المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وما كان فيها - العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية - جـ ١

[علي بن الحسن الخزرجي]

الفصل: ‌وما كان فيها

‌الباب الخامس

‌ذكر أخبار الدولة المؤيدية

‌وما كان فيها

قال علماء السير والأخبار لما توفي السلطان الملك الأشرف ممهد الدين عمر بن يوسف بن عمر بن علي بن رسول رحمة الله عليه وأعلن الصائح بالترحم عليه والصباح السعيد على السلطان الملك المؤيد كما ذكرنا ارتجت المدينة وانزعج الناس وماج بعضهم في بعض فأمر السلطان بفتح أبواب الحصن فكان أول من طلع إليه من الناس الوزير القاضي حسام الدين حسان بن أسعد ين محمد بن موسى العمراني وزير أخيه المرحوم فاجتمع به وحلف لهُ الإيمان والمغلظة واستحلف له الجند والأمراء واعيان الدولة فيختلف عليه منهم اثنان ولم يمتنع عليه سهل ولا جبل ولا بلد ولا حضر. جرت أموره كلها على السداد والوفاق.

وكتب تاج الدين الموصلي في ذلك اليوم مكاتيب إلى بلاد التهائم بأجمعه والى الجبال بأجمعها والى جهة صنعاء والأشراف فدخل الناس في الطاعة أفواجاً وأمر بتجهيز أخيه وتنفيذ وصيته فخرجوا به من الحصن في صبيحة الليلة التي توفي فيها وإمامه الظافر والمظفر يمشيان واعيان الدولة جميعاً حتى دخلوا به مدرسته التي أنشأها في معزية تعز فدفن بها وأقام القراء عليه سبعة أيام كما جرت عادة الملوك.

وهنأه جماعة من الشعراء منهم الأديب شائق الدين يوسف بن محمد العنسي بقصيدة بديعة استهلال بارزة في قالب الكمال وهي:

القوس مرترة في كف باريها

فليعلم الناس قاصيها ودانيها

وليلبس الكل منهم درع مسكنة

كي يصبحوا في أمان من مراميها

ص: 251

وكل نعمة من ندا ملكٍ

أبغي سالبها والذل كاسيها

يهنئ المؤيد بل تهنئ خلافته

أني أهنيه منها ما أهنيها

خليفة الله من بعد الخليفة يا

ملك الملوك جميعاً لا أحاشيها

أن الخلافة ما قرت ولا هدأت

حتى رمت نفسها كف حاميها

أضحت محجلة الأيام مذ وقعت

في كف داوودها غرا لياليها

وفيها يقول:

أن الرعية في أمنٍ وفي دعة

وفي بُلَهْنيةٍ إذ أنت راعيها

وكم يد لهزبر الدين قد حملت

لغير طالبها منها وراجيها

بلاد غسان ما انفكت دعائمها

لما أنت من معاليه معاليها

ترى لملك آسٍ لوالده

سقاه قبل أياديه وهاميها

وهنأه العفيف عبد الله بن جعفر بقصيدة أولها:

أملك داود أم ملك ابن داود

ما أن أقيس بكنعان ونمرود

أفي الرواق هزبر تحت غابته

أم الهزبر هزبر البأس والجود

بين السماء وبين الأرض مزدحم

ومن القنا والظبا والشرب والقود

ومن ذوائب رايات إذا رفعت

حسبتها طاردات بعد مطرود

تدافع الريح أن يجتاز ساحتها

طوراً وتكمل طوراً في الأماليد

كان أمواج بحر الهند من زرد

تفيض ما بين موضون ومسرود

لله من طود ملك في السماء سما

وظل أمن على الآفاق ممدود

ورثت دولة غسان كما ورثت

آباؤك الغلب من أجدادك الصيد

نامت جفون البرايا في حماك وفي

أجفان سيفك أي تسهيد

فالأرض مشرقة والسحب مغدقة

والنبت ما بين مخضود ومنضود

ولي مواعد من نعماك صادقة

ومنك نعرف إنجاز المواعيد

كم انعم لك أيام الخليفة لي

قد كان أول مسقي بها عودي

ولما علم الملك الناصر جلال الدين محمد بن الملك الأشرف بوفاة أبيه واستيلاء

ص: 252

عمه على الملك والسلطنة وكان في أقطاعه القحمة بادر إلى باب عمه متمثلاً أمره فلما وصل إلى عمه اقبل عليه واحله من العز محلة عظيمة. ثم وصل أخوه فعاملهُ معاملة ترضيه من الكرامة والإنصاف وعرض عليهما الاستمرار على أقطاعهما فاستعفيا عن الآمرية وقالا لا نحب خدمة بعد الوالد. وكان الواسطة بينهما وين السلطان الفقيه أبو بكر بن محمد بن عمر اليحيوي وأخذ لهما من السلطان عهداً وثيقاً أنه لا يغير عليهما ولا على أحدهما وأخذ عيهما أن لا ينازعاه ولا ينازعه أحد منهما. وكنا بين السلطان الملك المؤيد وبين الفقيه أبي بكر اليحيوي المذكور صبحة أكيدة ومحبة شديدة. وكان السلطان رحمه الله يعتمد رأي الفقيه أبي بكر في جميع ما يشير به عليه. وكنا الفقيه أبو بكر أوحد أهل عصره وعلماء زمانه. فلما حصل ما ذكرنا من قصة الدعنس وسجن السلطان الملك المؤيد في حصن تعز اغتم الفقيه أبو بكر على ما ناله غماً شديداً. واتصل العلم بالملك الأشرف أن الفقيه أبا بكر قصد المخالفة وإثارة الفتنة فاستوحش منه الملك الأشرف. وعلم الفقيه بالمكيدة فكتب إلى السلطان قصيدة يقول فيها:

تبغون قتلي ومالي فيكم غرضُ

غير النجاة على مجموع أحوالي

وتزعمون بان الجن طوع يدي

هل يقهر الجن إلا بالملأ العالي

مهلاً فهذا عصا موسى وحربته

وتاج منزر معها تاج عطكال

وذي الهياكل والأجراس أجمعها

وذي البثور وذا المزراق يا عال

وذي الحراب أولى الأملاك كلهم

ما ينثني حدها عن هتك أجيال

ظننت أَني دعوت الله ذا غضب

عليك بالهلك يا حاشا لأمثالي

ما كنت أدعو على شيءٍ بلا أدب

وقد تمسكت من طه بأذيال

وخاتم الرسل لم يدعو على نفرٍ

آذوهُ جهلاً فلم يعبأْ بجهَّال

وفارق الدار والأهلين مرتحلاً

إلى المدينة حسب الأمر لا قال

وقام من بعده الصديق محتسباً

حتى قضى نحبه في سم مغتال

ص: 253

أبو حسين قضى وابناه نحبهما

سمّاً وقتلاً بأسيافٍ لضلَاّل

كذا ابن ادهم لم يدعو وقد عبثوا

وصبَّ بالرأس منه بول بوال

وشبهوا لحية منهُ وقد كرمت

على المهيمن علجاً غير ذي بال

فلم أحول ولا حالوا ولا عجلوا

ما ثمَّ أمر بدا يقضى بإعجال

من ذاك منهم ترى لم يدر كيف أتى

بعرش بلقيس داعي الله في حال

وكلما ترتضوا مني وتنتقموا

ما القول قولي ولا الأفعال أفعالي

فاحكم بما شئت أن صبراً وإن عجلاً

فالأمر اقرب من فعل على بال

هل يحرق السجن من ملاه أدبه

إلا أخو الجهل بالآتي وبالحال

فليس شهران مما يقتضي عجلاً

إن كنت تسمع فانظر صدق أقوالي

عشرون شهراً توالى لا تجاوزها

وليس آخرها يقضي بإكمال

ويدخل الدار من لا يرتضيه لها

فصائح منكم يدعوا بأعوال

لم تنكروا النص والتنزيل ويحكم

ووعد ربي ما هذا بإجمال

فاسمع لما قلتهُ وارقبه مصطبراً

ولا تعرج على قيلٍ ولا قال

وخذهُ بالجد لا هزلاً ولا كذباً

فليس ذا القول من أقوال هزَّال

وهذه الأبيات من وقف عليها علم بمكان الشيخ العارف من علم المعارف وفي ذلك كفاية لمن تأمل والله أعلم.

ثم توجه الفقيه بعد إنشاء هذه القصية إلى ناحية وصار هارباً من الملك الأشرف فأقام هنالك إلى أن توفي الملك الأشرف في التاريخ المذكور فلما استولى السلطان الملك المؤيد على الملك والمملكة رجع الفقيه إلى مدينته واجتمع بالسلطان وفرح به فرحاً شديداً. واستوزر أخاه الصاحب موفق الدين علي بن محمد بن عمر بن اليحيوي المعروف بالصاحب وكانت وزارته في شهر جمادى الأولى من السنة المذكورة وصنع له ما يصنع للوزراء من رفع الدواة وعقد الطيلسان وفوض إليه قضاء الأقضية وكان ثابتاً في أموره كلها لم يكن معهُ من الطيش والعجلة شيء ونفذ أمرهُ في البلاد وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر وعاضده السلطان على ذلك وتقدم عند

ص: 254

السلطان تقدماً كلياً لم يسمع بمثله وانطلق عليه اسم الصاحب انطلاقاً كلياً في أقطار اليمن حتى صار علماً في حقه كالصاحب بن عباد في العراق فجمع أولاده واخوته لا يكادون يعرفون حتى يتعرفون به إما بنبوة أو أخوة.

ولما استوزره السلطان كما ذكرنا في تاريخه المذكور برز أمر السلطان على القاضي حسام الدين بن أسعد العمراني أن يكن هو وأخوته سهفتة على الأعزاز والإكرام ولم يغير عليهم حال من الأحوال. ثم بلغ السلطان من الناصر ابن أخيه على جهة النصح لعمه أن عبداً للقاضي حسان طلع إلى جهة عومان ووجد معتقة من الأشرفية كانت تحت القاضي بهاء الدين محمد بن أسعد فتحدث العبد معها بحديث أسره إليها أن معه قارورة السم من عند سيده القاضي حسان بن أسعد أمره أن يتلطف إلى من يتصل بالملك المؤيد ويسقيه منها وإن غرض القاضي وبني أبيه أهلاك بني رسول قاطبة. فلما اتصل العلم إلى السلطان بهذا غضب غضباً شديداً وطلبهم بحسبة أموال الأيتام وغلل الموقوفات في مدة نظرهم عليها فما أجابوه إلى شيء من ذلك أبداً فقبض عليهم وبنى لهم سجناً على باب دار الولاية استكفاءً لشرهم.

ومن صحب لدنيا طويلاً تقلبت

على عينه حتى يرى صدقها كذباً

وقد كان في قلب السلطان من ولدي أزدمر نجم الدين وبدر الدين ومن ابن الهكاري استياء من يوم الدعيس فأمر بالحوطة عليهم فقبضوا فأرسلهم إلى حصن الدملؤة ثم قبض بعدهم أمير جاندار فجعل معهم في دار الأدب بالدملؤة. وفي خلال ذلك قدمت بعدهم رسل الأشراف على السلطان بالتهنئة بالملك ولعقد الصلح وقد كانوا عقيب موت الأشرف رحمة الله عليه استولوا على الكولة وأحرقوها واخذوا حصني اللجام ونعمان وعلى مدينة صعدة وأصلحوا على ذلك وكان الإمام مطهر بن يحيى حاطاً على كحلان الشرف فطلبه الأشرف للدخول معهم في الصلح ورفع المحطة فأمرهم بالصلح وطيبهم ولم يزل حاطاً على الحسن حتى أخذه.

وفي هذه السنة نزل السلطان الملك المؤيد زبيد وكان نزوله في شهر جمادى

ص: 255

الآخرة بعد أن أقطع ولده المظفر صنعاء والظافر الفخرية والحربين فتوجه الملك المظفر إلى صنعاء في رجب من السنة المذكورة فاستعاد حصن ود من بني الحرث في آخر شعبان بهد أن زماه بالمنجتيق. ورجع السلطان إلى تعز في شعبان وصام في مدينة تعز. ونزل الملك المظفر من صنعاءَ في أول النصف الثاني من رمضان وكان نزوله بسبب العيد فعيَّد في تعز ثم عاد إلى إقطاعه. واستعاد السلطان حصون حَجَّة في ذي الحجة وأخذ المخلافة من الصارم إبراهيم بن يوسف بن منصور. وكانت في يده من سنة إحدى وتسعين وستمائة. واشترط الصارم شروطاً منها إقطاع مَوزع ونصف حَيس والذمة الشاملة والعفو عما جناه.

وفي هذه السنة اظهر الملك المسعود خلافاً على أخيه السلطان وكان مقطعاً بالأعمال السرددية ومقيماً بها فأوقع وسار إلى حرض فاستولى عليها وكان قد وصل ولد أسد الإسلام محمد بن الحسن إلى عمه السلطان المؤَيد وهو في مدينة تعز فأكرمه وانصفهُ وأبقى أباه على إقطاعه فلما خالف الملك المسعود على أَخيه وسار إلى حرض جمع العساكر وجاءَه الأشراف السليمانيون وسقط إليه من الجبال والجَوف خيل كثيرة فاجتمع معه عسكر عظيم. فجهز السلطان لحربه أَخاه الملك المنصور أيوب بن يوسف ووزيره القاضي موفق الدين الصاحب وولده الظافر عيسى بن الملك المؤَيد وأرسل معهم ثلاثة أفيال فساروا إليه في عسكر جيدٍ من عسكر الباب.

وفي هذه السنة توفي الفقيه الفاضل أبو الحسن علي بن عمر بن إسماعيل ابن زيد يحيى العزيزي لقباً والشعبي نسباً. وكان فقيهاً عارفاً بالصوليين والفروع والنحو واللغة. وهو من قوم من الشعوب يقال لهم بنو الشاعر من بطن يقال لهم بنو أحمد يسكن بعضهم في سامع وبعضهم في إكنيت بكسر الهمزة ويكون الكاف وكسر النون وسكون الياء المثناة من تحتها وآخره تاء مثناة من فوقها. تفقه بالفقيه منصور والشعبي. وكان شريف النفس عالي الهمة مجللاً عند أهل بلده وغيرهم. وكان شجاعاً في الحرب فتاكاً عداءً يذكر من عدوه أنه كان إذا عدا خلف ظبي في البيداءِ

ص: 256

لزمهُ مجاورة. وكان يقول شعراً رائقاً. وكان له أعداء يغزونه في جمع كثير يريدون قتله ونهب بيتهِ فيخرج إليهم ويقاتلهم ويهزمهم وحده وربما قتل أَو جرح فيهم. وكان يكرم واصليه ويحسن إليهم. وكانت وفاتهُ رحمهُ الله تعالى في جمادى الأولى من السنة المذكورة. وكان له من الولد محمد بن علي ومنصور بن علي تفقه بشيخه منصور الشعبي. فأما منصور بن علي فعكف على الفقه والحديث وتقنه والنحو واللغة والفرائض والأصول والحساب. وكان مع ذلك شجاعاً وله بصيرة في الصناعات كالتجارة والخياطة وغيرهما. وكان يقول الشعر أيضاً وامتحن بقضاء الدملؤَة من قبل ابن الأديب فأقام فيه مدة يسيرة ثم توفي أول سنة ثماني عشرة وسبعمائة.

وأما أخوه محمد بن علي فإنه خدم في الدولة المؤَيدية كاتب الإنشاء وكان ذا دراية ثابتة وكان يقول شعراً مستحسناً. وكان كريم النفس وله مروءَة طائلة. ويحب أبناء جنسه من الفقهاء والطلبة ويعتني بحوائجهم. وكانت وفاته في غرة رجب من سنة ثماني عشرة وسبعمائة رحمهم الله تعالى.

وفي هذه السنة المذكورة توفي الفقيه الصالح أبو محمد عبد الله بن محمد عرف بمكرم بن مسعود بن أحمد بن سالم العدوي نسباً والمكرم لقباً. وكان فقيهاً صالحاً زاهداً ورعاً متمسكاً بالأثر. وكان عارفاً بالنحو والفقه واللغة والحديث. وكان ذا سيرة مرضية مواسياً للأصحاب كثير الذكر. ولما مرض دخل عليه أصحابه يعودونه فجعل يستحل منهم واحداً واحدا فقيل له لا تجزع فأنت في خير وعافية. فقال لم يبق من عمري سوى خمسة أيام. فقيل له بم عرفت هذا. فقال رأَيت الحق نهار أمس فهممت أن أتعلق بهِ فقيل لي بعد ست فوقع في قلبي إنها ستة أيام وقد مضى لي يوم فكان كما قال. فلما حضرته الوفاة أُغمي عليه فلما أفاق قال لمن حوله أين الثوب الذي أعطاني ربي. ولازم على ذلك ملازمة شديدة فأعطوه ثوباً من ثيابهم فردَّه. فقال أن ثوب ربي لا يشبه ثياب الآدميين وما كان ربي ليرجع في هبته. ثم عاد في غشيته وكان آخر كلام سمع منه إلا إِله إلا الله. وكانت وفاته في السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

ص: 257

وفيها توفي الفقيه الفاضل أحمد بن البناء واصله من ظفار الأشراف. تفقه في بدايته في مذهب الزيدية ثم غرز عمله فصار مجتهداً لا يقلد إماماً ولا غيره. وكان كثير العزلة عظيم الورع إلى أن توفي في السنة المذكورة وقيل كانت وفاته في سنة خمس وسبعين وستمائة.

وفي هذه السنة توفي السيد الأجل الفاضل يحيى بن محمد بن أحمد بن علي بن سراج بن الحسن السراجي نسبة إلى جده سراج أحد الأشراف الحسينيين وكان إماماً كبيراً في مذهب الزيدية وعليه عكفوا مدة حتى أدعى الإمامة ونزل مع قوم يقال لهم بنو فاهم في حصن لهم وأطبق على أجابته خلق كثير من الناس وحسده الأشراف الحسينيون على الرئاسة. وكانت قراءَته للعلم في تهامة على الإمام أبي العباس أحمد بن موسى بن عجيل. ولما ادعي الإمامة كما ذكرنا كان الأمير في صنعاءَ يومئذٍ الأمير علم الدين الشعبي فحبسه أياماً ثم كحله فأرسل الله على الذين لزموه الجذام حتى أن الرجل إذا أصابه هذا الداء يعتزل في كهف من الكهوف لئلا يتعدى الداءُ منه إلى غيره ولا يدري حتى قد انبعث الداءُ بالباقين من أهله. ثم تغيرت روائحهم بحيث لا يستطيع أحد أن يقربهم من نتن الرائحة فهلك كثير منهم في مدة يسيرة وألقى الله بينهم العداوة والبغضاء فما برح بعضهم يقتل بعضاً حتى قلَّ عددهم ولم يبق منهم إلا اليسير. وأَقام السيد في صنعاءَ مكحولاً يؤخذ عنه العلم ويأتيه النذور من المسلمين إلى أن توفي في صفر من السنة المذكورة في مدينة صنعاء وقبر في مسجد الأجذم وقبره من اجل المزارات الصنعائية يتبرك بالدعاء عنده وتستنتج عنده الحوائج فتقضى. قال ابن عبد الحميد زرته مراراً ورأَيت منهُ آثاراً حميدة. ويوجد عنده رائحة المسك ليلة الاثنين وليلة الجمعة رحمه الله تعالى.

وفي سنة سبع وتسعين ركب الملك المسعود فيمن معه من العساكر التي جمعها من المخلاف الأَسفل ومن انضم إليه من أهل الجوف وغيرهم يريد المحالب فواجهه العسكر السلطاني المؤيدي صحبة الملك الظافر عيسى ابن الملك المؤَيد. والصاحب علي بن محمد التحيوي فيما بين المحالب وحرض فلما تراءَى الجمعان وتهيأَ

ص: 258

للحرب الفريقان رأى الملك المسعود أنه مغلوب لا محالة فأذعن إلى الصلح قبل اصطدام الخيل فقبض العسكر السلطاني عليه وعلى ولده أسد الإسلام. وكان ذلك في المحرم من السنة المذكورة فساروا بهما إلى الحرم الشريف السلطاني فحنا عليهما واسكنهما دار الأدب من حصن تعز فأقاما فيه أياماً ثم أطلقهما وأمرهما بسكنى حيس. وقدر لهما جامكية جيدة حاملة لهما ولمن معهما من حاشيتهما وخدمهما

مكارمُ تسع الجاني بنائلها

وتُورث الضد عزّاً بعد إذلال

وفي شهر صفر من السنة المذكورة نزل الملك المظفر متبرئاً من صنعاء ولم يكن دخلها إنما كان واقعاً في ذمار. وفي شهر ربيع الأول قتل الشيف سليمان بن محمد بن سليمان بن موسى قتله عبيدة بالوادي الحار. وفي شهر ربيع الآخر طلع الأمير سيف الدين طغريد للمحطة على حصن شَخَبٍ فوثب عليه. ولزم جماعة من مشائخ مذحج. ونزل في آخر ليلة من جمادى الآخرة. وهي ليلة السبت وقع مطر عظيم في قطر اليمن فعمَّ اليمن كله. وكان حدوثه على مضي النصف من الليلة المذكورة. وكان فيه رعد عظيم وريح شديدة. وكان معزم المطر في تهامة حتى قيل إنها أخرجت سفناً من ساحل الشرجة والأهواب بما فيها. وطرحتها على الساحل. وهدمت حصوناً شامخة في جبال تهامة وأقلعت أشجاراً عظيمة بأصولها.

قال المصنف رحمه الله وأظنها المطرة التي تسمى مطرة السبت فإنها مشهورة مذكورة. وكانت في آخر المائة السابعة وقل من يعرفها في عصرنا هذا سنة ست وتسعين وستمائة. وأدركت جماعةً ممن يعرفها وقد انقرضوا الآن لتقادم العهد. وفي شهر شعبان طلع الأمير جمال الدين علي بن بهرام إلى مأرب فعمر الحرمة وأعاد أمورها كما كانت على أَحسن قاعدة ملوكية.

وفي هذه السنة توفي الإمام مظهر بن يحيى وكانت وفاته يوم الاثنين الثاني عشر من شهر رمضان المعظم من السنة المذكورة. وكانت بذروان حجة. وفي النصف الثاني من شهر رمضان المذكور طلع الملك المظفر إلى صنعاء. وقد كان

ص: 259

السلطان جهز عسكره إلى حجة. منهم أستاذ دائرة الأمير الكبير بدر الدين محمد بن عمر بن ميكائيل. والفقيه شرف الدين أحمد بن علي الجنيد للمحطة على ابن الصليحي بيمين وعلى عمر بن يوسف بالطفر. فسلما الحصنين ونزلا على الذمة. ثم توجه الركاب العالي إلى البلاد العليا. وذلك عند امتناع الأشراف من الصلح فكان دخوله صنعاء لخمسة أيام بقين من ذي القعدة من السنة المذكورة ثم طلع الظاهر يوم الرابع عشر من ذي الحجة. وكان طلوعه في اليوم المسفر صاحه عن ليلة الكسوف القمري ويقال

مع السعادة ما للنجم من اثرٍ

فلا يضرُّك مرّيخ ولا زحل

ولما استقر السلطان بالمعسكر يوم الأحد سار يوم الاثنين نحو المنقاع بعساكره فقاتل عليه ثم عاد إلى محطته. وقد كان الأمير بن وهاسٍ والشيخ قاسم بن منصور صاحب ثلا خالفا على أصحابهما الأشراف. ووصلا إلى السلطان قبل طلوعه الظاهر. فصدر مع أولاد الشيخ قاسم ابن منصور الأمير علم الدين قاسم بن حمزة والأمير الصارم إبراهيم بن يوسف بن منصور في عسكره إلى بلاد حمير والطرف لحرب الأمير تاج الدين وأقام على العسكر ثمانية عشر يوماً في أثنائها دخلت عساكره صعدة مع الأمير جمال الدين علي بن بهرام. والأمير أسد الدين محمد بن أحمد بن عز الدين فذاكر لهم الأمير نجم الدين موسى بن أحمد والأمير أحمد بن علي والشريف محمد الهادي. ولما افترقت عساكرهم نزل الأمير موسى إلى حصنه عزان فخرب العسكر داره وبستانه.

وفي هذه السنة توفي الفقيه الصالح عبد الله بن أبي بكر بن عمر بن سعيد السعدي نسباً إلا بيني بلداً المعروف بابن الخطيب. وكان أبوه خطيباً في قرية من قرى أبين تعرف بالطرية. وكان مولده بها يوم الجمعة السادس من شهر رمضان من سنة أربع وعشرين وستمائة. فلما شب وقرأَ القرآن خرج من بلده طالباً للعلم فوصل

ص: 260

قرية الضحى من نواحي سردد فأدرك الفقيه محمد بن إسماعيل الحضرمي فأَخذ عنه بعض شيءٍ ووجده مشغولاً بالعبادة قليل الفراغ لإقراءِ العلم فعزم على الانتقال إلى بعض الفقهاء وخرج عن القرية لذلك. فعلم بن الفقيه محمد بن إسماعيل فتبعه وأعاده وجاء به إلى ولده إسماعيل وقد تفقه وهو معتكف في المسجد يطالع الكتب. فقال له يا ولدي قد ألزمتك إقراء هذا الفقيه وتعليمه فقال حباً وكرامة. فكان أول من لزم مجلس الفقيه إسماعيل وتفقه به ولم يزل عنده حتى كمل تفقهه. ثم حصلت له عناية من الفقيه إسماعيل فاستغرق في العبادة وظهرت له كرامات وكان كثيراً ما يرى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن أمور مشكلة فبينها له. ولما كمل تفقهه وصار مملياً من سر الله عاد إلى بلده الطرية فلم يطب له فدخل مدينة عدن وسكن مسجداً يعرف الآن به بناحية حرام الشوك. فتسامع به أهل بلده وقصدوه إلى المسجد وترددوا إليه حتى شغلوه عن العبادة فتعب لذلك اشد التعب. وشكا إلى بعض خواصه ذلك فقال يا فقيه سلهم قرض شيء من أموالهم فعمل ذلك مع أحدهم فاعتذر وخرج وصار كلما لقي أحداً من أصحابه خبره أن الفقيه سأله قرض شيء من ماله فاعتذر منه فعرفوا أنهم متى وصلوا الشيخ سألهم كما سأل الأول فلم يعد أحد بعد ذلك يأتي الفقيه وانقطع الناس عن الوصول إليه فاستراح لذلك أشد راحة. وكان في عدن رجل مغربي له بنات وفيه خير ومحبة للعلماء والصالحين وعنده دنيا واسعة فوصل إلى الفقيه وصحبه وائتلف به ائتلافاً شديداً وزوجه واحدة من بناته فولدت له عدة أولاد وصحب الفقيه جماعة من أهل عدن وانتفعوا به نفعاً عظيماً وتهذبوا وصاروا أهل عبادة وزهادة. وأقام الفقيه في عدن مدة ثم خرج منها قاصداً تهامة فلما وصل موزع وقد علم بوصوله فقيهاً وحاكمها يومئذ الفقيه حسن الشرعي. خرج في لقائه فلما التقاه أكرمه وانصفه وأنزله في بيته وبجلهُ وعظم حرمتهُ. فلما رآه الناس تأسوا به ثم أن الفقيه أعجبته موزع فتديرها وظهرت له فيها كرامات تخرج عن الحصر حتى أن كل من جنى ذنباً وهرب على ناحية الفقيه لا يقدر عليه أحد أبداً ولا يقصدهُ أحد بشر ما دام في جوار الفقيه. ولما مرض الفقيه مرض

ص: 261

موته الذي مات فيه دخل عليه جماعة يعودونه في يوم سبت فقال يكون يوم الثلاثاء جلبة عظيمة يالها من جلبة. فكانت وفاته في يوم الثلاثاء لثمان بقين من شهر ربيع الأول من السنة المذكورة. وقبره في المقبرة التي قبر فيها الفقيه يعقوب وغيره من فقهاء موزع والى جنبه قبر الكاشغري في وسطها والشرعبي في شرقها ويعقوب في غربها رحمة الله عليهم أجمعين.

وفيها توفي الفقيه الصالح أبو العباس أحمد بن الحسين بن أبي السعود ابن الحسن بن مسلم بن علي الهمداني. وكان مولدهُ يوم الأحد تاسع الحجة من سنة وتسعين وستمائة. وكان فقيهاً مجتهداً محصلاً ورعاً زاهداً تفقه بمحمد بن وكان كثير التردد إلى أبي حسن الأصبحي ويراجعه فيما يشكل عليه من المسائل ومن ورعه أنه كان في قرية العراوي شي يعتاده وهو قدر جيد من الطعام وهو من أملاك وقفها أهل الدار الشمسي وبراً فتورع هذا عنه ولم يقبله. وانقطع ذلك عن القائم بالقرية إلى عصرنا. وكانت وفاته ليلة الثلاثاء لثلاث عشرة بقين من ذي القعدة من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الفاضل أبو حفص عمر بن عبد الله المعروف بابن عقبة نسبة إلى بني عقبة القضاة الذين ذكرهم ابن سمرة في قضاء جبلة. وكان تفقه بالفقيه عبد الرحمن بن سعيد العقيبي وغيره من فقهاء جبلة ودرس في مدرسة الجبالي. وتوفي في صفر من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفي سنة ثمان وتسعين نهض السلطان الملك المؤيد أول يوم من المحرم من محطته إلى أطراف الظاهر فوقف هناك ثمانية أيام ثم نهض إلى جهران فوقف فيها ثمانية أيام أيضاً. ثم نهض فحط بالظاهر الأسفل. وكان قد أخرب دار الأمير همام الدين وبستاناً له. ثم سار نحو جبل ظفار فتأهب الأشراف لقتاله فأحرقت ما حوله من الأعشاب. ووصله الأمير محمد بن داود بن الإمام فوقف عندهُ أياماً ومات في المحطة.

وفي هذا التاريخ وصل شريف السيد محمد بن الهادي المعروف بالقطابري

ص: 262

إلى الأشراف فأرادوا أن يقدموه إماماً وكان كاملاً فامتنع من ذلك. فلما كان يوم الاثنين الثالث من صفر نهض السلطان من محطته مبات بالكولة وأقام يوم الثلاثاء ثم سار يوم الأربعاء فحط في القصر عند أشيح فأقام هنالك يوم الخميس وسار يوم الجمعة السابع من صفر فحط على البقاع بعساكره وجنوده. فملأت جيوشه تلك الأماكن كلها وانتشرت في تلك الجهات.

إذا حلَّ في ارض بناها مدائناً

وان سار عن أرض توت

فلما اصبح يوم السبت الثامن من الشهر المذكور نصب المنجنيق على الحصن المذكور وحاصره حصاراً شديداً وهو يومئذ للأمير جمال الدين علي بن عبد الله ولم يكن يومئذ فيه وإنما كان فيه ابنه الشريف إدريس ابن علي فزحفت العساكر المنصورة على الحصن ثلاثة أيام متوالية فكتب الأمير جمال الدين علي بن عبد الله إلى سائر الأشراف كتباً متتابعة يطلب منهم النصرة وهم يغالطونه ويعتذرون بالعجز. فلما اشتد عليهم الأمر كاتب في معنى الصلح وحصل خطاب ومراجعات. واستقر الحال على أن الأمير جمال الدين يواجه الصاحب موفق الدين فوصل إليهِ. واتفق حضور الملك المنصور والملك المظفر فاجتمعوا جميعاً وساروا بأجمعهم إلى المقام الشريف السلطاني. فلما علم السلطان رحمة الله عليه بوصول الأمير جمال الدين علي بن عبد الله ركب من مخيمه للقائه وقد صاروا بالقرب منهُ. فأكرمه وانصفه وانعقد الصلح بينهم وأخذ للأشراف ذمة سبعة اشهر وسلم لأجلها حصن ذيفان لان السلطان امتنع من الذمة عليهم. فلما استقر بالمحطة طلب من السلطان دخول الإعلام الشريفة الحصن اظهراً لطاعة والتسليم فنصبت في أعلى الحصن وكذلك العظيمة خفقت ذوائبها في أعالي الحصنين ولقد أحسن الحسن بن هاني حيث يقول

من كان بالسمر العوالي خاطباً

جلبن لهُ بيض الحصون عرائساً

ص: 263

ولما انتظم الصلح وتسلم السلطان الحصنين المذكورين العظيمة والميقاع قال العفيف عبد الله بن جعفر يمدح السلطان الملك المؤيد ويذكر أخذه للحصنين المذكورين فقال

إرث الخلافة في يديك مشاعُ

وغرارُ سيفك شاهدُ قطاع

شمس رأَت غلب الملوك شعاعها

فقلوبها منها تطير شعاعُ

تبع التتابع في عناصر حمير

والى المناقب هم لهُ أَتباعُ

عمرو وعمرو ذو الجناح ومنذرُ

والأَيمانِ وفايش وكلاعُ

ماء السماءِ سقى منابت اصلهِ

ريّاً فأَورق عرقهُ النزاعُ

فلقد أَعاض بيوسف يقطان لا

نكل ولا وكلُ ولا مجزاعُ

أَرى إلى الشرق القصي بشرب

خطواتها نحو المغار سراعُ

والشمس من لمع الحديد كليلةُ

والجو من سمر اليراع يراعُ

وفيالق سالت هوادئ خيلها

سيل الأَتىّ تداولتهُ تلاعُ

تسري فمن زُرق الأَسنة فوقها

نارُ ومن أسل الوشيح شعاعُ

غسلت مياه سيوفها ماء الدجي

فتشابه الإصباح والأهزاعُ

ينحو بها مبدأ النجوم طوالعاً

ملكُ مطيعُ للإِلهِ مطاعُ

ليس العظيمة بالعظيمة عند من

لسيوفهِ ميقاعها ميقاعُ

لم يشقَ وافدهم إليه وهل ترى

يشقى أمرهُ وجليسهُ القعقاعُ

فغنمت أَدعيةً بأفواهٍ لهم

فيهنَّ من ثدي البتول رضاعُ

وحفظت حقاً للنبي محمدٍ

فيهم ولست بما حفظت تضاعُ

أَمؤَيد الإسلام داود الذي

للعالمين بفضلهِ إجماعُ

ما يلتقي شرق البلاد وغربها

إلا إذا ما امتدَّ منك الباعُ

أَهويت بالسيف العداة كما هوى

وُد بسيف محمدٍ وسواعُ

الله أَعطاك السعادة كلها

ماذا يضرُّ وربك النفَّاعُ

وهي أطول مما ذكرت وهذه عيونها ثم اقبل السلطان رحمهُ اله تعالى على

ص: 264

الأمير جمال الدين علي بن عبد الله إقبالاً عظيماً وأزال عنهُ ما في خاطره وجدد له حمل الطبلخانة وحمل لهُ من الأموال والكساوي شيئاً كثيراً. ووصل ذلك كله إلى الميقاع. فخرج لإنشاء الرضاء مزفوفاً بالطبلخانة تحت خوافق الأعلام الهزبرية. وأعاد له بلاده التي كانت له. وفي أول يوم من شهر ربيع الأول ارتفع السلطان من المحطة إلى صنعاء.

