المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر ما آل إليه أمر الفرس باليمن - السيرة النبوية من البداية والنهاية - ت عبد الواحد - جـ ١

[ابن كثير]

فهرس الكتاب

- ‌تَقْدِيم

- ‌ذكر أَخْبَار الْعَرَب

- ‌ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم (2)

- ‌ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ سَدَّ مَأْرِبَ كَانَ صَنْعَتَهُ أَنَّ الْمِيَاهَ تَجْرِي مِنْ بَيْنِ جَبَلَيْنِ، فَعَمَدُوا فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ فَسَدُّوا مَا بَيْنَهُمَا بِبَنَاءٍ مُحْكَمٍ جِدًّا، حَتَّى ارْتَفَعَ الْمَاءُ فَحَكَمَ عَلَى أَعَالِي الْجَبَلَيْنِ، وَغَرَسُوا فِيهِمَا الْبَسَاتِينَ وَالْأَشْجَارَ الْمُثْمِرَةَ الْأَنِيقَةَ، وَزَرَعُوا الزُّرُوعَ الْكَثِيرَةَ، وَيُقَالَ كَانَ أَوَّلُ مَنْ بَنَاهُ سَبَأَ بْنَ يَعْرُبَ وَسَلَّطَ إِلَيْهِ سَبْعِينَ وَادِيًا يَفِدُ إِلَيْهِ وَجَعَلَ لَهُ ثَلَاثِينَ فُرْضَةً يَخْرُجُ مِنْهَا الْمَاءُ، وَمَاتَ وَلَمْ يَكْمُلْ بِنَاؤُهُ، فَكَمَّلَتْهُ حِمْيَرُ بَعْدَهُ، وَكَانَ اتِّسَاعُهُ فرسخا فِي فَرسَخ، وَكَانُوا فِي غِبْطَةٍ عَظِيمَةٍ وَعَيْشٍ رَغِيدٍ وَأَيَّامٍ طَيِّبَةٍ، حَتَّى ذَكَرَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ تَمُرُّ بِالْمِكْتَلِ عَلَى رَأْسِهَا فَيَمْتَلِئُ مِنَ الثِّمَارِ مِمَّا يَتَسَاقَطُ فِيهِ مِنْ نُضْجِهِ وَكَثْرَتِهِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ لم يكن فِي بِلَادهمْ شئ مِنَ الْبَرَاغِيثِ وَلَا الدَّوَابِّ الْمُؤْذِيَةِ، لِصِحَّةِ هَوَائِهِمْ وَطِيبِ فِنَائِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى (لَقَدْ كَانَ لسبإ فِي مسكنهم آيَة جنتان عَن يَمِين وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ، وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَة طيبَة وَرب غَفُور) وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)

- ‌ذِكْرُ خُرُوجِ الْمُلْكِ بِالْيَمَنِ مِنْ حِمْيَرَ وَصَيْرُورَتِهِ إِلَى الْحَبَشَةِ السُّودَانِ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ شِقٌّ وَسَطِيحٌ الْكَاهِنَانِ

- ‌ذِكْرُ خُرُوجِ أَبْرَهَةَ الْأَشْرَمِ عَلَى أَرْيَاطَ واختلافهما واقتتالهما وصيرورة ملك الْيمن إِلَى أَبْرَهَة بعد قَتله أرياط

- ‌ذِكْرُ سَبَبِ قَصْدِ أَبْرَهَةَ بِالْفِيلِ مَكَّةَ لِيُخَرِّبَ الْكَعْبَة فَأَهْلَكَهُ الله عَاجلا غير آجل

- ‌ذِكْرُ خُرُوجِ الْمُلْكِ عَنِ الْحَبَشَةِ وَرُجُوعِهِ إِلَى سيف بن ذى يزن الحميرى

- ‌ذِكْرُ مَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُ الْفُرْسِ بِالْيَمَنِ

- ‌بَاب ذكر بنى إِسْمَاعِيل وهم عرب الْحجاز

- ‌ذكر أصُول أَنْسَاب قبائل عَرَبِ الْحِجَازِ إِلَى عَدْنَانَ وَذَلِكَ لِأَنَّ عَدْنَانَ وُلِدَ لَهُ وَلَدَانِ مَعَدٌّ وَعَكٌّ

