المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ضَمِيرُ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - ط الفكر - جـ ٤

[محمد الأمين الشنقيطي]

الفصل: ضَمِيرُ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا

ضَمِيرُ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ [22 \ 12] رَاجِعٌ إِلَى الْكَافِرِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [22 \ 11] ؛ أَيْ: يَدْعُو ذَلِكَ الْكَافِرُ الْمَذْكُورُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، مَا لَا يَضُرُّهُ، إِنْ تَرَكَ عِبَادَتَهُ وَكَفَرَ بِهِ، وَمَا لَا يَنْفَعُهُ إِنْ عَبَدَهُ وَزَعَمَ أَنَّهُ يَشْفَعُ لَهُ.

وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ الْأَوْثَانَ لَا تَضُرُّ مَنْ كَفَرَ بِهَا، وَلَا تَنْفَعُ مَنْ عَبَدَهَا بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [10 \ 18]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ: قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [26 \ 72 - 74] .

إِذِ الْمَعْنَى: أَنَّهُمُ اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَنْفَعُونَ وَلَا يَضُرُّونَ، وَلَكِنَّهُمْ عَبَدُوهُمْ تَقْلِيدًا لِآبَائِهِمْ. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.

تَنْبِيهٌ

فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ نَفْيِهِ تَعَالَى النَّفْعَ وَالضُّرَّ مَعًا عَنْ ذَلِكَ الْمَعْبُودِ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ [22 \ 12] مَعَ إِثْبَاتِهِمَا فِي قَوْلِهِ: يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ ; لِأَنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ فِي قَوْلِهِ: «أَقْرَبُ» دَلَّتْ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ نَفْعًا وَضَرًّا، وَلَكِنَّ الضَّرَّ أَقْرَبُ مِنَ النَّفْعِ.

فَالْجَوَابُ: أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ أَجْوِبَةً عَنْ ذَلِكَ:

مِنْهَا: مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: الضَّرُّ وَالنَّفْعُ مَنْفَيَّانِ عَنِ الْأَصْنَامِ، مُثْبَتَانِ لَهَا فِي الْآيَتَيْنِ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ.

قُلْتُ: إِذَا حَصَلَ الْمَعْنَى ذَهَبَ هَذَا الْوَهْمُ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَفَّهُ الْكَافِرَ بِأَنَّهُ يَعْبُدُ جَمَادًا لَا يَمْلِكُ ضَرًّا، وَلَا نَفْعًا، وَهُوَ يَعْتَقِدُ فِيهِ بِجَهْلِهِ وَضَلَالِهِ أَنَّهُ يَسْتَنْفِعُ بِهِ حِينَ يَسْتَشْفِعُ بِهِ، ثُمَّ قَالَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَقُولُ هَذَا الْكَافِرُ بِدُعَاءٍ وَصُرَاخٍ حِينَ يَرَى اسْتِضْرَارَهُ بِالْأَصْنَامِ وَدُخُولَهُ النَّارَ بِعِبَادَتِهَا، وَلَا يَرَى أَثَرَ الشَّفَاعَةِ الَّتِي ادَّعَاهَا لَهَا: لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ [22 \‌

‌ 13]

ص: 284

وَكَرَّرَ يَدْعُو كَأَنَّهُ قَالَ: يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ. ثُمَّ قَالَ لِمَنْ ضَرُّهُ بِكَوْنِهِ مَعْبُودًا أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ بِكَوْنِهِ شَفِيعًا: لَبِئْسَ الْمَوْلَى، وَلَبِئْسَ الْعَشِيرِ. اهـ مِنْهُ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ جَوَابَ الزَّمَخْشَرِيِّ هَذَا غَيْرُ مُقْنِعٍ ; لِأَنَّ الْمَعْبُودَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَيْسَ فِيهِ نَفْعٌ الْبَتَّةَ، حَتَّى يُقَالَ فِيهِ: إِنَّ ضَرَّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو حَيَّانَ عَدَمَ اتِّجَاهِ جَوَابِهِ الْمَذْكُورِ.

وَمِنْهَا: مَا أَجَابَ بِهِ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ.

وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الْآيَةَ الْأَوْلَى فِي الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، فَالْأَصْنَامُ لَا تَنْفَعُ مَنْ عَبَدَهَا، وَلَا تَضُرُّ مَنْ كَفَرَ بِهَا؛ وَلِذَا قَالَ فِيهَا: مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ وَالْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْأَصْنَامُ، هِيَ التَّعْبِيرُ بِلَفْظَةِ «مَا» فِي قَوْلِهِ: مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ [22 \ 12] لِأَنَّ لَفْظَةَ «مَا» تَأْتِي لِمَا لَا يَعْقِلُ، وَالْأَصْنَامُ لَا تَعْقِلُ.

