المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر عمره عليه الصلاة والسلام وقت بعثته وتاريخها - السيرة النبوية من البداية والنهاية - ت عبد الواحد - جـ ١

[ابن كثير]

فهرس الكتاب

- ‌تَقْدِيم

- ‌ذكر أَخْبَار الْعَرَب

- ‌ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم (2)

- ‌ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ سَدَّ مَأْرِبَ كَانَ صَنْعَتَهُ أَنَّ الْمِيَاهَ تَجْرِي مِنْ بَيْنِ جَبَلَيْنِ، فَعَمَدُوا فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ فَسَدُّوا مَا بَيْنَهُمَا بِبَنَاءٍ مُحْكَمٍ جِدًّا، حَتَّى ارْتَفَعَ الْمَاءُ فَحَكَمَ عَلَى أَعَالِي الْجَبَلَيْنِ، وَغَرَسُوا فِيهِمَا الْبَسَاتِينَ وَالْأَشْجَارَ الْمُثْمِرَةَ الْأَنِيقَةَ، وَزَرَعُوا الزُّرُوعَ الْكَثِيرَةَ، وَيُقَالَ كَانَ أَوَّلُ مَنْ بَنَاهُ سَبَأَ بْنَ يَعْرُبَ وَسَلَّطَ إِلَيْهِ سَبْعِينَ وَادِيًا يَفِدُ إِلَيْهِ وَجَعَلَ لَهُ ثَلَاثِينَ فُرْضَةً يَخْرُجُ مِنْهَا الْمَاءُ، وَمَاتَ وَلَمْ يَكْمُلْ بِنَاؤُهُ، فَكَمَّلَتْهُ حِمْيَرُ بَعْدَهُ، وَكَانَ اتِّسَاعُهُ فرسخا فِي فَرسَخ، وَكَانُوا فِي غِبْطَةٍ عَظِيمَةٍ وَعَيْشٍ رَغِيدٍ وَأَيَّامٍ طَيِّبَةٍ، حَتَّى ذَكَرَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ تَمُرُّ بِالْمِكْتَلِ عَلَى رَأْسِهَا فَيَمْتَلِئُ مِنَ الثِّمَارِ مِمَّا يَتَسَاقَطُ فِيهِ مِنْ نُضْجِهِ وَكَثْرَتِهِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ لم يكن فِي بِلَادهمْ شئ مِنَ الْبَرَاغِيثِ وَلَا الدَّوَابِّ الْمُؤْذِيَةِ، لِصِحَّةِ هَوَائِهِمْ وَطِيبِ فِنَائِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى (لَقَدْ كَانَ لسبإ فِي مسكنهم آيَة جنتان عَن يَمِين وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ، وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَة طيبَة وَرب غَفُور) وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)

- ‌ذِكْرُ خُرُوجِ الْمُلْكِ بِالْيَمَنِ مِنْ حِمْيَرَ وَصَيْرُورَتِهِ إِلَى الْحَبَشَةِ السُّودَانِ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ شِقٌّ وَسَطِيحٌ الْكَاهِنَانِ

- ‌ذِكْرُ خُرُوجِ أَبْرَهَةَ الْأَشْرَمِ عَلَى أَرْيَاطَ واختلافهما واقتتالهما وصيرورة ملك الْيمن إِلَى أَبْرَهَة بعد قَتله أرياط

- ‌ذِكْرُ سَبَبِ قَصْدِ أَبْرَهَةَ بِالْفِيلِ مَكَّةَ لِيُخَرِّبَ الْكَعْبَة فَأَهْلَكَهُ الله عَاجلا غير آجل

- ‌ذِكْرُ خُرُوجِ الْمُلْكِ عَنِ الْحَبَشَةِ وَرُجُوعِهِ إِلَى سيف بن ذى يزن الحميرى

- ‌ذِكْرُ مَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُ الْفُرْسِ بِالْيَمَنِ

- ‌بَاب ذكر بنى إِسْمَاعِيل وهم عرب الْحجاز

- ‌ذكر أصُول أَنْسَاب قبائل عَرَبِ الْحِجَازِ إِلَى عَدْنَانَ وَذَلِكَ لِأَنَّ عَدْنَانَ وُلِدَ لَهُ وَلَدَانِ مَعَدٌّ وَعَكٌّ

- ‌ذِكْرُ جُمَلٍ مِنَ الْأَحْدَاثِ الْوَاقِعَةِ فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ

- ‌بَاب ذكر جمَاعَة مشهورين كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ

- ‌ذِكْرُ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ أَحَدِ أَجْوَادِ الْجَاهِلِيَّةِ

- ‌ذكر شئ مِنْ أَخْبَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ

- ‌ذِكْرُ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ حُجْرٍ الْكِنْدِيِّ

- ‌ذكر شئ من أَخْبَار أُميَّة بن أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ

- ‌ذكر قس بن سَاعِدَة الايادي

- ‌ذكر زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ رضي الله عنه

- ‌ذكر شئ مِمَّا وَقع مِنَ الَحَوَادِثِ فِي زَمَنِ الْفَتْرَةِ

- ‌ذِكْرُ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ

- ‌ذِكْرُ تَجْدِيدِ حَفْرِ زَمْزَمَ

- ‌ذِكْرُ نَذْرِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ذَبْحَ أَحَدِ وَلَدِهِ

- ‌ذِكْرُ تَزْوِيجِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ

- ‌بَابُ ذِكْرِ نَسَبِهِ الشَّرِيفِ وَطِيبِ أَصْلِهِ الْمُنِيفِ

- ‌بَابُ مَوْلِدِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر ارتجاس الايوان وَسُقُوطِ الشُّرُفَاتِ، وَخُمُودِ النِّيرَانِ، وَرُؤْيَا الْمُوبِذَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الدَّلَالَاتِ

- ‌ذِكْرُ حَوَاضِنِهِ وَمَرَاضِعِهِ عليه الصلاة والسلام

- ‌ذِكْرُ رَضَاعِهِ عليه الصلاة والسلام مِنْ حَلِيمَةَ بِنْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ السَّعْدِيَّةِ

- ‌ذِكْرُ شُهُودِهِ عليه الصلاة والسلام حَرْبَ الْفِجَارِ

- ‌ذِكْرُ أَخْبَارٍ غَرِيبَةٍ فِي ذَلِكَ

- ‌بَابٌ فِي هَوَاتِفِ الْجَانِّ

- ‌بَاب كَيْفيَّة بَدْء الْوَحْي

- ‌ذكر عمره عليه الصلاة والسلام وَقت بعثته وَتَارِيخِهَا

- ‌ذِكْرُ إِسْلَامِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه

- ‌ذِكْرُ إِسْلَامِ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه

- ‌ذِكْرُ إِسْلَامِ ضِمَادٍ

- ‌بَاب أَمر الله رَسُوله عليه الصلاة والسلام بإبلاغ الرسَالَة إِلَى الْخَاص وَالْعَام

- ‌بَابُ مُجَادَلَةِ الْمُشْرِكِينَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

الفصل: ‌ذكر عمره عليه الصلاة والسلام وقت بعثته وتاريخها

ابْن الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدثنَا جناب بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَجْلَحِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا يُؤْتَى بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فِي الْمَنَامِ حَتَّى تَهْدَأَ قُلُوبُهُمْ، ثُمَّ يَنْزِلُ الْوَحْيُ بَعْدُ (1) .

وَهَذَا مِنْ قِبَلِ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ نَفْسِهِ، وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ يُؤَيِّدُهُ مَا قَبْلَهُ وَيُؤَيِّدهُ مَا بعده.

‌ذكر عمره عليه الصلاة والسلام وَقت بعثته وَتَارِيخِهَا

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدَ، عَنْ عَامِرٍ

الشَّعْبِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَزَلَتْ عَلَيْهِ النُّبُوَّةُ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَقُرِنَ بِنُبُوَّتِهِ إِسْرَافِيلُ ثَلَاثَ سِنِين، فَكَانَ يُعلمهُ الْكَلِمَة والشئ، وَلَمْ يَنْزِلِ الْقُرْآنُ، فَلَمَّا مَضَتْ ثَلَاثُ سِنِينَ قُرِنَ بِنُبُوَّتِهِ جِبْرِيلُ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَانِهِ عِشْرِينَ سَنَةً، عَشْرًا بِمَكَّةَ وَعَشْرًا بِالْمَدِينَةِ.

فَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً.

فَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى الشَّعْبِيِّ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ إِسْرَافِيلَ قُرِنَ مَعَهُ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ ثَلَاثَ سِنِينَ، ثُمَّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ.

وَأَمَّا الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ: وَحَدِيثُ عَائِشَةَ لَا يُنَافِي هَذَا.

فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ أَمْرِهِ الرُّؤْيَا، ثُمَّ وُكِّلَ بِهِ إِسْرَافِيلُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ يَخْلُو فِيهَا بِحِرَاءٍ، فَكَانَ يُلْقِي إِلَيْهِ الْكَلِمَةَ بِسُرْعَةٍ وَلَا يُقِيمُ مَعَهُ تَدْرِيجًا لَهُ وَتَمْرِينًا، إِلَى أَنْ جَاءَهُ جِبْرِيل فَعلمه بعد مَا غَطَّهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَحَكَتْ عَائِشَةُ مَا جَرَى لَهُ مَعَ

(1) لَيْسَ فِي دَلَائِل النُّبُوَّة المطبوع.

(*)

ص: 388

جِبْرِيل وَلم نحك مَا جَرَى لَهُ مَعَ إِسْرَافِيلَ اخْتِصَارًا لِلْحَدِيثِ، أَوْ لَمْ تَكُنْ وَقَفَتْ عَلَى قِصَّةِ إِسْرَافِيلَ.

وَقَالَ الامام أَحْمد: حَدثنَا يحيى بن هِشَامٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ، فَمَكَثَ بِمَكَّةَ عَشْرًا، وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرًا، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ.

وَهَكَذَا رَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ.

ثُمَّ رَوَى أَحْمَدُ عَنْ غُنْدَرٍ، وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَمَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ.

وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، أَنْبَأَنَا عَمَّارُ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، سَبْعَ سِنِينَ يَرَى الضَّوْءَ وَيَسْمَعُ الصَّوْتَ، وَثَمَانِيَ سِنِينَ يُوحَى إِلَيْهِ، وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ.

قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرَى عَجَائِبَ قَبْلَ بِعْثَتِهِ.

فَمِنْ ذَلِكَ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ، إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ ".

انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَإِنَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الْخَلَاءَ وَالِانْفِرَادَ عَنْ قَوْمِهِ، لِمَا يَرَاهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالِ الْمُبِينِ، مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالسُّجُودِ لِلْأَصْنَامِ، وَقَوِيَتْ مَحَبَّتُهُ لِلْخَلْوَةِ عِنْدَ مُقَارَبَةِ إِيحَاءِ اللَّهِ إِلَيْهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.

ص: 389

وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الْملك بن عبد الله بن أبي سُفْيَان بن الْعَلَاء بن حَارِثَة - قَالَ: وَكَانَ وَاعِيَةً - عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْرُجُ إِلَى حِرَاءٍ فِي كُلِّ عَامٍ شَهْرًا مِنَ السَّنَةِ يَتَنَسَّكُ فِيهِ، وَكَانَ مِنْ نُسُكِ قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، يُطْعِمُ مَنْ جَاءَهُ مِنَ الْمَسَاكِينِ، حَتَّى إِذَا انْصَرَفَ مِنْ مُجَاوَرَتِهِ لَمْ يَدْخُلْ بَيْتَهُ حَتَّى يَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ.

وَهَكَذَا رَوَى عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يُحَدِّثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ مِثْلَ ذَلِكَ.

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا كَانَ عَادَةِ الْمُتَعَبِّدِينَ فِي قُرَيْشٍ أَنَّهُمْ يُجَاوِرُونَ فِي حِرَاءٍ لِلْعِبَادَةِ.

وَلِهَذَا قَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي قَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ: وَثَوْرٍ وَمَنْ أَرْسَى ثَبِيرًا مَكَانَهُ * وَرَاقٍ ليرقى فِي حِرَاءٍ وَنَازِلِ هَكَذَا صَوَّبَهُ عَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْبَيْتِ كَمَا ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ وَأَبُو شَامَةَ وَشَيْخُنَا الْحَافِظُ

أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ رحمهم الله، وَقَدْ تَصَحَّفَ عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ فَقَالَ فِيهِ: وراق ليرقى فِي حر وَنَازِلِ - وَهَذَا رَكِيكٌ وَمُخَالِفٌ لِلصَّوَابِ.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَحِرَاءٌ يُقْصَرُ وَيُمَدُّ، وَيُصْرَفُ وَيُمْنَعُ، وَهُوَ جَبَلٌ بِأَعْلَى مَكَّة على ثَلَاثَة أَمْيَالٍ مِنْهَا عَنْ يَسَارِ الْمَارِّ إِلَى مِنًى، لَهُ قُلَّةٌ مُشْرِفَةٌ عَلَى الْكَعْبَةِ مُنْحَنِيَةٌ، وَالْغَارُ فِي تِلْكَ الْحَنْيَةِ.

وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ: فَلَا وَرَبِّ الْآمِنَاتِ الْقُطَّنِ * وَرَبِّ رُكْنٍ مِنْ حِرَاءٍ مُنْحَنِي وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: " وَالتَّحَنُّثُ: التَّعَبُّدُ " تَفْسِيرٌ بِالْمَعْنَى، وَإِلَّا فَحَقِيقَةُ التَّحَنُّثِ مِنْ حَيْثُ الْبِنْيَةِ (1) فِيمَا قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ: الدُّخُولُ فِي الْحِنْثِ.

وَلَكِنْ سُمِعَتْ أَلْفَاظٌ قَلِيلَةٌ فِي

(1) الاصل والمطبوعة: من حنث البنية.

وفى ا: من حنث الثَّنية وَكله تَحْرِيف.

(*)

ص: 390

اللُّغَة مَعْنَاهَا الْخُرُوج من ذَلِك الشئ كتحنث أَيْ خَرَجَ مِنَ الْحِنْثِ.

وَتَحَوَّبَ وَتَحَرَّجَ وَتَأَثَّمَ.

وتهجد هُوَ تَرْكُ الْهُجُودِ وَهُوَ النَّوْمُ لِلصَّلَاةِ.

وَتَنَجَّسَ وَتَقَذَّرَ.

أَوْرَدَهَا أَبُو شَامَةَ.

وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ عَنْ قَوْلِهِ " يَتَحَنَّثُ أَيْ يَتَعَبَّدُ ".

فَقَالَ: لَا أَعْرِفُ هَذَا، إِنَّمَا هُوَ يَتَحَنَّفُ مِنَ الْحَنِيفِيَّةِ دِينِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام.

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ: التَّحَنُّثُ وَالتَّحَنُّفُ.

يُبْدِلُونَ الْفَاءَ مِنَ الثَّاء، كَمَا قَالُوا جدف وجذف، كَمَا قَالَ رُؤْبَةُ: * لَوْ كَانَ أَحْجَارِي مَعَ الاجذاف * يُرِيدُ الْأَجْدَاثَ.

قَالَ: وَحَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ، أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ فُمَّ فِي مَوْضِعِ ثُمَّ.

قُلْتُ: وَمن ذَلِك قَول بعض الْمُفَسّرين: " وفومها " أَنَّ الْمُرَادَ ثُومُهَا.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعَبُّدِهِ عليه السلام قَبْلَ الْبَعْثَةِ هَلْ كَانَ عَلَى شَرْعٍ أَمْ لَا؟ وَمَا ذَلِكَ الشَّرْعُ؟

فَقِيلَ: شَرْعُ نُوحٍ.

وَقِيلَ: شَرْعُ إِبْرَاهِيمَ.

وَهُوَ الْأَشْبَهُ الْأَقْوَى.

وَقِيلَ مُوسَى.

وَقِيلَ عِيسَى.

وَقِيلَ: كُلُّ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ شَرْعٌ عِنْدَهُ اتَّبَعَهُ وَعَمِلَ بِهِ.

وَلِبَسْطِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَمُنَاسَبَاتِهَا مَوَاضِعُ أُخَرُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَوْلُهُ " حَتَّى فجأه الْحَقُّ وَهُوَ بِغَارِ حِرَاءٍ " أَيْ جَاءَ بَغْتَةً عَلَى غَيْرِ مَوْعِدٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَة من رَبك (1) " الْآيَة.

(1) سُورَة النَّمْل 86.

(*)

ص: 391

وَقَدْ كَانَ نُزُولُ صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ وَهِيَ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ.

اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ.

الَّذِي عَلَّمَ بالقلم.

علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم) ، وَهِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ كَمَا قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ وَكَمَا سَيَأْتِي أَيْضًا، فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ.

كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ؟ فَقَالَ: " ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ ".

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وُلِدَ نَبِيُّكُمْ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم يَوْم الِاثْنَيْنِ، ونبى يَوْمَ الِاثْنَيْنِ.

وَهَكَذَا قَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أُوحِيَ إِلَيْهِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَهُمْ.

ثُمَّ قِيلَ: كَانَ ذَلِكَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ أَنَّهُ وُلِدَ عليه السلام، فِي الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَفِيهِ بُعِثَ، وَفِيهِ عُرِجَ بِهِ

إِلَى السَّمَاءِ.

وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ بُعِثَ عليه الصلاة والسلام فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، كَمَا نَص على ذَلِك عبيد ابْن عُمَيْر، وَمُحَمّد بن إِسْحَاق وَغَيرهمَا.

وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ مُسْتَدِلًّا عَلَى ذَلِكَ بِمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى للنَّاس " فَقيل: فِي عَشْرِهِ.

وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ ابْتِدَاءُ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْم الِاثْنَيْنِ، لِسَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَقِيلَ فِي الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ.

ص: 392

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ أَبُو الْعَوَّامِ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لَسْتٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْإِنْجِيلُ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ: وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ.

وَلِهَذَا ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، إِلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ.

وَأَمَّا قَوْلُ جِبْرِيلَ " اقْرَأْ " فَقَالَ: " مَا أَنَا بِقَارِئٍ " فَالصَّحِيحُ أَنَّ قَوْلَهُ " مَا أَنَا بِقَارِئٍ " نَفْيٌ، أَيْ لَسْتُ مِمَّنْ يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ.