أمام الكتيبة تزهى بهِ

مكان السنان من العامل

قال الشريف إدريس وسرت في خدمته مع والدي وعدت من هناك وقد كنت خرجت إليه في محطة الميقاع فانصفني وأكرمني وأمر لي بمال جيدٍ وكسوة نفيسة وحصان جواد ولما استقر السلطان في صنعاء وصله أمراء الأشراف ومشايخ العربان. ووصل في جملتهم الأمير نجم الدين أحمد بن علي بن موسى بن الإمام لتمام صلح الأشراف فتم على تسليم اللحام ونعمان وصعدة وقسمة بلاد مدع كما كانت أيام الخليفة. وسارت البشائر بما استولى عليه من الممالك.

ثم توجه السلطان طالباً قبة العز من مدينة تعز وفي صحبته الأمير جمال الدين علي بن عبد الله والأمير نجم الدين أحمد بن علي بن موسى بن الإمام والأمير جمال الدين عبد الله بن علي بن وهاس وأمراء العرب. وقد دانت له البلاد والعباد فأقام في تعز أربعة اشهر.

وفي هذه المدة ظهر للسلطان ولده الملك السعيد من الجهة الكريمة ابنة الأمير أسد الدين محمد بن الحسن بن علي بن رسول. وكانت له فرحة عظيمة ولم تطل مدته بل توفي بعد أيام قلائل فكان كما قال التهامي حيث يقول:

يا كوكباً ما كان اقصر عمرهُ

وكذاك عمر كواكب الأسحار

وهلال أيام مضى لم يستدر

بدراً ولم يمهل لوقت سرار

ثم توجه السلطان إلى زبيد في شهر جمادى الأخرى من السنة المذكورة وصحبته أمراء الأشراف ومشايخ العرب ودخل بجيشه مدينة زبيد فأقام فيها

ص: 265

شهر شعبان الكريم فصام رمضان في مدينة تعز وعيَّد عيد الفطر بها. واستودعه الأمير جمال الدين علي بن عبد الله يوم العيد وهما على السماط وتوجه إلى بلاده في شوال.

وحكى الشريف إدريس في كتابه قال تذاكرنا عند والدي رحمه الله إنصاف السلطان له وما أعطاه من يوم خروجه من الميقاع في سلخ صفر إلى أن فارقه في مستهل شوال فحسبناه جملاً لا تدقيقاً فكان اكثر من سبعين ألف دينار ملكية خارجاً عن الكسوات والخيول والعروض والآلات. وما أشبهها بقول القائل

تلك المكارم لا قعبان من لبن

شيباً بماء فعادا بعد أبوالا

وفي شهر ذي القعدة قدم الملك المظفر حسن بن داود إلى إقطاعه بصنعاء. وكان قد نزل مع أبيه يوم نزوله. فكان دخوله صنعاء يوم الاثنين ثالث عشر ذي القعدة من السنة المذكورة. فأقام بها إلى سلخ ذي الحجة من السنة المذكورة.

وتقدم الركاب العالي إلى عدن. وكان تقدمه في آخر شوال من السنة المذكورة فأقام هنالك إلى سلخ ذي الحجة وعيَّد عيد النحر بها وكان السماط في حقات تحت المنظر السلطاني على شاطئ البحر وقام الشعراء على السماط بأنواع الممادح. وبعد عبد الله بن جعفر فأرسل بقصيدته صحبة الشيخ محمد بن خطاب فانشدها وهي قصيدة طنانة من مختارات شعره

أعلمت من قاد الجبال خيولاً

وأَفاض من لمع السيوف سيولا

وأماج بحراً من دلاصٍ ذاخرٍ

جرَّت أُسود الغاب منهُ ذيولا

ومن القسي أَهله ما ينقضي

منها الخصاب من النصول نصولا

وتزاحمت سمر القنا فتعانقت

قرباً كما يلقى الخليل خليلا

فالغيث لا يلقى الطريق إلى الثرى

والريح منهُ لا تطيق دخولا

سحب سرت فيها السيوف بوارقاً

وتجاوبت فيها الرعود صهيلا

طلعت أسنتها نجوماً في السما

فتبادرت عنها النجوم أُفولا

ص: 266

تركت ديار الملحدين طلولا

مما يبيح بها دماً مطلولا

والأرض ترجف تحتها من أفكل

والجوُّ يحسب شلوه مأْكولا

حطمت حجافلها الجحافل حطمة

تدع الحمام مع القتيل قتيلا

طلبوا الفرار فمد شيطان القنا

فأَعاد معقلهم بهِ معقولا

عرفوا الذي جهلوا فكل غضنفرٍ

في الناس عاد نعامة أجفيلا

أين الفرار ولا فرار وبعدهم

من ليس يترك للفرار سبيلا

ملكُ إذا هاجت هوائج بأْسهِ

ترك العزيز من الملوك ذليلا

يقفو المظفر والشهيد مآثراً

وعلىً وفخراً في الملوك أًثيلا

وافى إلى عدنٍ كمقدم جدهِ

سيف بن ذي يزن الكرين أصولا

بحرُ إلى بحر يسرُّ بمثلهِ

عيذاب ينذر دجلة والنيلا

وتقبلت عدنُ جبينك والتقت

في ملتقاه سعادة وقبولا

فالشمس تحسد تاجك المعقود وال

كليل يحسد ذلك إلا كليلا

لو يستطيع الثغر كان مقبلاً

بالثغر منهُ ركابكم تقبيلا

أن جاوزت هذي الشمائل بحره

جعلت مذاق الماء منهُ شمولا

أنت الذي الدنيا ميسرة بهِ

والناس ينتظرون جيلاً جيلا

فاليوم قد وهب الإله لخلقهِ

ظلاًّ على الأَقطار منهُ ظليلا

وأَتى لهم بدر السماء بذمةٍ

مكتوبةٍ لا يظلمون فتيلا

الهزبر غسان بن قحطان الذي

يدعوهُ في النسب القبيل قبيلا

في كل يومٍ لا برحت مقابلا

فتحاً من الملك الجليل جليلا

في حيث ما رفعت بنودك نُزّلت

آيات نصرك فوقها تنزيلا

لولا العوائق والعلائق لم أَغب

عن ظل بابك بكرةً وأَصيلا

ومن التكرُّم والتفضل لم يزل

عذري إلى صدقاتكم مقبولا

لا زال توفيق الإِلهِ مقارناً

لك حيث كبت إقامة ورحيلا

ص: 267

وقدم التجار المقيمون بالثغر النقاديم النفيسة على عوائد الملوك فردها السلطان وأمر بإفاضة الخلع عليهم والتشاريف والمراكب من البغال المختارة بالعدد الكاملة والسروج المذهبة والزنانير المنوعة. وأجرى نواخيذ الهند على جاري عادتهم. وأمر بإكرام النواخيذ والتجار المترددة إلى الثغر المحروس وأمر بأبطال ضمان بيت الخل. وأقام بفضله موسم العدل. وشاهد موسم الخيل من باب الطويلة. وسارت النواخيذ والتجار الكارمية ناشرين لواء عدله في أمصارهم. وابتسم الثغر عن مقابلته وعاد قافلاً إلى مدينة تعز.

وفي هذه السنة توفي الفقيه الصالح عبد الله بن أحمد بن محمد الشكيل وكان مولده سنة سبع عشرة وستمائة أخذ في بدايته عن أبيه ثم عن ابن ناصر بالذبيتين ثم عن عبد الله بن عمران الخولاني المتقدم ذكره. وكان جميل الخلق حسن القامة ذا لحية حسنة. ولقد سمع منه كثير يقول ما ذقت مسكراً قط مع كونه في بلادهم كثيراً ولا فاتتني صلاة لوقتها منذ بلغت ولا أتيت كبيرة.

ويروي عن الفقيه صالح بن عمر الرهي أنه رأى في منامه قائلاً يقول إذا أردت أن تنظر شيبة أبي بكر الصديق فاخرج ضحى ليلتك هذه إلى صلب ذي السقال تلق الرجل. قال فصليت الضحى وقتها ثم خرجت نحو الصلب الذي أشار إليه المخبر في النوم فلم الق ذا شيبة إلا عبد الله بن شكيل ماشياً ومعه صاحب له يحمل مشعله فلم اشك أنه المعني فسلمت عليه وتبركت به. وكانت وفاته ليلة الجمعة بعد صلاة المغرب غرة ذي الحجة من السنة المذكورة رحمه الله.

وفيها توفي الفقيه الصالح إبراهيم بن الفقيه محمد بن إبراهيم المارني. وكان مولده سنة خمس عشرة ستمائة وتفقه بعمر بن سعيد وهو اكثر من تروى كراماته ودرس بعد الفقيه أبي السعود في حياة شيخه.

ومن غريب ما يروى عمر من الكرامات أنه قال حصلت عليّ حمى حتى انقطعت بسببها أياماً في البيت فسأل الفقيه عني فاخبره اخوته بذلك فاتاني يزورني إلى ذي محدان. وقال لي يا إبراهيم أتحب أن اكتب لك عزيمة تعلقها عليك وبشرط

ص: 268

أن لا تفتحها ولا تنظر ما فيها فقلت نعم فاستدعى بدواة وقرطاس. وكتب سطراً لم ادر ما هو ثم طوى الورقة وناولنيها وامرني بتعليقها على عضدي بخيط ففعلت. فلم أكد أتمم تعليقها حتى انقطعت عني الحمى فعجبت من ذلك فقلت في هذه الورقة اسم عظيم وأظن الفقيه حسدني عليه. ثم فتحتها. فوجدت فيها مكتوباً بسم الله الرحمن الرحيم لا غير فعجبت من ذلك وداخلني بعض ما يدخل العارف من المعروف إذ بالحمى قد عودتني بحالة أشد من الأولى فرحت إلى الفقيه وأخبرته فقال لعلك فتحت العزيمة فقلت نعم فقال اكتب لك غيرها بشرط أن لا تنظر فيها فقلت سمعاً وطاعة. فكتب مثل ذلك. وأمر من عمل لها خيطاً وعلقها عليَّ فلم تأتني فلبثت أياماً ثم فتحتها فوجدت فيها ما وجدت أولا. فداخلني شيء ما هو دون ما داخلني أولا فلم أقم حتى عادت الحمى فرحت إلى الفقيه وسلمت عليه فقال هل نظرت في العزيمة فقلت نعم فقال ألم أنهك اقتصر عن ذلك وأنا أكتب لك غيرها. فأجبت بالطاعة وكتب لي غيرها فلما علقها انقطعت الحمى فحمدت الله تعالى ولم أفتش العزيمة إلا بعد سنتين عديدة فلم أجد غير ما وجدت في الأولى والثانية فقبلت ذلك ووضعته على رأسي فلم تعد لي الحمى بعد ذلك ولما صار القضاء إلى بني محمد بن عمر جعلوا هذا إبراهيم قاضياً في جبلة فأقام مدة يسيرة. وتوفي وكانت وفاته في شهر رمضان من السنة المذكورة.

وفيها توفي الفقيه الصالح أبو محمد عبد الرحمن بن أسعد بن محمد بن يوسف الحجاجي ثم الركبي وكان مسكنه بقرية تعرف بأروَس بهمزة مفتوحة وراء ساكنة. وواو مفتوحة وآخره سين مهملة. وهي من ناحية الدملؤة تفقه بعبد الله بن عبيد السجعي. ثم ارتحل إلى عدن فاخذ بها عن الفقيه أبي بكر المقري وأخذ عن السلفاني وكان فقيهاً عارفاً درس في بلدة وأخذ عنه بها جماعة وانتفعوا به. وكان مبارك التدريس فمن تفقه به محمد ابن أبي بكر مسبح. وعبد الله بن عبد الرحمن حاكم الدملؤة. وعلي بن محمد السحيلي. ومحمد بن عمر الخطيب وعبد الله بن أبي بكر الخطيب قاضي الجوة وأبو بكر بن محمد الأشعري.

ص: 269

قال الجندي. ولما منحت بحسبة عدن جعلت ابحث عن أحوال حكامها وفقهائها القاطنين والواردين فسمعت أهل عدن يذكرون عن هذا أنه كان ذا قضاء مرضي وإنه لم يصل أيام بني محمد بن عمر قاض مرضي السيرة في الظاهر والباطن غير هذا الفقيه. وكانت وفاته في السنة المذكورة في ناحية المفاليس رحمة الله.

وفيها توفي الفقيه الصالح ابن عمر يوسف بن عمران بن النعمان بن زيد الحرازي وكان فقيهاً صالحاً حبراً عالماً ورعاً زاهداً وولي قضاء الجند. وكان متحرباً ولم تطل مدته وتوفي على النهج المرضي في أول السنة المذكورة.

وفي سنة تسع وتسعين أخذ الملك المظفر حصن غراس بالسيف قهراً وأخذ قبله حصن أرياب وهما للإسماعيلية. وأقيمت لذلك في صنعاء فرحة عظيمة وكسى جامعها بأنواع الملابس. وأمر أمير البلد أن يلبس الدكاكين والأسواق واظهروا سب الإسماعيلية.

وفي هذه السنة توفي الأمير الكبير جمال الدين علي بن عبد الله بن الحسن بن حمزة بن سليمان بن حمزة في حصنه الميقاع. وكان من رؤوس الأشراف ووجوههم وأعيانهم وصدورهم. وكانت وفاته يوم الثامن من جمادى الآخرة من السنة المذكورة. وعمه يومئذ نيف وسبعون سنة ولما توفي في تاريخه المذكور تمثل بقول زياد الأعجم حيث يقول

مات المغيرة بعد طول تعرض

للقتل بين أسنة وصفاح

ولما مات الشريف جمال الدين اجمع أهله على تقديم ولده الأمير عماد الدين إدريس. وكان الريف إدريس من أعيان الرجال جامعاً لخصال الكمال فارساً هماماً شجاعاً مقداماً أدبياً أريباً عاقاً لبيباً جواداً كريماً عفيفاً حليماً جامعاً لأشتات العلوم من المنثور والمنظوم وهو مصنف كتاب كنز الأخبار في التواريخ والأخبار. وله غيره من التصانيف المفيدة لاسيما في التاريخ. ولما توفي والده كما ذكرنا كتب إلى السلطان الملك المؤيد يعرف خاطره الكريم أنه ثمرة شجرة غرسها إنعامه وغصن

ص: 270

دوحة إكرامه وتقدم شكر بن علي القاسمي إلى الباب الشريف فقرر له عند السلطان. وكتب إليه بان يصل إلى الأبواب الشريفة وأرسل له بذمة سلطانية فلما وصلته الذمة السلطانية تقدم إلى الباب الشريف وكان وصوله آخر ذي القعدة من السنة المذكورة. وكان السلطان يومئذٍ في تعباب فأحضر للسلام إلى دار السلام فتلقاه السلطان بالترحيب التام والإجلال والإكرام واتفق حضور عيد النحر من السنة المذكورة. فبرز الأمر الشريف إلى أتابك العساكر المنصورة لأنه لا يستفتح الميدان أحد غيره مقدماً على كافة الأمراء ووجوه الدولة فكان كذلك ولما كان بعد العيد جرى الكلام على تسليم ما تحت يديه من الحصون وكان تحت يده العظيمة والميقاع فرأى أن تسليمها عنوان السلامة لأنه عنده عدالة فخشي أن يؤخذ عليه فيهم إلى المساعدة.

وفي هذه السنة توفي الفقيه الفاضل الإمام أبو العباس عباس المساميري ثم الرافعي وكان مسكنه قرية القرشية من وادي رمَع. وكان فقيهاً فاضلاً كبير القدر شهير الذكر من أقران الفقيه أبي الخير بن منصور المحدث بزبيد وكان كثيراً ما يقول أبو الخير أكثر كتباً مني وأنا أكثر علماً منه. وكان يغلب عليه فن الأدب ويقول شعراً جيداً

لا يطلب أعلم إلا الحرُّ ذو الكرم

أو من لهُ حسب الآباءِ والشيم

أَو لوذعيُّ أبي سيدُ فطنُ

مقبَّلُ يقظُ مستقبل الفهم

إما ذوو الصّدِ ممن قد ذكرتهمُ

بالفلس عندهم من اشرف الهمم

أُفّ لهم ولدنياهم وما جمعوا

وحبذا الجهبذ النقاد للكلم

كل امرئ راسب في العلم عنصرهُ

فانهُ في اقتباس العلم ذو قدم

وفيها توفي الفقيه الحسن علي ابن محمد الحكمي كان فقيهاً فاضلاً عارفاً تفقه بعلي بن إبراهيم النخلي. ودرَّس في حياته مدة وانتفع به جماعة وتزوج بابنة أخيه الفقيه عمر بن إبراهيم وظهر له منها أولاد. ولم يزل على التدريس إلى أن توفي في صفر من السنة المذكورة رحمه الله. وكان له ولد سلك مسلكاً غير لائق وتوفي هنالك والله الموفق.

ص: 271

وفي سنة سبعمائة تسلم السلطان الحصون التي كانت تحت يد الشريف إدريس بن علي في سادس عشر المحرم. وأمر السلطان أن يجري على عادة أبيه فحملت له الطبلخانة والإعلام وأمر له بسبعة آلاف دينار وتحف وملابس وخيل ومماليك. وركب الأمراء والأجناد إلى الخدمة الشريفة تحت خوافق الإعلام السلطانية وارداً وصادراً وانثنى إلى داره فيمن معه من العسكر المنصور. ودخلوا إلى سماط جليل الشأن مختلف الطعم والألوان. وقبض المنشور بإقطاع مدينة القحمة. وقال في ذلك قصيدة يمدح فيها السلطان يقول فيها

عوجاً على الربع من سلمى بذي قار

واستوقفا العيس لي في ساحة الدارِ

وسائلاها عسى تنبئكما خبراً

يشفي فؤداي ويقضي بعض أوطاري

وقال في أثنائها

يا راكباً بلّغن عني بني حسن

وخص حمزة منهم عصمة الدارِ

أنَّ المؤَيد أَسماني وقرَّبني

واختارني وهو حقّاً خير مختارِ

أعطى وأمطى وأسدى كل عارفةٍ

يقصر الشكر عنها أيَّ إٌقصارِ

واختصني بولاءٍ منهُ فزت بهِ

فاصبحَ الزند مهُ أَيما وارِى

فلست أخشى لريب الدهر من حدث ولا أُبالي بأهوالٍ وأخطارِ

وكيف خوفي لدهري بعدما علقت

كفي بملكٍ شديد البطش جبارِ

الأروع الأغلب الغلاب والأسد الليث الهصور الهزبر الضيغم الضاري

بمن إذا خفقت راياته خضعت

له الملوك وخافت حكمة الجاري

وقابلتهُ بمن تهواهُ باذلةً

ما يرتضي من أقاليم وأمصارِ

ثم تقدم الركاب العالي إلى تهامة فكان مسيره من تعز يوم السبت الثالث من صفر. فلما دخل زبيد أقام بها إلى أيام في شهر ربيع الأول. ثم نهض يريد الأعمال السرددية فدخل المهجم في ألف فارس من عسكره. وهنأه عدة من شعراء دولته. منهم الفقيه العفيف عبد الله بن علي بن جعفر الشاعر المشهور فقال:

لو كان يقدر أن يكون الزائرا

لك سردد لمشى إليك مبادرا

ص: 272

منع الجماد جموده أن يعتري

عتبات بابك وارداً أو صادرا

وتمرَّغت ارض على الأرض التي فيها مقامك أوجهاً ومحاجرا

شرَّفت مهجم سردد فتشرفت

ورفعتها فوق النجوم مفاخرا

أوردتها رجراجة جفنيةً

خضراء طامية لقبض عساكرا

بحرُ إذا ما الريح سارت فوقه

جعلت لمسلكها البنود قناطرا

شرعت صدر الخيل في حافاتهِ

حتى حبست الفلك فيه مواخرا

أذكرته مَفْدى أبيك لمكةٍ

وإنابةً منه فاصبح ذاكرا

وكفاهُ فخراً أن يمس قساطلاً

لركابكم ومناسماً وحوافرا

حظ يكون بهِ تراب بلاده

مسكاً ويرمعه يعود جواهرا

عجباً لحلمك في الخلائق عادلاً

ولحكم كفك في الخزائن خاطرا

ولحد سيفك أين غاية حدهِ

إذ ليس يبرح في الرقاب مسافرا

نار يقبضة راحةٍ فيّاضةٍ

كالبرق يصطحب الغمام الماطرا

ولقد تعدى في الطلا أفعاله

ضرباً وكن لها الفتوح مصادرا

ثبتت أصول الملكِ بين بيوتكم

فسقيتموها سؤْدداً ومآثرا

فحكت أواخركم بذاك أوائلاً

وحكت أوائلكم بذاك أواخرا

أنجبت من جرثومة ملكيةٍ

حسن المظفر ثم عيسى الظافرا

أعجزت أَلسنة الخلائق كلها

مدحاً فكيف أكون وحدي قادرا

فبقيت يا ركن الخلافة دائماً

أبداً وكان لك المهيمن ناصرا

فأقام السلطان في المهجم أياماً ثم نقل إلى زبيد. فتقدمت العساكر المنصورة إلى بلاد المعازبة لفساد ظهر فقتل منهم جمعاً كثيراً ونهب أموالهم نهباً شديداً وسلموا الرهائن فتركت رهائنهم في زبيد. وتقدم السلطان إلى النخل في أوائل شهر رجب فقام هنالك أياماً. ولما عزم على الطلوع على تعز تقدم ولده الملك الظافر إلى صنعاء مقطعاً بها فلقيه القبائل إلى نقيل صيد. فلزم أهل صعدة خاصة وأخذ خيلهم لموجب فعلوه. وسار إلى رداع ثم إلى ذمار. ثم دخل صنعاء في العشر الأواخر

ص: 273

من رمضان. وسار السلطان من زبيد يريد تعز في النصف من رجب. وفي أواخر هذه السنة وقع بين السلطان والأشراف مكاتبات بسبب حوادث بين الأمير محمد بن أحمد بن موسى بن أحمد والأمير تاج الدين محمد بن أحمد بن يحيى فتحرك السلطان إلى الجند وطلب المناخات السعيدة من التهائم. وتقدم الأمير سيف الدين طفريل الخازندار إلى ذمار وعزم السلطان على طلوع البلاد العليا فوصل القاضي الذماري بما يرضي السلطان من رهائن الأشراف وتمام الصلح.

وفي هذه السنة توفي الفقيه الفاضل عثمان بن أبي بكر بن منصور الشعبي وكان من الفقهاء الناسكين مشهوراً بكثرة الصيام والقيام وقل ما يفطر من الأيام إلا قليلاً. وتفقه أولاً بفقهاء المصنعة وبأهل سهفنة ثم ارتحل إلى تهامة فتفقه بها أَيضاً على الإمامين إسماعيل بن محمد الحضرمي وأحمد بن موسى بن عجيل وكان كثير الحج والزيارة إلى أن توفي في السنة المذكورة تقريباً. فكانت وفاتهُ في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ودفن في البقيع مع الصحابة رضي الله عنهم.

وفي هذه السنة توفي الشيخ أبو بكر بن الشيخ علي الأهدل. وكان فقيهاً شيخاً فاضلاً. ويروى أن الشيخ أَبا الغيث بن جميل مرَّ بهم في بعض أسفاره فأقام عندهم أياماً في رباطهم واجتمع عنده يوماً جماعة من الفقهاء وسأَلوهُ عن عبارة الشيخ أبي بكر وأجاب السائل. فقال الشيخ أبو الغيث خذوا جوابكم منكم. وكان رجلاً مباركاً فاضلاً. وغلب عليه التصوف وطال عمره حتى قيل أنه بلغ عمره مائة سنة وخمس عشرة سنة توفي في السنة المذكورة.

وفي هذه السنة توفي الشيخ الفاضل منصور بن حسن بن منصور بن إبراهيم بن علي بن إبراهيم بن علي بن محمد الفرسي نسباً بالفاءِ المضمومة والراءِ الساكنة والسين المهملة قبل ياءِ النسب. ولد في شهر رمضان من سنة سبع عشرة وستمائة. وكان أحد أعيان الكتاب في الدولة المظفرية وصدر المؤَيدية ولم يكن فيهم نظير في كتب الأدب ولا في كثرة المحفوظات نظماً ونثراً ومهما أشكل من ذلك في وقته إنما يرجع إليه في الغالب. وأخذ عن الإمام الصنعاني المقامات وغيرها. وأخذ عن غيره

ص: 274

كزكريا بن يحيى الإسكندري عدة من كتب الحديث وغيرها. ويقال كان محفوظه من الشعر يزيد على عشرة آلاف بيت. وكان غالب أوقاته ناظراً إما في عدن وإما في جبلة وهما من أعظم محطات اليمن وما عرف يغلط في الحساب ولا خيانه لخدوم ولا بظلم الرعية. وتوفي وهو ناظر في جبلة في اليوم العاشر من المحرم من السنة المذكورة والله أعلم.

وفي سنة إحدى وسبعمائة سار السلطان من الجند إلى الدملؤَة فأقام فيها عشرين يوماً. وعاد إلى تعز وعزم على طلوع البلاد العليا فاستدعي الشريف عماد الدين إدريس بن علي من القحمة. فلما وصل تعز اتصل العلم أن الأشراف بني علي أصحاب المخلاف السليماني قتلوا المقدم خطبا وأخذوا من رتبته أربعين فارساً وكان مقيماً بالراحة في مائة فارس فبرز مرسوم السلطان إلى الشريف إدريس بالتقدم نحوهم. وأضاف إليه عسكراً من الحلقة المنصورة ومشد زبيد أحمد بن الحربتري والأمير المتولي بحرض. فسار العسكر المنصور إلى الراحة ودخلوها قهراً آخر شعبان من السنة المذكورة. وخرجوا هاربين فتبعهم العسكر إلى نحو اللؤْلؤَة. وحرق العسكر قرى المفسدين ثم انهم طلبوا الذمة والصلح وإعادة الخيل التي أخذوها من الراحة. وتسلم نائب السلطان الراحة وهو الشريف علي بن سليمان بن علي وانثنى العسكر المنصور قائلاً إلى الحرم الشريف السلطاني.

الأخرى من هذه السنة أوقع الأمير سيف طغريل بالجحافل والعجالم. وكان يومئذٍ مقطع لحج فقتل منهم نحواً من أربعين رجلاً. ثم أوقع بهم وقعة ثانية في ناحية الدعنس فقتل منهم نحواً من سبعين رجلاً. وفي آخر شعبان من السنة المذكورة طلع السلطان إلى البلاد العليا فأقام بالجند أياماً وبالموسعة أياماً وبصنعاءَ أياماً ثم خرج منها إلى الظاهر من بقيل عجيب. وكان السبب الذي أوجب طلوعه ما فعله الأميران موسى وتاج الدين في الصلح من حراب تعز والقنة. ثم دعوة ابن مظهر إلى نفسه بالإمامة واجتماعه بالأشراف في حوت وتقدمه إلى الطرف. ونزل الأمير تاج الدين إلى حجة المخلافة وقد خالف إليه بنو شاور

ص: 275

وغيرهم من قبائل العرب فاحرق العارضية وعاد.

فلما طلع السلطان من بقيل عجيب لقيه الأمير موسى بن أحمد إلى هنالك والأمير عبد الله بن وهاس وطلع السلطان جبل ظفار من جبل صبح. واستولى على القنة يوم الثلاثاء آخر يوم من رمضان فحط فيها بجميع عساكره. وسار بكرة يوم الأربعاء. واشرف ظفره على ظفار من الجهة التي تلي القاهر من غربيها ونزل جماعة من العسكر يقاتلون في الساقية وقتل نقيب الملك المنصور وعاد السلطان إلى القنة فأقام بها ثمانية أيام وشرع في عمارتها فلحق العسكر فيها مضرَّة شديدة من عدم الماسِ والزاد فبلغت القربة عشرة دراهم والزبدي الدقيق كذلك.

ولما تحقق السلطان مضرة العسكر أمر بان تنتقل المحطة إلى ورور ورتب في القنة الأمير نجم الدين موسى بن أحمد ورتب في تعز الحسام بن مسعود ابن طاهر وهو الحصن القديم الذي أخربه سليمان بن قاسم. وأمر بعمارة الموضعين ونصب في تعز منجنيق فاضرَّ بهم المنجنيق غاية الضرر واستمر الرمي والحصار وقد يقع قتال بعد قتال في بعض الأوقات تحت باب النصر بين أهل المحطة وأهل ظفار. ثم أصاب المحطة آفة فمات كثير من الجمال خاصة. وكان السعر تارة يرخص فيبلغ الزبدي أربعة دراهم وقد يعلو فيبلغ سبعة دراهم. واشعر على العسكر بالزحفة والقتال فدقت الكوسات الهزبرية وخفقت السناجق السلطانية فأشبهت البروق اللوامع. فرأَى الأمير علم الدين سليمان بن قاسم أنه إذا دام هذا الأمر أدى إلى خراب بلاده فأعمل الحيلة في ذلك فأخرج بني أخيه وجماعة من الأشراف إلى خارج درب ظفار عند باب جبير. وكان وزيره علي بن دحروج فصاح بأعلى صوته أن الأمير والأشراف يسأَلون من السلطان أن يشرف عليهم فخدموا لهُ بأجمعهم وقالوا نحن غلمان السلطان. فطلب ابن دحروج ذمة يصل بها إلى المخيم فأُجيب إلى ذلك فنزل ومثَّل بالمقام السلطاني. واستقرَّ الأمر على أن الشريف سليمان بن قاسم يبيع على السلطان تلمص بخمسين ألف دينار ويرهن بذلك أحد ولدي أخيه محمداً وداود ووزيره علي بن محمد بن دحروج وإن يخرب السلطان تعز المعمور على ظفار

ص: 276

والقنه وعلى أن الأمير تاج الدين يسلم حصن الحدة والحقوب. فقال من حول السلطان هذه مصلحةُ عظيمة فإن السلطان يملك صعدة بغير شك. وهذه الرهائن وثيقة لمن صدق. فأجاب السلطان إلى ذلك وقبض الرهائن بعد أن صاح لهم بالطيب واطلع لهم المال المشروط. وجهز السلطان الفقيه شرف الدين أحمد بن علي الجنيد في عسكر لقبض تلمص. وأرسل الشريف سليمان بن قاسم رسولاً معهم من أحد ثقاته وتقدموا جميعاً إلى صعدة. وعيَّد السلطان عيد النحر في ورور. وتخلف الشعراء لبعد الشقة فلم يحضر منهم إلا الأديب شائق الدين يوسف العنسي فقام يوم العيد بقصيدة بديعة. وهي:

الملك يوم ينام منه عيون

حتى يسيل من الدماء عيون

لولا ادالتك المصون من العدى

ما بات وجه الدهر وهو مصون

ضمنت لك الملك السيوف وكل ما

ضمن السيوف فإنه مضمون

وافيته بكتائب أعلامها

النصر والتأْييد والتمكين

من كل أرعن مكفهر أصبحت

منه سهول الأرض وهي حزون

لو شئت تورد بعضه جيحون ما

أَرواه جيحون ولا سيحون

كم نقع ليل قد دجا من ركضه

فجلاه سرد دلاصه الموضون

ضاقت لكثرته البسيطة كلها

فمقامها في الشرق أين يكون

فدع الحصون بلاقعاً من أهلها

فلقد أَصلتهم عليك حصون

ملوا السكون بها وظني انهم

قد ملهم أيضاً هناك سكون

فأطحنهم طحن الردى بكتائب

هي للطغاة جميعهم طاحون

فارض إرثك كلها من تبع

فاعقل حديثي فالحديث شجون

غمدان قصركم القديم وقصركم

صرواح كان وقصركم بينون

أظهرت بالجيش العرمرم كلما

أَخفت ظهور منكم وبطون

خرب ظفار ولا تدع كحلان تا

ج الدين فهو لملكهم قانون

ص: 277

واقبض ظفار ولا تدعه معجلا

يابن الملوك ففوقه لك دون

أنت المؤَيد بالإله فلا تخف

ممن يكيدك جاهداً ويخون

هذى الخلافة سعدها بك طالع

في حيث كنت ووجهها ميمون

لولاك للإسلام يا ملك الورى

لتنكر المفروض والمسنون

فبقيت للإسلام ما سطع الضحى

كهفاً يلوذ بظلك المسجون

وأرسل الفقيه عفيف الدين عبد الله بن جعفر بقصيدته إلى المحطة بورور وهي التي يقول فيها

فعلت بمهجته النوى أفعالها

ما حدت تلك الحداة جمالها

متحملاً ثقل الهوى لما رأَى

عِيسَ الأحبة حملت أثقالها

وفيها يقول

يا منصبي البكرات في طلب الغنى

ما أن تراقب أينها وكلالها

أن لم تشد رحالها يوماً إلى

سرح الحرير فلا تشد رحالها

ساد الملوك فلا تكون مثاله

أَبد الزمان ولا يكون مثالها

ودعت بداود الهداية حيث ما

عثرت فقال لها لما وأقالها

وحوى الخلافة لم تكن إلا له

طول الزمان ولم يكن الإلها

ملك إذا شن الجياد لغارة

جعل الخدود من الملوك نعالها

وتذكروا بالمنجنيق عليهم

يوم القيامة إذ رأوا أهوالها

فرموا إليها بالحصون مخافة

من رميها ومن القسي تنالها

لو لم يطعك ظفارها وتعزها

وسما فسها سمت أحبالها

وغللت منها في الشمال يمينها

وغللت منها باليمين شمالها

يا ابن المظفر يا هزبر الدين يا

داود منتخب الورى مفضالها

لا زلت تقسم المرجى فضله

من راحتيك وللعدى آجالها

ولما كان يوم الجمعة الخامس عشر من الشهر المذكور نهض السلطان من محطة

ص: 278

ورور وسار نحو خربان فزحف عليه يوم الثامن عشر من الشهر المذكور فقاتل العسكر قتالاً شديداً وبلغ الشفاليت باب الحصن. ووقع عنده هنالك الطعن والضرب ونزل السفاليت المكسورة. فاخرب أهل الحصن المحمولة. ورجع الشفاليت للقتال فوجدها قد أْخربت. وإلا فما كان دون فتحه شيء. وقتل من العسكر جماعة رمياً بالنشاب فمنهم الأمير محمد ابن الشعبي فأمر السلطان عليهم بالمحطة ونصب المنجنيق. فأقام ثمانية أيام. ثم سار إلى صنعاءَ وترك في المحطة على خربان الأمير شمس الدين عباس بن محمد بن عبد الجليل.