- ‌ذِكْرُ جُمَلٍ مِنَ الْأَحْدَاثِ الْوَاقِعَةِ فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ

- ‌بَاب ذكر جمَاعَة مشهورين كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ

- ‌ذِكْرُ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ أَحَدِ أَجْوَادِ الْجَاهِلِيَّةِ

- ‌ذكر شئ مِنْ أَخْبَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ

- ‌ذِكْرُ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ حُجْرٍ الْكِنْدِيِّ

- ‌ذكر شئ من أَخْبَار أُميَّة بن أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ

- ‌ذكر قس بن سَاعِدَة الايادي

- ‌ذكر زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ رضي الله عنه

- ‌ذكر شئ مِمَّا وَقع مِنَ الَحَوَادِثِ فِي زَمَنِ الْفَتْرَةِ

- ‌ذِكْرُ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ

- ‌ذِكْرُ تَجْدِيدِ حَفْرِ زَمْزَمَ

- ‌ذِكْرُ نَذْرِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ذَبْحَ أَحَدِ وَلَدِهِ

- ‌ذِكْرُ تَزْوِيجِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ

- ‌بَابُ ذِكْرِ نَسَبِهِ الشَّرِيفِ وَطِيبِ أَصْلِهِ الْمُنِيفِ

- ‌بَابُ مَوْلِدِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكر ارتجاس الايوان وَسُقُوطِ الشُّرُفَاتِ، وَخُمُودِ النِّيرَانِ، وَرُؤْيَا الْمُوبِذَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الدَّلَالَاتِ

- ‌ذِكْرُ حَوَاضِنِهِ وَمَرَاضِعِهِ عليه الصلاة والسلام

- ‌ذِكْرُ رَضَاعِهِ عليه الصلاة والسلام مِنْ حَلِيمَةَ بِنْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ السَّعْدِيَّةِ

- ‌ذِكْرُ شُهُودِهِ عليه الصلاة والسلام حَرْبَ الْفِجَارِ

- ‌ذِكْرُ أَخْبَارٍ غَرِيبَةٍ فِي ذَلِكَ

- ‌بَابٌ فِي هَوَاتِفِ الْجَانِّ

- ‌بَاب كَيْفيَّة بَدْء الْوَحْي

- ‌ذكر عمره عليه الصلاة والسلام وَقت بعثته وَتَارِيخِهَا

- ‌ذِكْرُ إِسْلَامِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه

- ‌ذِكْرُ إِسْلَامِ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه

- ‌ذِكْرُ إِسْلَامِ ضِمَادٍ

- ‌بَاب أَمر الله رَسُوله عليه الصلاة والسلام بإبلاغ الرسَالَة إِلَى الْخَاص وَالْعَام

- ‌بَابُ مُجَادَلَةِ الْمُشْرِكِينَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

الفصل: ‌ذكر ما آل إليه أمر الفرس باليمن

‌ذِكْرُ مَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُ الْفُرْسِ بِالْيَمَنِ

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: ثُمَّ مَاتَ وَهْرِزُ فَأَمَّرَ كِسْرَى ابْنَهُ الْمَرْزُبَانَ بْنَ وَهْرِزَ عَلَى الْيَمَنِ،

ثُمَّ مَاتَ الْمَرْزُبَانُ فَأَمَّرَ كِسْرَى ابْنَهُ التَّيْنُجَانَ، ثُمَّ مَاتَ فَأَمَّرَ ابْنَ التَّيْنُجَانِ، ثُمَّ عَزَلَهُ عَنِ الْيَمَنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهَا بَاذَانَ، وَفِي زَمَنِهِ بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَبَلَغَنِي عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَتَبَ كِسْرَى إِلَى بَاذَانَ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ خَرَجَ بِمَكَّةَ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَسِرْ إِلَيْهِ فَاسْتَتِبْهُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا فَابْعَثْ إِلَيَّ بِرَأْسِهِ.

