الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: الأقوال في صفة الاستواء
المبحث الأول: مذهب السلف في الاستواء
…
المبحث الأول: مذهب السلف في الاستواء
والمقصود بالسلف هم الصحابة والتابعون ومن سار على نهجهم.
ولقد كان قولهم في الاستواء كقولهم في سائر صفات الله فهم وسط بين طائفتين هم المعطلة والمشبهة.
فهم لا يمثلون صفات الله بصفات خلقه، ولا ذاته بذوات خلقه كما يفعل المشبهة.
وكذلك لا ينفون عن الله ما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، فيعطلون أسماءه وصفاته، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويلحدون في أسمائه وآياته كما فعل المعطلة.
بل كان مذهبهم في سائر الصفات -بما في ذلك الاستواء- أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم نفياً وإثباتاً.
وطريقتهم في الإثبات أنهم يثبتون ما أثبته الله من الصفات من غير تكييف لها، ولا تحريف، ولا تمثيل، ولا تعطيل.
وطريقتهم في النفي أنهم ينفون عن الله ما نفاه عن نفسه مع إثبات كمال ضد ذلك المنفي.
فطريقة السلف هي إثبات أسماء الله وصفاته مع نفي مماثلة المخلوقين، إثبات بلا تشبيه وتنزيه بلا تعطيل كما قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى 11] ، ففي قوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} رد للتشبيه والتمثيل، وفي قوله {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} رد للإلحاد والتعطيل1.
ولقد كانت هذه طريقة السلف في جميع الصفات دون تفريق بين صفة وصفة، وفي ذلك يقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى:"لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا نتجاوز القرآن والسنة"2 وبناءاً على هذه القاعدة كان مذهب السلف في صفة الاستواء أنهم يثبتون استواء الله على عرشه استواءاً يليق بجلاله وعظمته، ويناسب كبريائه، وهو بائن من خلقه وخلقه بائنون منه.
فالاستواء صفة ثابتة في القرآن والسنة وقد أجمع سلف الأمة على إثباتها.
وذكر صفة الاستواء جاء في سبعة مواضع من القرآن الكريم،
((1) انظر الرسالة التدمرية (ص4-7) ، المطبعة السلفية، الفتوى الحموية الكبرى (16-17) ، المطبعة السلفية.
2 مجموع الفتاوى (5/26) .
وسيأتي ذكرها كما أن السنة مليئة بالأحاديث الثابتة الصحيحة الدالة على علو الله واستوائه على عرشه.
والسلف يقولون إن معنى هذا الاستواء الوارد في الكتاب والسنة معلوم في اللغة العربية، كما قال ربيعة بن عبد الرحمن، والإمام مالك:"الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة".
فقولهم: (الاستواء معلوم) : أي أن معنى الاستواء معلوم في اللغة، وهو ههنا بمعنى العلو والارتفاع.
قال ابن القيم رحمه الله: "إن لفظ الاستواء في كلام العرب الذي خاطبنا الله بلغتهم وأنزل به كلامه نوعان: مطلق، ومقيد.
فالمطلق: ما لم يوصل معناه بحرف مثل قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص 14]، وهذا معناه: كمل وتم، ويقال: استوى النبات، واستوى الطعام.
وأما المقيد فثلاثة أضرب:
أحدها: مقيد "بإلى" كقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} ، واستوى فلان إلى السطح وإلى الغرفة، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى المعدى بإلى في موضعين من كتابه، الأول في سورة البقرة في قوله {هُوَ
الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} [البقرة 29] ، والثاني في سورة فصلت {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَان} [فصلت 11] ، وهذا بمعنى العلو والارتفاع بإجماع السلف.
الثاني: المقيد "بعلى" كقوله تعالى {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف 13] ، وقوله {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود 44] ، وقوله {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح 29] ، وهذا أيضاً معناه العلو والارتفاع والاعتدال بإجماع أهل اللغة.
الثالث: المقرون "بواو مع" التي تعدى الفعل إلى المفعول معه نحو استوى الماء والخشبة، بمعنى ساواها وهذه معاني الاستواء المعقولة في كلامهم"1.
