المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر غير واحد من علماء السلف والخلف من المفسرين وغيرهم أن سد مأرب كان صنعته أن المياه تجري من بين جبلين، فعمدوا في قديم الزمان فسدوا ما بينهما ببناء محكم جدا، حتى ارتفع الماء فحكم على أعالي الجبلين، وغرسوا فيهما البساتين والأشجار المثمرة الأنيقة، وزرعوا الزروع الكثيرة، ويقال كان أول من بناه سبأ بن يعرب وسلط إليه سبعين واديا يفد إليه وجعل له ثلاثين فرضة يخرج منها الماء، ومات ولم يكمل بناؤه، فكملته حمير بعده، وكان اتساعه فرسخا في فرسخ، وكانوا في غبطة عظيمة وعيش رغيد وأيام طيبة، حتى ذكر قتادة وغيره أن المرأة كانت تمر بالمكتل على رأسها فيمتلئ من الثمار مما يتساقط فيه من نضجه وكثرته، وذكروا أنه لم يكن في بلادهم شئ من البراغيث ولا الدواب المؤذية، لصحة هوائهم وطيب فنائهم كما قال تعالى (لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم، واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور) وكما قال تعالى: (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) - السيرة النبوية من البداية والنهاية - ت عبد الواحد - جـ ١

[ابن كثير]

فهرس الكتاب

- ‌تَقْدِيم

- ‌ذكر أَخْبَار الْعَرَب

- ‌ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم (2)

- ‌ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ سَدَّ مَأْرِبَ كَانَ صَنْعَتَهُ أَنَّ الْمِيَاهَ تَجْرِي مِنْ بَيْنِ جَبَلَيْنِ، فَعَمَدُوا فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ فَسَدُّوا مَا بَيْنَهُمَا بِبَنَاءٍ مُحْكَمٍ جِدًّا، حَتَّى ارْتَفَعَ الْمَاءُ فَحَكَمَ عَلَى أَعَالِي الْجَبَلَيْنِ، وَغَرَسُوا فِيهِمَا الْبَسَاتِينَ وَالْأَشْجَارَ الْمُثْمِرَةَ الْأَنِيقَةَ، وَزَرَعُوا الزُّرُوعَ الْكَثِيرَةَ، وَيُقَالَ كَانَ أَوَّلُ مَنْ بَنَاهُ سَبَأَ بْنَ يَعْرُبَ وَسَلَّطَ إِلَيْهِ سَبْعِينَ وَادِيًا يَفِدُ إِلَيْهِ وَجَعَلَ لَهُ ثَلَاثِينَ فُرْضَةً يَخْرُجُ مِنْهَا الْمَاءُ، وَمَاتَ وَلَمْ يَكْمُلْ بِنَاؤُهُ، فَكَمَّلَتْهُ حِمْيَرُ بَعْدَهُ، وَكَانَ اتِّسَاعُهُ فرسخا فِي فَرسَخ، وَكَانُوا فِي غِبْطَةٍ عَظِيمَةٍ وَعَيْشٍ رَغِيدٍ وَأَيَّامٍ طَيِّبَةٍ، حَتَّى ذَكَرَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ تَمُرُّ بِالْمِكْتَلِ عَلَى رَأْسِهَا فَيَمْتَلِئُ مِنَ الثِّمَارِ مِمَّا يَتَسَاقَطُ فِيهِ مِنْ نُضْجِهِ وَكَثْرَتِهِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ لم يكن فِي بِلَادهمْ شئ مِنَ الْبَرَاغِيثِ وَلَا الدَّوَابِّ الْمُؤْذِيَةِ، لِصِحَّةِ هَوَائِهِمْ وَطِيبِ فِنَائِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى (لَقَدْ كَانَ لسبإ فِي مسكنهم آيَة جنتان عَن يَمِين وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ، وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَة طيبَة وَرب غَفُور) وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)

- ‌ذِكْرُ خُرُوجِ الْمُلْكِ بِالْيَمَنِ مِنْ حِمْيَرَ وَصَيْرُورَتِهِ إِلَى الْحَبَشَةِ السُّودَانِ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ شِقٌّ وَسَطِيحٌ الْكَاهِنَانِ

- ‌ذِكْرُ خُرُوجِ أَبْرَهَةَ الْأَشْرَمِ عَلَى أَرْيَاطَ واختلافهما واقتتالهما وصيرورة ملك الْيمن إِلَى أَبْرَهَة بعد قَتله أرياط

- ‌ذِكْرُ سَبَبِ قَصْدِ أَبْرَهَةَ بِالْفِيلِ مَكَّةَ لِيُخَرِّبَ الْكَعْبَة فَأَهْلَكَهُ الله عَاجلا غير آجل

- ‌ذِكْرُ خُرُوجِ الْمُلْكِ عَنِ الْحَبَشَةِ وَرُجُوعِهِ إِلَى سيف بن ذى يزن الحميرى

- ‌ذِكْرُ مَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُ الْفُرْسِ بِالْيَمَنِ

- ‌بَاب ذكر بنى إِسْمَاعِيل وهم عرب الْحجاز

- ‌ذكر أصُول أَنْسَاب قبائل عَرَبِ الْحِجَازِ إِلَى عَدْنَانَ وَذَلِكَ لِأَنَّ عَدْنَانَ وُلِدَ لَهُ وَلَدَانِ مَعَدٌّ وَعَكٌّ

- ‌ذِكْرُ جُمَلٍ مِنَ الْأَحْدَاثِ الْوَاقِعَةِ فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ

- ‌بَاب ذكر جمَاعَة مشهورين كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ

- ‌ذِكْرُ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ أَحَدِ أَجْوَادِ الْجَاهِلِيَّةِ

- ‌ذكر شئ مِنْ أَخْبَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ

- ‌ذِكْرُ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ حُجْرٍ الْكِنْدِيِّ

- ‌ذكر شئ من أَخْبَار أُميَّة بن أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ

- ‌ذكر قس بن سَاعِدَة الايادي

- ‌ذكر زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ رضي الله عنه

- ‌ذكر شئ مِمَّا وَقع مِنَ الَحَوَادِثِ فِي زَمَنِ الْفَتْرَةِ

- ‌ذِكْرُ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ

- ‌ذِكْرُ تَجْدِيدِ حَفْرِ زَمْزَمَ

- ‌ذِكْرُ نَذْرِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ذَبْحَ أَحَدِ وَلَدِهِ

- ‌ذِكْرُ تَزْوِيجِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ

- ‌بَابُ ذِكْرِ نَسَبِهِ الشَّرِيفِ وَطِيبِ أَصْلِهِ الْمُنِيفِ

- ‌بَابُ مَوْلِدِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر ارتجاس الايوان وَسُقُوطِ الشُّرُفَاتِ، وَخُمُودِ النِّيرَانِ، وَرُؤْيَا الْمُوبِذَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الدَّلَالَاتِ

- ‌ذِكْرُ حَوَاضِنِهِ وَمَرَاضِعِهِ عليه الصلاة والسلام

- ‌ذِكْرُ رَضَاعِهِ عليه الصلاة والسلام مِنْ حَلِيمَةَ بِنْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ السَّعْدِيَّةِ

- ‌ذِكْرُ شُهُودِهِ عليه الصلاة والسلام حَرْبَ الْفِجَارِ

- ‌ذِكْرُ أَخْبَارٍ غَرِيبَةٍ فِي ذَلِكَ

- ‌بَابٌ فِي هَوَاتِفِ الْجَانِّ

- ‌بَاب كَيْفيَّة بَدْء الْوَحْي

- ‌ذكر عمره عليه الصلاة والسلام وَقت بعثته وَتَارِيخِهَا

- ‌ذِكْرُ إِسْلَامِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه

- ‌ذِكْرُ إِسْلَامِ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه

- ‌ذِكْرُ إِسْلَامِ ضِمَادٍ

- ‌بَاب أَمر الله رَسُوله عليه الصلاة والسلام بإبلاغ الرسَالَة إِلَى الْخَاص وَالْعَام

- ‌بَابُ مُجَادَلَةِ الْمُشْرِكِينَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

الفصل: ‌ذكر غير واحد من علماء السلف والخلف من المفسرين وغيرهم أن سد مأرب كان صنعته أن المياه تجري من بين جبلين، فعمدوا في قديم الزمان فسدوا ما بينهما ببناء محكم جدا، حتى ارتفع الماء فحكم على أعالي الجبلين، وغرسوا فيهما البساتين والأشجار المثمرة الأنيقة، وزرعوا الزروع الكثيرة، ويقال كان أول من بناه سبأ بن يعرب وسلط إليه سبعين واديا يفد إليه وجعل له ثلاثين فرضة يخرج منها الماء، ومات ولم يكمل بناؤه، فكملته حمير بعده، وكان اتساعه فرسخا في فرسخ، وكانوا في غبطة عظيمة وعيش رغيد وأيام طيبة، حتى ذكر قتادة وغيره أن المرأة كانت تمر بالمكتل على رأسها فيمتلئ من الثمار مما يتساقط فيه من نضجه وكثرته، وذكروا أنه لم يكن في بلادهم شئ من البراغيث ولا الدواب المؤذية، لصحة هوائهم وطيب فنائهم كما قال تعالى (لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم، واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور) وكما قال تعالى: (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد)

لما ورد فِي الْقُرْآن والاحاديث الصَّحِيحَة، ويكشف زيف الاسرائيليات والغرائب والمناكير.

ثمَّ يذكر أَخْبَار الْعَرَب وأحداث الْجَاهِلِيَّة، ثمَّ سيرة الرَّسُول صلى الله عليه وسلم حَتَّى وَفَاته، ثمَّ يُتَابع أَحْدَاث التَّارِيخ الاسلامي مُنْذُ خلَافَة أَبى بكر حَتَّى عصر ابْن كثير فِي الْقرن الثَّامِن الهجرى.

ثمَّ يختمه بأشراط السَّاعَة والفتن والملاحم وأحوال الْآخِرَة.

وتاريخ ابْن كثير هَذَا مرجع دَقِيق موفق لَا يزَال عَلَيْهِ التعويل.

قَالَ عَنهُ ابْن تغرى بردى: (وَهُوَ فِي غَايَة الْجَوْدَة) .

وَهُوَ مطبوع، وَإِن كَانَت طبعة رَدِيئَة.

3 -

اخْتِصَار عُلُوم الحَدِيث لِابْنِ الصّلاح.

وَهُوَ كتاب نَافِع أضَاف فِيهِ ابْن كثير فَوَائِد كَثِيرَة، ورتبه وَاخْتَصَرَهُ.

وَهُوَ مطبوع مَعَ تعليقات للمرحوم الشَّيْخ أَحْمد شَاكر باسم (الْبَاعِث الحثيث) .

4 -

مُخْتَصر كتاب (الْمدْخل إِلَى كتاب السّنَن) للبيهقي ذكره فِي مُقَدّمَة اخْتِصَار عُلُوم الحَدِيث.

وَهُوَ مخطوط.

5 -

رِسَالَة فِي الْجِهَاد.

مطبوعة.

6 -

(التَّكْمِيل فِي معرفَة الثِّقَات والضعفاء والمجاهيل) جمع فِيهِ كتابي (تَهْذِيب الْكَمَال) للمزى و (ميزَان الِاعْتِدَال) للذهبي.

وَزَاد عَلَيْهِمَا زيادات مفيدة فِي الْجرْح وَالتَّعْدِيل.

وَهُوَ مخطوط.

7 -

(الْهدى وَالسّنَن فِي أَحَادِيث المسانيد وَالسّنَن) وَهُوَ الْمَعْرُوف بِجَامِع المسانيد، جمع فِيهِ بَين مُسْند أَحْمد وَالْبَزَّار وابى يعلى وَابْن أَبى شيبَة، مَعَ الْكتب السِّتَّة الصَّحِيحَيْنِ وَالسّنَن الاربعة.

ورتبه على أَبْوَاب وَهُوَ مخطوط

ص: 10

8 -

مُسْند الشَّيْخَيْنِ أَبى بكر وَعمر.

وَفِيه - كَمَا قَالَ ابْن كثير فِي سيرته الَّتِى بِأَيْدِينَا صفحة 433 - ذكر كَيْفيَّة إِسْلَام أَبى بكر وَأورد فضائله وشمائله وأتبع ذَلِك بسيرة الْفَارُوق رضى الله عَنهُ، وَأورد مَا رَوَاهُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْأَحَادِيثِ وَمَا رَوَى عَنْهُ مِنَ الْآثَارِ وَالْأَحْكَامِ وَالْفَتَاوَى، فَبَلَغَ ذَلِكَ ثَلَاث مجلدات وَللَّه الْحَمد والْمنَّة! كَمَا قَالَ ابْن كثير.

وَهُوَ مخطوط أَيْضا لَا نَدْرِي أَيْن هُوَ.

