الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: درجات تعطيلهم
…
المبحث الثاني: درجات التعطيل في باب الأسماء والصفات عموماً
من سبر أقوال أهل التعطيل يجدها من حيث العموم تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: نفي جميع الأسماء والصفات.
وهذا قول الجهمية أتباع جهم بن صفوان1، والفلاسفة، سواء كانوا أصحاب فلسفة محضة كالفارابي2، أو فلسفة باطنية إسماعيلية قرمطية كابن سينا3، أو فلسفة صوفية اتحادية كابن عربي وابن سبعين وابن الفارض.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه: " والتحقيق أن التجهم المحض وهو نفي الأسماء والصفات، كما يُحكي عن جهم والغالية من الملاحدة ونحوهم من نفي أسماء الله الحسنى، كفر بين مخالف لما علم بالاضطرار من دين الرسول "4
1 مجموع الفتاوى (6/135، 5/355، 13/131) ، درء تعارض العقل والنقل (3/367) .
2 منهاج السنة (2/523، 524) .
3 شرح العقيدة الأصفهانية (ص76) .
4 النبوات (ص198) .
القسم الثاني: نفي الصفات دون الأسماء.
وهذا قول المعتزلة، ووافقهم عليه ابن حزم الظاهري1، والزيدية، والرافضة الإمامية، والإباضية. فالمعتزلة يجمعون على تسمية الله بالاسم ونفي الصفة عنه.
يقول ابن المرتضى المعتزلي: " فقد أجمعت المعتزلة على أن للعالم مُحدثاً قديماً قادراً عالماً حياًّ لا لمعان....."2.
القسم الثالث: إثبات الأسماء وبعض الصفات ونفي البعض الآخر.
وهذا قول الكلابية والأشاعرة والماتريدية.
فالكلابية وقدماء الأشاعرة: يثبتون الأسماء والصفات ما عدا الصفات الاختيارية3 (أي التي تتعلق بمشيئته واختياره) فهم إما يؤولونها أو يثبتونها على اعتبار أنها أزلية وذلك خوفاً منهم على حد زعمهم من حلول الحوادث بذات الله4 أو يجعلونها من صفات الفعل المنفصلة عن الله
1 درء تعارض العقل والنقل (5/249، 250) .
2 كتاب باب ذكر المعتزلة من كتاب المنيه والأمل (ص6) .
وانظر شرح الأصول الخمسة (ص151) ، ومقالات الإسلاميين (ص164، 165) ، مجموع الفتاوى (5/355) .
3 مجموع الفتاوى (13/131) .
4 موقف ابن تيمية من الأشاعرة (2/506) .
التي لا تقوم به1.
وأما الأشاعرة المتأخرون ومعهم الماتريدية، فهم يثبتون الأسماء وسبعاً من الصفات هي (الحياة، العلم، القدرة، السمع، البصر، الإرادة، الكلام) ويزيد بعض الماتريدية صفة ثامنة هي (التكوين) 2 وينفون باقي الصفات ويؤولون النصوص الواردة فيها ويحرفون معانيها.
1 المصدر السابق (2/544) .
2 انظر تحفة المريد (ص63) ، وإشارات المرام (ص107، 114) ، وكتاب الماتريدية دراسة وتقويم (ص239) ، وكتاب الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات (2/430) ، ومنهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله (ص401) .
المطلب الثاني: درجات تعطيلهم في باب الأسماء الحسنى.
القول الأول: من يقول إن الله لا يسمى بشيء.
وهذا قول الجهمية أتباع جهم بن صفوان، والغالية من الملاحدة كالقرامطة الباطنية والفلاسفة.
وهؤلاء المعطلة لهم في تعطيلهم لأسماء الله أربعة مسالك هي:
المسلك الأول: الاقتصار على نفي الإثبات فقالوا: لا يسمى بإثبات.
المسلك الثاني: أنه لا يسمى بإثبات ولا نفي.
المسلك الثالث: السكوت عن الأمرين الإثبات والنفي.
المسلك الرابع: تصويب جميع الأقوال بالرغم من تناقضها.
فهذا الصنف من المعطلة اتفقوا على إنكار الأسماء جميعها، ولكن تنوعت مسالكهم في الإنكار.
1ـ فأصحاب المسلك الأول: اقتصروا على قولهم: بأنه ليس له اسم كالحي والعليم ونحو ذلك. وشبهتهم في ذلك:
أ- أنه إذا كان له اسم من هذه الأسماء لزم أن يكون متصفا بمعنى الاسم كالحياة والعلم، فإن صدق المشتق -أي الاسم كالعليم- مستلزم لصدق المشتق منه -أي الصفة كالعلم- وذلك محال عندهم.
ب- ولأنه إذا سمي بهذه الأسماء فهي مما يسمى به غيره. والله منزه عن مشابهة الغير1.
فهؤلاء المعطلة المحضة -نفاة الأسماء- يسمون من سمى الله بأسمائه الحسنى مشبهاً. فيقولون: إذا قلنا حي عليم فقد شبهناه بغيره من الأحياء العالمين وكذلك إذا قلنا هو سميع بصير فقد شبهناه بالإنسان السميع البصير، وإذا قلنا رؤوف رحيم فقد شبهناه بالنبي الرؤوف الرحيم، بل قالوا إذا قلنا موجود فقد شبهناه بسائر الموجودات لاشتراكهما في مسمى الوجود2.
وهذا المسلك ينسب لجهم بن صفوان، قال شيخ الإسلام
ابن تيمية: " جهم كان ينكر أسماء الله تعالى فلا يسميه شيئاً لا حيا ولا غير ذلك إلا على سبيل المجاز "3 وهو قول الباطنية من الفلاسفة والقرامطة فهم يقولون لا نسميه حيًّا ولا عالماً ولا قادراً ولا متكلماً إلا مجازاً بمعنى السلب والإضافة: أي هو ليس بجاهل ولا عاجز4 وهذا
1 انظر مجموع الفتاوى (6/35، 3/100) ، ودرء تعارض العقل والنقل (3/367) ، وكتاب الصفدية (1/88-89، 96-97) .
2 منهاج السنة (2/523، 534) .
3 مجموع الفتاوى (12/311) .
4 مجموع الفتاوى (5/355) .
كذلك قول ابن سينا وأمثاله1.
