الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) فِي سُورَةِ «الْبَلَدِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [90 1] مَعَ قَوْلِهِ: وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [95 3] وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا: فَاجْعَلْ لَهُمْ طَرِيقًا، مِنْ قَوْلِهِمْ: ضَرَبَ لَهُ فِي مَالِهِ سَهْمًا، وَضَرَبَ اللَّبِنَ عَمِلَهُ اهـ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ يَبَسًا صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ جَاءَتْ عَلَى فَعَلٍ بِفَتْحَتَيْنِ كَبَطَلٍ وَحَسَنٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْيُبْسُ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ. يُقَالُ: يَبِسَ يَبَسًا وَيُبْسًا، وَنَحْوُهُمَا الْعَدَمُ، وَالْعُدْمُ، وَمِنْ ثَمَّ وُصِفَ بِهِ الْمُؤَنَّثُ فَقِيلَ: شَاتُنَا يُبْسٌ، وَنَاقَتُنَا يُبْسٌ. إِذَا جَفَّ لَبَنُهَا.
وَقَوْلُهُ: لَا تَخَافُ دَرَكًا الدَّرَكُ: اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الْإِدْرَاكِ، أَيْ: لَا يُدْرِكُ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ، وَلَا يَلْحَقُونَكَ مِنْ وَرَائِكَ، وَلَا تَخْشَى مِنَ الْبَحْرِ أَمَامَكَ. وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ لَا تَخَافُ فَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ فَاضْرِبْ أَيْ: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي حَالِ كَوْنِكَ غَيْرَ خَائِفٍ دَرَكًا، وَلَا خَاشٍ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ الْمَنْفِيَّ بِلَا إِذَا كَانَتْ جُمْلَتُهُ حَالِيَّةً وَجَبَ الرَّبْطُ فِيهَا بِالضَّمِيرِ وَامْتَنَعَ بِالْوَاوِ. كَقَوْلِهِ هُنَا: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا أَيْ: فِي حَالِ كَوْنِكَ لَا تَخَافُ دَرَكًا، وَقَوْلِهِ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ [27 20] وَقَوْلِهِ: وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ [5 84] وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا لِارْتِفَاعِ قَبِيلَةٍ
…
دَخَلُوا السَّمَاءَ دَخَلْتُهَا لَا أُحْجَبُ
يَعْنِي دَخَلْتُهَا فِي حَالِ كَوْنِي غَيْرَ مَحْجُوبٍ، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَذَاتُ بَدْءٍ بِمُضَارِعٍ ثَبَتْ
…
حَوَتْ ضَمِيرًا وَمِنَ الْوَاوِ خَلَتْ
فِي مَفْهُومِهِ تَفْصِيلٌ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ.
التَّحْقِيقُ أَنَّ أَتْبَعَ وَاتَّبَعَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. فَقَوْلُهُ: فَـ أَتْبَعَهُمْ أَيِ: اتَّبَعَهُمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [37 \ 10] وَقَوْلُهُ: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ الْآيَةَ [7 \ 175] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ مُوسَى لَمَّا أَسْرَى بِبَنِي إِسْرَائِيلَ لَيْلًا أَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ [20 \
78]
أَيِ: الْبَحْرِ مَا غَشِيَهُمْ أَيْ: أَغْرَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ فِي الْبَحْرِ فَهَلَكُوا عَنْ آخِرِهِمْ. وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ فِرْعَوْنَ أَتْبَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُوَ وَجُنُودُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ أَغْرَقَهُمْ فِي الْبَحْرِ أُوَضِّحُهُ فِي غَيْرِ هَذَا
الْمَوْضِعِ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمُ اتَّبَعُوهُمْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ عِنْدَ إِشْرَاقِ الشَّمْسِ، فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى اتِّبَاعِهِ لَهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي «الشُّعَرَاءِ» : وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [26 \ 52] يَعْنِي سَيَتْبَعُكُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ. ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ اتِّبَاعِهِ لَهُمْ فَقَالَ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [26 \ 53 - 62] .
