المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌السنة: تشريع وغير تشريع: - السنة والتشريع - موسى شاهين لاشين

[موسى شاهين لاشين]

الفصل: ‌السنة: تشريع وغير تشريع:

على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها.

الشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي أبصر به المُبصرون، وهُداهُ الذي به اهتدى المهتدون». اهـ (1).

‌السُنَّةُ: تَشْرِيعٌ وَغَيْرُ تَشْرِيعٍ:

غفر الله للقائلين بأنَّ السُنَّة تشريع وغير تشريع، والقائلين بالمصلحة. غفر الله لهم وسامحهم، لقد فتح هؤلاء وهؤلاء باباً لم يخطر لهم على بال.

القائلون بأنَّ السُنَّة تشريع وغير تشريع قصدوا بغير التشريع ما ورد منها خاصاً بالصناعات والخبرات كالزراعة والطب،، ولم يقصدوا أنَّ أحاديث المعاملات غير تشريعية، ولم يخطر ببالهم أنَّ باحثاً بعدهم سَيَسْتَدِلُّ بتقسيمهم ليدخل المعاملات وأحاديث البيع والشراء والإجارة وغيرها في السُنَّة غير التشريعية، وهُم من هذا القول برءاء، ولنا مع بعضهم وقفة قصيرة لإزالة لُبسٍ قد يفهم من كلامهم.

بعضهم أدخل في السُنَّة غير التشريعية، الأكل والشرب والنوم واللبس وهذا القول في حاجة إلى تحقيق.

الأكل والشرب مثلاً، كلام عام يشمل المأكول والمشروب، ويشمل الأواني، والهيئة أو الكيفية. فأخذ الكلام على عمومه مرفوض.

هل بيان المأكول والمشروب المُحَرَّم والمكروه والمباح من السُنَّة غير التشريعية؟

(1) إعلام الموقعين.

ص: 22

هل حديث: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، السَّمَكُ وَالْجَرَادُ وَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ» ، وحديث:«أُكِلَ الضَّبُّ عَلَى مِائِدَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم» سُنَّة غير تشريعة؟

اللهم. لا.

أحلَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الطيبات وحرَّمَ علينا الخبائث، فالمأكول والمشروب سُنَّة تشريعية من حيث الحِلِّ والحرمة، أما أنه أكل نوعاً من الحلال وترك غيرها يأكل نوعاً آخر، فالتشريع فيها الإباحة، إباحة ما أُكِلَ وما لم يُأْكَلْ مما لم يَنْهَ عنه.

وأما الأواني فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن الأكل والشرب في صحاف الذهب والفضة، ونهى عن الأكل في أواني الكفار إلا بعد غسلها. وهذا تشريع قطعاً.

أما أنه صلى الله عليه وسلم أكل في قصعة من الفخار ونحن نأكل في الأواني الفاخرة غير الذهبية والفضية فهذا من المُباحات. والإباحة تشريع.

وأما الهيئة:

فهناك هيئات مأمور بها وهيئات منهي عنها، وهيئات أخرى كثيرة مباحة، والكل تشريع. «يَا غُلَامُ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» هيئة أكل مشروعة، و «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ اخْتِنَاثِ الْأَسْقِيَةِ» ، أي الشرب من أفواهها هيئة ممنوعة شرعاً، أما أنه صلى الله عليه وسلم أكل بأصابعه ويده ونحن نأكل بالملاعق والشوك والسكاكين فهو من المباحات المشروعة.

فماذا في الأكل والشرب من السُنَّة غير التشريعية؟

إن قصدوا بالسُنَّة غير التشريعية في ذلك السُنَّة غير الملزمة، وهي المباحات كان الخلاف بيننا لفظياً.

ص: 23

وإن قصدوا ما هو مطلوب على وجه الوجوب أو الندب، وما هو منهي عنه على وجه الحرمة أو الكراهة فهو غير مُسَلَّم. ومثل ذلك يقال في النوم واللبس وكل ما هو خاص بالحاجة والطبيعة البشرية كما يقولون، حتى قضاء الشهوة مع الزوجة له قواعده وأصوله وحدوده المشروعة.

ولست أرى سُنَّةً تشريعية بالمعنى الحقيقي اللهم إلَاّ ما ورد فيما طريقه الخبرة والصنعة والتخصص كالزراعة والصناعة، ويمكن أن يلحق بها الطب وقيادة الجيوش وفن الحرب. وستأتي زيادة إيضاح إنْ شاء الله.

أما القائلون بالمصلحة كمصدر من مصادر التشريع فقد اشترطوا لها ألَاّ تُصادم نصاً من الكتاب أو السُنَّة الصحيحة، فهم أخذوا بمراعاة المصالح فيما لم يرد فيه قرآن أو حديث صحيح، أما ما ورد فيه قرآن أو حديث صحيح فالمصلحة فيما جاء به النص.

****

لكن الباحث اندفع من هذا الباب مُحَطِّماً كل الحواجز، ينادي: لا يقف في طريقي ولا في طريق ما أراه مصلحة أي حديث.

يستدل بكلام الإمام نجم الدين الطوفي الحنبلي المتوفى سنة 710 هـ حيث يقول: «إنَّ مصلحة سياسة المُكَلَّفين في حقوقهم معلومة لهم بحكم العادة والعقل، فإذا رأينا دليل الشرع متقاعداً عن إفادتها علمنا أنا أُحِلْنا في تحصيلها على رعايتها، كما أنَّ النصوص لما كانت لا تفي بالأحكام علمنا أنا

ص: 24

أُحِلْنَا بتمامها على القياس، وهو إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه لجامع بينهما».