وَمِمَّنْ رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَقَبْلَهُ الشَّيْخُ أَبُو شَامَةَ.

وَمَنْ قَالَ إِنَّهَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ فَقَوْلُهُ بَعِيدٌ، لِأَنَّ الْبَاءَ لَا تُزَادُ فِي الْإِثْبَاتِ.

وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ رِوَايَةُ أَبِي نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ خَائِفٌ يُرْعَدُ:" مَا قَرَأْتُ كِتَابًا قَطُّ وَلَا أُحْسِنُهُ، وَمَا أَكْتُبُ وَمَا أَقْرَأُ " فَأَخَذَهُ جِبْرِيلُ فَغَتَّهُ غَتًّا شَدِيدًا.

ثُمَّ تَرَكَهُ فَقَالَ لَهُ: اقْرَأْ.

فَقَالَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَا أَرَى شَيْئًا أَقْرَأُهُ، وَمَا أَقرَأ، وَمَا أَكْتُبُ ".

يُرْوَى: " فَغَطَّنِي " كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ " وغتنى " وَيُرْوَى " قَدْ غَتَّنِي " أَيْ: خَنَقَنِي " حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ " يُرْوَى بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِهَا وَبِالنَّصْبِ وَبِالرَّفْعِ.

وَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ ثَلَاثًا.

قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ: وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ لِيَبْلُوَ صَبْرَهُ وَيُحْسِنَ تَأْدِيبَهُ، فَيَرْتَاضَ لِاحْتِمَالِ مَا كَلَّفَهُ بِهِ مِنْ أَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ يَعْتَرِيهِ مِثْلُ حَالِ الْمَحْمُومِ، وَتَأْخُذُهُ الرُّحَضَاءُ أَيِ: الْبُهْرُ وَالْعَرَقُ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأُمُورٍ: مِنْهَا أَنْ يَسْتَيْقِظَ لِعَظَمَةِ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ بعد هَذَا

ص: 393

الصَّنِيعِ الْمُشِقِّ عَلَى النُّفُوسِ.

كَمَا قَالَ تَعَالَى (إِنَّا سنلقي عَلَيْك قولا ثقيلا)(1) وَلِهَذَا كَانَ عليه الصلاة والسلام إِذَا جَاءَهُ الْوَحْيُ يَحْمَرُّ وَجْهُهُ، وَيَغِطُّ كَمَا يَغِطُّ الْبَكْرُ مِنَ الْإِبِلِ، وَيَتَفَصَّدُ جَبِينُهُ عَرَقًا فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ.

وَقَوْلُهُ: " فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَدِيجَةَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ ".

وَفِي رِوَايَةٍ: " بَوَادِرُهُ " جَمْعُ بَادِرَةٍ.

قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: وَهِيَ لَحْمَةٌ بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَالْعُنُقِ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ عُرُوقٌ تَضْطَّرِبُ عِنْدَ الْفَزَعِ.

وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ تَرْجُفُ بَآدِلُهُ، وَاحِدَتُهَا بَادِلَةٌ.

وَقِيلَ بَادِلٌ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْعُنُقِ وَالتَّرْقُوَةِ.

وَقِيلَ أَصِلُ الثَّدْيِ.

وَقِيلَ: لَحْمُ الثَّدْيَيْنِ.

وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.

فَقَالَ: " زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي "، فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ قَالَ لِخَدِيجَة:" مالى؟ أَي شئ عَرَضَ لِي؟ ! " وَأَخْبَرَهَا مَا كَانَ مِنَ الْأَمْرِ.

ثُمَّ قَالَ: " لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي " وَذَلِكَ لِأَنَّهُ شَاهَدَ أَمْرًا لَمْ يَعْهَدْهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَا كَانَ فِي خَلَدِهِ.

وَلِهَذَا قَالَتْ خَدِيجَةُ: أَبْشِرْ، كَلَّا وَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا.

قِيلَ: مِنَ الْخِزْيِ، وَقِيلَ: مِنَ الْحُزْنِ.

وَهَذَا لِعِلْمِهَا بِمَا أَجْرَى اللَّهُ بِهِ جَمِيلَ الْعَوَائِدِ فِي خُلُقِهِ، أَنَّ مَنْ كَانَ مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الْخَيْرِ لَا يُخْزَى فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ.

ثُمَّ ذَكَرَتْ لَهُ مِنْ صِفَاتِهِ الْجَلِيلَةِ مَا كَانَ مِنْ سَجَايَاهُ الْحَسَنَةِ.

فَقَالَتْ: " إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ " وَقَدْ كَانَ مَشْهُورًا بِذَلِكَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمُوَافِقِ وَالْمُفَارِقِ.

" وَتَحْمِلُ الْكَلَّ " أَيْ عَنْ غَيْرِكَ، تُعْطِي صَاحِبَ الْعَيْلَةِ مَا يُرِيحُهُ مِنْ ثِقَلِ مُؤْنَةِ عِيَاله.

(1) سُورَة المزمل 5.

(*)

ص: 394

" وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ " أَيْ تَسْبِقُ إِلَى فِعْلِ الْخَيْرِ فَتُبَادِرُ إِلَى إِعْطَاءِ الْفَقِيرِ فَتَكْسِبُ حَسَنَتَهُ قَبْلَ غَيْرِكَ.

وَيُسَمَّى الْفَقِيرُ مَعْدُومًا لِأَنَّ حَيَاتَهُ نَاقِصَةٌ، فَوُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ * إِنَّمَا الْمَيْتُ مَيِّتُ الْأَحْيَاءِ وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ التِّهَامِيُّ، فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: عُدَّ ذَا الْفَقْرِ مَيِّتًا وَكِسَاهُ * كَفَنًا بَالِيًا وَمَأْوَاهُ قَبْرَا وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الصَّوَابُ " وَتُكْسِبُ الْمُعْدَمَ " أَيْ تبذل إِلَيْهِ أَو يكون تكسب المعدم بعطيته (1) مَالًا يَعِيشُ بِهِ.

وَاخْتَارَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْحجَّاج المزى أَن المُرَاد بالمعدوم هَهُنَا الْمَالُ الْمُعْطَى، أَيْ يُعْطِي الْمَالَ لِمَنْ هُوَ عَادِمُهُ.

وَمَنْ قَالَ إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّكَ تَكْسَبُ بِاتَّجَارِكَ الْمَالَ الْمَعْدُومَ، أَوِ النَّفِيسَ الْقَلِيلَ النَّظِيرِ، فَقَدْ أَبْعَدَ النُّجْعَةَ، وَأَغْرَقَ فِي النَّزْعِ، وَتَكَلَّفَ مَا لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُمْدَحُ بِهِ غَالِبًا، وَقَدْ ضَعَّفَ هَذَا الْقَوْلَ عِيَاضٌ وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

" وَتَقْرِي الضَّيْفَ " أَيْ تُكْرِمُهُ فِي تَقْدِيمِ قِرَاهُ، وَإِحْسَانِ مَأْوَاهُ.

" وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ " وَيُرْوَى " الْخَيْرِ "، أَيْ إِذَا وَقَعَتْ نَائِبَةٌ لِأَحَدٍ فِي خَيْرٍ أَعَنْتَ فِيهَا، وَقُمْتَ مَعَ صَاحِبِهَا حَتَّى يَجِدَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ أَوْ قَوَامًا مِنْ عَيْشٍ.

وَقَوْلُهُ: " ثُمَّ أَخَذَتْهُ فَانْطَلَقَتْ بِهِ إِلَى ابْنِ عَمِّهَا وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ ".

وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْ خَبَرِهِ مَعَ ذِكْرِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ رحمه الله، وَأَنَّهُ كَانَ مِمَّن؟ ؟ صر فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَفَارَقَهُمْ وَارْتَحَلَ إِلَى الشَّامِ، هُوَ وَزيد بن عَمْرو وَعُثْمَان بن الْحُوَيْرِث،

(1) محرفة بالاصل: أَو يكون تلبس الْعَدَم بعطية.

(*)

ص: 395

وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ، فَتَنَصَّرُوا كُلُّهُمْ، لِأَنَّهُمْ وَجَدُوهُ أَقْرَبَ الْأَدْيَانِ إِذْ ذَاكَ إِلَى الْحَقِّ.

إِلَّا زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فَإِنَّهُ رَأَى فِيهِ دَخَلًا وَتَخْبِيطًا وَتَبْدِيلًا وَتَحْرِيفًا وَتَأْوِيلًا، فَأَبت فطرته الدُّخُول فِيهِ أَيْضا، وبشره الْأَحْبَارُ وَالرُّهْبَانُ بِوُجُودِ نَبِيٍّ قَدْ أَزِفَ زَمَانُهُ وَاقْتَرَبَ أَوَانُهُ.

فَرَجَعَ يَتَطَلَّبُ ذَلِكَ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى فِطْرَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ.

لَكِنِ اخْتَرَمَتْهُ الْمَنِيَّةُ قَبْلَ الْبِعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ.

وَأَدْرَكَهَا وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ وَكَانَ يَتَوَسَّمُهَا فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كَمَا قَدَّمْنَا، بِمَا كَانَتْ خَدِيجَةُ تَنْعَتُهُ لَهُ وَتَصِفُهُ لَهُ، وَمَا هُوَ مُنْطَوٍ عَلَيْهِ مِنَ الصِّفَاتِ الطَّاهِرَةِ الْجَمِيلَةِ وَمَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْآيَاتِ.

وَلِهَذَا لَمَّا وَقَعَ مَا وَقَعَ أَخَذَتْ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَاءَتْ بِهِ إِلَيْهِ، فَوَقَفَتْ بِهِ عَلَيْهِ وَقَالَتْ: ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ.

فَلَمَّا قَصَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَبَرَ مَا رَأَى، قَالَ وَرَقَةُ: سُبُّوحٌ سُبُّوحٌ، هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى.

وَلَمْ يَذْكُرْ عِيسَى وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا بَعْدَ مُوسَى، لِأَنَّهُ كَانَتْ شَرِيعَتُهُ مُتَمِّمَةً وَمُكَمِّلَةً

لِشَرِيعَةِ مُوسَى عليهما السلام، وَنَسَخَتْ بَعْضَهَا عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ.

كَمَا قَالَ (وَلِأُحِلَّ لكم بعض الذى حرم عَلَيْكُم)(1) وَقَوْلُ وَرَقَةَ هَذَا كَمَا قَالَتِ الْجِنُّ: (يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحق وَإِلَى طَرِيق مُسْتَقِيم)(2) .

ثُمَّ قَالَ وَرَقَةُ: " يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا " أَيْ يَا لَيْتَنِي أَكُونُ الْيَوْمَ شَابًّا مُتَمَكِّنًا من الايمان وَالْعلم النافع وَالْعَمَل الصَّالح.

(1) سُورَة آل عمرَان 50 (2) سُورَة الاحقاف 30 (*)

ص: 396

" يَا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ " يَعْنِي حَتَّى أُخْرَجَ مَعَكَ وَأَنْصُرَكَ.

فَعِنْدَهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَو مخرجى هُمْ؟ " قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ، لِأَنَّ فِرَاقَ الْوَطَنِ شَدِيدٌ عَلَى النُّفُوسِ، فَقَالَ:" نَعَمْ! إِنَّهُ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نصرا مؤزرا " أَي نصرك نَصْرًا عَزِيزًا أَبَدًا.

وَقَوْلُهُ " ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ " أَيْ تُوُفِّيَ بَعْدَ هَذِهِ الْقِصَّةِ بِقَلِيلٍ، رحمه الله وَرَضِيَ عَنْهُ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الَّذِي صَدَرَ عَنْهُ تَصْدِيقٌ بِمَا وَجَدَ، وَإِيمَانٌ بِمَا حَصَلَ مِنَ الْوَحْيِ، وَنِيَّةٌ صَالِحَةٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ.

وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنِي أَبُو الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ خَدِيجَةَ سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ فَقَالَ:" قَدْ رَأَيْتُهُ فَرَأَيْتُ عَلَيْهِ ثِيَابَ بَيَاضٍ، فَأَحْسَبُهُ لَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثِيَابُ بَيَاضٍ ".

وَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ، لَكِنْ رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ وَهِشَامٌ عَنْ عُرْوَةَ مُرْسَلًا.

فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو يعلى، عَن شُرَيْح بْنِ يُونُسَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ مُجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ فَقَالَ:" قَدْ رَأَيْتُهُ فَرَأَيْت عَلَيْهِ ثِيَاب بَيَاض، أَبْصَرْتُهُ فِي بُطْنَانِ الْجَنَّةِ (1) وَعَلَيْهِ السُّنْدُسُ ".

وَسُئِلَ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فَقَالَ " يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً وَحْدَهُ ".

وَسُئِلَ عَنْ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: " أَخْرَجْتُهُ مِنْ غَمْرَةٍ مِنْ جَهَنَّمَ إِلَى ضَحْضَاحٍ مِنْهَا ".

وَسُئِلَ عَنْ خَدِيجَةَ، لِأَنَّهَا مَاتَتْ قَبْلَ الْفَرَائِضِ وَأَحْكَامِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: " أبصرتها

(1) بطْنَان: كل شئ وَسطه.

(*)

ص: 397

عَلَى نَهَرٍ فِي الْجَنَّةِ فِي بَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ ".

إِسْنَادٌ حَسَنٌ، وَلِبَعْضِهِ شَوَاهِدُ فِي الصَّحِيحِ.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَا تَسُبُّوا وَرَقَةَ، فَإِنِّي رَأَيْتُ لَهُ جَنَّةً أَوْ جَنَّتَيْنِ ".

وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْأَشَجِّ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ.

وَرُوِي مُرْسَلًا وَهُوَ أَشْبَهُ.

وَرَوَى الْحَافِظَانِ: الْبَيْهَقِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابَيْهِمَا.

" دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ " مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِخَدِيجَةَ:" إِنِّي إِذَا خَلَوْتُ وَحْدِي سَمِعْتُ نِدَاءً، وَقَدْ خَشِيتُ وَاللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا أَمْرٌ ".

قَالَتْ: مَعَاذَ اللَّهِ، مَا كَانَ ليفعل ذَلِك بك، فو الله إِنَّكَ لَتُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصَدُقُ الْحَدِيثَ.

فَلَمَّا دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَلَيْسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ ذَكَرَتْ لَهُ خَدِيجَةُ فَقَالَتْ:

يَا عَتِيقُ اذْهَبْ مَعَ مُحَمَّدٍ إِلَى وَرَقَةَ.

فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخْذَ بِيَدِهِ أَبُو بَكْرٍ.

فَقَالَ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى وَرَقَةَ.

قَالَ: " وَمَنْ أَخْبَرَكَ؟ " قَالَ: خَدِيجَةُ.

فَانْطَلَقَا إِلَيْهِ فَقَصَّا عَلَيْهِ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنِّي إِذَا خَلَوْتُ وَحْدِي سَمِعْتُ نِدَاءً خَلْفِي: يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ.

فَأَنْطَلِقُ هَارِبًا فِي الْأَرْضِ ".

فَقَالَ لَهُ: لَا تَفْعَلْ.

إِذَا أَتَاكَ فَاثْبُتْ حَتَّى تَسَمَعَ مَا يَقُولُ لَكَ، ثُمَّ ائتنى فَأَخْبرنِي.

ص: 398

فَلَمَّا خَلَا نَادَاهُ: يَا مُحَمَّدُ، قُلْ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) حَتَّى بلغ (وَلَا الضَّالّين) قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.

فَأَتَى وَرَقَةَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: أَبْشِرْ ثُمَّ أَبْشِرْ.

فَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ الَّذِي بَشَّرَ بِكَ ابْنُ مَرْيَمَ، وَإِنَّكَ عَلَى مِثْلِ نَامُوسِ مُوسَى، وَإِنَّكَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَإِنَّكَ سَتُؤْمَرُ بِالْجِهَادِ بَعْدَ يَوْمِكَ هَذَا، وَلَئِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ لَأُجَاهِدَنَّ مَعَكَ.

فَلَمَّا تُوُفِّيَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَقَدْ رَأَيْتُ الْقَسَّ فِي الْجَنَّةِ عَلَيْهِ ثِيَابُ الْحَرِيرِ، لِأَنَّهُ آمَنَ بِي وَصَدَّقَنِي " يَعْنِي وَرَقَةَ.