أَمَّا الْآيَةُ الْأُخْرَى فَهِيَ فِي مَنْ عَبَدَ بَعْضَ الطُّغَاةِ الْمَعْبُودِينَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَفِرْعَوْنَ الْقَائِلِ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [28 \ 38] ، لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [26 \ 29] ، أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [79 \ 24] ، فَإِنَّ فِرْعَوْنَ وَنَحْوَهُ مِنَ الطُّغَاةِ الْمَعْبُودِينَ قَدْ يُغْدِقُونَ نِعَمَ الدُّنْيَا عَلَى عَابِدِيهِمْ؛ وَلِذَا قَالَ لَهُ الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا سَحَرَةً أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [26 \ 41 - 42] فَهَذَا النَّفْعُ الدُّنْيَوِيُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا سَيُلَاقُونَهُ مِنَ الْعَذَابِ وَالْخُلُودِ فِي النَّارِ كَلَا شَيْءٍ، فَضَرُّ هَذَا الْمَعْبُودِ بِخُلُودِ عَابِدِهِ فِي النَّارِ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ بِعَرَضٍ قَلِيلٍ زَائِلٍ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا، وَالْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّ الْمَعْبُودَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ بَعْضُ الطُّغَاةِ الَّذِينَ هُمْ مَنْ جِنْسِ الْعُقَلَاءِ هِيَ التَّعْبِيرُ بِـ «مَنْ» الَّتِي تَأْتِي لِمَنْ يَعْقِلُ فِي قَوْلِهِ: يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ [22 \ 13] هَذَا هُوَ خُلَاصَةُ جَوَابِ أَبِي حَيَّانَ، وَلَهُ اتِّجَاهٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّامَ فِي: يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ [22 \ 13] فِيهَا إِشْكَالٌ مَعْرُوفٌ. وَلِلْعُلَمَاءِ عَنْ ذَلِكَ أَجْوِبَةٌ.

ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ رحمه الله مِنْهَا ثَلَاثَةً:

أحَدُهَا: أَنَّ اللَّامَ مُتَزَحْلِقَةٌ عَنْ مَحَلِّهَا الْأَصْلِيِّ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ، وَالْأَصْلُ: يَدْعُو مَنْ لَضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، وَعَلَى هَذَا فَـ «مَنْ» الْمَوْصُولَةُ

ص: 285

فِي مَحَلِّ نَصْبِ مَفْعُولٍ بِهِ لِـ «يَدْعُو» وَاللَّامُ مُوطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ، دَاخِلَةٌ عَلَى الْمُبْتَدَإِ، الَّذِي هُوَ وَخَبَرُهُ صِلَةُ الْمَوْصُولِ، وَتَأْكِيدُ الْمُبْتَدَإِ فِي جُمْلَةِ الصِّلَةِ بِاللَّامِ وَغَيْرِهَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَحُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ سَمَاعًا: مِنْهَا عِنْدِي لَمَا غَيْرُهُ خَيْرٌ مِنْهُ؛ أَيْ: عِنْدِي مَا لَغَيْرُهُ خَيْرٌ مِنْهُ، وَأَعْطَيْتُكَ لَمَا غَيْرُهُ خَيْرٌ مِنْهُ؛ أَيْ: مَا لَغَيْرُهُ خَيْرٌ مِنْهُ.

وَالثَّانِي مِنْهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: يَدْعُو تَأْكِيدٌ لِـ «يَدْعُوَ» فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: لَمَنْ ضَرُّهُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَجُمْلَةُ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ [22 \ 13] صِلَةُ الْمَوْصُولِ الَّذِي هُوَ «مِنْ» وَالْخَبَرُ هُوَ جُمْلَةُ: لَبِئْسَ الْمَوْلَى. وَهَذَا الْمَعْنَى كَقَوْلِ الْعَرَبِ: لَمَا فَعَلْتَ لَهُوَ خَيْرٌ لَكَ.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ لَمَّا ذَكَّرَ هَذَا الْوَجْهَ: وَاللَّامُ الثَّانِيَةُ فِي: لَبِئْسَ الْمَوْلَى جَوَابُ اللَّامِ الْأُولَى: قَالَ: وَهَذَا الْقَوْلُ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَصَحُّ، وَالْأَوَّلُ إِلَى مَذْهَبِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ أَقْرَبُ. اهـ.

