المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول: التعريف بالتمثيل والتشبيه - العرش للذهبي - جـ ١

[شمس الدين الذهبي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة

- ‌القسم الأول: الدراسة الموضعية

- ‌الباب الأول: أقوال الناس في أسماء الله وصفاته

- ‌الفصل الأول: معتقد أهل السنة والجماعة

- ‌المبحث الأول: التعريف بأهل السنة والجماعة

- ‌المبحث الثاني: معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته

- ‌الفصل الثاني: أقوال المعطلة في أسماء الله وصفاته

- ‌المبحث الأول: التعريف بالمعطلة

- ‌المبحث الثاني: درجات تعطيلهم

- ‌الفصل الثالث: أقوال المشبهة في أسماء الله وصفاته

- ‌المبحث الأول: التعريف بالتمثيل والتشبيه

- ‌المبحث الثاني: التعريف بالتشبيه

- ‌الباب الثاني: الأقوال في صفتي العلو والإستواء

- ‌الفصل الأول: الأقوال في صفة العلو

- ‌المبحث الأول: قول أهل السنة والجماعة ومن وافقهم

- ‌المبحث الثاني: أقوال المخالفين

- ‌الفصل الثاني: الأقوال في صفة الاستواء

- ‌المبحث الأول: مذهب السلف في الاستواء

- ‌المبحث الثاني: أقوال المخافين

- ‌الفصل الثالث: مسائل متعلقة بالعلو والإستواء

- ‌المبحث الأول: خلو العرش حال النزول

- ‌المبحث الثاني: مسائل الحد والمماسة

- ‌الباب الثالث: العرش وما يتعلق به

- ‌الفصل الأول: تعريف العرش

- ‌المبحث الأول: المعنى اللغوي لكلمة العرش

- ‌المبحث الثاني: المذاهب في تعريف العرش

- ‌الفصل الثاني: الأدلة على إثبات العرش من الكتاب والسنة

- ‌المبحث الأول: الأدلة القرآنية على إثبات العرش

- ‌المبحث الثاني: الأدلة من السنة على إثبات العرش

- ‌الفصل الثالث: صفة العرش وخصائصه

- ‌المبحث الأول: خلق العرش وهيئته

- ‌المبحث الثاني: مكان العرش

- ‌المبحث الثالث: خصائص العرش

- ‌الفصل الرابع: الكلام على حملة العرش والكرسي

- ‌المبحث الأول: الكلام على حملة العرش

- ‌المبحث الثاني: الكلام على الكرسي

- ‌القسم الثاني: التعريف بالمؤلف والكتاب

- ‌الفصل الأول: التعريف بالمؤلف

- ‌الفصل الثاني: التعريف بالكتاب

الفصل: ‌المبحث الأول: التعريف بالتمثيل والتشبيه

‌الفصل الثالث: أقوال المشبهة في أسماء الله وصفاته

‌المبحث الأول: التعريف بالتمثيل والتشبيه

المبحث الأول: التعريف بالتمثيل والتشبيه

المثيل لغة: الند والنظير.

والمماثلة: هي مساواة الشيء لغيره من كل وجه.

والمشابهة: هي مساواة الشيء لغيره من أغلب الوجوه.

والتمثيل: هو الاعتقاد في صفات الخالق أنها مثل صفات المخلوق.

وهو كقول الممثل: له يد كيدي، وسمع كسمعي، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.

والتمثيل والتشبيه هنا بمعنى واحد وإن كان هناك فرق بينهما في أصل اللغة1.

والمقصود بالتشبيه هنا: هو التمثيل في نفس الذوات أو بالصفات القائمة بالذوات.

وهذا التشبيه منتف عن الله، وإنما خالف فيه المشبهة الممثلة الذين وصفهم الأئمة وذموهم. كما قال الإمام أحمد: "المشبه الذي يقول بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي، ومن قال هذا فقد شبه الله

1 القواعد المثلى (ص27) .

ص: 115

بخلقه"1.

فكل قول يتضمن إثبات شيء من خصائص المخلوقين لله، فهذا هو التشبيه الممتنع على الله تعالى2.

الفرق بين التمثيل والتكييف:

قيل أن التكييف هو: جعل الشيء على حقيقة معينة من غير أن يقيدها بمماثل3.

كقول الهشامية: "طوله طول سبعة أشبار بشبر نفسه"، وقولهم:"طوله كعرضه"4.

فالتكييف على هذا التعريف ليس فيه تقييد بمماثل.

وأما التمثيل: فهو اعتقاد أنها تماثل صفات المخلوقين.

ولعل الصواب أن التكييف أعم من التمثيل، فكل تمثيل تكييف لأن من مثل صفات الخالق بصفات المخلوقين فقد كيف تلك الصفة أي جعل لها حقيقة معينة مشاهدة.

وليس كل تكييف تمثيلاً؛ لأن من التكييف ما ليس فيه تمثيل بصفات المخلوقين كقولهم: "طوله كعرضه".

1 نقض تأسيس الجهمية (1/476-477) .

2 درء تعارض العقل والنقل (4/146) .

3 القواعد المثلى (ص27) .

4 مقالات الإسلاميين (ص31) .

ص: 116

معنى قول أهل السنة (من غير تمثيل ولا تكييف)

مقصود أهل السنة بنفي المماثلة: أن خصائص الرب تعالى لا يوصف بها شيء من المخلوقات، ولا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفاته وهذا ما دل عليه القرآن، قال تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء} فهذا رد على المشبهة.