9 -

السِّيرَة النَّبَوِيَّة مُطَوَّلَة ومختصرة ذكرهَا فِي تَفْسِيره فِي سُورَة الاحزاب فِي قصَّة غَزْوَة الخَنْدَق.

وَلم تنشر قبل.

10 -

طَبَقَات الشَّافِعِيَّة.

مُجَلد وسط، وَمَعَهُ مَنَاقِب الشَّافِعِي.

مخطوط.

11 -

تَخْرِيج أَحَادِيث أَدِلَّة التَّنْبِيه فِي فقه الشَّافِعِيَّة.

12 -

وَخرج أَحَادِيث مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب.

13 -

كتاب الْمُقدمَات.

ذكره فِي اختصاره مُقَدّمَة ابْن الصّلاح وأحال عَلَيْهِ.

14 -

وَيذكر ابْن حجر أَنه شرع فِي شرح للْبُخَارِيّ وَلم يكمله.

15 -

وَشرع فِي كتاب كَبِير فِي الاحكام، لم يكمل، وصل فِيهِ إِلَى الْحَج.

وَهَكَذَا نجد اتجاه ابْن كثير نَحْو السّنة وعلومها يَتَّضِح فِي كتبه، وتغلب عَلَيْهِ روح عصره فَيتَّجه إِلَى المختصرات والشروح وَنَحْوهَا، وَظهر ابتكاره فِي كِتَابَته لتاريخه الْفَذ:(الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة) وفى تَفْسِيره لِلْقُرْآنِ الْكَرِيم.

وَلم يخرج فِي تأليفه عَن النطاق الذى دارت حوله دراسته وأفنى فِيهِ عمره، وَهُوَ الحَدِيث والتاريخ وَالتَّفْسِير والاحكام.

وَقد شاع الِانْتِفَاع بِالْقدرِ الْقَلِيل الذى عرف طَرِيقه إِلَى النَّاس من كتب هَذَا الامام

ص: 11

الْعَظِيم، وَلَكِن الاسى يغشانا حِين نسْأَل: أَيْن هَذِه الْكتب الَّتِى تذكر لَهُ وَلَا يهتدى إِلَى مَكَانهَا؟ ! والتى نعتقد أَنَّهَا لَو عثر عَلَيْهَا وقدمت إِلَى النَّاس لسدت فراغا وحققت نفعا.

إِن من المؤسف أَن يبدد تراث عَزِيز وَتحرم مِنْهُ أمة محتاجة.

وَنحن نَدْعُو من هُنَا كل الَّذين يعنون بِأَمْر الثراث الاسلامي، وخاصة المسئولين عَن ذَلِك فِي الدولة، أَن يبحثوا عَن آثَار هَذَا الامام الْعَظِيم، وَأَن يهيئوا لكتبه النافعة السَّبِيل كى تَأْخُذ طريقها إِلَى أيدى النَّاس، وَأَن يُعَاد تَقْدِيم كتبه المطبوعة فِي صُورَة صَحِيحَة لائقة، بعيدَة عَن التِّجَارَة والاستغلال.

هَذَا الْكتاب: ولكتابنا هَذَا الذى نقدمه الْيَوْم قصَّة.

فَلَقَد كَانَ الْخَيط الذى أمسكنا بِهِ هُوَ أَن ابْن كثير ذكر فِي تَفْسِيره فِي سُورَة الاحزاب فِي قصَّة غَزْوَة الخَنْدَق، أَنه قد كتب السِّيرَة النَّبَوِيَّة مُطَوَّلَة ومختصرة، حَيْثُ يَقُول:(وَهَذَا كُله مُقَرر مفصل بأدلته وَأَحَادِيثه وَبسطه فِي كتاب السِّيرَة الذى أفردناه موجزا وبسيطا وَللَّه الْحَمد والْمنَّة) .

وَمعنى ذَلِك أَن كِتَابَته للسيرة النَّبَوِيَّة قد عرفت طريقها إِلَى أيدى النَّاس فِي عصره، وَلَكِن الْبَحْث فِي نَاحيَة المخطوطات لم يدل على وجود تِلْكَ السِّيرَة ككتاب مُسْتَقل، ويبدو أَنه حينما ألف كِتَابه الضخم (الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة) قد أدمج تِلْكَ السِّيرَة فِيهِ، وَأَن شهرة ذَلِك الْكتاب وانتشاره فِي الانحاء، قد جعل النَّاس يقرأون تِلْكَ السِّيرَة فِيهِ، وَلم يعد لَهَا كيان مُسْتَقل ككتاب، وَإِذا كَانَ ابْن كثير قد ذكر أَنه لَهُ السِّيرَة النَّبَوِيَّة

ص: 12

مبسوطة، أَي مُطَوَّلَة، فَإِنَّهُ لَا يعقل أَن يكْتب فِيهَا أَكثر من ذَلِك الْقسم الْمَوْجُود بكتابه (الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة) .

وَمن هُنَا فقد اتجهت إِلَى نشر (السِّيرَة النَّبَوِيَّة لِابْنِ كثير) وهى ذَلِك الْقسم الذى

أفرده ابْن كثير لاخبار الْعَرَب فِي الْجَاهِلِيَّة وسيرة النَّبِي صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ وتاريخ دَعوته حَتَّى وَفَاته.

على اعْتِبَار أَن هَذَا الْقسم هُوَ السِّيرَة النَّبَوِيَّة المطولة الَّتِى أَشَارَ إِلَيْهَا ابْن كثير فِي تَفْسِيره.

والذى دَعَاني إِلَى ذَلِك اسباب مِنْهَا: 1 - أَن تِلْكَ السِّيرَة قد شغلت نَحْو ثَلَاثَة أَجزَاء من كتاب الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة، من أَوَاخِر الْجُزْء الثَّانِي حَتَّى أَوَاخِر الجز الْخَامِس، وهى بذلك موزعة بَين أَرْبَعَة أَجزَاء.

2 -

أَن هَذِه الاجزاء من الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة مُرْتَفعَة الثّمن جدا، حَتَّى لقد بلغ ثمن الْجُزْء الثَّالِث وَحده أَرْبَعَة جنيهات مصرية إِن وجد! ! تبعا لاحتكار التِّجَارَة فِي المراجع وَقلة النّسخ الْمَوْجُودَة.

3 -

أَن هَذِه الطبعة الْمشَار إِلَيْهَا مليئة بالتحريف والتشويه بِصُورَة فظيعة، وَلَا أدرى كَيفَ ظلت هَذِه الطبعة تتداول فِي أيدى الْعلمَاء والطلاب مَعَ أَنَّهَا لاتكاد تَخْلُو صفحة مِنْهَا من تَحْرِيف أَو تَصْحِيف أَو سقط.

تِلْكَ الاسباب جَعَلتني أرى فِي نشر السِّيرَة النَّبَوِيَّة لِابْنِ كثير تَحْقِيقا لفوائد كَثِيرَة

أهمها تَعْمِيم النَّفْع بهَا بعد أَن كَانَت محصورة فِي أيدى قلَّة مِمَّن يقدرُونَ على شِرَاء الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة كلهَا بِثمنِهَا الْمُرْتَفع.

ص: 13

وَكَذَلِكَ تَحْقِيق قصد ابْن كثير حِين كتب تِلْكَ السِّيرَة المطولة وَأَرَادَ أَن تشيع وَحدهَا بَين النَّاس.

وَكَذَلِكَ إنصاف ذَلِك الْعَمَل الْجَلِيل من أَن يظل فِي صورته الشائهة المليئة بالتحريف.

سيرة ابْن كثير: ونقف هُنَا مستعرضين كِتَابَة ابْن كثير فِي سيرة الرَّسُول صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ، متأملين فِي خَصَائِصه باحثين عَن منهجه.

1 -

إِن أول مَا نلمسه فِي سيرة ابْن كثير أَنه اهتم بالرواية بالاسانيد، تمشيا مَعَ صبغته الْغَالِبَة عَلَيْهِ كإمام مُحدث، وَأكْثر مروياته عَن الامام أَحْمد وَالْبَيْهَقِيّ، وأبى نعيم.

فَلم يكتف بِنَقْل مَا كتبه أهل السّير أَمْثَال ابْن إِسْحَاق ومُوسَى ابْن عقبَة، وَلكنه جمع مَا رَوَاهُ أهل الحَدِيث وَبِذَلِك اكْتسب مزية يتفرد بهَا بَين من كتبُوا فِي السِّيرَة.

وَقد نقد ابْن كثير بعض الاسانيد عِنْد مَا يكون الْمَتْن غَرِيبا، ليحكم على بعض الاحاديث، وَأَحْيَانا يبين دَرَجَة الحَدِيث دون أَن ينْقد السَّنَد 2 - ثمَّ نجد ابْن كثير يمتاز بِأَنَّهُ ينْقل عَن بعض كتب السّير المفقودة مثل كتاب مُوسَى بن عقبَة، وَمثل كتاب الاموى فِي المغازى، كَمَا ينْقل عَن بعض شُرُوح السِّيرَة مثل الرَّوْض الانف لِلسُّهَيْلِي، والشفا للقاضى عِيَاض.

3 -

وفى مجَال الاستشهاد بالشعر لَا يهمل ابْن كثير هَذِه النَّاحِيَة، وَلكنه لَا يُتَابع ابْن هِشَام فِي كل مروياته من الشّعْر فيختصر بَعْضهَا ويهمل الْبَعْض الآخر.

4 -

وَبِالْجُمْلَةِ فَإِن ابْن كثير يحرص على جمع كل مَا كتب فِي الْمَوْضُوع الذى يتَنَاوَلهُ،

ص: 14

وَلكنه لَا يدمج الاحاديث والاخبار بَعْضهَا فِي بعض، بل يحْتَفظ لكل نقل بطابعه ومكانه، وَكَثِيرًا مَا يعوزه التَّرْتِيب فِي النَّقْل، فَلَا ينسق الاخبار الَّتِى ينقلها حَتَّى تكون وحدة منسجمة فأحيانا يبْدَأ بالْخبر المطول، ثمَّ يذكر بعده أَخْبَارًا تحتوى على جَانب من هَذَا الْخَبَر أَو تكرره 5 - فَإِذا تتبعنا نقُول ابْن كثير عَن غَيره وجدنَا فِيهَا ظَاهِرَة عَجِيبَة..هِيَ: أَنه يكَاد لَا يلْتَزم نَص أَي شئ يَنْقُلهُ..! فنقوله عَن ابْن إِسْحَاق أغلبها

بِالْمَعْنَى، وَقد تتبعت ذَلِك فِي بعض الصفحات، وَرَأَيْت أَن إِثْبَات الفروق بَين ابْن كثير وَابْن إِسْحَاق شئ يطول مداه، فَابْن كثير يقدم وَيُؤَخر وَيزِيد وَينْقص، ويغير ويبدل ويفوت بِهَذَا التَّغْيِير والتبديل كثير من جمال عبارَة ابْن إِسْحَاق وتناسقها كَذَلِك نجد رِوَايَات ابْن كثير للاحاديث تخْتَلف بعض الِاخْتِلَاف عَمَّا فِي أيدى النَّاس من الْكتب الَّتِى ينْقل ابْن كثير عَنْهَا.

فأحاديث البُخَارِيّ الَّتِى يَرْوِيهَا ابْن كثير بقوله: (وَقَالَ البُخَارِيّ) لَا تنطبق حرفيا مَعَ صَحِيح البُخَارِيّ الذى بِأَيْدِينَا.

كَذَلِك القَوْل فِي رِوَايَته عَن صَحِيح مُسلم وَعَن مُسْند أَحْمد وَعَن دَلَائِل النُّبُوَّة لابي نعيم وَعَن دَلَائِل النُّبُوَّة للبيهقي، وَعَن الشفا للقاضى عِيَاض وَعَن الرَّوْض الانف لِلسُّهَيْلِي

تكَاد لاتجد خَبرا مطابقا بِحُرُوفِهِ لما فِي الْكتب المتداولة، فَلَا يَخْلُو الامر من تَغْيِير أَو نقص أَو اخْتِصَار.

وَحين نقف أَمَام هَذِه الظَّاهِرَة نبحث عَن أَسبَابهَا فَإِن هُنَاكَ أحد احْتِمَالَيْنِ:

ص: 15

1) إِمَّا أَن يكون ابْن كثير - وَهُوَ الامام الْحَافِظ المتقن - كَانَ يعْتَمد على حفظه وَرِوَايَته وَلَا ينْقل عَن النّسخ المتداولة 2) وَإِمَّا أَنه كَانَت هُنَاكَ نسخ أُخْرَى تخْتَلف عَمَّا وصل إِلَيْنَا من هَذِه الْكتب.

