الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما بالنظر إلى رواية سعيد بن جبير، فقد تقدم الكلام عليها في الأمر الأول والثاني من أمور الفريق الثاني.
وأما النتيجة الثانية فحقٌّ، وهي ثابتة عن هؤلاء الثلاثة الذين جعلهم فريقًا أول. فقد ثبتت عن ابن عباس كما تقدم في الأثر الذي صححه الحاكم والذهبي، وهو في آخر فصل (ب)، وفي الأثر الذي حسنه الحافظ ابن حجر، تقدم في الأمر الخامس من أمور الفريق الأول؛ وعن سعيد بن جبير كما تقدم في الأمر الثاني من أمور الفريق الأول، وعن عكرمة، فإن لفظ روايته: "كانت طيرًا
…
كانت ترميهم بحجارة معها، فإن أصاب [ص 38] أحدهم خرج به الجدري".
والرواية التي حسّنها الحافظ ابن حجر هي من رواية عكرمة عن ابن عباس.
والمعلِّم ــ عفا الله عنَّا وعنه ــ حكى رواية عكرمة، وحذف منها قوله: "كانت ترميهم
…
"، ثم أشار إلى ذلك بقوله: "وأما الروايات التي جمعت الأمرين
…
".
فقد اتضح بحمد الله عز وجل أن الرواة ليسوا فريقين مختلفين، وإنما وقع الاختلاف في بعض الأمور الجزئية. وقد قدمنا ذلك مع الجمع والترجيح.
تحرير البحث:
مقصود المعلِّم رحمه الله أن يثبت أن الطير أكلت جثث الهلكى، وأنها لم ترم بالحجارة. فحقّ الكلام أن يقال: إن الرواية عن بعض الصحابة والتابعين بدون نظر إلى أشخاص الرواة جاءت بأمرين: أحدهما: أن الطير
أكلت جثث الموتى، والآخر: أنها رمت أصحاب الفيل بالحجارة. ثم يثبت الأول، ويرد الثاني. وقد حاول المعلِّم ــ رحمه الله ــ ذلك.
أما الأول: فبادعاء أن رواية سعيد بن جبير صريحة في الأكل، وأن رواية ابن عباس التي ذكرها ابن جرير تُشعر به، ويوافقها جزء من رواية عكرمة، وأكد ذلك بقوله (ص 23):"الإخبار بشكل الطير ولونها، وأن مناقيرها الصفر كانت تختلف عليهم، لا يكون إلا برؤية العين".
قال عبد الرحمن: قد علمت أن رواية سعيد بن جبير ظاهرة في الرمي، وأن الضمير في " تختلف عليهم" إنما هو للطير، لا لمناقيرها. وعلمت أن رواية ابن عباس والجزء الذي أخذه المعلِّم من رواية عكرمة إنما تدل على أن في شكل تلك الطير ما يشبه شكل الجوارح، وأن ذلك [ص 39] لا يقتضي الأكل. ثم علمت أنها جاءت عن ابن عباس رواية مصحَّحة ظاهرة في الرمي، وأخرى محسَّنة صريحة فيه، وأن رواية سعيد بن جبير ظاهرة فيه، وصحت عنه رواية مصرحة به، وأن الجزء الأخير من رواية عكرمة مصرح بالرمي.
وعلى هذا، فلا بد للمعلم من أحد أمرين:
إمّا أن يقول: إن ابن عباس وعكرمة لم يفهما مما ذكروه من وصف الطير ما يقتضي أكلها للجثث.
وإمّا أن يقول: إنهما فهما ذلك، ولكن لم يريا فيه مخالفة لكون الطير رمت بالحجارة.
فإن اختار الأول، قيل له: كفى بذلك ردًّا لما زعمتَه من أن تلك الصفة تُشعر بالأكل.
وإن اختار الثاني، بقي عليه أن يثبت الأكل بحجة واضحة، وأنى ذلك!
ويكفي في رده أن أهل العلم من لدن الصحابة إلى الآن لم يذكروه. وهَبْ أنه أقام عليه حجة واضحة، فإنه لا ينافي ما قامت عليه الحجج الواضحة من رميها بالحجارة، وسيأتي تمام هذا إن شاء الله تعالى.
وأما الثاني، فقال المعلِّم (ص 23):"وأما الإخبار بحملها الحجارة في مناقيرها وأظفارها، فقصارى أمره أن يكون إما ممن رأى نزول الحجارة من السماء، وظن من بعيد أنها تأتي من الطير، أو ممن ظن أن الضمير في قوله تعالى: {تَرْمِيهِمْ} يرجع إلى الطير، فروى القصة حسبما فهم من تأويل الآية".