فمن جعل صفات الخالق مثل صفات المخلوقين فهو المشبه المبطل المذموم، ومن جعل صفات المخلوق مثل صفات الخالق فهو نظير النصارى في كفرهم"1.

ومعنى قول أهل السنة (من غير تكييف) أي من غير كيف يعقله البشر، وليس المراد من قولهم (من غير تكييف) أنهم ينفون الكيف مطلقاً، فإن كل شيء لابد أن يكون على كيفية ما، ولكن المراد أنهم ينفون علمهم بالكيف إذ لا يعلم كيفية ذاته وصفاته إلا هو سبحانه2.

فمن المعلوم أنه لا علم لنا بكيفية صفاته عز وجل لأنه تعالى أخبرنا عن الصفات ولم يخبرنا عن كيفيتها، فيكون تعمقنا في أمر الكيفية قفواً لما ليس لنا به علم، وقولاً بما لا يمكننا الإحاطة به.

وقد أخذ العلماء من قول الإمام مالك: "الاستواء معلوم، والكيف

1 شرح الطحاوية (ص99) .

2 شرح العقيدة الطحاوية (ص21) .V

ص: 117

مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة" قاعدة ساروا عليها في هذا الباب.

مقصود المخالفين بنفي التشبيه:

التشبيه في اصطلاح المتكلمين وغيرهم هو التمثيل، والمتشابهان هما المتماثلان، وهما ما سد أحدهما مسد صاحبه وقام مقامه وناب منابه1.

ومقصود المتكلمين بنفي التشبيه: أن يراد به أنه لا يثبت لله شيء من الصفات، فلا يقال له قدرة، ولا علم، ولا حياة، لأن العبد موصوف بهذه الصفات، ولازم هذا القول أنه لا يقال له حي، عليم، قدير، لأن العبد يسمى بهذه الأسماء وكذلك كلامه وسمعه وبصره وإرادته وغير ذلك2.

وأصل الخطأ والغلط توهمهم أن هذه الأسماء العامة الكلية يكون مسماها المطلق الكلي هو بعينه ثابتاً في هذا المعين وليس كذلك، فإن ما يوجد في الخارج لا يوجد مطلقاً كلياً، بل لا يوجد إلا معيناً مختصاً، وهذه الأسماء إذا سمي الله بها كان مسماها معيناً مختصاً به.

فإذا سمي بها العبد كان مسماها مختصاً به، فوجود الله وحياته لا يشاركه فيها غيره، بل وجود هذا الموجود المعين لا يشاركه فيه غيره،

1 نقض تأسيس الجهمية (1/476) .

2 شرح العقيدة الطحاوية (ص99) .

ص: 118

فكيف بوجود الخالق.

وبهذا ومثله يتبين لك أن المشبهة أخذوا هذا المعنى فزادوا فيه على الحق فضلوا. وأن المعطلة أخذوا نفي المماثلة بوجه من الوجوه وزادوا فيه على الحق حتى ضلوا. وإن كتاب الله دل على الحق المحض الذي تعقله العقول السليمة الصحيحة، وهو الحق المعتدل الذي لا انحراف فيه1.

أقسام التمثيل:

قال ابن القيم: "حقيقة الشرك هو:

1ـ التشبه بالخالق.

2ـ التشبيه للمخلوق به.

هذا هو التشبيه في الحقيقة"2.

وإذا كان التشبيه هو حقيقة الشرك كما ذكر ابن القيم، فإنه يمكن توضيح صوره بناءً على أقسام التوحيد الثلاثة المعروفة وذلك على النحو التالي:

أولاً: التمثيل في جانب الربوبية

وينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: التشبيه للمخلوق به، ومثاله:

1 شرح الطحاوية (ص104) بتصرف.

2 الجواب الكافي (159) .

ص: 119

1ـ شرك القدرية القائلين بأن العبد هو الذي يخلق أفعال نفسه، وأنها تحدث بدون مشيئة الله وقدرته.

2ـ شرك غلاة عباد القبور الذين يعتقدون في أصحاب القبور أنهم يتصرفون وينفعون ويضرون من دون الله.

ولا شك أن من خصائص الرب التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع، وذلك يوجب تعليق الدعاء، والخوف، والرجاء، والتوكل به وحده. فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل ما لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، -فضلاً عن غيره- شبيهاً لمن له الأمر كله، فأزمة الأمور كلها بيده، ومرجعها إليه، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع.

فمن أقبح التشبيه: تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات، بالقادر الغني بالذات1.

القسم الثاني: التشبه بالخالق، ومن أمثلته:

1ـ من تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم2.

ففي الصحيح عنه رضي الله عنه قال: "يقول الله عز وجل: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحداً منهما عذبته".

1 الجواب الكافي (ص159-160) .

2 المصدر السابق (ص161) .

ص: 120

ثانياً: التمثيل في جانب الألوهية

وينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: التشبيه للمخلوق به، ومن أمثلة ذلك:

السجود لغير الله، والذبح لغير الله، والتوبة لغير الله، والحلف بغير الله.

فمن خصائص الإلهية، العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونهما:

1ـ غاية الحب

2ـ مع غاية الذل

هذا تمام العبودية، وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين. فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله فقد شبهه في خالص حقه.

