر وبين وقوعه على سائل، ما دامت الأمراض والقاذورات في رجليه.
بل أقرب من هذا وذاك نرى أهلينا بالريف - وقد عشنا بينهم - يأكلون «المش القديم» يغمسون اللقمة بصعوبة بين الديدان المتحرِّكة، ثم يأكلون بشهية عظيمة، وما دود المش إلَاّ يرقات ذباب.
هذا بين يدي الآن كتاب بعنوان " الآفات الزراعية الحشرية والحيوانية " للدكتور محمد محمود حسني، أستاذ الحشرات بكلية الزراعة جامعة عين شمس وآخرين، يقول فيه:«إنَّ ذبابة الجبن توجد بكثرة أثناء الصيف في المطابخ ومخازن البقالة، وتضع الأنثى (50) خمسين بيضة على مواد الطعام أو على الأغطية التي تغطى بها الأوعية التي تحتوي على المواد الغذائية، يفقس البيض بعد يوم واحد في الصيف وثلاثة أيام في الشتاء» . اهـ.
(1) رواه أحمد والدارقطني.
فما أكثر ما نأكل من الأطعمة التي وقف عليها كل يوم من حيث لا ندري، أو من حيث ندري ونكتفي بطرده، فالتأفف والتقزُّزُ أو القبول يرتبط بالعادة والإلف.
وإذا كانت تلك حالنا في حضارتنا ومستوانا ومدنيتنا فكيف حال أهلنا في الريف؟ وما يفعل الفقراء واللاجئون في الصحراء والخيام؟
هبْ أنَّ الحديث أمر بإراقة الطعام والشراب إذا وقع فيه الذباب، وهُمْ لا يملكون إلَاّ كوباً واحداً من اللبن في اليوم، يقع فيه الذباب؟ أيموتُون جوعاً وعطشاً؟
ثم لنفرض أنَّ مسلماً يملك غير الكوب وغير الشراب، لكنه لا يستطيع محاربة الذباب، ولا منعه من أي كوب، ولا عن أي شراب، بماذا تنصحه؟
ليست صورة خيالية أو نادرة، بل واقعية وكثيرة، وقد عِشتُها عامين كاملين في (نَجْد) بالسعودية حين كنتُ مُعاراً سنة 1953، فكنا لا نستطيع أنْ نأكل طعاماً أو نشرب شراباً في ضوء النهار بسبب الذباب الذي يقاتلنا، نعم يقاتلنا بما تحمل العبارة من معان، لقد كنا - بدون مبالغة - نضع فمنا على فم الكوب نغلقه فيما عدا مكان الشفاه، فيهاجم الكوب من كل مكان الشفاه ومع الشفاه، ولم يكن يؤثِّرُ فيه أي مُبيد حشري.
فهل التشريع السمح الذي يرفع الحرج والضيق عن الناس يوصف بالجهل والخطأ يقابل بالرفض والرد والتكذيب؟
أم يوصف بالحكمة والسماحة والإحسان!!!؟
إنَّ الذي شرع لنا واباح شرب ما وقعت فيه الذبابة هو خالقنا وخالق الذبابة، وقد جنَّدَ في أجسامنا جيشاً بل جيوشاً من جنوده لمقاومة ما خلق من حولنا من جراثيم، ليس لمقاومة جراثيم الذباب فحسب، بل لمقاومة ملايين الجراثيم التي تدخل الجسم يومياً عن طريق المأكولات والمشروبات والملموسات، وحتى عن طريق الهوء الذي نعيش فيه.
فلنأخذ حذرنا ثم نتوكل عليه، فكم من محافظ مدقق حذر أتى من مأمنه، وكم من مُتوكِّلٍ حماهُ الله.
أما الفقرة الثانية من الحديث: «فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً وَفِي الْآخَرِ دَوَاءً، وَإِنَّهُ يَتَّقِى بِجَنَاحِهِِ الَّذِى فِيهِ الدَّاءُ» فهي ليست مجرد معارف دنيوية متناقلة كما يقول الباحث، إذ لم نسمع في طب العرب والعجم هذا التقرير، ولم نسمع به على لسان أحد قبل محمد صلى الله عليه وسلم، والاحتمالات العقلية لهذا الحُكم أربعة:
إما أنَّ الله أوحى به إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهو سبحانه خالق الداء والدواء جميعاً، وهذاهو الأمر المُسَلَّمُ المقبول.