2ـ وأما أصحاب المسلك الثاني: فقد زادوا في الغلو فقالوا: لا يسمى بإثبات ولا نفي، ولا يقال موجود ولا لا موجود ولا حي ولا لاحي. لأن في الإثبات تشبيهاً بالموجودات، وفي النفي تشبيهاً له بالمعدومات. وكل ذلك تشبيه. وهذا المسلك ينسب لغلاة المعطلة من القرامطة الباطنية والمتفلسفة2.
3ـ وأما أصحاب المسلك الثالث فيقولون: نحن لا نقول ليس بموجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، فلا ننفي النقيضين، بل نسكت عن هذا وهذا، فنمتنع عن كل من المتناقضين، لا نحكم بهذا ولا بهذا، فلا نقول ليس بموجود ولا معدوم، ولكن لا نقول هو موجود ولا نقول هو معدوم.
ومن الناس من يحكى هذا عن الحلاج، وحقيقة هذا القول هو الجهل البسيط والكفر البسيط، الذي مضمونه الإعراض عن الإقرار بالله ومعرفته وحبه وذكره وعبادته ودعائه3.
وأصحاب هذا المسلك هم المتجاهلة اللاأدرية.
1 الصفدية (1/299-300) .
2 مجموع الفتاوى (6/35، 3/100) ، شرح الأصفهانية (ص76، 80) .
3 كتاب الصفدية (1/96-98) ، شرح الأصفهانية (ص84) .
وأصحاب المسلك الثاني هم المتجاهلة الواقفة الذين يقولون لا نثبت ولا ننفي.
وأصحاب المسلك الأول هم المكذبة النفاة.
والملاحظ أن كل فريق من هؤلاء يهدم ما بناه من قبله فلما اقتصر أصحاب المسلك الأول على النفي وامتنعوا عن الإثبات بحجة أن في الإثبات تشبيهاً له بالموجودات جاء أصحاب المسلك الثاني فزادوا في الغلو وزعموا أن في النفي كذلك تشبيهاً له بالجمادات فمنعوا النفي أيضا ثم جاء أصحاب المسلك الثالث فاتهموا أصحاب المسلك الثاني بأنهم شبهوه بالممتنعات لأن قولهم يقوم على نفي النقيضين وهذا ممتنع.
4ـ وهناك مسلك رابع: وهو مسلك أصحاب وحدة الوجود الذين يعطون أسماءه سبحانه لكل شيء في الوجود، إذ كان وجود الأشياء عندهم هو عين وجوده ما ثمت فرق إلا بالإطلاق والتقييد1.
وهذا منتهى قول طوائف المعطلة2 وغاية ما عندهم في الإثبات قولهم هو: (وجود مطلق) أي وجود خيالي في الذهن، أو وجود مقيد بالأمور السلبية 3.
1 شرح القصيدة النونية للهراس (2/126) .
2 الصفدية (1/98، 99) .
3 الصفدية (1/116، 117) .
القول الثاني: أن الله يسمى باسمين فقط هما: "الخالق" و "القادر".
وهذا القول منسوب للجهم بن صفوان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كان الجهم وأمثاله يقولون: إن الله ليس بشيء، وروى عنه أنه قال: لا يسمى باسم يسمى به الخلق، فلم يسمه إلا "بالخالق" و"القادر" لأنه كان جبريا يرى أن العبد لا
قدرة له"1.
وقال رحمه الله: "ولهذا نقلوا عن جهم أنه لا يسمي الله بشيء، ونقلوا عنه أنه لا يسميه باسم من الأسماء التي يسمى بها الخلق: كالحي، والعالم، والسميع، والبصير، بل يسميه قادراً خالقاً، لأن العبد عنده ليس بقادر، إذ كان هو رأس الجهمية الجبرية "2.
القول الثالث: إثبات الأسماء مجردة عن الصفات.
وهذا قول المعتزلة ووافقهم عليه ابن حزم الظاهري. وتبع المعتزلة على ذلك الزيدية، والرافضة الإمامية، وبعض الخوارج.
فالمعتزلة يجمعون على تسمية الله بالاسم ونفي الصفة عنه.
يقول ابن المرتضى المعتزلي: "فقد أجمعت المعتزلة على أن للعالم
1 منهاج السنة (2/526، 527) ، وانظر الأنساب للسمعاني (2/133) .
2 درء تعارض العقل والنقل (5/187) ، مجموع الفتاوى (8/460) .
مُحدثاً قديماً، قادراً، عالماً، حياًّ لا لمعان"1.
وابن حزم وافق المعتزلة في ذلك فهو يرى أن الأسماء الحسنى كالحي، والعليم، والقدير، بمنزلة أسماء الأعلام التي لا تدل على حياة ولا علم، ولا قدرة، وقال:"لا فرق بين الحي وبين العليم في المعنى أصلاً"2.
والمعتزلة لهم في نفيهم لتضمن الأسماء للصفات مسلكان:
المسلك الأول: من جعل الأسماء كالأعلام المحضة المترادفة التي لم توضع لمسماها باعتبار معنى قائم به. فهم بذلك ينظرون إلى هذه الأسماء على أنها أعلام محضة لا تدل على صفة. و (المحضة) الخاصة الخالية من الدلالة على شيء آخر، فهم يقولون: إن العليم والخبير والسميع ونحو ذلك أعلام لله ليست دالة على أوصاف، وهي بالنسبة إلى دلالتها على ذات واحدة هي مترادفة، وذلك مثل تسميتك ذاتاً واحدة (بزيد وعمرو ومحمد وعلي) فهذه الأسماء مترادفة وهي أعلام خالصة لا تدل على صفة لهذه الذات المسماة بها3.
1 كتاب ذكر المعتزلة (ص6) ، وانظر شرح الأصول الخمسة (ص151) ، مقالات الإسلاميين (ص164-165) .
2 الفصل (2/161) ، وانظر شرح الأصفهانية (ص76) ، درء تعارض العقل والنقل (5/249-250) .
3 التحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية (1/46) .
والمسلك الثاني: من يقول منهم إن كل عَلَم منها مستقل، فالله يسمى عليماً وقديراً، وليست هذه الأسماء مترادفة، ولكن ليس معنى ذلك أن هناك حياة أو قدرة1 ولذلك يقولون عليم بلا علم، قدير بلا قدرة، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر.
القول الرابع: إثبات الأسماء الحسنى مع إثبات معاني البعض وتحريف معاني البعض الآخر.
وهذا قول الكلابية والأشاعرة والماتريدية.