وَالثَّالِثُ مِنْهَا أَنَّ مَنْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِـ «يَدْعُو» وَأَنَّ اللَّامَ دَخَلَتْ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، وَقَدْ عَزَا هَذَا لِبَعْضِ الْبَصْرِيِّينَ مَعَ نَقْلِهِ عَمَّنْ عَزَاهُ إِلَيْهِ أَنَّهُ شَاذٌّ. وَأَقْرَبُهَا عِنْدِي الْأَوَّلُ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ رحمه الله: وَلَمْ يَرَ مِنْهُ نَفْعًا أَصْلًا، وَلَكِنَّهُ قَالَ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ [22 \ 13] تَرْفِيعًا لِلْكَلَامِ: كَقَوْلِهِ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [34 \ 24] وَبَاقِي الْأَقْوَالِ فِي اللَّامِ الْمَذْكُورَةِ تَرَكْنَاهُ، لِعَدَمِ اتِّجَاهِهِ فِي نَظَرِنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَبِئْسَ الْمَوْلَى الْمَوْلَى: هُوَ كُلُّ مَا انْعَقَدَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ سَبَبٌ، يُوَالِيكَ وَتُوَالِيهِ بِهِ. وَالْعَشِيرُ: هُوَ الْمُعَاشِرُ، وَهُوَ الصَّاحِبُ وَالْخَلِيلُ.

وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَوْلَى وَالْعَشِيرِ الْمَذْمُومِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، هُوَ الْمَعْبُودُ الَّذِي كَانُوا يَدْعُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنَ السِّيَاقِ.

وَقَوْلُهُ: ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ [22 \ 12] ؛ أَيْ: الْبَعِيدُ عَنِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ. فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَوْجُهٌ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَبَعْضُهَا يَشْهَدُ لِمَعْنَاهُ قُرْآنٌ.

ص: 286

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى: مَنْ كَانَ مِنَ الْكَفَرَةِ الْحَسَدَةِ لَهُ صلى الله عليه وسلم يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ؛ أَيْ: أَنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ [22 \ 15] ؛ أَيْ: بِحَبْلٍ إِلَى السَّمَاءِ؛ أَيْ سَمَاءِ بَيْتِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ السَّقْفُ: لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي كُلَّ مَا عَلَاكَ سَمَاءٌ كَمَا قَالَ:

وَقَدْ يُسَمَّى سَمَاءً كُلُّ مُرْتَفِعٍ

وَإِنَّمَا الْفَضْلُ حَيْثُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ

كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ.

وَالْمَعْنَى: فَلْيَعْقِدْ رَأْسَ الْحَبْلِ فِي خَشَبَةِ السَّقْفِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ [22 \ 15] ؛ أَيْ: لِيَخْتَنِقْ بِالْحَبْلِ، فَيَشُدُّهُ فِي عُنُقِهِ، وَيَتَدَلَّى مَعَ الْحَبْلِ الْمُعَلَّقِ فِي السَّقْفِ حَتَّى يَمُوتَ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ الْقَطْعَ عَلَى الِاخْتِنَاقِ ; لِأَنَّ الِاخْتِنَاقَ يَقْطَعُ النَّفَسَ بِسَبَبِ حَبْسِ مَجَارِيهِ، وَلِذَا قِيلَ لِلْبُهْرِ وَهُوَ تَتَابُعُ النَّفَسِ: قَطْعٌ، فَلْيَنْظُرْ إِذَا اخْتَنَقَ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ؛ أَيْ: هَلْ يُذْهِبُ فِعْلُهُ ذَلِكَ مَا يَغِيظُهُ مَنْ نَصْرِ اللَّهِ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَالْمَعْنَى: لَا يُذْهِبُ ذَلِكَ الَّذِي فَعَلَهُ ذَلِكَ الْكَافِرُ الْحَاسِدُ مَا يَغِيظُهُ وَيُغْضِبُهُ مِنْ نَصْرِ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَسُمِّيَ فِعْلُهُ كَيْدًا ; لِأَنَّهُ وَضَعَهُ مَوْضِعَ الْكَيْدِ؛ حَيْثُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى غَيْرِهِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكِدْ بِهِ مَحْسُودَهُ، إِنَّمَا كَادَ بِهِ نَفْسَهُ، وَالْمُرَادُ: لَيْسَ فِي يَدِهِ إِلَّا مَا لَيْسَ بِمُذْهِبٍ لِمَا يَغِيظُهُ. اهـ مِنْهُ.

وَحَاصِلُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِحَاسِدِيهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِهِ الدَّوَائِرَ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ رَبَّهُ لَنْ يَنْصُرَهُ: مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ، فَهُوَ نَاصِرُهُ لَا مَحَالَةَ عَلَى رَغْمِ أُنُوفِكُمْ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ: مُجَاهِدٌ، وقَتَادَةُ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَطَاءٌ، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ، وَغَيْرُهُمْ. كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَهُوَ أَظْهَرُهَا عِنْدِي.