وفي هذه السنة توفي الأمير الكبير الشريف أبو تمي محمد بن أبي سعد بن علي بن قتادة الحسني صاحب مكة حرسها الله تعالى. وكان أميراً كبيراً له حظ وافر في الأمرية راغباً في الأدب وسماعه. وله الإجازات للشعراء الوافدين عليه من إطلاق الخيال وإجازات القصائد.

قد كان لما اتصل السلطان الملك المؤَيد بالملك جهز تلك السنة علمه المنصور ومحمل الحج السعيد صحبة القائد بن زاكي فتلقاه الشريف أبو تمي بالإجلال والإكرام. وخفقت ذوائب العلم المنصور على جبل التعريف بعرفة. وأعلن مؤّذنه على قبة زمزم بمناقب السلطان على رؤُوس الإشهاد فسمع تلك الأوصاف من ضمه ذلك المقام الشريف. وحلف السلطان الملك المؤَيد الإيمان المغلظة ولبب على قميصه على مقتضى ما جرت به العادة ووصل إلى الشريف المذكور ما اقتضته المواهب السلطانية مما كان قرره الخليفة من العين والغلة والكساوي والطيب والمسك والعود والصندل والعنبر والثياب الملونة والخلع النفيسة. وكان مبلغ العين ثمانين ألف درهم ومبلغ الغلة أربعمائة مد. واستمرت أمريته على مكة ونواحيها اكثر من خمسين سنة. وكان له من الولد اكثر من عشرين ولداً. فافترقت أولاده بعده. وافترقت الأشراف والقواد مع أولاده. فكان طائفة منهم مع وميثة وحميضة وطائفة أخرى مع أبي الغيث وعطيفة فاستقوى رميثة وحميضة على أبي الغيث وعطيفة فلزماهما فأقاما في محبسهما مدة ثم احتالا فخرجا وتجورا في بعض بيوت القواد والأشراف فأجاروهما.

ص: 279

ولما وصل الحاج المصري تلقاهم أبو الغيث فمالوا إليه فلما انفصل الموسم قبض أمير الحاج المصري على الشريف بن رميثة وحميضة. وكان أمير الحاج يومئذ الأمير الكبير ركن الدين بيبرس فسار بهما إلى مصر مقيدين وأمر في مكة محمد بن إدريس وأبا الغيث وحلفهما لصاحب مصر فأقاما أياماً ثم أن الشريف أبا الغيث اخرج محمد بن إدريس واشتد الأمر وجرت بينهما حروب كثيرة قتل فيها جماعة من الأشراف.

ثم إن الشريف أبا الغيث كتب إلى السلطان الملك المؤَيد ببذل الطاعة والخدمة والنصيحة وأرسل برهينة فقبل منه السلطان ذلك.

وفي هذه السنة توفي الفقيه الفاضل محمد بن علي بن عيسى العكاري نسبة إلى قوم يقال لهم الاعكور. وهم بيت من السكاسك قاله الجندي وكان فقيهاً حبراً تفقه بالفقيه علي بن أحمد الأصبحي صاحب المعين وحج معه في هذه السنة فدخل مكة محرماً بعمرة فلما حل من عمرته قصد مدينة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم للزيارة فزار الضريح النبوي وأقام أياماً هناك. ثم قفل نحو مكة حرسها الله تعالى فتوفي في وادي مر عائداً من الزيارة في شهر ذي القعدة من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الفاضل أبو بكر بن مسعود. وكان فقيهاً فاضلاً يسكن قرية العراهد. وكان مستجاب الجعوة تفقه بالفقيه أبي القسم الزيلعي وبغيره. وكانت وفاته في السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الصالح أبو حفص عمر بن محمد بن عبد الله بن سلمة الحبيشي الوصابي. وكان ذا علم وعمل وزهد وله الشهرة في التعبد والصلاح وكان قد تفقه بالفقيه إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل المازني وعلى غيره من العلماء. وتولى القضاء في ناحية وصاب. ولم يزل على الطريقة المثلى إلى أن توفي يوم الاثنين الخامس عشر من جمادى الأخرى من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه البارع أبو عبد الله محمد بن علي بن جبير. وكان فقيهاً عارفاً

ص: 280

محققاً ولد في شهر ربيع الآخر من سنة ثلاث وستين وستمائة وتفقه في بدايته بخاله الفقيه أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الأصبحي ثم الإمام محمد بن علي ابن أحمد الأصبحي ثم الفقيه صالح بن عمر ثم بفقهاء تعز كابن صفي وابن النحوي ثم ارتحل إلى عدن فأخذ بها عن أبي العباس القزويني وعن أبي العباس بن الحواري. وأخذ صحيح مسلم عن التاجر المعروف بالشهاب صقر البكربتي لعلو سنده فيه. ثم رجع إلى بلده ودرَّس في المدرسة الجديدة بالحمُيراءَ في مدينة تعز. وكانت وفاته في شهر محرم من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفي سنة اثنتين وسبعمائة جهز السلطان الملك المؤَيد رحمه الله الشريف إدريس بن علي فاخرب الجاهلية ورجانة وجهز الأمير شمس الدين عباس بن محمد إلى جبل جشم فأَخرب زورعهم. وكان السلطان رحمه الله قد قض رهائن الأشراف حين أراد النهوض من محطة ورور وهم الأميران محمد بن أحمد بن القاسم وأخوه الأمير داود بن أحمد بن القسم والشيخ علي بن دحروج وولده وولد القاضي أحمد الذماري. وجهز الفقيه شرف الدين أحمد بن علي الجنيد لقبض تلمص. وصدَّر معهُ الأشراف رسولاً منهم كما ذكرنا. فامتنع أيهل الحصن من تسليمه وسلموه إلى الشريف أبي سلطان فسار الشريف شكر إلى الأشراف بظفار لتمام ما قد قيدوه من تسليم حصن تلمص فأقام عندهم أياماً. ثم وصل كتابه بطلب وصول الأمير محمد بن حاتم فسيرهُ السلطان إليهم. وفي خلال ذلك وصل الأمير سيف الدين طغريل من أقطاعه بلحج فاقطعه السلطان صنعاءَ وذلك في النصف الثاني من صفر. وأقام الأمير شكر والأمير محمد بن حاتم أياماً بظفار. ثم عاد إلى السلطان بذمة ستة أشهر على رهائن أُخر بذلها الأشراف. وطال الحديث في ذلك فغضب السلطان غضباً شديداً وجهر الأمير سيف الدين طغريل والأمير بن وهاس فحطوا في ورور ومعهم الشيخ محمد بن علي دحروج في الترسيم وقد اظهر الخدمة والنصيحة وتكفل للسلطان بأخذ ظفار في ثمانية أيام. فلما صاروا في ورور صدروا جيشاً فلزموا القنة وشرعوا في عمارتها وأقامت المحطة بورور. ووقع في البلاد قحط شديد فبلغ الزيدي

ص: 281

في المحطة أربعة دنانير واكثر من ذلك. وخلا كثير من البلاد من أهلها وماتوا جوعاً وابتيعت الأطيان بأرخص الأثمان. وعم القحط اليمن جميعه سهلاً ووعراً واستمر الشريف أبو سلطان في تلمص وخالف الأمراء إلى عز الدين وعاودوا أهل صعدة من فللَة. وجهز السلطان الأمير نجم الدين موسى بن أحمد إلى صعدة لصلاح أمرها. وجهز الأمير عباس بن محمد في عسكر إلى بلاد الأمير تاج الدين لحربه. ولزم الأشراف القاضي محمد الذماري وأخذوا ما وجدوا في بيتهِ.

وفي شهر رجب وقع في مخلاف صنعاء أمطار عظيمة والسع على حاله ودخل ظفار من هذا المطر ما ملأ مواطنه. ولم تزل المحطة على تلمص وظفار وازداد الغلاء حتى بلغ الزيدي من الدقيق في المحطة ثلاثين درهماً. وفي بواقي آثام من رجب تداعى الناس إلى الصلح على رد المال المسلم في تلمص فسلموا منهُ ستة عشر ألفاً وحريراً وحلياً باثني عشر ألفاً وامتهلوا في الباقي إلى عشرة أيام في شوال ورهنوا فيه ولدي الأمير أحمد بن قاسم. وحصن المدارة على يد الأمير وهاس. واخرج بنود حروج حريمهم من ظفار وسكنوا صنعاءَ.

وسلم الأمير تاج الدين الحدود ورهن ولده مه رهينه الأمير سليمان بن قاسم وانعقد الصلح بين السلطان وأصحاب ظفار وتاج الدين على أن السلطان يحارب تلمص ويفعل فيه ما شاء ولا عيب.

وفي هذه السنة اقطع السلطان رحمه الله الشريف عماد الدين إدريس ابن علي لحجاً حين انفصل منها طغريل وذلك في شهر ربيع الأول من السنة المذكورة فسار إليها فوصلها يوم الرابع من شهر ربيع الآخر. وكانت الجحافل قد جمعت جموعاً. وحطت بالصعيد فلما وصل الشريف عماد الدين إلى الدعبس ارتفعوا من محطتهم. فأغار عليهم العسكر فأدركوا جماعة منهم يوسف بن مدقة فقتلوه واحترزوا رأسه وأقامت الجحافل بعد ذلك بصهيب مدة وهم يعدون إلى الساحل وغيره ثم قصدهم الشريف عماد الدين ولقبه الأمير بدر الدين محمد بن الحسن بن نور. وكان مقطع أمين يومئذ فدخلوا عليهم موضعاً يسمى الشعبة. وبلغوا مواضع من بلادهم لم يبلغها أحد من العساكر السلطانية قبل ذلك. ولما رجع الأمير عماد الدين من غزوته

ص: 282

جهز عسكرا فظفروا بإبراهيم بن سعد بن عبد العزيز وكان فارس الجافل يومئذ فقتلوه واحترزوا رأسه فظفرت خيل الصعيد بخمسة من العجالم فقتلوهم.

وفي شهر شعبان من هذه السنة توجه السلطان إلى اليمن فدخل حصن تعز المحروس آخر يوم من شعبان وقيل أول يوم من رمضان.

في هذه السنة توفي الملك العادل صلاح الدين أبو بكر بن الملك الأشرف وكانت وفاته رحمه الله في قرية ضراس وفي آخر شهر رمضان طلع الشريف عماد الدين إدريس بن علي إلى تعز المحروس بسبب العيد. وحضر جماعة من الشعراء وقام الفقيه عفيف الدين عبد الله بن جعفر بقصيدة طنانة من عيون شعره فأنشدت يوم العيد وهي

أثمار هذا القضيب الرطب ألوان

كرم وطلع وتفاح ورمان

أهكذا الفضة البيضاء قد نبتت

غصنُ وزهر بها في الخد عقيانُ

ظبيُ مباسمه در وريقنه

خمر وأنفاسه روح وريحانُ

وأضرم الحسن في أمواج وجنته

ناراً لها مهج الأكباد قربانُ

عجبت إذ نبت المرجان في فمه

وقبلها لم يكن في العذب مرجان

تصوير شخصك في عينيَّ ممتنع

أن يلتقي لي فوق النوم أجفان

هذى دموعي بوجدي فيك شاهدة

ينبيك بالشان ما يجري به الشان

ما اختص ناظرك الساجي لأنفسنا

بفتنة كل شيءٍ منك فتان

لا تمش بالصب في طرق الهوى مرحاً

واقصد كما قال في فحواه لقمان

أَتستبيح جهاراً قتل أَنفسنا

والأَرض فيها هزبر الدين سلطان

سيف من الله لولا حده عبدت

مع المهيمن أصنام وأَوثان

ملك مكارمهُ غيث ونجدتهُ

غوث وأيامهُ أَمن وإيمان

في سلمه لشديد الناس مدراَة

يرضى الإله وحد السيف غضبان

ص: 283

مستحسنات صفات الناس قد جمعت

فيه فدعهم فأَهل الأرض إنسان

لم لا ويوسف شمس الدين منبتهُ

ومنبت الأصل قابوس ونعمان

وتبع الأكبر السامي وذو يزن

عم وبيتك صرواح وغمدان

إذ كان في فرع صنعاء بناؤُهم

قد تستضيءُ سمرقند وحلوان

تلك المعاهد من قحطان أن عدموا

فللمؤَيد عادوا مثل ما كانوا

كَأَنما الشهب من ظلمائه قنص

تخطفته من الرايات عقبان

كأَن رؤوس رماح فوقها رفعت

منها على الجوّ أَحواض وغدران

فيها القنا شهب والحلو ملتهب

والسيف محتطب والقوس مرنان

كأَن حصن ظفار تحت لجتها

من الهلاك ابن نوح وهي طوفان

حتى تظنوا بأَن الأرض قد طويت

وان موضعها خيل وفرسان

يمدها من دواهي الأرض ماثلة

تمخضت بحجاز وهي عيدان

مطاعة كلما نادت برفع يدٍ

تبادرت نحوها دور وحيطان

حتى إذا طحنتهم تحت كلكلها

شهباء منها يطيش الإنس والجان

تشفعوا بكتاب الله وارتفعت

أمامهُ صحف فيهنَّ قرآن

فرد عنهم حياء من كرامتها

زاكي الأُصول كريم الخَيمْ يقظانُ

ومنَّ داود في الأَسرى فأَطلقهم

دوداً وإن هزبر الدين منان

وواثق القنة الشماء مشرقة

على ظفار بها جيش وبنيان

كمثل جنة نون الأرض تحرسه

من أَن يميل لهُ بالأرض أركان

ما ضرَّ داود مال ظل ينفقه

داود بحرُ به المرجان مجان

ما صاع من ضيعوه في رفاقتهم

لقد وقفت لهم في حيث ما كانوا

واستحسنوا الغصب في أمواله فأبى

بكفك تحمى وهي جيران

أنت المليك الذي في عصره أمنت

من عصرهن عناقيد وقنوان

وطهر الله أرضاً أنت مالكها

من أن يكون لها كفر وعصيان

ص: 284

جددت في مشترى عنقي لكم شرفاً

وللعبيد من المعروف إثمان

سقيت غرسي بأنعام تجدده

ومن سجاياك للإحسان إحسان

هنئت يا مالك الدنيا ابن مالكها

ثلاثة هن للأفواج صيوان

نصر وجيش قدوم جاءَ بعدهما

عيد بوجهك من داود مزدان

وفي الليالي فنون من سعادتكم

أن الليالي لما تهواه خزان

فلا برحت على مر الزمان كذا

ولا خلت منك أوقات وأحيان

وفي هذه السنة المذكورة أمر السلطان رحمه الله ببناء مدرسته المعروفة بالمويدية في ممزية تعز ورتب فيها إماماً ومؤذناً وقيماً ومعلماً وأيتاماً يتعلمون القرآن الكريم ومدرساً على مذهب الإمام الشافعي معيداً وطلبة للعلم الشريف ومقرئاً يقرئ القرآن بالسبعة الأحرف ووقف عليها من الأراضي والكروم ما يقوم بكفاية الكل منهم ووقف عليها عدة من الكتب النفيسة.

وفي هذه السنة توفي الأمير الكبير نجم الدين موسى بن الأمير الكبير شمس الدين أحمد بن الإمام عبد الله بن حمزة وكانت وفاته يوم السادس والعشرين من ذي الحجة من السنة المذكورة في نواحي سعدة ورحمهُ الله تعالى.

وفيها توفي القاضي عمران بن القاضي عبد الله بن أسعد بن محمد بن موسى العمراني وكان فقيهاً فاضلاً وأخذ أيضاً حسناً واستوزره إبراهيم بن الملك المظفر فلما اقطعه والده إقليم ظفار امتنع أهله العمرانيون عليه من السفر مع مخدومه فلم يسافر معه وأقام مع أعمامه بتعز وتولى القضاء بها ثم صودر أهله كان من اشد الناس عداء يوم أنزل هو وعمه محمد بن حسان ابن أسعد إلى زبيد على صفة الرهائن فأقام في زبيد تحت الاعتقال إلى أن توفي في السنة المذكورة وفي هذه السنة توفي الفقيه الفاضل أبو القاسم بن علي بن موسى الروائي الحربي لقبا والزيلعي بلداً. وكان فقيهاً عارفاً فاضلاً تفقه بتهامة على فقهها الفقيه إسماعيل بن محمد الحضرمي وأحمد بن موسى بن عجيل فأخذ على محمد بن علي بن عمر الإمام ثم طلع الجبال فورد مدينة إب فرتب مدرساً في مدرسة لبني سنقر.

ص: 285

فانتفع به الناس انتفاعاً عظيماً لا سيما أهل إب وما قرب منها وكان يعرف المهذب معرفة شافية ولم يزل بأب إلى أن توفي بها في هذه السنة المذكورة وله يومئذ نيف وتسعون سنة وقبر في حناط الإمام سيف السنة إلى قبر الفقيه محمد الأصبحي ورحمة الله عليهم أجمعين.

وفيها توفي الفقيه البارع أبو حفص عمر بن عيسى محمد بن سليمان المسلمي ثم العامري. وكان منزله العفلة بضم العين المهملة وسكون الهاء وفتح اللام وبعد اللام هاء تأنيث. وكان فقيهاً متأدباً راوياً للشعر ويقول شعراً حسناً وكان عارفً أدبياً أربياً مقبول الكلمة في بلده توفي في أثناء السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

فيها توفي الفقيه البارع أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن عبد الحميد المسابي نسبة إلى قوم يعرفون ببني المساب وشهر بابن الحميدي نسبة إلى جده عبد الحميد. وكان في بدايته إسماعيلياً. ثم انتقل إلى مذهب الشافعي. وتفقه بابن جبر وبالقاضي عمر بن سعد في الفقه والحديث وأخذ الأصول على رجل غريب يعرف بالأريلي وأخذ النحو عن الوشاح وأيه انتهت رئاسة الفتوى في مدينة صنعاء ونواحيها على مذهب الإمام الشافعي وتوفي في شوال من السنة المذكورة وله نيف وتسعون سنة والله أعلم رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الصالح محمد بن عمرو بن محمد بن عمرو الساعي وكان فقيهاً ورعاً وصالحاً فاضلاً عارفاً بالفقه والحديث تفقه بابيه عمرو بن علي وبسليمان بن الزين وأخذ عن أبي الخير بن منصور الشماخي. وكان له صهر يصحب عباس بن عبد الجليل. فلما توفي الأمير عباس بن عبد الجليل وشا بعض الوشاة إلى الملك الأشرف بصهر الفقيه. وذكر أن تحت يده مالاً لأمير عباس فلزم الأشرف وأراد مصادرته فتقم الفقيه إلى باب الأشرف وكان يومئذ في المهجم إذ هي أقطاعه من أبيه المظفر فلما علم الأشرف بوصول الفقيه إلى بابه استدعاه فلما دخل عليه رحب به وأكرمه واجله فلما كلمه في صهره قال له قد شفعتك فيه بشرط انك تقف تدرس في

ص: 286

المسجد الذي بناه الوالد في أواسط المحالب فأجاب بالقبول والطاعة. ثم تقدم ودرس في المسجد المذكور مدة وهو قلق غير راض وكان مهما حصل له من الطعام أنفقه على الطلبة المنقطعين أو في بعض وجوه البر ولم يزل على ذلك حتى دخل عليه يوماً فقير فسلم عليه وسأله أن يكتب له شفاعةً إلى صاحب الحادث بان يركبه في بعض الجلاب إلى جده فكتب له الفقيه فلما فرغ قال له لفقير يا فقيه أجدك في فكر وفي نفسك شيء وقد أحببت أن أسمعك أبياتاً توافق المعنى وهي

كن عن همومك معرضاً

وكل الأمور إلى القضا

وابشر بعاجل فرحة

تنسى بها ما قد مضى

فلربما اتسع المضيق

وربما ضاق الفضا

ولرب أمر مسخط

لك في عواقبه رضا

الله يفعل ما يشا

فلا تكن متعرضاً

فوقع في نفس الفقيه الترك للمسجد والزهد في جميع العلائق ثم جعل يفكر في الأبيات ثم أفاق فمل يجد الفقر. فطلبه وأمر من تبعه الطريق فلم يوجد له خبر فخرج الفقيه من فوره عن المسجد سائراً قاصداً يريد بلده فمر بالجبرية وهي قرية من قرى تلك الناحية. وكان فيها تلميذ لأبيه فلقيه هنالك فاستوقفه يريد إكرامه فوافقه ودخل لمسجد بينما يهيئ رأسه شاخصاً ببصره إلى السماء حتى انقضى النهار وبقي مطروحاً لا يجيب ولا يتكلم. فحمل عن المسجد إلى بلده فادخل يته فأقام سنة لا يفهم منه أمراً ولا أكل شيئاً من الطعام غير شربة لبن ثم فتح عليه عقيب ذلك بمكاشفات وكرامات وبكلام في الحقيقة.

فمن قوله لذعات الغفلة في قلب المراقب أعظم من لدغات الحيات والعقارب.

ثم أقام سنة أخرى لا يأكل شيئاً وفي السنة التي مات فيها أقام تسعة أشهر لم يذق طعاماً. ثم أكرمه أهله قبل موته تسعة أيام على طعام وكانت وفاته يوم الاثنين

ص: 287

ثاني عشر صفر من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفي هذه السنة أيضاً توفي الفقيه الفاضل أبو محمد الحسن الشرعبي نسبة إلى شرعب بن سهل بن زيد الجمهور بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم العطمي بن عبد شمس الملك بن وايل بن الغوث بن حمدان بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير بن سبأ أو إلى الناحية التي تسمى شرعب. وهي ناحية مشهورة قبلي مدينة تعز سميت باسم شرعب بن سهل المذكور.

وكان المذكور فقيهاً فاضلاً بارعاً في الفقه مشهوراً خرج من بلده نقدم زبيد. وكان فقيهاً يومئذ علي بن قاسم الحكمي ثم خرج من زيد فقدم موزع فأقام بها مدة ثم انتقل عنها إلى البرقة فأقام بها أيضاً فلم تطب له فطلع إلى تعز وقصد القاضي بهاء الدين وهو يومئذ قاضي القضاة ووزير فشكى عليه حاله فولاه قضا موزع والزمه الدخول فيه الزماً. فنزل إلى موزع قاضياً فسار في القضا سيرة مرضية ووقفت عليه امرأة من الرسابيين أرضاً وبنت مسجداً وسألت من الفقيه أن يكون مدرساً في ذلك المسجد وله غلة الأرض الموقوفة فأجابها إلى ذلك. وتفقه به جمع كثير من موزع ونواحيها.

وفي تلك المدة ابتنت الحرة مريم بنت الشيخ العفيف زوجة السلطان الملك المظفر مدرسة في زبيد وهي المدرسة المعروفة في زبيد بمدرسة مريم. وتعرف بالسابقية أيضاً. ثم سألت من الفقيه أن يكون هو الذي يدرس فيها إذ كان أكبر فقهاء الوقت العاملين وذلك لما بلغهم من فضله فاستدعاه السلطان إلى تعز وسأله أن ينتقل إلى زبيد بسبب التدريس في المدرسة المذكورة فاشترط إبقاء. ولده في قضاء موزع نائباً. فأجيب إلى ذلك ثم انتقل إلى زبيد فدرس في المدينة المذكورة.

قال الجندي وأدركته فيها فقرأت عليه بعض المهذب تبركاً لما ذكر أنه من أكابر أصحاب الفقيه علي بن قاسم. وقد تفقه به جماعة وقصدهُ الطلبة من نواحٍ كثيرة. وأقام في زبيد عدة سنوات حتى كبر وهرم وضعف عقله وبصره. ثم عاد إلى موزع وجعل مكانه في تدريس المدرسة المذكورة محمد بن عبد الله الحضرمي. وكان إذ ذاك

ص: 288

معيدهُ في هذه السنة المذكورة وهي سنة المجاعة الشديدة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الفاضل محمد بن يوسف بن شعيب بن إبراهيم. وكان فقيهاً فاضلاً عارفاً تفقه بابن النحوي وابن البويم. وكانت وفاته في المحرم من السنة المذكورة رحمهُ الله تعالى.

وفي سنة ثلاث وسبعمائة وصل الأمير بدر الدين مكتوب المرقبي سفيراً من الديار المصرية إلى اليمن يخبر بانتصار المسلمين على عسكر التتر بمرج الصفر وكانت عدة قتلى في الوقعة المذكورة يومئذٍ مائة ألف قتيل فاحتفل السلطان بالرسول الوارد إليه بكتاب النصر ودقت الطبلخانة وأعلن السرور والبشائر وخرج أعيان الدولة بأسرهم من الوزراء والأمراء والمقدمين يتلقون السفير. وقال الشريف إدريس بن علي في ذلك

لم تأتك الرسل من مصرٍ وساكنها

إلا مؤدية حقاً لكم يجبُ

وحين لاحت قصور الحصن لاح لهم

من نور وجهك ما لا تستر الحجب

واستقبل العسكر المنصور فانصدعت

قلوبهم فهي في أجوافهم تجب

كتائب مثل ضوء الشمس قسطلها

غيم فساروا بليلٍ والقنا شهب

خفت بهم فرأوْا أسداً ضراغمة

عاداتهم في الورى أن غولبوا غلبوا

وكيف لا والأمين الروح يقدمهم

في كل روع وحيزوم به يثب

وعاينوا منك وجهاً طال ما سجدت

لهُ الملوك وقامت باسمه الخطب

وأمر السلطان رحمهُ الله تعالى بإكرام السفير المذكور وإنزاله مكاناً يناب حاله. وأفيض عليه الأنعام التام. وكتب له جواب في معنى ما جاء به وعاد إلى مخدومه قافلاً إلى مصر.

ثم وصلت الأخبار بوصول عسكر جرار من الديار المصرية إلى مكة المشرفة حرسها الله تعالى فاخذ السلطان بالحرم. وتوجه من تعز إلى زبيد في آخر ذي القعدة وأمر بعمارة البرك. وبعث بمقدم في قطعة من العسكر المنصور إلى هناك. ولما انقضى الحج وصل العلم بان الأمير سيف الدين سلار نائب السلطنة في الديار المصرية حج

ص: 289

في جيش عظيم. وإنه تصدق على أهل الحرمين بصدقة عظيمة.

قال ابن عبد المجيد في كتابه بهجة اليمن ان صدقته تنيف على ستمائة ألف درهم. ومن الغلة الجيدة المحمولة في البحر من جهة القصير إلى جدة عشرة آلاف أردب وإنه لم يترك بالحجاز في تلك السنة من عليه دين. قال بلغني أنه أدخل أقطاعه وضماناته مستأجراته وأجرة عقاره بمصر والشام في يوم مائة ألف درهم خاصة لحراسه خارجاً عن كلفته المختصة بحاشيته انتهى.

وفي هذه السنة وصل رجل من التجار من بلاد الخطأ عن طريق الصين يقال له عبد العزيز بن منصور الحلبي بمال يعظم شأنه وكان معه من الحرير ثلاثمائة بهار البهار الواحد ثلاثمائة رطل بالبغدادي ومن المسك المفرغ في أواني الرصاص أربعمائة رطل وخمسون رطلاً ومن الفخار الصيني جملة مستكثرة ومن الأواني الشم المطعمة بالذهب من الصحون الكبار جملة جيدة. ومن الثياب المختلفة الألوان مثل ذلك. ومن المماليك والجواري شيء كثير. ومن الفضة الماس خمسة أرطال زعم إنها صدقة للمحرمين على يديه من تجار تلك الناحية فتقرر عشور ما وصل به إلى ثغر عدن المحروس ثلاثمائة ألف درهم.

فلما استقر بعدن توجه إلى الباب الشريف فتلقاه الكريم الهزبري بالأنعام العام فقم بين يدي نجواه هداياً عيناً وتحفاً استحسنها فبرز المرسوم بقبولها. وأفاض السلطان عليه خلعاً نفيسة وأعطاه المراكب السنية. وكتب عوضاً عما قدمهُ بأضعاف ذلك. وتقدم المرسوم الشريف إلى نواب الثغر المحروس بإجلاله واحترامه. وخير بين السفر والإقامة فاختار الرحلة إلى صور مصر ونواحيها ليحدد عهداً بأهله.

وفي هذه السنة المذكورة أوقع الشريف إدريس بن علي بالجحافل وقعة أبان فيها عن همة علوية وشهامة حسنية. وكان جملة من اجتمع فيها من الجحافل أربعين فارساً وألفاً ومائتي راجل. وكان الشريف في مائتي راجل وأربعين فارساً فقتل من الجحافل مقتلة عظمة وقتل من العسكر نفر يسير منهم الشريف علي بن محمد الأبرص وهو ابن عم الشريف إدريس وفي هذه الوقعة يقول الشريف عماد

ص: 290

الدين إدريس بن علي رحمه الله حيث يقول

ولو لم تخني عند صنوى كبوه

من الأحمر الحناس ما فات مطلب

ولكن خرصان الرماح تشاجرت

هنالك حتى كاد يؤدي ويعطب

فلو كان فيمن أدركته رماحنا

صريع لنا وثأر يعد ويحسب

فقد صرعتت حوليه سبعون أغلباً

تهاد أهم في القفر ذئب وثعلب

وفي هذه السنة توفي الأمير أبو سلطان المستولي على تلمص وكان قد اتفق هو والأمير جمال الدين علي بن بهرام على تسليم الحصن للسلطان وتراهنا على ذلك فغلب المرتبون بعد موته على تمام الأمر وباعوه بعد موته على الأمير علي بن موسى بن أحمد بن الإمام فسار نحوه بشحنةٍ من الطعام آخر الليل. فلما علم بن بهرام خرج من صعدة نحوهم. فوقع بينهم قتال شديد وتلازم الأميران علي بن موسى علي بن بهرام وقتل فارسان من الفريقين. وكان السلطان قد أرسل الأمير علي بن موسى لصلاح صعدة. وأرسل الأمير عباس بن محمد بن عبد الجليل إلى بلا تاج الدين لمحاربته. فكان من علي بن موسى ما كان.

ولما طلعت الشحنة إلى تلمص وصل الأمير المؤيد بن أحمد الهدوي. وكان من علماء الزيدية وفضلائها وذوي السن والرئاسة فأقام في محطة الأشراف أياماً. وكانت محطتهم تحت حصون الأمير موسى.

وفي خلال ذلك وصل الأمير محمد بن مظهر بن طليمة قاصداً صعدة فلقبه الأمير المؤيد بن أحمد إلى بلدي عوير ثم لقبهم الأشراف بجمع جيد من الخيل وساروا جميعاً يريدون تلمصاً فركب الغز من صعدة وعارضوهم فحصل بين العسكرين قتال عظيم. فانهزمت ميمنة عسكر السلطان وميسرته وثبت القلب ثباتاً حسناً فلما انهزم أصحابهم لم يتمكنوا الاستقرار بعد انهزام الجيش فساروا بعدهم. وقتل يومئذ أيبك الحجازي الأشرفي وكان من الشجعان المعدودين وقتل معه ثلاثة فرسان وأربعة من الرجل وأخذ من أخيل سبعة رؤوس وسار الأشراف من فورهم إلى مدينة صعدة. وذلك في النصف الثاني من شعبان من السنة المذكورة. فأقتم

ص: 291

الأشراف في صعدة أياماً ثم كاتبوا في الصلح فانعقدت الذمة إلى سلخ الحجة على إخلاء صعدة من الفيقين. ونزل الشريف شكر إلى الأبواب الشريفة السلطانية لتمام الصلح وسار معه الشريف داود بن عز الدين فلم ينصف فعاد غاضباً إلى أصحابه فعلموا على تمام الذمة. وجهز السلطان جيشاً للأمير شمس الدين عساس بن محمد في مائتي فارس ومقدمين من مذحج في آخر القعدة وتراسلوا في الصلح على تمام الذمة الأولى.