وقال في موضع آخر (ص 32)
(1)
: "ويمكن أيضًا أن بعض الشاهدين أنفسهم لم يفهموا إلا أن الطير رمتهم، فذكروا حسبما ظنوا. وعذرهم بيّن، فإن رمي أهل مكة لم يكن جديرًا بما رأوا من الآثار على الأعداء، فأيقنوا برمي من السماء، ولم يروا في السماء إلا طيرًا أبابيل، فنسبوا هذا الرمي إليهن".
قال عبد الرحمن: حاصل الاحتمال الأول أن الطير حلّقت عليهم، ثم رُجموا، وهي محلّقة. وهذا موافق لما دل عليه القرآن، كما يأتي أن إرسال الطير كان قبل الرمي، وموافق لما أطبقت عليه الروايات، ومنها قول نفيل:
حمدتُ الله إذ عاينتُ طيرًا
…
وخفتُ حجارةً تُلقَى علينا
(1)
في الأصل: "ص 23"، وهو سهو.
[ص 40] وقد يلزم المعلِّم أن يقول: إن نفيلًا ممن اشتبه عليه الأمر، وإن لم يكن بعيدًا، بل كان مع أصحاب الفيل، ولهذا خاف أن يقع عليه بعض الحجارة.
وعلى هذا الاحتمال مناقشات:
الأول: أن يقال: وما فائدة إرسال الله عز وجل للطير قبل نزول العذاب؟
فإن قيل: على ما جرت به عادة الطير من التحليق فوق الجيوش، على ما تقدم في الأمر الأول والثاني من أمور الفريق الثاني.
قلت: تلك الطير العادية التي اعتادت من رؤية الجيش أن تكون مقتلة، وهذه طير غريبة كما يعلم من صفاتها، وعظَّم الله تعالى شأنها بذكر أنه أرسلها.
وإن قيل: لتكون حجابًا لرمي الله عز وجل ــ على ما يأتي في فصل (ز) ــ قلت: إذا صححت جعلَها حجابًا، فاجعل الرمي منها، واسترح من العناء والتعسف، ومخالفة الناس جميعًا، وغير ذلك مما يلزمك.
الثاني: أن مثل هذا الاحتمال إنما يلجأ إليه إذا امتنع الظاهر، ورمي الطير بأمر الله عز وجل ليس بممتنع.
وسيأتي ذكر شبهة المعلِّم في امتناعه، وردّها. وحسبك أنها لم تخطر ببال أحد من الصحابة والتابعين وسائر أهل العلم من جميع الفرق حتى أثيرت أخيرًا، على ما يأتي.
الثالث: أن رمي الطير ثابت بدلالة القرآن، كما يأتي إن شاء الله تعالى.
وأما الاحتمال الثاني، وهو أن يكون "ممن ظن أن الضمير في قوله تعالى:{تَرْمِيهِمْ} يرجع إلى الطير"، فسياق الروايات يأباه، على أنه يقتضي
أن أهل العلم من الصحابة والتابعين، وهلم جرًّا إلى عهد المعلِّم لم يفهموا من قول الله تعالى:{تَرْمِيهِمْ} إلا أن المعنى ترميهم الطير، فمخالفتهم كلهم [ص 41] في هذا الفهم إما أن لا تجوز ألبتة، وإما أن تجوز بشرط أن تقوم حجة قاهرة تلجئ إلى مخالفتهم. وليس للمعلم حجة إلا الشبهة التي سلف ذكرها، وسيأتي ردّها إن شاء الله تعالى.
وفوق ذلك، فإن أول السورة يردّه، فإن معناه ــ كما يعترف به المعلِّم ــ:"قد علمت أيها المخاطب، أي كلّ من يصلح أن يخاطب {كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} علمًا مساويًا لعلم المشاهد". فكيف يجوز أن يقال هذا، وعامة الذين شاهدوا الواقعة وغيرهم ممن قرب منهم لا يعلمون أصل الكيفية، بل يجهلونه جهلًا مركبًا، يرون أنه كان يرمي الطير، والواقع أنه لم يكن رمي من الطير؟
قال المعلِّم (ص 24): "ثم كأن بعض من أخذ بهذا الرأي تفطن لما فيه من الإشكال، فإن جثث الفيلة والقتلى ملأت ناحية بطحاء مكة، فكيف أمكن لأهل هذه البقاع أن يسكنوها؟ ففزعوا إلى رأي آخر، وهو أن الله تعالى أرسل سيلًا فطهر الأرض. ولا يخفى أن السيل الذي يذهب بجثث هذه الأفيال وهذا الجند الكثيف لا يترك سكان هذه البطحاء
…
ثم
…
وجدوا إشكالًا آخر، وهو أن الحجارة النازلة من مناقير الطير وأظافيرها تنزل مستقيمة، فكيف تصيب الفيل مع أن جسمه حتى رأسه محفوف بالراكبين، فزعموا أن الحجارة نفذت الراكبين
…
ثم لا بد لهم أن يفرضوا أن الحجارة أصابت جند أبرهة، وأهلكه على مكانه، وأن ينسبوا الإهلاك إلى محض جراحات الحجارة. ولكن رواية الفريق الأول تصرح بأن من أصابته
الحجارة رمي بالحصبة
…
وجعلوا يتساقطون على كل منهل. فتبين أن كل ما ذهب إليه الفريق الثاني ليس إلا ما يتفرع على رأي رمي الطير".