فهؤلاء وإن كانوا يوافقون أهل السنة والجماعة في إثبات ألفاظ الأسماء الحسنى لكنهم يخالفونهم في إثبات بعض معاني تلك الأسماء.
فمن المعلوم أن كل اسم من أسماء الله متضمن لصفة. وللكلابية والأشاعرة والماتريدية قول في الصفات يخالف قول أهل السنة والجماعة. فالكلابية وقدماء الأشاعرة ينفون صفات الأفعال الاختيارية وبالتالي لا يثبتون الصفات التي تضمنتها الأسماء إذا كانت من هذا القبيل كالخالق والرزاق ونحوها، على تفصيل سيأتي ذكره عند الحديث عن موقفهم من الصفات.
وأما المتأخرون من الأشاعرة ومعهم الماتريدية، فإنهم لا يثبتون من الصفات سوى سبع صفات هي (العلم، القدرة، الحياة، السمع، البصر، الإرادة، الكلام) ويزيد بعض الماتريدية صفة ثامنة هي (التكوين) . فالاسم
1 التحفة المهدية (1/46) .
عندهم إن دل على ما أثبتوه من الصفات، أثبتوا ما دل عليه من المعنى، وإن كان دالاً على خلاف ما أثبتوه صرفوه عن حقيقته وحرفوا معناه.
ومعلوم أنه لم يرد في باب الأسماء من تلك الصفات التي ذكروها إلا خمسة فقط وهي (العليم) و (القدير) و (الحي) و (السميع) و (البصير) فهذه الخمسة يثبتون معانيها، وإن كان هناك من يرجع صفتي (السمع) و (البصر) إلى (العلم) ، ولكن جمهورهم على خلاف ذلك1.
وأما بقية الأسماء التي لا تتفق مع ما أثبتوه من الصفات، فإنهم لا يثبتون ما دلت عليه من المعاني، بل يحرفونها كتحريفهم لمعنى (الرحمة) في اسمه (الرحمن) إلى إرادة الثواب أو إرادة (الإنعام) ، و (الود) في (الودود) بـ (إرادة إيصال الخير)2.
1 لباب العقول للمكلاتي (ص213، 214) ، شرح الأصفهانية (ص445) ، المسايرة لابن الهمام ص67، الماتريدية دراسة وتقويم (ص264) ، الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات (2/413) ، منهج أهل السنة ومنهج الأشاعرة في التوحيد (ص409) .
2 شرح الأسماء الحسنى للرازي (ص287) .
المطلب الثالث: درجات تعطيلهم في باب صفات الله تعالى.
القول الأول: نفاة جميع الصفات
وهذا قول الغلاة من المعطلة، ومنهم الجهمية أتباع جهم والفلاسفة سواء كانوا أهل فلسفة محضة كالفارابي أو فلسفة باطنية رافضية إسماعيلية كابن سينا وإخوان الصفا أو فلسفة صوفية اتحادية كابن عربي وابن سبعين.
وهذا القول بنفي الصفات هو قول المعتزلة ومن تبعهم كالزيدية والرافضة الإمامية والخوارج الإباضية وكذلك هو قول النجارية والضرارية.
فهؤلاء جميعاً لا يثبتون الصفات لله تعالى، وقد تنوعت أساليب تعطيلهم وطرق إنكارهم لها، ويمكن تصنيفهم إلى صنفين:
1ـ غلاة المعطلة
2ـ المعتزلة ومن وافقهم.
1ـ فغلاة المعطلة: يمنعون الإثبات بأي حال من الأحوال ولهم في النفي درجات:
الدرجة الأولى: درجة المكذبة النفاة.
وهي التي عليها الجهمية وطائفة من الفلاسفة1 وهو كذلك قول
1 مجموع الفتاوى (3/7-8) .
ابن سينا وأمثاله1.
فهم يصفون الله بالصفات السلبية على وجه التفصيل ولا يثبتون له إلا وجوداً مطلقاً لا حقيقة له عند التحصيل وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان، يمتنع تحققه في الأعيان2 فهؤلاء وصفوه بالسلوب والإضافات دون صفات الإثبات وجعلوه هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، وقد علم بصريح العقل أن هذا لا يكون إلا في الذهن، لا فيما خرج عنه من الموجودات3.
الدرجة الثانية: المتجاهلة الواقفة.
الذين يقولون لا نثبت ولا ننفي، وهذه الدرجة تنسب لغلاة المعطلة من القرامطة الباطنية المتفلسفة4.
فهؤلاء هم غلاة الغلاة5 لأنهم يسلبون عنه النقيضين فيقولون: لا موجود، ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، لأنهم يزعمون أنهم إذا وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات، وإذا وصفوه
1 الصفدية (1/299، 300) .
2 مجموع الفتاوى (3/7) ، شرح الأصفهانية (ص51، 52) .
3 مجموع الفتاوى (3/8) .
4 شرح العقيدة الأصفهانية (ص76) .
5 مجموع الفتاوى (3/100) .
بالنفي شبهوه بالمعدومات فسلبوا النقيضين، وهذا ممتنع في بداهة العقول؛ وحرفوا ما أنزل الله من الكتاب وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فوقعوا في شر مما فروا منه، فإنهم شبهوه بالممتنعات إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين، كلاهما من الممتنعات1.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " فالقرامطة الذين قالوا لا يوصف بأنه حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، بل قالوا لا يوصف بالإيجاب ولا بالسلب، فلا يقال حي عالم ولا ليس بحي عالم، ولا يقال هو عليم قدير ولا يقال ليس بقدير عليم، ولا يقال هو متكلم مريد، ولا يقال ليس بمتكلم مريد، قالوا لأن في الإثبات تشبيهاً بما تثبت له هذه الصفات، وفي النفي تشبيه له بما ينفي عنه هذه الصفات "2.
الدرجة الثالثة: المتجاهلة اللاأدرية.
الذين يقولون: نحن لا نقول ليس بموجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت، فلا ننفي النقيضين، بل نسكت عن هذا وهذا، فنمتنع عن كل من المتناقضين، لا نحكم بهذا ولا بهذا، فلا نقول: ليس بموجود ولا معدوم ولكن لا نقول هو موجود ولا نقول هو معدوم.
1 مجموع الفتاوى (3/7-8) .
2 شرح العقيدة الأصفهانية (ص76) .
ومن الناس من يحكي نحو هذا عن الحلاج، وحقيقة هذا القول هو الجهل البسيط والكفر البسيط، الذي مضمونه الإعراض عن الإقرار بالله ومعرفته وحبه وذكره وعبادته ودعائه1.