وفي هذه السنة توفي الملك الظافر قطب الدين عيسى بن الملك المؤَيد. وكانت وفاته في حصن تعز يوم الرابع والعشرين من المحرم. وحضر دفنه أخوه الملك المظفر وعمه الملك المنصور. وكافة أعيان الدولة وقبر في مدرسة والده التي أنشأها في ناحية المعزية من مدينة تعز ورثاه العفيف عيد الله بن جعفر بقصيدة بديعة الاستهلال فأولها

يحق لكل قلب أن يذوبا

من الحزن الذي صدع القلويا

على قطب رسولّيٍ جوادٍ

أُصيب بهِ الورى لما أُصيبا

وكان ملكاً ذا همة بارعة. وعزمة لإبكار المعالي فارعة. وأمر والده السلطان يومئذٍ بذبح خيله الخواص حين حملوه على الرقاب. وما كان أحقه بقول الأول

فتى كالسحاب الجون يخشى ويرتجى

ترجى الحيا منهُ وتخشى الصواعقا

وفيها توفي الفقيه الإمام العلامة أبو الحسن علي بن أحمد بن أسعد بن أبي بكر بن محمد بن عمر بن أبي الفتوح بن علي بن أبي الفتوح بن علي بن صبح الأصبحي. وكان مولده لخمس بقين من ذي الحجة سنة أربع وأربعين وستمائة. وتفقه بالفقيه عبد الوهاب بن الفقيه أبي بكر بن ناصر. ثم بابن خاله محمد بن أبي بكر وعليهِ أتقن الفقه وحققه فكان غالب قراءَته عليهِ بالمصنعة يختلف إليه من الذيتين كل يوم اثنين وكل خميس وقد يقف في المصنعة الأيام ذوات العدد. ثم لما أكمل الفقه أخذ عنهُ كتب الحديث أيضاً وكان من المحققين للفقه العارفين به لم يكن له نظير في عصره وتصنيفه الموجودة تشهد بذلك. ومن تصانيفه المعين وغرائب الشرحين وأسرار المهذب وكفى بالمعين شاهداً. وله فتاوٍ كثيرة مشهورة. وكان

ص: 292

فقهاء عصره جميعاً يرجعون إلى قوله ويسأَلونه ويعتمدون جوابه وكان جميل الخلق دائم البشر حسن الألفة محب الأصحاب ويتأَلفهم ويعجبه اجتماعهم. وله كرامات كثيرة ومكاشفات. واجمع أهل عصره على ورعه وزهده ونزاهة عرضه وانه يقول الحق ولو على نفسه. وتفقه به عدة من أهل عصره من نواح شتى منهم سعيد بن أبي بكر وسعيد بن العودري وعمر الحبيشي ومحمد بن جبير وإسماعيل ابن أحمد الحلي ومحمد بن علي وعمه حسن وهما من العماكر. وعبد الله بن عمر ابن ايمن وأبو بكر بن المقري من أهل تعز. وأبو بكر بن حاتم السلماني وأبو بكر المغربي من الجند ويوسف بن النعمان. هؤلاءِ شهروا وقد أخذ عنه جمع كثير من غيرهم. ودرس في المدرسة المظفرية أياماً قلائل ثم امتنع من التدريس بها.

ومن غريب ما يروى عنه أنه خرج يباشر أرضاً له للزراعة وفيها إنسان يحرث على ثورين له فنظرها مليّاً ثم سأَل الغلام الذي يحرث له هل عندهُ شيءُ من الماءِ ليشرب منه. فأشار الحارث له إلى موضع فقصد الفقيه ذلك الموضع فوجد هنالك حنشاً عظيماً فقتله الفقيه. وإذا بالفقيه يجد نفسه في ارض لا يعرفها بين أقوام لا يعرفهم لهم خلق غريب. وفيهم من يقول للفقيه قتلت أخي. وبعضهم يقول قتلت أبي. وبعضهم يقول قتلت ابني. ففزع الفقيه منهم فزعاً شديداً. فدنا منهُ شخص وقال له قل أَنا بالله وبالشرع فقال أنا بالله وبالشرع فمضى هو وهم حتى أتوا داراً فخرج إليهم منها شيخ على هيئة الرخمة البيضاء فقعد على شيءٍ مرتفع فادعى عليه بعض أولئك فدنا منه صاحبهُ الأول وقال له قل ما قتلت إلا حنشاً فقال ما قتلت إلا حنشاً. قال قاضيهم سمعت بإذني هاتين من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول من تشبه من الهوام فلا قود عليه ولا دية. قال فسقط في أيدي القوم وتأخروا عنهُ وتركوه وإذا بالفقيه في موضعه عند الماءِ الذي يريد أن يشرب منهُ. قال فلما رجع إلى الغلام الذي يحرث قال له إني رأَيتك واقفاً عند الماءِ ثم لم أَرك بعد ذلك. ثم ما عتمت حتى رأيتك الساعة في موضعك فأين كنت. قال ما كان شيء

ص: 293

مما ذكرت وما كان إلا خيراً إن شاءَ الله تعالى. وكان الفقيه مسدد الجواب موفقاً للصواب. وانتفع الناس بكتبهِ التي صنعها نفعاً عظيماً وطارت في البلاد وارتحل بها إلى الأماكن البعيدة. وكان الملوك يجلونهُ كثيراً. وسامحهُ السلطان الملك المظفر في أرضه. ثم سامحه الملك الأشرف بأكثر مما سامحهُ أبوه. وكان وجيهاً عند الخاص والعام وإليه انتهت الرئاسة في اليمن أجمع. وكانت وفاتهُ في ليلة الأربعاء الرابع عشر من المحرم من السنة المذكورة رحمهُ الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الفاضل أبو الخطاب عمر بن أبي بكر عمر بن الشيخ الحافظ علي بن أبي بكر الغرشاني كان فقيهاً نبيهاً كريماً سخي النفس يطعم الطعام ويكرم من قصده. وكان صاحب إجازات وسماعات ولم يزل على ذلك إلى أن توفي يوم السابع عشر من شعبان من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه البارع أبو العباس أحمد بن سليمان الحكمي. وكان مولده سنة خمس وأربعين وستمائة. وتفقه بصالح بن علي الحضرمي والريمي. وكان مشهوراً بالذكاءِ والفقه التام. وإليه انتهت رئاسة الفتوى في مدينة زبيد وأعمالها وبه تفقه جمع كثير. وكان مدرس المنصورية بزبيد ثم عزل عنها في أول سنة سبع وتسعين وستمائة. وذلك في أول الدولة المؤَيدية فلزم بيته واقبل على نشر العلم تارة في بيتهِ وتارة في الجامع إلى أن توفي سخر ليلة الاثنين الثامن من شهر شعبان من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الفاضل أبو الخطاب عمر بن علي اللحي الزيادي. وكان فقيهاً فاضلاً تفقه بالريمي واستمر مدرساً في الهكارية بزبيد وأعاد بالنظامية. وكان مذكوراً بالخير إلى أن توفي ليلة الجمعة الثالث من شهر رمضان من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الفاضل عثمان بن عبد الله بن أبي بكر بن علي الوهبي ثم

ص: 294

الكندي. وكان فقيهاً فاضلاً تفقه بالفقيه إسماعيل بن محمد الحضرمي وابن عمه محمد وكان معاصراً لأحمد بن عبد الله الوزيري توفي في مدينة زبيد لأربع خلون من صفر من السنة المذكورة رحمه الله. وخلفه ابن له اسمهُ محمد توفي بعد أبيه في رجب من السنة المذكورة بعد أن بلغ عمره سبعاً وخمسين سنة والله أعلم.

وفيها توفي الفقيه الصالح أبو العتيق أبو بكر بن عيسى بن عمر وكان يعرف بالسراج. وكان فقيهاً كبيراً مشهوراً من أصحاب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه. ولد سنة ثلاث وثلاثين وستمائة. وكان صالحاً سليم الصدر تغلب عليهِ البداوة لكونه من أهل البادية من قرية من وادي زبيد تعرف بالهرمة. وكان قائلاً بالحق آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر لا يحاشم في ذلك صغيراً ولا كبيراً. وكان مدرساً في المنصورية الحنفية بزبيد بعد الصمعي. وكانت وفاته في زبيد يوم السابع من شهر جمادى الآخرة من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه البارع أبو الخطاب عمر بن علي العلوي الحنفي وكان فقيهاً ماهراً ورعاً كريماً جواداً. ولد سنة أربع وستين وستمائة وتفقه بجده لامه ألفيه الإمام أبي بكر بن عمر بن حنكاش وابتنى مدرسة في مدينة زبيد خص بها أهل مذهبه من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله. وله تصنيف حسن جيد يدخل في سبعة مجلدات يسمى منتخب الفنون. وكان شاعراً فصيحاً مفوهاً. وقد أودع المذكور كثيراً من شعره وهو كتاب نفيس حسن ممتنع يدل على إطلاع كثير وعلم غزير وكان له خزانة كتب ليس لأحد مثلها يقال أنه كان فيها خمسمائة ديوان من الشعر. وكان له عدة أولاد وهم محمد وأبو بكر وعلي وعثمان وإبراهيم وإسماعيل ويوسف وداود وغيرهم. وقد انتهت رئاسة العلم إلى ولده إبراهيم وانتهت رئاسة الدنيا إلى ولده يوسف وهما أكثر أولاده ذرية وامتحن الفقيه عمر المذكور في آخر عمره بخدمة الملوك فصادره السلطان الملك المؤَيد مصادرة شاقة توفي عقيبها. وكانت وفته يوم السابع من رجب من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الصالح أبو بكر عبد الله بن محمد بن سليمان وكان يعرف

ص: 295

بابن زريق واصله من جبلة. وكان فقيهاً حبراً لهُ مروءَة تفقه بابن العزَاف وابن الصفي وابن عباس. وكان مآلفاً للأصحاب واستمر مدرساً في الوزيرية. وكان القضاة بنو محمد بن عمر يشفقون عليه إلى أن توفي على ذلك غرة جمادى الآخرة من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الفاضل أبو القاسم بن علي بن عامر بن حسين بن علي ابن أحمد الهمداني. وكان فقيهاً فاضلاً تفقه بحجَّة. وكان قد قدمها في جملة عسكر علي بن عبد الشغدري. ثم ولي قضاء عدن من قبل بني محمد بن عمر فأقام في القضاء هنالك سنين إلى ان توفي على ذلك ليلة الخميس الثاني عشر من القعدة من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه المشهور أبو بكر بن قيصر. وكان فقيهاً ماهراً تفقه بابي الحسن الأصبحي وغيره. توفي في شهر ربيع الأول من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الصالح عثمان بن الفقيه هاشم الحجري. وكان فقيهاً ماهراً تفقه بالفقيه عمر بن علي الساعي ثم صحب الشيخ عيسى بن حجاج الغيثي والشيخ علي السنيني. ففتح الله عليهِ في الحكمة فكان يقول أقوالاً كثيرة. وفسر أقوال المحققين تفسيراً نافعاً. وكان يتكلم بحضرة الشيخين فيقبلان منهُ ولا ينكران عليهِ. توفي في السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الفاضل محمد بن عيسى بن عمر بن عثمان الهرمي الملقب بالصفي وهو أخو الفقيه أبي بكر بن عيسى المعروف بالسراج الحنفي المذكور أولاً. وكان الصفي فقيهاً ويغلب عليه الأَدب وله شعر رائق ويتعانى الزراعة توفي في السنة المذكورة. وكان له ولد اسمهُ يوسف كان من أعيان الرعية خيراً جيداً له مروءَة قلَّ أن تلد النساءُ مثله. توفي سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة رحمهُ الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الفاضل أبو الخير أحمد بن إبراهيم بن سالم بن مقبل كان فقيهاً خيراً محبّاً لأبناءِ الجنس توفي في السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

ص: 296

وفيها توفي الفقيه الصالح أبو محمد الحسن بن محمد بن علي بن شبيل تصغير شبل. قال الجندي نسبهُ همدان وكان يسكن ريمة الأسابط. وكان فقيهاً صالحاً عارفاً بالفقه توفي في السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الصالح أبو الحسن محمد بن علي بن أبي بكر بن علي بن محمد الحكمي. وكان فقيهاً صالحاً عالماً درَّس بالعاصمية في زبيد إلى أن توفي في المحرم أول شهور السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الصالح أبو الحسن علي بن صالح الحسيني نسبة إلى جد له أسمهُ حسين. وكان فقيهاً فاضلاً تفقه بتهامة على عمرو بن علي الساعي وعلى عبد الله بن محمد الدياني. وكان فقيهاً نقالاً لفروع المذهب. وكان الفقيه أحمد بن موسى بن عجيل يراجعهُ ويثني عليه. وله أجوبة فقهية تدل على تجويده. وكانت وفاته في السنة المذكورة تقريباً والله أعلم.

وفي سنة أربع وسبعمائة توجه الأمير جمال الدين نور بن حسن من حرض إلى صعدة مدداً لعباس بن محمد بن عباس وعلي بن بهرام. فأَخرب الأمير عباس بن محمد زرع الأشراف بصعدة ومخاليفها. ودخل علائق ومحريم نيف وثلاثين فارساً في ثغر صعدة وثلاثمائة رجال ونزل الجوف. ثم وصل صنعاءَ ثم توجه نحو اليمن. فلما خلت صعدة من العسكر جمع آل شمس الدين عسكرهم ونزلوا الجوف فأقاموا بسوق آل دعام ثلاثة أيام وقد جمعت المخاليف السلطانية في الراهز وكانت لهم عمولة في نعمان.

وفي صفر لزم السلطان الأمير أسد الدين محمد بن أحمد بن عز الدين وولدهُ والشريف شكر بن علي القاسمي وأمر بلزم أولاده حيث كانوا. وذلك لما وقع في خاطر السلطان من فعلهم في صعدة وتلمص فأَدبهم بآداب مثلهم.

وفي هذا التاريخ برز الأمر العالي بتجهيز الأمير أسد الدين محمد ابن نور سفيراً إلى الديار المصرية فاتصل العلم أن الأمراء بمصر عبثوا بالسلطان وإن البلاد على غير وضع فأَخر السلطان ذلك العزم وحمل لابن نور أربعة أحمال طبلخانة وأربعة

ص: 297

أعلام وعاد إلى أقطاعه.

وفي جمادا الأولي من السنة المذكورة زالت الشدة وارتفع الغلاء ورخصت الأسعار في جميع نواحي اليمن ورجع المقدم الذي تقدم لعمارة البرك وهو موسى بن أبي بكر بن علاءِ الدين وكان الشريف طاهر ابن أبي يُمي قد وصله إلى البرك من مكة حرسها الله تعالى قاصداً للباب الشريف السلطاني فسارا معاً فلما بلغا قريباً من اللؤْلؤَة لقيتهم جهينة فانهزم العسكر وتأخر الشريف طاهر على الناس فقتل وأخذت أثقالهم ودوابهم.

وفي شهر رجب من السنة المذكورة تقدم الركاب العالي من زبيد إلى محروسة تعز فأقام شعبان وحصل عليه توعك عقيب طلوعه فأرجف الناس بذلك وامتلأ اليمن خوفاً فمنَّ الله تعالى بعافيته في النصف الأَخير من شعبان ولم يزل في ثعبات إلى يوم العاشر من شهر رمضان ثم طلع الحصن وكان يوم طلوعه يوماً مشهوداً.

وفي شهر شوال أقطع السلطان ابن بهرام مدينة أبين وأعمالها. وتجهز ابن نور نحو الديار المصرية في أول شوال وقد أقطعهُ السلطان القحمة فسار في أوائل الشهر المذكور بأنواع التحف السنية من الفضيات على اختلاف أنواعها كالطشوف والأباريق والصلاحيات والمجامر والأكر والقرابات وسواري العود والصندل والقطع الكبار من العنبر ونوافج المسك وما عظم شأنهُ من فخار الصيني واليشم من الصحون والزبادي ما لم يكن شرحه من الحسن. ومن الخدام الحبش والقنا الهندي والمراقد الصينية ومن المراتب المذهبة والشاشات الرفاع والسلقانيات. ومن الثياب المذهبة الصينية ما عظم شأنها. ومن الأواني والأطباق والصناديق مملوءَة بالمسك المفرغ والشاه صيني والكافزر التيار جملةً أخرى. وما يتعلق بالحوائج خاناة كالفلفل والقرنفل والزنجبيل واللك والبقم أبَهَره. ومن الوحوش كالفيل وحمار الوحش والزرافة كلها مكسوة بالحرير والأطلس الملمع بالذهب ومن الخيل المسومة العربية الأصائل اللائقة بحال المرسل إليه. نقل ذلك مركبان عظيمان. ومثل هذه الهدية لا

ص: 298

تكاد تتأَخر بين عامين أو ثلاثة طلباً للمودة والمحبة واستمرار على ما يعهد من الصحبة.

وفي هذه السنة توجه الأمير سيف الدين طغريل نحو الباب الشريف متبرئاً من صنعاءَ بسبب معارضة حصلت بينه وبين الطواشي ياقوت متولي الأملاك السلطانية فأَبرأهُ السلطان منها وأقطعها ولدهُ المظفر وسار نائبهُ لقبضها في ثاني عشر ذي القعدة.

ثم أن الأمير شمس الدين عاد إلى عمان مرة أخرى وجاءَهم الإمام محمد ابن المطهر إلى هنالك فجهز السلطان لحربهم الأمير سيف الدين طغريل فقصدهم إلى عمان فنزلوا الجوف فقصدهم إليه فطلعوا صعدة فسار بعدهم وأغار إلى فللة وأخرب ما قدر عليه من مخلافهم. ووقعت ذمة إلى آخر القعدة. وعاد إلى صنعاء فدخلها خامس خروجه من صعدة.

وفي شهر ذي الحجة كانت الوقفة بالجمعة وحج خلق كثير من مصر وكان الأمير الحاج الكبير ركن الدين بيبرس الحاسكي وحج معه عدة من الأمراء المصريين. ووصل معهم الشريفان رميثة وحُمًيصة ولدي أبي نمي. وكانا بمصر معتقلين كما ذكرنا أولاً. فلما انقضى الحج أحضر الأمير ركن الدين بيبرس الشريفين أخويهما أبا الغيث وعطيفة وعلمهما أن صاحب مصر قد ولى أخويهما رميثة وحُمَيصة فلم يقابلا بالسمع والطاعة. فحصلت بينهما منافرة. وكان في مكة والمدينة غلاء عظيم حتى بلغ المد الحنطة عشرين درهماً والذرة ستة درهماً. واستمر رمثية وحُمَيصة في البلد وأظهرا حسن السيرة وأبلا شيئاً من المكوس.

وفي هذه السنة وصل عبد الباقي بن عبد الحميد من ثغر عذر إلى الأبواب الشريفة السلطانية يريد أن يكون كاتب الإنشاء فحصلت معارضات أوقعت عدم الاستمرار وكان عمره يومئذٍ ثلاثاً وعشرين سنة. فلما لم يتفق له ذلك توجه نحو الديار المصرية وهو ينشد قول الشاعر

أيا ماء العذيب وأنت عذبُ

تعرَّضَ دونك الماء الوخيم

ص: 299

وفي هذه السنة توفيت الحجة المصونة بنت الأمير الأجل الكبير أسد الدين محمد بن الحسن بن علي بن رسول زوج مولانا السلطان الملك المؤيد وكانت عنده عزيزة كريمة لأنها بنت عمه ابن عم أبيه. وكانت كثيرة المروءة حسنة الشفاعة. فعز عليه فقدها وأمر بالقراءة عليها في سائر جوامع مملكته. وحملت من رأس حصن تعز تحت الشخانات الحرير وإمامها ملوك بني رسول. ودفنت في مدرسته التي أنشأها. وكان دفنها يوما مشهوداً رحمة الله عليها.

وفي هذه السنة توفي الفقيه الصالح أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان بن آدم المعوف بالجبرتي نسبة إلى ناحية من بلاد الحبش يقال لها جَبَرت وكان فقيهاً ورعاً زاهداً صاحب مسموعات وإجازات أخذها عن الإمام أبي الخير بن منصور الشماخي وغيره. وهو الذي يعرف به مسجد الجبرتي الذي في مدينة زبيد عند الخان الجديد المجاهدي.. وكان غالب دهره لا يفارق المسجد إلى أن توفي على ذلك ليلة الأحد الثالث من شعبان من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الصالح أبو بكر بن أبي القسم الشعبي وأصله من أشعوب دنجان. وكان رجلاً صالحاً كثير العباد له قدر عظيم عند الناس. توفي في السنة المذكورة وخلفهُ ولدهُ أبو الخطاب عمر بن أبي بكر. وكان من خيار أولاد الفقهاء شريف النفس عالي الهمة له دين رصين. وكان صبوراً على إطعام للخاص والعام فلذلك لحقه دين كثير. وتوفي على الحال المرضي سلخ صفر من سنة تسع عشر وسبعمائة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الصالح أبو الحسن علي بن أحمد العسيل. وكان مولده لأربع عشرة ليلة بقيت من رمضان سنة وأربعين وستمائة وأهله يعرفون ببني عسيل من فقهاء قائمة بني حبيش وخطبائها. قدم هذا إلى جبلة طالباً للعلم ثم تقدم إلى رباط المقداحة على حياة الشيخ علي بن عبد الله فجعله إماماً له وللجماعة.

ويروى أنه رآه يوماً وفي يده خاتم فضة فأبعدها منه ثم لما عاد إلى جبلة أقبل على قراءة الفقه. فلما كان في بعض الأعياد التي يتحارب فيها أهل جبلة وأهل

ص: 300

البادية دخل الفقيه سفين الجامع فلم يجد فيه أحداً إلا هذا الفقيه مكباً على مطالعة البيان فأعجبه ذلك منه وعزمه على القعود معه ثم زوجه بابنته. ولما توفي استخلفه على مسجده فلم يزل به مدة. ثم ارتحل إلى مصنعة سير فتفقه بها. ومن شيوخه الذين تفقه بهم أبو بكر العراف وعباس البريهي وصهره سفين. ولما ولى بنو محمد بن عمر بامرأتهِ وولدين له. وكانا قد تفقها فلما وصلوا حازان توفيت الزوجة رحمها الله في منتصف شعبان من السنة المذكورة ثم لما صاروا في مكة توفي ولده الأصغر وكان اسمه أحمد وكان جيداً تقياً شريف النفس عالي الهمة. ثم حج الفقيه وابنهُ الآخر فلما انقضى الحج عزما على الرجوع إلى اليمن فتوفي الفقيه في جدة سلخ ذي الحجة من السنة المذكورة رحمهم الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الصالح أحمد بن عمر الزيلعي الحبرتي وهو الذي يعرف بصاحب المحمول نسبة إلى مسجد على ساحل المحالب. وكان فقيهاً كبير القدر مشهور الذكر معروفاً بالعلم والعمل صاحب كرامات ومكاشفات.

قال الجندي أخبرني الفقيه أبو بكر بن عبد الله بن محمد الحلي وكان قدم علينا الجند قال قدمت عليه زائراً فبينا أنا عنده إذ قدم عليه جماعة يزورونه ومعهم دراهم قد جاءوا بها فوضعوها بين يديه فعجل يقلبها بمسواك في يده درهما درهماً فاخرج منها ثلاثة دراهم فردها على شخص وستة عشر درهماً ردها على شخص ثم أمر الخادم بقبض الباقي فداخلني من ذلك تعجب كثير. فحلوت ببعضهم فسألت عن سبب رد الفقيه الدراهم التي ردها. فقال أن الذي جئت بالثلاثة الدراهم وليست مني بل أعطتنيها عجوز تحت يدها أيتام ولم يمنعها من الوصول إلا خشية أن يعرفها الفقيه فيردها عليها وقد جعلتها بين دراهم مني فانتقاها الفقيه فأخرجها كأنه قد عرفها وإما الستة عشر درهماً فاسأل عنها صاحبها فهو ذاك الرجل. فأتيت الرجل الذي أشار إليه وسألته عن قصة رد الدراهم فقال هي من شيخ الصميين كان مرض له فرس فنذرها للفقيه أن شفي فرسه. فلما شفي وعلم إني

ص: 301

واصل إلى الفقيه أمر بها معي لعلمه أن الفقيه لا يأخذها منه لو وصل بها ولا يقبلها منه. فلما اجتمعت جماعة معهم دراهم فتح ناولهم إياها فجعلوها بين دراهمهم فأخرجه الفقيه بأعيانها وأعادها إليَّ كما رأيت.

قال الجندي وسألت هذا الذي اخبرني عنه بقصة الدراهم عن سيرته فقال أنه كان لا يكتسب بحراثة ولا زراعة ولا دروزة ومتى علم بأحد من أصحابه أنه بدروزة طرده وكرهه. وتوفي في قرية اللحية تصغير لحية الرجل وكان وفاته في السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الصالح حسين بن أبي بكر بن حسين السودي بفتح السين المهملة نسبة إلى بني سود. وكان فقيها صالحاً فاضلاً مشهوراً بالفقه والصلاح وشهرت له كرامات كثيرة وكان معظماً عند الناس. تفقه على سليمان بن الزبير ثم غلبت عليه العبادة والورع وسلوك طريق فقهاء الناحية لكن بلغ الملوك عنه أنه يتصل بإمام الزيدية في عصره وهو محمد بن مطهر فكرهوه وهموا بأذيته فكان لا يستقر في موضع ينالونه فيه. وكان ينكر على القراء الرقص والسماع فلذلك أجمع الفقراء والفقهاء عليه ولم يزل حذراً من السلطان حتى توفي في السنة المذكورة بعد الفقيه أحد الزيلعي بشهرين أعني المذكور قبله.

وفيها توفي الفقيه الفاضل أبو سعيد محمد بن الفقيه عبيد بن أحمد بن مسعود. وكان فقيهاً ماهراً ولد في شوال من سنة إحدى وخمسين وستمائة تفقه بأبيه. وكان ذا دين وورع وصلاح توفي في السنة المذكورة والله أعلم.

وفي سنة خمس وسبعمائة أقطع السلطان الأمير سيف الدين طغريل أبين فنزل إليها في النصف الأخير من المحرم وانفصل عنها ابن بهرام. فلما وصل الأبواب الشريفة منفصلاً من أبين أمر السلطان أربعة أحمال طبلخانة وأربعة أعلام وأقطع الأعمال الرحبانية. وكانت الأشراف آل شمس قد غزوا حرض قبل وصول ابن بهرام إليها وافسدوا في نواحيها. وكان فيها مقدم ورتبة من عسكر السلطان فخرجوا لقتال الأشراف وقاتلوهم عند المدينة فانهزموا إلى الدرب ودخل الأشراف

ص: 302

المدينة فنهبوا ما أمكنهم ورجعوا من فورهم. وخالف الأشراف بنو حمزة وانضم إليهم ابن وهاس فجهز السلطان حينئذٍ الأمير بدر الدين محمد بن عم بن ميكائيل إستاد داره في جيش أجش إلى جهة صنعاء فوقف هنالك إلى آخر شهر رمضان. ونزل بعد تمام الصلح بين السلطان وبين الأشراف على أن للسلطان ثلث مخلاف تلمص وقبضت رهائنهم على ذلك. ورجع أهل مدينة صعدة إلى صعدة فسكنوها.

وفي آخر شهر شعبان من السنة المذكورة تبرأ الملك المظفر من صنعاء وتوجه إلى حرم أبيه فاقطعها السلطان الأمير سيف الدين طغريل فسار حصناً فلما وصل ذمار أقام بها إلى شهر ذي القعدة. وقبض في مدة وقوفه حصناً من حصون بني عبيدة. وفي الرابع والعشرين من رمضان اقطع السلطان الأمير عماد الدين إدريس بن علي أبين وما ينضاف إليها. وفي النصف من شوال أمر السلطان بإعادة الجحافل على جوامكهم قد قطعها منهم منذ سنتين على سبيل الأدب.

وفي هذه السنة المذكورة رجع الأمير أسد الدين نور من الديار المصرية بعد أن عومل بما يجب من الإكرام. ووصل معه سفير من هنالك يقال له مبارز الدين الطوري فأقام في تعز أياماً. وحضر المقام السلطاني فقوبل بالإكرام والأنعام. ثم سار إلى زبيد أقام إلى أن تهيأ له السفر إلى مخدومه فسافر.

وفي هذه السنة المذكورة حج من مصر والمغرب وبلاد العراق والعجم ومن اليمن خلق كثير لا يحصيهم إلا الله تعالى. واجتمع في عرفة ثلاثة ألوية لصاحب اليمن ولصاحب مصر ولصاحب العراق حذابذة وهو الشجاع باللغة التركية. وحصل الحرب بمنى بين المصريين والحجازيين. وكان أمير الركب المصري الأمير سيف الدين أنغه وكان فظاً غليظاً سفاكاً مقدماً على الجرائم. فقتل جماعة من السرو وشظهم ولم تدخله شفقته عليهم ولا رحمة.

وفي هذه السنة توفي الفقيه العالم أبو عبد الله محمد بن محمد بن علي الكاشغري نسبة إلى بلد في أقصى بلاد الترك. وكان حنفي المذهب. وقدم مكة

ص: 303

حاجاً فأقام فيها أربع عشرة سنة صنف أيها كتاباً سماه مجمع الغرائب ومنبع العجائب يدخل في أربعة مجلدات. ثم انتقل إلى مذهب الشافعي هنالك فسئل عن ذلك فقال رأيت القيمة قد قامت والناس يدخلون زمرة بعد زمرة فسرت مع زمرة منهم أيريد الدخول فحدثني شخص وقال الشافعية يدخلون قبل أصحاب أبي حنيفة فلا جل هذا أردت أن أكون مع المتقدمين وتظاهر بمذهب الصوفية. وابتنى ربطاً كثيرة في أماكن متفرقة. وحكم جماعة أيضاً ولما دخل اليمن ورأى أن الغالب في اليمن مذهب الشافعي تظاهر به وقرأ كتبه فقرأ المهذب في إب على الفقيه يحيى بن إبراهيم وإما النحو وغالب مصنفات ابن الجوزي ورتبه القاضي بهاء الدين في المدرسة المظفرية بتعز. وكان انثنى رباطاً في ساحل موزع وغرس هنالك نخلاً كثيراً وكان يختلف إليه في أيام ثمرته ويعود إلى مدينة تعز عند فراغه فلما كان في سنة خمس وسبعمائة نزل إلى موزع في أيام ثمرة النخل فأدركتهُ الوفاة هنالك. فلما توفي قبر عند قبر الشيخ الصالح الخطيب المقدم ذكره رحمة الله عليهما.

وفيها توفي الفقيه الفاضل عيسى بن أبي بكر الحكمي. وكان فقيهاً حبراً ديناً تفقه بالفقيه أبي بكر عبد الله الريمي. وامتحن في آخر عمره بكفاف البصر إلى أن توفي في السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الصالح محمد بن أبي بكر بن رُشَيد بضم الراء وفتح الشين. وكان فقيهاً صالحاً ورعاً زاهداً درس في المنصورية بزبيد بعد الفقيه أحمد بن سليمان الحكمي لما عزل عنها. ولم يزل على التدريس إلى أن توفي وقت الأذان بالظهر من يوم الأربعاء ثاني عشر شوال من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الفاضل أبو الطيب ظاهر بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن عيسى المهدي اصله من قرية الملكحي ولي قضاء بغدان مدة وكان تفقه بجبلة بعبد الله بن علي العرشاني ولم يزل حاكماً حتى توفي في شهر رمضان من السنة المذكورة رحمهُ الله تعالى.

ص: 304

وفي سنة ست وسبعمائة ملك السلطان حصن الفرائع وهو مصاقب الطويلة بحيث يختلف بينهما النشاب والحجر. فحط الريف تاج الدين علي بالفرائع ولزم حصن سريت. فخرج الأمير سيف الدين من صنعاء في شهر ربيع الآخر والأمير عباس بن محمد فكسروه وشحن الأمير سيف الدين الحصنين بأنواع الشحن بعد أن عمرها ورجع ظافراً منصوراً. وكان رجوعه في شهر شعبان.

وفي يوم الثالث عشر من شهر جمادى الأخرى وكان ميلاد السلطان الملك المجاهد في مدينة زبيد. وقيل كان ميلاده في العاشر من شهر رمضان من السنة المذكورة في مجلس في دار المعروفة بدار السلطنة زبيد ويعرف المجلس بمجلس الولادة لكونه ولد فيه والله أعلم.