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ أَيْ: أَوَّلَ النَّهَارِ عِنْدَ إِشْرَاقِ الشَّمْسِ. وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي «يُونُسَ» : وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا [10 \ 90] وَقَوْلُهُ فِي «الدُّخَانِ» : فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [44 \ 23] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى إِتْبَاعِهِ لَهُمْ. وَأَمَّا غَرَقُهُ هُوَ وَجَمِيعُ قَوْمِهِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ هُنَا: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ فَقَدْ أَوْضَحَهُ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ. كَقَوْلِهِ فِي «الشُّعَرَاءِ» : فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [26 \ 63 - 67] وَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ [136] وَقَوْلِهِ فِي «الزُّخْرُفِ» : فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [43 \ 55] وَقَوْلِهِ فِي «الْبَقَرَةِ» : وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [2 \ 50] وَقَوْلِهِ فِي «يُونُسَ» : حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [10 \ 90] وَقَوْلِهِ فِي «الدُّخَانِ» : وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ [44 \ 24] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالتَّعْبِيرُ بِالِاسْمِ الْمُبْهَمِ الَّذِي هُوَ الْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ [20 \ 78] يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ الْأَمْرِ وَتَفْخِيمِ شَأْنِهِ، وَنَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى [53 \ 16] وَقَوْلُهُ: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى [53 \ 53 - 54] وَقَوْلُهُ: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [53 \ 10] . وَالْيَمُّ: الْبَحْرُ. وَالْمَعْنَى: فَأَصَابَهُمْ مِنَ الْبَحْرِ مَا أَصَابَهُمْ وَهُوَ الْغَرَقُ، وَالْهَلَاكُ الْمُسْتَأْصِلُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى.
يَعْنِي أَنَّ فِرْعَوْنَ أَضَلَّ قَوْمَهُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَمَا هَدَاهُمْ إِلَيْهَا. وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ بَيَّنَ اللَّهُ فِيهَا كَذِبَ فِرْعَوْنَ فِي قَوْلِهِ: قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [40 29] وَمِنَ الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [11 96 - 98] وَالنُّكْتَةُ الْبَلَاغِيَّةُ فِي حَذْفِ الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ وَمَا هَدَى وَلَمْ يَقُلْ وَمَا هَدَاهُمْ، هِيَ مُرَاعَاةُ فَوَاصِلِ الْآيَاتِ، وَنَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [93 3] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: امْتِنَانَهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِإِنْجَائِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ فِرْعَوْنَ، وَأَنَّهُ وَاعَدَهُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنِ، وَأَنَّهُ نَزَّلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ، وَالسَّلْوَى، وَقَالَ لَهُمْ: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ. وَلَا تَطْغَوْا فَيَغْضَبَ عَلَيْكُمْ رَبُّكُمْ. وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا أُوَضِّحُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ فِي امْتِنَانِهِ عَلَيْهِمْ بِإِنْجَائِهِمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ فِرْعَوْنَ فِي «سُورَةِ الْبَقَرَةِ» : وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [2 49] وَقَوْلُهُ فِي «الْأَعْرَافِ» : وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [7 141] وَقَوْلُهُ فِي «الدُّخَانِ» : وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ [44 30 - 31] وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ «إِبْرَاهِيمَ» : وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [14 6] وَقَوْلُهُ فِي «الشُّعَرَاءِ» كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [26 59] وَقَوْلُهُ فِي «الدُّخَانِ» كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ [44 28] وَقَوْلُهُ فِي «الْأَعْرَافِ» : وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا [7 137] وَقَوْلُهُ فِي «الْقَصَصِ» : وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً إِلَى قَوْلِهِ يَحْذَرُونَ [28 6] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ هُنَا: وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ [20 80] الْأَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ الْوَعْدَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ الْآيَةَ [7 142] وَقَوْلُهُ: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً الْآيَةَ [2 51] وَقَوْلُهُ: أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا [20 86] وَهُوَ الْوَعْدُ بِإِنْزَالِ التَّوْرَاةِ. وَقِيلَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ هُنَا: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى قَدْ أَوْضَحَ امْتِنَانَهُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ فِي «الْبَقَرَةِ» : وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [2 57] وَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [7 160] وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَنَّ: التَّرَنْجَبِينُ، وَهُوَ شَيْءٌ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ كَنُزُولِ النَّدَى ثُمَّ يَتَجَمَّدُ، وَهُوَ يُشْبِهُ الْعَسَلَ الْأَبْيَضَ. وَالسَّلْوَى: طَائِرٌ يُشْبِهُ السُّمَانَى. وَقِيلَ هُوَ السُّمَانَى. وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ فِي الْمَنِّ، وَالسَّلْوَى. وَقِيلَ: السَّلْوَى الْعَسَلُ. وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ إِطْلَاقَ السَّلْوَى عَلَى الْعَسَلِ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ «السَّلْوَى» يُطْلَقُ عَلَى الْعَسَلِ لُغَةً. وَمِنْهُ قَوْلُ خَالِدِ بْنِ زُهَيْرٍ الْهُذَلِيِّ:
وَقَاسَمَهَا بِاللَّهِ جَهْدًا لَأَنْتُمْ
…
أَلَذُّ مِنَ السَّلْوَى إِذَا مَا نَشُورُهَا
يَعْنِي أَلَذَّ مِنَ الْعَسَلِ إِذَا مَا نَسْتَخْرِجُهَا. لِأَنَّ النُّشُورَ: اسْتِخْرَاجُ الْعَسَلِ. قَالَ مُؤَرِّجُ بْنُ عُمَرَ السَّدُوسِيُّ: إِطْلَاقُ السَّلْوَى عَلَى الْعَسَلِ لُغَةُ كِنَانَةَ. سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ يُسَلِّي. قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. إِلَّا أَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي السَّلْوَى. هَلْ هُوَ جَمْعٌ أَوْ مُفْرَدٌ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ جَمْعٌ، وَاحِدُهُ سَلْوَاةٌ، وَأَنْشَدَ الْخَلِيلُ لِذَلِكَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ هِزَّةٌ
…
كَمَا انْتَفَضَ السَّلْوَاةُ مِنْ بَلَلِ الْقَطْرِ
وَيُرْوَى هَذَا الْبَيْتُ:
كَمَا انْتَفَضَ الْعُصْفُورُ بَلَّلَهُ الْقَطْرُ
وَعَلَيْهِ فَلَا شَاهِدَ فِي الْبَيْتِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: السَّلْوَى مُفْرَدٌ وَجَمْعُهُ سَلَاوَى. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ. مِثْلَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَهُوَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدُهُ سَلْوَى مِثْلَ جَمَاعَتِهِ. كَمَا قَالُوا: دِفْلَى وَسُمَانَى وَشُكَاعَى فِي الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ. وَالدِّفْلَى كَذِكْرَى: شَجَرٌ أَخْضَرُ مُرٌّ حَسَنُ الْمَنْظَرِ، يَكُونُ فِي الْأَوْدِيَةِ. والشُّكَاعَى كَحُبَارَى وَقَدْ تُفْتَحُ: نَوْعٌ مِنْ دَقِيقِ النَّبَاتِ صَغِيرٌ أَخْضَرُ، دَقِيقُ الْعِيدَانِ يُتَدَاوَى بِهِ. وَالسُّمَانَى: طَائِرٌ مَعْرُوفٌ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي الْمَنِّ: أَنَّهُ اسْمٌ جَامِعٌ لِمَا يَمُنُّ اللَّهُ بِهِ عَلَى عَبْدِهِ مِنْ غَيْرِ كَدٍّ، وَلَا تَعَبٍ، فَيَدْخُلُ فِيهِ التَّرَنْجَبِينُ الَّذِي مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التِّيهِ. وَيَشْمَلُ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُمَاثِلُهُ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحَيْنِ:«الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ» .
وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي السَّلْوَى: أَنَّهُ طَائِرٌ، سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّهُ السُّمَانَى، أَوْ طَائِرٌ يُشْبِهُهُ، لِإِطْبَاقِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ، وَالْخَلَفِ عَلَى ذَلِكَ. مَعَ أَنَّ السَّلْوَى، يُطْلَقُ لُغَةً عَلَى الْعَسَلِ، كَمَا بَيَّنَّا.
وَقَوْلُهُ فِي آيَةِ «طه» هَذِهِ: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [20 81] أَيْ: مِنَ الْمَنِّ، وَالسَّلْوَى، وَالْأَمْرُ فِيهِ لِلْإِبَاحَةِ، وَالِامْتِنَانِ.
وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي «الْبَقَرَةِ» وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [2 57] وَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [7 160] وَقَوْلِهِ: كُلُوا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَقُلْنَا لَهُمْ كُلُوا، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ رَاجِعٌ إِلَى الْمَوْصُولِ الَّذِي هُوَ «مَا» أَيْ: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ الَّذِي رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ أَيْ: فِيمَا رَزَقْنَاكُمْ. وَنَهَاهُمْ عَنِ الطُّغْيَانِ فِيمَا رَزَقَهُمْ، وَهُوَ أَنْ يَتَعَدَّوْا حُدُودَ اللَّهِ فِيهِ بِأَنْ يَكْفُرُوا نِعْمَتَهُ بِهِ، وَيَشْغَلَهُمُ اللَّهْوُ وَالنَّعِيمُ عَنِ الْقِيَامِ بِشُكْرِ نِعَمِهِ، وَأَنْ يُنْفِقُوا رِزْقَهُ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِهِ فِي الْمَعَاصِي، أَوْ يَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، أَوْ يَمْنَعُوا الْحُقُوقَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِمْ فِيهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ يُسَبِّبُ لَهُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْهِمْ غَضَبُهُ جَلَّ وَعَلَا، لِأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ فَيَحِلَّ سَبَبِيَّةٌ، وَالْفِعْلُ مَنْصُوبٌ بِأَنْ مُضْمَرَةٍ بَعْدَهَا، لِأَنَّهُ بَعْدَ النَّهْيِ وَهُوَ طَلَبٌ مَحْضٌ، كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَبَعْدَ فَا جَوَابُ نَفْيٍ أَوْ طَلَبْ
…
مَحْضَيْنِ أَنْ وَسَتْرُهَا حَتْمٌ نَصَبْ
وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ الْكِسَائِيُّ «فَيَحُلَّ» بِضَمِّ الْحَاءِ (وَمَنْ يَحْلُلْ) بِضَمِّ اللَّامِ. وَالْبَاقُونَ قَرَءُوا يَحِلَّ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَيَحْلِلْ بِكَسْرِ اللَّامِ. وَعَلَى قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ (فَيَحُلَّ) بِالضَّمِّ أَيْ: يَنْزِلُ بِكُمْ غَضَبِي. وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَهُوَ مِنْ حَلَّ يَحِلُّ بِالْكَسْرِ:
إِذَا وَجَبَ، وَمِنْهُ حَلَّ دَيْنُهُ إِذَا وَجَبَ أَدَاؤُهُ. وَمِنْهُ ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [22 33] . وَقَوْلُهُ: فَقَدْ هَوَى أَيْ: هَلَكَ وَصَارَ إِلَى الْهَاوِيَةِ، وَأَصْلُهُ أَنْ يَسْقُطَ مِنْ جَبَلٍ أَوْ نَحْوِهِ فَيَهْوِي إِلَى الْأَرْضِ فَيَهْلِكُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
هَوَى مِنْ رَأْسِ مَرْقَبَةٍ
…
فَفَتَّتَ تَحْتَهَا كَبِدَهُ
وَيَقُولُونَ: هَوَتْ أُمُّهُ، أَيْ: سَقَطَ سُقُوطًا لَا نُهُوضَ بَعْدَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ سَعْدٍ الْغَنَوِيِّ:
هَوَتْ أُمُّهُ مَا يَبْعَثُ الصُّبْحُ غَادِيًا
…
وَمَاذَا يَوَدُّ اللَّيْلُ حِينَ يَئُوبُ
وَنَحْوَ هَذَا هُوَ أَحَدُ التَّفْسِيرَاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَعَنْ شُفَيِّ بْنِ مَاتِعٍ الْأَصْبَحِيِّ قَالَ: إِنَّ فِي جَهَنَّمَ جَبَلًا يُدْعَى صَعُودًا يَطْلُعُ فِيهِ الْكَافِرُ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا قَبْلَ أَنْ يَرْقَاهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا [74 17] وَإِنَّ فِي جَهَنَّمَ قَصْرًا يُقَالُ لَهُ هَوَى، يُرْمَى الْكَافِرُ مِنْ أَعْلَاهُ فَيَهْوِي أَرْبَعِينَ خَرِيفًا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ أَصْلَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى قَالَ الْقُرْطُبِيُّ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْغَضَبَ صِفَةٌ وَصَفَ اللَّهُ بِهَا نَفْسَهُ إِذَا انْتُهِكَتْ حُرُمَاتُهُ، تَظْهَرُ آثَارُهَا فِي الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ. نُعَوْذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِهِ جَلَّ وَعَلَا. وَنَحْنُ مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ نُمِرُّهَا كَمَا جَاءَتْ فَنُصَدِّقُ رَبَّنَا فِي كُلِّ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَلَا نُكَذِّبُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، مَعَ تَنْزِيهِنَا التَّامِّ لَهُ جَلَّ وَعَلَا عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقِينَ سبحانه وتعالى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. كَمَا أَوْضَحْنَا ذَلِكَ غَايَةَ الْإِيضَاحِ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ أَنْجَيْتُكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْتُكُمْ بِتَاءِ الْمُتَكَلِّمِ فِيهِمَا. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ «وَوَاعَدْنَاكُمْ وَأَنْجَيْنَاكُمْ» بِالنُّونِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعَظَمَةِ، فَصِيغَةُ الْجَمْعِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ لِلتَّعْظِيمِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو (وَوَعَدْنَاكُمْ) بِلَا أَلِفٍ بَعْدَ الْوَاوِ الثَّانِيَةِ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، مِنَ الْوَعْدِ لَا مِنَ الْمُوَاعَدَةِ مَعَ نُونِ التَّعْظِيمِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى.
ذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ غَفَّارٌ أَيْ: كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ لِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ مِنْ مَعَاصِيهِ وَكُفْرِهِ، وَآمَنَ بِهِ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى. وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ الْآيَةَ [8 38] . وَقَوْلِهِ فِي الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ: أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [5 74]
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ الْآيَةَ [39 53 - 54] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى التَّوْبَةِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ثُمَّ اهْتَدَى أَيِ: اسْتَقَامَ وَثَبَتَ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنَ التَّوْبَةِ، وَالْإِيمَانِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَلَمْ يَنْكُثْ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [41 30] وَفِي الْحَدِيثِ: «قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ» . وَقَالَ تَعَالَى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ الْآيَةَ [11 112] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى.
أَشَارَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِلَى قِصَّةِ مُوَاعَدَتِهِ مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَذَهَابِهِ إِلَى الْمِيقَاتِ، وَاسْتِعْجَالِهِ إِلَيْهِ قَبْلَ قَوْمِهِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا وَاعَدَهُ رَبُّهُ وَجَعَلَ لَهُ الْمِيقَاتَ الْمَذْكُورَ، وَأَوْصَى أَخَاهُ هَارُونَ أَنْ يَخْلُفَهُ فِي قَوْمِهِ، اسْتَعْجَلَ إِلَى الْمِيقَاتِ فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ.
الْآيَةَ، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ الَّتِي أَجْمَلَهَا هُنَا أَشَارَ لَهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ فِي «الْأَعْرَافِ» : وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [7 142] .
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ: وَهُوَ أَنَّ جَوَابَ مُوسَى لَيْسَ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ الَّذِي سَأَلَهُ رَبُّهُ، لِأَنَّ السُّؤَالَ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي أَعْجَلَهُ عَنْ قَوْمِهِ، وَالْجَوَابُ لَمْ يَأْتِ مُطَابِقًا لِذَلِكَ. لِأَنَّهُ أَجَابَ بِقَوْلِهِ: هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ.
وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَجْوِبَةٍ:
(مِنْهَا) : أَنَّ قَوْلَهُ: هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي يَعْنِي هُمْ قَرِيبٌ وَمَا تَقَدَّمْتُهُمْ إِلَّا بِيَسِيرٍ يُغْتَفَرُ مِثْلُهُ، فَكَأَنِّي لَمْ أَتَقَدَّمْهُمْ وَلَمْ أَعْجَلْ عَنْهُمْ لِقُرْبِ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ.
(وَمِنْهَا) : أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا لَمَّا خَاطَبَهُ بِقَوْلِهِ وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ دَاخَلَهُ مِنَ الْهَيْبَةِ، وَالْإِجْلَالِ، وَالتَّعْظِيمِ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا مَا أَذْهَلَهُ عَنِ الْجَوَابِ الْمُطَابِقِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.