الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الأول
[فيما يتعلق بالقصة رواية ودراية]
(ألف)
قال ابن إسحاق: "ثم إن أبرهة بنى القُلَّيس
(1)
بصنعاء، فبنى كنيسةً لم يُر مثلُها
…
ثم كتب إلى النجاشي: إني قد بنيتُ لك أيها الملك كنيسةً لم يُبن مثلُها لملك كان قبلك، ولستُ بمنتهٍ حتى أصرف إليها حجَّ العرب. فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي غضب رجل من النَّسَأة
…
حتى أتى القُلَّيس، فقعد فيها
…
فغضب عند ذلك أبرهة، وحلف لَيَسيرنّ إلى البيت حتى يهدمه"
(2)
.
أنكر المعلِّم قضية القعود في الكنيسة، وذكر قول أهل العلم: إن ابن إسحاق يأخذ عن اليهود وعمن لا يوثق به، وجزم بأن القصة من أكاذيب الأعداء، قصدوا بها عيب العرب، واختلاق عذر لأبرهة
(3)
.
[ص 3] قال عبد الرحمن: قد جاء عن الواقدي وابن الكلبي ما يشهد لقضية تقذير الكنيسة
(4)
. وليس في ذلك ما يعدّ عيبًا للعرب، ولا عذرًا لأبرهة؛ لأن فعل رجل واحد لعله لا يدري ما النصرانية، وإنما علم أن ذلك الحبشي بنى بيتًا يضارّ به بيت الله عز وجل، لا يُعدّ ذنبًا لجميع العرب. ولو أذنب جميع العرب لما كان ذلك ذنبًا لبيت الله تعالى. ولكن القضية لم تثبت من جهة الرواية. فالله أعلم.
(1)
معرب "كليسا"، وهي الكنيسة. [المؤلف]
(2)
سيرة ابن هشام بهامش الروض الأنف. [المؤلف]. انظر: السيرة طبعة السقا (1/ 43 - 45).
(3)
راجع تفسير سورة الفيل (ص 16). [المؤلف]
(4)
راجع طبقات ابن سعد (1/ 1/55 - 56)[طبعة صادر (1/ 91)]، وتاريخ ابن جرير (2/ 110)[المؤلف] طبعة دار المعارف (2/ 131).
(ب)
ذكر ابن إسحاق أن أبرهة أرسل يستدعي سيد أهل مكة وشريفها، فذهب إليه عبد المطلب، قال: "فأذن له أبرهة. قال: وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم، فلما رآه أبرهة أجلَّه وأعظمه وأكرمه عن أن يجلس
(1)
تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه، فنزل أبرهة عن سريره، فجلس على بساطه، وأجلسه معه عليه إلى جنبه، ثم قال لترجمانه: قل له: حاجتك
…
فقال: حاجتي أن يردَّ عليّ الملكُ مائتي بعير أصابها لي"
(2)
.
قال المعلم: "فهل يمكن أن يترك عبد المطلب التكلم في أمر البيت بعد ما رأى وسمع من أبرهة ما يستيقن به أنه لو سأله الانصراف عن هدم البيت لفعل، ثم إنه لم يترفع عن المجيء إليه، والسؤال لإبله"
(3)
.
قال عبد الرحمن: ليس في القصة ما يحصل به الاستيقان، بل ولا الظن، فلعل عبد المطلب [ص 4] رأى أن غرض أبرهة من إظهار احترامه أن يستميله ليرضى بهدم البيت، فيقول أبرهة للعرب: إنما هدمته برضا أهله. وقد يكون عبد المطلب صمم على التوكل على الله عز وجل، ولم يستجز أن يكدِّر توكله بسؤال ذلك الحبشي في شأن البيت. وقد يكون رأى أن ترك السؤال في شأن البيت أبلغ في تخويف أبرهة، إذ يقول في نفسه: ما ترك هذا الشريف السؤال في شأن البيت إلا لشدة وثوقه بحماية الله عز وجل له، وإنما
(1)
في السيرة طبعة السقا: "يجلسه".