وفي النصف الأخير من جمادى الأخرى المذكور أخذ ابن أصهب حصن النشابة بوصاب وهو حصن عظيم يناطح النجوم وبلتبس بالغيوم من أحرز الحصون وأمنعها وأضرها وانفعها وهو من آخر معاقل اليمن والذي يحط عليه لا يراه لأنه في رأس جبل عال وليس له إلا طريق واحدة فأهم السلطان وأخذه فجهز الوزير موفق الدين إلى جبلة فجمع منها الرحل وسار السلطان إلى زبيد مبادراً كما قال الشاعر أبو الطيب المتنبي حيث يقول

أشد من الرياح الهوج بطشاً

وأسرع في الندى منها هبوباً

ثم خرج السلطان فحط على النشابة أياماً فأذعن ابن أصهب بالطاعة ووقف على قدم الاستطاعة ونزل على الذمة الشريفة وتسلم السلطان الحصن المذكور وتسلم حصوناً أخرى وانثنى راجعاً. فلما استقر في مدينة زبيد عملت الأفراح وضربت البشائر وهنأه بذلك شعراء دولته. وهنأه الفقيه عفيف الدين عبد الله بن جعفر فقال:

ترك الجبال أشم قاعاً صفصفاً

من وعده ووعيده ما اخلفا

متقاضياً ميراثه مستشهداً

سمر العوالي والصفيح المرهفا

تغفو عيون الصابرين نفوسهم

عن نيل ما طلبوا وكلاً ما غفا

ص: 305

جمع الجيوش إلى المغار ولو أَتى

للحرب قبل جيوشه فرداً كفى

لا يستقر الدارعون نفوسهم

حسب الرماد يعاصف أن ينسفا

دأْب المؤَيد أن يسل على العدى

سيفاً ودأْب رقابها أن تقطفا

يرضى ملوك الأرض ايسر حقها

منهُ وتفرح من وفاهُ باللفا

لا تقدر الآثام ترفو خرقهُ

أبداً ولا الأيامُ تخرق ما رفا

العاقد الرايات لم يك زاجراً

طيراً بمسرحها ولا متعيفا

بخبائس للحرب ليس خنائس

تمسي وتصبح في المراكز عكَّفا

قامت عقاب المنجنيق وراءَها

فأشار مولانا بان تتخلفا

جمعت جناحيها ومدت عنقها

للسير في أَثر الخميس وتزحفا

نوءُ يجلجل من زبيد رعده الساري فصاب وصاب غيثاً وكَّفا

حتى إذا ما السيف بالغ خطوة

فيها وحثحثه السباق فأوجفا

وجرت سيول من دم لو أنها

ماءُ لكان ربيعهم والصيّفا

ورأَوا من النيران حول قلاعهم

عدد الكواكب في السماء ونيفا

فتوجسوا أن الطبول زلازل

كادت بهم وبطودهم أن تخسفا

طرحوا نفوسهم على أبوابهِ

فعفى ومثل أبي المظفر من عفا

هربوا إليه منه فاعتصموا بهِ

ولكم أَجار الهارب المتخوّفا

مستشفعين بآل بيت محمدٍ

أَهل الشفاعة للمسيءِ إذا هفا

فأّقال عثرتهم وعاد بهم إلى

ما أَورثته بنو الرسول من الوفا

واتت عقائل في الححال فجاوبت

منهُ الكريمَ الطاهر المتعففا

من لم يمدَّ إلى الخنا طرفاً ولم

يسحب إلى طرق الفواحش مطرفا

يدعون يا سلطان عفواً بالرضا

فأَجابهم وأَثابهم وتعطفا

نظر البوارق من بلاد ربيعةٍ

وفدت وخاف بلمعها أن تخطفا

وهي قصيدة طويلة هذا عنوانها وفي شهر شوال من السنة المذكورة نقض الجحافل الصلح وأغاروا على لحج

ص: 306

فقتل بينهم عباس بن أبي سقرة وكان من وجوههم وفرسانهم. وكان في ثامن الشهر أغاروا على الأجنة فقتل أيضاً أحمد بن سقرة وكان أعظم من أخيه محلاً فيهم. وفي يوم العشرين من القعدة تجمعوا جموعاً كثيرة وقصدوا الأجنة أيضاً ولم يستقروا عندها فرجعوا طريق الرحاح فتبعهم العسكر وأدركوهم بعد العصر وقد أصابهم سموم وتفرقوا فقتل العسكر منهم نحواً من أربعين رجلاً فانكف شرهم وفسادهم.

وفي سنة سبع وسبعمائة جاءت النجوع إلى ناحية حوض فجرد السلطان لهم إلى تلك الناحية نحواً من ثلاثمائة فرس من حلقته المنصورة فأغاروا عليهم وشتتوا شملهم.

وفي هذه السنة المذكورة هرب الشريف محمد بن خالد من زبيد وكان السلطان يومئذٍ بها وترك رهينة أمه وأخته.

وفي جمادى الأولى خالف والي سبعان على الأمير تاج الدين وباع الحصن على السلطان فصدهُ الأمير تاج الدين وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة فجرد السلطان لحرب الأمير تاج الدين سيف الدين طغريل وسار معه بالمنجنيق لرمي عزان فلما صار بالضلع التقى بالأمير تاج الدين وأخيه الأمير علم الدين حمزة أو كان ملتقاهم اسفل عقبة بكر فاتفقوا على الصلح وعلى خدمة السلطان وحلفهما على ذلك وخلع عليهما ورجع إلى محطته ومعه الأمير علم الدين حمزة فلما أصبحوا من النهار الثاني طلعت الأعلام السعيدة المنصورة السلطانية حصن بكر وخفقت ذوائبها هنالك طاعة السلطان. ثم نزل الأمير تاج الدين إلى المحطة فانصفه الأمير سيف الدين وخلع عليه وأعطاهُ جنداً وكساً غلمانه وأصحابه. وانعقد الصلح بينهم وبين السلطان خمس سنين وتوجه الأمير سيف الدين إلى الباب الشريف وصبحته الأمير علم الدين حمزة ابن أحمد صهر الأمير تاج الدين محمد بن أحمد ولم يكن وصل أبواب السلطان قبل ذلك. وكان معه ابن أخيه عبد الله بن تاج الدين وجماعة من العرب.

وفي هذه السنة عزم الأمير سيف الدين سلار نائب السلطنة في الديار المصرية

ص: 307

على أن يجهز الأمير بيبرس في جيش كثيف إلى اليمن. وأمر على الأمير عز الدين الأشقر شاد الدواوين أن يتقدم إلى جهة قوص لعمارة المراكب فعمر نفيفاً وخمسين مركباً. وقدر الله موته وموت أولاده وعائلته وجميع أهل داره في أيام قلائل ولم يبق منهم أحد. فرجع الأمير سيف الدين سلار عن ذلك الرأي وأشار بأن يحضر الفقهاء والقضاة ومشائخ الخوانق وأصحاب الزوايا وأرباب الخير والصلاح إلى مقام السلطان الملك الناصر ليعلموه أن هذا الأمر لا يحل الأقدام عليه لان اليمن بلاد الإيمان وهي بلاد العلم والعلماء والفقهاء والصلحاء وأرباب الخير وملكها ثابت الولاية مستمر الحكم قد انعقد الإجماع عليه فلا يجوز البغي عليه. فرجع السلطان عن ذلك الرأي وجعل هذا لتأخير المشير.

ولما علم السلطان الملك المؤيد بذلك منع الكارم تلك السنة حتى الرسول بالعلم بذلك واستقرت الأمور على تسفير رسول من الديار المصرية إلى اليمن ومتعمم فكان الرسول رجلاً يسمى السعدي من مماليك الملك الظاهر. والمتعمم القاضي شمس الدين محمد بن عدلان أحد القضاة. وكان مضمون الرسالة تقرير الحال وإن السلطان قد رجع عما قدم عزم عليه. وفي خلال ذلك الرغبة إلى الصلح والموادعة. ثم توجه الرسولان إلى بلاد اليمن فحضرا مقام السلطان وكان السلطان يومئذ مريضاً لا يستطيع الكلام واتفق أن حدث بالأمير الواصل مرض أفضى به إلى الموت فتوفي في الثالث والعشرين من جمادى الأولى من سنة ثمان وسبعمائة. وكانت وفاته بزبيد في ظاهر المدينة. ورجع القاضي شمس الدين إلى الديار المصرية وصحبته جواب ما جاءَ بسببه.

وفي هذه السنة توفي الفقيه الفاضل محمد بن عيسى بن علي بن محمد ابن أبي بكر بفتح اللام. وكان فقيهاً حافظاً لكتاب الله تعالى ومن احسن الناس لجهة به من سمعه يقرأ استغرب قراءته وطرب له. رتبهُ بنو عمران إماماً في الجامع بعد أبيه ولم يكن لديه فقه شاف. فلما انفصل بنو عمران أقام إماماً بعدهم نحو سنة ثم فصله بنو محمد بن عمر فأقام منفصلاً عدة سنين إلى أن توفي في الجنيد. وكانت وفاته في السنة

ص: 308

المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الفاضل أحمد بن عبد الله الجبرتي واصلح من جبرت وهي ناحية من نواحي بلاد السواد. وكان فقيهاً فاضلاً قدم طالباً للعلم فأقام بالمصنعة أياماً فقرأ على الفقيه محمد بن أبي بكر الأصبحي فتفقه به ثم بتلميذه الإمام أبي الحسن علي بن أحمد الأصبحي صاحب المعين ثم رتبه القاضي إماماً في قبة هنالك جعلوها مسجداً. ثم لما خرجوا عن سير خرج هذا الفقيه إلى الذبيتين فأقام بها إلى أن توفي في السنة المذكورة. وقبره قريب من تربة شيخه الإمام أبي الحسن علي بن أحمد المذكور رحمة الله تعالى عليهما.

وفيها توفي الفقيه الصالح أبو العباس أحمد بن عبد علي المعروف ووالده بالصفي الميموني. وكان فقيهاً فاضلاً جيداً في بدايته بفقهاء تعز كان البابة وابن العراف وغيرهما. وارتحل إلى تهامة فأخذ عن الفقيه إسماعيل ابن محمد الحضرمي وغيره. ثم لما عاد إلى الجبل درس بذي جبلة. ثم انتقل إلى تعز فدرس بالرشيدية. ثم لما ابتنى الملك الأشرف مدرسته بالمغربة جعله مدرساً بها. فلم يزل بها إلى أن توفي الملك الأشرف في تاريخه المذكور أولاً وكان وقف الملك على مدرسته وإنما كان يتفقد الفقيه في سائر أوقاته فلما توفي الملك الأشرف كما ذكرنا أولاً قيل للفقيه هل لا انتقلت إلى بعض هذه المدارس فإن وقف هذه المدرسة لا يحملك. فقال لا أغير صحبة الأشرف حياً ولا ميتاً. وكان أخذه لكتب الحديث عن الفقيه أبي العباس أحمد بن علي السرددي وعن إسحاق الطبري وعن إبراهيم بن عجلان. واليه انتهت رئاسة الفتوى في مدينة تعز ونال من الأشرف مكانة جيدة. وكان موته فجأة ليلة الخميس بقين بن صفر من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الصالح أبو الحسن علي بن عثمان الأشبهي وكان فقيهاً عارفاً قدم اليمن غريباً من ناحية الحجاز فلما وصل تعز أقام في السفينة أياماً فأخذ عنه جماعة من الفقهاء فبلغ العلم به إلى قاضي القضاة يومئذ وهو الصاحب موفق الدين فرتبه مدرساً في المدرسة المظفرية. وكان يدرس كتاب الحاوي الصغير ولم يكن يعرف

ص: 309

كتب الشيخ أبي إسحاق الشيرازي ولا كتب الشيخ أبي حامد الغزالي فاخذ الناس عنه الحاوي الصغير وغيره. ويقال أنه كان مدرساً ببغداد ومعيداً ولما وقف على كتاب المعين تصنيف الفقيه علي بن أحمد الأصبحي اعجب به واستنسخه وقال ما كنت أظن أن مثل هذا يوجد في زماننا ثم لم تطب له الإقامة في اليمن فاستأذن في السفر إلى عدن وسافر إلى عدن هذه السنة المذكورة سنة سبع وسبعمائة فذكروا أن المركب الذي سافر فيه غرق والله أعلم.

وفيها توفي الفقيه الفاضل الخضر بن عبد محمد بن مسعود الحبي نسبة إلى قبيلة من خلان يعرفون ببني حبي وكان فقيهاً مرضياً تفقه بأحمد بن سليمان الحكمي وأخذ عن محمد بن عمر بن علي الساعي وكانت وفاته في السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الصالح صالح بن أحمد بن محمد بن يوسف بن أبي الخل وكان فقيهاً كبيراً عالماً وعاملاً ورعاً كثير الصيام والقيام وكان يقو لدرسته لا تأتون إلا في وقت كراهة الصلاة لأنه كان لا يمل الصلاة ليلاً ولا نهاراً تفقه بعمر بن علي الساعي. وكان غالب أيامه صائماً لا يفطر غير الأيام المكروهة للصوم وكان راتبه في كل يوم وليلة ألف ركعة. وامتحن في آخر عمره بالعمى فكان يعرف الرجل الداخل عليه قبل أن يتكلم. وكانت وفاته في السنة المذكورة بعد أن جاوز عمره سبعين سنة رحمه الله تعالى.

وفي السنة المذكورة توفي الفقيه البارع أبو عبد الله محمد عمر بن علي بن محمد الخزرجي الأنصاري الساعدي نسبة إلى ساعدة بن كعب بن الخزرجي. وكان مولده سنة تسع وثلاثين وستمائة. وتفقه بعلي بن ابن إبراهيم النحلي. وكان أول من لزم مجلسة. وكان الفقيه عمر بن إبراهيم زميله في القراءة وهو من أتراب محمد بن حسين من أهل عواجه. ودرس هذا محمد بن عمر في جامع المنكسة. وهو جامع أحدثه السلطان الملك المظفر يوسف بن عمرو جعل فيد مدرساً ودرسة. ولم يزل هذا محمد بن عمر على التدريس به إلى أن توفي إلى رحمة اله تعالى يوم التاسع

ص: 310

من المحرم وقيل يوم العاشر منه من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفي سنة ثمان وسبعمائة اتفق عمارة القصر السلطاني المسمى بالمعقلي في ثعبات. وكان فراغه في النصف من صفر من السنة المذكورة. وهو قصر قصرت المحاسن في نواحيه. وأطلعت الإجادة في أفق معاليه.

أجمع أرباب اختراق الآفاق أنه لا مثل له في شام ولا عراق. وأنهم لم يشاهدوا مثله أبداً وهو مجلس طوله خمسة وعشرون ذراعاً في عرض عشرين ذراعاً بسقفين بغير أعمدة له أربع مناظر بأربعة وراشن ليس فيه إلا رخام وذهب وإمامه بركة طولها مائة ذراع في عرض خمسين ذراعاً على حافاتها صفة طيور ووحوش من صفر أصفر ترمي الماء من أفوافها. وفي وسط البركة فواره ترمي الماء إلى السماء فيبلغ مداً بعيداً. وقباله شاذر وإن بعيد المدا يصب ماؤه إلى البركة المذكورة كان لوح من بلور لا يمكن التعبير عنه بغير هذا وفي المجلس شبابيك تفضي إلى بستان عجيب المنظر حسن المختبر والمخبر.

وكان الصناع في عمله مدة سبع سنين قال المصنف أيده الله وسمعت من حكى ممن أدرك أيام عمار أنه كان يطلع في كل يوم نحو من سبعين بغلة من الصناع الغرباء ما بين نجار ودهان ونحاس وصانع ومكندج ومرخم ومزخرف. ومصور خارجاً عمن يركب الحمير ومن لا يركب من اتباعهم. وهذا ما عدا صناع البلاد وهم أضعاف أضعافهم. ولما فرغت عمارته على الصفة المذكورة أمر السلطان رحمه اله تعالى بعمل فرحة عظيمة جامعة حضرها أعيان الناس. بل عامتهم على اختلاف حالاتهم وتنوع طبقاتهم.؟ وكان السلطان رحمة الله عليه ينظر إليهم من الطبقة الثانية وأمر بإضافة الخلع على أعيان الناس وأجرى للمجمع من كرمه نوالاً وبلغهم من جوده آملاً. وهنأه الشعراء بذلك. وفي هذا عبد الله بن جعفر يقول

هنئت قصراً على كل القصور سما

يا حبذا برج سعدٍ فيه بدر سما

بنيتهُ مستجدّاً تستجدُّ به

نصراً من الله قد أجرى بهِ القلما

ص: 311

ويلتقي الأَمن واليُمن المقيم به

والخلد والعز والأفراح والنعما

ففي الخلافة آياتُ تشاهدها

وقوف سقف ولا شيءُ به دعما

أًنصر التبر مبذولاً لطالبه

فنال من دونه ذوباً به رقما

بين الحدائق والأعناب قد نشرت

منها ثياب تلف الوهد والاكما

كأَنما عاد غُمْدان كمبدئه

واظهر الله من أستاره إِرما

كأَن أربعة الجوزا رواشنه

والجركتان كأَن الفرقدين هما

بين الشبيهين شاذروان قِبلته

هما الجناحان وهو القصر بينهما

تظل منه صفوفُ الماءِ ساجدة

مؤَباتٍ لسلطان الورى خدما

إلى سواقي رخام فوق فسقية

فاعجب لجامد ماءٍ فيه ذائب ما

ولخورنق حين المعقليّ بدا

كمثل ضدٍّ إذا قابلتهُ انهزما

لم يستطع لوقوفٍ في مناظرة

أَمامهُ فتولى عنهُ محتشما

كأنه رب جيشٍ قد طلعت لهُ

ففرَّ عنك بروحٍ منهُ مغتنما

فحلهُ في سعود في علويدٍ

في رفعة في بقاءٍ ليس منصرما

في حقن كل دم أو كشف كل غما

أَوري طل ظما أوَ منع كل حما

أصحييت من يوسف السامي مآثرة

فمذ وُجِدْتَ بحمد الله ما عدما

وقال عبد الباقي بن عبد المجيد في ذلك ويمدح السلطان الملك المؤَيد رحمه الله تعالى

دع رامة الوادي ودع سمراتها

واترك بيوت الشعر في ابياتها

والحظ منازل آل جفنة في العلى

من ارض صهلتها إلى ثعباتها

تجد القصور الشامخات على السها

شرفاً تريك العز في شرفاتها

تلك الجنان أما ترى أنهارها

قد أعربت بالطيب عن ثمراتها

تجلى زواهرها ويشرق زهرها

فكأَنها الأقمار في هالاتها

مثل المجرة في انتظام قصورها

أين المجرة من نما زهراتها

برزت بها الأغصان شبه عرائس

نظمت عقود الدر في آيها

ص: 312

في كل عود من سواجع طيرها

عود يريك اللحن من نغماتها

فخرت بها ثعبات أمصار الورى

بجميل منظرها وجل صفاتها

وسمت بعينيها وحسن نباتها

وتسلسل الأنهار في بحراتها

فلذا بها الطاووس فرَّق ريشهُ

فشياته في العين مثل شياتها

ما سعت بوار وغوطة

يوماً بأزهى من بها غوطاتها

بنيانها من عسجد ومياهها

من فضة تجري على حافاتها

وبها مشيد المعقليّ فكم به

من صنعةٍ فخرت بحسن ثباتها

قصرُ يقصّرُ عن لحاق كماله

باهي النجوم إذا سمت بسماتها

هذي المنازل لا منازل غيرها

في حسنها الباهي وفي حسناتها

فلكُ به الملك المؤَيد طالعُ

كالشمس كاشفة دجى ظلماتها

فلك به الأفلاك جامدة على

مجرى بما يختار من حركاتها

متعوّد بذل النوال لقاصد

والنفس جارية على عاداتها

أيامهُ للقاصدين مواسمُ

وبواسم عن فضلها وهباتها

ملكُ لهُ في العلم أو في غايةٍ

أَرْبت على الأملاك في غاياتها

بذ الملوك أبو المظفر في العلى

لما علت هماته هماتها

حازت مناقبهُ شتات فضائلٍ

فلذاك أضحى جامعاً لشتاتها

يلقى أعاديه كتائب جيشهِ

والنصر معقود على راياتها

لم تلقَ أن شاهدت ضوء جبينه

خططاً من الأيام في نكباتها

أيامهُ مخلوقة لهباته

مقصورة أَبداً على لذاتها

وهذه قصيدة طويلة هذا عنوانها ولما فرغ بناء المعقلي في التاريخ المذكور أمر السلطان ببناء قصرٍ ثان في بستان صالة وتوجه إلى محروسة زبيد يوم الرابع من جمادى الأولى فأقام بها نصف شهر وتوجه نحو مدينة المهجم فأقام بها إلى يوم الثلاثاء التاسع عشر من شهر رجب وسار إلى حجة في جيش أجش

ص: 313

يخف أعزلا قود عليه

ولادية تساق ولا اعتذار

تريق سيوفهُ مهج الأعادي

فكل دمٍ أراقتهُ جبار

وذلك حين طال الحصار على الطهرين ولم يتصل المقدمون إلى غرض فوصل السلطان إلى الجاهلي يوم الثالث والعشرين من رجب وتسلم الطهرين يوم الرابع والعشرين من رجب. ونقل المحطة والمنجنيق إلى شمسان وتواتر القتال عليه ورماه بالمنجنيق فعمل فيه المنجنيق عملاً عظيماً.

وكان الملك المظفر والصاحب موفق الدين ينزلان لحضور الزحفة عليه وتطاول عليه القتال إلى النصف من شعبان. ثم سلمهُ صاحبه وبعد تسليمه وصل الأمير تاج الدين إلى المحطة. وقد كان وصل قبله الأمير ابن وهاس وصاحب ثلا وعساكر اليمن الأعلى حتى امتلأت حجة بالعساكر. وتوسط ابن وهاس في الصلح لصاحب جراف. فعاد إلى الخدم السلطانية ورهن ولده وتوسط أيضاً في صلح الإمام محمد بن مطهر على تسليم عزان وبراش ثم رجع السلطان من حجة. وكان انفصاله عنها يوم السبت التاسع عشر من شعبان. فدخل المهجم يوم الثالث والعشرين منه. وخرج من المهجم يوم الخامس والعشرين منه متوجهاً إلى زبيد. فأقام بها وصام شهر رمضان وعيَّد العيد بها.

وفي اليوم السادس عش من شوال وصل الأمير تاج الدين محمد بن أحمد بن يحيى بن حمزة إلى الأبواب السلطانية بزبيد بعد الامتناع الشديد والمرام البعيد. فأكرمهُ وأتحفهُ وانصفهُ. ولك يكن قبل ذلك وصل إلى السلطان. وكان من أعيان الشرفاءِ ورؤَسائها. وهو صاحب الحصون الغربية كحلان والطويلة. وعدة حصون كثيرة من الحصون الصغار. فعامله السلطان بأنعامه. وأفاض عليه صيّبِ إكرامه. وتوجه الركاب العالي إلى بحر الأهواب على ساحل زبيد. فركب الفيل عند دخوله الغارة. وأردف الأمير تاج الدين خلفه. فارتاع قلب الشريف من ركوب الفيل.

وفي ركوب الفيل يقول عبد الباقي بن عبد المجيد

ص: 314

الله أولاك يا داود مكرمة

ومعجزاً ما أتاها قط سلطان

ركبت فيلاً فظل الفي في رهج

مستبشراً وهو بالسلطان فرحان

لك الإله أذل الوحش اجمعه

هل أنت داود فيها أم سليمان

وأقام السلطان في البحر أياماً. ثم عاد إلى زبيد فأقام فيها أياماً ثم توجه إلى تعز فدخلها يوم السابع والعشرين من ذي القعدة وأحضر الأمير تاج الدين للنزهة والفرجة في قصور ثعبات وقراصة وصهلة وصالة فرأى ملكاً كبيراً وجنة وحريراً. ولما وصل السلطان إلى ثعبات كما ذكرنا هنا الأمير عماد الدين إدريس بن علي بقدومه إليها في أول العشر من ذي الحجة فقال

تهنى بك العشر الكريمة والشهر

وتزهو بك الأيام والملك والدهر

وباليمن والإقبال حلت ركابكم

بحيث استقر الملك والنهي والأمر

سمت ثعبات فوق كيوان رتبة

وطالت على الآفاق وابتهج القصر

وأشرق نور المعقلي كأنما

تَبَدىَّ لنا من بين أركانه الفجر

وقد كان ظن الهجر لما رحلتم

ورام اصطباراً وهو ليس له صبر

فلما أْتت منكم بشائر حجةٍ

وما فعلت فيها صوارمك البتر

تسلى عن البعد الملم وسره

لك العز والإقبال والفتح والنصر

وحين بدا فيه جبينك مشرقاً

ولاح صياءُ منه يحسده البدر

زها حين ما جل ابن جفنة صدره

ولا غزوان يزهو بك الدست والصدر

لعمري لقد آنستموا غرضاً به

وما رضيت بعداً تهامة والبحر

ولا يئست منكم أباطح مكة

وما زال مشتاقاً لك البيت والحجر

وفي كل ارض من سطاك مخافة

وفي كل قلب من مخافتكم ذعر

وفوق محل الشمس قدراً ورفعة

ضربتم رواق المجد فاتضح الفخر

وقلدتم كل الأنام صنائعاً

فما أحد من رق إحسانكم حرُّ

فلا زلت للدنيا وللدين بهجة

لياليكم زهو وأيامكم غرُّ

تجدد في الأيام كل مسرة

تدوم وتبقى ما لآخرها حصر

ص: 315

وفي شهر شوال من هذه السنة أخذ محمد بن عامش وولده من مشائخ حجة حصن ما دون وقتلا صاحبه علي بن صفصفة وأخاه إسحاق.

وفي شهر ذي القعدة وصل العلم من مكة المشرفة أن أهل مصر سلطنوا ركن الدين بيبرس الخاسكي وتسمى بالملك المظفر وكان السبب في ذلك أن بيبرس وسلار استوليا على الملك وتصرفا على الأموال والخزائن ولم يكن للسلطان منهما إلا اسم السلطنة فراجعهم في الحج وجهز أولاده في الركب المصري وسار هو نحو دمشق ليسير مع الركب الشامي. فلما خرج من مصر وملك نفسه صار نحو الكرك وصدر مماليكه بعد أولاده فاستعادوهم ولزم نفسه عن مصر وأهلها فسلطنوا بيبرس كما ذكرنا.

وفي هذه السنة المذكورة ظهر من الشريفين رميثة وحميصة في مكة المشرفة من الجور والعنف والطمع في أموال الناس ما لم يعهد منهما قبل ذلك.

وفيها توفي الفقيه الصالح أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن بكر بن زاكي اليعلوي نسبة إلى عرب يعرفون ببني يعلي وكان رجلاً مباركاً صالحاً. وكان من أعرف الناس بفن القرآن وانتفع الناس به وقصدوه من نواحٍ شتى. وأخذوا عنه مصنفات في علم القرآن. وشهر عنه أنه كان يقرئ الجن أيضاً ومسكنه قرية أسخن بهمزة وسين مهملة وخاء معجمة ونون على وزن أحمد. وكانت وفاته في السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفي سنة تسع وسبعمائة توجه الشريف عماد الدين لافتتاح الشرفين وصحبته العساكر المنصورة واتفق أن ولد علي بن صعصعة تمت له عمولة في حصن مادون فدخلته العساكر السلطانية وتمكنوا منه ولزموا ابن عامس وولده وتسلم نواب السلطان الحصن. وكذلك حصن الحربوش في بلد الحبر أيضاً تسلمه العسكر أيضاً. ووصل أمر السلطان بتسليم ابن عامس وولده إلى ولد علي بن صعصعة وابن عمه وولد إسحاق بن صعصعة فقتلاهما بأبويهما عند باب الجاهلي وتقدم الشريف بالعساكر من الظهيرة نحو الشرف الأعلى فاستولى على بلد سعد ببلد الحبر وحصن

ص: 316

القاهرة ببلد المحاسنة وأخذ رهائن أهل الشريفين وتوجه نحو الشرف الاسفل يوم الحادي عشر من شهر ربيع الأول فحط بلقحاح وتسلم في يومه ذلك حصن القفل وكان في يد ابن مقرعة مولى الشريف إبراهيم بن قاسم واجتمعت عساكر الشرفين مع العساكر السلطانية فكان الجميع خمسة آلاف فقصد بهم الأمير عماد الدين جبل الساهل وهو من أحرز الجبال وامنعها. وكان عند الشريف يحيى بن أحمد القاسمي يقاتل منه فجعل الشريف عماد الدين بني عمه في عسكر العرب أول الناس. وسار في العسكر السلطاني آخر الناس فلم يلقهم دون حصن أصاب أحد من الناس فحط عليه وأّخذه واستولى على حصن الناصرة وسار نحو جبل المسهلة فدخل الشريف يحيى بن أحمد القاسمي رعب عظيم. وطلب الصلح على تسليم حصن العروس وهو مستقر الشريف حيث أمواله وطعامه وحصن شمسان وحصن السمول ولم يبق في يده إلا المنصورة فانتقل إليها وسلم ولده رهينة في نزوله إلى الباب الشريف السلطاني. فلما صفا الشرف الأسفل ولم يبق فيه إلا حصن المسولة للأَشراف أهل جبل الحرام. ومنهم بالباب محمد بن علي وأخوه يطلبان بيعها على السلطان. فحط عليه الأمير عماد الدين في العسكر المنصور ثلاثة أيام فسلمه أصحابه بألفي دينار وطلوع الشريفين من الباب. وجاءَت البشارة إلى السلطان وقد اشتراه الصاحب من الشريفين بخمسة آلاف وإفراس وكساوي فَسُرَّ السلطان بأَخذه وأبطل ما شرع فيه الصاحب. وسار الشريف عماد الدين إلى الشرف الأعلى.

وفي يوم الاثنين السادس عشر قتل الأمير سيفد الدين طغريل قتله الأكراد في ذمار وكان على باب المدينة في قصر السلطان. وكان قد طلب جريدة من الباب فطلعت إليه جريدة جيدة بسبب تسليم القطع التي في البلاد فتوهموا أنه يريد القبض عليهم فقصدوه لغر الليل فاتاه النذير في تلك الليلة مراراً فضيع الحزم. وكان أمر الله قدراً مقدوراً. فلما عزموا على قتله اجمعوا وخرجوا من المدينة فقصدوا محطة عسكر صنعاء فعقروا خيلهم وساروا نحو القصر فأَخذوا الإسطبل فجاءهم عسكر السلطان من المماليك البحرية وغيرهم فكسروهم وطردوهم عن القصر إلى

ص: 317

باب المدينة. ورجعت المماليك إلى الأمير سيف الدين وهو في القصر وسألوه الخروج إليهم فامتنع ولم يحفل بهم فتفرق العسكر عنه ثم قصده الأكراد فحاصروه إلى بعد طلوع الشمس فخرج إليهم على ذمة فقتلوه معه صهره وهو أستاذ داره وكاتبه ووالي ذمار وأربعة من مماليكه. فكان جملة من قتل معه ثمانية نفر وهو تاسعهم ونهبوا المحطة وما فيها من جمل وعدد وهرب من هرب سالماً. ولما وصل العسكر إلى السلطان وقد أخذت خيولهم وعددهم وأثاثهم عوضهم السلطان عما فات.

وجهز العسكر مع الأمير شجاع الدين عمر بن القاضي العماد وهو يومئذ أمير جاندار وسير الأمير عباس بن محمد نحو صنعاء على طريق تهامة وحجة ومعه مال جيد استخدم به عسكراً فتأَني ابن العماد في مسيره حتى خرج عباس من صنعاء وفيه الأمير علم الدين حمزة بن أحمد والأمير بن وهاس وصاحب ثلا وهمدان وعيال شريح وغيرهم فكان دخولهم هم وابن العماد ذمار في يوم الأحد وقد انحازت الأكراد إلى الوادي الحار واستولوا على حصن هزان وشحنوه ورتبوا فيه جماعة فقصدتهم العساكر إلى الوادي فقاتلوهم ثلاثة أيام فقتل في يوم منها ثلاثة من الأكراد وأُخذت خيلهم. ثم تفرقت الأكراد في كل ناحية وخرب العسكر المنصور أموال الفضل بن منصور وعاد العسكر إلى ذمار فتوجه الأشراف نحو بلادهم وأَقام الأميران بذمار. وحصلت المكاتبة والمراسلة بين الأكراد والإمام بن مظهر فأَجابهم وسار إلى بلدي شهاب وطلب الأكراد إلى هنالك فأجابوه وسار عباس بعسكر صنعاء إلى صنعاء وسار الأكراد والإمام وغيرهم إلى قرن عنتر فأَخذوه قهراً وقاتل من كان فيه وكان فيه نحو من مائة رجل. وأخذت العرب بيت برام وبيت ردم. وقاهر حضور وردمان بني خوال وزحف الإمام على صنعاء آخر شهر رمضان. وكان الأمير عباس قائماً بعض العسكر بن بستان السلطان ورجعوا ورجع الإمام إلى حدة وسباع فأقام بها هنالك وكان معه من الأكراد وغيرهم نحو من مائة فارس وتابعت الإمداد نحو صنعاء ثم طلع السلطان بنفسه النفيسة فلما وصل ذمار جعل رحيله من ذمار صبحاً فأمسى على باب

ص: 318

صنعاء فلم يطمع الإمام في معاودة القتال عليها.

وفي شهر شوال خالف الشرفاء إلى شمس الدين في صعدة واخرجوا إليها الكردي وسيروه على طريق حوض فغضب السلطان وجهز ولده الملك المظفر إلى قاع بيت الناهم. فحط هنالك يوم السادس من ذي القعدة ولوقته سار إلى بيت حبيض فاستولى وظهرت عساكره على الإمام ابن مطهر بجدة فانهزم هو ومن معه من الأكراد طريق الحارة إلى حافد ثم طلعوا إلى سبا وكان الميعاد بين السلطان وولده الملك المظفر إلى يوم الثلاثاء بان يركب العسكر السلطاني من صنعاء إلى حدة فاستعجل الملك المظفر آخر نهار الاثنين فكانت عجلته سبباً لسلامة ابن مطهر والأكراد ولكل اجل كتاب.