فإذا عرف هذا، فمن خصائص الإلهية السجود، فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به.

ومنها التوكل، فمن توكل على غيره فقد شبهه به.

ومنها التوبة، فمن تاب لغيره فقد شبهه به.

ومنها الحلف باسمه تعظيماً وإجلالاً له، فمن حلف بغيره فقد

ص: 121

شبهه به1.

القسم الثاني: التشبه به، ومثاله:

من دعا الناس إلى تعليق القلب به خوفاً، ورجاءً، وتوكلاً، والتجاءً، واستعانةً2، كما يفعله بعض مشايخ طرق الصوفية مع مريديهم.

أقسام التمثيل في باب الأسماء والصفات:

ينقسم التمثيل في باب الأسماء والصفات إلى قسمين:

القسم الأول: تمثيل المخلوق بالخالق

وهذا ما زعمه النصارى في شأن عيسى عليه السلام إذ أعطوه خصائص الخالق عز وجل وجعلوه إلهاً.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والنصارى يصفون المخلوق بصفات الخالق التي يختص بها، ويشبهون المخلوق بالخالق، حيث قالوا: إن الله هو المسيح بن مريم، وإن الله ثالث ثلاثة، وقالوا المسيح ابن الله"3.

ومن هذا القسم كذلك السبيئة4 من غلاة الروافض: الذين شبهوا

1 انظر الجواب الكافي (ص160-161) .

2 المصدر السابق (ص161) .

3 منهاج السنة (5/169) .

4 السبيئة: نسبة إلى عبد الله بن سبأ اليهودي، الذي أظهر الإسلام، وكاد للمسلمين كيداً عظيماً، وهو الذي قال لعلي: أنت الله. انظر: الفرق بين الفرق (ص233) ، والملل والنحل (1/174) .

ص: 122

علياً رضي الله عنه بالله، وجعلوه إلهاً، وقالوا: أنت الله حتى حرقهم، فإنه خرج ذات يوم فسجدوا له. فقال لهم: ما هذا؟ فقالوا: أنت هو. قال: من أنا؟ قالوا: أنت الله الذي لا إله إلا هو.

فقال: ويحكم هذا كفر، فارجعوا عنه، وإلا ضربت أعناقكم، فصنعوا به في اليوم الثاني والثالث كذلك، فأخرهم ثلاثة أيام -لأن المرتد يستتاب ثلاثة أيام- فلما لم يرجعوا، أمر بأخاديد من نار فخدت عند باب كندة، وقذفهم في تلك النار، وروي عنه أنه قال:

لما رأيت الأمر أمراً منكراً

أججت ناري ودعوت قنبراً"1

القسم الثاني: تشبيه الخالق بالمخلوق

وهذا ما زعمه اليهود قاتلهم الله إذ وصفوا الخالق ببعض صفات المخلوقين، كما ذكر الله ذلك عنهم في كتابه العزيز حيث قال:{لَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} [آل عمران:181]، وقال تعالى {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ} [المائدة:64] .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فاليهود تصف الرب بصفات النقص التي يتصف بها المخلوق، كما قالوا: إنه بخيل، وإنه فقير، وإنه لما خلق

1 منهاج السنة (1/307) .

ص: 123

المبحث الثاني: التعريف بالمشبهة

توحيد الأسماء والصفات له ضدان هما:

1ـ التعطيل

2ـ التمثيل

ولذلك ذم السلف والأئمة، المعطلة النفاة للصفات، وذموا المشبهة أيضاً.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن السلف والأئمة كثر كلامهم في ذم الجهمية النفاة للصفات، وذموا المشبهة أيضاً، وذلك في كلامهم أقل بكثير من ذم الجهمية، لأن مرض التعطيل أعظم من مرض التشبيه".

وتقوم عقيدة أهل التمثيل على دعواهم أن الله عز وجل لا يخاطبنا إلا بما نعقل، فإذا أخبرنا عن اليد فنحن لا نعقل إلا هذه اليد الجارحة، فشبهوا صفات الخالق بصفات المخلوقين، فقالوا له يد كيدي، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

لكن المشبهة لا يمثلون الخالق بالمخلوق من كلّ وجه وإنما قالوا بإثبات التماثل من وجه والاختلاف من وجه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "مع أن مقالة المشبهة الذين يقولون: يد كيدي، وقدم كقدمي، وبصر كبصري، مقالة معروفة، وقد ذكرها الأئمة كيزيد بن هارون، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم،

ص: 125

وأنكروها وذموها، ونسبوها إلى مثل داود الجواربي البصري وأمثاله. ولكن مع هذا صاحب هذه المقالة لا يمثله بكل شيء من الأجسام، بل ببعضها، ولابد مع ذلك أن يثبتوا التماثل من وجه، لكن إذا أثبتوا من التماثل ما يختص بالمخلوقات كانوا مبطلين على كل حال"1.

وأكثر من عرف بمقالة التشبيه قدماء الرافضة:

فأول من تكلم في التشبيه هم طوائف من الشيعة2 وإن التشبيه والتجسيم المخالف للعقل والنقل لا يُعرف في أحد من طوائف الأمة أكثر منهم في طوائف الشيعة.

وهذه كتب المقالات كلها تخبر عن أئمة الشيعة المتقدمين من المقالات المخالفة للعقل والنقل في التشبيه والتجسيم بما لا يعرف نظيره عن أحد من سائر الطوائف.