هذا كلام نجم الدين الطوفي في المصلحة، فبماذا استدل به الباحث؟

حمل الباحث عبارتي الطوفي «دليل الشرع» و «النصوص» على القرآن فقط دون السُنَّة، فقال: صفحة «35» : «والشاهد هنا - كما هو ظاهر - أنَّ المُكَلَّفين يعرفون مصالحهم ويدبرونها فيما لم يأت به دليل خاص من الكتاب، وهم أعلم بشؤون دنياهم» أي من الرسول صلى الله عليه وسلم.

ثم يقول صفحة «46» : «فما دام الرسول كان يجتهد، وما دام هذا الاجتهاد قد شمل الكثير من أنواع المعاملات أفلا يجوز لمن يأتي بعده أنْ يُدلي في الموضوع باجتهاده أيضاً هادفاً إلى تحقيق المصلحة، ولو أدى اجتهاده إلى غير ما قرَّره الرسول باجتهاده» .

إنَّ الباحث هنا يعطي نفسه الحق في الاجتهاد على قدم المساواة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غير عابئ بالفرق بين الثَّرَى والثُريا. وإنَّ الباحث مُتخصِّصٌ في التاريخ، يستخدم منهج المؤرِّخِين عند بحث الحديث النبوي، ويتعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتحدَّثُ عنه كما يتحدَّثُ مُؤرِّخٌ عن ملك أو قائد زال عهده، فكلُّ بحثه يدور حول جمع أخطاء في اجتهاده صلى الله عليه وسلم، بل يُصَوِّرُ مَنْ حَوْلَهُ بأنهم أدرى بالمصلحة منه صلى الله عليه وسلم وأنه يتَّخذُ القرار فينقضه بعد لحظات برأي أحد أصحابه.

فهو صلى الله عليه وسلم ينهى عن قطع أشجار الحَرَمِ، فيقول له عمُّهُ العباس: إلَاّ الإذخِر، فيقول صلى الله عليه وسلم:«إِلَاّ الإِذْخِرَ» .

ص: 25

وهو صلى الله عليه وسلم يأمر أبا هريرة أن يُبَشِّرَ الناس أنَّ مَنْ قال: لا إله إلَاّ الله دخل الجنة، فيقول له عمر: لا. يا رسول الله. إذن يتَّكِلُوا. فلا يُبَشِّر أبو هريرة فيقول صلى الله عليه وسلم: لا يبشر.

وينزل صلى الله عليه وسلم بجيشه على صلح مع قبيلة غطفان، فيرفض أصحابه الصلح والاتفاق فيترك موضوع الصلح ويمضي قول أصحابه.

وينهى صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الحمر الأهلية وكانوا قد طبخوها في قدورهم الفخارية، فأمر صلى الله عليه وسلم بكسرها، فقال عمر للرسول صلى الله عليه وسلم كاقتراح منه: أو نريقها ونغسلها؟ فوافق في الحال على اقتراح عمر.

ووجدهم صلى الله عليه وسلم يبيعون الرُطب على النخل بتمر جاف فقال: «لَا تَبِيعُوا» . فاشتكوا إليه المشقة من عدم البيع، فغيَّرَ رأيه وأجازه لهم.

ونهاهم صلى الله عليه وسلم عن بيع المعدوم، فَشَكَوْا إليه أنهم في حاجة إليه، فرخَّص لهم في السلم.

ومنع صلى الله عليه وسلم التقاط ضالة الإبل وأباحها عثمان بن عفان رضي الله عنه.

ولم يضمن صلى الله عليه وسلم الصانع والأجير إذا تلف عنده الشيء وضمنهم عليٌّ رضي الله عنه.

ومنع تأبير النخل فجاء التمر شيصاً فاعتذر لأصحابه وقال: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأُمُورِ دُنْيَاكُمْ» .

لماذا كل هذا؟

ص: 26

ليقول: إنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجتهد، وكان يراعي مصلحة قومه، وكان يخطئ ويرُدُّهُ أصحابُهُ، فحكمُهُ في المعاملات والبيع والشراء والقراض وغيرهما غير ملزم، إذْ لم يكن عن وحي، ولم يكن يسانده وحي، فلنا أنْ نُراعي مصلحة شعبنا وأُمَّتِنا فنجتهد كما اجتهد، ونُراعِي مصلحة أُمَّتِنَا كما راعى مصلحة شعبه، ولو أدَّى ذلك إلى اتخاذ قرار غير قراره وحُكم غير حُكُمِهِ.

وعبارته الصريحة في ذلك صفحة «46» يقول: «فما دام الرسول كان يجتهد، وما دام اجتهاده كان قائماً على القواعد الموجودة حتى الآن، وهادفاً إلى تحقيق المصلحة التي يراها في واقع الناس حوله، وما دام هذا الاجتهاد قد شمل الكثير من أنواع المعاملات في زمنه على ضوء الظروف التي كانت سائدة في أيامه. أفلا يجوز لمن يأتي بعده أنْ يُدْلِي في الموضوع باجتهاده أيضاً هادفاً إلى تحقيق المصلحة؟ ولو أدَّى اجتهاده إلى غير ما قرَّرَهُ الرسول باجتهاده؟» .

يا سبحان الله!!! كأنه ليس هناك شرع الله.

وكأنَّ الله ترك عباده يتعاملون دون قواعد أو ضوابط حتى يضعوا لأنفسهم في كل بلد ما يرون من ضوابط وقوانين حسبما يجتهدون في مصالحهم، وهم أعلم بشؤون دنياهم!!!

وكأنَّ الأُمَّة الإسلامية التي التزمت تشريع محمد صلى الله عليه وسلم أربعة عشر قرناً خاطئة في هذا الالتزام، أو وضعت نفسها في قيود ما كان أغناها عنها

ولا حول ولا قوة إلَاّ بالله العلي العظيم.

ص: 27