وعَلى كل فَإِن مثل ابْن كثير حجَّة فِي بَاب الحَدِيث وَلكنهَا على أَي حَال ظَاهِرَة تستلفت النّظر أَن تكون رِوَايَات ابْن كثير للاحاديث ونقوله عَن الْكتب مُخَالفَة لما فِي أَيْدِينَا من هَذِه الْكتب

وهى مُخَالفَة لفظية يسيرَة فِي بعض الاحيان.

6 -

فَإِذا مَا تفحصنا مَنْهَج ابْن كثير فِي الرِّوَايَات، رَأَيْنَاهُ لَا يُبَالِي بِرِوَايَة كثير من الاخبار الْوَاهِيَة وخاصة فِي أَخْبَار الْجَاهِلِيَّة وهتاف الجان وقصصه.

وَقد كَانَ بإمكانه أَلا يلْتَفت إِلَى هَذِه الاخبار الَّتِى لَا تتمالك أَمَام النَّقْد، لكنه كَانَ يُبرئ نَفسه بأمرين: 1) ذكر السَّنَد فِي كل خبر يُثبتهُ، وَبِذَلِك يلقى التبعة على غَيره.

ب) أَنه كَانَ يعلق على بعض هَذِه الاخبار بِأَنَّهُ (غَرِيب جدا) أَو (لم يخرجوه) وَنَحْو ذَلِك مِمَّا يضعف جَانب الْخَبَر.

لكننا مَعَ ذَلِك نود أَن لَو أهمل ابْن كثير هَذِه الاخبار الَّتِى لَيْسَ لَهَا سَنَد من الْعقل أَو الْحَقِيقَة، والتى تزحم الاذهان وتشوش على الْحَقَائِق.

وخاصة فِيمَا يتَّصل بحياة الرَّسُول الْكَرِيم صلوَات الله عَلَيْهِ، فمثلا الحَدِيث الذى يرويهِ عَن البيهقى عَن الْعَبَّاس أَنه قَالَ للرسول صلى الله عليه وسلم:(رَأَيْتُكَ فِي الْمَهْدِ تُنَاغِي الْقَمَرَ وَتُشِيرُ إِلَيْهِ بإصبعك، فَحَيْثُ أَشرت إِلَيْهِ مَال) ! ثمَّ يذكر مُوَافقَة الرَّسُول على ذَلِك حَدِيث لَا يتَّفق مَعَ الْعقل أَو مَعَ حقائق الْوُجُود، وَلَا يغنينا بعد ذَلِك أَن يَقُول ابْن كثير:(تفرد بِهِ أَحْمد بن إِبْرَاهِيم الْحلَبِي وَهُوَ مَجْهُول) .

إِن مثل هَذَا الحَدِيث يفتح ثغرة أَمَام أَعدَاء الاسلام ليهجموا على السِّيرَة النَّبَوِيَّة من

ص: 16

بَاب أَمْثَال هَذَا الحَدِيث من الواهيات والموضوعات.

كَذَلِك خبر خَالِد بن سِنَان، وهتاف الجان وأساطيره، سَار فِيهَا ابْن كثير شوطا بَعيدا ممتلئا بالخرافات والاساطير.

لكننا مَعَ ذَلِك ننتحل الْعذر لِابْنِ كثير فِي إِثْبَات مثل هَذِه الاخبار، إِذْ كَانَ عصره يحتفل بهَا ويهتم بروايتها، وَإِذا كَانَ قَصده فِي كِتَابه الْجمع وَالِاسْتِقْصَاء وَمَا دَامَ قد أخلى تَبعته بِإِسْنَاد كل خبر إِلَى روايه واهتم بالتخريج وَالْحكم، فَإِنَّهُ بذلك يكون قد أدّى واجبه وَقَامَ بِمَا عَلَيْهِ.

7 -

إِن الْمطَالع للسيرة النَّبَوِيَّة لِابْنِ كثير يحمد لهَذَا الرجل جهده الذى قَامَ بِهِ، إِذْ مزج أَخْبَار السِّيرَة بروايات الاحاديث فسن بذلك نهجا جَدِيدا لم يكن من قبله يهتمون بِهِ.

وَإِذ جمع كل مَا يُمكن فِي هَذَا المجال، فَوضع أَمَام الْمطَالع لكتابه مَادَّة وافية تمكنه من الدراسة والاحاطة والاستيفاء.

وَقد أعَان ابْن كثير على ذَلِك عصره الْمُتَأَخر وإحاطته بالاحاديث وإجادته للروايات والاخبار.

مَنْهَج التَّحْقِيق:

اعتمدت فِي إِخْرَاج السِّيرَة النَّبَوِيَّة لِابْنِ كثير على مَا يَأْتِي:

1 -

نُسْخَة مصورة من الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة لِابْنِ كثير تحمل رقم 1110 تَارِيخ بدار الْكتب المصرية، وهى مصورة عَن مكتبة ولى الدّين 2347 بالآستانه.

وإليها الاشارة بالحرف (ا) .

2 -

نُسْخَة مخطوطة من الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة بالمكتبة التيمورية تحمل رقم 2443 تَارِيخ وهى نَاقِصَة من أَولهَا.

ص: 17

3 -

النُّسْخَة المطبوعة من الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة سنة 1351 بمطبعة السَّعَادَة وَقد قوبلت على أصلين الاصل المصور الْمشَار إِلَيْهِ فِي هوامشها بالنسخة المصرية.

وعَلى نُسْخَة مَحْفُوظَة بِالْمَدْرَسَةِ الاحمدية بحلب وعَلى كَانَ فَإِن مخطوطات الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة الْمَذْكُورَة لَا تتسم بالدقة، إِذْ أَن فِيهَا أخطاء أَشرت إِلَى كثير مِنْهَا فِي هوامش هَذَا الْجُزْء، ويبدو أَنَّهَا كتبت فِي عصور مُتَأَخِّرَة، أَو تولى نسخهَا من لَا يعول على التَّحْقِيق.

وَقد كَانَ جهدي فِي إِخْرَاج هَذِه السِّيرَة متجها إِلَى ضَبطهَا وتنقيتها من الاخطاء الَّتِى خرجت بهَا إِلَى النَّاس فِي النُّسْخَة المطبوعة الشائعة من الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة وتشارك فِي أَكْثَرهَا النّسخ المخطوطة، فَرَجَعت إِلَى الاصول الَّتِى أَشَارَ إِلَيْهَا ابْن كثير، مثل كتب السّير وَكتب الحَدِيث، عدا بعض مَا لم يَتَيَسَّر الرُّجُوع إِلَيْهِ مثل مُعْجم الطَّبَرَانِيّ وهواتف الجان للخرائطي وَدَلَائِل النُّبُوَّة للبيهقي.

وَلم أحاول إِثْبَات الفروق بَين ابْن كثير وَبَين كل مَا ينْقل عَنهُ، إِذْ تبينت - كَمَا أَشرت إِلَى ذَلِك قَرِيبا - أَن ابْن كثير يُخَالف فِي كِتَابه النُّصُوص الَّتِى بأيدى النَّاس من الْكتب الَّتِى ينْقل عَنْهَا، فَلَا يَخْلُو الامر من زِيَادَة أَو نقص أَو تَغْيِير أَو تَبْدِيل، وَلَكِنِّي أثبت بعض الفروق على سَبِيل الْمِثَال، مثل الفروق بَينه وَبَين البُخَارِيّ وَدَلَائِل النُّبُوَّة لابي نعيم وَمَكَارِم الاخلاق للخرائطي، وَالرَّوْض الانف لِلسُّهَيْلِي، ومسند أَحْمد وسيرة ابْن هِشَام والشفاء وَنَحْو ذَلِك، وَلَو أَنى التزمت إِثْبَات كل الفروق بَينه وَبَين إِسْحَق أَو البُخَارِيّ أَو أَحْمد وَغير ذَلِك، لطال الامر واتسع المدى، وَلَيْسَ فِي ذَلِك كَبِير فَائِدَة.

كَذَلِك أثبت أهم الفروق بَين النّسخ المخطوطة والمطبوعة على ندرة ذَلِك.

وَلم أعول فِي التَّعْلِيق إِلَّا على تصويب الاخطاء وَشرح مَا يغمض من الْمُفْردَات، وَلم أتوسع فِي التَّعْرِيف بالاعلام، لَان ذَلِك لَا فَائِدَة مِنْهُ فِي مثل هَذَا الْكتاب، وَحَتَّى لَا يخرج

ص: 18

بِنَا الامر إِلَى أَن يصير الْكتاب حَاشِيَة من الحواشى الْقَدِيمَة، إِذْ لَا فَائِدَة فِي التَّعْلِيق على كل مَا يُمكن التَّعْلِيق عَلَيْهِ، بل الْفَائِدَة فِي التَّعْلِيق مَا يجب التَّعْلِيق عَلَيْهِ، وَقد يلمس الْقَارئ أَن أَسَانِيد الرِّوَايَات والاحاديث لم تظفر بِمَا ينبغى لَهَا من التَّعْرِيف بهؤلاء الرِّجَال وَذكر وفياتهم، وَلَو أَنى فعلت ذَلِك لخرجنا بِكِتَاب فِي رجال الحَدِيث مَا أرى قَارِئ السِّيرَة النَّبَوِيَّة بحاجة إِلَيْهِ، وفى هَذَا الْبَاب كتب متخصصة ميسرَة لمن أرادها.

ويلحظ أَنى تدخلت بِنَقْد بعض الاخبار الَّتِى ذكرهَا ابْن كثير، وَلم أملك أمامها سوى الاستبعاد الْعقلِيّ، وَقد رَأَيْت ذَلِك وَاجِبا حَتَّى يتَنَبَّه الْقَارئ إِلَى أَنه لَيْسَ مطالبا بِتَصْدِيق كل مَا أثْبته ابْن كثير فِي كِتَابه هَذَا مادام لَيْسَ ثَابتا بِدَلِيل شرعى صَحِيح أَو لَيْسَ لَهُ سَنَد من الْعقل، وخاصة الاشعار الَّتِى تبدو عَلَيْهَا الصّفة والتكلف، والاخبار الاسطورية الَّتِى لَا تناسب يقظة البشرية وارتقاءها، وَلَيْسَ جَانب السَّنَد هُوَ الذى يهمنا فِي الْخَبَر فَحسب، بل يطْلب أَن يكون الْمَتْن أَيْضا منتسبا إِلَى الْحَقِيقَة بَعيدا عَن التزوير.

وَقد نقد ابْن خلدون، وَهُوَ الامام الْحجَّة، كثيرا من الاخبار بِهَذَا الْمنْهَج، مَنْهَج الاستبعاد الْعقلِيّ وَبَيَان مُنَافَاة الْخَبَر للسنن الكونية والظروف التاريخية، كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِك فِي أول مقدمته.

وَلم أر فَائِدَة فِي تَخْرِيج الاخبار، أَي ذكر أَمَاكِن وجودهَا فِي الْكتب، إِذْ أَن أَكثر أَخْبَار السِّيرَة مُشْتَرك بَين الْكتب الَّتِى تتناولها، فَلَا يُفِيد الْقَارئ أَن نذْكر أَن هَذَا الْخَبَر مثلا مَوْجُود فِي سيرة ابْن هِشَام وتاريخ الطَّبَرِيّ وَشرح الْمَوَاهِب والشفاء وَالرَّوْض الانف وَدَلَائِل النُّبُوَّة لابي نعيم وعيون الاثر والاكتفا للكلاعي والوفا لِابْنِ الجوزى والسيرة الحلبية وَمَا إِلَى ذَلِك من كتب السِّيرَة بالاضافة إِلَى مَا يُمكن أَن يُوجد فِيهِ الْخَبَر من كتب الحَدِيث، وفى كل ذَلِك نذْكر أرقام الصفحات، إِن ذَلِك كَانَ يملا حيزا كَبِيرا لَا حَاجَة

ص: 19

إِلَيْهِ، ويكفى أَن يعلم الْقَارئ أَن أَكثر أَخْبَار السِّيرَة النَّبَوِيَّة وَمَا قبلهَا من فَتْرَة الْجَاهِلِيَّة مُشْتَرك بَين هَذِه الْكتب الَّتِى ذَكرنَاهَا وَغَيرهَا من كتب الحَدِيث والسيرة.

إِن الذى عنيت بِهِ هُوَ أَن تخرج هَذِه السِّيرَة الْكَرِيمَة مضبوطة بريئة من التحريف والتشويه الذى كَانَ يُحِيط بهَا فِي طبعة الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة، وَأَن أشرح مَا يحْتَاج إِلَى الشَّرْح من الْمُفْردَات وَأَن أُشير إِلَى مَا أصلحته من أخطاء، وَمَا عثرت عَلَيْهِ من أهم الفروق، وَأَن أنبه إِلَى مَا يستبعد من الاخبار.