وقدماء الإمامية ومتأخروهم متناقضون في هذا الباب، فقدماؤهم غلو في التشبيه والتجسيم، ومتأخروهم غلو في النفي والتعطيل"3.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فهذه المقالات التي نقلت في التشبيه والتجسيم لم نر الناس نقلوها عن طائفة من المسلمين أعظم مما نقلوها عن

1 درء تعارض العقل والنقل (4/145) .

2 نقض تأسيس الجهمية (1/54) ، ومنهاج السنة (2/217) .

3 منهاج السنة (2/103) .

ص: 126

قدماء الرافضة. ثم الرافضة حُرِموا الصواب في هذا الباب كما حُرِموه في غيره، فقدماؤهم يقولون بالتجسيم الذي هو قول غلاة المجسمة، ومتأخروهم يقولون بتعطيل الصفات موافقة لغلاة المعطلة من المعتزلة ونحوهم، فأقوال أئمتهم دائرة بين التعطيل والتمثيل، لم تعرف لهم مقالة متوسطة بين هذا وهذا"1.

وأما قدماؤهم فهم:

1ـ البيانية: من غالية الشيعة وهم أتباع بيان بن سمعان التيمي الذي كان يقول: إن الله على صورة الإنسان وإنه يهلك كله إلا وجهه، وادعى بيان أنه يدعو الزُهَرَة فتجيبه، وأنه يفعل ذلك بالاسم الأعظم، فقتله خالد ابن عبد الله القسري2.

2ـ المغيرية: وهم أصحاب المغيرة بن سعيد، ويزعمون أنه كان يقول إنه نبي وإنه اسم الله الأكبر وإن معبودهم رجل من نور على رأسه تاج، وله من الأعضاء والخلق مثل ما للرجل، وله جوف وقلب تنبع منه الحكمة، وإن حروف (أبي جاد) على عدد أعضائه، قالوا: والألف موضع قدمه لاعوجاجها، وذكر الهاء فقال: لو رأيتم موضعها منه لرأيتم أمراً

1 منهاج السنة (2/242-243) .

2 مقالات الإسلاميين (ص5) ، منهاج السنة (2/502) .

ص: 127

عظيما، يعرِّض لهم بالعورة وبأنه قد رآه، لعنه الله وأخزاه1.

3ـ الهشامية: ويسمون بالهشامية نسبة إلى هشام بن الحكم الرافضي، وأحياناً تنسب إلى هشام بن سالم الجواليقي، وكلاهما من الإمامية المشبهة، والجدير بالذكر أن الرافضة الإمامية كان ينتشر فيهم التشبيه وهذا في أوائلهم2.

4ـ الجواربية: أتباع داود الجواربي الذي وصف معبوده بأن له جميع أعضاء الإنسان إلا الفرج واللحية3.

وقال: "أعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عما وراء ذلك"4. تعالى الله عما يقوله علواً كبيراً.

وقال الأشعري في المقالات: "وقال داود الجواربي: إن الله جسم، وأن له جُثةٌ وأنه على صورة الإنسان له لحم ودم وشعر وعظم، له جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين، وهو مع هذا لا

1 مقالات الإسلاميين (ص7) ، منهاج السنة (2/503-504) .

2 شرح الأصفهانية (ص65) .

3 الفرق بين الفرق (ص228) ، مقالات الإسلاميين (1/183) ، ودرء تعارض العقل والنقل (4/145) .

4 الملل والنحل للشهرستاني (1/105) .

ص: 128

يشبه غيره ولا يشبهه غيره"1.

وحكي عن داود الجواربي أنه كان يقول: إنه أجوف من فِيهِ إلى صدره، مُصْمَتٌ ما سوى ذلك2.

قال أبو الحسن الأشعري في كتاب "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين": "اختلف الروافض وأصحاب الإمامة في التجسيم وهم ست فرق:

فالفرقة الأولى: (الهشامية) ، أصحاب هشام بن الحكم الرافضي.

يزعمون أن معبودهم جسم، وله نهاية وحَدٌّ، طويل، عريض، عميق، طوله مثل عرضه، وعرضه مثل عمقه، لا يُوفي بعضه على بعض، وزعموا أنه نور ساطع، له قدر من الأقدار، في مكان دون مكان، كالسبيكة الصافية، يتلألأ كاللؤلؤة المستديرة من جميع جوانبها، ذو لون وطعم، ورائحة، ومجسَّة، لونه هو طعمه، وطعمه هو رائحته" وذكر كلاماً طويلاً. وذكر عن هشام أنه قال في ربه في عام واحد خمسة أقاويل، زعم مرة أنه كالبلورة، وزعم مرة أنه كالسبيكة، وزعم مرة أنه غير صورة، وزعم مرة أنه بشبر نفسه سبعة أشبار ثم رجع عن ذلك وقال: هو جسم لا كالأجسام.

1 المقالات (1/209) .

2 منهاج السنة (2/618) .

ص: 129

الفرقة الثانية: من الرافضة يزعمون أن ربهم ليس بصورة ولا كالأجسام، وإنما يذهبون في قولهم: إنه جسم، إلى أنه موجود، ولا يثبتون الباري ذا أجزاء مؤتلفة وأبعاض متلاصقة ويزعمون أن الله على العرش مستو بلا مماسة ولا كيف.

الفرقة الثالثة: من الرافضة، يزعمون أن ربهم على صورة الإنسان، ويمنعون أن يكون جسماً.