هَذَا لَفْظُ الْبَيْهَقِيِّ، وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَفِيهِ غَرَابَةٌ وَهُوَ كَوْنُ الْفَاتِحَةِ أَوَّلَ مَا نَزَلَ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْ شِعْرِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى إِضْمَارِهِ الْإِيمَانَ وَعَقْدِهِ عَلَيْهِ وَتَأَكُّدِهِ عِنْدَهُ، وَذَلِكَ حِينَ أَخْبَرَتْهُ خَدِيجَةُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَعَ غُلَامِهَا مَيْسَرَةَ، وَكَيْفَ كَانَتِ الْغَمَامَةُ تُظَلِّلُهُ فِي هَجِيرِ الْقَيْظِ، فَقَالَ وَرَقَةُ فِي ذَلِكَ أَشْعَارًا قَدَّمْنَاهَا قَبْلَ هَذَا، مِنْهَا قَوْلُهُ: لَجَجْتُ وَكُنْتُ فِي الذِّكْرَى لَجُوجًا * لِأَمْرٍ طَالَمَا بَعَثَ النَّشِيجَا وَوَصْفٍ مِنْ خَدِيجَةَ بَعْدَ وَصْفٍ * فَقَدْ طَالَ انْتِظَارِي يَا خَدِيجَا بِبَطْنِ الْمَكَّتَيْنِ عَلَى رَجَائِي * حَدِيثَكِ أَنْ أَرَى مِنْهُ خُرُوجًا بِمَا خبرتنا من قَول قس * من الرُّهْبَانِ أَكْرَهُ أَنْ يَعُوجَا

بِأَنَّ مُحَمَّدًا سَيَسُودُ قَوْمًا * وَيَخْصِمُ مَنْ يَكُونُ لَهُ حَجِيجَا وَيُظْهِرُ فِي الْبِلَادِ ضِيَاءَ نُورٍ * يُقِيمُ بِهِ الْبَرِيَّةَ أَن تعوجا فَيَلْقَى مَنْ يُحَارِبُهُ خَسَارًا * وَيَلْقَى مَنْ يُسَالِمُهُ فلوجا فياليتى إِذَا مَا كَانَ ذَاكُمْ * شَهِدْتُ وَكُنْتُ أَوَّلَهُمْ ولوجا

ص: 399

وُلُوجًا فِي الَّذِي (1) كَرِهَتْ قُرَيْشٌ * وَلَوْ عَجَّتْ بمكتها عجيجا أرجي بِالَّذِي كَرهُوا جَمِيعًا * إِلَى ذِي الْعَرْشِ إِذْ سَفَلُوا عُرُوجَا فَإِنْ يَبْقَوْا وأبق تكن (2) أُمُورٌ * يَضِجُّ الْكَافِرُونَ لَهَا ضَجِيجَا وَقَالَ أَيْضًا فِي قَصِيدَتِهِ الْأُخْرَى: وَأَخْبَارَ صِدْقٍ خَبَّرَتْ عَنْ مُحَمَّدٍ * يُخَبِّرُهَا عَنْهُ إِذَا غَابَ نَاصِحُ بِأَنَّ ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ مُرْسَلٌ * إِلَى كُلِّ من ضمت عَلَيْهِ الأباطح وظني بِهِ أَن سَوْفَ يُبْعَثُ صَادِقًا * كَمَا أُرْسِلَ الْعَبْدَانِ: هُودٌ وَصَالح ومُوسَى وَإِبْرَاهِيم حَتَّى يرى لَهُ * بهاء ومنشور من الْحق وَاضِحُ وَيَتْبَعُهُ حَيًّا لُؤَيُّ بْنُ غَالِبٍ * شَبَابُهُمْ والأشيبون الجحاجح فَإِن أبق حَتَّى يدْرك النَّاس دهره * فَإِنِّي بِهِ مُسْتَبْشِرٍ الود فارح وَإِلَّا فَإِنِّي يَا خَدِيجَةُ فَاعْلَمِي * عَنْ أَرْضِكِ فِي الارض العريضة سائح وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: قَالَ وَرَقَةُ: فَإِنْ يَكُ حَقًّا يَا خَدِيجَةُ فَاعْلِمِي * حَدِيثَكِ إِيَّانَا فَأَحْمَدُ مُرْسَلُ وَجِبْرِيلُ يَأْتِيهِ وَمِيكَالُ مَعَهُمَا * مِنَ اللَّهِ وَحْيٌ يَشْرَحُ الصَّدْرَ مُنْزَلُ يَفُوزُ بِهِ مَنْ فَازَ فِيهَا بِتَوْبَةٍ * ويشقى بِهِ العانى الْغَرِيرُ الْمُضَلَّلُ فَرِيقَانِ مِنْهُمْ فِرْقَةٌ فِي جِنَانِهِ * وَأُخْرَى بِأَحْوَازِ الْجَحِيمِ تُعَلَّلُ إِذَا مَا دَعَوْا بِالْوَيْلِ فِيهَا تَتَابَعَتْ * مَقَامِعُ فِي هَامَاتِهِمْ ثُمَّ تُشْعَلُ

فَسُبْحَانَ مَنْ تَهْوِي الرِّيَاحُ بِأَمْرِهِ * وَمَنْ هُوَ فِي الْأَيَّامِ مَا شَاءَ يَفْعَلُ وَمَنْ عَرْشه فَوق السَّمَوَات كلهَا * وأقضاؤه فِي خلقه لَا تبدل

(1) خَ ط: وَلَو كَانَ الذى.

وَمَا أثْبته هُوَ الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة لِابْنِ كثير، وهى الْمُوَافقَة لِابْنِ هِشَام والصحيحة أَيْضا.

(2)

المطبوعة: يكن أمورا، وَهُوَ تَحْرِيف.

(*)

ص: 400

وَقَالَ وَرَقَةُ أَيْضًا: يَا لِلرِّجَالِ وَصَرْفِ الدَّهْرِ وَالْقدر * وَمَا لشئ قَضَاهُ اللَّهُ مِنْ غِيَرِ حَتَّى خَدِيجَةُ تَدْعُونِي لِأُخْبِرَهَا * أَمْرًا أُرَاهُ سَيَأْتِي النَّاسَ مِنْ أُخَرِ وخبرتني بِأَمْرٍ قَدْ سَمِعْتُ بِهِ * فِيمَا مَضَى مِنْ قَدِيمِ الدَّهْرِ وَالْعُصُرِ بِأَنَّ أَحْمَدَ يَأْتِيهِ فَيُخْبِرُهُ * جِبْرِيلُ أَنَّكَ مَبْعُوثٌ إِلَى الْبَشَرِ فَقُلْتُ عَلَّ الَّذِي تَرْجِينَ يُنْجِزُهُ * لَكِ الْإِلَهُ فَرَجِّي الْخَيْرَ وَانْتَظِرِي وَأَرْسِلِيهِ إِلَيْنَا كَيْ نُسَائِلَهُ * عَنْ أَمْرِهِ مَا يَرَى فِي النَّوْمِ وَالسَّهَرِ فَقَالَ حِينَ أَتَانَا مَنْطِقًا عَجَبًا * يَقِفُّ مِنْهُ أَعَالِي الْجِلْدِ وَالشَّعَرِ إِنِّي رَأَيْتُ أَمِينَ اللَّهِ وَاجَهَنِي * فِي صُورَةٍ أُكْمِلَتْ مِنْ أَعْظَمِ الصُّوَرِ ثُمَّ اسْتَمَرَّ فَكَادَ الْخَوْفُ يَذْعَرُنِي * مِمَّا يُسَلِّمُ مِنْ حَوْلِي مِنَ الشَّجَرِ فَقُلْتُ ظَنِّي وَمَا أَدْرِي أَيَصْدُقُنِي * أَنْ سَوْفَ يُبْعَثُ يَتْلُو مُنْزَلَ السُّوَرِ وَسَوْفَ يبليك إِنْ أَعْلَنْتَ دَعْوَتَهُمْ * مِنَ الْجِهَادِ بِلَا مَنٍّ وَلَا كَدَرِ هَكَذَا أَوْرَدَ ذَلِكَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ وَعِنْدِي فِي صِحَّتِهَا عَنْ وَرَقَةَ نَظَرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْملك بن عبد الله بن أبي سُفْيَان بْنِ الْعَلَاءِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيُّ - وَكَانَ وَاعِيَةً (1) - عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ

أَرَادَ اللَّهُ كرامته وابتدأه بِالنُّبُوَّةِ، كَانَ إِذا خرج لِحَاجَتِهِ (2) أبعد حَتَّى يحسر الْبيُوت (3)

(1) المطبوعة دَاعِيَة.

وَهُوَ تَحْرِيف.

(2)

المطبوعة: لحَاجَة.

وَهُوَ تَحْرِيف.

(3)

خَ ط: الثَّوْب.

وَهُوَ تَحْرِيف شنيع.

(*)

ص: 401

عَنهُ وَيُفْضِي إِلَى شِعَابِ مَكَّةَ وَبُطُونِ أَوْدِيَتِهَا، فَلَا يَمُرُّ بِحَجَرٍ وَلَا شَجَرٍ إِلَّا قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.

قَالَ: فَيَلْتَفِتُ حَوْلَهُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَخَلْفَهُ فَلَا يَرَى إِلَّا الشَّجَرَ وَالْحِجَارَةَ، فَمَكَثَ كَذَلِكَ يَرَى وَيَسْمَعُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ، ثُمَّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عليه السلام بِمَا جَاءَ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ وَهُوَ بِحِرَاءٍ فِي رَمَضَانَ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ مَوْلَى آلِ الزبير، قَالَ سَمِعت عبد الله ابْن الزُّبَيْرِ وَهُوَ يَقُولُ لِعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ قَتَادَةَ اللَّيْثِيِّ: حَدِّثْنَا يَا عُبَيْدُ: كَيْفَ كَانَ بَدْءُ مَا ابْتُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ النُّبُوَّةِ حِينَ جَاءَهُ جِبْرِيلُ.

قَالَ: فَقَالَ عُبَيْدٌ وَأَنَا حَاضِرٌ، يُحَدِّثُ عبد الله ابْن الزُّبَيْرِ وَمَنْ عِنْدَهُ مِنَ النَّاسِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُجَاوِرُ فِي حراء فِي كل سنة شهرا يَتَحَنَّث.

قَالَ: وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا تَحَنَّثُ (1) بِهِ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَالتَّحَنُّثُ: التَّبَرُّرُ.

فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُجَاوِرُ ذَلِكَ الشَّهْرَ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ يُطْعِمُ مَنْ جَاءَهُ مِنَ الْمَسَاكِينِ، فَإِذَا قَضَى جِوَارَهُ مِنْ شَهْرِهِ ذَلِكَ كَانَ أَوَّلَ مَا يَبْدَأُ بِهِ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ جِوَارِهِ الْكَعْبَةَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ، فَيَطُوفُ بِهَا سَبْعًا أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى بَيْتِهِ.

حَتَّى إِذَا كَانَ الشَّهْرُ الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ بِهِ فِيهِ مَا أَرَادَ مِنْ كَرَامَتِهِ مِنَ السَّنَةِ الَّتِي بَعَثَهُ فِيهَا، وَذَلِكَ الشَّهْرُ رَمَضَانُ، خَرَجَ إِلَى حِرَاءٍ كَمَا كَانَ يَخْرُجُ لِجِوَارِهِ وَمَعَهُ أَهْلُهُ، حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَكْرَمَهُ اللَّهُ فِيهَا بِرِسَالَتِهِ وَرَحِمَ الْعِبَادَ بِهِ جَاءَهُ جِبْرِيل بِأَمْر الله تَعَالَى.

(1) خَ ط: يحبب.

وَهُوَ تَحْرِيف.

(*)

ص: 402

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " فَجَاءَنِي وَأَنَا نَائِمٌ بِنَمَطٍ مِنْ دِيبَاجٍ فِيهِ كِتَابٌ، فَقَالَ: اقْرَأْ.

قُلْتُ: مَا أَقْرَأُ؟ قَالَ: فَغَتَّنِي حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ الْمَوْتُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ.

قُلْتُ: مَا أَقْرَأُ؟ قَالَ: فَغَتَّنِي حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ الْمَوْتُ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ.

قُلْتُ: مَا أَقْرَأُ؟ قَالَ: فَغَتَّنِي حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ الْمَوْتُ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ.

قُلْتُ: مَاذَا أَقْرَأُ؟ مَا أَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا افْتِدَاءً (1) مِنْهُ أَنْ يَعُودَ لِي بِمِثْلِ مَا صَنَعَ بِي.

فَقَالَ: " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ.

خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ.

اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ.

الَّذِي عَلَّمَ بالقلم.

علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم ".

قَالَ: فَقَرَأْتُهَا ثُمَّ انْتَهَى وَانْصَرَفَ عَنِّي، وَهَبَبْتُ مِنْ نَوْمِي فَكَأَنَّمَا كَتَبَ فِي قَلْبِي كِتَابًا.

قَالَ: فَخَرَجْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي وَسَطٍ مِنَ الْجَبَلِ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَا جِبْرِيلُ.

قَالَ: فَرفعت رَأْسِي إِلَى السَّمَاء، فَأنْظر فَإِذَا جِبْرِيلُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ صَافٍّ قَدَمَيْهِ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَا جِبْرِيلُ.

فَوَقَفْتُ أُنْظُرُ إِلَيْهِ فَمَا أَتَقَدَّمُ وَمَا أَتَأَخَّرُ، وَجَعَلْتُ أَصْرِفُ وَجْهِي عَنْهُ فِي آفَاقِ السَّمَاءِ فَمَا أَنْظُرُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا إِلَّا رَأَيْتُهُ كَذَلِكَ.

فَمَا زِلْتُ وَاقِفًا مَا أَتَقَدَّمُ أَمَامِي وَمَا أَرْجِعُ وَرَائِي حَتَّى بَعَثَتْ خَدِيجَةُ رُسُلَهَا فِي طَلَبِي، فَبَلَغُوا مَكَّةَ وَرَجَعُوا إِلَيْهَا وَأَنَا وَاقِفٌ فِي مَكَانِي ذَلِكَ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنِّي.

وَانْصَرَفْتُ رَاجِعًا إِلَى أَهْلِي حَتَّى أَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَجَلَسْتُ إِلَى فَخِذِهَا مُضِيفًا إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ أَيْنَ كنت؟ فو الله لَقَدْ بَعَثْتُ رُسُلِي فِي طَلَبِكَ حَتَّى بَلَغُوا مَكَّة وَرَجَعُوا إِلَى.

(1) ط: اقتدا وَهُوَ تَحْرِيف.

(*)

ص: 403

ثُمَّ حَدَّثْتُهَا بِالَّذِي رَأَيْتُ فَقَالَتْ: أَبْشِرْ يَا ابْن الْعم واثبت، فو الذى نَفْسُ خَدِيجَةَ بِيَدِهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنَّ تَكُونَ نَبِيَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ.

ثُمَّ قَامَتْ فَجَمَعَتْ عَلَيْهَا ثِيَابَهَا ثُمَّ انْطَلَقَتْ إِلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا أَخْبَرَهَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ وَرَقَةُ: قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ، وَالَّذِي نَفْسُ وَرَقَةَ بِيَدِهِ لَئِنْ كُنْتِ صَدَقْتِنِي يَا خَدِيجَةُ لِقَدْ جَاءَهُ النَّامُوسُ الْأَكْبَرُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى، وَإِنَّهُ لَنَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقُولِي لَهُ فَلْيَثْبُتْ.

فَرَجَعَتْ خَدِيجَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَتْهُ بِقَوْلِ وَرَقَةَ.

فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِوَارَهُ وَانْصَرَفَ صَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ، بَدَأَ بِالْكَعْبَةِ فَطَافَ بِهَا، فَلَقِيَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، أَخْبِرْنِي بِمَا رَأَيْتَ وَسَمِعْتَ.

فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكَ لَنَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَقَدْ جَاءَكَ النَّامُوسُ الْأَكْبَرُ الَّذِي جَاءَ مُوسَى، وَلَتُكَذَّبَنَّهْ وَلَتُؤْذَيَنَّهْ وَلَتُخْرَجَنَّهْ وَلَتُقَاتَلَنَّهْ (1) ، وَلَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَأَنْصُرَنَّ اللَّهَ نَصْرًا يَعْلَمُهُ.

ثُمَّ أَدْنَى رَأْسَهُ مِنْهُ فَقَبَّلَ يَأْفُوخَهُ ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى مَنْزِلِهِ.

وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ كَالتَّوْطِئَةِ لِمَا جَاءَ بَعْدَهُ مِنَ الْيَقَظَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ رضي الله عنها: فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ.

وَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا الْمَنَامَ كَانَ بَعْدَ مَا رَآهُ فِي الْيَقَظَةِ صَبِيحَةَ لَيْلَتَئِذٍ.

وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ بعده بِمدَّة.

وَالله أعلم.

(1) الْهَاء هُنَا للسكت.

(*)

ص: 404

وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: وَكَانَ بَلَغَنَا أَوَّلَ مَا رَأَى، يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَاهُ رُؤْيَا فِي الْمَنَامِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَذَكَرَهَا لِامْرَأَتِهِ خَدِيجَةَ، فَعَصَمَهَا اللَّهُ عَنِ التَّكْذِيبِ وَشَرَحَ صَدْرَهَا لِلتَّصْدِيقِ فَقَالَتْ: أَبْشِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لم يَصْنَعَ بِكَ إِلَّا خَيْرًا.

ثُمَّ إِنَّهُ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهَا، فَأَخْبَرَهَا أَنَّهُ رَأَى بَطْنَهُ شُقَّ ثُمَّ غُسِلَ وَطُهِّرَ ثُمَّ أُعِيدَ كَمَا كَانَ.

قَالَتْ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ فَأَبْشِرْ.

ثُمَّ اسْتَعْلَنَ لَهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ فَأَجْلَسَهُ عَلَى مَجْلِسٍ كَرِيمٍ مُعْجِبٍ، كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: أَجْلَسَنِي عَلَى بِسَاطٍ كَهَيْئَةِ الدُّرْنُوكِ (؟) فِيهِ الْيَاقُوتُ وَاللُّؤْلُؤُ، فبشره برسالة الله عزوجل، حَتَّى اطْمَأَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ اقْرَأْ.

فَقَالَ: كَيْفَ أَقْرَأُ؟ فَقَالَ: " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بالقلم، علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم ".

قَالَ: وَيَزْعُمُ نَاسٌ أَنَّ " يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ " أول سُورَة نزلت عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ: فَقَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رِسَالَةَ رَبِّهِ وَاتَّبَعَ مَا جَاءَهُ بِهِ جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.

فَلَمَّا انْصَرَفَ مُنْقَلِبًا إِلَى بَيْتِهِ جَعَلَ لَا يَمُرُّ عَلَى شَجَرٍ وَلَا حَجَرٍ إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ، فَرَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا مُوقِنًا أَنَّهُ قَدْ رَأَى أَمْرًا عَظِيمًا، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى خَدِيجَة قَالَ: أرأيتك الَّتِى كنت حدثتك أَنِّي رَأَيْتُهُ فِي الْمَنَامِ؟ فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ اسْتَعْلَنَ إِلَى، أرْسلهُ إِلَى ربى عزوجل.

وَأَخْبَرَهَا بِالَّذِي جَاءَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا سَمِعَ مِنْهُ، فَقَالَت: أبشر فو الله لَا يفعل

(1) الدرنوك: نوع من الْبسط لَهُ خمل.

(*)

ص: 405

اللَّهُ بِكَ إِلَّا خَيْرًا، وَاقْبَلِ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ حَقٌّ، وَأَبْشِرْ فَإِنَّكَ

رَسُول الله حَقًا.

