المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

اللَّهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ فَأَذَلَّهُ وَأَهَانَهُ. وَذَلِكَ الذُّلُّ وَالْإِهَانَةُ نَقِيضُ مَا - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - ط الفكر - جـ ٤

[محمد الأمين الشنقيطي]

الفصل: اللَّهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ فَأَذَلَّهُ وَأَهَانَهُ. وَذَلِكَ الذُّلُّ وَالْإِهَانَةُ نَقِيضُ مَا

اللَّهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ فَأَذَلَّهُ وَأَهَانَهُ. وَذَلِكَ الذُّلُّ وَالْإِهَانَةُ نَقِيضُ مَا كَانَ يُؤَمِّلُهُ مِنَ الْكِبْرِ وَالْعَظَمَةِ.

وَهَذَا الْمَفْهُومُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ [40 \ 56]، وَقَوْلِهِ فِي إِبْلِيسَ لَمَّا اسْتَكْبَرَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [7 \ 13] وَالصَّغَارُ: الذُّلُّ وَالْهَوَانُ، عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ. وَقَوْلِهِ: وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ [22 \ 9] ؛ أَيْ: نَحْرِقُهُ بِالنَّارِ، وَنُذِيقُهُ أَلَمَ حَرِّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَسُمِّيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ; لِأَنَّ النَّاسَ يَقُومُونَ فِيهِ لَهُ جَلَّ وَعَلَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [83 \ 4 - 6] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ الْمَعْنَى: أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أُذِيقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ، يُقَالُ لَهُ ذَلِكَ؛ أَيْ: هَذَا الْعَذَابُ الَّذِي نُذِيقُكَهُ بِسَبَبِ مَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ؛ أَيْ: قَدَّمَتْهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [22 \‌

‌ 10]

فَلَا يَظْلِمُ أَحَدًا مِثْقَالَ ذَرَّةٍ. وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [4 \ 30] وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُنْسَبِكَ مِنْ «أَنَّ» وَصِلَتِهَا فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [22 \ 10] فِي مَحَلِّ خَفْضٍ عَطْفًا عَلَى (مَا) الْمَجْرُورَةِ بِالْبَاءِ.

وَالْمَعْنَى: هَذَا الْعَذَابُ الَّذِي يُذِيقُكَهُ اللَّهُ حَصَلَ لَكَ بِسَبَبَيْنِ، وَهُمَا: مَا قَدَّمَتْهُ يَدَاكَ مِنْ عَمَلِ السُّوءِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَعَدَالَةُ مَنْ جَازَاكَ ذَلِكَ الْجَزَاءَ الْوِفَاقَ، وَعَدَمُ ظُلْمِهِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِيمَا مَضَى إِزَالَةَ الْإِشْكَالِ الْمَعْرُوفِ فِي نَفْيِ صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ، فِي قَوْلِهِ: لَيْسَ بِظَلَّامٍ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ثَلَاثَةُ أَسْئِلَةٍ:

الْأَوَّلُ: هُوَ مَا ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّا أَوْضَحْنَا الْجَوَابَ عَنْهُ سَابِقًا، وَهُوَ: أَنَّ الْمَعْرُوفَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ النَّفْيَ إِذَا دَخَلَ عَلَى صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ، لَمْ يَقْتَضِ نَفْيَ أَصْلِ الْفِعْلِ.

فَلَوْ قُلْتَ: لَيْسَ زَيْدٌ بِظَلَّامٍ لِلنَّاسِ، فَمَعْنَاهُ الْمَعْرُوفُ: أَنَّهُ غَيْرُ مُبَالِغٍ فِي الظُّلْمِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ حُصُولَ مُطْلَقِ الظُّلْمِ مِنْهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ هَذَا.

ص: 282

وَالسُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ أَسْنَدَ كُلَّ مَا قَدَّمَ إِلَى يَدَيْهِ فِي قَوْلِهِ: بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَكُفْرُهُ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ ذُنُوبِهِ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الْيَدِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ فِعْلِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ أَنْوَاعِ الْبَطْشِ بِالْيَدِ يَدُلُّ عَلَى الْكُفْرِ، فَهُوَ فِي اللِّسَانِ وَالْقَلْبِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي الْيَدِ. وَزِنَاهُ لَمْ يَفْعَلْهُ بِيَدِهِ، بَلْ بِفَرْجِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي تُزَاوَلُ بِغَيْرِ الْيَدِ.

وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا ظَاهِرٌ: وَهُوَ أَنَّ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ إِسْنَادُ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ إِلَى الْيَدِ، نَظَرًا إِلَى أَنَّهَا الْجَارِحَةُ الَّتِي يُزَاوِلُ بِهَا أَكْثَرَ الْأَعْمَالِ فَغَلَبَتْ عَلَى غَيْرِهَا، وَلَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ.

وَالسُّؤَالُ الثَّالِثُ: هُوَ أَنْ يُقَالَ: مَا وَجْهُ إِشَارَةِ الْبُعْدِ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ مَعَ أَنَّ الْعَذَابَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ قَرِيبٌ مِنْهُ حَاضِرٌ؟

وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ: وَضْعُ إِشَارَةِ الْبُعْدِ مَوْضِعَ إِشَارَةِ الْقُرْبِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِنَا: دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ الْآيَةَ [2 \ 1 - 2] ؛ أَيْ: هَذَا الْكِتَابُ.

وَمِنْ شَوَاهِدِ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ قَوْلُ خِفَافِ بْنِ نُدْبَةَ السُّلَمِيِّ:

فَإِنْ تَكُ خَيْلِي قَدْ أُصِيبَ صَمِيمُهَا

فَعَمْدًا عَلَى عَيْنِي تَيَمَّمْتُ مَالِكَا

أَقُولُ لَهُ وَالرُّمْحُ يَأْطِرُ مَتْنَهُ

تَأَمَّلْ خُفَافًا إِنَّنِي أَنَا ذَلِكَا

يَعْنِي: أَنَا هَذَا.

وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ الْكَافِرَ يُقَالُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ الْآيَةَ، لَا يَخْفَى أَنَّهُ تَوْبِيخٌ وَتَقْرِيعٌ وَإِهَانَةٌ لَهُ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ الْقَوْلِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ [44 \ 47 - 50]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [52 \ 13 - 16] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.

قَوْلُهُ تَعَالَى: يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ.

ص: 283