الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: المذاهب في تعريف العرش
أولاً: مذهب السلف:
قال الطبري عند قوله تعالى: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر 75]"يعني بالعرش: السرير".
ثم ذكر بسنده عن السدي في تفسير هذه الآية قوله: "محدقين حول العرش قال: العرش: السرير"1.
وقال الطبري في موضع آخر {ذُو العَرْشِ} [غافر 15] يقول: "ذو السرير المحيط بما دونه"2.
وقال البيهقي: "وأقاويل أهل التفسير على أن العرش هو السرير وأنه جسم مجسم خلقه الله وأمر ملائكته بحمله وتعبدهم بتعظيمه والطواف به كما خلق في الأرض بيتاً وأمر بني آدم بالطواف به واستقباله في الصلاة، وفي الآيات والأحاديث والآثار دلالة واضحة على ما ذهبوا
1 تفسير الطبري (24/37-38) .
2 تفسير الطبري (24/49) .
إليه"1.
وقال أيضاً: "العرش هو السرير المشهور فيما بين العقلاء"2.
وقال ابن كثير: "هو سرير ذو قوائم تحمله الملائكة وهو كالقبة على العالم، وهو سقف المخلوقات"3.
وقال الذهبي -بعد أن ذكر سرر أهل الجنة-: "فما الظن بالعرش العظيم الذي اتخذه العلي العظيم لنفسه في ارتفاعه وسعته، وقوائمه وماهيته وحملته، والكروبيين الحافين من حوله، وحسنه ورونقه وقيمته، فقد ورد أنه من ياقوتة حمراء"4.
قلت: وهذا الذي ذكره الطبري والبيهقي وابن كثير والذهبي في تعريف العرش، هو الذي جاءت به الآيات والأحاديث والآثار، وهو ما ذهب إليه سلف الأمة وأئمتها في عرش الله، فهم يعتقدون أن عرش الرحمن هو:
? سرير:
قال ابن قتيبة: "وطلبوا للعرش معنى غير السرير، والعلماء في اللغة لا
1 الأسماء والصفات (2/272) .
2 الاعتقاد (112) .
3 البداية (1/12) .
4 العلو (ص57) .
يعرفون للعرش معنى إلا السرير، وما عرش من السقوف وأشباهها، قال أمية بن أبي الصلت:
مجدوا الله وهو للمجد أهل
…
ربنا في السماء أمسى كبيرا
بالبناء الأعلى الذي سبق الن
…
اس وسوى فوق السماء سريرا
شرجعاً لا يناله بصر العي
…
ن ترى دونه الملائك صورا"1
وقال ابن كثير: "العرش في اللغة عبارة عن السرير الذي للملك، كما قال تعالى {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل 23] . وليس هو فلكاً ولا تفهم منه العرب ذلك، والقرآن إنما نزل بلغة العرب، فهو سرير ذو قوائم
…
"2.
? وأنه ذو قوائم:
قال شارح الطحاوية: "قد ثبت في الشرع أن له قوائم تحمله الملائكة، كما قال صلى الله عليه وسلم: "فإن الناس يصعقون، فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي
1 الاختلاف في اللفظ (ص240) .
2 البداية (1/11-12) .
بصعقة الطور"1 2.
? وأنه مخلوق:
قال الحافظ ابن حجر: "قوله {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة 129] ، إشارة إلى أن العرش مربوب، وكل مربوب مخلوق. وفي إثبات القوائم للعرش دلالة على أنه جسم مركب له أبعاض وأجزاء، والجسم المؤلف محدث مخلوق"3.
? وأن الله سبحانه قد أمر ملائكته بحمله وتعبدهم بتعظيمه:
قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر 7]، وقال تعالى:{َيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة 17] .
وعن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش، إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه
1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الخصومات، باب ما يذكر في الأشخاص والخصومة بين المسلم واليهودي. انظر فتح الباري (5/70) .
ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل (4/101-102) .
2 شرح العقيدة الطحاوية (ص310-311) .
3 فتح الباري (13/405) .
مسيرة سبعمائة عام"1.
? وهو أعلى المخلوقات، وأعظمها، وسقفها، وهو كالقبة على العالم وما تحته بالنسبة إليه كحلقة في فلاة:
قال أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي زمنين في كتابه "أصول السنة": "ومن قول أهل السنة أن الله عز وجل خلق العرش واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق
…
"2.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما العرش فإنه مقبب، لما روي في السنن لأبي داود عن جبير بن مطعم قال: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول جهدت الأنفس، وجاع العيال -وذكر الحديث إلى أن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله على عرشه وإن عرشه على سمواته وأرضه كهكذا"3 وقال بأصابعه مثل القبة
…
وفي علوه" قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه وسط الجنة وأعلاها وفوقه عرش الرحمن، ومنه
1 أخرجه أبو داود في سننه، كتاب السنة، باب في الجهمية (5/96، ح4727) .
أورده ابن كثير في تفسير (4/414) وعزاه لابن أبي حاتم وقال: (إسناده جيد ورجاله كلهم ثقات) .
2 أصول السنة (ص88) .
3 سيأتي تخريجه في قسم التحقيق برقم (19) .
تفجر أنهار الجنة"1.
فقد تبين بهذه الأحاديث أنه أعلى المخلوقات، وسقفها، وأنه مقبب
…
"2.
وفي حديث أبي ذر المشهور قال: قلت يا رسول الله أيما أنزل عليك أعظم؟ قال: "آية الكرسي، ثم قال: يا أبا ذر ما السموات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة"3.
1 أخرجه البخاري في صحيحيه، كتاب التوحيد، باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلمَاءِ} . فتح الباري (13/404) .
2 الفتاوى (5/151) .
3 أخرجه: ابن أبي شيبة في كتاب العرش رقم (58) . وابن حبان في صحيحه (1/76-79) . وأبو الشيخ في العظمة (2/648-649، ح259) . وأبو نعيم في الحلية (1/166) . والبيهقي في الأسماء والصفات (2/300-301، ح862) .
وللحديث أيضاً طرق أخرى ذكرها الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (109)، وقال:(وجملة القول أن الحديث بهذه الطرق صحيح) ، وصححه أيضاً في تعليقه على شرح العقيدة الطحاوية (ص312) ، وتخريجه لأحاديث كتاب "ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة القويمة البرهان" للألوسي (ص140) .
وقد نقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري (13/411) عن ابن حبان تصحيح الحديث وقال: (وله شاهد عن مجاهد أخرجه سعيد بن منصور في تفسيره بسند صحيح عنه) .
وهذا القول للسلف في عرش الله هو ما جاءت به الآيات والأحاديث الصحيحة، وقد كان سلف الأمة وأئمتها دائماً يصرحون بذلك في كتبهم عند الحديث عن هذه المسألة.
وقد وافقهم في هذا القول في عرش الله الكلابية، والكرامية، ومتقدموا الأشاعرة، وبعض الجهمية، والمعتزلة1.
ثانياً: أقوال المخالفين:
القول الأول:
ما زعمه طائفة من الجهمية، والمعتزلة، والماتريدية2، وعامة متأخري الأشاعرة3، من أن معنى العرش في قوله تعالى {لرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} هو الملك.
قال الدارمي في كتابه "الرد على الجهمية": "باب الإيمان بالعرش وهو أحد ما أنكرته المعطلة. فادعت هذه العصابة أنهم يؤمنون بالعرش
1 شرح أصول الخمسة (ص226) ، أصول الدين للبغدادي (ص112) ، الفرق بين الفرق (ص215-216) ، شرح جوهرة التوحيد (ص181) ، نقض التأسيس (1/396، 2/14-15) .
2 هم أتباع أبو منصور، محمد بن محمد الماتريدي، السمرقندي.