فَبَعَثَ بَاذَانُ بِكِتَابِ كِسْرَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " إِنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَنِي أَنْ يُقْتَلَ كِسْرَى فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا مِنْ شَهْرِ كَذَا " فَلَمَّا أَتَى بَاذَانَ الْكِتَابُ وَقَفَ لِيَنْتَظِرَ، وَقَالَ: إِنْ كَانَ نَبِيًّا فَسَيَكُونُ مَا قَالَ.

فَقَتَلَ اللَّهُ كِسْرَى فِي الْيَوْمِ الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عَلَى يَدَيِ ابْنِهِ شِيرَوَيْهِ.

قلت.

وَقَالَ بَعضهم: بنوه تمالاوا عَلَى قَتْلِهِ.

وَكِسْرَى هَذَا هُوَ أَبْرَوِيزُ بْنُ هُرْمُز بن أنوشروان بن قباذ، وَهُوَ الَّذِي غَلَبَ الرُّومَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ " كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَكَانَ قَتْلُهُ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءَ لِعَشَرٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى سنة تسع (1) من الْهِجْرَة.

وَكَانَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، لَمَّا كَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَغَضِبَ وَمَزَّقَ كِتَابَهُ، كَتَبَ إِلَى نَائِبِهِ بِالْيَمَنِ يَقُول لَهُ مَا قَالَ.

(1) الذى فِي السُّهيْلي: سنة سبع.

(*)

ص: 48

وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِرَسُولِ بَاذَانَ: " إِنَّ رَبِّي قَدْ قَتَلَ اللَّيْلَةَ رَبَّكَ " فَكَانَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قُتِلَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ بِعَيْنِهَا، قَتَلَهُ بَنُوهُ لِظُلْمِهِ بعد عدله، بعد مَا خَلَعُوهُ وَوَلَّوُا ابْنَهُ شِيرَوَيْهِ فَلَمْ يَعِشْ بَعْدَ قَتْلِهِ أَبَاهُ إِلَّا سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَوْ دُونَهَا.

وَفِي هَذَا يَقُولُ خَالِدُ بْنُ حِقٍّ الشَّيْبَانِيُّ: وَكِسْرَى إِذْ تَقَسَّمَهُ بَنُوهُ * بِأَسْيَافٍ كَمَا اقْتُسِمَ اللِّحَامُ تَمَخَّضَتِ الْمَنُونُ لَهُ بِيَوْم * أَلا وَلِكُلِّ حَامِلَةٍ تَمَامُ قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ بَاذَانَ بَعَثَ بِإِسْلَامِهِ وَإِسْلَامِ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْفُرْسِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَت الرُّسُل [من الْفرس] (1) : إِلَى مَنْ نَحْنُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " أَنْتُمْ مِنَّا وَإِلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ ".

قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَمِنْ ثَمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ ".

قُلْتُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا كَانَ بَعْدَ مَا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلِهَذَا بَعَثَ الْأُمَرَاءَ إِلَى الْيَمَنِ لِتَعْلِيمِ النَّاس الْخَيْر ودعوتهم إِلَى الله عزوجل، فَبَعَثَ أَوَّلًا خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، ثُمَّ أَتْبَعَهُمَا أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، وَدَانَتِ الْيَمَنُ وَأَهْلُهَا لِلْإِسْلَامِ.

وَمَاتَ بَاذَانُ فَقَامَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ شَهْرُ بْنُ بَاذَانَ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَهُ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ حِينَ تَنَبَّأَ وَأَخَذَ زَوْجَتَهُ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَأَجْلَى عَن الْيمن نُوَّابَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا قُتِلَ الْأَسْوَدُ عَادَتِ الْيَدُ الْإِسْلَامِيَّةُ عَلَيْهَا.