وَلَا أزعم أَنى أدّيت كل مَا يجب على فِي إِخْرَاج هَذ الْكتاب، وَلَكِنِّي بذلت مَا أمكن حسب الطَّاقَة والظرف.

وإنى الْيَوْم وَأَنا أقدم الْجُزْء الاول من هَذِه السِّيرَة، أخْلص النِّيَّة فِي بذل مَا يُمكن فِي سَبِيل إِخْرَاج بقيتها فِي أقرب ثوب إِلَى الصِّحَّة والكمال.

إِن الظروف الَّتِى طبع فِيهَا هَذَا الْجُزْء، وَلم أكن فِيهَا قَرِيبا من المطبعة، بل اضطرتني ظروف الْعَمَل إِلَى أَن أكون بَعيدا عَنْهَا، قد جعلت فرْصَة لوُقُوع بعض الاخطاء الَّتِى

تداركتها فِي آخر الْكتاب، وَبَعضهَا مطبعى بحت، وَالْآخر سَهْو وَنقص، وَمِنْهَا قسم هُوَ من أخطاء أصُول الْكتاب تبينته من المراجع ونبهت إِلَيْهِ حَتَّى يكون الْقَارئ على بَصِيرَة من أمره.

وحسبي فِي هَذَا الْعَمَل نيتى وقصدي، وَلكُل امْرِئ مَا نوى

راجيا من الله سُبْحَانَهُ أَن ينفع بِهِ وَأَن يُهَيِّئ لى إِتْمَامه بِمَا يرضيه، إِنَّه واهب الرشد ومانح التَّوْفِيق، لَهُ الْحَمد فِي الاولى وَالْآخِرَة، نعم الْمولى وَنعم النصير.

الْقَاهِرَة 23 من ذى الْحجَّة سنة 1383 5 من مايو سنة 1964 مصطفى عبد الْوَاحِد

ص: 20

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ نَبِيًّا.

وَزَعَمَ السُّدِّيُّ أَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ اثْنَيْ عَشَرَ ألف نبى! فَالله أعلم.

وَالْمَقْصُود أَنهم عَدَلُوا عَنِ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالِ وَسَجَدُوا لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ بِلْقِيسَ وَقَبْلَهَا أَيْضًا، وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ فِيهِمْ حَتَّى أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشئ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ.

ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهل نجازى إِلَّا الكفور) .

‌ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ سَدَّ مَأْرِبَ كَانَ صَنْعَتَهُ أَنَّ الْمِيَاهَ تَجْرِي مِنْ بَيْنِ جَبَلَيْنِ، فَعَمَدُوا فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ فَسَدُّوا مَا بَيْنَهُمَا بِبَنَاءٍ مُحْكَمٍ جِدًّا، حَتَّى ارْتَفَعَ الْمَاءُ فَحَكَمَ عَلَى أَعَالِي الْجَبَلَيْنِ، وَغَرَسُوا فِيهِمَا الْبَسَاتِينَ وَالْأَشْجَارَ الْمُثْمِرَةَ الْأَنِيقَةَ، وَزَرَعُوا الزُّرُوعَ الْكَثِيرَةَ، وَيُقَالَ كَانَ أَوَّلُ مَنْ بَنَاهُ سَبَأَ بْنَ يَعْرُبَ وَسَلَّطَ إِلَيْهِ سَبْعِينَ وَادِيًا يَفِدُ إِلَيْهِ وَجَعَلَ لَهُ ثَلَاثِينَ فُرْضَةً يَخْرُجُ مِنْهَا الْمَاءُ، وَمَاتَ وَلَمْ يَكْمُلْ بِنَاؤُهُ، فَكَمَّلَتْهُ حِمْيَرُ بَعْدَهُ، وَكَانَ اتِّسَاعُهُ فرسخا فِي فَرسَخ، وَكَانُوا فِي غِبْطَةٍ عَظِيمَةٍ وَعَيْشٍ رَغِيدٍ وَأَيَّامٍ طَيِّبَةٍ، حَتَّى ذَكَرَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ تَمُرُّ بِالْمِكْتَلِ عَلَى رَأْسِهَا فَيَمْتَلِئُ مِنَ الثِّمَارِ مِمَّا يَتَسَاقَطُ فِيهِ مِنْ نُضْجِهِ وَكَثْرَتِهِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ لم يكن فِي بِلَادهمْ شئ مِنَ الْبَرَاغِيثِ وَلَا الدَّوَابِّ الْمُؤْذِيَةِ، لِصِحَّةِ هَوَائِهِمْ وَطِيبِ فِنَائِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى (لَقَدْ كَانَ لسبإ فِي مسكنهم آيَة جنتان عَن يَمِين وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ، وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَة طيبَة وَرب غَفُور) وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)

.

فَلَمَّا عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ وَبَطَرُوا نِعْمَتَهُ، وَسَأَلُوا بَعْدَ تَقَارُبِ مَا بَيْنَ قُرَاهُمْ وَطِيبِ مَا بَيْنَهَا مِنَ الْبَسَاتِينِ وَأَمْنِ الطُّرُقَاتِ، سَأَلُوا أَنْ يُبَاعَدَ بَيْنَ أَسْفَارِهِمْ وَأَنْ يَكُونَ سَفَرُهُمْ فِي مشاق

ص: 10

وَتَعَبٍ، وَطَلَبُوا أَنْ يُبَدَّلُوا بِالْخَيْرِ شَرًّا، كَمَا سَأَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بَدَلَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى الْبُقُولَ وَالْقِثَّاءَ وَالْفُومَ وَالْعَدَسَ وَالْبَصَلَ، فَسُلِبُوا تِلْكَ النِّعْمَةَ الْعَظِيمَةَ وَالْحَسَنَةَ الْعَمِيمَةَ بِتَخْرِيبِ الْبِلَادِ وَالشَّتَاتِ عَلَى وُجُوهِ الْعِبَادِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِم سيل العرم) .

قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى أَصْلِ السد الفأر وَهُوَ الجرذ وَيُقَال لَهُ الْخُلْدُ، فَلَمَّا فَطِنُوا لِذَلِكَ أَرْصَدُوا عِنْدَهَا السَّنَانِيرَ فَلَمْ تُغْنِ شَيْئًا، إِذْ قَدْ حُمَّ الْقَدَرُ وَلَمْ يَنْفَعِ الْحَذَرُ كَلَّا لَا وَزَرَ، فَلَمَّا تَحَكَّمَ فِي أَصْلِهِ الْفَسَادُ سَقَطَ وَانْهَارَ، فَسَلَكَ الْمَاءُ الْقَرَارَ، فَقُطِعَتْ تِلْكَ الْجَدَاوِلُ وَالْأَنْهَارُ وَانْقَطَعَتْ تِلْكَ الثِّمَارُ، وَبَادَتْ تِلْكَ الزُّرُوعُ وَالْأَشْجَارُ، وَتَبَدَّلُوا بعْدهَا بردئ الْأَشْجَارِ وَالْأَثْمَارِ، كَمَا قَالَ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ " وَبَدَّلْنَاهُمْ بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل " قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هُوَ الْأَرَاكُ وَثَمَرُهُ الْبَرِيرُ، وَأَثْلٍ وَهُوَ الطَّرْفَاءُ.

وَقِيلَ يُشبههُ، وَهُوَ حطب لَا ثَمَر لَهُ " وشئ من سدر قَلِيل " وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ يُثْمِرُ النَّبْقُ كَانَ قَلِيلًا مَعَ أَنَّهُ ذُو شَوْكٍ كَثِيرٍ وَثَمَرُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، كَمَا يُقَالَ فِي الْمَثَلِ: لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ وَعْرٍ، لَا سَهْلَ فَيُرْتَقَى وَلَا سَمِينَ فَيُنْتَقَى.

وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى " ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الكفور " أَيْ إِنَّمَا نُعَاقِبُ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ الشَّدِيدَةَ مَنْ كَفَرَ بِنَا وَكَذَّبَ رُسُلَنَا وَخَالَفَ أَمْرَنَا وَانْتَهَكَ مَحَارِمَنَا.

وَقَالَ تَعَالَى: " فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ ممزق " وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا هَلَكَتْ أَمْوَالُهُمْ وَخَرِبَتْ بِلَادُهُمُ احْتَاجُوا أَنْ يَرْتَحِلُوا مِنْهَا وَيَنْتَقِلُوا عَنْهَا، فَتَفَرَّقُوا فِي غَوْرِ الْبِلَادِ وَنَجْدِهَا أَيْدِيَ سَبَأٍ شَذَرَ مذر، فَنزلت طوائف مِنْهُم الْحجاز، وَمِنْهُم خُزَاعَةُ، نَزَلُوا ظَاهِرِ مَكَّةَ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا سَنذكرُهُ، وَمِنْهُم الْمَدِينَة المنورة الْيَوْمَ، فَكَانُوا أَوَّلَ مَنْ سَكَنَهَا، ثُمَّ نَزَلَتْ عِنْدَهُمْ ثَلَاثُ قَبَائِلَ مِنَ الْيَهُودِ بَنُو قَيْنُقَاعَ وَبَنُو قُرَيْظَةَ وَبَنُو النَّضِيرِ، فَحَالَفُوا الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ وَأَقَامُوا عِنْدَهُمْ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا سَنَذْكُرُهُ، وَنزلت طَائِفَة

ص: 11

أُخْرَى مِنْهُمُ الشَّامَ وَهُمُ الَّذِينَ تَنَصَّرُوا فِيمَا بَعْدُ، وَهُمْ غَسَّانُ وَعَامِلَةُ وَبَهْرَاءُ وَلَخْمٌ وَجُذَامٌ وتنوخ وتغلب وَغَيرهم.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ قَالَ: قَالَ الْأَعْشَى بْنُ قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَهُوَ مَيْمُونُ بْنُ قَيْسٍ: - وَفِي ذَاكَ لِلْمُؤْتَسِي أُسْوَةٌ * وَمَأْرِبُ (1) عَفَّى عَلَيْهَا الْعَرِمْ رُخَامٌ بَنَتْهُ لَهُمْ حِمْيَرُ * إِذَا جَاءَ مَوَّارُهُ (2) لَمْ يَرِمْ فَأَرْوَى الزُّرُوعَ (3) وَأَعْنَابَهَا * عَلَى سَعَةٍ مَاؤُهُمْ إِذْ قسم فصاروا أيادى (4) لَا يقدرُونَ * على شرب طِفْل إِذا مَا فُطِمْ وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي كِتَابِ السِّيرَةِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْيَمَنِ قَبْلَ سَيْلِ الْعَرِمِ عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ اللَّخْمِيُّ، وَلَخْمٌ هُوَ ابْنُ عَدِيِّ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ أُدَدَ (5) بْنِ زَيْدِ بْنِ هَمَيْسَعِ (6) بْنِ عَمْرِو بْنِ عَرِيبِ بْنِ يَشْجُبَ بن زيد بن كهلان بن سبأ.

وَيُقَال لَخْمُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَبَأٍ.

قَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ سَبَبُ خُرُوجِهِ مِنَ الْيَمَنِ، فِيمَا حَدَّثَنِي أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، أَنَّهُ رَأَى جُرَذًا يَحْفِرُ فِي سَدِّ مَأْرِبَ الَّذِي كَانَ يَحْبِسُ عَلَيْهِمُ الْمَاءَ فَيَصْرِفُونَهُ حَيْثُ شَاءُوا مِنْ أَرْضِهِمْ، فَعَلِمَ أَنَّهُ لَا بَقَاءَ لِلسَّدِّ عَلَى ذَلِكَ، فَاعْتَزَمَ عَلَى النَّقَلَةِ عَنِ الْيَمَنِ فَكَادَ قَوْمَهُ، فَأَمَرَ أَصْغَرَ وَلَدِهِ إِذَا أَغْلَظَ عَلَيْهِ وَلَطَمَهُ أَنْ يَقُومَ إِلَيْهِ فَيَلْطِمَهُ، فَفَعَلَ ابْنُهُ مَا أَمَرَهُ بِهِ، فَقَالَ عَمْرٌو: لَا أُقِيمُ بِبَلَدٍ لَطَمَ وَجْهِي فِيهِ أَصْغَرُ وَلَدِي.

وَعَرَضَ أَمْوَالَهُ.

فَقَالَ أَشْرَافٌ من

(1) المطبوعة: ومأرم.

وَهُوَ خطأ (2) مواره: مَاؤُهُ الذى يضطرب ويتموج.

(3)

المطبوعة: الزَّرْع، وَهُوَ خطأ (4) ابْن هِشَام: مَا يقدرُونَ (5) المطبوعة: أَزْد، وَهُوَ تَحْرِيف (6) المطبوعة: مهع، وَهُوَ تَحْرِيف.