وإما أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم قاله عن خبرة واجتهاد، وهذا مستحيل؛ لأنَّ معرفته تحتاج إلى مجهر ومُكبِّرٍ ومعامل وأبحاث وخبرة وأجهزة دقيقة جداً لم تكن خلقت بعد.
وإما أنْ يكون محمداً صلى الله عليه وسلم ألقى هذا القول دون علم، ودون تحسب للمسؤولية كما يفعل الغافل الذي يقول ما لا يَعِي، وحاشاهُ، فقد أوتِيَ الحكمة صلى الله عليه وسلم ويعلم أنه مُطاع.
وإما أنْ يكون قد تعمَّدَ الكذب والاختلاق، وحينئذٍ يكون
كذبه واختلاقه على الله؛ لأنَّ الصحابة والأمَّة في أربعة عشر قرناً تحمله على أنه من الله. وحاشاهُ صلى الله عليه وسلم أنْ يكذب على الله.
فتعيًّنَ أنْ يكون هذا القول وحياً من الله، ووجب علينا بحُكم الإيمان أنْ نُصَدِّقَهُ، فقد صدَّقْنَاهُ فيما هو أبعد من ذلك.
صدَّقناه في خبر السماء.
فإنْ وصل الطب والعلم إلى هذه الحقيقة - كما قرَّرَ بعض أطبائنا المسلمين - فبِهَا ونِعْمَتْ، وصَدَقَ اللهُ ورسُولُهُ، وإنْ لم يصل فهو ما زال يحبو، وصَدَقَ اللهُ ورسُولُهُ برغم عدم وصوله، وسيصل إنْ شاء اللهُ، لتخرس ألْسِنَةُ تجرَّأتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إنَّ الباحث لم يَرُدَّ الحديث ابتداءً، ولم يقبل الشك في الإسناد، ونزَّهَ الرُواة عن الكذب، ونزَّهَ البخاري عن الخطأ، فهو يقول صفحة «102»:«ونرى من هذا أنَّ الحديث توافرت له الشروط الخاصة بصحة الإسناد أو الرواية عند البخاري الموثوق به وبصحة ما يرويه، حتى ليصعب القول من ناحية الشكل بأنَّ هذا لم يصدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا طعن على الحديث من ناحية الرواية والإسند» ويقول في صفحة «116» : «ولن نمس بذلك روايات البخاري وصحّضتها، فالبخاري وغيره مِمَّنْ رَوَوْا هذا الحديث بسند صحيح لا مطعن فيه، ونقلوا إلينا نقلاً صحيحاً ما صدر عن الرسول، وأدُّوا بذلك الأمانة التي التزموا بها، ولا كلام لأحد في هذا» .
نعم لم يَرُدَّ الباحث الحديث، ولم يقبل ردًَّهُ عن طريق الشك في الإسناد، بل نزَّهَ الرُواة عن الخطأ، ولم يقبل أنْ يُؤَوَّلَ الحديث ويوجِّهه ببعض التوجيهات التي وجهه بها بعض العلماء، ولم يقبل أنْ يجعل الحديث من التشابه الذي لم يصل إليه علمه فيتوقَّف، ما دام الرسول صلى الله عليه وسلم قد نطق به.
ولكنه اختار أنْ يقصر الاتهام والخطأ على الرسول صلى الله عليه وسلم.
يقول صفحة «67» : «لكن أردتُ أنْ أقدِّم وجهة نظر، ربما لم يطرقها أحد حتى الآن، على قدر إطلاعي، وربما نقض هذاالاشتباك المستمر كما أرجو» .
ووجهة نظره التي لم يطرقها أحد حتى الآن هي أنَّ الخطأ من الرسول صلى الله عليه وسلم.