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذَا هُوَ الَّذِي (2) عَنَى بِهِ سطيح بقوله: " نبى زكى، يَأْتِيهِ

(1) من ابْن هِشَام (2) ابْن هِشَام: فَهُوَ الذى (*)

ص: 49

الْوَحْيُ مِنْ قِبَلِ الْعَلِيِّ " وَالَّذِي عَنَى شِقٌّ بِقَوْلِهِ: " بَلْ يَنْقَطِعُ بِرَسُولٍ مُرْسَلٍ، يَأْتِي بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، بَيْنَ أَهْلِ الدِّينِ وَالْفَضْلِ، يَكُونُ الْمُلْكُ فِي قَوْمِهِ إِلَى يَوْمِ الْفَصْلِ ".

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ فِي حِجَرٍ بِالْيَمَنِ، فِيمَا يَزْعُمُونَ، كِتَابٌ بِالزَّبُورِ كُتِبَ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ: لِمَنْ مُلْكُ ذِمَارٍ؟ لِحِمْيَرَ الْأَخْيَارِ، لِمَنْ مُلْكُ ذِمَارٍ؟ لِلْحَبَشَةِ الْأَشْرَارِ.

لِمَنْ مُلْكُ ذِمَارْ؟ لِفَارِسَ الْأَحْرَارْ، لِمَنْ مُلْكُ ذِمَارْ؟ لِقُرَيْشٍ التُّجَّارْ ".

وَقَدْ نَظَمَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ هَذَا الْمَعْنَى فِيمَا ذَكَرَهُ الْمَسْعُودِيُّ: حِين شيدت (1) ذمار قيل لمن أَن * - ت؟ فَقَالَتْ لِحِمْيَرَ الْأَخْيَارِ ثُمَّ سِيلَتْ مِنْ بَعْدِ ذَاكَ فَقَالَتْ * أَنَا لِلْحُبْشِ أَخْبَثِ الْأَشْرَارِ ثُمَّ قَالُوا من بعد ذَاك لمن أَن * - ت فَقَالَتْ لِفَارِسَ الْأَحْرَارِ ثُمَّ قَالُوا مِنْ بَعْدِ ذَاك لمن أَن * - ت فَقَالَتْ إِلَى قُرَيْشِ التُّجَّارِ وَيُقَالُ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وُجِدَ مَكْتُوبًا عِنْدَ قَبْرِ هُودٍ عليه السلام، حِينَ كَشَفَتِ الرِّيحُ عَنْ قَبْرِهِ بِأَرْضِ الْيَمَنِ، وَذَلِكَ قَبْلَ زَمَنِ بِلْقِيسَ بِيَسِيرٍ فِي أَيَّامِ مَالِكِ بْنِ ذِي الْمَنَارِ، أَخِي عَمْرٍو ذِي الْأَذْعَارِ بْنِ ذِي الْمَنَارِ.

وَيُقَالَ كَانَ مَكْتُوبًا عَلَى قبر هُودٍ أَيْضًا وَهُوَ مِنْ كَلَامِهِ عليه السلام.

حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قِصَّةُ السَّاطِرُونَ صَاحِبِ الْحَضْرِ وَقَدْ ذَكَرَ قِصَّتَهُ هَاهُنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ لِأَجْلِ مَا قَالَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ النَّسَبِ: أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي وُرُودِ سَيْفِ بْنِ ذِي يَزَنَ عَلَيْهِ، وَسُؤَالِهِ فِي مُسَاعَدَتِهِ فِي رَدِّ مُلْكِ الْيَمَنِ إِلَيْهِ، أَنَّهُ مِنْ سُلَالَةِ السَّاطِرُونَ صَاحِبِ الْحَضَر.

(1) شدت.

وَهُوَ خطأ.

(*)

ص: 50

وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ مِنْ ذُرِّيَّةِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ، وَأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّهُ مِنْ أَشْلَاءِ قُنُصِ (1) بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ.

فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي نَسَبِهِ فَاسْتَطْرَدَ ابْنُ هِشَامٍ فِي ذِكْرِ صَاحِبِ الْحَضْرِ.

وَالْحَضْرُ حِصْنٌ عَظِيمٌ بَنَاهُ هَذَا الْمَلِكُ، وَهُوَ السَّاطِرُونَ، عَلَى حَافَّةِ الْفُرَاتِ، وَهُوَ مُنِيفٌ مُرْتَفِعُ الْبِنَاءِ، وَاسِعُ الرَّحْبَةِ وَالْفِنَاءِ، دَوْرُهُ بِقَدْرِ مَدِينَةٍ عَظِيمَةٍ.