ثمَّ انْطَلَقت من مَكَانَهَا، فَأَتَتْ غُلَامًا لِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، نَصْرَانِيًّا مِنْ أَهْلِ نِينَوَى يُقَالُ لَهُ عَدَّاسٌ فَقَالَتْ لَهُ: يَا عَدَّاسُ أُذَكِّرُكَ بِاللَّهِ إِلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي: هَلْ عِنْدَكَ عِلْمٌ مِنْ جِبْرِيلَ؟ فَقَالَ: قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ، مَا شَأْنُ جِبْرِيلَ يُذْكَرُ بِهَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي أَهْلُهَا أَهْلُ الْأَوْثَانِ.

فَقَالَتْ: أَخْبِرْنِي بِعِلْمِكَ فِيهِ.

قَالَ: فَإِنَّهُ أَمِينُ اللَّهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّينَ، وَهُوَ صَاحِبُ مُوسَى وَعِيسَى عليهما السلام.

فَرَجَعَتْ خَدِيجَةُ مِنْ عِنْدِهِ فَجَاءَتْ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ، فَذَكَرَتْ لَهُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَا أَلْقَاهُ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ، فَقَالَ لَهَا وَرَقَةُ: يَا بُنَيَّةَ أَخِي، مَا أَدْرِي لَعَلَّ صَاحِبَكِ النَّبِيُّ الَّذِي يَنْتَظِرُ أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَئِنْ كَانَ إِيَّاهُ ثُمَّ أَظْهَرَ دَعْوَاهُ وَأَنا حى لَا بلين اللَّهَ فِي طَاعَةِ رَسُولِهِ وَحُسْنِ مُؤَازَرَتِهِ لِلصَّبْرِ وَالنَّصْرِ.

فَمَاتَ وَرَقَةُ رحمه الله.

قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَكَانَتْ خَدِيجَةُ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَصَدَّقَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ إِيرَادِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ: وَالَّذِي ذُكِرَ فِيهِ مِنْ شَقِّ بَطْنِهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً مِنْهُ لِمَا صُنِعَ بِهِ فِي صباه، يعْنى شقّ بَطْنه عَنهُ حَلِيمَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ شُقَّ مَرَّةً أُخْرَى، ثُمَّ ثَالِثَةً حِينَ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ (1) ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ وَرَقَةَ بِإِسْنَادِهِ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ طرخان التيمى قَالَ:

(1) من هُنَا إِلَى وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ سَاقِط من النُّسْخَة ا.

(*)

ص: 406

بَلَغَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا رَسُولًا عَلَى رَأْسِ خَمْسِينَ سَنَةً مِنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ.

وَكَانَ أول شئ اخْتَصَّهُ بِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْكَرَامَةِ رُؤْيَا كَانَ يَرَاهَا، فَقَصَّ ذَلِكَ عَلَى زَوْجَتِهِ خَدِيجَةَ بِنْتِ خويلد فَقَالَت لَهُ: أبشر فو الله لَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِكَ إِلَّا خَيْرًا.

فَبَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي حِرَاءٍ، وَكَانَ يَفِرُّ إِلَيْهِ مِنْ قَوْمِهِ، إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ، فَدَنَا مِنْهُ، فَخَافَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَخَافَةً شَدِيدَةً، فَوَضَعَ جِبْرِيلُ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ احْطُطْ وِزْرَهُ، وَاشْرَحْ صَدْرَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، يَا مُحَمَّدُ أَبْشِرْ! فَإِنَّكَ نَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، اقْرَأْ.

فَقَالَ لَهُ نَبِيُّ اللَّهِ: وَهُوَ خَائِفٌ يُرْعَدُ: مَا قَرَأْتُ كِتَابًا قَطُّ وَلَا أُحْسِنُهُ، وَمَا أَكْتُبُ وَمَا أَقْرَأُ.

فَأَخَذَهُ جِبْرِيلُ فَغَتَّهُ غَتًّا شَدِيدًا ثُمَّ تَرَكَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اقْرَأْ.

فَأَعَادَ عَلَيْهِ مِثْلَهُ.

فَأَجْلَسَهُ عَلَى بِسَاطٍ كَهَيئَةِ الدرنوك فَرَأى فِيهِ من صفائه وَحُسْنِهِ كَهَيْئَةِ اللُّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ وَقَالَ لَهُ: " اقْرَأْ باسم رَبك الذى خلق " الْآيَاتِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: لَا تَخَفْ يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ.

ثُمَّ انْصَرَفَ، وَأَقْبَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَمُّهُ، فَقَالَ: كَيْفَ أَصْنَعُ وَكَيْفَ أَقُولُ لِقَوْمِي؟ ! ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ خَائِفٌ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ مِنْ أَمَامِهِ وَهُوَ فِي صعرته (1) ، فَرَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْرًا عَظِيمًا مَلَأَ صَدْرَهُ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: لَا تَخَفْ يَا مُحَمَّدُ، جِبْرِيلُ رَسُولُ اللَّهِ، جِبْرِيلُ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، فَأَيْقِنْ بِكَرَامَةِ اللَّهِ فَإِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ.

فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَمُرُّ عَلَى شَجَرٍ وَلَا حَجَرٍ إِلَّا هُوَ سَاجِدٌ

(1) أَي عَظمته.

(*)

ص: 407

يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.

فَاطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ وَعَرَفَ كَرَامَةَ اللَّهِ إِيَّاهُ.

فَلَمَّا انْتَهَى

إِلَى زَوْجَتِهِ خَدِيجَةَ أَبْصَرَتْ مَا بِوَجْهِهِ مِنْ تَغَيُّرِ لَوْنِهِ، فَأَفْزَعَهَا ذَلِكَ، فَقَامَتْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا دَنَتْ مِنْهُ جَعَلَتْ تَمْسَحُ عَنْ وَجْهِهِ وَتَقُولُ: لَعَلَّكَ لِبَعْضِ مَا كُنْتَ تَرَى وَتَسْمَعُ قَبْلَ الْيَوْمِ.

فَقَالَ: يَا خَدِيجَةُ أَرَأَيْتِ الَّذِي كُنْتُ أَرَى فِي الْمَنَامِ وَالصَّوْتَ الَّذِي كُنْتُ أَسْمَعُ فِي الْيَقَظَةِ وَأُهَالُ مِنْهُ؟ فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ قَدِ اسْتَعْلَنَ لِي وَكَلَّمَنِي وَأَقْرَأَنِي كَلَامًا فَزِعْتُ مِنْهُ، ثُمَّ عَادَ إِلَيَّ فَأَخْبَرَنِي أَنِّي نَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَأَقْبَلْتُ رَاجِعًا فَأَقْبَلْتُ عَلَى شَجَرٍ وَحِجَارَةٍ فَقُلْنَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.

فَقَالَتْ خَدِيجَة: أبشر فو الله لَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَنْ يَفْعَلَ بِكَ إِلَّا خَيْرًا، وَأَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِي تَنْتَظِرُهُ الْيَهُودُ، قَدْ أَخْبَرَنِي بِهِ نَاصِحٌ غُلَامِي وَبَحِيرَى الرَّاهِبُ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَتَزَوَّجَكَ مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً.

فَلَمْ تَزَلْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى طَعِمَ وَشَرِبَ وَضَحِكَ.

ثُمَّ خَرَجَتْ إِلَى الرَّاهِبِ وَكَانَ قَرِيبًا مِنْ مَكَّةَ فَلَمَّا دَنَتْ مِنْهُ وَعرفهَا، قَالَ: مَالك يَا سَيِّدَةَ نِسَاءِ قُرَيْشٍ؟ فَقَالَتْ: أَقْبَلْتُ إِلَيْكَ لِتُخْبِرَنِي عَنْ جِبْرِيلَ.

فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّنَا الْقُدُّوسِ! مَا بَالُ جِبْرِيلَ يُذْكَرُ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ الَّتِي يَعْبُدُ أَهْلُهَا الْأَوْثَانَ؟ ! جِبْرِيلُ أَمِينُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ إِلَى أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ وَهُوَ صَاحِبُ مُوسَى وَعِيسَى.

فَعَرَفْتُ كَرَامَةَ اللَّهِ لِمُحَمَّدٍ.

ثُمَّ أَتَتْ عَبْدًا لِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ يُقَالُ لَهُ عَدَّاسٌ، فَسَأَلَتْهُ فَأَخْبَرَهَا بِمِثْلِ مَا أَخْبَرَهَا بِهِ الرَّاهِبُ وَأَزْيَدَ، قَالَ: جِبْرِيلُ كَانَ مَعَ مُوسَى حِينَ أَغْرَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ

ص: 408

وَقَوْمَهُ، وَكَانَ مَعَهُ حِينَ كَلَّمَهُ اللَّهُ عَلَى الطّور، وَهُوَ صَاحب عِيسَى بن مَرْيَمَ الَّذِي أَيَّدَهُ اللَّهُ بِهِ.

ثُمَّ قَامَتْ مِنْ عِنْدِهِ فَأَتَتْ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ فَسَأَلَتْهُ عَنْ جِبْرِيلَ، فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ.

ثُمَّ سَأَلَهَا: مَا الْخَبَرُ؟ فَأَحْلَفَتْهُ أَنْ يَكْتُمَ مَا تَقُولُ لَهُ، فَحَلَفَ لَهَا فَقَالَتْ لَهُ: إِنَّ ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ ذَكَرَ لِي، وَهُوَ صَادِقٌ أَحَلِفَ بِاللَّهِ مَا كَذَبَ وَلَا كُذِبَ، أَنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِحِرَاءٍ، وَأَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ نَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَقْرَأَهُ آيَاتٍ أُرْسِلَ بِهَا.

قَالَ: فَذُعِرَ وَرَقَةُ لِذَلِكَ وَقَالَ: لَئِنْ كَانَ جِبْرِيلُ قَدِ اسْتَقَرَّتْ قَدَمَاهُ عَلَى الْأَرْضِ لَقَدْ نَزَلَ عَلَى خَيْرِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَمَا نَزَلَ إِلَّا عَلَى نَبِيٍّ، وَهُوَ صَاحِبُ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ يُرْسِلُهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ صَدَقْتُكِ عَنْهُ، فَأَرْسِلِي إِلَيَّ ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَسْأَلُهُ وَأَسْمَعُ مِنْ قَوْلِهِ وَأُحَدِّثُهُ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ جِبْرِيلَ، فَإِنَّ بَعْضَ الشَّيَاطِينِ يَتَشَبَّهُ بِهِ لِيُضِلَّ بِهِ بَعْضَ بَنِي آدَمَ وَيُفْسِدُهُمْ، حَتَّى يَصِيرَ الرَّجُلُ بَعْدَ الْعَقْلِ الرَّضِيِّ مُدَلَّهًا مَجْنُونًا.

فَقَامَتْ مِنْ عِنْدِهِ وَهِيَ وَاثِقَةٌ بِاللَّهِ أَنْ لَا يَفْعَلَ بِصَاحِبِهَا إِلَّا خَيْرًا، فَرَجَعَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا قَالَ وَرَقَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: " ن.

وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ.

مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ " الْآيَاتِ.

فَقَالَ لَهَا: كَلَّا وَاللَّهِ إِنَّهُ لَجِبْرِيلُ.

فَقَالَتْ لَهُ: أُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَهُ فَتُخْبِرَهُ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُ.

فَجَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا الذى جَاءَكَ فِي نُورٍ أَوْ ظُلْمَةٍ؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صِفَةِ جِبْرِيلَ وَمَا رَآهُ مِنْ عَظَمَتِهِ وَمَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ.

فَقَالَ وَرَقَةُ: أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا جِبْرِيلُ، وَأَن هَذَا كَلَام الله، فقد أَمرك بشئ تُبَلِّغُهُ قَوْمَكَ، وَإِنَّهُ لَأَمْرُ نُبُوَّةٍ، فَإِنْ أُدْرِكْ زَمَانَكَ أَتَّبِعْكَ.

ثُمَّ قَالَ: أَبْشِرِ ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بِمَا بَشَّرَكَ اللَّهُ بِهِ.

ص: 409

قَالَ: وَذَاعَ قَوْلُ وَرَقَةَ وَتَصْدِيقُهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمَلَأِ مِنْ قَوْمِهِ.

قَالَ: وَفَتَرَ الْوَحْيُ، فَقَالُوا: لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَتَتَابَعَ وَلَكِنَّ الله قلاه.

فَأنْزل الله " وَالضُّحَى " و " ألم نشرح " بِكَمَالِهِمَا.

وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنى إِسْمَاعِيل بن أَبى حَكِيم مولى آل الزبير، أَنه حَدثهُ عَنْ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا بَيْنَهُ مِمَّا أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ نُبُوَّتِهِ: يَا ابْنَ عَمِّ تَسْتَطِيعُ أَنَّ تُخْبِرَنِي بِصَاحِبِكَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ إِذَا جَاءَكَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ.

فَقَالَتْ: إِذَا جَاءَكَ فَأَخْبِرْنِي.

فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهَا إِذْ جَاءَ جِبْرِيلُ، فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا خَدِيجَةُ، هَذَا جِبْرِيلُ.

فَقَالَتْ: أَتَرَاهُ الْآنَ؟ قَالَ: نَعَمْ.

قَالَتْ: فَاجْلِسْ إِلَى شِقِّيَ الْأَيْمَنِ.

فَتَحَوَّلَ فَجَلَسَ.

فَقَالَتْ: أَتَرَاهُ الْآنَ؟ قَالَ: نَعَمْ.

قَالَتْ: فَتَحَوَّلْ فَاجْلِسْ فِي حِجْرِي.

فَتَحَوَّلَ فَجَلَسَ فِي حِجْرِهَا، فَقَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ الْآنَ؟ قَالَ: نَعَمْ.

فَتَحَسَّرَتْ رَأْسَهَا فَشَالَتْ خِمَارَهَا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فِي حِجْرِهَا فَقَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ الْآنَ؟ قَالَ: لَا.

قَالَتْ: مَا هَذَا بِشَيْطَانٍ إِنَّ هَذَا لَمَلَكٌ يَا ابْنَ عَمِّ، فَاثْبُتْ وَأَبْشِرْ.

ثُمَّ آمَنَتْ بِهِ وَشَهِدَتْ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَثْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَسَنٍ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ: قَدْ سَمِعْتُ أُمِّي فَاطِمَةَ بِنْتَ الْحُسَيْنِ تُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ خَدِيجَةَ، إِلَّا أَنِّي سَمِعْتُهَا تَقُولُ: أَدْخَلَتْ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بَينهَا وَبَيْنَ دِرْعِهَا فَذَهَبَ عِنْدَ ذَلِكَ جِبْرِيلُ عليه السلام.

ص: 410

قَالَ: البيهقى وَهَذَا شئ كَانَ مِنْ خَدِيجَةَ تَصْنَعُهُ تَسْتَثْبِتُ بِهِ الْأَمْرَ احْتِيَاطًا لِدِينِهَا وَتَصْدِيقًا.

فَأَمَّا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ كَانَ وَثِقَ بِمَا قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ وَأَرَاهُ مِنَ الْآيَاتِ

الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَمَا كَانَ مِنْ تَسْلِيمِ الشَّجَرِ وَالْحَجَرِ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم تَسْلِيمًا.

وَقَدْ قَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، حَدَّثَنِي سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ ".

وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ مُعَاذٍ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" إِنَّ بِمَكَّةَ لحجرا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ لَيَالِي بُعِثْتُ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ إِذَا مَرَرْتُ عَلَيْهِ ".

وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّيِّ الْكَبِيرِ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه.

قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ فَخَرَجَ فِي بَعْضِ نَوَاحِيهَا فَمَا اسْتَقْبَلَهُ شَجَرٌ وَلَا جَبَلٌ إِلَّا قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَدْخُلُ مَعَهُ الْوَادِيَ فَلَا يَمُرُّ بِحَجَرٍ وَلَا شجر إِلَّا قَالَ: السَّلَام عَلَيْكُم يَا رَسُول الله وَأَنا أسمعهُ.

ص: 411

فَصْلٌ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَتِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ: ثُمَّ فتر الوحى حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا بَلَغَنَا حُزْنًا غَدَا مِنْهُ مِرَارًا كَيْ يَتَرَدَّى مِنْ رُءُوسِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ، فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذرْوَةِ جبل لكَي يلقِي نَفسه تبدى لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا.

فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ وَتَقَرُّ نَفْسُهُ فَيَرْجِعُ.

فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الْوَحْيِ غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ

فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: سَمِعت أَبَا سَلمَة عَبْدِ الرَّحْمَنِ يُحَدِّثُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ قَالَ: فَبَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرفعت بصرى قبل السَّمَاء فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كرسى بَين السَّمَاء، فجثيت مِنْهُ، فَرَقًا حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ، فَجِئْتُ أَهْلِي فَقُلْتُ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي.

فَأَنْزَلَ اللَّهُ: " يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ.

وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ.

وَثِيَابَكَ فطهر.

وَالرجز فاهجر ".

قَالَ: ثُمَّ حَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ.

فَهَذَا كَانَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ لَا مُطْلَقًا، ذَاكَ قَوْلُهُ (1)" اقْرَأْ بِاسْمِ رَبك الذى خلق ".

وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ أَوَّلَ مَا نزل " يَا أَيهَا المدثر " وَاللَّائِقُ حَمْلُ كَلَامِهِ مَا أَمْكَنَ عَلَى مَا قُلْنَاهُ، فَإِنَّ فِي سِيَاقِ كَلَامِهِ مَا يدل على تقدم مجئ الْملك الذى عرفه ثَانِيًا بِمَا عرفه

(1) أَي أَن أول مَا نزل مُطلقًا هُوَ " اقْرَأ ".

(*)

ص: 412

بِهِ أَوَّلًا إِلَيْهِ.

ثُمَّ قَوْلُهُ: " يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ " دَلِيلٌ عَلَى تَقَدُّمِ الْوَحْيِ عَلَى هَذَا الْإِيحَاءِ.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ وَعِنْدَ مُسْلِمٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلُ؟ فَقَالَ: " يَا أَيهَا المدثر ".

