المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ رَاجِعَةٌ إِلَى أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ السِّجِلَّ: الصَّحِيفَةُ، وَالْمُرَادُ - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - ط الفكر - جـ ٤

[محمد الأمين الشنقيطي]

الفصل: كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ رَاجِعَةٌ إِلَى أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ السِّجِلَّ: الصَّحِيفَةُ، وَالْمُرَادُ

كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ رَاجِعَةٌ إِلَى أَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ السِّجِلَّ: الصَّحِيفَةُ، وَالْمُرَادُ بِالْكُتُبِ: مَا كُتِبَ فِيهَا، وَاللَّامُ بِمَعْنَى عَلَى، أَيْ: كَطَيِّ السِّجِلِّ عَلَى الْكُتُبِ، أَيْ: كَطَيِّ الصَّحِيفَةِ عَلَى مَا كُتِبَ فِيهَا، وَعَلَى هَذَا فَطَيُّ السِّجِلِّ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ؛ لِأَنَّ السِّجِلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَفْعُولُ الطَّيِّ.

الثَّانِي: أَنَّ السِّجِلَّ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَطْوِي كُتُبَ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ إِذَا رُفِعَتْ إِلَيْهِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ فِي السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، تَرْفَعُ إِلَيْهِ الْحَفَظَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِالْخَلْقِ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ، وَكَانَ مِنْ أَعْوَانِهِ (فِيمَا ذَكَرُوا) هَارُوتُ وَمَارُوتُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا يَطْوِي الصَّحِيفَةَ حَتَّى يَمُوتَ صَاحِبُهَا، فَيَرْفَعَهَا وَيَطْوِيَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ السِّجِلَّ صَحَابِيٌّ كَاتِبٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ظَاهِرُ السُّقُوطِ كَمَا تَرَى.

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ «لِلْكِتَابِ» قَرَأَهُ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ «لِلْكِتَابِ» بِكَسْرِ الْكَافِ وَفَتْحِ التَّاءِ بَعْدَهَا أَلْفٌ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفَصٌ عَنْ عَاصِمٍ «لِلْكُتُبِ» بِضَمِّ الْكَافِ وَالتَّاءِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ عَلَى قِرَاءَةِ الْإِفْرَادِ جِنْسُ الْكِتَابِ، فَيَشْمَلُ كُلَّ الْكُتُبِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ. أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الزَّبُورَ الَّذِي هُوَ الْكِتَابُ يُرَادُ بِهِ جِنْسُ الْكِتَابِ فَيَشْمَلُ الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ، كَالتَّوْرَاةِ، وَالْإِنْجِيلِ، وَزَبُورِ دَاوُدَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ: أُمُّ الْكِتَابِ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ بَعْدَ أَنْ كَتَبْنَا ذَلِكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ. وَهَذَا الْمَعْنَى وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ. وَقِيلَ: الزَّبُورُ فِي الْآيَةِ زَبُورُ دَاوُدَ، وَالذِّكْرُ: التَّوْرَاةُ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَأَظْهَرُهَا هُوَ مَا ذَكَرْنَا وَاخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ.

وَاعْلَمْ أَنَّا قَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ الْآيَةَ قَدْ يَكُونُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَكَلَاهُمَا حَقٌّ وَيَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ فَنَذْكُرُ الْجَمِيعَ؛ لِأَنَّهُ كُلُّهُ حَقُّ دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَرْضِ فِي قَوْلِهِ هُنَا: أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [21 \‌

‌ 105]

فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ وَجْهَانِ:

ص: 249

الْأَوَّلُ: أَنَّهَا أَرْضُ الْجَنَّةِ يُورِثُهَا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ. وَهَذَا الْقَوْلُ يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [39] وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى إِيرَاثِهِمُ الْجَنَّةَ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» .

الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَرْضِ أَرْضُ الْعَدُوِّ، يُورِثُهَا اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا [33 \ 27] وَقَوْلُهُ: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الْآيَةَ [7 \ 137] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [7 \ 128] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الْآيَةَ [24] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ [14 \ 13 - 14] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ غَيْرَ حَمْزَةَ فِي الزَّبُورِ بِفَتْحِ الزَّايِ وَمَعْنَاهُ الْكِتَابُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحْدَهُ (فِي الزُّبُورِ) بِضَمِّ الزَّايِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَعَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ فَهُوَ جَمْعُ زُبُرٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرِيدُ الزِّبِرَ - بِالْكَسْرِ - بِمَعْنَى الزَّبُورِ أَيِ: الْمَكْتُوبِ. وَعَلَيْهِ فَمَعْنَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الْكُتُبِ، وَهِيَ تُؤَيِّدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالزَّبُورِ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَتْحِ جِنْسُ الْكُتُبِ لَا خُصُوصُ زَبُورِ دَاوُدَ كَمَا بَيَّنَّا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ «يَرِثُهَا عِبَادِي» بِإِسْكَانِ الْيَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا.

قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ.

الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: هَذَا [21 \ 106] لِلْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الَّذِي مِنْهُ هَذِهِ السُّورَةُ الْكَرِيمَةُ. وَالْبَلَاغُ: الْكِفَايَةُ، وَمَا تُبْلَغُ بِهِ الْبُغْيَةُ. وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ فِيهِ الْكِفَايَةُ لِلْعَابِدِينَ، وَمَا يَبْلُغُونَ بِهِ بُغْيَتَهُمْ، أَيْ: مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ذَكَرَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ: هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [14 \ 52] وَخَصَّ الْقَوْمَ الْعَابِدِينَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.

ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ مَا أَرْسَلَ هَذَا النَّبِيَّ الْكَرِيمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ

ص: 250