وَهُوَ فِي غَايَةِ الْإِحْكَامِ وَالْبَهَاءِ وَالْحُسْنِ وَالسَّنَاءِ، وَإِلَيْهِ يجبى مَا حوله من الاقصار وَالْأَرْجَاءِ.

وَاسْمُ السَّاطِرُونَ: الضَّيْزَنُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ أَجْرَمَ مِنْ بَنِي سَلِيحِ (2) بْنِ حلوان ابْن الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ.

كَذَا نَسَبَهُ ابْنُ الْكَلْبِيِّ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ مِنَ الْجَرَامِقَةِ، وَكَانَ أَحَدَ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ، وَكَانَ يَقْدُمُهُمْ إِذَا اجْتَمَعُوا لِحَرْبِ عَدُوٍّ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكَانَ حِصْنُهُ بَيْنَ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ.

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ كِسْرَى سَابُورَ ذُو الْأَكْتَافِ غَزَا السَّاطِرُونَ (3) مَلِكَ الْحَضْرِ.

وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ هِشَامٍ: إِنَّمَا الَّذِي غَزَا صَاحِبَ الْحَضَر سَابُور بن أردشير بْنِ بَابِكَ أَوَّلُ مُلُوكِ بَنِي سَاسَانَ، أَذَلَّ مُلُوكَ الطَّوَائِفِ وَرَدَّ الْمُلْكَ إِلَى الْأَكَاسِرَةِ.

وَأَمَّا سَابُورُ ذُو الْأَكْتَافِ بْنُ هُرْمُزَ فَبَعْدَ ذَلِكَ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ.

وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ.

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَحَصَرَهُ سَنَتَيْنِ.

وَقَالَ غَيْرُهُ: أَرْبَعَ سِنِينَ.

وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ أَغَارَ عَلَى بِلَادِ سَابُورَ فِي غَيْبَتِهِ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ.

فَأَشْرَفَتْ بِنْتُ السَّاطِرُونَ وَكَانَ اسْمُهَا النَّضِيرَةَ، فَنَظَرَتْ إِلَى سَابُورَ وَعَلِيهِ ثِيَاب ديباج وعَلى رَأسه تَاج

(1) المطبوعة: قَيْصر.

وَهُوَ خطأ.

(2)

المخطوطة ا: بن عبيد بن سليح.

(3)

ابْن هِشَام: ساطرون.

(*)

ص: 51

مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلٌ بِالزَّبَرْجَدِ وَالْيَاقُوتِ وَاللُّؤْلُؤِ، [وَكَانَ جَمِيلًا](1)، فَدَسَّتْ إِلَيْهِ: أَتَتَزَوَّجُنِي إِنْ فَتَحْتُ لَكَ بَابَ الْحَضْرِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ.

فَلَمَّا أَمْسَى سَاطِرُونَ شَرِبَ حَتَّى سَكِرَ، وَكَانَ لَا يَبِيتُ إِلَّا سَكْرَانَ، فَأَخَذَتْ مَفَاتِيحَ بَابِ الْحَضْرِ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ وَبَعَثَتْ بِهَا مَعَ مَوْلًى لَهَا فَفَتَحَ الْبَابَ.

وَيُقَالَ: بَلْ دَلَّتْهُمْ عَلَى نَهْرٍ يَدْخُلُ مِنْهُ الْمَاءُ مُتَّسِعٍ فَوَلَجُوا مِنْهُ إِلَى الْحَضْرِ.

وَيُقَالَ: بَلْ دَلَّتْهُمْ عَلَى طِلَّسْمٍ كَانَ فِي الْحَضْرِ، وَكَانَ فِي عِلْمِهِمْ أَنَّهُ لَا يُفْتَحُ حَتَّى تُؤْخَذَ حَمَامَةٌ وَرْقَاءُ وَتُخَضَّبُ رِجْلَاهَا بِحَيْضِ جَارِيَةٍ بِكْرٍ زَرْقَاءَ ثُمَّ تُرْسَلُ، فَاذَا وَقَعَتْ على سور الْحَضَر سقط ذَلِك

الطلسم فبفتح الْبَابُ.