انظر قولهم في هذه المسألة في "تأويلات أهل السنة" للماتريدي (1/85) .
3 التبصير في الدين للإسفرائيني (158) .
ويقرون به.
فقلت لبعضهم: ما إيمانكم به إلا كإيمان {لّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} [المائدة 41] ، وكالذين {َإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة 14] ، أتقرون أن لله عرشاً معلوماً، موصوفاً فوق السماء السابعة، تحمله الملائكة، والله فوقه كما وصف نفسه، بائن من خلقه؟
فأبى أن يقر به كذلك، وتردد في الجواب وخلط ولم يصرح.
قال أبو سعيد: فقال لي زعيم منهم كبير: لا، ولكن لما خلق الله الخلق يعني السموات والأرض وما فيهن سمى ذلك كله عرشاً له، واستوى على جميع ذلك كله"1.
وقال ابن تيمية -في سياق كلامه على حملة العرش-: "ثم إن قوله تعالى: {لَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر 7]، وقوله:{َيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة 17] ، يوجب أن لله عرشاً يحمل، يوجب أن ذلك العرش ليس هو الملك، كما تقوله طائفة من
1 الرد على الجهمية (ص12-13) .
الجهمية"1.
وقال الزمخشري: "إنه لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك مما يرادف الملك جعلوه كناية عن الملك، فقالوا: استوى فلان على العرش يريدون ملك، وإن لم يقعد على السرير البتة، وقالوه أيضاً في شهرته في ذلك المعنى ومساواته ملك في مؤداه، وإن كان أشرح، وأبسط، وأدل، على صورة الأمر"2.
وقال البغدادي: "والصحيح عندنا تأويل العرش في هذه الآية على معنى الملك، كأنه أراد أن الملك ما استوى لأحد غيره، وهذا التأويل مأخوذ من قول العرب: ثُلَ عرش فلان، إذا ذهب ملكه، قال متمم بن نويرة في هذا المعنى:
عروشٌ تفانوا بعد عز وأمة
…
هووا بعد ما نالوا السلامة والبقا
وأراد بالعروش، ملوكاً انقرضوا.
وقال سعيد بن زائدة الخزاعي في النعمان بن المنذر:
قد نال عرشاً لم ينله حائل
…
جن ولا إنس ولا ديار
وأراد بالعرش، الملك والسلطان.
وقال النابغة:
1 نقض تأسيس الجهمية
2 الكشاف (2/530) .
بعد ابن جفنة وابن هاتك عرشه
…
والحارثين يؤمنون فلاحا
وأراد بهاتك عرش ابن جفنة سالب ملكه، فصح بهذا تأويل العرش على الملك في آية الاستواء على ما بيناه"1.
الرد عليهم:
ما ذهب إليه هؤلاء المخالفون من تفسير معنى العرش الوارد في الآيات بمعنى الملك، إنما هو تأويل باطلٌ، وصرف للفظ عن معناه إلى معنى آخر لا يحتمله.
والمتأمل لهذا القول يرى ما فيه من التلبيس والمخالفة.
فقد سبق أن ذكرنا في المبحث اللغوي لكلمة (عرش) ، أن لهذه الكلمة عدة معاني في اللغة العربية، ومن المعلوم أن معرفة المعنى المراد من تلك المعاني لهذه الكلمة أو غيرها، إنما يتحدد بحسب سياق الكلمة وبحسب ما أضيفت إليه. وليس في سياق الآيات ما يثبت صحة ما ذهبوا إليه، كما أن ما استدل به هؤلاء المخالفون من الأبيات الشعرية ليس إلا دليلا على أن الملك هو من المعاني اللغوية لكلمة (عرش) ، وهذا أمر لا خلاف فيه.
وهذا الاستدلال يماثل ما لو استدللنا على أن من معاني كلمة
1 أصول الدين (ص112) .