الفرقة الرابعة: من الرافضة (الهشامية) أصحاب هشام بن سالم الجواليقي، يزعمون أن ربهم على صورة الإنسان وينكرون أن يكون لحماً ودماً. ويقولون: هو نور ساطع يتلألأ بياضاً، وأنه ذو حواس خمس كحواس الإنسان، له يد، ورجل، وأنف، وأذن، وعين، وفم، وأنه يسمع بغير ما يبصر به وكذلك سائر حواسه متغايرة عنده.

وحكى أبو عيسى الوراق أن هشام بن سالم كان يزعم أن لربه وَفْرَة1 سوداء وأن ذلك نور أسود.

الفرقة الخامسة: يزعمون أن لرب العالمين ضياءً خالصاً، ونوراً بحتاً، وهو كالمصباح الذي من حيث جئته يلقاك بأمر واحد، وليس بذي صورة ولا أعضاء، ولا اختلاف في الأجزاء. وأنكروا أن يكون على صورة

1 الوفرة، الشعر المجتمع على الرأس، أو ما سال على الأذنين، أو ما جاوز شحمة الأذن. القاموس المحيط.

ص: 130

الإنسان أو على صورة شيء من الحيوان.

الفرقة السادسة: من الرافضة يزعمون أن ربهم ليس بجسم ولا بصورة ولا يشبه الأشياء ولا يتحرك ولا يسكن ولا يماس. وقالوا في التوحيد بقول المعتزلة والخوارج، وهؤلاء قوم من متأخريهم، فأما أوائلهم فإنهم كانوا يقولون ما حكينا عنهم من التشبيه.

قال شيخ الإسلام: "وأما متأخريهم من عهد بني بويه ونحوهم من أوائل المائة الرابعة ونحو ذلك فإنهم صار فيهم من يوافق المعتزلة في توحيدهم وعدلهم"1.

وقال أيضاً: "وكتب الشيعة مملوءة بالاعتماد في ذلك -يعنى مسائل الصفات والقدر- على طرق المعتزلة وهذا كان في أواخر المائة الثالثة، وكثر في المائة الرابعة لما صنف لهم المفيد وأتباعه كالموسوي والطوسي.

وأما قدماء الشيعة فالغالب عليهم ضد هذا القول، كما هو قول الهشامية وأمثالهما.

فالرافضة الإمامية وكذلك الزيدية على عقيدة المعتزلة في مسائل الصفات إلى يومنا هذا.

1 نقض تأسيس الجهمية (1/54) .

ص: 131

غلاة المتصوفة

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "قال الأشعري: وفي الأمة قوم ينتحلون النسك، يزعمون أنه جائز على الله تعالى الحلول في الأجسام، وإذا رأوا شيئاً يستحسنونه قالوا: لا ندري، لعل، ربما، هو.

ومنهم من يقول: إنه يرى الله في الدنيا على قدر الأعمال، فمن كان عمله أحسن رأى معبوده أحسن.

ومنهم من يجوِّز على الله تعالى المعانقة والملامسة والمجالسة في الدنيا، ومنهم من يزعم أن الله تعالى ذو أعضاء وجوارح وأبعاض: لحم ودم على صورة الإنسان له ما للإنسان من الجوارح.

وكان من الصوفية رجل يُعرف بأبي شعيب يزعم أن الله يسر ويفرح بطاعة أوليائه، ويغتم ويحزن إذا عَصَوْهُ.

وفي النسَّاك قوم يزعمون أن العبادة تبلغ بهم إلى منزلة تزول عنهم العبادات، وتكون الأشياء المحظورات على غيرهم -من الزنا وغيره- مباحات لهم. وفيهم من يزعم أن العبادة تبلغ بهم إلى أن يروا الله، ويأكلوا من ثمار الجنة، ويعانقوا الحور العين في الدنيا، ويحاربوا الشياطين.

ومنهم من يزعم أن العبادة تبلغ بهم إلى أن يكونوا أفضل من النبيين والملائكة المقربين.

وقلت: هذه المقالات التي حكاها الأشعري -وذكروا أعظم منها- موجودة في الناس قبل هذا الزمان. وفي هذا الزمان منهم من يقول بحلوله

ص: 132

في الصور الجميلة، ويقول إنه بمشاهدة الأمرد يشاهد معبوده أو صفات معبوده أو مظاهر جماله، ومن هؤلاء من يسجد للأمرد. ثم من هؤلاء من يقول بالحلول والاتحاد العام، لكنه يتعبد بمظاهر الجمال، لما في ذلك من اللذة له، فيتخذ إلهه هواه، وهذا موجود في كثير من المنتسبين إلى الفقر والتصوف. ومنهم من يقول إنه يرى الله مطلقاً ولا يعيِّن الصورة الجميلة، بل يقولون إنهم يرونه في صور مختلفة. ومنهم من يقول: إن المواضع المخضرَّة خطا عليها، وإنما اخضرت من وطئه عليها، وفي ذلك حكايات متعددة يطول وصفها.