فَفَعَلَ ذَلِكَ فَانْفَتَحَ الْبَابُ.

فَدَخَلَ سَابُورُ فَقَتَلَ سَاطِرُونَ وَاسْتَبَاحَ الْحَضْرَ وَخَرَّبَهُ وَسَارَ بِهَا مَعَهُ فَتَزَوَّجَهَا.

فَبَيْنَا هِيَ نَائِمَةٌ عَلَى فِرَاشِهَا لَيْلًا إِذْ جَعَلَتْ تَمَلْمَلُ لَا تَنَامُ، فَدَعَا لَهَا بِالشَّمْعِ فَفَتَّشَ فِرَاشَهَا، فَوَجَدَ عَلَيْهِ وَرَقَةَ آسٍ، فَقَالَ لَهَا سَابُورُ: أَهَذَا الَّذِي أَسْهَرَكِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ.

قَالَ: فَمَا كَانَ أَبُوكِ يَصْنَعُ بِكِ.

قَالَتْ: كَانَ يَفْرِشُ لِي الدِّيبَاجَ وَيُلْبِسُنِي الْحَرِيرَ وَيُطْعِمُنِي الْمُخَّ وَيَسْقِينِي الْخَمْرَ.

قَالَ: أَفَكَانَ جَزَاءُ أَبِيكِ مَا صَنَعْتِ بِهِ! أَنْتِ إِلَيَّ بذلك أسْرع.

فَرُبِطَتْ قُرُونُ رَأْسِهَا بِذَنَبِ فَرَسٍ ثُمَّ رَكَضَ الْفرس حَتَّى قَتلهَا.

فَفِيهِ يَقُول أعشى بنى قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ: - أَلَمْ تَرَ لِلْحَضْرِ إِذْ أَهْلُهُ * بِنُعْمَى وَهَلْ خَالِدٌ مَنْ نَعِمْ أَقَامَ بِهِ شَاهْبُورُ الْجُنُو * دِ حَوْلَيْنِ تَضْرِبُ فِيهِ الْقدَم

(1) لَيست فِي ا.

(*)

ص: 52

فَلَمَّا دَعَا رَبَّهُ دَعْوَةً * أَنَابَ إِلَيْهِ فَلَمْ يَنْتَقِمْ (1) فَهَلْ زَادَهُ رَبُّهُ قُوَّةً * وَمِثْلُ مُجَاوِرِهِ لَمْ يُقِمْ وَكَانَ دَعَا قَوْمَهُ دَعْوَةً * هَلُمُّوا إِلَى أَمْرِكُمْ قَدْ صُرِمْ فَمُوتُوا كِرَامًا بِأَسْيَافِكُمْ * أَرَى الْمَوْتَ يَجْشَمُهُ مَنْ جَشِمْ وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ فِي ذَلِكَ: وَالْحَضْرُ صَابَتْ عَلَيْهِ دَاهِيَةٌ * مِنْ فَوْقِهِ، أَيِّدٌ مَنَاكِبُهَا (2) رَبِيَّةٌ لَمْ تُوَقِّ وَالِدَهَا * لِحِينِهِا إِذْ أَضَاعَ رَاقِبُهَا (3) إِذْ غَبَقَتْهُ صَهْبَاءَ صَافِيَةً * وَالْخَمْرُ وَهْلٌ يَهِيمُ شَارِبُهَا (4)