يقول صفحة «117» : «إنَّ ما قاله الرسول هو من الأمور الدنيوية التي يجوز أنْ يُبدي الرسول فيها رأياً ويظهر الصواب في خلافه» .
الصنف الرابع: حوادث ثلاث للصحابة يتوهَّمُ الباحث منها أنهم خالفوا حُكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهملوا حديثه، ولم
(*) تعبير من تعابير العوام بمصر يجعلونه كناية عن (الأمر غير المقبول)، مجلة الأزهر.
يعملوا به، وقصده من ذلك أنَّ له سوابق في مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم وردَّ أحاديثه، فإذا ردَّ على حديث أو لم يعمل به ردَّ الباحث أحاديث المعاملات ولم يعمل بها. وقد ذكر الباحث ثلاث حوادث.
الحادثة الأولى: ذكر صفحة «48» قول عائشة رضي الله عنها: «لو علم الرسول ما أحدث النساء لمنعهن المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل» (1)، يستدل به على مخالفة عائشة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ إِذَا اسْتَأْذَتَّكُمْ» (2).
وتحقيق المسألة أنَّ خروج النساء إلى المساجد لم يكن واجباً في وقت من الأوقات، وإنما أذن لهُنَّ ورخَّص لهُنَّ فيه على أنه خلاف الأولى، فقد جاءت إحدى الصحابيات تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أحب الصلاة معك. قال: «قَدْ عَلِمْتُ: وَصَلَاتُكِ فِى حُجْرَتِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِى دَارِكِ، وَصَلَاتُكِ فِى دَارِكِ خَيْرٌ لَكِ مِنْ صَلَاتِكِ فِى مَسْجِدِ قَوْمِكِ، وَصَلَاتُكِ فِى مَسْجِدِ قَوْمِكِ خَيْرٌ لَكِ مِنْ صَلَاتِكِ فِى مَسْجِدِ الجَمَاعَةِ» (3).
ثم إنَّ الترخيص لهُنَّ كان مشروطاً بشروط أهمها: أنْ يخرُجْنَ تفلات غير متزيِّنات وغير متطيِّبات وأنْ يكون هناك أمن من الفتنة منهُنَّ وعليهِنَّ، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم قال:«ائْذَنُوا لَهُنَّ» إذا التزمن بالشروط وامنعوهُنَّ إذا لم يلتزمن، فلو أنَّ عائشة رضي الله عنها منعت غير الملتزمات لكانت مطبقة للحديث منفِّذة له، وليست مخالفة له، ومع ذلك لم تمنع عائشة خروج النساء، وما زال حُكم خروج النساء إلى
(1) رواه البخاري.
(2)
رواه البخاري.
(3)
رواه أحمد والطبراني.
المساجد مُرَخِّصاً به إلى اليوم بشرط إِذْنِ الزوج والأمن من الفتنة والالتزام بحدود الشريعة، وكان بعض الصحابة يأذنون لأزواجهم بالخروج إلى المساجد، وبعضهم لا يأذنون، كل يقدِّرُ الظروف والأخطار، وقد فهموا أنَّ الأمر لرفع الحظر والإرشاد وليس للوجوب، فالذي يأذن بشروطه لا يكون مخالفاً، والذي لا يأذن لفقد الشروط لا يكون مخالفاً.
الحادثة الثانية: التقاط ضالة الإبل، وحديث البخاري: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ تَرَى فِي ضَالَّةِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: «خُذْهَا، فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ، أَوْ لِأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ» . قَالَ السَائِلُ: كَيْفَ تَرَى فِي ضَالَّةِ الْإِبِلِ؟ قَالَ: «دَعْهَا؛ فَإِنَّ مَعَهَا وَحِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا» .
شرَّعَ اللهُ اللُّقَطَة، أي التقاط الأشياء الشائعة من أصحابها، وحفظها، والتعريف عنها، فإنْ جاء صاحبها أحدها، وإلَاّ تملكها الملتقِط، فحكمة المشروعية الحفاظ على الأموال الضائعة من أنْ تهلك أو تمتد إليها يد العُصاة واللصوص تركت في مكانها حتى ترجع إليها صاحبها حين يفتقدها ويبحث عنها.