وأما القول بالإباحة وحل المحرمات -أو بعضها- للكاملين في العلم والعبادة فهذا أكثر من الأول، فإن هذا قول أئمة الباطنية القرامطة الإسماعيلية وغير الإسماعيلية وكثير من الفلاسفة، ولهذا يُضرب بهم المثل فيقال: فلان يستحل دمي كاستحلال الفلاسفة محظورات الشرائع، وقول كثير ممن ينتسب إلى التصوف والكلام، وكذلك من يفضل نفسه أو متبوعه على الأنبياء، موجود كثير في الباطنية والفلاسفة وغلاة المتصوفة وغيرهم، وبسط الكلام على هذا له موضع آخر.

ففي الجملة هذه مقالات منكرة باتفاق علماء السنة والجماعة، وهي -وأشنع منها- موجودة في الشيعة.

وكثير من النسَّاك يظنون أنهم يرون الله في الدنيا بأعينهم، وسبب ذلك أنه يحصل لأحدهم في قلبه بسبب ذكر الله تعالى وعبادته من الأنوار

ص: 133

ما يغيب به عن حسه الظاهر، حتى يظن أن ذلك شيء يراه بعينه الظاهرة، وإنما هو موجود في قلبه.

ومن هؤلاء من تخاطبه تلك الصورة التي يراها خطاب الربوبية ويخاطبها أيضاً بذلك، ويظن أن ذلك كله موجود في الخارج عنه، وإنما هو موجود في نفسه، كما يحصل للنائم إذا رأى ربه في صورة بحسب حاله. فهذه الأمور تقع كثيراً في زماننا وقبله، ويقع الغلط منهم حيث يظنون أن ذلك موجود في الخارج.

وكثير من هؤلاء يتمثل له الشيطان، ويرى نوراً أو عرشاً أو نوراً على العرش، ويقول: أنا ربك. ومنهم من يقول: أنا نبيك، وهذا قد وقع لغير واحد. ومن هؤلاء من تخاطبه الهواتف بخطاب على لسان الإلهية أو غير ذلك، ويكون المخاطب له جنياًّ، كما قد وقع لغير واحد.

لكن بسط الكلام على ما يُرى ويُسمع وما هو في النفس والخارج، وتمييز حقه من باطله ليس هذا موضعه، وقد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع.

وكثير من الجهَّال أهل الحال وغيرهم يقولون: إنهم يرون الله عياناً في الدنيا، وأنه يخطو خطوات"1.

فأدخلوا في ذلك من الأمور ما نفاه الله ورسوله، حتى قالوا: إنه

1 منهاج السنة (2/622-625) .

ص: 134

يُرى في الدنيا بالأبصار، ويصافح، ويعانق، وينزل إلى الأرض، وينزل عشية عرفة راكباً على جمل أورق يعانق المشاة ويصافح الركبان. وقال بعضهم: إنه يندم ويبكى ويحزن، وعن بعضهم أنه لحم ودم، ونحو ذلك من المقالات التي تتضمن وصف الخالق جل جلاله بخصائص المخلوقين.

والله سبحانه منزه عن أن يوصف بشيء من الصفات المختصة بالمخلوقين، وكل ما اختص بالمخلوق فهو صفة نقص، والله تعالى منزَّه عن كل نقص ومستحق لغاية الكمال، وليس له مثل في شيء من صفات الكمال، فهو منزه عن النقص مطلقاً، ومنزه في الكمال أن يكون له مثل، كما قال تعالى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص 1-4] ، فبين أنه أحدٌ صمدٌ، واسمه الأحد يتضمن نفي المثل، واسمه الصمد يتضمن جميع صفات الكمال، كما قد بيَّنا ذلك في الكتاب المصنَّف في تفسير قل هو الله أحد"1.

1 منهاج السنة (2/528-530) .

ص: 135

من نُسب إلى التشبيه:

الكرامية:

الفرق بين التشبيه والتجسيم:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وفي الجملة الكلام في التمثيل والتشبيه ونفيه عن الله مقام، والكلام في التجسيم ونفيه مقام آخر.

فإن الأول دل على نفيه الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة، واستفاض عنهم الإنكار على المشبهة الذين يقولون: يد كيدي، وبصر كبصري، وقدم كقدمي.

وقد قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء} [الشورى 11]، وقال تعالى:{وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص 4]، وقال:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِّيَا} [مريم 65] ، وقال تعالى {فَلَا تَجْعَلُوا لله أَنْدَاداً} [البقرة 22] . وأيضا فنفي ذلك معروف بالدلائل العقلية التي لا تقبل النقيض، وأما الكلام في الجسم والجوهر، ونفيهما أو إثباتهما، فبدعة ليس لها أصل في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا تكلم أحد من السلف والأئمة بذلك نفياً ولا إثباتاً.

والنزاع بين المتنازعين في ذلك: بعضه لفظي، وبعضه معنوي، أخطأ هؤلاء من وجه وأخطأ هؤلاء من وجه.

فإن كان النزاع مع من يقول: هو جسم أو جوهر، إذا قال: لا كالأجسام ولا كالجواهر، وإنما هو في اللفظ.

ص: 136

فمن قال: هو كالأجسام والجواهر، يكون الكلام معه بحسب ما يفسره من المعنى.

فإن كان فسر ذلك بالتشبيه الممتنع على الله تعالى، كان قوله مردوداً.

وذلك بأن يتضمن قوله إثبات شيء من خصائص المخلوقين لله، فكل قول تضمن هذا فهو باطل.

وإن فسر قوله: جسم لا كالأجسام بإثبات معنى آخر، مع تنزيه الرب عن خصائص المخلوقين، كان الكلام معه في ثبوت ذلك المعنى وانتفائه.