ومما يؤكد أيضاً أن السلف يعلمون معنى الاستواء قول ابن عبد البر: "والاستواء معلوم في اللغة ومفهوم، وهو العلو والارتفاع على الشيء والاستقرار والتمكن فيه".
قال أبو عبيدة في قوله {اسْتَوَى} قال: علا، قال: وتقول العرب:
1 انظر مختصر الصواعق المرسلة (2/126-127) .
استويت فوق الدابة واستويت فوق البيت، وقال غيره: استوى أي انتهى شبابه واستقر فلم يكن في شبابه مزيد، والاستواء الاستقرار في العلو، وبهذا خاطبنا الله عز وجل فقال:{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} ، وقال:{وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} ، وقال:{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون 28] .
وقال الشاعر:
فأوردتهم ماء بضبضاء قفرة
…
وقد حلق النجم اليماني فاستوى
وهذا لا يجوز أن يتأول فيه أحد: استولى؛ لأن النجم لا يستولي.
وقد ذكر النضر بن شميل -وكان ثقة مأموناً جليلاً في علم الديانة واللغة- قال: "حدثني الخليل -وحسبك بالخليل- قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابي وكان من أعلم من رأيت، فإذا هو على سطح، فسلمنا فرد علينا السلام وقال لنا: استووا فبقينا متحيرين ولم ندر ما قال؟ فقال لنا أعرابي إلى جنبه: إنه أمركم أن ترتفعوا، قال الخليل: هو من قول الله عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَان} فصعدنا إليه"1.
وقال ابن القيم: "إن ظاهر الاستواء وحقيقته هو العلو والارتفاع
1 التمهيد (7/131-132) .
كما نص عليه جميع أهل اللغة والتفسير المقبول" 1.
ولما كان هذا هو معنى الاستواء في لغة العرب فقد تكلم السلف والمفسرون بهذا المعنى عند تفسير هذه الآية، فقد روي عن مجاهد في تفسير قوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْش} قال: علا على العرش2.
وقد روى ابن أبي حاتم في تفسيره بسنده عن أبي العالية في تفسير الآية السابقة الذكر قال: ارتفع3.
وقد روي عن الحسن البصري والربيع بن أنس مثله4.
وقد روى اللالكائي بسنده عن بشر بن عمر قال: "سمعت غير واحد من المفسرين يقولون: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، قال: على العرش استوى: ارتفع"5.
وفي هذا التفسير لمعنى الاستواء من قبل السلف رد على من زعم أن مذهب السلف هو التقيد باللفظ مع تفويض المعنى المراد، وأنهم كانوا لا
1 انظر مختصر الصواعق (2/145) .
2 انظر فتح الباري (13/403) .
3 مجموع الفتاوى (5/519) .
4 مجموع الفتاوى (5/519) .
5 شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/397) .
يفسرون الاستواء ولا يتكلمون فيه، فمن خلال ما تقدم من الأقوال التي نقلت عن السلف يتضح كذب هؤلاء وزيف ادعائهم.
ومما ينبغي معرفته أن السلف مع إثباتهم لمعنى الاستواء واعتقادهم بأن الله مستو على عرشه ومرتفع عليه، إلا أنهم يكلون علم كيفية ذلك الاستواء إلى الله عز وجل لأن أمره هو مما استأثر الله بعلمه. وفي ذلك يقول القرطبي:"ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته كما قال الإمام مالك: (الاستواء معلوم -يعني في اللغة- والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة") 1.
وقال ابن القيم: "إن العقل قد يئس من تعرف كنه صفات الله وكيفيتها، فإنه لا يعلم كيف الله إلا الله. وهذا معنى قول السلف (بلا كيف) ، أي: بلا كيف يعقله البشر، فإنه من لا تعلم حقيقة ذاته وماهيته، كيف تعرف كيفية نعوته وصفاته؟ ولا يقدح ذلك في الإيمان بها، ومعرفة معانيها، فالكيفية وراء ذلك. كما أنا نعرف معاني ما أخبر الله به من حقائق ما في اليوم الآخر، ولا نعرف كيفيتها مع قرب ما بين المخلوق والمخلوق، فعجزنا من معرفة كيفية الخالق وصفاته أعظم وأعظم"2.
1 تفسير القرطبي.
2 مدارج السالكين (3/359) .