هذه هي القاعدة الشرعية التي طبقها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الغنم الضالة يجدها المسلم، أيلتقطها أم يتركها؟ قال له: التقطها: لأنك إنْ لم تفعل التقطها أخ مثلك، أو أكلها ذئب «هِيَ لَكَ، أَوْ لِأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ» .
وسئل عن الإبل الضالة يجدها المسلم. أيلتقطها أم يتركها؟ وكانت الإبل في تلك الأيام آمنة مأمونة، لا يقدر عليها الذئب، وهي قادرة على المشي الطويل دون تعب، فقد وهبها الله خُفاً لا يغوص في الرمال، حتى سميت سفينة الصحراء، وهي صابرة على العطش حتى تجد الماء، وهي ترعى العشب الصغير وفروع الشجر العالي، والناس أمناء، لا يمد أحدهم يده على مال غيره، أمام هذه الظروف قال له:«دَعْهَا؛ فَإِنَّ مَعَهَا وَحِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَجِدَهَا صَاحِبها» .
والحديث واضح في أنَّ الفرق بين الغنم وبين الإبل عدم الأمن على الأولى، والأمن على الثانية، والتعليل صريح لكل من النوعين، ويقول العلماء: إنَّ الحكم المُعلَّلَ بعلة يتغيَّرُ إذا تغيَّرَتْ العلة، فإذا قلتُ لابني: التحف: لأنَّ الجو بارد، فالتَحَفَ في الجو البارد، ثم لم يلتَفَّ في الصيف في شدَّة الحرارة لا يقال: إنه خالف الأمر؛ لأنَّ معنى الأمر التحف إذا كان الجو بارداً ولا تلتحف إذا كان الجو حاراً، فهو منفذ للفظ الأمر في الحالة الأولى، إذ لو سألتني: هل أمره بالالتحاف في الحر؟ لقلت: لا؟
هذا الذي حصل بالنسبة للحديث. معناه: لا تلتقط الإبل الضالة ما دمت آمنة، ومفهومه، التقطها إذا كانت غير آمنة أو غير مأمونة، ولو سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتركها إذا تعرَّضت للهلاك؟ لقال: لا. بل التقطها حينئذ، وعمل المسلمون بلفظ الحديث زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وزمن أبي بكر
وعمر، فلما كان عثمان رضي الله عنه تغيَّر حال المدينة، والباحث نفسه يعترف بذلك فيقول صفحة «50»:«حتى جاء عهد عثمان رضي الله عنه وحال المدينة والصحراء حولها والطرق إليها قد تغيَّرت، ولم تعد شبه منعزلة، وتغيَّر حال الأمن الذي كان من قبل، بوجود الأغراب النازحين القادمين للمدينة الذين يجوبون الصحراء منها وإليها، حينئذ رأى عثمان تغيُّرَ الحال، وأنَّ الجِمالَ التي كانت آمنة من قبل، وترعى الصحراء أصبحت معرَّضة للخطر، يمكن لأي غريب راجع لبلده من المدينة مثلاً أنْ يسُوقها أمامه، ويبيعها في بلد آخر، في الشام أو العراق أو مصر، ولذلك رأى الخليفة رضي الله عنه ووافقه عَلِيٌّ رضي الله عنه التقطها حفظاً لها ولمال صاحبها» .
الباحث يرى أنَّ عثمان رضي الله عنه وعليّاً رضي الله عنه خالفا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهملا حديثه، فيستبيح هو لنفسه تبعاً لذلك أنْ يخالفه صلى الله عليه وسلم في البيع والشراء وبقية المعاملات، ولا يأخذ بحديثه. والحق أنهما عملا بمفهوم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يخالفاه، ولو سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهما خالفاك؟ لقال: لا. ولو اشتم أحد الصحابة أنهما خالفا بعملهما هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لقامت الدنيا وقعدت، ولكن شيئاً من هذا لم يحدث، لأنَّ الكل يفهم أنَّ المخالفة تحصل لو كانت آمنة، ثم سمح بالتقاطها.