وفي أول ذي القعدة نقض الأمير تمام الدين الصلح الذي بينه وبين السلطان وكاتب آل شمس الدين باللقاء والاتفاق وأقام الإمام محمد بن مطهر بجبل رهقة والأكراد في الروبة والملك المظفر في محطته في قاع بيت الباهم مدة نصف شهر وعامل محمد بن الذئب الشهابي في الإمام والأكراد فطلع العسكر الجبل فانهزم الإمام والأكراد ثم نزلوا طريق مفحق وافترقوا من هنالك فسار الإمام نحو ذروان. ثم سار نحو ظليمة فعيد بها عيد الأضحى وسار الأكراد نحو طوران ثم وصل الأمير علي بن موسى إلى الإمام محمد بن مظهر ووصل معه آل الإمام فقصدوا الشريف لما بلغهم من تأَخر الفقيه على العسكر وافتراقهم من أَجل ذلك. فطلعوا من طريق كحلان فركز لهم الأمير عماد الدين فعادوا خائبين نحو الظاهر وقصدوا القنة وليهم الأمير همام الدين إلى هنالك فحطوا عليها ثلاثة أيام ثم افترقوا ورجع الأمير همام الدين ظفار وسار الإمام محمد بن مطهر والشريف علي بن موسى إلى صعدة.

وفي غرة ذي الحجة أمر السلطان بالقبض على الشريف جمال الدين عبد الله بن علي بن وهاس وولديه داود والمؤَيد بصنعاء. واحتج عليه بأُمور أوجبت ذلك وسير العساكر مع عباس بن محمد للمحطة على حصنه عزان وسير معه المنجنيق وعيد السلطان عيد الأضحى في صنعاء.

ص: 319

وفي هذه السنة توفي الأمير تاج الدين محمد بن أحمد بن يحيى بن حمزة بن سليمان بن حمزة بن علي بن حمزة وكانت وفاته يوم العشرين من جمادى الآخرة من السنة المذكورة وكان مع السلطان من يوم نزل إليه إلى زبيد في شوال من السنة الماضية إلى يوم وفاته رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الإمام الفاضل رضي الدين أبو بكر بن محمد بن عمر اليحيوي وكانت وفاته في مدينة زبيد وكان مولده في شهر رجب من سنة ست وأَربعين وستمائة وكان تفقه بأبيه وبغيره كابن النابه. وربما أخذ عن المقدسي ثم تصوف وصحب الأكابر من الصوفية كابي السرور وغيره وحج مكة فلقي فيها جمعاً من الأكابر وانتسخ كتباً من كلام ابن العربي الصوفي فعكف عليها واعتقد ما فيها ثم لما عاد إلى اليمن أقبل عليه أَعيان الأمراء والملوك والخواتيم وصار لهم معتقد عظيم. ومثل أصحابه عنه أُموراً تدل على صلاحه وجلالة قدره. وحصل بينه وبين الملك المؤَيد ائتلاف وصحبة قبل مصير الملك إليه واعتقد صلاحه اعتقاداً جاوز الحد وكان مظهراً لإقامة المعروف والنهي عن المنكر وإبطال الخمر وما شابهه. ولم يكن السلطان مغيراً ما فعله اعتقاداً أن ما فعله هو الصواب. وله أشعار معجبة ويقال إن بإشارته انتقلت الأوقاف من حكام الشرع إلى أرباب الدواوين. ولم تكن قبل إلا إلى حكام الشرع الشريف. وكان نزوله إلى زبيد في سنة ثمان وسبعمائة فأقام بها إلى إن توفي في لسلة الخميس لعشر بقيم من شهر ربيع الآخر من سنة تسع المذكورة.

وحضر دفنه أخوه القاضي موفق الدين علي بن محمد بن عمر الصاحب نزل مزعجاً عليه من تعز فأدركه منزولاً به وقبر إلى جنب قبر الشيخ الصالح علي بن أفلح في مقابر باب سهام رحمه الله تعالى.

وفي هذه السنة توفي الفقيه القيه الصالح عثمان بن الفقيه يحيى بن الفقيه وكان فقيهاً حيراً وله قريحة في الشعر ومن قوله بيتان يجمع فيهما أُولو العزم وهما.

أولو الحزم فاحفظهم لعلك ترشد

فنوح وإبراهيم هود محمد

قال المصنف أيّده الله إنما هذا بيت واحد ولكنه مقفى إلا أن يكون سقط البيت

ص: 320

الثاني من الأصل فيمكن ذلك ولأنه لم يستوعب أهل العزم في البيت المذكور. فدل على سقوط بيت آخر والله أعلم. وهو الذي خمس مديح ابن حمير الذي أوله

يا من لعين قد أَضرَّ بها السهر

وأضالع جُدْب كوين على الشرر

فقال

قلبي المعنى حار حلفاً للفكر

وكذاك سمعي خانني ثم البصر

ودموع عيني في المحاجر كالمطر

يا من لعين قد اضربها السهر

وأضالع جُدْب طوين على الشرر

وكانت وفاته مبروقاً يوم الحادي عشر من ذي الحجة من السنة المذكورة والله أعلم.

وتوفي الفقيه الفاضل أبو الخطاب عمر بن محمد بن عبد الله بن عمران المتوجي بضم الميم وفتح التاء والواو ومع التشديد وجيم قبل ياء النسب. وكان مولده سنة ست وأربعين وستمائة بمخلاف شيبة. ثم سار إلى تعز فدرس فيها في المدرسة العمرية. وكان يغلب عليه العزلة والانفراد والعبادة وكلفه دين عظيم. فارتحل إلى عدن بسبب قضاء دينه. فأدركته منيته هنالك فتوفي بها يوم الخميس الحادي والعشرين من ذي الحجة من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الشيخ الرئيس محمد بن بطال بن محمد بن بطال بن أحمد بن محمد بن سليمان بن بطال الركبي نسبة إلى قبيلة كبيرة يقال لهم الركب من ولد أنعم بن الأشعر يسكنون مواضع كثيرة في عدة نواح من اليمن كان جده محمد بن بطال يخدم السلطنة. وتولى ناحية المفاليس مدة فلما هلك تولى بعده ولده بطال بن محمد فأقام مدة في ولايته ثم قتله بعض بني عمه وكان ولده هذا محمد بن بطال رهينة في الدملؤَة عند خادم يقال له ياقوت فأقامه مقام أبيه وولاه الجهة فقوي أَمره به واكتسب أَموالاً وصحب أعيان الدولة فقوي بذلك أَمره واستمر على ذلك دهراً طويلاً فهرب منه الذين قتلوا أَباه وكان يحب الرئاسة ويتقرب إلى الرؤُساء من أهل الدين والجنيا إلى أن توفي وكانت وفاته في السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

ص: 321

وفي هذه السنة توفي الفقيه الفاضل أبو الحسن علي بن مفلح الكوفي وكان فاضلاً أخذ عن ابن الحرازي القراءات والفقه وكان خيراً من أكثر الناس إحساناً إلى ابن الحرازي وكان أبوه مفلح صاحب دنيا واسعة وكان ولده هذا علي يتحمل الغالب من مؤُنة ابن الحرازي من طعام وكسوة له ولعياله. فكان ابن الحرازي يجتهد في اقترابه فوق ما يجب ويبالغ في إكرامه. ويؤُثره على سائر الطلبة لذلك فكان يحسن إلى سائر الطلبة أيضاً ويواسيهم. ثم حج في آخر عمره. وامتحن بالفقر. وكانت وفاته في ذي الحجة من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الفاضل إسماعيل بن علي بن محمد بن أحمد بن نجاح المعروف بابن ثمامة. وأمه بنت الفقيه إسماعيل بن محمد الحضرمي. وكان فقيهاً عارفاً حسن الأخلاق وكريم النفس توفي إلى رحمة الله تعالى في جمادى الأولى من السنة المذكورة.

وفيها توفي الفقيه المقري أبو عبد الله محمد بن عمر بن وكان ميلاده في شهر محرم أول سنة أربعين وستمائة وقرأ القرآن وصحب الأستاذ أَبا وسبب صحبته اتصل بالملك الواثق وسافر معه إلى ظفار وغلب على أمره ولم يزل وزيراً له إلى أن توفي هنالك وكانت وفاته في شهر رمضان من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفي سنة عشر وسبعمائة تسلم الأمير شمس الدين عباس بن محمد ابن عباس حصن ظفار ونقل محطته نحو ظفار وحط بالطفة عند حصن تعز ونصب المنجنيق عليه فرغب الأشراف في الصلح وأذعنوا للخدمة الشريفة على يد الشيخ نجم الدين محمد بن عبد الله بن عمر بن الجند بصعدة ورهن الأشراف على تمامه. وسار معدا نحو السلطان إلى صنعاء فأَتم السلطان ما فعله وصاح الصائح بالصلح ليلاً على كره من الأمير عباس مقدم الحرب يومئذ. وكان ذلك خديعة من الشيخ ابن الجند لما علم مضرة أهل ظفار أن أقام عليهم الحصار فاستغاثوا به فبادر مسرعاً لرفع المحطة عنهم فعدها السلطان له من جملة الذنوب وأتم السلطان ما تقرر من الصلح.

ص: 322

وتوجه السلطان من صنعاء إلى محروسة تعز يوم الخامس والعشرين من صفر وترك في البلاد الصنعائية الأمير أسد الدين محمد بن حسن بن نور مقطعاً بها.

وفي هذه السنة المذكورة تسلم الأمير عماد الدين إدريس بن علي حصن المفتاح مضافاً إلى ما تسلم من حصون الشرفين وسلم الجميع إلى نائب السلطان. وهو حسن بن الطماح بن ناجي وقد ولاه السلطان جهات الشرق.

وفي السابع عشر من جمادى الآخرة تقدم الركاب العالي من محروسة تعز إلى محروسة زبيد.

وفي هذا التاريخ اصلح الأكراد ودخلوا في الطاعة بعد أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وبذلوا الطاعة من أنفسهم ولجئوا إلى الحرم الشريف متفيئين ظلاله مستمطرين نواله فعادت الشنشنة الرسولية عليهم بالإقبال واستقر الحال على بقاء هزان بأيديهم واستخدم من أراد الخدمة منهم وتسلم خمس رهائن.

وفي هذه السنة أقطع السلطان الأمير جمال الدين نور حسن بن نور الأعمال الصعدية والجوفية والجثة بتهامة وعوض الأمير عماد الدين عن الجثة بالقحمة.

وفي جمادى الآخرة سار الإمام محمد بن مطهر يريد لقاء الأكراد وقد طلبوه فوصل برأْس الناقر وأَقام ينتظرهم فبدأَ لهم في الصلح فاصلحوا السلطان على أنفسهم فرجع الإمام إلى ورور وطلع السلطان من زبيد إلى تعز في آخر ذي القعدة من السنة المذكورة.

وفي هذه السنة حج من مصر عدة من الأمراء في عسكر كثيف وكان قصدهم لزم الشريفين رميثة وحُميَضة. فلما علما بذلك نفرا من مكة ولم يحصل العسكر على قبضهما. فلما انقضى الحج ورجعت العساكر المصرية إلى مصر عادا إلى مكة.

وفي هذه السنة توفي الفقيه الفاضل أبو الخطاب عمر بن عثمان بن يحيى ابن إسحاق وكان مولده سنة ثمان وعشرين وستمائة. وكان فقيهاً مجوداً غلب عليه الاشتغال بالحديث. وكانت وفاتهُ في صفر من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

ص: 323

وفي هذه السنة توفي الفقيه الصالح عبد الرزاق بن محمد الجبرتي الزيلعي ويقال أنه شريف النسب. وكان فقيهاً فاضلاً من أهل المروءة والدين محباً في السعي في قضاءِ حوائج الأصحاب راغباً في ذلك. ودرس بالناجية في مدينة تعز وتفقه بمحمد بن عباس وعلي بن أحمد الجنيد. وكانت وفاته في صفر من السنة المذكورة. ويروى أنه لما حُمل نعشه وساروا به نحو المقبرة جاءَ طائر من الهواء فدخل في أكفانه ولم يُرَ بعد ذلك والله أعلم.

وفي هذه السنة توفي الفقيه الفاضل أبو عبد الله محمد بن الفقيه عبد الرحمن بن الفقيه يحيى بن سالم وكان فقيهاً عارفاً بالفقه والأصول ذكيّاً درس بعد أبيه وصحب الفقيه أبا بكر بن محمد بن عمر بن اليحيوي مدة طويلة فنال مالاً جيداً وبسببه جعل أمر المدرسة إليه والى أهله وأبعثهُ الملك المؤَيد سفيراً إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقوم حماز علي أبي نمى صاحب مكة لأمر كان بينهما فلزم أبو نمى وصادره هو وصاحبه بمال فاقترضوا من حجاج اليمن وعادوا. قال الجندي وأظن ذلك كان في سنة ثمان وتسعين وستمائة. وكانت وفاته في سنة عشر وسبعمائة بعد أن اتسعت دنياه اتساعاً كبيراً والله أعلم.

وفيها توفي الفقيه أبو الحسن علي بن عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن أحمد ابن أبي القاسم بن أحمد بن أسعد نسبة إلى عرب يسكنون جارة يقال لهم بنو خطاب. وكان مولده سنة ست عشرة وستمائة وتفقه بابن ناصر المذكور أولاً. وكان فقيهاً محققاً مدققاً سكن قرية من مخلاف جعفر يقال لها منزل جديد بفتح الجيم وكسر الدال المهملة. وامتحن في آخر عمره بالعمى وتوفي على ذلك في السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الفاضل أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الله ولد صاحب المقداحة. وكان خرج في حياة أبيه قاصداً السياحة والتعبد فبلغ مدينة ظفار

ص: 324

الحبوضي وأقام هنالك مدة. فلما توفي والده وخلا الموضع من قائم يقوم فيه أرسلوا له رسولاً قاصداً وسأَلوهُ الوصول إليهم فوصل وابتنى رباطاً على صفة رباط ظفار وقام بالموضع قياماً مرضياً إلى أن توفي في سلخ جمادى الأولى من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الصالح أبو عبد محمد بن أحمد الخلي نسبة إلى قرية بحجر يقال له الخلة بفتح الخاء. وكان فقيهاً عارفاً صالحاً ورعاً عابداً زاهداً تفقه بأحمد بن جزيل بسهفنة والفقيه إسماعيل الحضرمي وعاد إلى بلده فاخذ عنه ابن أخيه إسماعيل ابن أحمد بن علي ثم عرض لهذا الفقيه أن سلك طريقة الزهد والعبادة فابتنى رباطاً وأنفق ماله على الواردين والقاصدين ولم يزل به حتى توفي في السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفي سنة إحدى عشرة وسبعمائة حصل من الإمام محمد بن مطهر عزم عظيم وتوجه إلى الشرق في جمع من العساكر. وكان قد أيصاب قبائل الشرق من ولاة السلطان بعض ما يكرهونه فسار بهم الإمام نحو جبل الساهل فلم يظفر منه بشيءٍ. وطلع بلد المحانشة فقاتل على القاهرة واستولى عليها وأخذ حصن هبيب وجبل سعد والشجعة والمفتاح وأجابه أهل الشرف الأعلى كافة فنزل السلطان إلى تهامة وجرد الجرائد إلى تلك الجهة وأمر الشريف عماد الدين إدريس بالتوجه إليها على عادته فسار إلى جبل أقناب وجمع العساكر وكاتب القبائل فما أجابوا وسار إلى عكاش في اليوم السابع من شعبان فقاتلهم ثمانية أيام وكان عسكرهم يومئذٍ ألفا وخمسمائة وكان كل يوم ينقص من عسكره جماعة واستمد الإمام بقبائل حجة وشطب والأهيوم وقبائل الشام فاقبلوا إليه فقصدوا المحطة يوم الخامس عشر من شعبان في ستة آلاف راجل

ص: 325

فانهزم العسكر السلطاني قبل وصول الإمام ولم يبق إلا الشريف عماد الدين في أربعة أفراس فأُسر الشريف عماد الدين وقتل ابن عمه قاسم بن الإبريس وأسّر خاله وسلم الرابع بعد أن عقر حصانه وقتل في الوقعة الأمير جمال الدين غازي بن أبي بكر بن خضر. وكان يومئذ والي الموقر والمخلافة والسرددية وقتل سبعة من الرجل. وأَقام الشريف عماد الدين مأْسوراً نحواً من نصف شهر. ثم افلت فلحق بحصن عزان الذي لابني شرحبيل فجمع الإمام جموعه وزحف عليه فلم يظفر بشيءٍ. وتسلم الأمير حصن المفتاح يوم الخامس عشر من شهر رمضان بعد أن أفرغ ابن الطماح جميع ما فيه من شحنة وصبر وهو ومن معه على أهون القوت. وانتقل الشريف عماد الدين إلى الظفر حصن الإماء بني صفي الدين في نصف شهر رمضان. وقد كان السلطان جهز ولده الملك المظفر والصاحب موفق الدين إلى الشرف قبل الواقعة فلقيهما الخبر وهما بالمهجم فسارا وحظا في قلحاح. ثم ساروا إلى موضع محطة الشريف عماد الدين فهزموا عسكر الإمام وقتل السيخ الرّياحي صاحب جبل تيس. ثم انتقل الشريف من الحصن المذكور إلى محطة الملك المظفر بقلحاح فأقام عنده على أحسن حال إلى الرابع عشر من شوال وأمره بالإقامة في جبل الساهل وترك عنده من العسكر ألف راجل. ونزل المظفر والصاحب موفق الدين إلى تهامة. وتجهز الأمير شمس الدين عباس بن محمد بن عباس إلى حجة لحرب إبراهيم بن مطهر بذروان فقط عباس في سهل شمسان. ولما تطاولت الفتنة بين السلطان والإمام استقرَّ الحال على ذمة من السلطان مدة سنة كاملة يستريح الناس من الفتنة وتضع الحرب أوزارها ورجع الملك المظفر والصاحب والأمير شمس الدين إلى الأبواب السلطانية بزبيد.

وفي هذه السنة توفي السلطان الملك الواثق إبراهيم بن السلطان الملك المظفر شمي الدين يوسف بن عمر بن علي بن رسول في ظفار الحبوضي وكان فريداً في محاسنه وله معرفة في الأدب ومشاركة في فنون العلم وكان يقول الشعر ويحسر عليهِ الجوائز السنية.

ص: 326

ومن يك ذا ود بن يوسف صنوه

فليس غريباً أن يرى بكريم

ويروى آن ولد أحمد الرفاعي وصل إلى ظفار يريد الحج فتلقاه السلطان بالإجلال والإكرام فأقام عنده ثلاثة أيام في الضيافات النفيسة وكان يرسل له كل يوم في مدة الضيافة بألف دينار ملكية وتشريف فتلك شِنْشنِةَ مظفرية وأخوة هزبرية. فلما وصل العلم بوفاته أمر السلطان بالقراءَة عليه سبعة أيام وحضر القراءَة ملوك بني رسول وأعيان الدولة ووجوه الناس في كل يوم ينصرفون بعد القراءة إلى سماط نفيس حتى انقضت السبعة الأيام رحمه الله تعالى.

وفيها توفي القاضي منتخب الدين إسماعيل بن عبد الله بن علي الحلبي بلداً المعروف بالنقاش الملقب بالمنتخب وكان رجلاً فاضلاً كاملاً له جاه عريض وثناءُ مستفيض سافر من بلده إلى مكة المشرفة فأقام بها مدة ثم ارتحل إلى اليمن وقد تكرر ذكره فيها. فلما قدم زبيد وواليها يومئذٍ نجم الدين ابن الخِرْتبِرتي كتب إلى الملك يعلمه بوصوله فأمر السلطان أن يبجل ويعظم ويعزَّز ويكرَّم. وكان متورعاً متزهداً له يد في الفقه والأصول وصحب الفقيه عمر بن عاصم مقدم الذكر ثم بعد ذلك حصل مجلس ذكروا فيه الصحابة رضي الله عنهم والمفاضلة بينهم فسمع منه تقديم علي عليه السلام على غيره من الصحابة فاتهموه بالرفض وأشاعوا ذلك عنه فلزم بيته وهجرهم وتعانا الزراعة وكان محترماً فيها لأجل ما كان المظفر يجله ويحترمه ويوصي به الولاة ثم تزوج السلطان الملك المؤَيد ابنته فولدت له المجاهد رحمه الله عليهم أجمعين وكانت وفاة المنتخب المذكور في مدينة زبيد في السنة المذكورة وأمر السلطان بالقراءة عليه في جامع المغربة ثلاثة أيام رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الفاضل أبو محمد عبد الله ابن محمد بن جابر بن أسعد ابن أبي الخير العودري ثم السكسكي وكان يعرف بالرباعي لأنه كان له أربع أصابع وكان تفقه بفقهاء الجند كإبراهيم بن عيسى وغيره. وأخذ النحو عن أحمد ابن أبي بكر وغيره وجمع كتب الحديث على عبد الله بن عمران الخولاني وحصل بينهُ وبين أهل قريته وحشة فنفر بسببها إلى البلد العليا فعلم للشريف علي بن عبد الله ولديه

ص: 327

داود وإدريس وحصلت له شفقة كلية من الشريف وأقام معه مدة سنين فانتفع أولاده به وقرأُ القرآن واستخلص الشريف له خراج أرضه من السلطان فلم تزل مسموحة إلى أن توفي. وجمع كتباً كثيرة في الأدب وغيره. وكانت وفاته في النصف من شهر صفر من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الفاضل أبو عبد الله محمد بن علي بن أحمد بن مياس الوافدي. وكان فقيهاً جيداً تفقه بأهل عدن وكان ينوب ابن الجنيد على القضاء بعدن فلما توفي ابن الجنيد جعل مكانه فسار سيرة الغالب عليها الخير وكان يتعانى التجارة مع المسافرين في البحر والزراعة في بلدة لحج وكان مسكنه مسكن أخواله القريطين. فما أنه العليا على قضاء عدن سنين حتى ولي القضاء الأكبر بنو محمد بن عمر فعزلوه من عدن وجعلوه حاكماً في بلده واستمر بعده في القضاء الحجافي واستمر هو على القضاء في بلده إلى أن توفي وكانت وفاته في شهر رجب من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الفاضل أبو بن الحسين بن محمد بن أحمد بن مصباح. وكان مولده سنة اثنتين وستين وستمائة. وكان فقيهاً عالماً بارعاً عارفاً بالفقه توفي في السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفي سنة اثنتي عشرة وسبعمائة طلع السلطان الملك المؤَيد من زبيد إلى تعز وكان خروجه من زبيد أول يوم من المحرم من السنة المذكورة. وفي اليوم الرابع عشر من شهر ربيع الأول قتل الشريف عماد الدين يحيى ابن تاج الدين. وكان سبب قتله أن بعض القبائل من أهل ملحان جزوه على آخرين غيرهم وعذلوا فيه وفي عسكره فلما أَراد الخروج رد حصون أهل العدالة قبل انفصاله من الجبل فدعموا فيه فقتل وقتل معه نيف وأربعون رجلاً من أصحابه.

وفي هذا التاريخ وصلت رسل الإمام إلى الشريف عماد الدين إدريس ابن علي للسعي في الصلح بينه وبين السلطان قبل انقضاءِ الذمة فسيرهم الشريف إلى الباب

ص: 328

الشريف فتلقاهم الشيخ محمد بن عبد الله بن عمر بن الجند وكان الصاحب موفق الدين يومئذٍ مريضاً. فاستقر الأمر على صلح عشر سنين أولها جمادى الآخرة من السنة المذكورة. على أن الشرف الأَعلى وحصونه والحبر بحجة وصاحب بيت ردم وشركاءه وأموال آل الوشاح حيث كانت وظفر به وهاس وسائر ما هو معروف للإمام بحجة وظليمة وغيرهما إليه وثلاثة آلاف دينار في كل سنة. وصاح الصائح في تعز بالصلح عشر سنين فلما تمَّ صلح الإمام وانفصل عنه الأكراد جرد السلطان من عسكر الباب مائتي فارس ورجل مدجج للحظة على هزان. وأمر الأمير أسد الدين محمد بن نوران يسير بعسكره من صنعاءَ فتوجه الشيخ إلى الجند حينئذٍ وعقد صلحاً للأكراد على ترك دخول ذمار ورداع وترك الإقطاع وإن تستمر رهائنهم بالعروس. وأمر السلطان الأمير أسد الدين بسكنى ذمار واستيطانها فامتثل الأمر.

وفي الثالث من جمادى الآخرة سار السلطان إلى الجند بسبب الصيد فأقام هنالك إلى الحادي عشر منه وعاد إلى تعز ثم سار إلى زبيد يوم الرابع والعشرين منه فدخل زبيد يوم الرابع من رجب. وفي ليلة الجمعة السابع عشر من شهر رجب احترقت دار المرتبة بتعز لأسباب اختلف الناس فيها فتلف فيها شيءُ كثير من الأثاث والفروش والكتب النفيسة وغير ذلك مما لا ينحصر. وكان في حملة ما احترق بشخانتان كبيرتان كاملتان من الزركش إحداهما صفراء والأخرى حمراء وكان السلطان يومئذٍ في زبيد وفي يوم السبت الثامن والعشرين من رجب خرج السلطان إلى فشال بسبب الصيد فأقام هنالك إلى آخر الشهر المذكور ورجع إلى زبيد.

وفي هذه السنة أمر السلطان بإنشاءِ قصر بزبيد على ظاهر باب الشبارق في البستان الذي أمر بإنشائه المعروف بحائط لبيق. وكان صورة بناء القصر يومئذٍ إيوان طوله خمسة وأربعون ذراعاً وفي صدره مقعدة ستة اذرع وله دهليز متسع وفوق الدهليز قصر بأربعة أواوين يشرف على البستان المذكور من جميع نواحيه.

وفي هذه السنة حج الملك الناصر صاحب مصر في مائة فارس من مماليكه وستة آلاف مملوك على الهجن وسلاحهم القسي فوصل مكة المشرفة في اثنين وعشرين يوماً

ص: 329

من يوم خروجه من دمشق محرماً مقرعاً فطاف بمرأَى من الناس وكان أعرج قبيح العرجة فقضى مناسكه كلها فلما حل حلق رأْسه وأَحسن إلى الناس وتصدق وعاد ومعه الشريف أبو الغيث ابن أبي نمى. وقد هرب رميثة وحميضة لما أحسا بوصوله خشيا أن يقبض عليهما فخرجا من مكة ونهبا التجار الواصلين إلى مكة نهباً شديداً ولم يتركا لأحد شيئاً وفعلا من الأفعال القبيحة ما لا يفعله أحد. وأقاما غائبين عن مكة حتى فرغت أيام الحج وعادا إلى مكة.

وفي شهر شعبان من هذه السنة حصل على الملك المظفر حسن بن السلطان المؤّيد توعك في جسمه وذلك بعد وصوله من الشرف. وكان من قبل طلوعه غير طيب وكانت الحمى لا تفارقه مع سعال. فلما اشتد عليه الأمر أمره والده بالطلوع فطلع فاشتد به الأمر في رمضان فهمَّ السلطان بالطلوع ثم توقف. فلما كان يوم العيد أتاه خبر أزعجه فأمر الصاحب موفق الدين بالطلوع لفوره فطلع يوم العيد وقت الظهر وهو يوم الاثنين فوصل تعز يوم الثلاثاء عند طلوع الشمس وخرج السلطان من زبيد ظهر يوم الثلاثاء فدخل تعز يوم الخميس وأرسل لابنه إلى ثعبات وأرسل الأطباء لمعالجته فلم يزدد إلا ضعفاً ونحفاً. ولم يزل كذلك إلى أن توفي في يوم الأحد السادس من ذي القعدة بعد أن أوصى وتثبت في وصيته.

وفي جملة وصيته أن لا يُصاح عليه ولا يُشق عليهِ ثوب ولا يُغطى نعشه إلا بثوب قطن وإن لا يُعقر على قبره شيءُ من خيله وإن يُدفن في مقابر المسلمين. فنفذ والده وصيته في جميع ما أوصى به إلا في الدفن فإنه أمر أن يدفن عند أخيه الظافر في المدرسة المؤَيدية في معزية تعز. وكان من اجل الملوك قدراً وأوصى في جملة وصيته لن يُبتنى له مدرسة في قرية المحارب وإن يجرى لها الماء وإن يجري الماءُ منها إلى حوض تحتها. ففعل والده جميع ذلك. وكان يوم دفنه يوماً مشهوداً. وحضر دفنه ملوك بني رسول بأجمعهم وشهدوا القراءَة سبعة أيام وأمر والده بالقراءة عليه في سائر مملكته. وكتب العفيف ابن جعفر إلى السلطان يعزيه بهذه الأبيات:

أمولى الملوك وسلطانها

ويا من له طاعة تفترض

ص: 330

فلا ملكُ ناقضُ عقدهُ

ولا ملكُ عاقدُ ما نقض

ولا عوض منك في ذا الورى

وكل الورى أنت منهم عوض

وفي يوم العاشر من ذي القعدة توفي القاضي جمال الدين محمد بن احمد ابن محمد بن عمر اليحيوي وهو الذي كان ينوب عن القاضي موفق الدين الصاحب في قضاء الأقضية فكان يباشر الأحكام ويفصل القضايا ولا يعارضه أحد وكان الغالب عليه سلوك طريق الزهد بحيث أن أكثر أهله وأصحابه يقولون عنه أنه لم يكتسب شيئاً من الدنيا. وكان عمه أبو بكر هو الذي يربيه ولم يصر إليهم أمر القضاء والوزارة إلا بعد أن تفقَّه وتعبَّد وحج وجاور في مكة والمدينة وعرف الناس يمناً وشاماً وحجازاً ولم يكتسب شيئاً من الدنيا كما اكتسب أهله أجمعون ولا تزوَّج امرأَّة قط وكانت إشارته من إشارة عميه أَبي بكر وعلي ولم يخالفاه وفي أصحاب عمه أَبي بكر جماعة يعترفون له بالصلاح وربما يفضلونه على عمه أبى بكر. وقال الجندي كانت وفاته يوم الخميس تسع عشر ذي القعدة من السنة المذكورة والله أعلم.

وفيها توفي القاضي موفق الدين الصاحب علي بن محمد بن عمر اليحيوي المعروف بالصاحب. وكان رجلاً كاملاً رئيساً فاضلاً فقيهاً نبيهاً فصيحاً شهماً ولي الوزارة والقضاء في الدولة المؤَيدية إلى يوم وفاته. وكانت وفاته يوم الثالث من ذي الحجة من السنة المذكورة رحمه الله.

وفيها توفي الفقيه الصالح أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد السبتي. وكان فقيهاً فاضلاً محققاً حسن الأخلاق مرضي الفتوى وردت منه أسئلة إلى الفقيه الإمام أبى الحسن الأصبحي صاحب المعين تدلُّ على تحقيقه وتدقيقه. وكان ممن يذكر بالكرم وعلو الهمة وشرف النفس وحسن القيام بمن قصده من أبناء الجنس وغيرهم. نقل ذلك عنه جميع المسافرين ولا يمكن تواطؤهم على كذب. وكان خطيباً فصيحاً مصقعاً. توفي على الطريق المرضي في السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفي سنة ثلاث عشرة وسبعمائة توجه السلطان من تعز إلى الجند فأقام فيها مدة. وفي شهر ربيع الآخر برز مرسوم السلطان إلى الأمير أسد الدين محمد بن حسن

ص: 331

بن نوربان يخرج من ذمار ويحط على حصن هزان وينصب عليه المنجنيق ففعل ما أمر بهِ ونصب المنجنيق عليه ووصل الأمير شمس الدين عباس بن وهاس معزولاً من حرض.

وفي شهر ربيع الآخر قتلت الأكراد حسن بن إياس والي صنعاء في ستة نفر من الغز منهم بن الغلاب والتاج بن العز وابن منقار وجماعة من الرحالة فجرَّد السلطان عباس بن محمد في خمسين فارساً غير عسكره فخرجوا من تعز يوم الخامس من جمادى الأولى فأقاموا مع ابن نور في محطته ولم يزل المنجنيق يصك هزان حتى أتلفه إتلافاً كليّاً لم يعلم قط إن كسفاً عمل في حصن ما عمل المنجنيق في هزان. فلما ضاق الأمر على الأكراد واشتد عليهم ورأُوا الموت عياناً لجئوا إلى السلطان فكاتب لهم الشيخ محمد بن عبد الله بن عمرو بن الجند واستعطف خاطر السلطان عليهم وراجع في ذمة وبرز أمر السلطان بالذمة عليهم للأمير إبراهيم بن شكر والجلال بن الأسد فحضروا مقام السلطان بالجند ودخلا تحت الطاعة واستعطفا خاطره الشريف فرجع إلى شنشنته الكريمة وعفى عنهم بشرط أن لا يبدو منهم ما يوجب الغبار عليهم وسلموا هزان وعادوا إلى ذمار على عادتهم في الخدمة. وأمر السلطان برفع المحاط عنهم فارتفعت عنهم في مستهل رجب من السنة المذكورة. وتوجه الأمير أسد الدين محمد بن حسن بن نور إلى صنعاءَ والأمير عباس بن محمد إلى بلاد همذان لخراب زروعهم وبلادهم والمحطة على بيت أنعم لأنهم بدا مهم ما لا يحسن. فأمر السلطان بخراب زروعهم في مقابلة ما فعلوه.