فَقلت: و " اقْرَأ باسم رَبك "؟ فَقَالَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ: أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلُ؟ فَقَالَ: " يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ "

فَقلت: " واقرأ باسم رَبك "؟ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنِّي جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ شَهْرًا، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي نَزَلْتُ فَاسْتَبْطَنْتُ الْوَادِيَ، فَنُودِيتُ، فَنَظَرْتُ بَيْنَ يَدَيَّ وَخَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، ثُمَّ نَظَرْتُ إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا هُوَ عَلَى الْعَرْشِ فِي الْهَوَاءِ، فَأَخَذَتْنِي رِعْدَةٌ - أَوْ قَالَ وَحْشَةٌ - فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَأَمَرْتُهُمْ فَدَثَّرُونِي، فَأنْزل الله: " يَا أَيهَا المدثر " حَتَّى بلغ " وثيابك فطهر ".

وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ: " فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فجثيت مِنْهُ ".

وَهَذَا صَرِيحٌ فِي تَقَدُّمِ إِتْيَانِهِ إِلَيْهِ وَإِنْزَالِهِ الْوَحْيَ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ سُورَةُ " وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى " إِلَى آخِرِهَا.

قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ.

وَقَالَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ: وَلِهَذَا كَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَوَّلِهَا فَرَحًا.

وَهُوَ قَوْلٌ بَعِيدٌ يَرُدُّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ صَاحِبَيِ الصَّحِيحِ، مِنْ أَنَّ أَوَّلَ الْقُرْآنِ نُزُولًا

ص: 413

بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ: " يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذر " وَلَكِنْ نَزَلَتْ سُورَةُ " وَالضُّحَى " بَعْدَ فَتْرَةٍ أُخْرَى كَانَتْ لَيَالِيَ يَسِيرَةً.

كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ.

قَالَ: اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: مَا أَرَى شَيْطَانَكَ إِلَّا تَرَكَكَ.

فَأَنْزَلَ اللَّهُ " وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبك وَمَا قلى ".

وَبِهَذَا الْأَمْرِ حَصَلَ الْإِرْسَالُ إِلَى النَّاسِ وَبِالْأَوَّلِ حَصَلَتِ النُّبُوَّةُ.

وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتْ مُدَّةُ الفترة قَرِيبا من سنتَيْن، أَو سنتَيْن وَنصفا.

وَالظَّاهِرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّهَا الْمُدَّةُ الَّتِي اقْتَرَنَ مَعَهُ مِيكَائِيلُ.

كَمَا قَالَ الشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَلَا يَنْفِي هَذَا تَقَدُّمَ إِيحَاءِ جِبْرِيلَ إِلَيْهِ أَوَّلًا " اقْرَأ باسم رَبك الذى خلق ".

ثُمَّ اقْتَرَنَ بِهِ جِبْرِيلُ بَعْدَ نُزُولِ " يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فطهر وَالرجز فاهجر ".

ثُمَّ حَمِيَ الْوَحْيُ بَعْدَ هَذَا وَتَتَابَعَ، أَيْ تدارك شَيْئا بعد شئ.

وَقَامَ حِينَئِذٍ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الرِّسَالَةِ أَتَمَّ الْقِيَامَ، وَشَمَّرَ عَنْ سَاقِ الْعَزْمِ، وَدَعَا إِلَى اللَّهِ الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ، وَالْأَحْرَارَ وَالْعَبِيدَ، فَآمَنَ بِهِ حِينَئِذٍ كُلُّ لَبِيبٍ نَجِيبٍ سَعِيدٍ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى مُخَالَفَتِهِ وَعِصْيَانِهِ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ.

فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَادَرَ إِلَى التَّصْدِيقِ مِنَ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ.

وَمِنَ الْغِلْمَانِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.

وَمِنَ النِّسَاءِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ زَوْجَتُهُ عليه السلام.

ص: 414

وَمِنَ الْمَوَالِيَ مَوْلَاهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْكَلْبِيُّ رضي الله عنهم وَأَرْضَاهُمْ.

وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إِيمَانِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ بِمَا وَجَدَ مِنَ الْوَحْيِ وَمَاتَ فِي الْفَتْرَةِ رضي الله عنه.

فَصْلٌ فِي مَنْعِ الْجَانِّ وَمَرَدَةِ الشَّيَاطِينِ مِنَ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ حِينَ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِئَلَّا يَخْتَطِفَ أَحَدُهُمْ مِنْهُ وَلَوْ حَرْفًا وَاحِدًا فَيُلْقِيهِ عَلَى لِسَانِ وَلِيِّهِ فَيَلْتَبِسُ الْأَمْرُ وَيَخْتَلِطُ الْحَقُّ فَكَانَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ وَلُطْفِهِ بِخَلْقِهِ أَنْ حَجَبَهُمْ عَنِ السَّمَاءِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: " وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وسهبا.

وَأَنَّا

كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا، وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أم أَرَادَ بهم رَبهم رشدا " (1) .

وَقَالَ تَعَالَى: " وَمَا تنزلت بِهِ الشَّيَاطِين وَمَا ينبغى لَهُم وَمَا يَسْتَطِيعُونَ.

إِنَّهُم عَن السّمع لمعزولون " (2) .

قَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، وَهُوَ الطَّبَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْجِنُّ يَصْعَدُونَ إِلَى السَّمَاء يَسْتَمِعُون الوحى، فَإِذا حفظوا الْكَلِمَةَ زَادُوا فِيهَا تِسْعًا، فَأَمَّا الْكَلِمَةُ فَتَكُونُ حَقًا، وَأما مَا زادوا فَتكون بَاطِلا.

(1) سُورَة الْجِنّ.

(2)

سُورَة مَرْيَم.

(*)

ص: 415

فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُنِعُوا مَقَاعِدَهُمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِإِبْلِيسَ، وَلَمْ تَكُنِ النُّجُومُ يُرْمَى بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ إِبْلِيسُ: هَذَا لِأَمْرٍ قَدْ حَدَثَ فِي الْأَرْضِ.

فَبَعَثَ جُنُودَهُ فَوَجَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا يُصَلِّي بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَأَتَوْهُ فأخبروه فَقَالَ: هَذَا الامر الذى حَدَثَ فِي الْأَرْضِ.

وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ: عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

قَالَ: انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ، فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَومهمْ فَقَالُوا: مالكم: قَالُوا: حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلَتْ علينا الشهب.

فقالو: مَا ذَاك إِلَّا من شئ حَدَثَ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا.

فَمَرَّ النَّفَرُ الَّذين أخذُوا نَحْو تهَامَة، وَهُوَ بِنَخْل عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَهُوَ

يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ، فَقَالُوا: هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ.

فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا: " يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنا بِهِ، وَلنْ نشْرك بربنا أحدا " فَأوحى الله إِلَى نبيه صلى الله عليه وسلم: " قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنّ فقالو إِنَّا سمعنَا قُرْآنًا عجبا " أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

قَالَ: إِنَّهُ لَمْ تَكُنْ قَبِيلَةٌ مِنَ الْجِنِّ إِلَّا وَلَهُمْ مَقَاعِدُ لِلسَّمْعِ، فَإِذَا نَزَلَ الْوَحْيُ سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ صَوْتًا كَصَوْتِ الْحَدِيدَةِ أَلْقَيْتَهَا عَلَى الصَّفَا.

ص: 416

قَالَ: فَإِذَا سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ خَرُّوا سُجَّدًا فَلَمْ يَرْفَعُوا رُؤُوسَهُمْ حَتَّى يَنْزِلَ، فَإِذَا نَزَلَ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَكُونُ فِي السَّمَاءِ قَالُوا: الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ.

وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ مِنْ أَمْرِ الْغَيْبِ أَوْ مَوْتٍ أَوْ شئ مِمَّا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ تَكَلَّمُوا بِهِ فَقَالُوا: يَكُونُ كَذَا وَكَذَا.

فَتَسْمَعُهُ الشَّيَاطِينُ فَيُنْزِلُونَهُ عَلَى أَوْلِيَائِهِمْ.

فَلَمَّا بعث النَّبِي مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم دُحِرُوا بِالنُّجُومِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ عَلِمَ بِهَا ثَقِيفٌ.

فَكَانَ ذُو الْغَنَمِ مِنْهُمْ يَنْطَلِقُ إِلَى غَنَمِهِ فَيَذْبَحُ كُلَّ يَوْمٍ شَاةً، وَذُو الْإِبِلِ فَيَنْحَرُ كُلَّ يَوْمٍ بَعِيرًا، فَأَسْرَعَ النَّاسُ فِي أَمْوَالِهِمْ.

فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا تَفْعَلُوا، فَإِنْ كَانَتِ النُّجُومُ الَّتِي يَهْتَدُونَ بِهَا، وَإِلَّا فَإِنَّهُ لِأَمْرٍ حَدَثَ.

فَنَظَرُوا فَإِذَا النُّجُومُ الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا كَمَا هِيَ لم يزل مِنْهَا شئ، فَكَفُّوا.

وَصَرَفَ اللَّهُ الْجِنَّ فَسَمِعُوا الْقُرْآنَ، فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا.

وَانْطَلَقَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى إِبْلِيسَ فَأَخْبَرُوهُ.

فَقَالَ: هَذَا حَدَثٌ حَدَثَ فِي الْأَرْضِ،

فَأْتُونِي مِنْ كُلِّ أَرْضٍ بِتُرْبَةٍ فَأَتَوْهُ بِتُرْبَةِ.

تِهَامَةَ فَقَالَ: هَاهُنَا الْحَدَثُ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ.

وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدَانَ الْعَبْسِيِّ، عَنِ كَعْبٍ قَالَ: لَمْ يُرْمَ بِنَجْمٍ مُنْذُ رُفِعَ عِيسَى حَتَّى تَنَبَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرُمِيَ بِهَا، فَرَأَتْ قُرَيْشٌ أَمْرًا لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَجَعَلُوا يُسَيِّبُونَ أَنْعَامَهُمْ وَيُعْتِقُونَ أَرِقَّاءَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ الْفَنَاءُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ أَهْلَ الطَّائِفِ، فَفَعَلَتْ ثَقِيفٌ مَثَلَ ذَلِكَ.

فَبَلَغَ عَبْدَ يَالِيلَ بْنَ عَمْرٍو مَا صَنَعَتْ ثَقِيفٌ.

قَالَ: وَلِمَ فَعَلْتُمْ مَا أَرَى؟ قَالُوا: رُمِيَ بِالنُّجُومِ فَرَأَيْنَاهَا تَهَافَتُ مِنَ السَّمَاءِ.

فَقَالَ: إِنَّ إِفَادَةَ الْمَالِ بَعْدَ ذَهَابِهِ شَدِيدٌ فَلَا تعجلوا

ص: 417

وَانْظُرُوا، فَإِنْ تَكُنْ نُجُومًا تُعْرَفُ فَهُوَ عِنْدَنَا من النَّاسِ (1) ، وَإِنْ كَانَتْ نُجُومًا لَا تُعْرَفُ فَهُوَ لِأَمْرٍ قَدْ حَدَثَ.

فَنَظَرُوا فَإِذَا هِيَ لَا تُعْرَفُ، فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: الْأَمْرُ فِيهِ مُهْلَةٌ بَعْدُ، هَذَا عِنْدَ ظُهُورِ نَبِيٍّ.

فَمَا مَكَثُوا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ إِلَى أَمْوَالِهِ، فَجَاءَ عَبْدُ يَالِيلَ فَذَاكَرَهُ أَمْرَ النُّجُومِ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: ظَهَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَدَّعِي أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ.

فَقَالَ عَبْدُ يَالِيلَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ رُمِيَ بِهَا.

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ حَصِينٍ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَانَتِ النُّجُومُ لَا يُرْمَى بِهَا حَتَّى بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَيَّبُوا أَنْعَامَهُمْ وَأَعْتَقُوا رَقِيقَهُمْ.

فَقَالَ عَبْدُ يَالِيلَ: انْظُرُوا، فَإِنْ كَانَتِ النُّجُومُ الَّتِي تُعْرَفَ فَهُوَ عِنْدَ فَنَاءِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُعْرَفُ فَهُوَ لِأَمْرٍ قَدْ حَدَثَ، فَنَظَرُوا فَإِذَا هِيَ لَا تُعْرَفُ.

قَالَ: فَأَمْسِكُوا، فَلَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى جَاءَهُمْ خُرُوجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمْ تَكُنْ سَمَاءُ الدُّنْيَا تُحْرَسُ فِي الْفَتْرَةِ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَسَلَامُهُ.

فَلَعَلَّ مُرَادَ مَنْ نَفَى ذَلِكَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تُحْرَسُ حِرَاسَةً شَدِيدَةً، وَيَجِبُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى هَذَا، لِمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ على ابْن الْحُسَيْنِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ إِذْ رُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ فَقَالَ: " مَا كُنْتُم تَقولُونَ إِذا رمى بِهَذَا؟ " قَالُوا: كُنَّا نقُول مَاتَ

(1) الوفا: فَهُوَ عِنْد فنَاء النَّاس.

(*)

ص: 418

عَظِيم، ولد عَظِيمٌ.

فَقَالَ: " لَا وَلَكِنْ..".

فَذَكَرَ الْحَدِيثَ كَمَا ذكرنَا عِنْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ فِي أَوَّلِ بَدْءِ الْخَلْقِ (1) وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ قِصَّةَ رَمْيِ النُّجُومِ، وَذَكَرَ عَنْ كَبِيرِ ثَقِيفٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ فِي النَّظَرِ فِي النُّجُومِ: إِنْ كَانَتْ أَعْلَامَ السَّمَاءِ أَوْ غَيْرَهَا.

وَلَكِنْ سَمَّاهُ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ.

فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَمْ تَكُنِ السَّمَاءُ تُحْرَسُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ نَبِيٌّ أَوْ دِينٌ لِلَّهِ ظَاهِرٌ، وَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم قَدِ اتَّخَذَتِ الْمَقَاعِدَ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا يَسْتَمِعُونَ مَا يَحْدُثُ فِي السَّمَاءِ مِنْ أَمْرٍ.

فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم نَبِيًّا رُجِمُوا لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي، فَفَزِعَ لِذَلِكَ أَهْلُ الطَّائِفِ فَقَالُوا: هَلَكَ أَهْلُ السَّمَاءِ! لِمَا رَأَوْا مِنْ شِدَّةِ النَّارِ فِي السَّمَاءِ وَاخْتِلَافِ الشُّهُبِ، فَجَعَلُوا يُعْتِقُونَ أَرِقَّاءَهُمْ، وَيُسَيِّبُونَ مَوَاشِيَهُمْ.

فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ يَالِيلَ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ: وَيْحَكُمُ يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الطَّائِفِ! أَمْسِكُوا عَنْ أَمْوَالِكُمْ وَانْظُرُوا إِلَى مَعَالِمِ النُّجُومِ، فَإِنْ رَأَيْتُمُوهَا مُسْتَقِرَّةً فِي أَمْكِنَتِهَا فَلَمْ يَهْلِكْ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ من ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، وَإِنْ أَنْتُمْ لَمْ تَرَوْهَا فقد أهلك أَهْلُ السَّمَاءِ.

فَنَظَرُوا فَرَأَوْهَا، فَكَفُّوا عَنْ أَمْوَالِهِمْ.

وَفَزِعَتِ الشَّيَاطِينُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ فَأَتَوْا إِبْلِيسَ فَقَالَ: ائْتُونِي مِنْ كُلِّ أَرْضٍ بِقَبْضَةٍ

مِنْ تُرَابٍ.

فَأَتَوْهُ فَشَمَّ، فَقَالَ: صَاحِبُكُمْ بِمَكَّةَ.

فَبَعَثَ سَبْعَةَ نَفَرٍ مِنْ جِنِّ نَصِيبِينَ فَقَدِمُوا مَكَّةَ فَوَجَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(1) فِي الْجُزْء الاول من الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة.

(*)

ص: 419

فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَدَنَوْا مِنْهُ حِرْصًا عَلَى الْقُرْآنِ حَتَّى كَادَتْ كَلَاكِلُهُمْ تُصِيبُهُ ثُمَّ أَسْلَمُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَمْرَهُمْ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ أَبِي حَكِيمٍ - يعْنى إِسْحَاق - عَن عَطاء ابْن يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصْبَحَ كل صنم مُنَكسًا، فَأَتَت الشَّيَاطِين فَقَالُوا لَهُ: مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ صَنَمٍ إِلَّا وَقَدْ أَصْبَحَ مُنَكَّسًا.

قَالَ: هَذَا نَبِيٌّ قَدْ بُعِثَ فَالْتَمِسُوهُ فِي قُرَى الْأَرْيَافِ.

فَالْتَمَسُوهُ فَقَالُوا: لَمْ نَجِدْهُ.

فَقَالَ: أَنَا صَاحِبُهُ.

فَخَرَجَ يلتمسه فنودى: عَلَيْك بجنبة الْبَاب (1) - يعْنى مَكَّة - فالتمسه بهَا فَوجدَ بِهَا عِنْدَ قَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَخَرَجَ إِلَى الشَّيَاطِينِ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ وَجَدْتُهُ مَعَهُ جِبْرِيلُ، فَمَا عنْدكُمْ.

قَالُوا: نزين الشَّهَوَات فِي عين أَصْحَابِهِ وَنُحَبِّبُهَا إِلَيْهِمْ.

قَالَ: فَلَا آسَى إِذًا.

وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي تَنَبَّأَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم منعت الشَّيَاطِين من السَّمَاء ورموا بِالشُّهُبِ، فَجَاءُوا إِلَى إِبْلِيسَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: أَمْرٌ قَدْ حَدَثَ، هَذَا نَبِيٌّ قَدْ خَرَجَ عَلَيْكُمْ بِالْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ مَخْرَجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.

قَالَ: فَذَهَبُوا إِلَى الشَّامِ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا: لَيْسَ بِهَا أَحَدٌ.

فَقَالَ إِبْلِيسُ: أَنَا صَاحِبُهُ.