الدرجة الرابعة: أهل وحدة الوجود
الذين لا يميزون الخالق بصفات تميزه عن المخلوق، ويقولون بأن وجود الخالق هو وجود المخلوق. فعلى سبيل المثال هم يقولون بأن الله هو المتكلم بكل ما يوجد من الكلام وفي ذلك يقول ابن عربي:
ألا كل قول في الوجود كلامه
…
سواء علينا نثره ونظامه
يعم به أسماع كل مكون
…
فمنه إليه بدؤه وختامه2
فيزعمون أنه هو المتكلم على لسان كل قائل. ولا فرق عندهم بين قول فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات 24] و {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص 28] وبين القول الذي يسمعه موسى {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه 14] . بل يقولون: إنه الناطق في كل شيء، فلا يتكلم إلا هو، ولا يسمع إلا هو، حتى قول
1 الصفدية (1/96، 98) .
2 الفتوحات المكية (4/141) ط: دار صادر، بيروت.
مسيلمة الكذاب، والدجال، وفرعون، يصرحون بأن أقوالهم هي قوله"1.
وهذا قول أصحاب وحدة الوجود كابن عربي، وابن سبعين وابن الفارض، والعفيف التلمساني.
وأصل مذهبهم: أن كل واحد من وجود الحق، وثبوت الخلق يساوى الآخر ويفتقر إليه، وفي هذا يقول ابن عربي:
فيعبدني وأعبده
…
ويحمدني وأحمده2
ويقول: إن الحق يتصف بجميع صفات العبد المحدثات، وإن المحدث يتصف بجميع صفات الرب، وإنهما شيء واحد إذ لا فرق في الحقيقة بين الوجود والثبوت.3 فهو الموصوف عندهم بجميع صفات النقص والذم والكفر والفواحش والكذب والجهل، كما هو الموصوف عندهم بصفات المجد والكمال فهو العالم والجاهل، والبصير والأعمى، والمؤمن والكافر، والناكح والمنكوح، والصحيح والمريض، والداعي والمجيب، والمتكلم والمستمع، وهو عندهم هوية العالم ليس له حقيقة مباينة للعالم، وقد يقولون لا هو العالم ولا غيره، وقد يقولون: هو العالم أيضا وهو غيره، وأمثال هذه المقالات التي يجمع فيها في المعنى بين النقيضين مع سلب
1 بغية المرتاد (ص349) .
2 فصوص الحكم (1/83) .
3 بغية المرتاد (ص397، 398) .
النقيضين1.
وهؤلاء الاتحادية يجمعون بين النفي العام والإثبات العام فعندهم أن ذاته لا يمكن أن ترى بحال وليس له اسم ولا صفة ولا نعت، إذ هو الوجود المطلق الذي لا يتعين، وهو من هذه الجهة لا يرى ولا اسم له.
ويقولون: إنه يظهر في الصور كلها، وهذا عندهم هو الوجود الاسمي لا الذاتي، ومن هذه الجهة فهو يرى في كل شيء، ويتجلى في كل موجود، لكنه لا يمكن أن ترى نفسه، بل تارة يقولون كما يقول ابن عربي: ترى الأشياء فيه، وتارة يقولون يرى هو في الأشياء وهو تجليه في الصور، وتارة يقولون كما يقول ابن سبعين:
عين ما ترى ذات لا ترى
…
وذات لا ترى عين ما ترى
وهم مضطربون لأن ما جعلوه هو الذات عدم محض، إذ المطلق لا وجود له في الخارج مطلقاً بلا ريب، لم يبق إلا ما سموه مظاهر ومجالي، فيكون الخالق عين المخلوقات لا سواها، وهم معترفون بالحيرة والتناقض مع ما هم فيه من التعطيل والجحود2.
وفي هذا يقول ابن عربي:
فإن قلت بالتنزيه كنت مقيداً
…
وإن قلت بالتشبيه كنت محدداً
1 بغية المرتاد (ص408) .
2 بغية المرتاد (ص473) .
وإن قلت بالأمرين كنت مسدداً
…
وكنت إماماً في المعارف سيداً
فمن قال بالإشفاع كان مشركاً
…
ومن قال بالإفراد كان موحداً
فإياك والتشبيه إن كنت ثانياً
…
وإياك والتنزيه إن كنت مفرداً
فما أنت هو بل أنت هو وتراه
…
في عين الأمور مسرحا ومقيداً1
خلاصة أقوال غلاة المعطلة:
كلام غلاة المعطلة المتقدم ذكره يدور على أحد أصلين:
1ـ الأصل الأول:
النفي والتعطيل الذي يقتضي عدمه، بأن جعلوا الحق لا وجود له، ولا حقيقة له في الخارج أصلاً وإنما هو أمر مطلق في الأذهان. وهذا الذي عليه المكذبة النفاة، والمتجاهلة الواقفة، والمتجاهلة اللاأدرية.
2ـ الأصل الثاني:
أن يجعلوا الحق عين وجود المخلوقات، فلا يكون للمخلوقات خالق غيرها أصلاً، ولا يكون رب كل شيء ولا مليكه. وهذا الذي عليه حال أهل وحدة الوجود الاتحادية في أحد حاليهم فهذا حقيقة قول القوم وإن كان بعضهم لا يشعر بذلك.
1 بغية المرتاد (ص527) .
ولذلك كان الغلاة من القرامطة والباطنية والفلاسفة والاتحادية نسخة للجهمية الذين تكلم فيهم السلف والأئمة، مع كون أولئك كانوا أقرب إلى الإسلام. فقد كان كلام الجهمية يدور أيضاً على هذين الأصلين فهم يظهرون للناس والعامة أن الله بذاته موجود في كل مكان، أو يعتقدون ذلك.
وعند التحقيق يصفونه بالسلب الذي يستوجب عدمه كقولهم: ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا مباين له ولا محايث، ولا متصل به ولا منفصل عنه، وأشباه هذه السلوب.
فكلام أول الجهمية وآخرهم يدور على هذين الأصلين:
1ـ إما النفي والتعطيل الذي يقتضي عدمه.
2ـ وإما الإثبات الذي يقتضي أنه هو المخلوقات. أو جزء منها أو صفة لها.