وانظر أيضاً التفسير الكبير للرازي (14/115) ، وروح المعاني (11/65) .
العرش: السقف، بقوله تعالى:{َهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة 259] ، فليس في هذه الأبيات أي إشارة لا من قريب ولا من بعيد على أن الملك هو المعنى المراد في الآيات الواردة في العرش. بل إن المتأمل للآيات والأحاديث الواردة في هذه المسألة يرى أنها تدل دلالة واضحة وصريحة على أن المراد بالعرش هو ذلك المخلوق العظيم الذي خلقه الله تعالى فوق العالم كله، ثم استوى عليه بعد أن خلق السموات والأرض، وكذلك ترد على هؤلاء المخالفين زعمهم الباطل الذي هو في الحقيقة تحريف لكلام الله.
فيا ترى ماذا يصنع ذلك المخالف الذي يزعم أن العرش إنما هو كناية عن الملك والسلطان بقوله تعالى: {َكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} [هود7] ، هل يزعم أن الملك كان على الماء؟
وكذلك ماذا يصنع بقوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة 17]، أيقول: ويحمل ملكه يومئذ ثمانية؟
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش"1. أيقول آخذ بقائمة من قوائم الملك؟
1 تقدم تخريجه في (ص7) .
وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: "اهتز عرش الرحمن"1، أيقول: اهتز ملكه وسلطانه؟
القول الثاني:
زعم طائفة من الفلاسفة أن العرش فلك مستدير من جميع الجوانب محيط بالعالم من كل جهة، وهو محدود الجهات، وربما سموه الفلك الأطلس، أو الفلك التاسع، أو الأثير، أو الفلك الأعلى2.
وفي ذلك يقول ابن سينا في رسالته " إثبات النبوات وتأويل رموزهم وأمثالهم": "ومن السهل عليك أن تفهم كيف أن العرش بنص القرآن يحمله ثمانية، فهذه الثمانية هي: الثمانية أفلاك التي تحت هذا الفلك المحيط"3.
1 أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2/371) . وأحمد في المسند (3/316) ، وفي فضائل الصحابة (2/818) . والبخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب مناقب سعد بن معاذ رضي الله عنه، مثله. فتح الباري (7/122-123) . ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة (7/150) . وابن ماجة في سننه، المقدمة (1/56) .
2 البداية (1/11) ، الرسالة العرشية (ص2) ، مفردات (ص329) ، روح المعاني (24/45) .
3 نقلاً عن كتاب "ابن سينا بين الدين والفلسفة"(ص137-139) .
الرد عليهم:
إن المتأمل لكلام هؤلاء الفلاسفة كابن سينا وأمثاله يرى مدى انحرافهم، حتى إنهم وصلوا إلى درجة اعتقادهم أنه لا موجود إلا ما علموه.
ولهذا كان هؤلاء الذين عرفوا ما عرفته الفلاسفة إذا سمعوا إخبار الأنبياء بالملائكة والعرش والكرسي والجنة والنار، صاروا حائرين ومتأولين لكلام الأنبياء على ما عرفوه وعلى ما تعلموه، وإن كان هذا التأويل لا دليل لهم عليه سوى ظنهم الفاسد بأنه لا موجود إلا ما عرفوه، فقالوا العرش هو: الفلك التاسع، والكرسي هو: الفلك الثامن. فنفوا ما ليس لهم به علم1 فانطبق عليهم قوله تعالى {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس 39] .
وقد ثبت أنه ليس لهؤلاء دليل يتمسكون به لا من الشرع ولا من العقل، وأن الذي دفعهم إلى هذا القول هو أنهم نظروا في علم الهيئة وعلوم الفلسفة فرأوا أن الأفلاك تسعة، وأن التاسع وهو الأطلس محيط بها ومستدير كاستدارتها وهو الذي يحركها الحركة الشوقية، وأن لكل فلك حركة تخصه غير هذه الحركة العامة، ثم سمعوا في أخبار الأنبياء صلوات
1 الفتاوى (17/335-336) .