(2)
هامش الروض الأنف. [المؤلف]. طبعة السقا (1/ 49).
(3)
(ص 17). [المؤلف]
يحصل له الوثوق بسوابق قد جرّبها وعرفها.
وفي سياق القصة ما يؤيد هذا، فإن فيها: "قال أبرهة لترجمانه: قل له: قد كنتَ أعجبتَني حين رأيتك، ثم قد زهدتُ فيك حين كلَّمتني أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك
…
؟ قال له عبد المطلب: إني أنا ربُّ الإبل، وإنّ للبيت ربًّا سيمنعه. قال: ما كان ليمتنع مني. قال: أنت وذاك! ".
أما سؤال عبد المطلب ردَّ إبله، فلم يكن شحًّا بالمال، وإنما كان أراد أن يقلِّدها، ويجعلها هديًا. ففي رواية الواقدي:"فلما قبضها قلَّدها النعال، وأشعرها، وجعلها هديًا، وبثّها في الحرم، لكي يصاب منها شيء، فيغضب ربّ الحرم"
(1)
.
وقد جاء في رواية: أن أبا مسعود الثقفي كان بمكة، وكان شيخًا كبيرًا قد كُفَّ بصرُه، وله رأي وتجربة، فقال له عبد المطلب: ماذا عندك من الرأي؟ فهذا يوم لا يستغنى فيه عن رأيك. فقال أبو مسعود لعبدالمطلب [ص 5]: اعمد إلى مائة من الإبل، فقلِّدها نعلًا، واجعلها لله، ثم ابثثها في الحرم، فلعل بعض السودان يعقر منها شيئًا، فيغضب رب البيت فيأخذهم
(2)
.
فلعل هذه المشورة كانت قبل أن يُستدعى عبد المطلب إلى أبرهة، وكان الحبشة قد استاقوا الأموال، فلم يكن عنده إبل، فلما استدعاه أبرهة عزم أن يسأل ردّ إبله ليعمل ما أشار به أبو مسعود. والله أعلم.
(1)
طبقات ابن سعد (1/ 1/56). [المؤلف] طبعة صادر (1/ 92).
(2)
سيرة ابن هشام بهامش الروض. [المؤلف]. هذه الإحالة سهو. وانظر للرواية المذكورة: تفسير البغوي (4/ 688).
هذا، ولا يبعد أنه وقع في حكاية القصة مبالغة في تصوير احترام أبرهة لعبد المطلب. وقد قال ابن إسحاق بعد ما تقدم:"وكان ــ فيما يزعم بعض أهل العلم ــ قد ذهب مع عبد المطلب إلى أبرهة، حين بعث إليه حُناطةَ، يعمَرُ بن نُفاثة بن عدي بن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وهو يومئذٍ سيد بني بكر، وخويلدُ بن واثلة الهذلي، وهو يومئذٍ سيد هذيل، فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم، ولا يهدم البيت، فأبى عليهم. والله أعلم أكان ذلك، أم لا"
(1)
.
وأخرج الحاكم في "المستدرك" بسند جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أقبل أصحاب الفيل حتى إذا دنوا من مكة استقبلهم عبد المطلب فقال لملكهم: ما جاء بك إلينا؟ ما عناك؟
…
ألّا بعثت إلينا فنأتيك بكل شيء أردت؟ فقال: أُخبِرتُ بهذا البيت الذي لا يدخله أحد إلا أمِنَ، فجئتُ أخيف أهله. فقال: إنا نأتيك بكل شيء تريد، فارجع. فأبى إلا أن يدخله، وانطلق يسير نحوه. [ص 6] فتخلّف عبد المطلب، فقام على جبل، فقال: لا أشهد مهلك هذا البيت وأهله، ثم قال:
…
(الأبيات الدعائية محرفة). فأقبلت مثلُ السحابة من نحو البحر حتى أظلّتهم طيرٌ أبابيلُ التي قال الله عز وجل: {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} . قال: فجعل الفيل يعِجُّ عجًّا {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} ".
قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد"، وقال الذهبي في "تلخيص المستدرك":"صحيح"
(2)
.
(1)
سيرة ابن هشام بهامش الروض. [المؤلف]. ط السقا (1/ 50).
(2)
المستدرك (2/ 535)[3974]. [المؤلف]
وسيأتي في فصل (هـ) رواية أخرى عن ابن عباس، قال الحافظ: إن سندها حسن.
(ج)
قال ابن إسحاق: "فلما نزل أبرهة المغمّس بعث رجلًا من الحبشة يقال له: الأسود بن مفصود على خيل له حتى انتهى إلى مكة، فساق إليه أموال أهل تهامة
…
فهمّت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به، فتركوا ذلك وبعث أبرهةُ حُناطةَ الحميري إلى مكة، وقال له: سل عن سيد هذا البلد وشريفها، ثم قل له: إن الملك يقول لك: إني لم آت لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت
…
فقال له عبد المطلب: والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك منه طاقة
(1)
. هذا بيت الله الحرام
…
فلما انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة، والتحرُّز في شَعَف الجبال والشعاب؛ تخوفًا عليهم من معرة الجيش
…
وانطلق هو ومن معه إلى شَعَف الجبال، فتحرزوا فيها
…
"
(2)
.
[ص 7] اشتد نكير المعلِّم رحمه الله تعالى على هذه القصة، وردّها بأمور:
الأول: أنها لم تثبت من جهة الرواية.
الثاني: أن ابن إسحاق كان يأخذ عن كل أحد.
الثالث: "ورود خلاف ذلك بروايات أخرى".
الرابع: ما عرف عن العرب من النجدة والحمية.
(1)
"منه طاقة" كذا في أصول السيرة، وفي تاريخ الطبري (2/ 133):"من طاقة". نبه عليه في حاشية طبعة السقا (1/ 48).
(2)
سيرة ابن هشام بهامش الروض. [المؤلف]. ط السقا (1/ 48 - 52).
الخامس
(1)
: أن العلم بأن البيت بيت الله يقتضي الدفاع عنه، لا إسلامه.
السادس: أن أهل السير يروون أن القبائل قاتلت أبرهة في طريقه، فكيف جبنت قريش ومن معها، وهم أهل البيت وشرفه.
السابع: أن أهل السير يذكرون أن قدوم أبرهة كان في موسم الحج. وأيده المعلِّم بقول قائلهم، وقد ذكره ابن إسحاق في هذه القصة:
اللهمَّ أخْزِ الأسودَ بن مقصود
…
الآخذَ الهجمةِ فيها التقليدْ
يعني: فقوله: "فيها التقليد" يصرح بأن الإبل كانت مقلَّدة، وإنما تُقلَّد إذا كانت هديًا، وإنما يُساق الهدي في موسم الحج.
وأيده أيضًا بأن القرآن ذكر كيد أصحاب الفيل، والكيد: هو المكر، والتدبير الخفي. وإنما يتحقق ذلك بقدومهم في الأشهر الحرم رجاءَ أن لا يقاتلهم العرب، لأنهم كانوا يحرمون القتال في الأشهر الحرم؛ وبعزمهم على دخول مكة حين يخليها أهلها مشتغلين بالحج، وعلى أن يكون هجومهم أيام التشريق، والعربُ حينئذٍ إما واقفون بمنى، أو مسرعون إلى أوطانهم. فإذا ثبت أن قدوم أبرهة كان في الموسم، فالعرب حينئذٍ مجتمعون للحج، فكيف يقاتل بعض قبائلهم في الطريق، ولا يقاتل جميعهم عند البيت؟
الثامن: "أنهم عابوا [ص 8] ثقيفًا لفرارهم عن حماية الكعبة، كما قال ضِرار بن خطّاب:
وفرّت ثقيفُ إلى لاتها
…
بمنقلَب الخائبِ الخاسر
(1)
في الأصل: "الرابع" كرّره سهوًا، ومشى عليه في الترقيم بعده، فأصلحناه.