الحادثة الثالثة شبيهة بالثانية: إلى حد كبير، وهي تضمين الصناع، على معنى أنَّ الصانع الذي يأخذ القماش مثلاً لتصنيعه إذا تلف عنده، هل يضمن؟ أو لا يضمن؟
الحديث يقول: «لَا ضَمَانَ عَلَى مُؤْتَمَنٍ» (1) وهو حديث ضعيف الإسناد، لم يأخذ به بعض الأئمة الفقهاء، وأخذ به بعضهم، ثم إنَّ المؤتمن هو الذي يأتمنه الناس، ويشتهر بينهم بالأمانة، وظل الناس أمناء مؤتمنين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وعمر وعثمان، حتى إذا كان عهد عليٍّ رضي الله عنه ظهر خراب الذمم، وأصبحوا - كما هو الحال في بعض البلاد اليوم - يفتعلون حريقاً أو كسر باب، ويدَّعُون التلف أو السرقة، وهم في الحقيقة لصوص، فقضى عليٌّ رضي الله عنه بتضمين الصناع الذين يتهمون، وبعدم تضمين من أقام الدليل على أنه ضاع أو هلك رغماً عنه.
عجبٌ أنْ يقال: إنَّ عليَاً رضي الله عنه بهذا خالف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الحديث على فرض صحته لم يقل: «لا ضمان على الصناع» وإنما قال: «لَا ضَمَانَ عَلَى مُؤْتَمَنٍ» وعليٌّ رضي الله عنه لم يضمن الأمين المؤتمن، فكيف يقال: إنه حكم باجتهاده حكماً يغاير ما حكم به الرسول صلى الله عليه وسلم؟
وما الهدف من هذا الاستنباط الغريب؟
هو أنْ يستبيح الباحث لنفسه أنْ يجتهد ويخالف أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المعاملات كلها بحيث لا يلتزم إلَاّ بما جاء في القرآن الكريم.
(1) رواه البيهقي والدارقطني بسند ضعيف.
الصنف الخامس: ادعاؤه أنَّ التابعين خالفوا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم وعملوا باجتهادهم في التسعير.
والحديث: طُلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يُسَعِّرَ، فقال:«إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّزَّاقُ وَإِنِّى لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّى وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِى بِمَظْلَمَةٍ فِى دَمٍ وَلَا مَالٍ» (1).
من الواضح أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينه عن التسعير، وإنما لم يفعله احتياطاً وعملاً بالأَوْلَى والأفضل، وكثيراً ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، يترفع عما يتوهَّمُ منه شبهة ظلم، لهذا لم يضرب بيده صلى الله عليه وسلم امرأة ولا صبياً ولا خادماً مهما استدعى الأمر التأديب، مع أنَّ الضرب للتأديب جائز، وهذا ما فهمه بعض العلماء من حيث التسعير، فأجازه بعضهم، ومنعه بعضهم.
فهل الاجتهاد في فهم الحديث التزام به؟ أو طرح له ومخالفة؟
لا نقاش لأنه التزام به.
إنَّ الباحث يتلمس ويجهد نفسه، ليضع يده على مخالفة للرسول صلى الله عليه وسلم تبيح له - أو يستبيح بها - ألَاّ يكون أول المخالفين.
والغربي أنه لا يعتَدُّ بأقوال الصحابة والتابعين إلَاّ فيما يوهم ظاهره المخالفة، كما سبق، أما ما عدا ذلك فلا؛ فيقول في صفحة «57»: «وإذا كنا نقول هذا من أقوال الرسول الاجتهادية - أي لا نلتزم بها - فمن باب أولى نقوله بالنسبة
(1) رواه ابن ماجه والترمذي.
لأقوال الصحابة والتابعين والأئمة ومن جاء بعدهم من فقهاء المذاهب».
الصنف السادس: معاملات ثلاث يتوهَّمُ منها الباحث أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم اجتهد فيها، ولم يحصن بوحي، لا قبل الاجتهاد ولا بعده، هي: القراض، وبيع العرايا، والسَلَم. فيقول عن القراض صفحة «37»:«فالقراض والمضاربة مثلاً كان نظاماً معمولاً به في الجاهلية، وظل حتى وجده الرسول في المدينة، ونظر إليه على ضوء المصلحة والقواعد العامة، فتركه كما هو يتعامل الناس به دون حرج، وهو موجود في كتب الفقه الآن على الأسس التي كان عليها في الجاهلية على اعتبار أنَّ الرسول قد أقرّهُ» .