فلابد أن يلحظ في هذا إثبات شيء من خصائص المخلوقين للرب أولا، وذلك مثل أن يقول: أصفه بالقدر المشترك بين سائر الأجسام والجواهر، كما أصفه بالقدر المشترك بينه وبين سائر الموجودات، وبين كل حي عليم سميع بصير، وإن كنت لا أصفه بما تختص به المخلوقات، وإلا فلو قال الرجل: هو حي لا كالأحياء، وقادر لا كالقادرين، وعليم لا كالعلماء، وسميع لا كالسمعاء، وبصير لا كالبصراء، ونحو ذلك، وأراد بذلك نفي خصائص المخلوقين، فقد أصاب.

وإن أراد نفي الحقيقة التي للحياة والعلم والقدرة ونحو ذلك، مثل أن يثبت الألفاظ وينفي المعنى الذي أثبته الله لنفسه، وهو من صفات كماله، فقد أخطأ.

ص: 137

إذا تبين هذا فالنزاع بين مثبتة الجوهر والجسم ونفاته، يقع من جهة المعنى فسر شيئين: أحدهما: أنهم متنازعون في تماثل الأجسام والجواهر على قولين معروفين.

فمن قال بتماثلها، قال: كل من قال: إنه جسم لزمه التمثيل.

ومن قال إنها لا تتماثل، قال: إنه لا يلزمه التمثيل.

ولهذا كان أولئك يسمون المثبتين للجسم مشبهة، بحسب ما ظنوه لازماً لهم، كما يسمى نفاة الصفات لمثبتيها مشبهة ومجسمة، حتى سموا جميع المثبة للصفات مشبهة، ومجسمة، وحشوية، وغثاء، وغثراء، ونحو ذلك، بحسب ما ظنوه لازماً لهم.

لكن إذا عرف أن صاحب القول لا يلتزم هذه اللوازم، لم يجز نسبتها إليه على أنها قول له، سواء كانت لازمة في نفس الأمر أو غير لازمة، بل إن كانت لازمة مع فسادها، دل على فساد قوله.

التعريف بالكرامية:

الكرامية1 هم أتباع محمد بن كرام بن عراق بن حزبة السجستاني المتوفى سنة (255هـ) .

1 يبلغ عدد طوائف الكرامية اثنتا عشرة فرقة وأصولها ستة هي:

1-

العابدية، 2- النونية، 3- الزرينية، 4- الإسحاقية، 5- الواحدية، 6- الهيصمية.

"وهم في باب الإيمان مرجئة يقولون: إن الإيمان هو القول فقط فمن تكلم به فهو مؤمن كامل الإيمان، لكن إن كان مقراً بقلبه كان من أهل الجنة، وإن كان مكذباً بقلبه كان منافقاً مؤمناً من أهل النار، وبعض الناس يجكي عنهم أنه من تكلم به بلسانه دون قلبه فهو من أهل الجنة، وهو غلط عليهم، بل يقولون إنه مؤمن كامل الإيمان وإنه من أهل النار". انظر مجموع الفتاوى (13/56) .

وانظر الكلام عن الكرامية في الفصل لابن حزم (4/45، 204-205) ، لسان الميزان (5/353-356) ، والفرق بين الفرق (ص130-137) ، والملل والنحل (1/180-193) .

ص: 138

وهم في باب الصفات يثبتونها ولكنهم خالفوا أهل السنة في مسألتين:

المسألة الأولى: أنهم يبالغون في الإثبات ويخوضون في شأن الكيفية، ودخل عليهم ذلك من جهة إطلاقهم لألفاظ مبتدعة كلفظ (الجسم) ، و (المماسة) .

ومن بدع الكرامية أنهم يقولون في المعبود إنه جسم لا كالأجسام1.

ومن بدعهم قولهم: إن الأزلي الخالق جسم لم يزل ساكنا2.

1 لسان الميزان (5/354) .

2 درء تعارض العقل والنقل (3/6) .

ص: 139

ويقولون: إن الله جسم قديم أزلي، وإنه لم يزل ساكناً ثم تحرك لما خلق العالم، ويحتجون على حدوث الأجسام المخلوقة بأنها مركبة من الجواهر المفردة، فهي تقبل الاجتماع والافتراق، ولا تخلوا من اجتماع وافتراق، وهي أعراض حادثة لا تخلو منها، ومالا يخلو من الحوادث فهو حادث.

وأما الرب فهو عندهم واحد لا يقبل الاجتماع والافتراق، ولكنه لم يزل ساكناً. والسكون عندهم أمر عدمي، وهو عدم الحركة عمَّا من شأنه أن يتحرك، كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة. وهؤلاء يقولون: إن الباري لم يزل خالياً من الحوادث حتى قامت به، بخلاف الأجسام المركَّبة من الجواهر المفردة، فإنها لا تخلو من الاجتماع والافتراق1.

ويقولون: إن الصفات والأفعال لا تقوم إلا بجسم، ويجوزون وجود جسم ينفك من قيام الحوادث به ثم يحدث فتقوم به بعد ذلك2.

ويقول ابن كرام: إن الله مماس للعرش من الصفحة العليا3.

ويقول كذلك: له حد من الجانب الذي ينتهي إلى العرش ولا

1 درء تعارض العقل والنقل (7/227) .

2 المصدر السابق (5/246) .