فَأَسْلَمَتْ أَهْلَهَا بِلَيْلَتِهَا * تَظُنُّ أَنَّ الرَّئِيسَ خَاطِبُهَا فَكَانَ حَظّ الْعَرُوس إِذْ جشر الص * - بح دِمَاءً تَجْرِي سَبَائِبُهَا (5) وَخُرِّبَ الْحَضْرُ وَاسْتُبِيحَ وَقَدِ * أُحْرِقَ فِي خِدْرِهَا مَشَاجِبُهَا (6) وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ زيد أَيْضا: أَيهَا الشامت الْمُعير بالده * - ر أَأَنْت المبرء الموفور! أم لديك الْعَهْد الوثيق من الاي * - ام بَلْ أَنْتَ جَاهِلٌ مَغْرُورُ مَنْ رَأَيْتَ الْمَنُونَ خَلَّدْنَ أَمْ مَنْ * ذَا عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يُضَامَ خَفِيرُ؟ ! أَيْنَ كِسْرَى كِسْرَى الْمُلُوكِ أَنُوشِرْ * وَانَ أَمْ أَيْنَ قَبْلَهُ سَابُورُ! وَبَنُو الْأَصْفَرِ الْكِرَام مُلُوك ال * - روم لَمْ يَبْقَ مِنْهُمُ مَذْكُورُ وَأَخُو الْحَضْرِ إِذْ بَنَاهُ وَإِذْ دِجْ * - لَةُ تُجْبَى إِلَيْهِ وَالْخَابُورُ

(1) اقْتصر ابْن هِشَام على هَذِه الابيات.

(2)

صاب السهْم من بَاب بَاعَ، لُغَة فِي أصَاب.

والايد: القوى.

وَالْمعْنَى أَنَّهَا هائلة.

(3)

ربية: فعيل بِمَعْنى مفعول، أَي مرباة.

والحين: الْهَلَاك.

والراقب: المراقب.

(4)

غبقته: سقته الغبوق، وَهُوَ مَا يشرب بالعشى.

والوهل: الْوَهم.

(5)

جشر الصُّبْح: طلع.

(6)

المشاجب: جمع مشجب.

مَا تعلق بِهِ الثِّيَاب.

(*)

ص: 53

شَادَهُ مَرْمَرًا وَجَلَّلَهُ كِلْ * سًا فَلِلطَّيْرِ فِي ذُرَاهُ وُكُورُ لَمْ يَهَبْهُ رَيْبُ الْمَنُونِ فَبَانَ الْ * - مُلْكُ عَنْهُ فَبَابُهُ مَهْجُورُ وَتَذَكَّرْ رَبَّ الْخَوَرْنَقِ إِذْ أَشْ * - رَفَ يَوْمًا وَلِلْهُدَى تَفْكِيرُ (1) سَرَّهُ مَالُهُ وَكَثْرَةُ مَا يَمْ * لِكُ وَالْبَحْرُ مُعْرِضًا وَالسَّدِيرُ (2) فَارْعَوَى قَلْبُهُ وَقَالَ: وَمَا غِبْ * - طَةُ حَيٍّ إِلَى الْمَمَاتِ يَصِيرُ ثُمَّ أَضْحَوْا كَأَنَّهُمْ وَرَقٌ جَ * - فَّ فَأَلْوَتْ بِهِ الصَّبَا وَالدَّبُورُ (3)

قُلْتُ: وَرَبُّ الْخَوَرْنَقِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي شِعْرِهِ رَجُلٌ مِنَ الْمُلُوكِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَعَظَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ زَمَانِهِ فِي أَمْرِهِ الَّذِي كَانَ قَدْ أَسْرَفَ فِيهِ وَعَتَا (4) وَتَمَرَّدَ فِيهِ وَأَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَلَمْ يُرَاقِبْ فِيهَا مَوْلَاهَا، فَوَعَظَهُ بِمَنْ سَلَفَ قَبْلَهُ مِنَ الْمُلُوكِ وَالدُّوَلِ، وَكَيْفَ بَادُوا وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَأَنَّهُ مَا صَارَ إِلَيْهِ عَنْ غَيْرِهِ إِلَّا وَهُوَ مُنْتَقِلٌ عَنْهُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ، فَأَخَذَتْهُ مَوْعِظَتُهُ وَبَلَغَتْ مِنْهُ كُلَّ مَبْلَغٍ، فَارْعَوَى لِنَفْسِهِ، وَفَكَّرَ فِي يَوْمِهِ وَأَمْسِهِ، وَخَافَ مِنْ ضِيقِ رَمْسِهِ، فَتَابَ وَأَنَابَ وَنَزَعَ عَمَّا كَانَ فِيهِ، وَتَرَكَ الْمُلْكَ وَلَبِسَ زِيَّ الْفُقَرَاءِ، وساح فِي الفلوات وحظي بالخطوات، وَخَرَجَ عَمَّا كَانَ النَّاسُ فِيهِ مِنِ اتِّبَاعِ الشَّهَوَات وعصيان رب السَّمَوَات.