وكثير منهم يجمع بين هذا النفي وهذا الإثبات المتناقضين، وإذا حوقق في ذلك قال: ذاك السلب مقتضى نظري. وهذا الإثبات مقتضى شهودي وذوقي. ومعلوم أن العقل والذوق إذا تناقضا لزم بطلانهما أو بطلان أحدهما1
1 بغية المرتاد (ص410، 411) .
وهذا حال الجهمية دائماً يترددون بين هذا النفي العام المطلق، وهذا الإثبات العام المطلق، وهم في كليهما حائرون ضالون لا يعرفون الرب الذي أمروا بعبادته1.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والجهمية نفاة الصفات تارة يقولون بما يستلزم الحلول والاتحاد، أو يصرحون بذلك. وتارة بما يستلزم الجحود والتعطيل، فنفاتهم لا يعبدون شيئاً، ومثبتتهم يعبدون كل شيء"2.
ولا ريب أن هؤلاء المعطلة بصنيعهم هذا قد أعرضوا عن أسمائه وصفاته وآياته وصاروا جهالاً به، كافرين به، غافلين عن ذكره، موتى القلوب عن معرفته ومحبته وعبادته، وهذا هو غاية القرامطة الباطنية والمعطلة الدهرية أنهم يبقون في ظلمة الجهل وضلال الكفر، لا يعرفون الله ولا يذكرونه3.
2ـ المعتزلة ومن وافقهم:
المعتزلة ومعهم النجارية، والضرارية، والرافضة، الإمامية، والزيدية، والإباضية وغيرهم. وهؤلاء مشتركون مع الجهمية
1 نقض تأسيس الجهمية (2/467) .
2 مجموع الفتاوى (6/39) .
3 مجموع الفتاوى (6/48) بتصرف.
والفلاسفة في نفي الصفات1 وإن كان بين الفلاسفة والمعتزلة نوع فرق2 فالمعتزلة تجمع على غاية واحدة وهي نفي إثبات الصفات حقيقة في الذات ومتميزة عنها. ولكنهم سلكوا طريقين في موقفهم من الصفات.
الطريق الأول: الذي عليه أغلبيتهم وهو نفيها صراحة فقالوا: إن الله عالم بذاته لا بعلم وهكذا في باقي الصفات.
والطريق الثاني: الذي عليه بعضهم وهو إثباتها اسماً ونفيها فعلاً فقالوا: إن الله عالم بعلم وعلمه ذاته وهكذا بقية الصفات، فكان مجتمعاً مع الرأي الأول في الغاية وهي نفي الصفات.
والمقصود بنفي الصفات عندهم: هو نفي إثباتها حقيقة في الذات ومتميزة عنها، وذلك أنهم يجعلونها عين الذات فالله عالم بذاته بدون علم أو عالم بعلم وعلمه ذاته3.
وهناك آراء أخرى للمعتزلة لكنها تجتمع في الغاية مع الرأيين الأولين، وهو التخلص من إثبات الصفات حقيقة في الذات ومتميزة عنها4.
1 مجموع الفتاوى (13/131) .
2 مجموع الفتاوى (6/51) .
3 المعتزلة وأصولهم الخمسة (ص100) .
4 المصدر السابق (ص101) .
وهذه الآراء للمعتزلة حملها عنهم الزيدية، والرافضة الإمامية1 والإباضية. وابن تومرت2، وابن حزم3.
فالمعتزلة يرون امتناع قيام الصفات به، لاعتقادهم أن الصفات أعراض، وأن قيام العرض به يقتضي حدوثه فقالوا حينئذ إن القرآن مخلوق، وإنه ليس لله مشيئة قائمة به، ولا حب ولا بغض ونحو ذلك.
وردوا جميع ما يضاف إلى الله إلى إضافة خلق، أو إضافة وصف من غير قيام معنى به4.
النجارية:
وهم أتباع حسين بن محمد بن عبد الله النجار المتوفى سنة (220هجرية) تقريباً. وكان يزعم أن الله سبحانه لم يزل جواداً بنفي البخل عنه، وأنه لم يزل متكلماً بمعنى أنه لم يزل غير عاجز عن الكلام، وأن كلام الله سبحانه محدث مخلوق، وكان يقول بقول المعتزلة في التوحيد، إلا
1 لم يكن في قدماء الرافضة من يقول بنفي الصفات بل كان الغلو في التجسيم مشهوراً عن شيوخهم هشام بن الحكم وأمثاله، شرح الأصفهانية (ص68) .
2 كان أبو عبد الله محمد بن تومرت على مذهب المعتزلة في نفي الصفات، شرح الأصفهانية (ص23) .
3 درء تعارض العقل والنقل (5/249، 250) .
4 مجموع الفتاوى (6/147، 148، 359) .
في باب الإرادة والجود، وكان يخالفهم في القدر ويقول بالإرجاء1.
الضرارية:
وهم أتباع ضرار بن عمرو الغطفاني المتوفى سنة (190هجرية) تقريباً، وكان يزعم أن معنى أن الله عالم قادر أنه ليس بجاهل ولا عاجز، وكذلك كان يقول في سائر صفات الباري لنفسه2.
فكل من النجارية والضرارية يحملون النصوص الثبوتية على المعاني السلبية، كما قال البغدادي عنهم:"من غير إثبات معنى أو فائدة سوى نفي الوصف بنقيض تلك الأوصاف عنه"3.
وكان الجهمية والمعتزلة والنجارية والضرارية هم خصوم أهل السنة زمن فتنة القول بخلق القرآن4.
القول الثاني: نفي الصفات الاختيارية المتعلقة بالمشيئة.
وهو قول الكلابية: أتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب،
1 مقالات الإسلاميين (1/341-342) ، وانظر الفرق بين الفرق (ص207) ، والملل والنحل (1/89، 90) .
2 مقالات الإسلاميين (1/339) .
3 الفرق بين الفرق (ص215) .
4 مجموع الفتاوى (14/351، 352) .
وقول الحارث المحاسبي1 وأبي العباس القلانسي، وأبي الحسن الأشعري في طوره الثاني، وقدماء الأشاعرة كأبي الحسن الطبري، والباقلاني، وابن فورك، وأبي جعفر السمناني ومن تأثر بهم من الحنابلة كالقاضي أبي يعلى، وابن عقيل، وأبي الحسن بن الزاغوني، والتميميين وغيرهم2.
وهؤلاء يسمّون الصفاتية لأنهم يثبتون صفات الله تعالى خلافاً للمعتزلة، لكنهم لم يثبتوا لله أفعالاً تقوم به تتعلق بمشيئته وقدرته، بل ولا غير الأفعال مما يتعلق بمشيئته وقدرته3.