الله وسلامه عليهم ذكر عرش الله، وذكر السموات السبع، فقالوا بطريق الظن أن العرش هو الفلك التاسع، لاعتقادهم أنه ليس وراء التاسع شيء، إما مطلقاً وإما أنه ليس وراءه مخلوق1.
وهم معترفون بأنه لم يقم لديهم دليل عقلي على صحة قولهم هذا، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن أئمة الفلاسفة مصرحون بأنه لم يقم عندهم دليل على أن الأفلاك هي تسعة فقط، بل يجوز أن تكون أكثر من ذلك، ولكن دلتهم الحركات المختلفة والكسوفات ونحو ذلك على ما ذكروه، وما لم يكن لهم دليل على ثبوته فهم لا يعلمون ثبوته ولا انتفاءه.
مثال ذلك: أنهم علموا أن هذا الكوكب تحت هذا بأن السفلي يكسف العلوي من غير عكس، فاستدلوا بذلك على أنه من فلك فوقه، كما استدلوا بالحركات المختلفة على أن الأفلاك مختلفة حتى جعلوا في الفلك الواحد عدة أفلاك، كفلك التدوير وغيره، فأما ما كان موجوداً فوق هذا ولم يكن لهم ما يستدلون به على ثبوته، فهم لا يعلمون نفيه ولا إثباته بطريقهم. وإذا كان هؤلاء ليس عندهم ما ينفي وجود شيء آخر فوق الأفلاك التسعة، كان الجزم بأن ما أخبرت به الرسل من أن العرش
1 الرسالة العرشية (ص2-3) .
هو الفلك التاسع رجماً بالغيب وقولاً بلا علم"1.
ومع عدم وجود الدليل العقلي عند هؤلاء على صحة زعمهم فكذلك الأدلة الشرعية ترد زعمهم هذا وتبطله.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض رده على هؤلاء الفلاسفة المتكلمين في رسالته العرشية أن الآيات والأحاديث قد دلت على أن العرش مباين لغيره من المخلوقات وأن الله قد اختصه وميزه بأمور كثيرة منها: أن له حملة يحملونه اليوم ويوم القيامة، وأن الله قد أخبر بوجوده قبل خلق السموات والأرض وقبل وجود الأفلاك وأن الله سبحانه تمدح نفسه بأنه ذو العرش، ووصف العرش بأنه مجيد، وعظيم، وكريم، فكل هذه الميزات والخصائص تبطل قول المنازع لأنه يقول بأن نسبة الفلك الأعلى إلى ما دونه كنسبة الآخر إلى ما دونه، ذلك لأنه لو كان العرش من جنس الأفلاك لكان إلى ما دونه كنسبة الآخر إلى ما دونه، وهذا لا يوجب خروجه عن الجنس وتخصيصه بالذكر2.
كما أن مما يدل على فساد قولهم ما ثبت في الشرع من أن للعرش قوائم وأنه يهتز، ومعلوم أن الأفلاك مستديرة وليس لها قوائم، كما أنها متحركة دائماً بحركة متشابهة لا تتغير، كما ثبت أيضاً أن العرش أثقل
1 الرسالة العرشية (ص2) .
2 المصدر السابق (ص3-7) .
الأوزان، وهم يقولون إن الفلك لا ثقيل ولا خفيف1.
فعلم مما تقدم انتفاء الدليل العقلي عند هؤلاء كما علم مخالفتهم للأدلة الشرعية وإبطالها لأقوالهم، ويضاف إلى هذا مخالفتهم للغة العرب، فالعرب لا تفهم من كلمة العرش هذا المعنى ولا هو مستعمل في لغتها، والقرآن إنما نزل بما يفهمون.
وبعد هذا كله لا تبقى أدنى شبهة في فساد هذا القول وبطلانه والله أعلم.
1 جلاء العينين في محاكمة الأحمدين (ص363) .