وفي هذا التاريخ تقدم الركاب العالي إلى زبيد فدخلها يوم الثاني عشر من رجب المذكور ووصل إلى السلطان وهو مقيم بزبيد الأمير الكبير الهادي ابن عماد الدين وداود بن موسى مخاطبين في الأمير أسد الدين محمد بن أحمد ابن عز الدين فلم يجابا إلى خروجه من السجن. وبرز أمر السلطان بتوجه الأمير عماد الدين إدريس بن علي إلى صوب صهيب في جمع كثير من الخيل والرجل فأقام في بلاد الأشاودة حتى رهنوا رهائن أكيدة ثم سار إلى مقمح فاخرب العسكر بلدهم وأتلفوا عليهم طعاماً

ص: 332

كثيراً واتلف الشريف للجحافل زرعاً كثيراً وغيره.

وفي أول يوم من ذي الحجة اخرج السلطان الأمير جمال الدين عبد الله بن علي بن وهاس من سجن تعز. وكان السلطان يومئذ في زبيد فنزل الأمير جمال الدين وصحبته والي تعز إلى الباب الشريف مخاطباً في رجوعه إلى الخدم الشريفة. ويسلم حصن ظفر فأُجيب إلى ذلك. وكانت إقامته في السجن أربع سنين لا تزيد يوماً ولا تنقص يوماً فأقام في زبيد أياماً وقد نزل إليهِ جماعة من أصحابه وبني عمه فاعلموه بامتناع ولده على الحصن المذكور. فسأَل من السلطان أن يقبل أولاده وبني عمه رهينة مع أربع حلل من حريمه قد صرن في صنعاء ويترك يطلع على حسب حاله ليتوصل إلى دخول الحصن ويسلمهُ إلى نواب مولانا السلطان فأذن له في ذلك فسار أي ولده. ولما طلع الحصن وتمكن منه أَخرج ولده وأمره بالمسير إلى الباب السلطاني. ويسلم الحصن إلى نواب السلطان.

وفي هذه السنة وصل الشريف أبو الغيث بن أبى نمى من مص في عسكر جرار إلى مكة فيهم من المماليك الأتراك ثلاثمائة وعشرون فارساً وخمسمائة فارس من أشراف المدينة خارجاً عما يلحقهم من المتخطفة والحرامية فلما علم بهم رميثة وحميضة هربا إلى صوب حلي بن يعقوب واستولى الشريف أبو الغيث على مكة وكان المقدم الأمير سيف الدين طقصنا. فلما وصل المحمل السعيد والعلم المنصور المؤيدي برز الأمير سيف الدين طقصنا والشريف أبو الغيث للقائه وطلعا به جبال عرفات على عادته.

وفي هذه السنة توفي الفقيه الفاضل عثمان بن عبد الله بن الفقيه محمد بن يحيى بن إسحاق بن علي بن إسحاق الغاني ثم السكسكي. وكان فقيهاً صالحاً عارفاً محققاً تفقه بتهامة على الفقيه عبد الله بن علي بن إبراهيم بن عجيل وأخذ عنه أخيه يحيى. وكان كثير العزلة في بيته ويدرس فيه وقلَّ أن يخرج عنه إلا يوم الجمعة. وكان زاهداً ورعاً متعبداً لزوماً للسنة.

قال الجندي اخبرني ابن أخيه الفقيه علي بن أبى بكر. وكان أحد فقهائهم أنه أًسرَّ إليه أنه قال: " رأَيت رؤْيا إن عشت لا أخبرت بها أحدا وإن مت فأنت الخيرة

ص: 333

رأَيت لثمان بقين من رجب جماعة فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدنا وقبَّل بين عينيَّ اجعلها عندك وديعة وذخراً فاغفر لي يا خير الغافرين " وما أظنني أعيش بعدها. فقلت ولم ذلك قال إن ابن نباتة الخطيب رأَى النبي صلى الله عليه وسلم فقبله فلم يعش بعد ذلك إلا أثنى عشر يوماً. ثم أنه لم يعش بعد ذلك إلا عشرين يوماً بل توفي يوم السبت الخامس من شعبان من السنة المذكورة وهو ابن ثلاث وستين سنة رحمه الله تعالى.

وفي هذه السنة توفيت الحرة المصونة مريم ابنة الشيخ الشمس بن العفيف زوج السلطان الملك المظفر. وكانت من عقائل النساءِ طاهرة عاقلة لبيبة لها عدة مآثر جيدة منها المدرسة التي في زبيد وهي التي تسمى السابقية وكثير من الناس يقولون مدرسة مريم وهي من احسن المدارس وضعاً رتبت فيها إماماً ومؤَذناً وقيماً ومعلماً وأيتاماً يتعلمون القرآن ومدرساً للفقه على مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه ومُعيداً وطلبة وأوقفت على الجميع وقفاً جيداً يقوم بكفايتهم وابتنت في تعز مدرسة في المعزية في الناحية التي تسمى الحميرا ووقفت عليها وقفاً جيداً ولها مدرسة في ذي عقيب وهي التي دفنت فيها. ودار مضيف. وكانت وفاتها بجبلة في جمادى الأولى من السنة المذكورة رحمها الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الفاضل عمر بن محمد بن مسعود بن يحيى بن محمد بن المبارك. وكان فقيهاً عارفاً مجتهداً تفقه بالإمام أبى الحسن علي بن أحمد الأصبحي وقبله بشيخه محمد بن أبى بكر الأصبحي وبابن الرنبول وأصل بلاده قائمة بني حبيش. وكان مدرساً في مدرسة شنين في بلد السحول. وكان يختلف بين بلده والسحول إلى أن توفي مقتولاً من بعض قطاع الطريق وكان قتله في أثناء السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

ثم إن شيخ البلاد بحث عن قاتله حتى عرفه فأَخذه برقبته وأَتى به إلى قبر الفقيه يوم ثالث القراءة عليه واستدعى الشيخ بولد الفقيه وكان له ولد صغير فأَعطاه الشيخ فأْساً وقال اضربه به فهو قاتل أبيك فقربه حتى قتله بعد ساعة لصغره.

ص: 334

وفي هذه السنة توفي الأديب الفاضل أبو محمد عبد الله بن علي بن جعفر أديب اليمنيين وشاعر الدولتين وكان شاعراً فصيحاً بارعاً فاضلاً ظريفاً بليغاً وقد أوردنا في كتابنا هذا من شعره ما فيه دليل على فضله. وكان ذا دين رصين لم يحك عنه شيءُ يشين دينه ولا عرضه. وكان وصولاً لرحمه قائماً ناصحاً باذلاً لهم جاهه وقد خالطته ولم أحك عنه ما حكيته إلا عن نظر لا عن خبر. وكان كثير العبادة محافظاً على الصلوات المفروضة والمسنونة نظيف الأدب صائن العرض واستمر كاتب إنشاء في الدولة المؤَيدية. وكان مداحاً للملوك والأمراء في عصره وله مدائح كثيرة في رسول الله صلى الله عليه وسلم وله مدائح ربانية. وكان أهله الذين يقوم بهم نحوا من أربعين بيتاً. وتوفي في النصف من جمادى الأولى من السنة المذكورة وقيل في السابع منه والله أعلم رحمه الله تعالى.

وفي هذه السنة توفي الفقيه الصالح أبو القاسم بن الحسين بن أبى السعود الهَمْداني نسباً الفراوي بلداً. وكان ميلاده في شهر رجب من سنة ثلاث وستين وستمائة. وكان المشار إليه في الفقه والزهد والورع والدين والقيام بأمن الموضع ومال إلى الطريقة الصوفية وصحب الشيخ عمر المقدسي وتحكم على يده فنصبه شيخاً. وكان على حال مرضي من سعة الأخلاق وإيناس الواردين إليه والقيام بحالهم. والاشتغال بمطالعة الكتب. وحج مراراً وكانت وفاته في شهر رمضان من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفي سنة أربع عشرة وسبعمائة سار الشريف أبو الغيث بن أبى نمى والأمير سيف الدين طقصنا إلى صوب حلي بن يعقوب يريدان رميثة وحميضة فلم يجدا لهما خبراً وكانا قد لحقا ببلاد السراة. فلما وصل الأمير سيفد الدين طقصنا إلى حلي لم يدخلها بل قال هذه أوائل بلاد صاحب اليمن ولا ندخلها إلا بمرسوم من السلطان الملك الناصر وعاد على عقبه.

وفي صفر من السنة المذكورة سلم الأمير عبد الله بن علي بن وهاس حصن ظفر عدالة إلى الأمير سليمان بن محمد صاحب العروس. وسلم إليه حصن اللخام فانتقل

ص: 335

إليه ونقل ما كان معه في ظفر من أهل وخبرات وسلم ظفر وخرج منه. وأخرجت رهائنه من صنعاء ووصلت كتب الأمير سليمان بقبضة ليلة الخميس الرابع من شعر ربيع الأول فضربت البشائر وكسى المبشرون وجهز السلطان أصحابه وأولاده الرهائن وسيرهم إليه. ونزل الأمير عبد الله إلى الباب الشريف السلطاني فرفعت له الطبلخانة والأعلام وأقطع مدينة القحمة.

وفي ليلة العشرين من شهر ربيع الآخر توفي الشريف عماد الدين إدريس بن علي بن عبد الله بن الحسن بن حمزة بن سليمان بن حمزة بن علي ابن حمزة وكان شريفاً ظريفاً شجاعاً كريماً جواداً متلافاً. وكان عالماً لبيباً عاقلاً أريباً متصفاً بصفات الإمامة. وكان شاعراً فصيحاً بليغاً. وقد تدم من شعره ما شهد بفضله. وهو مصنف كتاب كنز الأحبار في معرفة السير والأخبار. وهو كتاب حسن ممتع. وله عدة تصانيف في فنون كثيرة. ومدحه عدة من الشعراء فكان يميزهم الجوائز السنية. وكان رحمه الله تعالى غاية في الجود والكرم والشجاعة رحمه الله تعالى.

وفي هذه السنة توفي الفقيه الفاضل أبو الحسن علي بن عبد الله الزيلعي الفرضي شهر بذلك لإحكامه علم الفرائض والحساب مع أنه كان مشاركاً في العلوم الدينية. مشاركة مرضية لاسيما الفقه والحديث والتفسير والنحو. وكان تفقهه بالفقيهِ أبي العباس احمد بن موسى بن عجيل. وأخذ الحديث على الإمام أبى الخير بن منصور وانتفع بهِ جمع كثير من زبيد وغيرها. وكان من خيار الفقهاءَ واستمر مدرساً في المدرسة الناجية بزبيد من قبل بني محمد ابن عمر وتوفي على ذلك. وكانت وفاتهُ في أثناء السنة المذكورة رحمهُ الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الفاضل الكبير أبو بكر بن احمد بن عبد الرحمن المعروف بابن الصائغ وكان مولده سنة ثلاث وثلاثين وستمائة. وكان فقيهاً عارفاً محققاً متفنناً تفقه بابن حنكاش. وتأَدب بابن دعاس. وكان فاضلاً في النحو والفقهِ والأدب. توفي في مدينة زبيد في أثناء السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الفاضل مفضل بن أبى بكر بن يحيى الخياري الهمداني

ص: 336

والخياري منسوب إلى خيار وهم قوم من همدان يسكنون جبل عنة تفقه بفقهاء تعز كمحمد بن عباس الشعبي وغيره. واستمر مدرساً في المدرسة المنصورية بالجند. فقرأَ عليه جماعة من أهل الجند كابن الصارم وغيره.

قال الجندي وعنه أخذت الوجيز والمستعذب ومنسك مكي وغيرها. ثم استمر قاضياً في الجند مع التدريس إلى أن توفي في صفر من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الفاضل أبو العتيق أبو بكر بن عمر بن سعد المعروف بابن النحوي. وكان ميلاده في شهر ربيع الآخر من سنة ست وأربعين وستمائة. وكان فقيهاً عارفاً محققاً تفقه بابن آدم وابن العراف والوزيري المتأَخر وبعبد الله بن محمد الحضرمي. وكان مبارك التدريس قلَّ ما قرأَ عليه أحد إلا انتفع. وكان يذكر بشرف النفس وعلو الهمة استنابه بنو عمران في القضاء فأقام كذلك إلى أن انقرضوا فعزله بنو محمد بن عمر في أول قيامهم وبقى على تدريس المدرسة العرابية إلى أن توفي بعد أن تفقه به جماعة منهم عمر بن أبى بكر العراف وغيره. وكانت وفاته في منتصف شوال من السنة المذكورة رحمه الله.

وفيها توفي الفقيه البارع أبو بكر بن احمد بن عمر بن مسلم بن موسى الشعبي المعروف بابن المقري. وكان مولده ليلة الخميس في رجب من سنة خمس وسبعين وستمائة وكان فقيهاً بارعاً متفنناً بجماعة من أهل تعز أولا ثم ارتحل إلى الدبيتين فاكمل تفقهه على الإمام أبى الحسن علي بن احمد الأصبحي ثم عاد بلده. وكان فاضلاً في الفقه والنحو والفرائض والعروض والحساب. ودرس في المدرسة الاشرفية في مدينة تعز بعد ابن الصفي. وتوفي على ذلك ليلة الثلاثاء العاشر من شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الإمام البارع ابن محمد صالح بن عمر بن أبى بكر بن إسماعيل البريهي. وكان مولدة سنة خمس وثلاثين وستمائة. وكان فقيهاً بارعاً فاضلاً عالماً محققاً مدققاً متقناً تفقه بمحمد بن مسعود المذكور أولا واليه انتهت

ص: 337

رئاسة الفنون بعده في ذي السفال وارتحل هو والإمام أبو الحسن علي بن أحمد الأصبحي إلى أبين فأخذ عن ابن الرنبول. وكان هذا صالحاً فقيهاً فرضيّاً حسابيّاً نحويّاً لغويّاً عارفاً بالحساب والجبر والمقابلة. وله تصنيف جيج في الفرائض قصد به شرح الكافي الذي للصردفي. وعنه أخذ الإمام أبو الحسن الأصبحي نظام الغريب في الفقه وغيره. وبه تفقه جماعة منهم محمد بن احمد بن سالم وأبو بكر بن علي وابن أخيه واحمد الشوافي وجماعة كثيرون. وممن أخذ عنه ابن أخيه محمد بن عبد الرحمن وإبراهيم الأصبحي وحسن العماكري. وكان يقول لأصحابه كما كان يقول الصعبي إن بلغت ثمانين سنة عملت لكم سكراته فتوفي قبل ذلك اليوم. وكانت وفاته ليلة الجمعة الثالث عشر من شوال من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

قال الجندي وفي كل ليلة ترى على قبره نوراً صاعداً إلى السماء حتى يظن الجاهل أن ثم ناراً توقد أخبر بذلك من شاهده مراراً.

وفي هذه السنة توفي الفقيه الفاضل أبو بكر بن محمد بن علي بن محمد ابن سعيد الرعيني المعروف بابن المقري. وكان مولده سنة اثنتين وأربعين وستمائة وكان ترباً لابن الحرازي وزميلاً له قل ما قرأ كتاباً إلا وسمعه معه. وكان محققاً في علم الفرائض والحساب والجبر والمقابلة. ولما صار تدريس المدرسة بعدن إلى ابن الحرازي جعل هذا معيداً فأقام مدة طويلة في الإعادة.

قال الجندي وأخبرني بعض من قرأَ عليه الفرائض قال كنت أغلط في ضرب المسأَلة وأستمر ثم أستدرك فأريد تغيير ما قد صوَّرته على البحث فيقول لا تطمس إلا من موضع كذا فاعمل بما قال فأجده صواباً. قال وكان ذا حمية على الأصحاب وصولاً لرحمه. وكانت دنياه متسعة بخلاف ابن الحرازي فإنه كان الغالب عليه الفقر. وكانت وفاته في شهر رمضان من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الصالح صالح بن جبارة بن سليمان الطرابلسي المغربي وكان رجلاً مباركاً فقيهاً محدثاً صالحاً خشوعاً. أخذ في بلده عن محمد بن إبراهيم

ص: 338

الأنصاري التلمساني وانتفع به جماعة من أهل عدن وغيرها واخذوا عنه. وكان كثير الخشوع.

قال الجندي اخبرني عبد الله بن أبي حجر أنه أقام سبع سنين يصلي خلف هذا الفقيه قال فكان يصلي الصبح بطوال سور المفصَّل وقد يصلي بالزخرف والأحقاف. وكان خاشعاً تتحدر دموعه على خديه. وأدركته الوفاة وهو بعدن في السنة المذكورة وقبر إلى جنب قبر أبى شعبة رحمة الله تعالى عليهما.

وفيها توفي الفقيه الفاضل أبو إسحاق إبراهيم بن احمد بن سالم بن عمران الشهابي المنبهي. وكان ميلاده سنة ثلاث وسبعين وستمائة تفقه بأخيه وأبيه وكان أحد أعيان زمانه في الزهد والورع والعلم أخذ بطرفي الأمرين واشتهر بفضل الذكرين.

ويروى أنه نسخ المهذب وهو يدرس القرآن بدرس على كل جزء منه عشر ختمات مع نسخة فدرس أربعين ختمة على أربعة مجلدات وهذا أمر غريب لان الناسخ لا يستطيع عمل شيء آخر مع النساخة وهذا دليل على الكرامة الواضحة توفي في أثناء السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفي سنة خمس عشرة وسبعمائة وصل الأمير علاء الدين كشدغدي ومعه جماعة من المطلوبين من الديار المصرية والشامية. وكان الأمير علاء الدين المذكور أستاذ دار الملك المظفر صاحب حماة. وكان فاضلاً في أبناء جنسه جمع بين شهامة السنان وفصاحة اللسان. وكان على ذهنه جملة من أشعار الجاهلية والمخضرمين وغيرهم من المحدثين والمولدين وكان يعرف شيئاً من أنواع البزدرة. ويقال أنه كان يعرف شيئاً من ضرب الملاهي وتقدم عند السلطان تقدماً كليّاً لم يعهد مثله فقابله السلطان رحمة الله عليه بالإقطاع المتسع ورفع له الطبلخانة وعقد له الألوية وجعله من جملة ندمائه.

وفي هذه السنة رجع الشريف حميضة أبي ابن نمى إلى مكة وقتل أخاه أبا الغيث واستولى على مكة فغضب من ذلك السلطان الملك الناصر وجهز جيشاً كثيفاً صحبة الشريف سيف الدين عطيفة. فلما علم حميضة بوصولهم هرب من مكة فاستولى

ص: 339

عطيفة على مكة ولحق حمضة بالشرق.

وفي هذه السنة تولى القاضي جمال الدين محمد بن الفقيه رضي الدين أبي بكر بن محمد بن عمر اليحيوي قضاء الأقضية. وكان السلطان يعظمه إكراماً لأبيه. وكان عمره يومئذ عشرين سنة.

وفي هذه السنة توفي الفقيه الإمام العلامة أبو الحسن علي بن الفقيه إبراهيم ابن محمد بن حسين البجلي. وكان مولده سنة ثلاث وقيل سنة أربع وثلاثين وستمائة. وكان رجلاً مباركاً مشهوراً بجودة الفقه وكرم النفس وحسن الأخلاق. تفقه في بدايته بعمه إسماعيل ثم ارتحل إلى بيت حسين فأكمل تفقهه بالفقيه عمر بن علي التباعي فأخذ عنه المهذب أخذاً مرضيّاً والزمه أن يتغيبه فتغيبه تغيباً ميز فيه بين الفاء والواو وأخذ عنه البيان وغيره وتهذب به تهذباً معجباً ثم سار إلى الفقيه احمد بن موسى بن عجيل فاخذ عنه أيضاً ثم عاد إلى بلده فسكن قرية شحينة ولزم طريق الورع لزوماً تاماً. وأقام يدرس فاتاه الناس من القرب والبعد واشتهر بالعلم والصلاح. وكان من أشرف أهل عصره نفساً وأدراهم بالعلم حسّاً وأكثرهم للكتاب والسنة درساً.

قال الجندي واخبرني عبد الله بن محمد الأحمر أحد المدرسين بزبيد قال صبحت الفقيه علي بن إبراهيم ولزمت مجلسه عشرين سنة ما عملت سائلاً سأله فاعتذر بل يعطيه ما سأل. وكان مستعملاً لجميع الطاعات الواجبة والمستحبة استعمال مداومة. وكان من ابرك الفقهاء تدريساً. قال واخبرني محمد بن عبد الله الحضرمي فقيه زبيد ومفتيهاً في عصره قال لما جئت إلى الفقيه علي بن إبراهيم أريد أن اقرأَ عليه وأنا على حال متبلبل أريد أَن أجمع قلبي على تحصيل العلم فأول درس قرأته عليه قمت وأنا بخلاف ما أنا عليه من الرغبة. فكان في نفسي عدة مسائل قد اشتبهت عليَّ فحين بدأْت وقرأْت عليه أول يوم عرضت أنا على خاطري جميع المسائل فما عرضت مسأَلة في خاطري إلا زال إشكالها وتبين لي خطؤها من صوابها. وما زلت أجد الزيادة إلى وقتي هذا وما أشك أن ذلك من بركته. قال وكان لديه دنيا واسعة

ص: 340

إن وقف في بيته أطعم الواردين والزائرين والطلبة المنقطعين. وكان كثيراً ما يحج فيصرف في الطريق وفي مكة وما يجاوز الحد. وأحصوا حجاته فكانت نيفاً وثلاثين حجة. وكان من أكثر الناس تعقلاً للفقه وأحسنهم تغيُّباً للمهذب خرج من بين يديه نحو من مائة مدرس ولم يكن في مدرسي تهامة ولا الجبال المتأخرين أكثر أصحاباً منه. وكانت وفاتهُ يوم الثاني عشر من المحرم من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الفاضل أبو عبد الله محمد بن احمد بن يحيى بن مضمون وكان فقيهاً عارفاً نحويّاً بارعاً ولي قضاء صنعاء من قِبَل بني محمد بن عمر وكان شديد الأحكام مبالغاً في إقامة الحق وإقامة مذهب السنة وإماتة البدعة. وكان يحلف الإسماعيلية بإيمان تشق عليهم. ثم بلغه أن بعضهم لما مات ودفن دفن معه مصحف فأمر من ينبش القبر عنه وأخرج المصحف فشق ذلك عليهم وكادوه وبذلوا في عزله الأموال الجزيلة فعزل بغير وجه يوجب العزل فعاد إلى بلاده وأقام مدة ثم رتبه بعض أولاد أسد الدين مدرساً في مدرسة جده بأب فلم يزل بها حتى توفي وكانت وفاته في السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه أبو حفص عمر بن أبى الربيع سليمان الملقب بالجنيد بن محمد بن اسعد بن أبى النهى. وكان إماما فاضلاً صالحاً له كرامات كثيرة تفقه بسعد الغولي. وتوفي يوم الثامن من المحرم أول شهور السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الأجل الفاضل أبو العباس احمد بن أبى بكر بن اسعد بن زريع بن أسعد تفقه بالفقيه صالح بن عمر البريهي تفقهاً جيداً. وكان عارفاً مجتهداً ذا صيانة وعفة وعبادة ودرَّس بسهفنة على حياة شيخه وتوفي لسبع بقين من ربيع الآخر من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفي سنة ست عشرة حصل على السلطان مرض شديد حتى خيف عليه منه التلف واشرف منه على الهلاك وارجف بموته. فيروى إن القاضي جمال الدين محمد بن أبى بكر بن محمد اليحيوي راسل الملك الناصر جلال الدين محمد ابن الملك

ص: 341

الأشراف بالأمور الباطنة وأمر أن ينشر دعوة إنابته من عمه وكتب الكتب إلى المدائن. فلما انتشر ذلك العلم خرج السلطان الملك المؤَيد مسارعاً من تعز إلى الجند وهو في أثر الوعك فخشي ابن أخيه من ذلك فالتجأَ إلى جبل سورق وهو جبل حصين مطل على مدينة الجند فجهز السلطان له العساكر وكان مقدمها الأمير جمال الدين نور بن حسن بن نور فحط عليه وأحاط بالجبل من كل ناحية فطلب الملك الناصر الذمة من السلطان فأذم عليه فنزل إليه على الذمة وحصل بينهما اتفاق وصلح. ويقال أنه عرف السلطان سبب ذلك وإن الذي حمله على ذلك الفعل إنما هو القاضي جمال الدين محمد بن أبى بكر اليحيوي فلما تحقق السلطان الأمر عزل القاضي جمال الدين عن القضاء واعتقله في حصن تعز وفوَّض أمر القضاء إلى القاضي رضي الدين أبي بكر بن أحمد بن عمر الأديب أحد الفقهاء الشافعية. وكان ذلك بمحضر من السلطان وجماعة كثيرة من فقهاء الجبال والتهائم فحصل الإجماع عليه. وكان فقيهاً فاضلاً له سلطة في العلم يعرف جانباً كبيراً من المعقولات والمنقولات مع حنكة وتجربة قد حلب الدهر أشطره.

وفي هذه السنة المذكورة توفق الفقيه الفاضل أبو حفص عمر بن علي الضفار من أهل عدن. وكان يصحبه بن الخطيب المقدم ذكره ولكن غلبت عليه الزهادة والعبادة وخلف شيخه في مسجده المعروف به في عدن فلا يكاد المسجد يخلو من درسة ومتعبدين. وكانت وفاته ليلة الجمعة الثاني والعشرين من جمادى الأولى من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الصالح علي بن أسعد بن علي الحراري. وكان فقيهاً زاهداً عابداً معتزلاً عن الناس كثير التلاوة ولم يزل على ما ذكرناه من حسن السيرة إلى أن توفي رحمهُ الله تعالى وكانت وفاته في السنة المذكورة.

وفي سنة سبع عشرة وصل القاضي أبو المحاسن عبد الباقي بن عبد المجيد من دمشق على طريق مكة بطلب من السلطان الملك المؤَيد فناله من إحسانه ما صغر عنده إحسان من مضى من الأجواد الكرماء. وولي كتابة الإنشاء في المملكة اليمنية.

ص: 342

وكان أوحد عصره وفريد دهره فصاحة وفضلاً وسؤدداً ونبلاً. ومن شعره قوله يمدح السلطان الملك المؤَيد رحمة الله عليه وهو يومئذ في الإيوان بقصر الحائط المعروف بحائط لبيق

يا ناظم الشعر في نعم ونعمان

وذاكر العهد في لبنا ولبنان

ومعمل الفكر في ليلى وليلتها

بالسفح من عقدات الضال والبان

قصر فبالواد من وادي زبيد علاً

عالي النار عظيم القدر والشان

به التغزُّل أحلى ما يرى لهجاً

فدع حديث لييلات بعسفان

هذا الخورنق بل هذا السدير أتى

في قصر داود لا في قصر غمدان

قصر بناه هزبر الدين مفتخراً

فشاد ذلك بان أيما بان

فقف بساحته تنظر بها عجباً

كم راحة هطلت فيها بإحسان

أنسى بإيوانه كسرى فلا خبر

من بعد ذلك من كسرى بإيوان

سامي النجوم علاً فهي راجعة

عن السمة " لإيوان " ابن غسان

تود فيه الثريا لو بدت سُرجُاً

مثل الثريا به في بعض أركان

تحفه دوح دهر كله عجب

كم فيه من فنن زاهٍ بأفنان

من أبيض يقق حال بأحمره

يميس في حلتي در ومرجان

تجمعت فيه ألوان محيرة

للعقل في سرها الزاهي بإعلان

إذا حللت به أبصرت معجزة

الشام اصبح في واد بسيلان

فالسنبل الغض والورد الطري معاً

من أخضر ناصع أو أحمر قان

صنوان حصن به من كل فاكهة

وكم رأَى مختليه غير صنوان

ظل ظليل وماءُ سلسل غدق

تخاله من صفاءٍ بطن ثعبان

هذا وكم فيه من ورقاء صادحةٍ

يغنيك عود لها عن ضرب عيدان

كأنهنَّ قيان والقصور لها

في ذلك الدست أوراق لأغصان

تهوى الغزالة لو أضحت مقبلةً

منه مراشف أَنهار لنيسان

وكيف يمكنها والدوح منعقدُ

فحالة الشمس عنه حال ظمآن

ص: 343

فأرضه كسماءٍ منه مشرقة

وهاهما في بديع الوصف شبهان

توافق الناس في أوصافه فلذا

لم يختلف قط في أوصافه اثنان

كان بنيان داود وبهجته

صرح القوارير من آرا سليمان

أخفت مآثرهُ البادي نضارتها

ما شاده تبَّعُ في رأْس غمدان

كم شاد من قصره العالي مراتبه

في الفخر فاجتمعا في الجو فخران

لله موكبه الزاهي بَروْنقه

لما استقلَّ بفرسان وشجعان

مثل البحور ولكن في اكفهم

قواضب تتلالا مثل نيران

على المهمة ألقت التي

قيد الأوابد من آل وسرحان

من كل أشهب صافي الجسم تنظره

في الحرب نجماً هوى في إثر شيطان

بكل احمر زاهٍ في ملابسهِ

يختال من لونها في نسج عقيان

وكل ادهم مثل الليل قد طلعت

كالصبح غرته الغرَّا بإتقان

أَما الكميت اشربهُ

سميه فبدا في حال نشوان

إذا مشوا في صباح عاد من رهج

ليلاً كواكبه أطراف خرصان

على الأكف شواهين لمالكهم

وهما صيد نسر فوق كيوان

كالصبح في أُخريات الليل هبتها

والنرجس الغض منها وسط أجفان

مشفوعة بفهودٍ جلّ منظرها

سليطة لا تُرى إلا لسلطان

قد ألبست حدق الغزلان فانبعثت

مثل الجديدين في إفناء غزلان

ما سار مالك هذا الجمع مقتنصاً

إلا انثنى ظافراً في ثوب جذلان

وهذه القصيدة طويلة اقتصرنا منها على هذا الذي ذكرناه وفي هذه السنة المذكورة دخل العسكر المنصور فلله وملكوها وضربت البشائر في سائر البلاد.

ص: 344

وفيها وصل رسول صاحب هرموز بالهدايا والتحف فقابله السلطان بما يجب وأكرمه وأنصفه.

وفي هذه السنة توفي الفقيه الصالح المقري عبد الكريم بن إسماعيل وكان يسكن قرية الوجي بفتح الواو وكسر الجيم كسراً مشبعاً وهي على قربة من مدينة جبار كان هذا عبد الكريم عارفاً بالقراءات السبع أخذ عن الحداء وكان من صالحي زمانهم وأخيارهم ما قرأ عليه أحد إلا انتفع ولا حقق عليه أحد شيئاً فنسيه. وكان في أول الأمر نساجاً ينسج الثياب. وكان القارئ يقرأ عليه وهو يشتغل فلا يفوته من غلطه شيء. ثم ترك النساجة في آخر عمره واشتغل بالخياطة ولم يزل كذلك إلى أن توفي. وكان قوته من صنعته وربما جاءَه ضعيف فلم يرده خائباً. وكانت وفاته في السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الصالح النجيب إسماعيل بن الفقيه الصالح أبى العباس أحمد بن الفقيه الصالح المشهور موسى بن الفقيه علي بن عمر بن عجيل. وكان فقيهاً محققاً عارفاً فرضيّاً ماهراً. وكانت وفاته في السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الصالح أبو عبد الله محمد بن الفقيه الإمام أبى الحسن علي بن الفقيه أحمد بن أسعد الأصبحي. وكان مولده يوم السابع عشر من رجب سنة خمس وسبعين وستمائة. وكان تفقهه بابيه وكان رحمه الله عارفاً وهو الذي خلف والده في التدريس وعكف عليه أصحابه وحج بعد أبيه. ثم لما عاد من الحج أقام مدَّة. وكان للوزراء في بني محمد صيت في القرية فجعل علماؤهم يشوشون عليه ويؤذونه وربما دخل بعض علمائهم بيته وأخذ منه شيئاً فاشتكى بهم فلم ينصف منهم فخرج من القرية مهاجراً إلى ناحية حجر فأقام في قرية الظاهر هنالك عند الفقيه عبد الرحمن فاقبل أهل تلك الناحية على الفقيه إقبالاً حسناً فأقام هنالك عدة سنين إلى أن توفي القاضي موفق الدين الوزير وابنا أخيه علي بن محمد ومحمد بن احمد. واستمر ابن الأديب في القضاء الأكبر كما ذكرنا فأمره في المدرسة المنصورية بتعز وهي التي تعرف بالغرابية. فأقام فيها مدة ثم فصله فعاد إلى بلاده فتوفي بها في شهر جمادى

ص: 345

الآخرة من السنة المذكورة.

وفي هذه السنة توفي الفقيه الصالح العابد أبو عبد الله الحسين بن محمد بن أُسيد بضم الهمزة وفتح السين وسكون الياء وآخره دال مهملة بن أسحم بفتح الهمزة ويكون السين وفتح الحاء المهملة وآخره ميم. كان فقيهاً عابداً صالحاً حبراً توفي في السنة المذكورة رحمه الله.