1 قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكان الحارث المحاسبي يوافقه -أي يوافق ابن كلاب- ثم قيل إنه رجع عن موافقته؛ فإن أحمد بن حنبل أمر بهجر الحارث المحاسبي وغيره من أصحاب ابن كلاب لما أظهروا ذلك، كما أمر السري السقطي الجنيد أن يتقى بعض كلام الحارث؛ فذكروا أن الحارث رحمه الله تاب من ذلك. وكان له من العلم والفضل والزهد والكلام في الحقائق ما هو مشهور وحكى عنه أبوبكر الكلاباذي صاحب (مقالات الصوفية) : "أنه كان يقول إن الله يتكلم بصوت"، وهذا يوافق قول من يقول: إنه رجع عن قول ابن كلاب". مجموع الفتاوى (6/521، 522) .
2 مجموع الفتاوى (5/411، 6/52، 53، 4/147) ، شرح الأصفهانية (ص 78) .
3 مجموع الفتاوى (6/520) .
وأصلهم الذي أصلوه في هذا أن الله لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته1 لا فعل ولا غير فعل2.
والفرق بينهم وبين المعتزلة:
أن المعتزلة تقول: (لا تحله الأعراض والحوادث) فالمعتزلة لا يريدون [بالأعراض] الأمراض والآفات فقط، بل يريدون بذلك الصفات. ولا يريدون [بالحوادث] المخلوقات، ولا الأحداث المحيلة للمحل ونحو ذلك -مما يريده الناس بلفظ الحوادث- بل يريدون نفي ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها فلا يجوزون أن يقوم به خلق، ولا استواء، ولا إتيان، ولا مجيء، ولا تكليم، ولا مناداة، ولا مناجاة، ولا غير ذلك مما وصف بأنه مريد له قادر عليه.
ولكن ابن كلاب ومن وافقه خالفوا المعتزلة في قولهم: "لا تقوم به الأعراض" وقالوا: "تقوم به الصفات ولكن لا تسمى أعراضاً".
ووافقوا المعتزلة على ما أرادوا بقولهم: لا تقوم به الحوادث من أنه لا يقوم به أمر من الأمور المتعلقة بمشيئته3.
1 مجموع الفتاوى (6/524) .
2 مجموع الفتاوى (6/522) .
3 مجموع الفتاوى (6/520، 521) .
ففرقوا بين الأعراض -أي الصفات- والحوادث -أي الأمور المتعلقة بالمشيئة1 2.
1 مجموع الفتاوى (6/525) .
2 تتميماً للفائدة فإن الخلاف في هذه المسألة على أربعة أقوال:
1ـ قول المعتزلة ومن وافقهم: إن الله لا يقوم به صفة ولا أمر يتعلق بمشيئته واختياره وهو قولهم: (لا تحله الأعراض ولا الحوادث) .
2ـ قول الكلابية ومن وافقهم: التفريق بين الصفات والأفعال الاختيارية فأثبتوا الصفات، ومنعوا أن يقوم به أمر يتعلق بمشيئته وقدرته لا فعل ولا غير فعل.
3ـ قول الكرامية، ومن وافقهم: يثبتون الصفات ويثبتون أن الله تقوم به الأمور التي تتعلق بمشيئته وقدرته، ولكن ذلك حادث بعد أن لم يكن، وأنه يصير موصوفا بما يحدث بقدرته ومشيئته بعد أن لم يكن كذلك، وقالوا: لا يجوز أن تتعاقب عليه الحوادث، ففرقوا في الحوادث بين تجددها ولزومها، فقالوا بنفي لزومها دون حدوثها.
4ـ قول أهل السنة والجماعة: أثبتوا الصفات والأفعال الاختيارية وأن الله متصف بذلك أزلاً، وأن الصفات الناشئة عن الأفعال موصوف بها في القدم، وإن كانت المفعولات محدثة.
وهذا هو الصحيح. مجموع الفتاوى (6/520، 525) .
فالكلابية ومن تبعهم ينفون صفات أفعاله1، ويقولون: "لو قامت به لكان محلاً للحوادث. والحادث إن أوجب له كمالاً فقد عدمه قبله وهو نقص، وإن لم يوجب له كمالاً لم يجز وصفه به2.
ولتوضيح قولهم نقول: إن المضافات إلى الله سبحانه في الكتاب والسنة لا تخلو من ثلاثة أقسام:
أحدها: إضافة الصفة إلى الموصوف
كقوله تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ} [البقرة 255]، وقوله:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات 58] ، فهذا القسم يثبته الكلابية ولا يخالفون فيه أهل السنة، وينكره المعتزلة.
والقسم الثاني: إضافة المخلوق.
كقوله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس 13]، وقوله تعالى:{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج 26] ، وهذا القسم لا خلاف بين المسلمين في أنه مخلوق.
1 الصفات الفعلية: هي التي تتعلق بمشيئته، أو التي تنفك عن الذات: كالاستواء، والنزول، والضحك، والإتيان، والمجيء، والغضب والفرح. مجموع الفتاوى (6/68، 5/410) .
2 مجموع الفتاوى (6/69) ، وانظر الرد على هذه الشبهة (6/105) .
والقسم الثالث: -وهو محل الكلام هنا- ما فيه معنى الصفة والفعل.
كقوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء 164]، وقوله تعالى:{إنّ الله يَحكمُ ما يُريد} [المائدة 1]، وقوله تعالى:{فَبَاءُوا بِغضبٍ على غَضَب} [البقرة 90] .
فهذا القسم الثالث لا يثبته الكلابية ومن وافقهم على زعم أن الحوادث لا تحل بذاته. فهو على هذا يلحق عندهم بأحد القسمين قبله فيكون:
1ـ إما قديماً قائماً به.
2ـ وإما مخلوقاً منفصلاً عنه.
ويمتنع عندهم أن يقوم به نعت أو حال أو فعل ليس بقديم ويسمون هذه المسألة: (مسألة حلول الحوادث بذاته) 1 وذلك مثل صفات الكلام، والرضا، والغضب، والفرح، والمجيء، والنزول والإتيان، وغيرها. وبالتالي هم يؤولون النصوص الواردة في ذلك على أحد الوجوه التالية:
1ـ إرجاعها إلى الصفات الذاتية واعتبارها منها، فيجعلون جميع تلك الصفات قديمة أزلية، ويقولون: نزوله، ومجيئه وإتيانه، وفرحه،
1 مجموع الفتاوى (6/144، 147) .