(*)

ص: 12

أَشْرَافِ الْيَمَنِ: اغْتَنِمُوا غَضْبَةَ عَمْرٍو فَاشْتَرُوا مِنْهُ أَمْوَالَهُ.

وَانْتَقَلَ فِي وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ.

وَقَالَتِ الْأَزْدُ لَا نَتَخَلَّفُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ.

فَبَاعُوا أَمْوَالَهُمْ وَخَرَجُوا مَعَهُ، فَسَارُوا حَتَّى نَزَلُوا بِلَادَ عَكٍّ مُجْتَازِينَ يَرْتَادُونَ الْبُلْدَانَ، فَحَارَبَتْهُمْ عَكٌّ، فَكَانَتْ حَرْبُهُمْ سِجَالًا، فَفِي ذَلِكَ قَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ: وَعَكُّ بْنُ عَدْنَانَ الَّذِينَ تَلَعَّبُوا (1) * بِغَسَّانَ حَتَّى طُرِّدُوا كُلَّ مَطْرَدِ قَالَ: فَارْتَحَلُوا عَنْهُمْ فَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ، فَنَزَلَ آلُ جَفْنَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الشَّامَ، وَنَزَلَ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ يَثْرِبَ، وَنَزَلَتْ خُزَاعَةُ مَرًّا (2) ، وَنَزَلَتْ أَزْدُ السَّرَاةِ السَّرَاةَ، وَنَزَلَتْ أُزْدُ عُمَانَ عُمَانَ.

ثُمَّ أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى السَّدِّ السَّيْلَ فَهَدَمَهُ، وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَاتِ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا.

وَعَنْ مُحَمَّد بن إِسْحَاق فِي رِوَايَته أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ كَانَ كَاهِنًا.

وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَتِ امْرَأَتُهُ طَرِيفَةُ بِنْتُ الْخَيْرِ الْحِمْيَرِيَّةُ كَاهِنَةً فَأُخْبِرَتْ بِقُرْبِ هَلَاكِ بِلَادِهِمْ، وَكَأَنَّهُمْ رَأَوْا شَاهِدَ ذَلِكَ فِي الْفَأْرِ الَّذِي سُلِّطَ عَلَى سَدِّهِمْ فَفَعَلُوا مَا فَعَلُوا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ ذَكَرْتُ قِصَّتَهُ مُطَوِّلَةً عَنْ عِكْرِمَةَ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي التَّفْسِيرِ.

فَصْلٌ: وَلَيْسَ جَمِيعُ سَبَأٍ خَرَجُوا مِنَ الْيَمَنِ لَمَّا أُصِيبُوا بِسَيْلِ الْعَرِمِ، بَلْ أَقَامَ أَكْثَرُهُمْ بِهَا، وَذَهَبَ أَهْلُ مَأْرِبٍ الَّذِينَ كَانَ لَهُمُ السَّدُّ فَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جَمِيعَ قَبَائِلِ سَبَأٍ لَمْ يخرجُوا من الْيمن، بل إِنَّمَا تشاءم وَمِنْهُم أَرْبَعَة وبقى

(1) فِي أصُول الاحساب للجوانى ص 111: تلقبوا (2) هُوَ الذى يعرف بمر الظهْرَان، على مرحلة من مَكَّة.

(*)

ص: 13

بِالْيَمَنِ سِتَّةٌ، وَهُمْ مَذْحِجٌ وَكِنْدَةُ وَأَنْمَارٌ وَالْأَشْعَرِيُّونَ.

وَأَنْمَارٌ هُوَ أَبُو خَثْعَمٍ وَبَجِيلَةَ وَحِمْيَرُ، فَهَؤُلَاءِ سِتُّ قَبَائِلَ مِنْ سَبَأٍ أَقَامُوا بِالْيَمَنِ، وَاسْتَمَرَّ فِيهِمُ الْمُلْكُ وَالتَّبَابِعَةُ، حَتَّى سَلَبَهُمْ ذَلِكَ مَلِكُ الْحَبَشَةِ بِالْجَيْشِ الَّذِي بَعَثَهُ صُحْبَةَ أَمِيرَيْهِ أَبْرَهَةَ وَأَرْيَاطَ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ سَنَةً،

ثُمَّ اسْتَرْجَعَهُ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ الْحِمْيَرِيُّ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ مَوْلِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَلِيلٍ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ مُفَصَّلًا قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.

ثُمَّ أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ عَلِيًّا وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، ثُمَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ وَمُعَاذَ بْنَ جبل، وَكَانُوا يَدْعُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيُبَيِّنُونَ لَهُمُ الْحُجَجَ، ثُمَّ تَغَلَّبَ عَلَى الْيَمَنِ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ وَأَخْرَجَ نُوَّابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا، فَلَمَّا قُتِلَ الْأَسْوَدُ اسْتَقَرَّتِ الْيَدُ الْإِسْلَامِيَّةُ عَلَيْهَا فِي أَيَّامِ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ رضي الله عنه.

قِصَّةُ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ اللَّخْمِيُّ.

كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ.

وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَنُسَابُّ الْيَمَنِ تَقُولُ: نَصْرُ بْنُ رَبِيعَةَ (1) .

وَهُوَ رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نُمَارَةَ بْنِ لخم.

وَقَالَ الزبير ابْن بَكَّارٍ: رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ شعوذ بن ملك بْنِ عَجْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُمَارَةَ بْنِ لَخْمٍ.

وَلَخْمٌ أَخُو جُذَامٍ، وَسُمِّي لَخْمًا لِأَنَّهُ لخم أَخَاهُ على خَدّه أَيْ لَطَمَهُ فَعَضَّهُ الْآخَرُ فِي يَدِهِ فَجَذَمَهَا، فَسُمِّيَ جُذَامًا.

وَكَانَ رَبِيعَةُ أَحَدَ مُلُوكِ حِمْيَرَ التَّبَابِعَةِ، وَخَبَرُهُ (2) مَعَ شِقٍّ وَسَطِيحٍ الْكَاهِنَيْنِ وَإِنْذَارُهُمَا بِوُجُودِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

أَمَّا سَطِيحٌ فَاسْمُهُ رَبِيعُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مَازِنِ بْنِ ذِئْبِ بْنِ عَدِيِّ بن مَازِن

(1) الذى فِي السُّهيْلي: وَبَعْضهمْ يَقُول فِيهِ نصر بن ربيعَة وَهُوَ فِي قَول نساب الْيمن ربيعَة بن نصر (؟) عطفها على قَوْله: قصَّة ربيعَة.

(*)

ص: 14

غَسَّانَ.

وَأَمَّا شِقٌّ فَهُوَ ابْنُ صَعْبِ بْنِ يشْكر بن رهم بن أفرك بن قيس (1) بن عبقر ابْن أَنْمَارِ بْنِ نِزَارٍ.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَنْمَارُ بْنُ أَرَاشِ بْنِ لَحْيَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْغَوْث بن نابت (2) بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ.

وَيُقَالَ إِنَّ سَطِيحًا كَانَ لَا أَعْضَاءَ لَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ مِثْلَ السَّطِيحَةِ، وَوَجْهُهُ فِي صَدْرِهِ، وَكَانَ إِذَا غَضِبَ انْتَفَخَ وَجَلَسَ.

وَكَانَ شِقٌّ

نِصْفُ إِنْسَانٍ، وَيُقَالَ إِنَّ خَالِدَ بْنَ عبد الله القسرى كَانَ من سُلَالَتَهُ.

وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُمَا وُلِدَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ مَاتَتْ طَرِيفَةُ بِنْتُ الْخَيْرِ الْحِمْيَرِيَّةُ، وَيُقَالَ إِنَّهَا تَفَلَتْ فِي فَمِ كُلٍّ مِنْهُمَا فَوَرِثَ الْكِهَانَةَ عَنْهَا، وَهِيَ امْرَأَةُ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرٍ مَلِكَ الْيَمَنِ بَيْنَ أَضْعَافِ مُلُوكِ التَّبَابِعَةِ، فَرَأَى رُؤْيَا هَالَتْهُ وَفَظِعَ بِهَا (3) ، فَلَمْ يَدَعْ كَاهِنًا وَلَا سَاحِرًا وَلَا عَائِفًا وَلَا مُنَجِّمًا مِنْ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ إِلَّا جَمَعَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رُؤْيَا هَالَتْنِي وَفَظِعْتُ بِهَا، فَأَخْبَرُونِي بِهَا وَبِتَأْوِيلِهَا.

فَقَالُوا: اقْصُصْهَا عَلَيْنَا نُخْبِرْكَ بِتَأْوِيلِهَا.

فَقَالَ: إِنِّي إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ بِهَا لَمْ أَطْمَئِنَّ إِلَى خَبَرِكُمْ بِتَأْوِيلِهَا، لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ تَأْوِيلَهَا إِلَّا مَنْ عَرَفَهَا قَبْلَ أَنْ أُخْبِرَهُ بِهَا.

فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ: فَإِنَّ كَانَ الْمَلِكُ يُرِيدُ هَذَا فَلْيَبْعَثْ إِلَى شِقٍّ وَسَطِيحٍ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَعْلَمَ مِنْهُمَا، فَهُمَا يُخْبِرَانِهِ بِمَا سَأَلَ عَنْهُ.

فَبَعَثَ إِلَيْهِمَا، فَقَدِمَ إِلَيْهِ سَطِيحٌ قَبْلَ شِقٍّ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رُؤْيَا هَالَتْنِي وَفَظِعْتُ بِهَا، فَأَخْبِرْنِي بِهَا، فَإِنَّكَ إِنْ أَصَبْتَهَا أَصَبْتَ تَأْوِيلَهَا.

فَقَالَ أفعل.

رَأَيْت

(1) فِي ا: قسر.

(2)

وتروى: نبت، كَمَا فِي الِاشْتِقَاق لِابْنِ دُرَيْد (3) فظع بهَا: اشتدت عَلَيْهِ.

(*)

ص: 15

حُمَمَةً (1) خَرَجَتْ مِنْ ظُلْمَةٍ، فَوَقَعَتْ بِأَرْضٍ تَهَمَةٍ (2) ، فَأكلت مِنْهَا كل ذَات جمحمة.

فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا أَخْطَأْتَ مِنْهَا شَيْئًا يَا سَطِيحُ، فَمَا عِنْدَكَ فِي تَأْوِيلِهَا؟ قَالَ: أَحْلِفُ بِمَا بَيْنَ الْحَرَّتَيْنِ مِنْ حَنَشٍ، لَتَهْبِطَنَّ أَرْضَكُمُ الْحَبَشُ، فَلْيَمْلِكُنَّ مَا بَيْنَ أَبْيَنَ إِلَى جرش (3) .

فَقَالَ لَهُ الْملك: يَا سَطِيحُ إِنَّ هَذَا لَنَا لَغَائِظٌ مُوجِعٌ، فَمَتَى هُوَ كَائِنٌ أَفِي زَمَانِي أَمْ بَعْدَهُ؟ فَقَالَ: لَا وَأَبِيك بَلْ بَعْدَهُ بِحِينٍ، أَكْثَرَ مِنْ سِتِّينَ أَوْ سَبْعَيْنَ، يَمْضِينَ مِنَ السِّنِينَ.

قَالَ: أَفَيَدُومُ ذَلِكَ مِنْ سُلْطَانِهِمْ أَمْ يَنْقَطِعُ؟ قَالَ بَلْ يَنْقَطِعُ لِبِضْعٍ وَسَبْعِينَ مِنَ السِّنِينَ، ثُمَّ يُقْتَلُونَ

وَيَخْرُجُونَ مِنْهَا هَارِبِينَ.

قَالَ وَمَنْ يَلِي ذَلِكَ مِنْ قَتلهمْ وإخراجهم؟ قَالَ يَلِيهِ (4) إِرَمُ ذِي يَزَنَ (5) ، يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ مِنْ عَدَنٍ، فَلَا يَتْرُكُ مِنْهُمْ أَحَدًا بِالْيَمَنِ.

قَالَ: أَفَيَدُومُ ذَلِكَ مِنْ سُلْطَانِهِ أَمْ يَنْقَطِعُ؟ قَالَ بَلْ يَنْقَطِعُ.

قَالَ وَمَنْ يَقْطَعُهُ؟ قَالَ: نَبِيٌّ زَكِيٌّ، يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنْ قِبَلِ الْعَلِيِّ.

قَالَ وَمِمَّنْ هَذَا النَّبِيُّ؟ قَالَ رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ يَكُونُ الْمُلْكُ فِي قَوْمِهِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ.

قَالَ وَهَلْ لِلدَّهْرِ مِنْ آخِرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ يَوْم يجمع فِيهِ الْأَولونَ وَالْآخرُونَ، يسْعد فِيهِ الْمُحْسِنُونَ وَيَشْقَى فِيهِ الْمُسِيئُونَ.