3 الفرق بين الفرق (ص198) ، والملل والنحل (1/108-109) .

ص: 140

نهاية له1.

وقد غالى أتباع ابن كرام في شأن الكيفية فزعم بعضهم أنه تعالى على بعض أجزاء العرش2.

وادعى بعضهم أن العرش امتلأ به بحيث لا يزيد على عرشه من جهة المماسة، ولا يفضل منه شيء على العرش3 المسألة الثانية: إن الكرامية يثبتون الصفات بما فيها أن الله تعالى تقوم به الأمور التي تتعلق بمشيئته وقدرته، ولكن ذلك عندهم حادث بعد أن لم يكن، أنه يصير موصوفاً بما يحدث بقدرته ومشيئته بعد أن لم يكن كذلك، وقالوا: لا يجوز أن تتعاقب عليه الحوادث، ففرقوا في الحوادث بين تجددها ولزومها، فقالوا بنفي لزومها دون حدوثها.

فعندهم أن الله يتكلم بأصوات تتعلق بمشيئته وقدرته، وأنه تقوم به الحوادث المتعلقة بمشيئته وقدرته، لكن ذلك حادث بعد أن لم يكن، وأن الله في الأزل لم يكن متكلماً إلا بمعنى القدرة على الكلام، وأنه يصير

1 التبصير في الدين (ص112) .

2 الملل والنحل (1/109) .

3 الفرق بين الفرق (ص199) ، وأصول الدين للبغدادي (ص73، 112) ، والملل والنحل (1/109) .

ص: 141

موصوفاً بما يحدث بقدرته ومشيئته بعد أن لم يكن كذلك1.

ومعلوم أن عقيدة السلف تقوم على إثبات جميع الصفات الذاتية منها والفعلية، وأثبتوا أن الله متصف بذلك أزلاً، وأن الصفات الناشئة عن الأفعال موصوف بها في القدم، وإن كانت المفعولات محدثة2.

مقاتل بن سليمان:3

نُسب إلى مقاتل بن سليمان المفسر أنه من المشبهة وذكروا أنه هو الذي قال فيه الإمام أبو حنيفة: "أتانا من المشرق رأيان خبيثان؛ جهم معطل، ومقاتل مشبه"4.

1 انظر مجموع الفتاوى (6/524-525) ، ودرء تعارض العقل والنقل (2/76) .

2 انظر مجموع الفتاوى (6/149، 520-525) .

3 هو أبو الحسن مقاتل بن سليمان بن بشير، الأزدي بالولاء، البلخي، الخراساني، المروزي، أصله من بلخ وانتقل إلى البصرة ودخل بغداد وحدث بها. ذكره الذهبي في آخر ترجمة ابن حيان (تذكرة الحفاظ 1/174) وقال:(فأما مقاتل بن سليمان المفسر فكان في هذا الوقت، وهو متروك الحديث، وقد لطخ بالتجسيم مع أنه كان من أوعية العلم بحراً في التفسير) . وقد توفي بالبصرة سنة (150هـ) . وانظر ترجمته في تهذيب التهذيب (10/279-285) ، ميزان الاعتدال (3/196-197) ، تاريخ بغداد (13/160-169) ، وفيات الأعيان (4/341-343) .

4 لسان الميزان (10/281) .

ص: 142

وقال ابن حبان:"كان يأخذ من اليهود والنصارى من علم القرآن الذي وافق كتبهم، وكان يشبه الرب بالمخلوقات وكان يكذب في الحديث"1.

وقال أبو الحسن الأشعري في "المقالات": "وقال داود الجواربي ومقاتل بن سليمان: إن الله جسم وإنه جثة على صورة الانسان لحمٌ ودمٌ وشعر وعظم، له جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان وعينين وهو مع هذا لا يشبه غيره ولا يشبهه"2.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما مقاتل فالله أعلم بحقيقة حاله، والأشعري ينقل هذه المقالات من كتب المعتزلة، وفيهم انحراف على مقاتل بن سليمان، فلعلهم زادوا في النقل عنه، أو نقلوا عنه، أو نقلوا عن غير ثقة، وإلا فما أظنه يصل إلى هذا الحد. وقد قال الشافعي: من أراد التفسير فهو عيال على مقاتل، ومن أراد الفقه فهو عيال على أبي حنيفة. ومقاتل بن سليمان وإن لم يكن ممن يحتج به في الحديث -بخلاف مقاتل بن حيان فإنه ثقة- لكن لا ريب في علمه في التفسير وغيره واطلاعه، كما أن أبا حنيفة وإن كان الناس خالفوه في أشياء وأنكروها عليه، فلا يستريب أحد في فقهه وفهمه وعلمه، وقد نقلوا عنه أشياء يقصدون بها الشناعة عليه، وهي كذب عليه قطعاً، مثل مسألة الخنزير البري ونحوها،

1 ميزان الاعتدال (4/175) .

2 المقالات (ص209) .

ص: 143

وما يبعد أن يكون النقل عن مقاتل من هذا الباب"1.

وجاء في "وفيات الأعيان" في ترجمة مقاتل بن سليمان: "حكي عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه قال: الناس كلهم عيال على ثلاثة، على مقاتل بن سليمان في التفسير، وعلى زهير بن أبي سلمى في الشعر، وعلى أبي حنيفة في الكلام"2.

1 منهاج السنة (2/618-620) .

2 وفيات الأعيان (4/341) .

ص: 144