وغضبه، ورضاه، ونحو ذلك: قديم أزلي1 وهذه الصفات جميعها صفات ذاتية لله، وإنها قديمة أزلية لا تتعلق بمشيئته واختياره2.
2ـ وإما أن يجعلوها من باب "النسب" و"الإضافة" المحضة بمعنى أن الله خلق العرش بصفة تحت فصار مستوياً عليه، وأنه يكشف الحجب التي بينه وبين خلقه فيصير جائياً إليهم ونحو ذلك. وأن التكليم إسماع المخاطب فقط3.
فهذه الأمور من صفات الفعل منفصلة عن الله بائنة وهي مضافة إليه، لا أنها صفات قائمة به. ولهذا يقول كثير منهم:"إن هذه آيات الإضافات وأحاديث الإضافات، وينكرون على من يقول آيات الصفات وأحاديث الصفات"4.
3ـ أو يجعلوها "أفعالاً محضة" في المخلوقات من غير إضافة ولا نسبة5.
مثل قولهم في الاستواء إنه فعل يفعله الرب في العرش بمعنى أنه يحدث
1 مجموع الفتاوى (5/412) .
2 مجموع الفتاوى (5/410) .
3 مجموع الفتاوى (6/149) .
4 مجموع الفتاوى (5/411، 412) .
5 مجموع الفتاوى (6/149) .
في العرش قرباً فيصير مستوياً عليه من غير أن يقوم بالله فعل اختياري1.
وكقولهم في النزول إنه يخلق أعراضاً في بعض المخلوقات يسميها نزولاً2.
ونفاة الصفات الاختيارية يثبتون الصفات التي يسمونها عقلية وهي الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام. واختلفوا في صفة البقاء.
ويثبتون في الجملة الصفات الخبرية كالوجه، واليدين، والعين ولكن إثباتهم لها مقتصر على بعض الصفات القرآنية، على أن إثبات بعضهم لها من باب التفويض.
وأما الصفات الخبرية الواردة في السنة كاليمين، والقبضة، والقدم، والأصابع فأغلب هؤلاء يتأولها3.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "بل أئمة المتكلمين يثبتون الصفات الخبرية في الجملة، وإن كان لهم فيها طرق كأبي سعيد بن كلاب وأبي الحسن الأشعري، وأئمة أصحابه: كأبي عبد الله بن مجاهد وأبي الحسن الباهلي، والقاضي أبي بكر بن الباقلاني، وأبي إسحاق الاسفرائيني، وأبي
1 مجموع الفتاوى (5/437) ، الأسماء والصفات للبيهقي (ص517) .
2 مجموع الفتاوى (5/386) .
3 مجموع الفتاوى (6/52) ، وموقف ابن تيمية من الأشاعرة (3/1034، 1036) .
بكر بن فورك، وأبي محمد بن اللبان، وأبي علي بن شاذان، وأبي القاسم القشيري، وأبي بكر البيهقي، وغير هؤلاء. فما من هؤلاء إلا من يثبت من الصفات الخبرية ما شاء الله تعالى. وعماد المذهب عندهم: إثبات كل صفة في القرآن.
وأما الصفات التي في الحديث فمنهم من يثبتها ومنهم من لا يثبتها"1.
القول الثالث: من يقول بإثبات سبع صفات فقط أو ثمان ونفي ما عداها.
وهذا قول المتأخرين من الأشاعرة والماتريدية الذين لم يثبتوا من الصفات إلا ما أثبته العقل فقط، وأما ما لا مجال للعقل فيه عندهم فتعرضوا له بالتأويل والتعطيل.
ولا يستدل هؤلاء بالسمع في إثبات الصفات، بل عارضوا مدلوله بما ادعوه من العقليات.
وهذا القول لمتأخري الأشاعرة إنما تلقوه عن المعتزلة، لما مالوا إلى نوع التجهم، بل الفلسفة، وفارقوا قول الأشعري وأئمة أصحابه، الذين لم يكونوا يقرون بمخالفة النقل للعقل، بل انتصبوا لإقامة أدلة عقلية توافق السمع، ولهذا أثبت الأشعري الصفات الخبرية بالسمع، وأثبت بالعقل
1 مجموع الفتاوى (4/147، 148) .
الصفات العقلية التي تعلم بالعقل والسمع، فلم يثبت بالعقل ما جعله معارضاً للسمع، بل ما جعله معاضداً له، وأثبت بالسمع ما عجز عنه العقل.
وهؤلاء خالفوه وخالفوا أئمة أصحابه في هذا وهذا، فلم يستدلوا بالسمع في إثبات الصفات، وعارضوا مدلوله بما ادعوه من العقليات1.
فالصفات الثبوتية عند متأخري الأشاعرة هي: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام2 وزاد الباقلاني وإمام الحرمين الجويني صفة ثامنة هي الإدراك3.
والصفات الثبوتية عند الماتريدية4 هي ثمان: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، والتكوين5 وهم قد خصوا الإثبات بهذه الصفات دون غيرها، لأنها هي التي دل العقل عليها عندهم، وأما غيرها من الصفات فإنه لا دليل عليها من العقل عندهم،
1 درء تعارض العقل والنقل (7/97) .
2 مجموع الفتاوى (6/358، 359) .
3 تحفة المريد (ص76) ، وبعض الأشاعرة توقف فيها والبعض نفاها.
4 انظر إشارات المرام (ص107، 114) ، جامع المتون (1208) ، نظم الفرائد (ص24) ، الماتريدية دراسة وتقويم (ص239) .
5 أثبت الماتريدية صفة التكوين وعليه فهي صفة قديمة قائمة بذاته تعالى. وأما الأشاعرة فقد نفوها. انظر تحفة المريد (ص75) .
فلذا قالوا بنفيها1.
وهؤلاء لا يجعلون السمع طريقاً إلى إثبات الصفات ولهم فيما لم يثبتوه طريقان:
1ـ منهم من نفاه.
2ـ ومنهم من توقف فيه فلم يحكم فيه بإثبات ولا نفي، ويقولون بأن العقل دلّ على ما أثبتناه ولم يدل على ما توقفنا فيه2.
والصفات السبع التي يثبتها هؤلاء يسمونها صفات المعاني.