وَقَدْ ذَكَرَ قِصَّتَهُ مَبْسُوطَةً الشَّيْخُ الْإِمَامُ مُوَفَّقُ بن قدامَة الْمَقْدِسِي رَحمَه الله تَعَالَى فِي كِتَابِ " التَّوَّابِينَ " وَكَذَلِكَ أَوْرَدَهَا بِإِسْنَادٍ مَتِينٍ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيُّ فِي كِتَابِ " الرَّوْضُ الانف " الْمُرَتّب أحسن تَرْتِيب وأوضح تَبْيِين.

(1) ا: تذكير.

(2)

ا: معرض.

(3)

ألوت بِهِ: ا: ذهبت بِهِ، وَالصبَا: ريح مهبها من مطلع الثريا إِلَى بَنَات نعش.

وَالدبور ريح تقَابل الصِّبَا.

(4)

ا: وعق.

(*)

ص: 54

خَبَرُ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ وَأَمَّا صَاحِبُ الْحَضْرِ وَهُوَ سَاطِرُونَ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى سَائِرِ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ، وَكَانَ مِنْ زَمَنِ إِسْكَنْدَرَ بن فلبيس الْمَقْدُونِيِّ الْيُونَانِيِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا غَلَبَ عَلَى مَلِكِ الْفُرْسِ دَارَا بْنِ دَارَا، وَأَذَلَّ مَمْلَكَتَهُ وَخَرَّبَ بِلَادِهِ وَاسْتَبَاحَ بَيْضَةَ قَوْمِهِ وَنَهَبَ حَوَاصِلَهُ، وَمَزَّقَ شَمْلَ الْفُرْسِ شَذَرَ مَذَرَ، عَزَمَ أَنْ لَا يَجْتَمِعَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ شَمْلٌ وَلَا يَلْتَئِمَ لَهُمْ أَمْرٌ.

فَجَعَلَ يُقِرُّ كُلَّ مَلِكٍ عَلَى طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ فِي إِقْلِيمٍ مِنْ أَقَالِيمِ الْأَرْضِ مَا بَيْنَ عَرَبِهَا وَأَعَاجِمِهَا، فَاسْتَمَرَّ كل ملك مِنْهُم يحمى حوزنه وَيَحْفَظُ حِصَّتَهُ وَيَسْتَغِلُّ مَحِلَّتَهُ، فَاذَا هَلَكَ قَامَ وَلَدُهُ مِنْ بَعْدِهِ أَوْ أَحَدُ قَوْمِهِ، فَاسْتَمَرَّ الْأَمْرُ كَذَلِكَ قَرِيبًا مِنْ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ.

حَتَّى كَانَ أردشير بْنُ بَابِكَ مِنْ بَنِي سَاسَانَ بْنِ بَهْمَنَ بْنِ إِسْفِنْدِيَارَ بْنِ يَشْتَاسِبَ بْنِ لِهْرَاسِبَ، فَأَعَادَ مُلْكَهُمْ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَرَجَعَتِ الْمَمَالِكُ بِرُمَّتِهَا إِلَيْهِ، وَأَزَالَ مَمَالِكَ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ تَالِدٌ وَلَا طَارِفٌ، وَكَانَ تَأَخَّرَ عَلَيْهِ حِصَارُ صَاحِبِ الْحَضْرِ الَّذِي كَانَ أَكْبَرَهُمْ وَأَشَدَّهُمْ وَأَعْظَمَهُمْ إِذْ كَانَ رَئِيسَهُمْ وَمُقَدَّمَهُمْ، فَلَمَّا مَاتَ أردشير تَصَدَّى لَهُ وَلَدُهُ سَابُورُ فَحَاصَرَهُ حَتَّى أَخَذَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

ص: 55