قَالَ أَحَقٌّ مَا تُخْبِرُنِي؟ قَالَ: نَعَمْ، وَالشَّفَقِ وَالْغَسَقِ، وَالْفَلَقِ إِذَا اتَّسَقَ، إِنَّ مَا أَنْبَأْتُكَ بِهِ لَحَقٌّ.

قَالَ: ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْهِ شِقٌّ فَقَالَ لَهُ كَقَوْلِهِ لِسَطِيحٍ وَكَتَمَهُ مَا قَالَ سَطِيحٌ، لِيَنْظُرَ أَيَتَّفِقَانِ أَمْ يَخْتَلِفَانِ.

قَالَ: نَعَمْ رَأَيْتَ حُمَمَةً خَرَجَتْ مِنْ ظُلْمَةٍ، فَوَقَعَتْ بَيْنَ رَوْضَةٍ وَأَكَمَةٍ، فَأَكَلَتْ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ نَسَمَةٍ.

فَلَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُمَا قَدِ اتَّفَقَا وَأَنَّ قَوْلَهُمَا وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّ سَطِيحًا قَالَ " وَقَعَتْ بِأَرْضٍ تَهَمَةٍ فَأَكَلَتْ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ جُمْجُمَةٍ " وَقَالَ شِقٌّ:" وَقَعَتْ بَيْنَ رَوْضَةٍ وَأَكَمَةٍ فَأَكَلَتْ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ نَسَمَةٍ " فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا أَخْطَأْتَ يَا شِقُّ مِنْهَا شَيْئًا، فَمَا عِنْدَكَ

(1) الحممة: قِطْعَة النَّار.

(2)

تُهْمَة: منخفضة وَمِنْه سميت تهَامَة.

(3)

؟ ن وجرش: مخلافان من مخاليف الْيمن.

(4)

المطبوعة: يليهم وَهُوَ خطأ.

(5)

إِنَّمَا قَالَ: ارْمِ ذى يزن، واسْمه سيف، لانه شبهه بعاد إرم فِي عظم الْخلق وَالْقُوَّة.

(*)

ص: 16

فِي تَأْوِيلِهَا؟ فَقَالَ: أَحْلِفُ بِمَا بَيْنَ الْحَرَّتَيْنِ مِنْ إِنْسَانٍ، لَيَنْزِلَنَّ أَرْضِكُمُ السُّودَانُ، فَلْيَغْلِبُنَّ عَلَى كُلِّ طَفْلَةِ الْبَنَانِ، وَلِيَمْلِكُنَّ مَا بَيْنَ أَبْيَنَ إِلَى نَجْرَانَ.

فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: وَأَبِيكَ يَا شِقُّ إِنَّ هَذَا لَنَا لَغَائِظٌ مُوجِعٌ، فَمَتَى هُوَ كَائِنٌ أَفِي زَمَانِي أَمْ بَعْدَهُ؟ قَالَ: لَا بَلْ بَعْدَهُ بِزَمَانٍ، ثُمَّ يَسْتَنْقِذُكُمْ مِنْهُمْ عَظِيم ذوشان، وَيُذِيقُهُمْ أَشَدَّ الْهَوَانِ.

قَالَ: وَمَنْ هَذَا الْعَظِيمُ الشَّانِ؟ قَالَ غُلَامٌ لَيْسَ بِدَنِيٍّ وَلَا مُدَنٍّ (1) يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْتِ ذِي يَزَنَ.

قَالَ أَفَيَدُومُ سُلْطَانُهُ

أَمْ يَنْقَطِعُ قَالَ: بَلْ يَنْقَطِعُ بِرَسُولٍ مُرْسَلٍ، يَأْتِي بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالْفَضْلِ، يَكُونُ الْمُلْكُ فِي قَوْمِهِ إِلَى يَوْمِ الْفَصْلِ.

قَالَ وَمَا يَوْمُ الْفَصْلِ؟ قَالَ: يَوْم يجزى فِيهِ الْوُلَاةُ، يُدْعَى فِيهِ مِنَ السَّمَاءِ بِدَعَوَاتٍ تسمع مِنْهَا الْأَحْيَاءُ وَالْأَمْوَاتُ، وَيُجْمَعُ النَّاسُ فِيهِ لِلْمِيقَاتِ، يَكُونُ فِيهِ لِمَنِ اتَّقَى الْفَوْزُ وَالْخَيْرَاتُ.

قَالَ أَحَقٌّ مَا تَقُولُ؟ قَالَ إِي وَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ رَفْعٍ وَخَفْضٍ، إِنَّ مَا أَنْبَأْتُكَ بِهِ لَحَقٌّ مَا فِيهِ أَمْضٌ (2) .

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ مَا قَالَا، فَجَهَّزَ بَنِيهِ وَأَهْلَ بَيْتِهِ إِلَى الْعِرَاقِ، وَكَتَبَ لَهُمْ إِلَى مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ فَارِسَ يُقَالُ لَهُ سَابُورُ بْنُ خُرَّزَاذَ فَأَسْكَنَهُمُ الْحِيرَةَ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَمِنْ بَقِيَّةِ وَلَدِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ: النُّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ، بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، بْنِ عَمْرِو بْنِ عَدِيِّ، بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ، يَعْنِي الَّذِي كَانَ نَائِبًا عَلَى الْحِيرَةِ لِمُلُوكِ الْأَكَاسِرَةِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَفِدُ إِلَيْهِ وَتَمْتَدِحُهُ.

وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ مِنْ أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ مِنْ سُلَالَةِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ قَالَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ.

وَقَدْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا جئ بِسَيْفِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ سَأَلَ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ عَنْهُ مِمَّنْ كَانَ؟ فَقَالَ مِنْ أَشْلَاءِ (3) قُنُصِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.

(1) المدن: المقصر فِي الامور (2) الامض: الشَّك، بِلِسَان حمير (3) الاشلاء: البقايا (*)

ص: 17

قِصَّةُ تُبَّعٍ أَبِي كَرِبٍ تُبَّانِ أَسْعَدَ، مَلِكِ الْيَمَنِ مَعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَكَيْفَ أَرَادَ غَزْوَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، ثُمَّ شَرَّفَهُ وَعَظَّمَهُ وَكَسَاهُ الْحُلَلَ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ كَسَاهُ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ.

فَلَمَّا هَلَكَ رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرٍ رَجَعَ مُلْكُ الْيَمَنِ كُلِّهِ إِلَى حَسَّانَ بْنِ تُبَّانِ أَسْعَدَ أَبى كرب.

وتبان أسعد هُوَ تبع الآخر ابْن كلكى كرب (1) بن زيد،

وَزيد تبع الاول بن عَمْرٍو ذِي الْأَذْعَارِ، بْنِ أَبْرَهَةَ ذِي الْمَنَارِ، بْنِ الرَّائِشِ (2) ، بْنِ عَدِيِّ، بْنِ صَيْفِيِّ، بْنِ سَبَأٍ الْأَصْغَرِ، بْنِ كَعْبٍ كَهْفِ الظُّلَمِ، بْنِ زَيْدِ، بْنِ سَهْلِ، بْنِ عَمْرِو، بْنِ قَيْسِ (3) ، بن مُعَاوِيَة، بن جشم، بن عبد شمس، بن وَائِل، بن الْغَوْث، ابْن قَطَنِ، بْنِ عَرِيبِ، بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَيْمَنَ (4) بْنِ الْهَمَيْسَعِ بْنِ الْعَرَنْجَجِ (5) وَالْعَرَنْجَجُ هُوَ حِمْيَرُ بْنُ سَبَأٍ الْأَكْبَرُ، بْنُ يَعْرُبَ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ قَحْطَانَ.

قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ: سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ (6) .

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَتُبَّانُ أَسْعَدَ أَبُو كَرِبٍ هُوَ الَّذِي قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَسَاقَ الْحَبْرَيْنِ مِنَ يهود إِلَى الْيَمَنِ، وَعَمَّرَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ وَكَسَاهُ، وَكَانَ مُلْكُهُ قَبْلَ مُلْكِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ، وَكَانَ قَدْ جَعَلَ طَرِيقُهُ حِينَ رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ بِلَادِ الْمَشْرِقِ (7) عَلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ قَدْ مَرَّ بِهَا فِي بُدَأَتِهِ فَلَمْ يُهِجْ أَهْلَهَا وَخَلَّفَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمُ ابْنًا لَهُ فَقُتِلَ غِيلَةً، فَقَدِمَهَا وَهُوَ مجمع لَا خرابها

(1) كَذَا فِي الرَّوْض الانف، وفى ابْن هِشَام: كلى كرب.

(2)

وَيُقَال الريش، كَمَا فِي ابْن هِشَام (3) الاصل:" قس " وَهُوَ خطأ.

(4)

الاصل: أنس والتصويب من ابْن هِشَام 1 / 20 (5) المطبوعة: العربحج وَهُوَ خطأ.

وَلَيْسَت النُّون فِي العرنجج زَائِدَة، وَهُوَ من قَوْلهم اعرنجج الرجل فِي أمره: إِذا جد فِيهِ، كَأَنَّهُ افعنلل.

الِاشْتِقَاق 362.

(6)

الذى فِي ابْن هِشَام: يشجب بن يعرب؟ بِدُونِ ذكر سبأ.

(7)

ابْن هِشَام: حِين أقبل من الْمشرق.

(*)

ص: 18

وَاسْتِئْصَالِ أَهْلِهَا وَقَطْعِ نَخْلِهَا، فَجَمَعَ لَهُ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ وَرَئِيسُهُمْ عَمْرُو بْنُ طَلَّةَ (1) أَخُو بَنِي النَّجَّارِ ثُمَّ أَحَدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ مَبْذُولٍ، وَاسْمُ مَبْذُولٍ عَامِرُ بْنُ مَالِكِ ابْن النَّجَّارِ، وَاسْمُ النَّجَّارِ تَيْمُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ.

وَقَالَ ابْنُ هِشَام: عَمْرو بن طلة (1) هُوَ عَمْرُو بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، وَطَلَّةُ أُمُّهُ، وَهِيَ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقٍ الْخَزْرَجِيَّةُ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، يُقَالَ لَهُ أَحْمَرُ، عَدَا عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ تُبَّعٍ وَجَدَهُ يَجُدُّ عَذْقًا لَهُ فَضَرَبَهُ بِمِنْجَلِهِ فَقَتَلَهُ وَقَالَ: إِنَّمَا التَّمْرُ لِمَنْ أَبَّرَهُ.

فَزَادَ ذَلِكَ تُبَّعًا حَنَقًا عَلَيْهِمْ فَاقْتَتَلُوا.

فَتَزْعُمُ الْأَنْصَارُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقَاتِلُونَهُ بِالنَّهَارِ وَيُقْرُونَهُ بِاللَّيْلِ، فَيُعْجِبُهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَيَقُولُ: وَاللَّهِ إِنَّ قَوْمَنَا لِكِرَامٌ! وَحَكَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الْأَنْصَارِ أَنَّ تُبَّعًا إِنَّمَا كَانَ حَنَقُهُ على الْيَهُود وَأَنَّهُمْ (2) مَنَعُوهُمْ مِنْهُ.

قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَيُقَالُ إِنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ لِنُصْرَةِ الْأَنْصَارِ أَبْنَاءِ عَمِّهِ عَلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ نَزَلُوا عِنْدَهُمْ فِي الْمَدِينَةِ عَلَى شُرُوطٍ فَلَمْ يَفُوا بِهَا وَاسْتَطَالُوا عَلَيْهِمْ.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَبَيْنَا تُبَّعُ عَلَى ذَلِكَ من قِتَالهمْ إِذا جَاءَهُ حَبْرَانِ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ عَالِمَانِ رَاسِخَانِ، حِينَ سَمِعَا بِمَا يُرِيدُ من إهلاك الْمَدِينَة وَأَهْلهَا، فَقَالَا (3) لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ لَا تَفْعَلْ فَإِنَّكَ إِنْ أَبَيْتَ إِلَّا مَا تُرِيدُ حِيَلَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا وَلم نَأْمَن عَلَيْك

(1) الاصل: طَلْحَة وَهُوَ خطأ (2) المطبوعة أَنهم.

(3)

المطبوعة: فَقَالُوا.

(*)

ص: 19

عَاجِلَ (1) الْعُقُوبَةِ.

فَقَالَ لَهُمَا وَلِمَ ذَلِكَ؟ قَالَا هِيَ مُهَاجَرُ نَبِيٍّ يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْحَرَمِ مِنْ قُرَيْشٍ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، تَكُونُ دَارَهُ وقراره.