وضابطها في اصطلاحهم هي: ما دل على معنى وجودي قائم بالذات، ولم يقر هؤلاء إلا بسبعة منها هي: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام. ونفوا ما عداها من صفات المعاني كالرأفة والرحمة والحلم3.
وقد زاد بعضهم في عده للصفات فأوصلها إلى عشرين صفة وقسمها إلى أربعة أقسام:
1ـ صفات المعاني
2ـ الصفات المعنوية
3ـ الصفات السلبية
4ـ الصفة النفسية.
1 الماتريدية دراسة وتقويم (ص239) .
2 شرح الأصفهانية ص9، مجموع الفتاوى (6/359) .
3 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات (ص5) .
فصفات المعاني تقدم ضابطها وعدها. وهي القدر الذي عند هؤلاء من الإثبات، أما الأقسام الثلاثة الباقية فليس فيها إثبات على الحقيقة.
القسم الثاني: الصفات المعنوية
وهي الأحكام الثابتة للموصوف بها معللة بعلل قائمة بالموصوف وهي كونه "حياً، عليماً، قديراً، مريداً، سميعاً، بصيراً، متكلماً" وهذا العد لا وجه له لأنه في الحقيقة تكرار لصفات المعاني المتقدم ذكرها.
ثم إن من عدها من هؤلاء عدوها بناءً على ما يسمونه الحالة المعنوية التي يزعمون أنها واسطة ثبوتية لا معدومة ولا موجودة1.
والتحقيق أن هذا خرافة وخيال، وأن العقل الصحيح لا يجعل بين الشيء ونقيضه واسطة البتة، فكل ما ليس بموجود فهو معدوم قطعاً، وكل ما ليس بمعدوم فهو موجود قطعاً، ولا واسطة البتة كما هو معروف عند العقلاء2.
3ـ الصفات السلبية:
وضابطها عندهم: ما دل على سلب ما لا يليق بالله عن الله من غير أن يدل على معنى وجودي قائم بالذات.
1 تحفة المريد (ص77) .
2 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات (ص10) .
والذين قالوا هذا جعلوا الصفات السلبية خمساً لا سادس لها1 وهي عندهم: القدم، البقاء، والمخالفة للحوادث، والوحدانية، والغنى المطلق الذي يسمونه القيام بالنفس الذي يعنون به الاستغناء عن المخصص والمحل2.
وعلى ضابطهم الذي ذكروه فإن هذه الخمس لا تتضمن معنى وجودياً. وإنما تتضمن أمراً سلبياً فعلى سبيل المثال: القدم: المقصود بها نفي الحدوث.
والبقاء: المقصود بها نفي الفناء.
والوحدانية: المقصود بها نفي النظير المساوي له.
والقيام بالنفس: عدم افتقاره للمحل وعدم افتقاره للمخصص: أي الموجد.
4ـ الصفة النفسية:
وضابطها هي: كل صفة إثبات لنفس لازمة ما بقيت النفس غير معللة بعلل قائمة بالموصوف.
وهي عندهم صفة واحدة هي: الوجود. وهي عندهم لا تدل على
1 يرى بعضهم أنها ليست منحصرة في هذه الخمسة، إلا أن ما عداها راجع إليها ولو بالالتزام، أو أن هذه مهماتها. انظر تحفة المريد (ص54) .
2 منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات (ص8) .
شيء زائد على الذات.
يقول شارح جوهرة التوحيد: "واعلم أن الوجود صفة نفسية وإنما نسبت للنفس أي الذات، لأنها لا تعقل إلا بها فلا تعقل نفس إلا بوجودها، والمراد بالصفة النفسية: صفة ثبوتية يدل الوصف بها على نفس الذات دون معنى زائد عليها.
فقولنا: (صفة) كالجنس.
وقولنا: (ثبوتية) يخرج السلبية كالقدم والبقاء.
وقولنا: (يدل الوصف بها على نفس الذات) معناه أنها لا تدل على شيء زائد على الذات.
وقولنا: (دون معنى زائد عليها) تفسير مراد لقولنا (على نفس الذات) ويخرج بذلك المعاني لأنها لا تدل على معنى زائد على الذات، وكذلك «المعنوية» فإنها تستلزم المعاني فهي تدل على معنى زائد على الذات لاستلزامها المعاني"1.
وبهذا يعلم أنه ليس عند هؤلاء من الإثبات إلا الصفات السبع التي يسمونها صفات المعاني وهي: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام وما عداها من الصفات الثبوتية لا يثبتونها ولهم في نصوصها أحد طريقين إما التأويل أو التفويض وفي هذا يقول قائلهم:
1 تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد (ص54) .
وكل نص أوهم التشبيها
…
أوله أو فوضه ورم تنزيها1
فنصوص الصفات التي وردت في إثبات ما عدا الصفات السبع التي يثبتونها، يسمونها نصوصاً موهمة للتشبيه، فهم يصرفونها عن ظاهرها، ولكنهم تارة يعينون المراد كقولهم استوى: استولى، واليد: بمعنى النعمة والقدرة؛ وتارة يفوضون فلا يحددون المعنى المراد ويكلون علم ذلك إلى الله عز وجل.
ولكنهم يتفقون على نفي الصفة لأن ناظمهم يقول: (ورم تنزيهاً) وشارح الجوهرة يقول: (أو فوض) أي بعد التأويل الإجمالي الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره، فبعد هذا التأويل فوض المراد من النص الموهم إليه تعالى2.
فهم بذلك متفقون على نفي تلك الصفات، ويخيرون في تحديد المعنى المراد أو السكوت عن ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأبو المعالي وأتباعه نفوا هذه الصفات -أي الصفات الخبرية- موافقة للمعتزلة والجهمية. ثم لهم قولان:
أحدهما: تأويل نصوصها، وهو أول قولي أبي المعالي، كما ذكره في الإرشاد.
والثاني: تفويض معانيها إلى الرب، وهو آخر قولي أبي المعالي كما ذكره في "الرسالة النظامية" وذكر ما يدل على أن السلف كانوا مجمعين
1 المصدر السابق (ص91) .
2 تحفة المريد (ص91)
على أن التأويل ليس بسائغ ولا واجب.
ثم هؤلاء منهم من ينفيها ويقول: إن العقل الصريح نفى هذه الصفات. ومنهم من يقف ويقول: ليس لنا دليل سمعي ولا عقلي، لا على إثباتها ولا على نفيها، وهي طريقة الرازي والآمدي"1
1 درء تعارض العقل والنقل (5/249) .