فَخَرَجَ فِي طَلَبِهِ بِمَكَّةَ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحِرَاءٍ مُنْحَدِرًا مَعَهُ جِبْرِيلُ، فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: قَدْ بُعِثَ أَحْمَدُ وَمَعَهُ جِبْرِيلُ، فَمَا عِنْدَكُمْ؟ قَالُوا: الدُّنْيَا نُحَبِّبُهَا إِلَى النَّاسِ.

قَالَ: فَذَاكَ إِذًا.

قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنِي طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَت

(1) دَلَائِل النُّبُوَّة والوفا: عَلَيْك بِحَبَّة الْقلب مَكَّة.

(*)

ص: 420

الشَّيَاطِينُ يَسْتَمِعُونَ الْوَحْيَ، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم مُنِعُوا، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى إِبْلِيسَ فَقَالَ: لَقَدْ حَدَثَ أَمْرٌ.

فَرَقِيَ فَوْقَ أَبِي قُبَيْسٍ، وَهُوَ أَوَّلُ جَبَلٍ وُضِعَ عَلَى وَجه الْأَرْضِ، فَرَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي خَلْفَ الْمَقَامِ.

فَقَالَ: أَذْهَبُ فَأَكْسِرُ عُنُقَهُ.

فَجَاءَ يَخْطِرُ وَجِبْرِيلُ عِنْدَهُ، فَرَكَضَهُ جِبْرِيلُ رَكْضَةً طَرَحَهُ فِي كَذَا وَكَذَا، فَوَلَّى الشَّيْطَانُ هَارِبًا.

ثُمَّ رَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ وَأَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ كِلَاهُمَا عَنْ رَبَاحِ بْنِ أَبِي مَعْرُوفٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ.

فَذَكَرَ مِثْلَ هَذَا، وَقَالَ: فَرَكَضَهُ بِرِجْلِهِ فَرَمَاهُ بِعَدَنَ.

فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ إِتْيَانِ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ تَقَدَّمَ كَيْفِيَّةُ مَا جَاءَهُ جِبْرِيلُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ، وَثَانِي مَرَّةٍ أَيْضًا.

وَقَالَ مَالِكٌ: عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ سَأَلَ.

رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ: " أَحْيَانًا يأتيني مثل صلصة الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رجلا يكلمني فَأَعِي مَا يَقُولُ ".

قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ صلى الله عليه وسلم يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا.

أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ بِهِ.

ص: 421

وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَامِرِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بِهِ نَحْوَهُ.

وَكَذَا رَوَاهُ عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَأَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ.

وَقَدْ رَوَاهُ أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَذَكَرُهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ عَائِشَةَ.

وَفِي حَدِيثِ الافك قَالَت عَائِشَة: فو الله مَا رَامَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ حَتَّى أَنَّهُ كَانَ يَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ، وَهُوَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ، من ثقل الوحى الذى نزل عَلَيْهِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ سُلَيْمٍ، قَالَ أَمْلَى عَلَيَّ يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَة بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الْقَارِيِّ، سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: كَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْوَحْيُ يُسْمَعُ عِنْدَ وَجْهِهِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، وَذَكَرَ تَمَامَ الحَدِيث فِي نزُول (قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ) .

وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ.

ثُمَّ قَالَ النَّسَائِيُّ: مُنْكَرٌ لَا نَعْرِفُ أَحَدًا رَوَاهُ غَيْرَ يُونُسَ بْنَ سُلَيْمٍ، وَلَا نَعْرِفُهُ.

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ، عَنْ حِطَّانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ كَرَبَهُ ذَلِكَ وَتَرَبَّدَ وَجْهُهُ.

وَفِي رِوَايَةٍ وَغَمَّضَ عَيْنَيْهِ.

وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ حِينَ نَزَلَتْ " لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ " فَلَمَّا شَكَى ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ضَرَارَتَهُ نَزَلَتْ " غير أولى الضَّرَر ".

ص: 422

قَالَ: وَكَانَتْ فَخِذُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَخِذِي وَأَنَا أَكْتُبُ، فَلَمَّا نَزَلَ

الْوَحْيُ كَادَتْ فَخِذُهُ تَرُضُّ فَخِذِي.

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى، عَن عَطاء، عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ.

قَالَ قَالَ لِي عُمَرُ: أَيَسُرُّكَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُوحَى إِلَيْهِ؟ فَرَفَعَ طَرَفَ الثَّوْبِ عَنْ وَجْهِهِ وَهُوَ يُوحَى إِلَيْهِ بِالْجِعْرَانَةِ، فَإِذَا هُوَ مُحْمَرُّ الْوَجْهِ.

وَهُوَ يَغِطُّ كَمَا يَغِطُّ الْبَكْرُ (1) .

وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ لَمَّا نَزَلَ الْحِجَابُ، وَإِنَّ سَوْدَةَ خَرَجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْمَنَاصِعِ لَيْلًا، فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَاكِ يَا سَوْدَةُ.

فَرَجَعَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَتْهُ وَهُوَ جَالِسٌ يَتَعَشَّى وَالْعَرْقُ فِي يَدِهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ وَالْعَرْقُ فِي يَدِهِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ:" إِنَّهُ قَدْ أُذِنَ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَاجَتِكُنَّ ".

فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْوَحْيُ يُغَيِّبُ عَنْهُ إِحْسَاسَهُ بِالْكُلِّيَّةِ، بِدَلِيل أَنه جَالس وَلَمْ يَسْقُطِ الْعَرْقُ أَيْضًا مِنْ يَدِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ دَائِمًا عَلَيْهِ.

وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ تَرَبَّدَ لِذَلِكَ جَسَدُهُ وَوَجْهُهُ وَأَمْسَكَ عَنْ أَصْحَابِهِ وَلَمْ يُكَلِّمْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ.

وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ تُحِسُّ بِالْوَحْيِ؟ قَالَ: " نَعَمْ أَسْمَعُ صَلَاصِلَ ثُمَّ أَثْبُتُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَمَا مِنْ مَرَّةٍ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا ظَنَنْتُ أَنَّ نَفْسِي تَفِيظُ (2) مِنْهُ ".

وَقَالَ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِد بن زِيَاد، حَدثنَا

(1) الْبكر: ولد النَّاقة، أَو الْفَتى مِنْهَا.

(2)

تفيظ: تقبض.

(*)

ص: 423

عَاصِمُ بْنُ كُلَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ خَالِهِ العليان بْنِ عَاصِمٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ

صلى الله عليه وسلم وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ، وَكَانَ إِذا أنزل عَلَيْهِ دَامَ بَصَره وَعَيناهُ مَفْتُوحَة وَفَرَّغَ سَمْعَهُ وَقَلْبَهُ لِمَا يَأْتِيهِ مِنَ اللَّهِ عزوجل.

وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ قُتَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ غُرَابٍ، عَنِ الْأَحْوَصِ بْنِ حَكِيمٍ، عَن أَبى عوَانَة، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ صُدِعَ وَغَلَّفَ رَأْسَهُ بِالْحِنَّاءِ.

هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة سِنَان، عَن لَيْث، عَن عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قَالَتْ: إِنِّي لَآخِذَةٌ بِزِمَامِ الْعَضْبَاءِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ الْمَائِدَةُ كُلُّهَا، وَكَادَتْ مِنْ ثِقَلِهَا تَدُقُّ عَضُدَ النَّاقَةِ.

وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ بِهِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا حسن، حَدثنَا ابْن لَهِيعَة، حَدَّثَنى جبر بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: أُنْزِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُورَةُ الْمَائِدَةِ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَحْمِلَهُ فَنَزَلَ عَنْهَا.

وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ صَبَّاحِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، حَدَّثَتْنِي أُمُّ عَمْرٍو، عَنْ عَمِّهَا أَنَّهُ كَانَ فِي مَسِيرٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْمَائِدَةِ، فَانْدَقَّ عُنُقُ الرَّاحِلَةِ مِنْ ثِقَلِهَا.

وَهَذَا غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

ثُمَّ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ نُزُولُ سُورَةِ الْفَتْحِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 424

مرجعه من الْحُدَيْبِيَة، وَهُوَ على رَاحِلَته.

فَكَانَ يَكُونُ تَارَةً وَتَارَةً بِحَسَبِ الْحَالِ

وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنْوَاعَ الْوَحْيِ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَوَّلِ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ وَمَا ذَكَرَهُ الْحَلِيمِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ رضي الله عنهم.

فَصْلٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانه (1) ".

وَقَالَ تَعَالَى: " وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْك وحيه، وَقل رب زدنى علما (2) ".

وَكَانَ هَذَا فِي الِابْتِدَاءِ، كَانَ عليه السلام مِنْ شِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى أَخْذِهِ مِنَ الْمَلَكِ مَا يُوحى إِلَيْهِ عَن الله عزوجل لَيُسَاوِقُهُ فِي التِّلَاوَةِ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُنْصِتَ لِذَلِكَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنَ الْوَحْيِ، وَتَكَفَّلَ لَهُ أَنْ يَجْمَعَهُ فِي صَدْرِهِ، وَأَنْ يُيَسِّرَ عَلَيْهِ تِلَاوَتَهُ وَتَبْلِيغَهُ، وَأَنْ يُبَيِّنَهُ لَهُ وَيُفَسِّرَهُ وَيُوَضِّحَهُ، وَيُوقِفَهُ عَلَى الْمُرَادِ مِنْهُ.

وَلِهَذَا قَالَ " وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْك وحيه وَقل رب زدنى علما ".

وَقَالَ: " لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِن علينا جمعه " أَي فِي صدرك " وقرآنه " أَي وَأَن تَقْرَأهُ " فَإِذا قرأناه " أَي تلاه عَلَيْك الْملك " فَاتبع قرآنه " أَيْ فَاسْتَمِعْ لَهُ وَتَدَبَّرْهُ " ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانه " وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: " وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ".

وفى الصحيحن مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ سعيد بن جببر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شدَّة، فَكَانَ يُحَرك

(1) سُورَة الْقِيَامَة 16 - 19 (2) سُورَة طه 114 (*)

ص: 425

شَفَتَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ " لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لتعجل بِهِ إِن علينا جمعه وقرآنه " قَالَ: جمعه

فِي صدرك ثمَّ تَقْرَأهُ " فَإِذا قرأناه فَاتبع قرآنه " فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ " ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ " قَالَ: فَكَانَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ أَطْرَقَ، فَإِذَا ذهب قَرَأَهُ كَمَا وعده الله عزوجل.

فَصْلٌ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ تَتَابَعَ الْوَحْيُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُصدق بِمَا جَاءَهُ مِنْهُ، وَقد قَبِلَهُ بِقَبُولِهِ وَتَحَمَّلَ مِنْهُ مَا حَمَلَهُ، عَلَى رِضَا الْعِبَادِ وَسُخْطِهِمْ.

وَلِلنُّبُوَّةِ أَثْقَالٌ وَمُؤْنَةٌ لَا يَحْمِلُهَا وَلَا يَسْتَضْلِعُ بِهَا إِلَّا أَهْلُ الْقُوَّةِ وَالْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، بِعَوْنِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ لِمَا يَلْقَوْنَ مِنَ النَّاسِ، وَمَا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ مِمَّا جَاءُوا بِهِ عَن الله عزوجل.

فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ، عَلَى مَا يَلْقَى مِنْ قَوْمِهِ مِنَ الْخِلَافِ وَالْأَذَى.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَآمَنَتْ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَصَدَّقَتْ بِمَا جَاءَهُ مِنَ اللَّهِ وَوَازَرَتْهُ عَلَى أَمْرِهِ.

وَكَانَتْ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَصَدَّقَتْ بِمَا جَاءَ مِنْهُ.

فَخَفَّفَ اللَّهُ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِهِ، لَا يَسْمَعُ شَيْئًا يَكْرَهُهُ مِنْ رَدٍّ عَلَيْهِ،، وَتَكْذِيبٍ لَهُ فَيُحْزِنُهُ ذَلِكَ، إِلَّا فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا، إِذَا رَجَعَ إِلَيْهَا تُثَبِّتُهُ وَتُخَفِّفُ عَنْهُ، وَتُصَدِّقُهُ وَتُهَوِّنُ عَلَيْهِ أَمْرَ النَّاسِ، رضي الله عنها وَأَرْضَاهَا.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أُمِرْتُ أَنْ أُبَشِّرَ خَدِيجَةَ بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ، لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ ".

ص: 426

وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ هِشَامٍ.

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْقَصَبُ هَاهُنَا اللُّؤْلُؤُ الْمُجَوَّفُ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْعِبَادِ مِنَ النُّبُوَّةِ سِرًّا إِلَى مَنْ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ مَنْ أَهْلِهِ.

وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: كَانَتْ خَدِيجَةُ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَصَدَّقَ رَسُولَهُ، قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ.

قُلْتُ: يَعْنِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، فَأَمَّا أَصْلُ الصَّلَاةِ فَقَدْ وَجَبَ فِي حَيَاةِ خَدِيجَةَ رضي الله عنها كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.

وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَتْ خَدِيجَةُ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَصَدَّقَ بِمَا جَاءَ بِهِ.

ثُمَّ إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ افْتُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ فَهَمَزَ لَهُ بِعَقِبِهِ فِي نَاحِيَةِ الْوَادِي فَانْفَجَرَتْ لَهُ عَيْنٌ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، فَتَوَضَّأَ جِبْرِيلُ وَمُحَمَّدٌ عليهما السلام، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَسَجَدَ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ، وَطَابَتْ نَفْسُهُ، وَجَاءَهُ مَا يُحِبُّ من الله، فَأخذ يَد خَدِيجَةَ حَتَّى أَتَى بِهَا إِلَى الْعَيْنِ، فَتَوَضَّأَ كَمَا تَوَضَّأَ جِبْرِيلُ، ثُمَّ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، ثُمَّ كَانَ هُوَ وَخَدِيجَةُ يُصَلِّيَانِ سِرًّا.

قَلْتُ: صَلَاةُ جِبْرِيلَ هَذِهِ غَيْرُ الصَّلَاةِ الَّتِي صَلَّاهَا بِهِ عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ فَبَيَّنَ لَهُ أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، أَوَّلَهَا وَآخِرَهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ فَرْضِيَّتِهَا لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ.

وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.

ص: 427

فصل فِي ذكر أول من أسلم، ثمَّ ذكر مُتَقَدِّمي الاسلام من الصَّحَابَة وَغَيرهم قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ وَهُمَا

يُصَلِّيَانِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا مُحَمَّد مَا هَذَا؟ قَالَ: دين الله اصْطَفَى لِنَفْسِهِ، وَبَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ فَأَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِلَى عِبَادَتِهِ، وَأَنْ تَكْفُرَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى.

فَقَالَ عَلِيٌّ: هَذَا أَمْرٌ لَمْ أَسْمَعْ بِهِ قَبْلَ الْيَوْمِ، فَلَسْتُ بِقَاضٍ أَمْرًا حَتَّى أُحَدِّثَ بِهِ أَبَا طَالِبٍ.

فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُفْشِيَ عَلَيْهِ سَرَّهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَعْلِنَ أمره.

فَقَالَ لَهُ: يَا على إِذْ لَمْ تُسْلِمْ (1) فَاكْتُمْ.

فَمَكَثَ عَلِيٌّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَوْقَعَ فِي قَلْبِ عَلِيٍّ الْإِسْلَامَ، فَأَصْبَحَ غَادِيًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى جَاءَهُ فَقَالَ: مَاذَا عَرَضْتَ عَلَيَّ يَا مُحَمَّدُ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شريك لَهُ وَتَكْفُرُ بِاللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَتَبْرَأُ مِنَ الْأَنْدَادِ " فَفَعَلَ عَلِيٌّ وَأَسْلَمَ، وَمَكَثَ يَأْتِيهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ أَبِي طَالِبٍ، وَكَتَمَ عَلِيٌّ إِسْلَامَهُ وَلَمْ يُظْهِرْهُ.

وَأَسْلَمَ ابْنُ حَارِثَةَ، يَعْنِي زَيْدًا، فَمَكَثَا قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ، يَخْتَلِفُ عَلِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ مِمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ الاسلام.

(1) فِي ا: إِذْ لم تسمع فاكتم.

(*)

ص: 428

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَن مُجَاهِد قَالَ: وَكَانَ مِمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى عَلِيٍّ أَنَّ قُرَيْشًا أَصَابَتْهُمْ أَزْمَةٌ شَدِيدَةٌ، وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ ذَا عِيَالٍ كَثِيرَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ، وَكَانَ مِنْ أَيْسَرِ بَنِي هَاشِمٍ:" يَا عَبَّاسُ إِنَّ أَخَاكَ أَبَا طَالِبٍ كَثِيرُ الْعِيَالِ، وَقَدْ أَصَابَ النَّاسَ مَا تَرَى مِنْ هَذِهِ الْأَزْمَةِ، فَانْطَلِقْ حَتَّى نُخَفِّفَ عَنْهُ مِنْ عِيَالِهِ " فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَعَثَهُ اللَّهُ نَبِيًّا، فَاتَّبَعَهُ عَلِيٌّ وَآمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ.

وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدثنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي الْأَشْعَثِ الْكِنْدِيُّ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي إِيَاسِ بْنِ عُفَيِّفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عُفَيِّفٍ، وَكَانَ عُفَيِّفٌ أَخَا الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ لِأُمِّهِ، أَنَّهُ قَالَ: كنت أمرءا تَاجِرًا فَقَدِمْتُ مِنًى أَيَّامَ الْحَجِّ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ بن عبد الْمطلب امْرَءًا تَاجِرًا، فَأَتَيْتُهُ أَبْتَاعُ مِنْهُ وَأَبِيعُهُ.

قَالَ: فَبَيْنَا نَحْنُ إِذْ خَرَجَ رَجُلٌ مَنْ خِبَاءٍ فَقَامَ يُصَلِّي تِجَاهَ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ خَرَجَتِ امْرَأَةٌ فَقَامَتْ تُصَلِّي، وَخَرَجَ غُلَامٌ فَقَامَ يُصَلِّي مَعَهُ.