وَمِمَّا يَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْقُرْآنِ: قَوْلُهُ تَعَالَى. وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْحَالُ أَنَّ النَّصْرَ يَأْتِيهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ السَّمَاءِ، فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرْتَقِي بِذَلِكَ السَّبَبِ، حَتَّى يَصْعَدَ إِلَى السَّمَاءِ فَيَقْطَعَ نُزُولَ الْوَحْيِ مِنَ السَّمَاءِ، فَيَمْنَعَ النَّصْرَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم.

وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ وَإِنْ غَاظَهُ نَصْرُ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ. فَلَيْسَ لَهُ حِيلَةٌ، وَلَا قُدْرَةٌ عَلَى مَنْعِ النَّصْرِ ;

ص: 287

لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ الِارْتِقَاءَ إِلَى السَّمَاءِ وَمَنْعِ نُزُولِ النَّصْرِ مِنْهَا عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم: وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَمْدُدْ [22 \ 15]، وَقَوْلِهِ: ثُمَّ لِيَقْطَعْ لِلتَّعْجِيزِ فَلْيَنْظُرْ ذَلِكَ الْحَاسِدُ الْعَاجِزُ عَنْ قَطْعِ النَّصْرِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم: هَلْ يُذْهِبُ كَيْدُهُ إِذَا بَلَغَ غَايَةَ جَهْدِهِ فِي كَيْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، مَا يَغِيظُهُ مِنْ نَصْرِ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِنْ أَعْمَلَ كُلَّ مَا فِي وُسْعِهِ مِنْ كَيْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لِيَمْنَعَ عَنْهُ نَصْرَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يُذْهِبُ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُهُ مِنْ نَصْرِ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَمِمَّا يَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ [38 \ 10 - 11] وَقَدْ أَوْضَحْنَا مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ.

وَلِبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَوْلٌ ثَالِثٌ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَهُوَ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لَنْ يَنْصُرَهُ عَائِدٌ إِلَى «مَنْ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كَانَ يَظُنُّ [22 \ 15] وَأَنَّ النَّصْرَ هُنَا بِمَعْنَى الرِّزْقِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ؛ أَيْ: لَنْ يَرْزُقَهُ، فَلْيَخْتَنِقْ، وَلْيَقْتُلْ نَفْسَهُ؛ إِذْ لَا خَيْرَ فِي حَيَاةٍ لَيْسَ فِيهَا رِزْقُ اللَّهِ وَعَوْنُهُ، أَوْ فَلْيَخْتَنِقْ وَلْيَمُتْ غَيْظًا وَغَمًّا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُغَيِّرُ شَيْئًا مِمَّا قَضَاهُ اللَّهُ وَقَدَّرَهُ، وَالَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ قَالُوا: إِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الرِّزْقَ نَصْرًا، وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: وَقَفَ عَلَيْنَا سَائِلٌ مِنْ بَنِي بَكْرٍ، فَقَالَ: مَنْ يَنْصُرْنِي نَصَرَهُ اللَّهُ. يَعْنِي: مَنْ يُعْطِينِي أَعْطَاهُ اللَّهُ، قَالُوا: وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْعَرَبِ: أَرْضٌ مَنْصُورَةٌ؛ أَيْ: مَمْطُورَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ رَجُلٍ مِنْ بَنِي فَقْعَسٍ:

وَإِنَّكَ لَا تُعْطِي امْرَءًا فَوْقَ حَقِّهِ

وَلَا تَمْلِكُ الشِّقَّ الَّذِي الْغَيْثُ نَاصِرُهْ

؛ أَيْ: مُعْطِيهِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّه عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ ظَاهِرُ السُّقُوطِ، كَمَا تَرَى، وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الدِّينِ أَوِ الْكِتَابِ، لَا يُخَالِفُ قَوْلُهُمْ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الضَّمِيرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لِأَنَّ نَصْرَ الدِّينِ وَالْكِتَابِ هُوَ نَصْرُهُ صلى الله عليه وسلم كَمَا لَا يَخْفَى، وَنَصْرُ اللَّهُ لَهُ صلى الله عليه وسلم فِي الدُّنْيَا بِإِعْلَائِهِ كَلِمَتَهُ، وَقَهْرِهِ أَعْدَاءَهُ، وَإِظْهَارِ دِينِهِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِإِعْلَاءِ دَرَجَتِهِ، وَالِانْتِقَامِ مِمَّنْ كَذَّبَهُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [40 \ 51] فَإِنْ قِيلَ: قَرَّرْتُمْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي «يَنْصُرُهُ» عَائِدٌ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، فَكَيْفَ قَرَّرْتُمْ رُجُوعَ

ص: 288