فتناهى [عَن ذَلِك] وَرَأَى أَنَّ لَهُمَا عِلْمًا وَأَعْجَبَهُ مَا سَمِعَ مِنْهُمَا، فَانْصَرَفَ عَنِ الْمَدِينَةِ وَاتَّبَعَهُمَا عَلَى دِينِهِمَا.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ تُبَّعٌ وَقَوْمُهُ أَصْحَابَ أَوْثَانٍ يَعْبُدُونَهَا، فَتَوَجَّهَ إِلَى مَكَّةَ وَهِيَ طَرِيقُهُ إِلَى الْيَمَنِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بَيْنَ عُسْفَانَ وَأَمَجٍ (2) أَتَاهُ نَفَرٌ مِنْ هُذَيْلِ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نزار بن مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ، فَقَالُوا لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، أَلَا نَدُلُّكَ عَلَى بَيْتِ

مَالٍ دَاثِرٍ أَغْفَلَتْهُ الْمُلُوكُ قَبْلَكَ، فِيهِ اللُّؤْلُؤُ وَالزَّبَرْجَدُ وَالْيَاقُوتُ وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ؟ قَالَ: بَلَى.

قَالُوا: بَيْتٌ بِمَكَّةَ يَعْبُدُهُ أَهْلُهُ وَيُصَلُّونَ عِنْدَهُ.

وَإِنَّمَا أَرَادَ الْهُذَلِيُّونَ هَلَاكَهُ بِذَلِكَ لَمَّا عَرَفُوا مِنْ هَلَاكِ مَنْ أَرَادَهُ من الْمُلُوك وبغى عِنْدَهُ فَلَمَّا أَجْمَعَ لِمَا قَالُوا أَرْسَلَ إِلَى الْحَبْرَيْنِ فَسَأَلَهُمَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَا لَهُ: مَا أَرَادَ الْقَوْمُ إِلَّا هَلَاكَكَ وَهَلَاكَ جُنْدَكَ، مَا نعلم بَيْتا لله عزوجل اتَّخَذَهُ فِي الْأَرْضِ لِنَفْسِهِ غَيْرَهُ، وَلَئِنْ فَعَلْتَ مَا دَعَوْكَ إِلَيْهِ لَتَهْلِكَنَّ وَلَيَهْلِكَنَّ مَنْ مَعَكَ جَمِيعًا.

قَالَ: فَمَاذَا تَأْمُرَانِنِي أَنْ أَصْنَعَ إِذَا أَنَا قَدِمْتُ عَلَيْهِ؟ قَالَا: تَصْنَعُ عِنْدَهُ مَا يَصْنَعُ أَهْلُهُ، تَطُوفُ بِهِ وَتُعَظِّمُهُ وَتُكْرِمُهُ، وَتَحْلِقُ رَأْسَكَ عِنْدَهُ وتذلل لَهُ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ عِنْدِهِ.

قَالَ فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْتُمَا مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَا: أَمَا وَاللَّهِ إِنَّهُ لَبَيْتُ أَبِينَا ابْرَاهِيمَ عليه السلام، وَإِنَّهُ لَكَمَا أَخْبَرْنَاكَ، وَلَكِنَّ أَهْلَهُ حَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ بِالْأَوْثَانِ الَّتِي.

نَصَبُوهَا حَوْلَهُ وَبِالدِّمَاءِ الَّتِي يُهْرِيقُونَ عِنْدَهُ، وَهُمْ نَجَسٌ أَهْلُ شِرْكٍ.

أَوْ كَمَا قَالَا لَهُ.

(1) المطبوعة: جلّ، وَهُوَ تَحْرِيف.

(2)

عسفان: منهلة من مناهل الطَّرِيق بَين الْجحْفَة وَمَكَّة.

وأمج: بلد من أَعْرَاض الْمَدِينَة.

(*)

ص: 20

فَعَرَفَ نُصْحَهُمَا وَصِدْقَ حَدِيثِهِمَا، وَقَرَّبَ (1) النَّفَرَ مِنْ هُذَيْلٍ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَنَحَرَ عِنْدَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَأَقَامَ بِمَكَّةَ سِتَّةَ أَيَّامٍ فِيمَا يَذْكُرُونَ يَنْحَرُ بِهَا لِلنَّاسِ وَيُطْعِمُ أَهْلَهَا وَيَسْقِيَهُمُ الْعَسَلَ، وَأُرِيَ فِي الْمَنَامِ أَنْ يَكْسُوَ الْبَيْتَ، فَكَسَاهُ الْخَصَفَ (2) ، ثُمَّ أُرِيَ فِي الْمَنَامِ أَنْ يَكْسُوَهُ أَحْسَنَ مِنْ ذَلِكَ فَكَسَاهُ الْمَعَافِرَ (3) ثُمَّ أُرِيَ أَنْ يَكْسُوَهُ أَحْسَنَ مِنْ ذَلِكَ فَكَسَاهُ الْمُلَاءَ وَالْوَصَائِلَ (4) ، فَكَانَ تُبَّعٌ فِيمَا يَزْعُمُونَ أَوَّلَ مَنْ كَسَا الْبَيْتَ، وَأَوْصَى بِهِ وُلَاتَهُ مِنْ جُرْهُمٍ وَأَمَرَهُمْ بِتَطْهِيرِهِ وَأَنْ لَا يُقَرِّبُوهُ دَمًا وَلَا ميتَة وَلَا مثلاة وَهِيَ الْمَحَايِضُ، وَجَعَلَ لَهُ بَابًا وَمِفْتَاحًا.

فَفِي ذَلِكَ قَالَتْ سُبَيْعَةُ بِنْتُ الْأَحَبِّ تُذَكِّرُ ابْنَهَا خَالِدَ بْنَ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ وَتَنْهَاهُ عَنِ الْبَغْيِ بِمَكَّةَ وَتَذْكُرُ لَهُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ تبع فِيهَا: أبنى لَا تظلم بمك * كة لَا الصَّغِير وَلَا الْكَبِير واحفظ محارمها بن * ي وَلَا يغرنك الْغرُور أبنى من يظلم بمك * كة يَلْقَ أَطْرَافَ الشُّرُورْ أَبُنَيَّ يُضْرَبُ وَجْهُهُ * وَيَلُحْ بِخَدَّيْهِ السَّعِيرْ أَبُنَيَّ قَدْ جَرَّبْتُهَا * فَوَجَدْتُ ظَالِمَهَا يَبُورْ اللَّهُ أَمَّنَهَا وَمَا * بُنِيَتْ بِعَرْصَتِهَا قُصُورْ وَاللَّهُ أَمَّنَ طَيْرَهَا * وَالْعُصْمُ تَأْمَنُ فِي ثَبِيرْ وَلَقَد غَزَاهَا تبع * فكسا بنيتها الحبير

(1) ابْن هِشَام: فَقرب (2) الخصف: حصر تنسج من خوص النّخل وَمن الليف.

(3)

المعافر: ثِيَاب تنْسب إِلَى قَبيلَة من الْيمن.

(4)

الملاء: جمع ملاءة، والوصائل: ثِيَاب مخططة يمنية يُوصل بَعْضهَا بِبَعْض.

(*)

ص: 21

وَأَذَلَّ رَبِّي مُلْكَهُ * فِيهَا فَأَوْفَى بِالنُّذُورْ يَمْشِي إِلَيْهَا حَافِيًا * بِفِنَائِهَا أَلْفَا بَعِيرْ وَيَظَلُّ يُطْعِمُ أَهلهَا * لحم المهارى وَالْجَزُور يسقيهم الْعَسَل المصف * فِي وَالرَّحِيضَ مِنَ الشَّعِيرْ وَالْفِيلُ أُهْلِكَ جَيْشُهُ * يُرْمَوْنَ فِيهَا بالصخور وَالْملك فِي أقْصَى البلا * د وفى الاعاجم والخزير (1) فاسمع إِذا حدثت واف * هم كَيْفَ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ خَرَجَ تُبَّعٌ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْيَمَنِ بِمَنْ مَعَهُ من الْجنُود وَبِالْحَبْرَيْنِ، حَتَّى إِذَا دَخَلَ الْيَمَنَ دَعَا قَوْمَهُ إِلَى الدُّخُولِ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ حَتَّى يُحَاكِمُوهُ إِلَى النَّارِ الَّتِي كَانَتْ بِالْيَمَنِ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي أَبُو مَالِكِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ الْقُرَظِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّ تُبَّعًا لَمَّا دَنَا مِنَ الْيَمَنِ لِيَدْخُلَهَا حَالَتْ حِمْيَرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَقَالُوا: لَا تَدْخُلْهَا عَلَيْنَا وَقَدْ فَارَقْتَ دِينَنَا.

فَدَعَاهُمْ إِلَى دِينِهِ وَقَالَ إِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ دينكُمْ.

قَالُوا: تحاكمنا (2) إِلَى النَّارِ؟ قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: وَكَانَتْ بِالْيَمَنِ، فِيمَا يَزْعُمُ أَهْلُ الْيَمَنِ، نَارٌ تَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، تَأْخُذ الظَّالِمَ وَلَا تَضُرُّ الْمَظْلُومَ، فَخَرَجَ قَوْمُهُ بِأَوْثَانِهِمْ وَمَا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ فِي دِينِهِمْ، وَخَرَجَ الْحَبْرَانِ بِمَصَاحِفِهِمَا فِي أَعْنَاقِهِمَا مُتَقَلِّدِيهَا، حَتَّى قَعَدُوا لِلنَّارِ عِنْدَ مَخْرَجِهَا الَّذِي تَخْرُجُ مِنْهُ، فَخَرَجَتِ النَّارُ إِلَيْهِمْ فَلَمَّا أَقْبَلَتْ نَحْوَهُمْ حَادُوا عَنْهَا وَهَابُوهَا فذمرهم (3) من حضرهم من النَّاس

(1) الخزير: أمة من الْعَجم، وَيُقَال لَهُم الخزر أَيْضا.

وفى المطبوعة: الخزور وَهُوَ تَحْرِيف.

(2)

ابْن هِشَام: فحاكمنا (3) ذمرهم: حضهم.

وفى المطبوعة: فزجرهم.

(*)

ص: 22

وَأَمَرُوهُمْ بِالصَّبْرِ لَهَا، فَصَبَرُوا حَتَّى غَشِيَتْهُمْ فَأَكَلَتِ الْأَوْثَانَ وَمَا قَرَّبُوا مَعَهَا وَمَنْ حَمَلَ ذَلِكَ مِنْ رِجَالِ حِمْيَرَ، وَخَرَجَ الْحَبْرَانِ بِمَصَاحِفِهِمَا فِي أَعْنَاقِهِمَا تَعْرَقُ جِبَاهُهُمَا وَلَمْ تَضُرَّهُمَا فَأَصْفَقَتْ (1) عِنْدَ ذَلِك حمير على دينهما، فَمن هُنَالك كَانَ أَصْلُ الْيَهُودِيَّةِ بِالْيَمَنِ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ حَدَّثَنِي مُحَدِّثٌ أَنَّ الْحَبْرَيْنِ وَمَنْ خَرَجَ مِنْ حِمْيَرَ إِنَّمَا اتَّبَعُوا النَّارَ لِيَرُدُّوهَا، وَقَالُوا: مَنْ رَدَّهَا فَهُوَ أَوْلَى بِالْحَقِّ.

فَدَنَا مِنْهَا رِجَالُ حِمْيَرَ بِأَوْثَانِهِمْ لِيَرُدُّوهَا فَدَنَتْ مِنْهُمْ لِتَأْكُلَهُمْ فحادوا عَنْهَا وَلم يستطيعوا ردهَا، فَدَنَا مِنْهَا الْحَبْرَانِ بَعْدَ ذَلِكَ وَجَعَلَا يَتْلُوَانِ التَّوْرَاةَ وهى تنكص (2) عَنْهُمَا حَتَّى رَدَّاهَا إِلَى مَخْرَجِهَا الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ، فَأَصْفَقَتْ عِنْدَ ذَلِكَ حِمْيَرُ عَلَى دِينِهِمَا.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ رِئَامٌ بَيْتًا لَهُمْ يُعَظِّمُونَهُ وَيَنْحَرُونَ عِنْده ويكلمون مِنْهُ إِذْ كَانُوا عَلَى شِرْكِهِمْ، فَقَالَ الْحَبْرَانِ لِتُّبَّعٍ: إِنَّمَا هُوَ شَيْطَان يفتنهم بذلك، فَحل بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ.

قَالَ.

فَشَأْنُكُمَا بِهِ.

فَاسْتَخْرَجَا مِنْهُ فِيمَا يَزْعُمُ أَهْلُ الْيَمَنِ كَلْبًا أَسْوَدَ فَذَبَحَاهُ، ثمَّ هدما ذَلِك الْبَيْت، فبقياه الْيَوْمَ - كَمَا ذُكِرَ لِي - بِهَا آثَارُ الدِّمَاءِ الَّتِي كَانَتْ تُهْرَاقُ عَلَيْهِ.

وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي التَّفْسِيرِ الْحَدِيثَ الَّذِي وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " لَا تَسُبُّوا تُبَّعًا فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ أَسْلَمَ " قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " لَا تَسُبُّوا أَسْعَدَ الْحِمْيَرِيَّ فَإِنَّهُ أَوَّلُ من كسى الْكَعْبَةَ ".

قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَقَدْ قَالَ تُّبَّعٌ حِينَ أَخْبَرَهُ الْحَبْرَانِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شِعْرًا: شَهِدْتُ عَلَى أَحْمَدَ أَنَّهُ * رَسُول من الله بارى النسم

(1) أصفقت: اجْتمعت.

(2)

المطبوعة: تنقص، وَهُوَ تَحْرِيف.

(*)

ص: 23

فَلَوْ مُدَّ عُمْرِي إِلَى عُمْرِهِ * لَكُنْتُ وَزِيرًا لَهُ وَابْنَ عَمْ وَجَاهَدْتُ بِالسَّيْفِ أَعْدَاءَهُ * وَفَرَّجْتُ عَنْ صَدْرِهِ كُلَّ هَمْ قَالَ: وَلَمْ يَزَلْ هَذَا الشِّعْرُ تَتَوَارَثُهُ الْأَنْصَارُ وَيَحْفَظُونَهُ بَيْنَهُمْ، وَكَانَ عِنْدَ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه وَأَرْضَاهُ قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْقُبُورِ أَنَّ قَبْرًا حُفِرَ بِصَنْعَاءَ، فَوُجِدَ فِيهِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا لَوْحٌ مِنْ فِضَّةٍ مَكْتُوبٌ بِالذَّهَبِ وَفِيهِ: هَذَا قَبْرُ لَمِيسٍ وَحُبَّى ابنتى تبع، ماتتا وَهُمَا تَشْهَدَانِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَعَلَى ذَلِكَ مَاتَ الصَّالِحُونَ قَبْلَهُمَا.

ثُمَّ صَارَ الْمُلْكُ فِيمَا بَعْدُ إِلَى حَسَّانَ بْنِ تُبَّانِ أَسْعَدَ، وَهُوَ أَخُو الْيَمَامَةِ الزَّرْقَاءِ الَّتِي صُلِبَتْ

عَلَى بَابِ مَدِينَةِ " جَوٍّ " فَسُمِّيَتْ مِنْ يَوْمِئِذٍ الْيَمَامَةَ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا مَلَكَ ابْنُهُ حَسَّانُ بْنُ أَبِي كَرِبٍ تُبَّانُ أَسْعَدَ، سَارَ بِأَهْلِ الْيَمَنِ يُرِيدُ أَنْ يَطَأَ بِهِمْ أَرْضَ الْعَرَبِ وَأَرْضَ الْأَعَاجِمِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ أَرْضِ الْعِرَاقِ كَرِهَتْ حِمْيَرُ وَقَبَائِلُ الْيَمَنِ السَّيْرَ مَعَهُ وَأَرَادُوا الرَّجْعَةَ إِلَى بِلَادِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ، فَكَلَّمُوا أَخًا لَهُ يُقَالَ لَهُ عَمْرٌو، وَكَانَ مَعَهُ فِي جَيْشِهِ، فَقَالُوا لَهُ: اقْتُلْ أَخَاكَ حَسَّانَ وَنُمَلِّكُكَ عَلَيْنَا وَتَرْجِعُ بِنَا إِلَى بِلَادِنَا.

فَأَجَابَهُمْ، فَاجْتَمَعُوا عَلَى ذَلِكَ إِلَّا ذارعين الْحِمْيَرِيُّ، فَإِنَّهُ نَهَى عَمْرًا عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، فَكَتَبَ ذُو رُعَيْنٍ رُقْعَةً فِيهَا هَذَانَ الْبَيْتَانِ: أَلَا مَنْ يَشْتَرِي سَهَرًا بِنَوْمٍ * سَعِيدٌ مَنْ يَبِيتُ قَرِيرَ عَيْنِ فَأَمَّا حِمْيَرٌ غدرت وخانت (1) * فمعذرة الاله لذى رعين

(1) رِوَايَة الْبَيْت فِي الِاشْتِقَاق 225: * فَإِن تَكُ حمير غدرت وحانت * (*)

ص: 24

ثمَّ استودعها عمرا.

فَلَمَّا قتل عمر وأخاه حَسَّانَ وَرَجَعَ إِلَى الْيَمَنِ مُنِعَ مِنْهُ النَّوْمُ وَسُلِّطَ عَلَيْهِ السَّهَرُ، فَسَأَلَ الْأَطِبَّاءَ وَالْحُزَاةَ (1) مِنَ الْكُهَّانِ وَالْعَرَّافِينَ عَمَّا بِهِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا قَتَلَ رَجُلٌ أَخَاهُ قَطُّ أَوْ ذَا رحم بَغْيًا إِلَّا ذَهَبَ نَوْمُهُ وَسُلِّطَ عَلَيْهِ السَّهَرُ.

فَعِنْدَ ذَلِكَ جَعَلَ يَقْتُلُ كُلَّ مَنْ أَمَرَهُ بِقَتْلِ أَخِيهِ، فَلَمَّا خَلُصَ إِلَى ذِي رُعَيْنٍ قَالَ لَهُ: إِنَّ لِي عِنْدَكَ بَرَاءَةً.

قَالَ وَمَا هِيَ؟ قَالَ: الْكِتَابُ الَّذِي دَفَعْتُهُ الَيْكَ.

فَأَخْرَجَهُ فَاذَا فِيهِ الْبَيْتَانِ فَتَرَكَهُ وَرَأَى أَنَّهُ قَدْ نَصَحَهُ.

وَهَلَكَ عَمْرٌو فَمَرَجَ أَمْرُ حِمْيَرَ عِنْدَ ذَلِكَ وَتَفَرَّقُوا.

وُثُوبُ لَخْنِيعَةَ ذِي شَنَاتِرَ عَلَى مُلْكِ الْيَمَنِ وَقَدْ مَلَكَهَا سَبْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَوَثَبَ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنْ حِمْيَرَ لَمْ يَكُنْ مِنْ بُيُوتِ الْمُلْكِ (2) يُقَالَ لَهُ لَخْنِيعَةُ (3) يَنُوفُ ذُو شَنَاتِرَ، فَقَتَلَ خِيَارَهُمْ وَعَبَثَ بِبُيُوتِ أَهْلِ الْمَمْلَكَةِ مِنْهُمْ، وَكَانَ مَعَ

ذَلِكَ امْرَأً فَاسِقًا يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، فَكَانَ يُرْسِلُ إِلَى الْغُلَامِ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ فَيَقَعُ عَلَيْهِ فِي مَشْرَبَةٍ (4) لَهُ قَدْ صَنَعَهَا لِذَلِكَ، لِئَلَّا يَمْلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَطَّلِعُ مِنْ مَشْرَبَتِهِ تِلْكَ إِلَى حَرَسِهِ وَمَنْ حَضَرَ مِنْ جُنْدِهِ قَدْ أَخَذَ مِسْوَاكًا فَجَعَلَهُ فِي فِيهِ، لِيُعْلِمَهُمْ أَنَّهُ قَدْ فَرَغَ مِنْهُ.

حَتَّى بَعَثَ إِلَى زُرْعَةَ ذِي نُوَاسِ بْنِ تُبَّانِ أَسْعَدَ أَخِي حَسَّانَ، وَكَانَ صَبِيًّا صَغِيرًا حِينَ قُتِلَ أَخُوهُ حَسَّانُ، ثُمَّ شَبَّ غُلَامًا جَمِيلًا وَسِيمًا ذَا هَيْئَةٍ وَعَقْلٍ، فَلَمَّا أَتَاهُ رَسُولُهُ عَرَفَ مَا يُرِيدُ مِنْهُ، فَأَخَذَ سِكِّينًا حَدِيدًا لَطِيفًا فَخَبَّأَهُ بَيْنَ قَدَمَيْهِ وَنَعْلِهِ، ثُمَّ أَتَاهُ فَلَمَّا خَلَا مَعَهُ وَثَبَ إِلَيْهِ فَوَاثَبَهُ ذُو نُوَاسٍ فَوَجَأَهُ حَتَّى قَتَلَهُ، ثُمَّ حَزَّ رَأْسَهُ فَوَضَعَهُ فِي الكوة الَّتِى كَانَ يشرف مِنْهَا،

(1) الحزاة: جمع حَاز وَهُوَ الذى ينظر فِي النُّجُوم وَيقْضى بهَا.

وفى المطبوعة: الحذاق.

(2)

ابْن هِشَام: المملكة.

(3)

قَالَ ابْن دُرَيْد: الْمَعْرُوف فِيهِ لخيعة بِغَيْر نون، وَهُوَ مُشْتَقّ من اللخع وَهُوَ استرخاء اللَّحْم - الِاشْتِقَاق (4) الْمشْربَة: الغرفة المرتفعة.

(*)

ص: 25

وَوَضَعَ مِسْوَاكَهُ فِي فِيهِ ثُمَّ خَرَجَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالُوا لَهُ: ذَا نُوَاسٍ أَرَطْبٍ أَمْ يباس؟ فَقَالَ؟ ل نخماس اسْتُرْطُبَانَ لَا بَاسَ (1) فَنَظَرُوا إِلَى الْكُوَّةِ فَاذَا رَأْسُ لَخْنِيعَةَ مَقْطُوعٌ، فَخَرَجُوا فِي أَثَرِ ذِي نُوَاسٍ حَتَّى أَدْرَكُوهُ، فَقَالُوا: مَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْلِكَنَا غَيْرُكَ إِذْ أَرَحْتَنَا مِنْ هَذَا الْخَبِيثِ.

فَمَلَّكُوهُ عَلَيْهِمْ، وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ حِمْيَرُ وَقَبَائِلُ الْيَمَنِ، فَكَانَ آخِرَ مُلُوكِ حِمْيَرَ، وَتَسَمَّى يُوسُفَ، فَأَقَامَ فِي مُلْكِهِ زَمَانًا، وَبِنَجْرَانَ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ دين عِيسَى بن مَرْيَمَ عليه السلام عَلَى الْإِنْجِيلِ، أَهْلُ فَضْلٍ وَاسْتِقَامَةٍ مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ، لَهُمْ رَأْسٌ يُقَالَ لَهُ عبد الله ابْن الثَّامِرِ.

ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ سَبَبَ دُخُولِ أَهْلِ نَجْرَانَ فِي دِينِ النَّصَارَى، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ يُقَالَ لَهُ فَيْمَيُونُ، كَانَ مِنْ عُبَّادِ النَّصَارَى بِأَطْرَافِ الشَّامِ، وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، وَصَحِبَهُ رَجُلٌ يُقَالَ لَهُ صَالِحٌ، فَكَانَا يَتَعَبَّدَانِ يَوْمَ الْأَحَدِ وَيَعْمَلُ فَيْمَيُونُ بَقِيَّةَ

الْجُمُعَةِ فِي الْبِنَاءِ، وَكَانَ يَدْعُو لِلْمَرْضَى وَالزَّمْنَى وَأَهْلِ الْعَاهَاتِ فَيُشْفَوْنَ، ثُمَّ اسْتَأْسَرَهُ وَصَاحِبَهُ بَعْضُ الْأَعْرَابِ فَبَاعُوهُمَا بِنَجْرَانَ، فَكَانَ الَّذِي اشْتَرَى فَيْمَيُونَ يَرَاهُ إِذَا قَامَ فِي مُصَلَّاهُ بِالْبَيْتِ الَّذِي هُوَ فِيهِ فِي اللَّيْلِ يَمْتَلِئُ عَلَيْهِ الْبَيْتُ نُورًا، فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ.

وَكَانَ أَهْلُ نَجْرَانَ يَعْبُدُونَ نَخْلَةً طَوِيلَةً يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا حُلِيَّ نِسَائِهِمْ وَيَعْكُفُونَ عِنْدَهَا، فَقَالَ فَيْمَيُونَ لِسَيِّدِهِ: أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ اللَّهَ عَلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَهَلَكَتْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ بَاطِلٌ؟ قَالَ: نَعَمْ.

فَجُمِعَ لَهُ أَهْلُ نَجْرَانَ، وَقَامَ فَيْمَيُونَ إِلَى مُصَلَّاهُ فَدَعَا اللَّهَ عَلَيْهَا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهَا قاصفا فَجَعَفَهَا (2) مِنْ أَصْلِهَا وَرَمَاهَا إِلَى الْأَرْضِ، فَاتَّبَعَهُ أهل نَجْرَان على

(1) نخماس الرَّأْس بلغَة حمير.

وَمعنى استرطبان: أَخَذته النَّار، وهى كلمة فارسية.

(2)

جعفها: اقتلعها.

(*)

ص: 26