ولست أرى ضيراً في هذا، فبعض المعاملات الصالحة التي كانت في الجاهلية أقرَّها الإسلام، وصارت تشريعاً إسلامياً سماوياً بعد إقرارها، حتى في العبادات، فقد أقرَّ السعي بين الصفا والمروة ومعظم شعائر الحج، وكانت منذ زمن إبراهيم - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَلَاةِ وَالسَّلَامُ -. وإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لها إقرار من الله تعالى، ولا يستطيع إنسان مسلم أنْ يجزم بأنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم لم يوح إليه بإقرارها قبل إقراره لها؛ لأنَّ ذلك لا يعرف إلَاّ عن طريقه هو صلى الله عليه وسلم، كأن يقول: ليس وحياً وإنما هو الرأي، كما قال في منزل الجيش ببدر، لكنه لم يقل، ثم لنفرض أنه صلى الله عليه وسلم أقرَّ هذه المعاملة أو غيرها عن اجتهاد. فما هو شرع الله فيها؟ من غير المعقول ومن غير المقبول شرعاً ألَاّ يكون الله حكم فيها، إذن حُكم الله إما موافق لما حكم به محمد صلى الله عليه وسلم فالحكم في النهاية لله، وإما
مخالف لما حكم به محمد صلى الله عليه وسلم وتنازل الله عن حكمه الذي يرضاه وأقرَّ حكم محمد صلى الله عليه وسلم وهذا غير معقول ولا مقبول عند المسلمين.
وبعبارة أخرى:
أحلال العمل بالقراض، فلا عقاب عليه؟
أم حرام يعاقب عليه يوم القيامة؟ وإذا دخل في الحل أو الحرمة فهو حكم الله.
أما بيع العرايا فيقول الباحث في صفحة «40» : «وجدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيعون الرطب على النخل بتمر جاف، فسألهم: هل ينقص الرطب إذا جف؟ قالوا: نعم. قال: لا تبيعوا. ثم اشتكوا من هذا المنع، لما فيه من التضييق عليهم، واستمع الرسول إلى وجهة نظرهم، فغيَّر رأيه، وأجازه للتيسير عليهم، على أن يقدر الرطب بما يصير إليه من تمر بعد جفافه، وجاء في " صحيح البُخاري " «رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا
…
» أترى لو أنَّ الوحي مع الرسول أكان يحصل مثل هذا من المراجعة والشكوى التي تنتهي بجواز هذا البيع بعد أنْ نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً؟ أظن لا يمكن».
نقول له: بل تأكَّدْ أنه ممكن وواقع، وأمثاله كثيرة في الشريعة الإسلامية.
أَلَمْ ينْهَ الله تعالى عن مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بعد أنْ يقدموا بين يدي نجواهم صدقة؟ ثم خفَّفَ لما أعلنوا المشقة في ذلك، فغيَّر الحكم بقوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ
…
} (1) الآية.
ما الفرق؟
(1)[المجادلة: 13].
مراجعة وشكوى انتهت بجواز المناجاة بدون صدقة، ومراجعة وشكوى انتهت بجواز بيع العرايا، والمهم كما قلنا ونقول: أين شرع الله في بيع العرايا؟
أحلال عند الله لا يعاقب فاعله يوم القيامة؟
أم حرام يعاقب عليه يوم القيامة وخالف فيه الرسول صلى الله عليه وسلم حُكم الله؟
أما السَلَم فقد ذكره صفحة «44» بقوله: «وترى من هذا الحديث الصحيح أنَّ الرسول قد أقرَّ ما وجدهم يتبايعون به من بيع التمر قبل بدو صلاحه، أقرَّ ما كانوا بتعاملون به، ويحقِّقُون به مصالحهم، وذلك باجتهاد منه» .