قال عبد الرحمن: أما رمي الطير فقد أثبته الفريقان معًا كما علمت، بل لم ينفه أحد من المسلمين قبل المعلِّم رحمه الله. ولا يلزم من إثباته أن تملأ الجثث بطحاء مكة أولًا، لأن رمي أصحاب الفيل كان بعيدًا عن مكة، كما يأتي.
ثانيًا: لأن الروايات الثابتة التي تثبت رمي الطير لم تقل: إنّ [ص 42] الحجارة أصابت الفيلة وجميع أفراد الجيش، فأقعصتهم. بل الأثبت منها يقول: إنها من أصابته نَفِط موضعُ إصابتها، وكان الجدري والحصبة والحكّة، وذكر بعضها الهشم. ولا يلزم منه هلاك الفيلة وهلاك الجيش كلّه في محلّه. وبعض الروايات التي فيها نظر ذكرت النفوذ، ولم تقل: إنها أصابت الفيلة، ولا إنها أصابت جميع أفراد الجيش، ولا إن كل من أصابته إنما أصابته في رأسه، فيلزم أن يموت للحال.
وأما أنها كانت تصيب البيضة فتخرقها، وتخرق الراكب والمركوب، وتغوص في الأرض، فإنما رأيت هذا في كلام مقاتل، وهو مجازف لا يعتدّ بقوله. ولا يلزم من رد قوله ردُّ جميع الروايات التي أثبتت رمي الطير. غاية ما يلزم أن يكون جماعة من أصحاب الفيل هلكوا في موضعهم، وفرّ الباقون يتساقطون على كل منهل، كما ذكره ابن إسحاق.
وعليه، فلا إشكال؛ لأن الذين هلكوا في موضعهم قد لا يكونون كثيرًا، بحيث يتغير هواء مكة، مع بُعدها عنهم.
وخبر السيل لم ينفرد به الواقدي، فقد جاء عن عكرمة كما تقدم. ولا مانع من صحته، ويكون سيلًا متوسطًا، لا يطمي على مكة، مع أن في الروايات: أن أهل مكة قد كانوا تحرزوا بشعف الجبال، فلعل السيل جاء قبل نزولهم، ولأهل مكة عادة بنزول السيول. وهب أنه لم ينزل سيل، فقد عرفت أن الذين هلكوا من الجيش في مكانهم إنما هم بعضهم، فلعلهم كانوا قليلًا بحيث إن أهل مكة استطاعوا أن يحفروا لهم الحفر، ويواروهم فيها. فإن كان لا بد من أكل الطير، فالطير المعروفة في بلاد العرب كالعقبان والرخم والنسور تكفي لأكل جثث الذين هلكوا في ذلك الموضع.
وقد كانت في الجاهلية والإسلام [ص 43] وقائع عظيمة، هلك فيها ألوف من الناس، ولم يمتنع سكنى البلاد المجاورة لها، ولا أرسل الله تعالى طيرًا غريبة، وذلك كحرب الكلاب، وذي قار، واليرموك، والقادسية.
وهَبْ أنه ثبت أن تلك الطير التي أرسلها الله تعالى أكلت من جثث الهلكى، فمن أين يلزم من ذلك أنها لم ترمهم؟ بل نقول حينئذٍ: إن الله تعالى أرسلها لعذاب أصحاب الفيل، بأن ترميهم بالحجارة، كما اقتضته السورة، وصرحت به معظم الروايات، وأطبق عليه الناس، ففعلتْ ما أُرْسِلَت له، ثم بقيت حتى أكلت جثث الموتى. وكان ذلك من الله عز وجل إتمامًا للنعمة على أهل مكة بتعجيل التنظيف، ومكافأةً منه سبحانه للطير التي أطاعته، فأطعمها من صيدها. ولم يتعرض القرآن ولا الروايات لأكل تلك الطير من الجثث، لأنه أمر عادي. والله أعلم.