فَقُلْتُ: يَا عَبَّاسُ مَا هَذَا الدِّينُ؟ إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَا نَدْرِي مَا هُوَ! فَقَالَ: هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ، وَأَنَّ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ سَتُفْتَحُ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ امْرَأَتُهُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ آمَنَتْ بِهِ، وَهَذَا الْغُلَامُ ابْنُ عَمِّهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ آمَنَ بِهِ.

قَالَ عُفَيِّفٌ: فَلَيْتَنِي كُنْتُ آمَنْتُ يَوْمَئِذٍ فَكُنْتُ أَكُونُ ثَانِيًا! وَتَابَعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: إِذْ خَرَجَ رَجُلٌ

ص: 429

مِنْ خِبَاءٍ قَرِيبٍ مِنْهُ، فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ فَلَمَّا رَآهَا قَدْ مَالَتْ قَامَ يُصَلِّي.

ثُمَّ ذَكَرَ قِيَامَ خَدِيجَةَ وَرَاءَهُ.

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بن خثيم، عَن أَسد ابْن عَبدة البجلى، عَن يحيى بن عُفَيِّفٍ قَالَ: جِئْتُ زَمَنَ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى مَكَّةَ، فَنَزَلْتُ عَلَى الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَمَّا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَحَلَّقَتْ فِي السَّمَاءِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْكَعْبَةِ أَقْبَلَ شَابٌّ فَرَمَى بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْكَعْبَةَ فَقَامَ مُسْتَقْبِلَهَا، فَلَمْ يَلْبَثْ حَتَّى جَاءَ غُلَامٌ فَقَامَ عَنْ يَمِينِهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ فَقَامَتْ خَلْفَهُمَا، فَرَكَعَ الشَّابُّ فَرَكَعَ الْغُلَامُ وَالْمَرْأَةُ، فَرَفَعَ الشَّابُّ فَرَفَعَ الْغُلَامُ وَالْمَرْأَةُ، فَخَرَّ الشَّابُّ سَاجِدًا

فَسَجَدَا مَعَهُ.

فَقُلْتُ: يَا عَبَّاسُ أَمْرٌ عَظِيمٌ! فَقَالَ: أَمْرٌ عَظِيمٌ.

فَقَالَ: أَتَدْرِي مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: لَا.

فَقَالَ: هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ابْنُ أَخِي.

أَتَدْرِي مَنِ الْغُلَامُ؟ قُلْتُ: لَا.

قَالَ: هَذَا عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أَتَدْرِي مَنْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي خَلْفَهُمَا؟ قُلْتُ: لَا.

قَالَ: هَذِهِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ زَوْجَةُ ابْنِ أَخِي.

وَهَذَا حَدَّثَنِي أَنَّ رَبَّكَ رَبَّ السَّمَاء والارض أَمَرَهُ بِهَذَا الَّذِي تَرَاهُمْ عَلَيْهِ، وَايْمُ اللَّهِ مَا أَعْلَمُ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ كُلِّهَا أَحَدًا عَلَى هَذَا الدِّينِ غَيْرَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ.

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا عِيسَى بن سوَادَة بن أَبى الْجَعْدِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأَبُو حَازِمٍ وَالْكَلْبِيُّ.

قَالُوا: عَلِيٌّ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ.

قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ تِسْعِ سِنِينَ.

ص: 430

وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ.

قَالَ: أَوَّلُ ذَكَرٍ آمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ وَصَدَّقَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ وَكَانَ فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ الْإِسْلَامِ.

قَالَ الْوَاقِدِيّ: أخبرنَا إِبْرَاهِيم، عَن نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَسْلَمَ عَلِيٌّ وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ.

قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَأَجْمَعَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ عَلِيًّا أَسْلَمَ بَعْدَ مَا تَنَبَّأَ رَسُولُ اللَّهِ بِسَنَةٍ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ خَدِيجَةُ، وَأَوَّلُ رَجُلَيْنِ أَسْلَمَا أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ، وَأَسْلَمَ عَلِيٌّ قَبْلَ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ عَلِيٌّ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ خَوْفًا مِنْ أَبِيهِ، حَتَّى لَقِيَهُ أَبُوهُ قَالَ: أَسْلَمْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: وَآزِرِ ابْنَ عَمِّكَ وَانْصُرْهُ.

قَالَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ.

وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي بَلْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

قَالَ: أَوَّلُ مَنْ صلى على.

وَحدثنَا عبد الحميد بن يحيى، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ جَابِرٍ.

قَالَ: بُعِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَصَلَّى عَلِيٌّ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ.

وَرَوَى مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ - رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ - سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ يَقُولُ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.

قَالَ: فَذَكَرْتُهُ لِلنَّخَعِيِّ فَأَنْكَرَهُ.

وَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ.

ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ، عَنِ الْمنْهَال بن عَمْرو، عَن عباد ابْن عَبْدِ اللَّهِ، سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَأَخُو رَسُولِهِ، وَأَنَا الصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ،

ص: 431

لَا يَقُولُهَا بَعْدِي إِلَّا كَاذِبٌ مُفْتَرٍ، صَلَّيْتُ قَبْلَ النَّاسِ بِسَبْعِ سِنِينَ.

وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الرَّازِيِّ، عَنْ عبيد الله بن مُوسَى الفهمى - وَهُوَ شِيعِيٌّ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحِ - عَنِ الْعَلَاءِ بن صَالح الازدي الْكُوفِيِّ - وَثَّقُوهُ - وَلَكِنْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: كَانَ مِنْ عُتُقِ الشِّيعَةِ - وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: رَوَى أَحَادِيثَ مَنَاكِيرَ، وَالْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو ثِقَةٌ، وَأما شَيْخه بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - وَهُوَ الْأَسَدِيُّ الْكُوفِيُّ - فَقَدْ قَالَ فِيهِ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: هُوَ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: فِيهِ نَظَرٌ.

وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ مُنْكَرٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَلَا يَقُولُهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه، وَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُصَلِّيَ قَبْلَ النَّاسِ بِسَبْعِ سِنِينَ؟ ! هَذَا لَا يُتَصَوَّرُ أَصْلًا.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ آخَرُونَ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ.

وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا: أَنَّ خَدِيجَةَ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ النِّسَاءِ، وَظَاهِرُ السِّيَاقَاتِ - وَقَبْلَ الرِّجَالِ أَيْضًا - وَأَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمَوَالِي زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ.

وَأَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْغِلْمَانِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنَّهُ كَانَ صَغِيرًا دُونَ الْبُلُوغِ على الْمَشْهُور، وَهَؤُلَاء كَانُوا إِذا ذَاكَ أَهْلَ الْبَيْتِ.

وَأَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَإِسْلَامُهُ كَانَ أَنْفَعَ مِنْ إِسْلَامِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ إِذْ كَانَ صَدْرًا مُعَظَّمًا، وَرَئِيسًا فِي قُرَيْشٍ مُكَرَّمًا، وَصَاحِبَ مَالٍ، وَدَاعِيَةً إِلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانَ مُحَبَّبًا مُتَأَلِّفًا يَبْذُلُ الْمَالَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.

كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.

قَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 432

فَقَالَ: أَحَقٌّ مَا تَقُولُ قُرَيْشٌ يَا مُحَمَّدُ؟ من تَركك آلِهَتنَا، وتسفيهك عفولنا، وَتَكْفِيرِكَ آبَاءَنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" بَلَى، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَنَبِيُّهُ، بَعَثَنِي لِأُبَلِّغَ رِسَالَتَهُ وَأَدْعُوَكَ إِلَى اللَّهِ بِالْحَقِّ، فو الله إِنَّهُ لَلْحَقُّ، أَدْعُوكَ يَا أَبَا بَكْرٍ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا تَعْبُدْ غَيْرَهُ وَالْمُوَالَاةِ عَلَى طَاعَتِهِ ".

وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَلَمْ يُقِرَّ وَلَمْ يُنْكِرْ.

فَأَسْلَمَ وَكَفَرَ بِالْأَصْنَامِ، وَخَلَعَ الْأَنْدَادَ وَأَقَرَّ بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ مُؤْمِنٌ مُصَدِّقٌ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُصَيْنِ التَّمِيمِيُّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الْإِسْلَامِ إِلَّا كَانَتْ عِنْدَهُ كَبْوَةٌ وَتَرَدُّدٌ وَنَظَرٌ، إِلَّا أَبَا بَكْرٍ، مَا عَكَمَ عَنْهُ حِينَ ذَكَرْتُهُ، وَلَا تَرَدَّدَ فِيهِ ".

عَكَمَ: أَيْ تَلَبَّثَ.

وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي قَوْلِهِ: " فَلَمْ يُقِرَّ وَلَمْ يُنْكِرْ " مُنْكَرٌ، فَإِنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ وَغَيْرَهُ ذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَكَانَ يَعْلَمُ مِنْ صِدْقِهِ وَأَمَانَتِهِ وَحُسْنِ سَجِيَّتِهِ وَكَرْمِ أَخْلَاقِهِ مَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى الْخَلْقِ فَكَيْفَ يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ؟ وَلِهَذَا بِمُجَرَّدِ مَا ذَكَرَ لَهُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ بَادَرَ إِلَى تَصْدِيقِهِ وَلَمْ يَتَلَعْثَمْ، وَلَا عَكَمَ.

وَقَدْ ذَكَرْنَا كَيْفِيَّةَ إِسْلَامِهِ فِي كِتَابِنَا الَّذِي أَفْرَدْنَاهُ فِي سِيرَتِهِ، وَأَوْرَدْنَا فَضَائِلَهُ وَشَمَائِلَهُ وَأَتْبَعْنَا ذَلِكَ بِسِيرَةِ الْفَارُوقِ أَيْضًا، وَأَوْرَدْنَا مَا رَوَاهُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 433

مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَمَا رَوَى عَنْهُ مِنَ الْآثَارِ والاحكام والتفاوى، فَبَلَغَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مُجَلَّدَاتٍ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي حَدِيثِ مَا كَانَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما مِنَ الْخُصُومَةِ، وَفِيهِ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ.

وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَهَل أَنْتُم تاركو لِي صَاحِبِي " مَرَّتَيْنِ.

فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا.

وَهَذَا كَالنَّصِّ عَلَى أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ رضي الله عنه.

وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ سَعِيدٍ الْجَرِيرِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ.

قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه: أَلَسْتُ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَا، أَلَسْتُ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ، أَلَسْتُ صَاحِبَ كَذَا؟ وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ بُهْلُولِ بْنِ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ عَنِ الْحَارِثِ، سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَأَوَّلُ مَنْ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الرِّجَالِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.

وَقَالَ شُعْبَةُ: عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَبُو بَكْرٍ الصَّدِّيقُ.

رَوَاهُ أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيح.

وَقَدْ تَقَدَّمَ رِوَايَةُ ابْنِ جَرِيرٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.

قَالَ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ: فَذَكَرْتُهُ لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فَأَنْكَرَهُ، وَقَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

ص: 434

وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ بِأَسَانِيدِهِ عَنْ أَبِي أَرْوَى الدَّوْسِيِّ وأبى مُسلم بن عبد الرَّحْمَن فِي جمَاعَة مِنَ السَّلَفِ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ.

وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مَالك ابْن مِغْوَلٍ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ؟ فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ حَسَّانَ: إِذَا تَذَكَّرْتَ شَجْوًا مِنْ أَخِي ثِقَةٍ * فَاذْكُرْ أَخَاكَ أَبَا بَكْرٍ بِمَا فَعَلَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ أَوْفَاهَا وَأَعْدَلَهَا * بَعْدَ النَّبِيِّ وَأَوْلَاهَا بِمَا حَمَلَا وَالتَّالِيَ الثَّانِيَ الْمَحْمُودَ مَشْهَدُهُ * وَأَوَّلَ النَّاسِ مِنْهُمْ صَدَّقَ الرُّسُلَا عَاشَ حميدا لامر لله مُتَّبِعًا * بِأَمْرِ صَاحِبِهِ الْمَاضِي وَمَا انْتَقَلَا وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا شَيْخٌ لَنَا عَنْ مُجَالِدٍ، عَنْ عَامِرٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ - أَوْ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ - أَيُّ النَّاسِ أَوَّلُ إِسْلَامًا؟ قَالَ: أَمَا سَمِعْتَ قَول حسان ابْن ثَابِتٍ فَذَكَرَهُ.

وَهَكَذَا رَوَاهُ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ، عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَذَكَرَهُ.

وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ: حَدَّثَنِي سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ الْمَاجِشُونِ قَالَ: أَدْرَكْتُ مَشْيَخَتَنَا مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَصَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، وَعُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، لَا يَشُكُّونَ أَنَّ أَوَّلَ الْقَوْمِ إِسْلَامًا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه.

قُلْتُ: وَهَكَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَسَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ جُمْهُورِ أَهْلِ السّنة.

ص: 435

وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُمَا قَالَا: لَمْ يَكُنْ أَوَّلَهُمْ إِسْلَامًا، وَلَكِنْ كَانَ أَفْضَلَهُمْ إِسْلَامًا.

قَالَ سَعْدٌ: وَقَدْ آمَنَ قَبْلَهُ خَمْسَةٌ.

وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا مَعَهُ إِلَّا خَمْسَةُ أَعْبُدٍ، وَامْرَأَتَانِ، وَأَبُو بَكْرٍ.

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ زِرٍّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ سَبْعَةٌ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَمَّارٌ، وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ، وَالْمِقْدَادُ.

فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِقَوْمِهِ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرُعَ الْحَدِيدِ وَصَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ، فَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وَاتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا، إِلَّا بِلَالًا فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللَّهِ، وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ، فَأَخَذُوهُ فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانَ فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ فِي شِعَابِ مَكَّةَ وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ.

وَهَكَذَا رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مُرْسَلًا.

فَأَمَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ قَائِلًا: أَخْبَرَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا كِنَانَةُ بْنُ جَبَلَةَ عَنْ

إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي: أَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَوَّلُكُمْ إِسْلَامًا؟ قَالَ: لَا، وَلَقَدْ أَسْلَمَ قَبْلَهُ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسِينَ، وَلَكِنْ كَانَ أَفْضَلَنَا إِسْلَامًا.

فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ إِسْنَادًا وَمَتْنًا.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، ثُمَّ روى من

ص: 436

طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ: مَنْ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ النِّسَاءِ؟ قَالَ: خَدِيجَةُ.

قُلْتُ: فَمِنَ الرِّجَالِ؟ قَالَ: زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ.

وَكَذَا قَالَ عُرْوَةُ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَال زيد ابْن حَارِثَةَ.

وَقَدْ أَجَابَ أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه بِالْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِأَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ أَبُو بَكْرٍ، وَمِنَ النِّسَاءِ خَدِيجَةُ، وَمِنَ الْمَوَالِي زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَمِنَ الْغِلْمَانِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.

رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ وَأَظْهَرَ إِسْلَامَهُ دَعَا إِلَى الله عزوجل.

وَكَانَ أَبُو بكر رجلا مألفا لِقَوْمِهِ محبا سَهْلًا، وَكَانَ أَنْسَبَ قُرَيْشٍ لِقُرَيْشٍ، وَأَعْلَمَ قُرَيْشٍ بِمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.

وَكَانَ رَجُلًا تَاجِرًا ذَا خُلُقٍ وَمَعْرُوفٍ.

وَكَانَ رِجَالُ قَوْمِهِ يَأْتُونَهُ وَيَأْلَفُونَهُ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرِ، لِعِلْمِهِ وَتِجَارَتِهِ وَحُسْنِ مُجَالَسَتِهِ.

فَجَعَلَ يَدْعُو إِلَى الْإِسْلَامِ مَنْ وَثِقَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ مِمَّنْ يَغْشَاهُ وَيَجْلِسُ إِلَيْهِ.

فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ فِيمَا بَلَغَنِي: الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنهم.

فَانْطَلَقُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُمْ أَبُو بَكْرٍ، فَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامَ

وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، وَأَنْبَأَهُمْ بِحَقِّ الْإِسْلَامِ فَآمَنُوا.

وَكَانَ هَؤُلَاءِ النَّفَرُ الثَّمَانِيَةُ الَّذِينَ سَبَقُوا فِي الاسلام، [فصلوا و (1) ] صدقُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَآمَنُوا بِمَا جَاءَ من عِنْد الله.

(1) من ابْن هِشَام.

ويلاحظ أَن لفظ ابْن هِشَام مُخْتَلف عَمَّا هُنَا كثيرا.

(*)

ص: 437

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ الْوَالِبِيِّ عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن أَبى طَلْحَةَ قَالَ: قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: حَضَرْتُ سُوقَ بُصْرَى، فَإِذَا رَاهِبٌ فِي صَوْمَعَتِهِ يَقُولُ: سَلُوا أَهْلَ الْمَوْسِمِ: أَفِيهِمْ رَجُلٌ مَنْ أَهْلِ الْحَرَمِ؟ قَالَ طَلْحَةُ: قُلْتُ: نَعَمْ أَنَا.

فَقَالَ: هَلْ ظَهَرَ أَحْمَدُ بَعْدُ؟ قُلْتُ: وَمَنْ أَحْمَدُ؟ قَالَ: ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، هَذَا شَهْرُهُ الَّذِي يَخْرُجُ فِيهِ، وَهُوَ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ، مَخْرَجُهُ مِنَ الْحَرَمِ، وَمُهَاجَرُهُ إِلَى نَخْلٍ وَحَرَّةٍ وَسِبَاخٍ، فَإِيَّاكَ أَنْ تُسْبَقَ إِلَيْهِ.

قَالَ طَلْحَةُ: فَوَقَعَ فِي قَلْبِي مَا قَالَ، فَخَرَجْتُ سَرِيعًا حَتَّى قَدِمْتُ مَكَّةَ، فَقُلْتُ: هَلْ كَانَ من حَدِيث؟ قَالُوا: نَعَمْ، مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَمِينُ قد تنبأ، وَقد اتبعهُ أَبُو بكر ابْن أَبى قُحَافَة.

قَالَ: فَخرجت حَتَّى قدمت عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقُلْتُ: أَتَبِعْتَ هَذَا الرَّجُلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَانْطَلِقْ إِلَيْهِ فَادْخُلْ عَلَيْهِ فَاتَّبِعْهُ، فَإِنَّهُ يَدْعُو إِلَى الْحَقِّ.