من أين عرف الباحث أنه باجتهاد؟ لا أدري.
ثم يصل إلى هدفه، فيقول صفحة «46»: «فما دام الرسول كان يجتهد، وعلم ذلك منه أصحابه، وما دام اجتهاده كان قائماً على القواعد الموجودة الآن، وهادفاً إلى تحقيق المصلحة التي يراها في واقع الناس حوله، وما دام هذا الاجتهاد قد شمل الكثير من أنواع المعاملات في زمنه على ضوء الظروف التي كانت سائدة في أيامه
…
أفلا يجوز لمن يأتي بعده من أيام الصحابة وحتى الآن أنْ يُدْلِي في الموضوع
باجتهاده أيضاً؟ ولو أدى اجتهاده إلى غير ما قرَّرَهُ الرسول باجتهاده؟».
فالنتيجة التي وصل إليها الباحث باختصار أنَّ تشريع القراض وبيع العرايا والسلم كان مبنياً على اجتهاد منه صلى الله عليه وسلم وما دام كان يجتهد فلنا كذلك أنْ نجتهد ونخالفه، لا أحد خير من أحد، ولا اجتهاد أولى من اجتهاد. هذه نتيجته.
ونعيد إلى الأذهان أنَّ القول باجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك مجرَّد افتراض، ومجرَّد احتمال من اثنين، ولا يصح علميّاً أنْ يبني عليه بناء، بل هو احتمال مرجوح، والراجح أنَّ هذا التشريع كان بوحي من الله تعالى؛ لأنَّ معرفة مصالح العباد على التحقيق لا يعلمها الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلمها عند الله.
ومن غير المعقول عقلاً ولا شرعاً أنْ يرى الله ويسمع ما يُقرِّرُهُ محمد صلى الله عليه وسلم ولا يكون له - جَلَّ شَأْنُهُ - الموحى بالقرار الثاني، وقد أكثر العلماء القول في توجيه أمثال ذلك عند كلامهم على حكمة التدرُّج في التشريع، وقد ضربت مثلاً بتقديم الصدقة عند مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومثلها تحريم الخمر، فهل يقال فيهما: لو كان وحياً لجاء من أول الأمر بما انتهى إليه؟
أما المراجعة والشكوى التي غيَّرَتْ القرار الأول إلى القرار الثاني فهي كذلك ليست دليلاً على أنَّ الحكم الأول كان باجتهاده، فقد حصل منه في الوحي المتلوِّ في القرآن الكريم.
لقد كان صوم شهر رمضان يبدأ في الليل من بعد صلاة
العشاء، وليس للمسلمين أن يأكلوا أو يباشروا ما بين العشاء والفجر، فكانت فترة الفطور المباحة قصيرة، من المغرب حتى العشاء، وكان في ذلك حرج شديد وشكوى وتململ، فأنزل الله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (1).
فهل يقال فيه: لو كان وحياً لجاء من أول الأمر بما انتهى إليه؟
أو يقال فيه: ما دام القرار الأول قد أحدث ضيقاً وحرجاً وشكوى فمجيء القرار الثاني دليل على أنه ليس وحيا؟ وإنما هو رأي لمحمد صلى الله عليه وسلم، اجتهد أولاً فقرَّر، فلما سمع الشكوى اجتهد ثانياً فغيَّر للتيسير عليهم؟
ماذا يقول الباحث في هذه الأمثلة القرآنية الصريحة في أنَّ التعديل الناتج عن الضيق لا يدل على أنَّ القرار كان بالاجتهاد؟
ألا يسلم بأنَّ دعواه أنَّ هذه القرارات كانت باجتهاد دعوى مرجوحة، ولا دليل عليها؟ فما يبنى عليها باطل؛ لأنه بناء على غير ثابت؟
ثم لنفرض أنَّ القرار الأول والثاني مراعاة للمصالح، واجتهاد من الرسول صلى الله عليه وسلم، هل يبيح هذا للباحث أنْ يجتهد ويُشرِّع نقيضه؟
(1)[البقرة: 187].