وفيها توفي الفقيه البارع احمد بن أبي بكر المعروف بابن الأحنف. وكان ميلاده سنة إحدى وأربعين وستمائة سمي أبوه بذلك لحنف كان به تفقه بعباس بن منصور وغيره من فقهاء جبلة وله مصنفات مفيدة في التفسير واللغة والحديث. وكان عارفاً حافظاً نقالاً للمذهب درس في المدرسة الشرقية ثم انتقل إلى المؤَيدية بتعز فدرس بها وانتفع به جماعة ثم عاد إلى بلده جبلة فتوفي بها لعشر بقين من جمادى الآخر سنة سبع عشرة من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفي هذه السنة توفي الفقيه الفاضل إبراهيم بن عمر بن إبراهيم المذحجي الجبيري نسبة إلى جدله اسمه جبير تصغير جبر بالجيم والباء الموحدة. وكان فقيهاً فاضلاً تفقه في ابتدائه ببعض فقهاء حبر ثم بعثمان بن عبد الله وابن عمه عبد الله بن عمر الإسحاقيين. وكان يسكن معشار حصن ثمين في قرية يقال لها نابه. وتوفي في قريته المذكورة في شهر ربيع الأول من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه البارع أبو بكر محمد بن الفرسي الملقب بالفخر. وكان مولده في المحرم سنة ست وخمسين وستمائة. وكان فقيهاً فاضلاً متفنناً لطن يعلم الحساب كأبيه وأخذ هذا العلم عنه. وكان رجلاً عاقلاً لبيباً قلما قصده قاصد أمر إلا وأعانه بما يليق من الأمور. وحصل بينه وبين الوزراء في الدولة المؤَيدية ألفة ومحبة فاجتلبوه إلى خدمة السلطان الملك المؤّيد والوقوف على بابه. فلم يزل كذلك إلى سنة ست عشرة وسبعمائة ثم حصل على القاضي جمال الدين محمد بن أبي بكر ما ذكرنا من العزل والاعتقال وتعدى الأمر إلى أصحابه وأصحاب أهله. وكان هذا المذكور في عدن فاستدعاه السلطان إلى تعز وأحضر من تكلم عليه بأنه تكلم في

ص: 346

الدولة. ووافق ذلك كراهة من السلطان له فبعث إلى نائب لحج وأمره بمصادرته فصادره مصادرة شاقة وعذبه عذاباً شديداً. ثم حصل من استعطف له قلب السلطان فأمر باطلاعه إلى تعز. فطلع وهو الميم من شدة الضرب فتوفي بالهشمة في شهر رمضان من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفي هذه السنة توفي الفقيه شرف الدين احمد بن الفقيه علي الجنيد بن الفقيه أحمد بن الفقيه محمد بن منصور بن الجنيد وكان مولده في صفر من سنة تسع وخمسين وستمائة. وكان فقيهاً حافظاً حاذقاً عارفاً تولى إعادة الأسدية في مدينة تعز بعد أن كان أبوه فقيهاً. وكان الفقيه أبو بكر بن محمد بن عمر اليحيوي يحسن النظر في حاله وحال اخوته مراعاة لصحبة أبيهم ثم إن السلطان الملك المؤَيد دعته نفسه إلى القراءة في أيام أبيه الملك المظفر فسأل عن فقيه صالح فارشد إلى الفقيه محمد بن عباس الشعبي. فسأَله أن يقرئهُ فاعتذر وأشار إلى هذا ابن الجنيد. فاستدعاه المؤَيد وعرفه بغرضه فقال له أشتور والدي يعني الفقيه أبا بكر بن محمد بن عمر اليحيوي فقال له ألم تذكر لنا إن والدك قد توفي فاخبره بمن يعني فاستشار الفقيه. فأشار عليه فقراَّ عليه المؤَيد فحصل بينهما من الألفة والمحبة والأنس ما حصل بحيث صار يركب بركوب السلطان. وطلع معه إلى صنعاء على بغلة بزنار كما يركب الوزراء وكان الناس في صنعاءَ يقبلون بابه ويصيحون عليه. ولم يزل معه حتى سافر إلى الشحر بسنة أربع وتسعين وستمائة. فلما توفي المظفر وحصل من الأشراف المؤَيد ما حصل من النزاع واسر الملك المؤَيد تفرق أصحابه فلحق هذا بشيخه فأقام عند الفقهاء بني النخلي. فلما صار الملك إلى الملك المؤَيد وصل إليه الفقيه ورجع على حالته الأولى. ولم يزل على شفقة المؤَيد وكان فقيهاً أصولياً نحوياً لغوياً. وله في الشعر يد حسنة وله في التصوف كلام مرضي ولأهل السمكر فيه اعتقاد حسن. وتوفي يوم الأربعاء ثاني عشر جمادى الأولى من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفي هذه السنة توفي الفقيه الفاضل أبو عيسى محمد بن خليفة وكان فقيهاً كبيراً متورعاً ما قرأَ عليه أحد إلا انتفع وربما بلغ طريقة الاجتهاد أو قريباً منها وكان يلبس

ص: 347

الملابس الفقهية قاصداً بذلك تعظيم العلم وكانت وفاته في السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الفاضل هارون بن عثمان بن محمد علي الحسائي ثم الحميري وكان فقيهاً ورعاً زاهداً له مسموعات ومقروءات وكان ذا دين وأمانة وورع وزهد وكان كثير الحج وكان فيه من المعروف ومحبة العلم وكان حريصاً على اكتساب الحل فبورك له في ذلك. وتوفي على الطريق المرضي وهو عائد من الحج في قرية تعرف بقنونا في أول المحرم أول السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفي سنة ثماني عشرة وسبعمائة وصل القاضي صفي الدين عبد الله بن عبد الرزاق الواسطي يطلب حب من السلطان وصرف السلطان عليه إلى حال وصوله من الذهب العين نحواً من ألفي مثقال. فلما وصل كما ذكرنا صرف السلطان إليه شد الاسْتيِفاءِ وحظي عند السلطان حظوة عظيمة وانبسطت يده في الدواوين وكان زوجاً لابنه الأمير علاء الدين كشدغدي وهو الذي عينه السلطان فسار بالناس سيرو عفيفة ثم توجه إلى عدن فحمل منها إلى السيد الخزانة المعمورة بثلاثمائة ألف دينار ملكية. فلما وصل بها لقي السلطان في الجند فأكرمه وأنصفه وعظم قدره.

وفي هذه السنة توجهت الرسل إلى مصر وهم الأمير بدر الدين حسن ابن الأسد ومن جرت العادة بمسيره في خدمته فقابلهم السلطان الملك الناصر أحسن مقابلة.

وفي هذه السنة رتب الأمير علاء الدين كشدغدي عساكر السلطان المنصورة على ترتيب العساكر المصرية. وجعل لها جناحاً للميمنة وجناحاً للميسرة. وجعل خلف السلطان عصائب كثيرة. وركب المماليك بالنفخ وجعل منهم طائفة طبردارية وركب السلطان بهذا الزي.

وفي هذه السنة توفي الفقيه الفاضل أبو محمد الحسن بن علي بن الفقيه يحيى بن ألفيه فضل وكان يسكن قرية المنظاري ويدرس في مدرسة بنتها امرأَة ووقفت عليها وقفاً جيداً. وكان صاحب دنيا واسعة فلما خشي من الظلمة على نفسه وعلى

ص: 348

المدرسة لاذ بالفقيه أبى بكر بن محمد بن عمر اليحيوي. وتزوج ابنة أخيه عمر. وكان مستقيم الحال بذلك حتى هلك الوزير واخوته وانحطت حالهم. فحصل عليه بعض تعسف فلما جعل والد الفقيه أبى بكر قاضي القضاة. وأقام ما أقام في القضاءِ ثم فصل بابن الأديب صودر هذا الفقيه وحبس وعزر وجرى عليه شيءُ كثير. فلم تظل مدته بعد ذلك بل توفي وكانت وفاته في السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الصالح أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن أسعد الأصبحي أخو الإمام علي بن أحمد الأصبحي صاحب كتاب المعين. وكان مولده في شهر ربيع الأول من سنة إحدى وتسعين وستمائة تفقه في بدايته بأخيه. ثم ارتحل إلى أبين فقرأَ على الفقيه أبى بكر بن الأديب وتفقه في أبين وعدن ولحج وكان يتردد من هذه القرى للقراءة عليه. وانتفع بالقراءَة عليه انتفاعاً كليّاً. أخذ عنه المهذب والتنبيه والوسيط واللمع ثم عاد بلده وأقام في المسجد بالذنبتين فقرأَ مدة ثم اشتد به الفقر فعاد إلى تعز فدرس بها في عدة من مدارسها. وفي آخر الأمر درس في مدرسة الحميرا. وكان متنسكاً تقياّ له دين متين ولم تعرف له صبوة. وكان من أهل المروءات. وتوفي يوم السابع عشر من شهر رمضان من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفي هذه السنة توفي القاضي يعقوب بن أحمد بن الفاضل تفقه بابن الصريدح ثم بعبد الله بن إبراهيم بن علي بن عجيل وأخذ الفرائض عن الفقيه علي بن أحمد الحميري. ثم ولاه القاضي علي بن محمد بن عمر قضاء المحالب وهو شاب فكان يحكى عنه سيرة المعجبين. ولما صار القضاء إلى محمد ابن أبي بكر عزله وصادره مصادرة شديدة فأقام مريضاً في القحمة عقيب المصادرة إلى أن توفي وكانت وفاته في السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه البارع المحقق منصور بن علي بن عمر بن إسماعيل بن زيد بن يحيى العزيزي لقباً الشعبي نسباً. وكان فقيهاً عارفاً مجوداً شجاعاً له بصيرة في الصناعات كالخياطة والنجارة وغيرهما. وكان يقول الشعر أيضا وله قصيدة حسنة

ص: 349

في المعتقد يتبرأ فيها من كل معتقد يخالف الكتاب والسنة وعرضها على الفقيه صالح بن عمر البريهي فارتضاها وأخذها عنه بان ترك بعض أصحابه يقرؤُها بحضرته وحضرة جماعة من أصحابه حينئذ واستخاروها منه. وكان قد أتقن النحو واللغة والفرائض والأصول والحساب. وامتحن في آخر عمره بقضاء الدملؤَة من قِبل ابن الأديب وأَقام عليه مدة مقتربة ثم توفي في مستهل المحرم أول السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي أخوه محمد بن علي بن عمر وكان ممن يخدم الدولة المؤَيدية كاتب إنشاء وكانت له درية ثاقبة ويقول شعراً حسناً. وكان محب أبناء جنسه من الفقهاء والطلبة ويعتني بحوائجهم توفي في مستهل رجب من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الفاضل أبو عفان عثمان بن محمد المعروف بالشرعبي وكان فقيهاً ظريفاً تفقه بمحمد بن علي القاضي وبابن عباس الشعبي. قال الجندي وعنه أخذت غالب فقهاء تعز. وكان قد ألف في ذلك كتاباً مختصراً قلما أخبرته بما جمعت أعجبه ذلك وأعطاني ما قد جمعه فوجدته قد ذكر منهم جمعاً كثيراً لكنه لم يذكر ميلاداً ولا وفاة. وكان من خيار الفقهاء وأعيانهم وممن يرجى بركة دعائه. وكان جميل الخلق كثير البشاشة درَّس في المدرسة الأسدية التي في تعز مدة طويلة. وكانت وفاته ليلة الأحد السابع من صفر من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفيت الجهة الكريمة جهة دار الدملؤَة ابنة مولانا السلطان الملك المظفر شمس الدين يوسف بن عمر بن علي بن رسول وهي التي تسمى نبيلة. وكانت امرأَة صالحة تقية بارة بأهلها محسنة إلى من لاذ بها وابتنت مدرسة في مدينة تعز ومسجداً في جبل صبر وابتنت مدرسة في مدينة زبيد وهي التي تسمى الأشرفية في جنوبي مسجد الميلين ووقفت على الجميع أوقافاً تقوم بكفاية الكل. وكانت مقيمة في حصن تعز حتى حصل بين المؤَيد أخيها وبين ابن أخيه الناصر بن الأشرف ما حصل فاستوحش السلطان منها فأمرها بسكنى المدينة فنزلت من الحصن وسكنت في

ص: 350

ناحية المعزية من مدينة تعز إلى أن توفيت وكانت وفاتها في منتصف المحرم من السنة المذكورة رحمها الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الفاضل يوسف بن محمد بن مضمون. وكان قد ولي قضاء عدن من قبل بني محمد بن عمر فأقام على ذلك سنين ثم فصلوه وأقاموا عوضه الفقيه أبا بكر بن الأديب بن مضمون على حساب مال المستودع ومعرفة ما قبض منه وما صرف فقال له القاضي محمد بن علي بن مياس هذا أمر ليس إليك وهذا يروح إلى من ولاه يفتصل معه فخرج من عدن على كرهٍ منه فأقام مدة ثم أمره قاضي الأقضية قاضياً في صنعاء فلم يزل بها إلى أن ولي ابن الأديب القضاء الأكبر فعزله عن صنعاء فرجع إلى بلاده متولياً بعض جهاتها فأقام بها إلى أن توفي في مستهل جمادى الأولى من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الفاضل أبو عبد الله يحيى بن محمد بن يحيى بن الرخا ابن الحنان بن أبى القسم الحميري. وكان مولده سنة أربع وستين وستمائة. وكان فقيهاً عارفاً تفقه بأبيه غالباً ودرَّس في أماكن كثيرة منها مصنعة سير ثم درّس في مدرسة الحرة جلل بنجلان ثم انتقل إلى مدرسة أضراس فلم يزل بها إلى أن توفي غريقاً في البحر قاصداً للحج في شهر رمضان من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الفاضل عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يوسف بن أبى الخل. وكان فقيهاً عارفاً بالتفسير والحديث وعلم الحقيقة طلع إلى تعز مع جماعة من أهله يشكون من بعض عمال المهجم إلى السلطان الملك المؤَيد فأشكاهم بعض الأشكاء ثم رجعوا قاصدين بلدهم فمرض في الطريق فوصلوا به حبيش وقد توفي في ثناء الطريق فقبر عند ابن عمه احمد بن الحسن وكانت وفاتهُ في السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه البارع أبو الخطاب عمر بن أحمد بن عبد الله بن جعمان. وكان فقيهاً بارعاً وغلب عليه علم الفرائض وكان فيه محموداً توفي عائداً من الحج في مدينة حَلْى ابن يعقوب. وكانت وفاته في السنة المذكورة رحمهُ الله تعالى.

ص: 351

وفيها توفي الفقيه الإمام أبو العباس أحمد بن الفقيه علي بن أحمد الحرازي وكان مولده سنة ثلاث وأربعين وستمائة تفقه بالفقيه عبد الرحمن الأيني وبأبي شعبة وأخذ عن أبي حجر وغيره. ولما قدم المقري عبد الله البكراوي أخذ علم القراءَات وقرأَ عليه الحروف السبعة وكان بها عارفاً وأخذ أيضاً عن المقري شيئاً. وكان عارفاً بالفقه واللغة والنحو والحديث وبظاهر الأصول. وكان من ابرك الناس تدريساً قل ما قرأَ عليه أحد إلا انتفع به لبركته وحسن تدريسه وانتفع به خلق كثير من عدن وغيرها. وامتحن بالقضاء لما ولي ابن الأديب القضاء الأكبر وكان من خيار أهل زمانه. ومن غريب ما يذكر عنه أنه لم يعلم له صبوة وحج. وكانت وفاته سحر ليلة الثلاثاء لسبع بقين من رجب من السنة المذكورة رحمه الله.

وفي هذه السنة توفي الفقيه الصالح محمد بن إبراهيم بن سالم بن مقبل وكان فقيهاً فاضلاً مباركاً تفقه بالفقيه إسماعيل الحلي. وكان من أهل المروءات والحميات على أبناء الجنس والدين قدم سهفنة فأخذ عن فقيهها وأخذ عن أبى الخير بن منصور وسيط الواجدي وعن صالح بن علي الحضرمي. وكان يروي عنه وإليه هاجر ولد الإمام أبي الحسن علي بن أحمد الأصبحي فآنسهُ وبش له وتوسع له ولأهله عدة سنين حتى رجع ولد الفقيه إلى بلده ولم يزل الفقيه على السيرة المرضية إلى أن توفي بذي حيران ودفن مع أهلها. وكانت وفاته في السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفي سنة تسع عشرة وسبعمائة توجه السلطان الملك المؤَيد إلى الأعمال الشهانية فوقف في الكدراء وعزل بعض النواب وأمر آخرين. وكان القاضي صفي الدين مستمر الحكم في الدواوين. وفيها فوض السلطان الملك المؤَيد إلى الأمير علاء الدين كشدغدي نيابة السلطنة والأتابكية على العساكر المنصورة وتقدم في هذه الوظيفة تقدماً لم يسمع بمثله وحصل بينه وبين القاضي صفي الدين صهره منافسة في الظاهر والباطن.

وفي هذه السنة أيضاً حصل من السلطان تغير على الأمير شجاع الدين عمر ابن علاء الدين الشهابي فعزله عن وظيفته وقبض عليه وأودعه السجن ونسب إليه

ص: 352

حديث من جهة الملك الناصر فأَقام أسبوعاً في السجن ثم تحقق للسلطان براءَته فأطلقه وحصل بين الأمير شجاع الدين وبين القاضي جمال الدين منازعات طويلة وأحضر القاضي جمال الدين إلى مقام السلطان جماعة يشهدون على الأمير شجاع الدين بكلام كثير متعلق بالملك الناصر. وحضر الملك الناصر يومئذ مقام السلطان ونفى عن الأمير شجاع الدين جميع ما ذكر عنه وحقق للسلطان ما كان من القاضي جمال الدين فغضب السلطان غضباً شديداً على القاضي جمال الدين وسلمه إلى القاضي صفي الدين ليستخلص منه مالاً كثيراً فصادره مصادرة قبيحة.

وفي هذه السنة توفي الفقيه الصالح محمد بن أبي الحسن بن احمد بن محمد بن عبد الله بن يوسف بن إبراهيم بن حسين بن حماد بن أبي الخل. وكان أبوه احمد بن محمد أول من درس منهم فلما هلك خلفه ابنه هذا محمد المذكور. وكان فقيهاً فرضيّاً زاهداً متورعاً. وكان تربا لابن عمه احمد بن الحسن المذكور أولاً وبلغ عمره ثمانين سنة. ولم يتزوج. وكان وفاته في السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي ابن عمه وهو الفقيه الفاضل أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الله بن محمد بن يوسف وكان فقيهاً فرضيّاً نحويّاً تفقه بابيه وتوفي في السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الفاضل محمد بن عبد الله بن أبي السرور وكان فقيهاً صالحاً تقيّاً خيراً وكانت وفاته رحمه الله تعالى في السنة المذكورة.

وفيها توفي الفقيه الفاضل أبو الخطاب أحمد بن عمر الحميري وكان فقيهاً فاضلاً زاهداً ورعاً ذا عبادة وامتحن في آخر عمره بالعمى. وكان تفقه على أبيه وتوفي رحمه الله تعالى في السنة المذكورة.

وفيها توفي الفقيه الفاضل أبو محمد عبد الله بن الحسن بن عطية بن علي بن عطية الشعدري وكان ميلاده سنة إحدى وخمسين وستمائة تفقه بعم أبيه أحمد بن علي بن عطية. وولي قضاء المهجم وانفصل عنه وكان قد ولي الخلافة قبل المهجم. ولما فصل من المهجم ولي قضاءَ بلده إلى أن توفي في رجب من شهور سنة تسع عشرة

ص: 353

وسبعمائة رحمه الله تعالى.

وفي سنة عشرين وسبعمائة مرض الأمير علاء الدين كشدغدي مرضاً شديداً أفضى به إلى الموت وحصلت مرافعات كثيرة على القاضي صفي الدين عبد الله بن عبد الرزاق. وحقق كتاب الدواوين في المقام السلطاني أنه أخذ جملة من المال فعزله السلطان عن يد الاستيفاء وفوض الأمر في ذلك إلى الأمير جمال الدين يوسف بن يعقوب بن الجواد. وكان أميراً كبيراً عالي الهمة حسن التأني وسأَل من السلطان رحمه الله تعالى أن لا يجعل عقوبة أحد على يديه. وإن مهما تعين من المال للدواوين أمر السلطان أمير جاندار باستخراجه وهذا أكبر دليل على خيره.

وفي هذه السنة المذكورة وصل القاضي الأجل محي الدين يحيى بن عبد اللطيف التكريتي من الديار المصرية على طريق مكة المشرفة وأحضر إلى مقام السلطان جوهرً كثيراً من الزمرد واللآلئ. وتقدم عند السلطان تقدماً حسناً. وأحل محل الوزارة. وسلم إليه السلطان من خالص ماله مائة ألف دينار من المال الخالص على حكم التجارة. وكتب له إلى عدن بخمسين ألفاً فلما نزل إلى عدن تصرف فيها تصرف المالك وكان قابضاً على الوزارة.

وفي هذه السنة أيضاً وصل الأمير بدر الدين حسن بن أحمد بن المختار الإمام الفاضل العارف بعلوم الأوائل من الهيئة والهندسة وعلم المخطى. وكان مشاركاً فيكل فن وضارباً في كل علم بنصيب. ولم يكن في البلاد المصرية ولا البلاد الشامية من يناسبه في معرفته مع اتساعها وفرح السلطان بوصوله فرحاً شديداً.

وفي هذه السنة توفي الفقيه الصالح أبو إسحاق إبراهيم بن أبي بكر بن عمر الأحنف وكان فقيهاً ورعاً وكان إماماً في المدرسة الأشرفية بذي جبلة توفي لخمس بقين في شهر رجب من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفي هذه السنة توفي الفقيه الفاضل أبو عبد الله محمد بن الحسن ابن أبي الرجا الجناب بن أبي القاسم الحميري. وكان مولده سنة سبع وثلاثين وستمائة وتفقه في بدايته بالفقيه علي بن الحسن الآصابي وبابن النابه. وهو أول من رتب في المدرسة

ص: 354

المظفرية طالباً مع الفقيه علي بن الحسن وولاه بنو عمران قضاء الناحية وتدريس مدرسة الرخة. فلما صار القضاء إلى بني محمد بن عمر عزلوه. وكانت طريقته مرضية إلى أن توفي في سلخ المحرم من السنة المذكورة رحمهُ الله تعالى.

وفيها توفي الإمام العلامة عبد المؤْمن بن عبد الله بن راشد البارقي ثم التميمي هكذا قال الجندي وذكر أنه منسوب إلى عرب يسكنون ناحية من بلد بني شهاب. ويعرفون ببني بارق نسبة إلى عمرو بن براقة. وكان أحد رؤساء العرب الذين قتلوا مع الحسين بن علي رضي الله عنهما. وكان عبد المؤْمن المذكور ممن رسخ في السمعلة. وأَقام فيها مدة طويلة إلى أن ثار ابن خمسين سنة. ثم تشكك في كونهِ على الحق أم على الباطل فجعل يزور المشاهد المشهورة. والترب المباركة. ويسأَل الله تعالى أن يريهُ الحق حقّاً ويرزقهُ اتباعه. فمالت نفسه إلى الانتقال إلى مذهب الإمام الشافعي فحين علم الإسماعيلية بذلك شق عليهم. وهموا بقته فتقدم إلى القاضي وهو يومئذ عمر بن سعيد وأخبره بقصته وإنه يريد الدخول في مذهب الشافعي لكنهُ يخشى من الإسماعيلية. فقدم به القاضي عمر بن سعيد إلى الأمير علم الدين ينجر الشعيبي وأخبراه بالقصة فقال الأمير علم الدين من سكب عليك كوز ماءٍ سكبت عليه كوز دم فتاب على يد القاضي بحضرة الأمير وأخذ منهما العهود والمواثيق على حمايته وتوثق منهما وخرج من فوره وتظاهر بترك السمعلة والدخول في مذهب أهل السنة. وجعل يسب الإسماعيلية ومذهبهم. ويذكر قبائح أفعالهم فحين سمعوا منه ذلك سعوا في قتله أشد السعي لكن الدولة قهرتهم. وكان عبد المؤْمن رجلاً مباركاً زاهداً ورعاً لازماً طريق القناعة غالب أوقاته في مسجد الجامع بصنعاء حتى قيل أنه لازم الاعتكاف أربعين سنة. وكان كثير التلاوة لكتاب الله في المصحف. وكان يقرأُ كتب الحديث وقرأَ بعض كتب اللغة وبداية الهداية. ولم يزل على الطريق المرضي إلى أن توفي في سلخ صفر من سنة عشرين وسبعمائة. وهي السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الصالح إبراهيم بن الفقيه علي بن إبراهيم النحلي وكان

ص: 355

ميلاده سنة ثلاث وستين وستمائة تفقه بأبيه وكان من أعيان الفقهاء الفضلاء الآخذين عن أَبيه. وكان أبوه يحبه حباً شديداً ويفضله. فسئل عن ذلك فقال كنت عند والدته حين وضع في الخيمة التي وضعته أُمه فيها فحين سقط إلى الأرض أضاءت الخيمة وأنارت حتى أني عددت جوانح الخيمة.

قال الجندي وأخبرني الخبير بحاله أنه كان من أخير أولاد الفقهاء ديناً وكرماً ومعرفة للفقه وعبادة غالب أيامه الصيام ولياليه القيام. وكان كثير الإطعام قل ما تلد الأخيار مثله. توفي على أكمل طريق مرضي ليلة الجمعة سابع عشر من ذي الحجة من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الصالح موسى بن الفقيه الإمام العلامة أبي العباس أحمد بن موسى بن علي بن عجيل. وكان فقيهاً صالحاً فاضلاً ديناً خيراً تفقه بأبيه وكان مشهور الفضل والصلاح توفي يوم السادس من شعبان من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الصالح محمد بن عمر بن حشيبر بضم الحاء المهملة وفتح الشين المعجمة وسكون المثناة من تحتها وكسر الباءِ الموحدة وآخره راء. وكان فقيهاً زاهداً ورعاً صاحب كرامات له في الحكمة كلام عجيب. توفي في غرة ذي الحجة من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفي سنة إحدى وعشرين وسبعمائة وصل القاضي محي الدين من عدن وحصل بينه وبين القاضي صفي الدين مرافعات كثيرة. واتفق لمحي الدين اتفاقات ليست بحسنة فنقص ذلك القبول من جهة السلطان. وكان في ذلك يطلب الوزارة ويجتهد ويسعى في تحصيلها فلما ألح وأكثر قال السلطان كلا لا وزر ثم أراد السلطان أن يجبر خاطره فأركبهُ يوم العيد عيد الفطر في موضع الوزارة وركب بالطرحة على عادة الوزراء المصريين.

وفي هذه السنة توفي الفقيه الفاضل عبد الرحمن بن أبي بكر بن شبا الشعبي وكان فقيهاً فاضلاً تفقه بمحمد بن أبي بكر الأصبحي وتزوج ابنته وهو وصيه. وكان منصوبه على أولاده وولي قضاء بلده من قبل بني محمد بن عمر مدة ثم انفصل

ص: 356

عنه وكانت وفاته في شعبان من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الفاضل أبو محمد عبد الله بن اسعد الحديفي نسبة إلى قوم يقال لهم الاحدوف. وكان فقيهاً فاضلاً تفقه بالعماري وسكن قرية الخصابتين وكان صبوراً على إطعام الطعام وإكرام الأنام. عظيم العبادة إلى أن توفي. وكانت وفاته في السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الإمام العلامة أبو العباس أحمد بن علي بن عبد الله العامري الملقب جمال الدين وكان يعرف بالمدرس لطول إقامته على التدريس بالمهجم وشهرته فيه. وكان مولده سنة أربعين وستمائة وهي السنة التي توفي فيها الإمام أبو الحسن علي بن قاسم الحكمي. وكان تفقه الإمام جمال الدين بخاله الفقيه إسماعيل بن محمد الحضرمي. وأخذ عن الإمام أحمد بن موسى بن عجيل وهو من أبرك فقهاء تهامة تدريساً. وأكثرهم نشراً للعلم أخذ عنه جمع كبير وصنف عدة مصنفات منها شرح التنبيه شرحاً مفيداً أثنى عليه غالب الفقهاءَ وله شرح الوسيط أيضاً. وذكروا أنه أقام على التدريس في المهجم نحواً من خمسين سنة. ولذلك كثر أصحابه وانتشر عنه الفقه وامتحن بقضاء المهجم من قبل بني محمد بن عمر. ثم لما صار القضاء الأكبر إلى ولد الفقيه أبي بكر بن محمد بن عمر اليحيوي استدعاه فعزل نفسه حين وصله الطلب. وكان سهل الأخلاق لين الجانب سليم الصدر مشهوراً بالبركة وكانت وفاته في مستهل صفر من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

قال الجندي أخبرني الثقة إن بعض الفقهاءِ من الحضارم رأَى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة موت الفقيه ورأَى مع النبي صلى الله عليه وسلم صاحبيه أبا بكر وعمر والفقيه محمد بن إسماعيل الحضرمي وابنه إسماعيل فقال لجده محمد يا جد من هؤُلاءِ معك يعني النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فقال هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه أبو بكر وعمر جئنا جميعاً في طلب الفقيه جمال الدين فاستيقظ الرائي من نومه وأذبه يسمع قائلاً يقول مات الفقيه جمال الدين رحمه الله تعالى.

وفيها توفي الفقيه الفاضل أبو عبد الله محمد بن حسين وكان فقيهاً فاضلاً كريم

ص: 357

النفس حسن الأخلاق وكان محفوظه من كتب الفقه الوجيز ولم يدرس في جامع القرية. وانتفع به جماعة وكانت وفاته يوم الجمعة التاسع من شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.

وفي هذه السنة توفي السلطان الملك المؤَيد رحمة الله عليه وكان قد عزم على النزول إلى زبيد كجاري عادته في كل سنة فبرز إلى قصر الشجرة فأقام فيه نحواً من عشرة أيام بسبب مرض أصابه فلما اشتد به المرض وهو في قصر دار الشجرة أمر ولده السلطان الملك المجاهد بطلوع الحصن ولم يكن له يومئذ ولد غيره فطلع الحصن آخر نهار الاثنين سلخ ذي القعدة من السنة المذكورة. وتوفي والده السلطان المؤَيد بعد نصف الليل من ليلة الثلاثاء أول ليلة من ذي الحجة. وقد ترك الأمير جمال الدين يوسف بن يعقوب بن الجواد. وكان يومئذ نائب السلطنة وأتابك العسكر وأستاذ دار السلطان ونزل بنزوله جماعة من العسكر وأعيان الأمراء. فثبت ثباتاً حسناً وحفظ نظام السلطنة وضرب إركاً على الشجرة إلى آخر الليل بالسلطان المرحوم إلى الحصن فحطوه في دار العدل وكان رحمه الله قد أوصى أن يغسله جماعة من الفقهاء منهم الفقيه الطفاري والبها الجاندار. وإن تكون آلة الغسل كلها مدر يشترى من السوق وإن يشترى كفنه من السوق فاشترى له ذلك كما ذكر. فكان أول شيءٍ استنكره الناس من ولده المجاهد وحمل من دار العدل إلى مدرسته إلى أنشأها في معزية تعز فدفن بها وكان يوم دفنه يوماً مشهوداً فيالها من مصيبة تركت العامة حيارى والخاصة سكارى.

خرجوا بهِ ولكل باكٍ خلفه

صعقات موسى يوم دك الطورُ

حتى أتوا جدثاً كأَن ضريحه

في قلب كل موحد محفورُ

والشمس في كبد السماءِ مريضة

والأرض راجفة تكاد تمورُ

وكان له من المآثر التي أنشأها في معزية تعز المعروفة بالمؤَيدية وجعل فيها مدرساً ودرسة ومعيداً وإماماً ومؤَذناً ومعلماً وأيتاماً يتعلمون القرآن ومقرئاً يقرئ القرآن بالسبعة لا حرف ووقف عليها من الأراضي والكروم ما يقوم بكفايتهم ووقف

ص: 358

فيها خزانة من الكتب النفيسة وابتنى في أيامه عدة من المآثر. فابتنت كريمته التي تسمى جهة دار الدملؤَة مدرسة في مدينة زبيد ومسجداً فيتعز ومدرسة في ظفار الحبوضي أيضاً وجددت مسجداً في مدينة زبيد. وابتنى الخاندار مسجداً في مدينة تعز وهو الذي بين المعزية وعدينة وعنده الأحواض وبه تعرف إلى الآن فيقال مسجد الخاندار. وابتنى الأمير محمد بن ميكائيل الذي كان أستاذ داره مدرسة في زبيد وهي التي قبالة باب الشبارق تمر المجرى تحتها وهي الآن خراب.

وكان السلطان المؤَيد ملكاً جباراً شجاعاً مقداماً شهماً جواداً. كريماً متلافاً. له في الشجاعة والجود فعلات مشهورة يعرفها الخاص والعام. وكان رحمه الله مشاركاً في كثير من العلوم قد أخذ في كل فن وشارك في كل علم وكان يحفظ مقدمة طاهر بن بابشاذ وكفاية المتحفظ في اللغة وأجمل للزجاجي قراءة وأخذ التنبيه أيضاً لأبي إسحاق الشيرازي قراءة محققة وطالع الكتب المبسوطة في كل فن وسمع الحديث النبوي من الشيوخ الموثوق بهم ممن علا سنده. وأجازه الشيخ الإمام المبجل أبو العباس أحمد بن محمد الطبري شيخ السنة بالحرم الشريف في البخاري والترمذي وناوله صحيح مسلم وأجازه في باقي الأمهات على حكم روايته من الكتب التي سمعها واستجازها وما صنفه في كل فن وما وجد له. واختصر كتاب الجمهرة في التبرزة وبين في مختصره ما لم يبينه صاحب الكتاب من عمل التدنيق ووصل الجناح وشرح طردته إلى أبي فراس شرحاً شافياً وهي التي أولها

ما العمر ما طالت به الدهور

العمر ما ثمَّ به السرورُ

ونقل جانباً من أشعار الجاهلية والمخضرمين والمولدين. وجمع من مصنفات العلم على اختلاف أنواعها من علم قراءَاتها وقرائها وحديثها وفقهها وأصولها وفروعها وحقيقتها وأدبها ومعرفة أيام عربها من تاريخها ونسبها وأشعارها على اختلاف طبقاتها شيئاً كثيراً والله أعلم

ص: 359