فَأَخْبَرَهُ طَلْحَةُ بِمَا قَالَ الرَّاهِبُ.

فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ بِطَلْحَةَ فَدَخَلَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَسْلَمَ طَلْحَةُ، وَأَخْبَرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا قَالَ الرَّاهِبُ، فَسُّرَ بِذَلِكَ.

فَلَمَّا أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ وَطَلْحَةُ أَخَذَهُمَا نَوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدِ بْنِ الْعَدَوِيَّةِ، وَكَانَ يُدْعَى أَسَدَ قُرَيْشٍ، فَشَدَّهُمَا فِي حَبْلٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمَا بَنُو تَيْمٍ، فَلِذَلِكَ سُمِّي أَبُو بَكْرٍ وَطَلْحَةُ الْقَرِينَيْنِ.

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " اللَّهُمَّ اكْفِنَا شَرَّ ابْنِ الْعَدَوِيَّةِ ".

رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.

وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ خَيْثَمَةُ بْنُ سُلَيْمَان الاطرابلسى: حَدثنَا عبيد الله بن مُحَمَّد

ابْن عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعُمَرِيُّ قَاضِي الْمِصِّيصَةِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي أَبِي عُبَيْدُ اللَّهِ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ

ص: 438

[بْنُ مُحَمَّدِ] بْنِ عِمْرَانَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ، قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَقِيَهُ فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ فُقِدْتَ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِكَ، وَاتَّهَمُوكَ بِالْعَيْبِ لِآبَائِهَا وَأُمَّهَاتِهَا.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ أَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ " فَلَمَّا فرغ كَلَامِهِ أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ، فَانْطَلَقَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا بَيْنَ الْأَخْشَبَيْنِ أَحَدٌ أَكْثَرُ سُرُورًا مِنْهُ بِإِسْلَامِ أَبِي بَكْرٍ.

وَمَضَى أَبُو بَكْرٍ فَرَاحَ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَسعد ابْن أَبِي وَقَّاصٍ فَأَسْلَمُوا.

ثُمَّ جَاءَ الْغَدَ بِعُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ، وَالْأَرْقَمِ بْنِ أَبِي الْأَرْقَمِ، فَأَسْلَمُوا رضي الله عنهم.

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ: فَحَدَّثَنِي أَبِي مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا اجْتَمَعَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانُوا ثَمَانِيَةً وَثَلَاثِينَ رَجُلًا أَلَحَّ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الظُّهُورِ، فَقَالَ:" يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّا قَلِيلٌ ".

فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُلِحُّ حَتَّى ظَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَفَرَّقَ الْمُسْلِمُونَ فِي نَوَاحِي الْمَسْجِدِ كُلُّ رَجُلٍ فِي عَشِيرَتِهِ، وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ، فَكَانَ أَوَّلَ خَطِيبٍ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَثَارَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ فَضُرِبُوا فِي نَوَاحِي الْمَسْجِدِ ضَرْبًا شَدِيدًا، وَوُطِئَ أَبُو بَكْرٍ وَضُرِبَ ضَرْبًا شَدِيدًا، وَدَنَا مِنْهُ الْفَاسِقُ عُتْبَةُ بن ربيعَة فَجعل يضْربهُ بنعلين

مخصوفتين وَيُحَرِّفُهُمَا لِوَجْهِهِ، وَنَزَا عَلَى بَطْنِ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى مَا يُعْرَفُ وَجْهُهُ مِنْ أَنْفِهِ.

ص: 439

وَجَاءَ بَنُو تَيْمٍ يَتَعَادَوْنَ فَأَجْلَتِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَحَمَلَتْ بَنُو تَيْمٍ أَبَا بَكْرٍ فِي ثَوْبٍ حَتَّى أَدْخَلُوهُ مَنْزِلَهُ وَلَا يَشُكُّونَ فِي مَوْتِهِ، ثُمَّ رَجَعَتْ بَنُو تَيْمٍ فَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ وَقَالُوا: وَاللَّهِ لَئِنْ مَاتَ أَبُو بَكْرٍ لَنَقْتُلَنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ.

فَرَجَعُوا إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَجَعَلَ أَبُو قُحَافَةَ وَبَنُو تَيْمٍ يُكَلِّمُونَ أَبَا بَكْرٍ حَتَّى أَجَابَ، فَتَكَلَّمَ آخِرَ النَّهَارِ فَقَالَ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَمَسُّوا مِنْهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَعَذَلُوهُ، ثُمَّ قَامُوا وَقَالُوا لِأُمِّهِ أُمِّ الْخَيْرِ: انْظُرِي أَنْ تُطْعِمِيهِ شَيْئًا أَوْ تَسْقِيهِ إِيَّاهُ؟.

فَلَمَّا خَلَتْ بِهِ أَلَحَّتْ عَلَيْهِ وَجَعَلَ يَقُولُ: مَا فَعَلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَتْ: وَالله مالى عَلْمٌ بِصَاحِبِكَ.

فَقَالَ: اذْهَبِي إِلَى أُمِّ جَمِيلِ بِنْتِ الْخَطَّابِ فَاسْأَلِيهَا عَنْهُ.

فَخَرَجَتْ حَتَّى جَاءَتْ أُمَّ جَمِيلٍ فَقَالَتْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ يَسْأَلُكِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ؟ فَقَالَتْ: مَا أَعْرِفُ أَبَا بَكْرٍ وَلَا مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَإِنْ كُنْتِ تُحِبِّينَ أَنْ أَذْهَبَ مَعَكِ إِلَى ابْنِكِ.

قَالَتْ: نَعَمْ.

فَمَضَتْ مَعَهَا حَتَّى وَجَدَتْ أَبَا بَكْرٍ صَرِيعًا دَنِفًا، فَدَنَتْ أُمُّ جَمِيلٍ وَأَعْلَنَتْ بِالصِّيَاحِ وَقَالَتْ وَاللَّهِ إِنَّ قَوْمَا نَالُوا هَذَا مِنْكَ لَأَهْلُ فِسْقٍ وَكُفْرٍ، وَإِنِّي لارجو أَن ينْتَقم الله لَك مِنْهُم.

قَالَ: فَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: هَذِهِ أَمُّكَ تَسْمَعُ.

قَالَ: فَلَا شئ عَلَيْكِ مِنْهَا.

قَالَتْ: سَالِمٌ صَالِحٌ.

قَالَ: أَيْنَ هُوَ؟ قَالَتْ: فِي دَارِ ابْنِ الْأَرْقَمِ.

قَالَ: فَإِنَّ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أَذُوقَ طَعَامًا وَلَا أَشْرَبَ شَرَابًا أَوْ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

فَأَمْهَلَتَا حَتَّى إِذَا هَدَأَتِ الرِّجْلُ وَسَكَنَ النَّاسُ، خَرَجَتَا بِهِ يَتَّكِئُ عَلَيْهِمَا حَتَّى أَدْخَلَتَاهُ

عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَبَّلَهُ

ص: 440

وَأَكَبَّ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَرَقَّ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رِقَّةً شَدِيدَةً.

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَيْسَ بِي بَأْسٌ إِلَّا مَا نَالَ الْفَاسِقُ مِنْ وَجْهِي، وَهَذِهِ أُمِّي بَرَّةٌ بِوَلَدِهَا، وَأَنْتَ مُبَارَكٌ فَادْعُهَا إِلَى اللَّهِ، وَادْعُ اللَّهَ لَهَا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَسْتَنْقِذَهَا بِكَ مِنَ النَّارِ.

قَالَ: فَدَعَا لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَدَعَاهَا إِلَى اللَّهِ فَأَسْلَمَتْ.

وَأَقَامُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الدَّارِ شَهْرًا وَهُمْ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا.

وَقَدْ كَانَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَسْلَمَ يَوْمَ ضُرِبَ أَبُو بَكْرٍ.

وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - أَو لابي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ - فَأَصْبَحَ عُمَرُ وَكَانَتِ الدَّعْوَةُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، فَأَسْلَمَ عُمَرُ يَوْمَ الْخَمِيسِ، فَكَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلُ الْبَيْتِ تَكْبِيرَةً سُمِعَتْ بِأَعْلَى مَكَّةَ.

وَخَرَجَ أَبُو الْأَرْقَمِ، وَهُوَ أَعْمَى كَافِرٌ، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِر لبنى عبيد الْأَرْقَمِ فَإِنَّهُ كَفَرَ.

فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُول الله علام نُخْفِي دِينَنَا وَنَحْنُ عَلَى الْحَقِّ، وَيَظْهَرُ دِينُهُمْ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ:" يَا عُمَرُ إِنَّا قَلِيلٌ قَدْ رَأَيْتَ مَا لَقِينَا ".

فَقَالَ عُمَرُ: فو الذى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا يَبْقَى مَجْلِسٌ جَلَسْتُ فِيهِ بِالْكُفْرِ إِلَّا أَظْهَرْتُ فِيهِ الْإِيمَانَ.

ثُمَّ خَرَجَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ مَرَّ بِقُرَيْشٍ وَهِيَ تَنْتَظِرُهُ، فَقَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ: يَزْعُمُ فَلَانٌ أَنَّكَ صَبَأْتَ؟ فَقَالَ عُمَرُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

ص: 441

فَوَثَبَ الْمُشْرِكُونَ إِلَيْهِ، وَوَثَبَ عَلَى عُتْبَةَ فَبَرَكَ عَلَيْهِ وَجعل يضْربهُ، وَأدْخل إصبعه فِي عينه، فَجَعَلَ عُتْبَةُ يَصِيحُ، فَتَنَحَّى النَّاسُ، فَقَامَ عُمَرُ فَجَعَلَ لَا يَدْنُو مِنْهُ أَحَدٌ إِلَّا أَخَذَ بشريف مِمَّن دَنَا مِنْهُ، حَتَّى أَعْجَزَ النَّاسَ.

وَاتَّبَعَ الْمَجَالِسَ الَّتِي كَانَ يُجَالِسُ فِيهَا فَيُظْهِرُ الْإِيمَانَ.

ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَيْهِمْ، قَالَ: مَا عَلَيْكَ، بِأَبِي وَأُمِّي.

وَاللَّهِ مَا بَقِيَ مَجْلِسٌ كُنْتُ أَجْلِسُ فِيهِ بِالْكُفْرِ إِلَّا أَظْهَرْتُ فِيهِ الْإِيمَانَ غَيْرَ هَائِبٍ وَلَا خَائِفٍ.

فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَخَرَجَ عُمَرُ أَمَامَهُ وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، حَتَّى طَافَ بِالْبَيْتِ وَصَلَّى الظّهْر مُؤمنا، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى دَارِ الْأَرْقَمِ وَمَعَهُ عُمَرُ، ثُمَّ انْصَرَفَ عُمَرُ وَحْدَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

وَالصَّحِيحُ أَنَّ عُمَرَ إِنَّمَا أَسْلَمَ بَعْدَ خُرُوجِ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَذَلِكَ فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ مِنَ الْبَعْثَةِ.

كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا كَيْفِيَّةَ إِسْلَامِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما فِي كِتَابِ سِيرَتِهِمَا عَلَى انْفِرَادِهَا، وَبَسَطْنَا الْقَوْلَ هُنَالِكَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (1) مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ السُّلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَوَّلِ مَا بُعِثَ وَهُوَ بِمَكَّة، وَهُوَ حِينَئِذٍ مستخف فَقُلْتُ: مَا أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا نَبِيٌّ.

فَقُلْتُ: وَمَا النَّبِيُّ؟ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ.

قُلْتُ: آللَّهُ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ.

قُلْتُ: بِمَ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: بِأَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وتكسر الاصنام، وتوصل الْأَرْحَامَ.

قَالَ: قُلْتُ: نِعْمَ مَا أَرْسَلَكَ بِهِ، فَمن تبعك عَلَى هَذَا؟ قَالَ: حُرٌّ وَعَبْدٌ.

يَعْنِي أَبَا بكر وبلالا.

(1) إِسْلَام عَمْرو بن؟ بسة فِي صَحِيح مُسلم 1 / 569 حَدِيث رقم 832 وَلَفظه مطول مُخْتَلف.

(*)

ص: 442

قَالَ فَكَانَ عَمْرٌو يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَأَنَا رُبُعُ الْإِسْلَامِ.

قَالَ: فَأَسْلَمْتُ.

قُلْتُ: فَأَتَّبِعُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنِ الْحَقْ بِقَوْمِكَ، فَإِذَا أُخْبِرْتَ أَنِّي قَدْ خَرَجْتُ فَاتَّبِعْنِي.

وَيُقَالُ إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ عليه السلام " حُرٌّ وَعَبْدٌ " اسْمُ جِنْسٍ، وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ بِأَبِي بَكْرٍ وَبِلَالٍ فَقَطْ فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ جَمَاعَةٌ قَدْ أَسْلَمُوا قَبْلَ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ، وَقَدْ كَانَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ أَسْلَمَ قَبْلَ بِلَالٍ أَيْضًا، فَلَعَلَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ رُبُعُ الْإِسْلَامِ بِحَسَبِ علمه، فَإِن الْمُؤمنِينَ كَانُوا إِذْ ذَاكَ يَسْتَسِرُّونَ بِإِسْلَامِهِمْ لَا يَطَّلِعُ على أَمرهم كثيرا أَحَدٍ مِنْ قَرَابَاتِهِمْ، دَعِ الْأَجَانِبَ، دَعْ أَهْلَ الْبَادِيَةِ مِنَ الْأَعْرَابِ.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ هَاشِمِ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: سَمِعت [أَبَا إِسْحَاق (1) ] سعد بن أَبى وَقاص يَقُول: وَمَا أَسْلَمَ أَحَدٌ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَسْلَمْتُ فِيهِ، وَلَقَدْ مَكَثْتُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَإِنِّي لَثُلُثُ الْإِسْلَامِ.

أَمَّا قَوْلُهُ: " مَا أَسْلَمَ أَحَدٌ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَسْلَمْتُ فِيهِ " فَسَهْلٌ، وَيُرْوَى:" إِلَّا فِي الْيَوْم الذى أسلمت فِيهِ " وَهُوَ مُشكل، إِذا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْهُ أَحَدٌ بِالْإِسْلَامِ.

وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الصِّدِّيقَ وَعَلِيًّا وَخَدِيجَةَ وَزَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ أَسْلَمُوا قَبْلَهُ، كَمَا قَدْ حَكَى الْإِجْمَاعُ عَلَى تَقَدُّمِ إِسْلَامِ هَؤُلَاءِ غَيْرَ وَاحِدٍ، مِنْهُمُ ابْن الاثير.

وَنَصّ أَبُو حنيفَة رضى الله عَنهُ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْ هَؤُلَاءِ أَسْلَمَ قَبْلَ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَلَقَدْ مَكَثْتُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَإِنِّي لَثُلُثُ الْإِسْلَامِ " فَمُشْكِلٌ وَمَا أَدْرِي عَلَى مَاذَا يُوضَعُ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَخْبَرَ بِحَسَبِ مَا عَلِمَهُ.

وَاللَّهُ أعلم.

(1) من صَحِيح البُخَارِيّ 2 / 183.

وَالرِّوَايَة فِيهِ: " إِلَّا فِي الْيَوْم الذى أسلمت فِيهِ ".

(*)

ص: 443

وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: كُنْتُ غُلَامًا يَافِعًا أَرْعَى غَنَمًا لِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ بِمَكَّةَ.

فَأَتَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ، وَقَدْ فَرَّا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ - أَوْ فَقَالَا -: عِنْدَكَ يَا غُلَامُ لَبَنٌ تَسْقِينَا، قُلْتُ: إِنِّي مُؤْتَمَنٌ، وَلَسْتُ بِسَاقِيكُمَا.

فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكَ مِنْ جَذَعَةٍ لَمْ يَنْزُ عَلَيْهَا الْفَحْلُ بَعْدُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ.

فَأَتَيْتُهُمَا بِهَا فَاعْتَقَلَهَا أَبُو بَكْرٍ وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الضَّرْعَ وَدَعَا، فَحَفَلَ الضَّرْعُ، وَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ بِصَخْرَةٍ مُتَقَعِّرَةٍ فَحَلَبَ فِيهَا، ثُمَّ شَرِبَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ ثُمَّ سَقَيَانِي ثُمَّ قَالَ لِلضَّرْعِ: اقْلِصْ.

فَقَلَصَ.

فَلَمَّا كَانَ بَعْدُ أَتَيْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: عَلِّمْنِي مِنْ هَذَا الْقَوْلِ الطَّيِّبِ، يَعْنِي الْقُرْآنَ، فَقَالَ:" إِنَّكَ غُلَامٌ مُعَلَّمٌ " فَأَخَذْتُ مِنْ فِيهِ سَبْعِينَ سُورَةً مَا يُنَازِعُنِي فِيهَا أَحَدٌ.

وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ عَفَّانَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ.

وَرَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ بِهِ.

وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ الْأَصْبِهَانِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْجَهْمِ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَرَجِ، حَدثنَا مُحَمَّد بن عمر، حَدَّثَنى جَعْفَر ابْن مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ - أَوْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ - قَالَ: كَانَ إِسْلَامُ خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ قَدِيمًا وَكَانَ أَوَّلَ إِخْوَتُهُ أَسْلَمَ.

وَكَانَ بَدْءُ إِسْلَامِهِ أَنَّهُ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ وُقِفَ بِهِ عَلَى شَفِيرِ النَّارِ، فَذَكَرَ مِنْ سِعَتِهَا مَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ.

وَيرى فِي النّوم كَأَن آتٍ أَتَاهُ يَدْفَعُهُ فِيهَا، وَيَرَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آخِذًا بِحَقْوَيْهِ (1) لَا يَقَعُ، فَفَزِعَ مِنْ نَوْمِهِ فَقَالَ: أَحَلِفُ بِاللَّهِ إِنَّ هَذِه لرؤيا حق.

(1) الحقو: الكشح، وَهُوَ مَا بَين الخاصرة إِلَى الضلع الْخلف.

(*)

ص: 444