أعجب لذلك ويعجب المسلمون، لفرق بديهي، هو أنَّ جبريل كان ينزل بعد اجتهاد محمد صلى الله عليه وسلم، فلو لم يكن ما قرَّرهُ محمد صلى الله عليه وسلم حُكم الله لَعَدَّلَهُ، فحيث لم يُعَدِّلْهُ أصبح اجتهاده تشريعاً من الله، ثم إنَّ الله تعالى أمرنا بطاعة محمد صلى الله عليه وسلم والأخذ عنه:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1).
وليس كذلك الباحث.
وهكذا وصل الباحث برسول الله صلى الله عليه وسلم حدّاً لا يقبله لنفسه، وصل إلى:
1 -
محمد صلى الله عليه وسلم يجتهد ويخطئ.
2 -
محمد صلى الله عليه وسلم يردُّهُ من حوله من أصحابه، ويُصَحِّحُون له الخطأ.
3 -
محمد صلى الله عليه وسلم يتَّخِذُ القرار، ويرجع عنه قبل أنْ يجِفَّ مدادُهُ.
4 -
محمد صلى الله عليه وسلم يخالفه الصحابة، ويتَّخذُون قرارات مناقضة لقراره، ويضربون بأحكامه عرض الحائط.
5 -
محمد صلى الله عليه وسلم يخالفه التابعون، ويُقرِّرُون ما رفض أنْ قرَّرَهُ.
6 -
محمد صلى الله عليه وسلم يجوز لنا أن نجتهد كما اجتهد، ولو أدَّى اجتهادنا إلى غير ما قرَّرَهُ.
هكذا؟
فماذا أبقى لمحمد صلى الله عليه وسلم من القدسية والرسالة؟
إنَّ شبهة اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم هي التي انزلق منها الباحث
(1)[الحشر: 7].
إلى أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن محروساً بوحي في المعاملات، لا بوحي مباشر، ولا بوحي سكوتي، ولا بوحي إقراري، كما ذكر ذلك في كتابه في صفحة «26» وهذه هي السقطة التي يُرَدِّدُها المُبَشِّرُون والمستشرقون وأعداء الإسلام.
والفرق أنهم يقولون: إنَّ محمداً لم يكن محروساً بوحي في جميع أقواله.
وهذا يقول: لم يكن محروساً بوحي في المعاملات.
ونتيجة ذلك أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن رسولاً في المعاملات التي لم تَرِدْ في القرآن، ولم يكن مُبلِّغاً عن ربه في المعاملات التي لم ترد في القرآن، ولم يكن لجبريل - حين ينزل - شأن فيما قرَّرهُ محمد صلى الله عليه وسلم لأمَّته في المعاملات التي لم تَرِدْ في القرآن، وبالتالي لا تكون طاعة محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك طاعة لله، ومخالفته في ذلك ليست مخالفة لله.
نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن وسوسة الشيطان الرجيم.
قد يفهم الإنسان هدف من يبالغ في الاقتداء بمحمد صلى الله عليه وسلم كما كان يفعل ابن عمر رضي الله عنه حيث كان يتحرَّى المكان الذي أناخ فيه الناقة لينيخ فيه ناقته، قد يفهم الإنسان دافعه وهدفه، فدافعه فرط حب، وهدفه زيادة الأجر.
أما الذي يدعو إلى عدم اتباعه صلى الله عليه وسلم في نصف أقواله وأفعاله فمن الصعب أنْ نفهم دوافعه وأهدافه، لكننا نَكِلُهُ إلى الله وإلى نيَّته، فالحديث يقول: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لاِمْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ
إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» (1).
قد أكون أطلتُ بعض الشيء، وعذري أنَّ (البحث) خطير، بل أخطر ما كتب عن السُنَّةِ حتى اليوم، وأخطر من كتابة المستشرقين والمُبَشِّرِينَ؛ لأنه مِمَّنْ ينتسب إلى العلماء المسلمين. وقد نُشر البحث وبيع للعامة، وهم في حاجة إلى بسط وإيضاح.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
(1) رواه البخاري.
(2)
[آل عمران: 8].
(3)
[الفاتحة: 6 - 7].
طبع بمطابع روز اليوسف