الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِنْهُمْ بَعْضُ الشَّيْءِ فَإِنَّهُمْ يَتَدَارَكُونَهُ بِصِدْقِ الْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ حَتَّى يَبْلُغُوا بِذَلِكَ دَرَجَةً أَعَلَا مِنْ دَرَجَةِ مَنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ ذَلِكَ. كَمَا قَالَ هُنَا: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [20 \ 122] ،.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [20 \ 115] ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَانَا آدَمَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَيْسَ مِنَ الرُّسُلِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [46 \ 35]، وَهُمْ: نُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. وَقِيلَ: هُمْ جَمِيعُ الرُّسُلِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا أَيْ: لَمْ نَجِدْ لَهُ صَبْرًا عَنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ وَمُوَاظَبَةً عَلَى الْتِزَامِ الْأَمْرِ.
وَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ رَاجِعَةٌ إِلَى هَذَا، وَالْوُجُودُ فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ نَجِدْ قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، وَمَفْعُولَاهُ لَهُ عَزْمًا وَأَنْ يَكُونَ نَقِيضَ الْعَدَمِ. كَأَنَّهُ قَالَ: وَعِنْدَ مَنَالِهِ عَزْمًا اهـ مِنْهُ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ أَمَرَ الْمَلَائِكَةِ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى. أَيْ: أَبَى أَنْ يَسْجُدَ. فَذَكَرَ عَنْهُ هُنَا الْإِبَاءَ وَلَمْ يَذْكُرْ عَنْهُ هُنَا الِاسْتِكْبَارَ. وَذَكَرَ عَنْهُ الْإِبَاءَ أَيْضًا فِي «الْحِجْرِ» فِي قَوْلِهِ: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [15 \ 31] ،. وَقَوْلُهُ فِي آيَةِ «الْحِجْرِ» هَذِهِ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ يُبَيِّنُ مَعْمُولَ «أَبَى» الْمَحْذُوفَ فِي آيَةِ «طه» هَذِهِ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى [20 \
116]
، أَيْ: أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي «الْحِجْرِ» وَكَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي «الْأَعْرَافِ» فِي قَوْلِهِ: إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [7 \ 11]، وَذَكَرَ عَنْهُ فِي سُورَةِ «ص» الِاسْتِكْبَارَ وَحْدَهُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [38] ، وَذَكَرَ عَنْهُ الْإِبَاءَ، وَالِاسْتِكْبَارَ مَعًا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» فِي قَوْلِهِ: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [2] ،. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» سَبَبَ اسْتِكْبَارِهِ فِي زَعْمِهِ وَأَدِلَّةِ بُطْلَانِ شُبْهَتِهِ فِي زَعْمِهِ الْمَذْكُورِ. وَقَدْ بَيَّنَهَا فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» كَلَامُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ هَلْ أَصْلُهُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ لَا؟
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ صَرَّحَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ السُّجُودَ الْمَذْكُورَ سَجَدَهُ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ لَا بَعْضُهُمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ
فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ. [38 - 74] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي «الْكَهْفِ» فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَتَشْقَى أَيْ: فَتَتْعَبُ فِي طَلَبِ الْمَعِيشَةِ بِالْكَدِّ، وَالِاكْتِسَابِ. لِأَنَّهُ لَا يُحَصِّلُ لُقْمَةَ الْعَيْشِ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ حَتَّى يَحْرُثَ الْأَرْضَ، ثُمَّ يَزْرَعُهَا، ثُمَّ يَقُومُ عَلَى الزَّرْعِ حَتَّى يُدْرِكَ، ثُمَّ يَدْرُسُهُ، ثُمَّ يُنَقِّيهِ، ثُمَّ يَطْحَنُهُ، ثُمَّ يَعْجِنُهُ، ثُمَّ يَخْبِزُهُ. فَهَذَا شَقَاؤُهُ الْمَذْكُورُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّقَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: التَّعَبُ فِي اكْتِسَابِ الْمَعِيشَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهُ: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى [20 \ 118 - 119] ، يَعْنِي احْذَرْ مِنْ عَدُوِّكَ أَنْ يُخْرِجَكَ مِنْ دَارِ الرَّاحَةِ الَّتِي يُضْمَنُ لَكَ فِيهَا الشِّبَعُ، وَالرِّيُّ، وَالْكُسْوَةُ، وَالسَّكَنُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ هِيَ الْأَقْطَابُ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا كَفَافُ الْإِنْسَانِ، فَذِكْرُهُ اسْتِجْمَاعَهَا لَهُ فِي الْجَنَّةِ، وَأَنَّهُ مَكْفِيٌّ لَا يَحْتَاجُ إِلَى كِفَايَةِ كَافٍ، وَلَا إِلَى كَسْبِ كَاسِبٍ كَمَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ أَهْلُ الدُّنْيَا. وَذِكْرُهَا بِلَفْظِ النَّفْيِ لِنَقَائِضِهَا الَّتِي هِيَ الْجُوعُ، وَالْعُرْيُ، وَالظَّمَأُ، وَالضَّحْوُ لِيَطْرُقَ سَمْعَهُ بِأَسَامِي أَصْنَافِ الشِّقْوَةِ الَّتِي حَذَّرَهُ مِنْهَا، حَتَّى يَتَحَامَى السَّبَبَ الْمُوقِعَ فِيهَا كَرَاهَةً لَهَا اهـ.
فَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى [20 \ 118] ، قَرِينَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ الشَّقَاءَ الْمُحَذَّرَ مِنْهُ تَعَبُ الدُّنْيَا فِي كَدِّ الْمَعِيشَةِ لِيَدْفَعَ بِهِ الْجُوعَ، وَالظَّمَأَ، وَالْعُرْيَ، وَالضَّحَاءَ. وَالْجُوعُ مَعْرُوفٌ، وَالظَّمَأُ: الْعَطَشُ. وَالْعُرْيُ بِالضَّمِّ: خِلَافُ اللُّبْسِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَا تَضْحَى أَيْ: لَا تَصِيرُ بَارِزًا لِلشَّمْسِ، لَيْسَ لَكَ مَا تَسْتَكِنُّ فِيهِ مِنْ حَرِّهَا. تَقُولُ الْعَرَبُ: ضَحِيَ يَضْحَى، كَرَضِيَ يَرْضَى. وَضَحَى يَضْحَى كَسَعَى يَسْعَى إِذَا كَانَ بَارِزًا لِحَرِّ الشَّمْسِ لَيْسَ لَهُ مَا يَكِنُّهُ مِنْهُ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ:
رَأَتْ رَجُلًا أَيْمًا إِذَا الشَّمْسُ عَارَضَتْ
…
فَيَضَحَى وَأَمَّا بِالْعَشِيِّ فَيَنْحَصِرْ
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
ضَحِيتُ لَهُ كَيْ أَسْتَظِلَّ بِظِلِّهِ
…
إِذَا الظِّلُّ أَضْحَى فِي الْقِيَامَةِ قَالِصًا
وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ مَا عَدَا نَافِعًا وَشُعْبَةَ عَنْ عَاصِمٍ وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ بِفَتْحِ هَمْزَةِ «أَنْ» ، وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ «أَنْ» وَصِلَتِهَا مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْ «أَنْ» وَصِلَتِهَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ أَيْ: وَإِنَّ لَكَ أَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى. وَيَجُوزُ فِي الْمَصْدَرِ الْمَعْطُوفِ الْمَذْكُورِ النَّصْبُ، وَالرَّفْعُ، كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَجَائِزٌ رَفْعُكَ مَعْطُوفًا عَلَى
…
مَنْصُوبِ إِنَّ بَعْدَ أَنْ تَسْتَكْمِلَا
وَإِيضَاحُ تَقْدِيرِ الْمَصْدَرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ: إِنَّ لَكَ عَدَمَ الْجُوعِ فِيهَا، وَعَدَمَ الظَّمَأِ.
تَنْبِيهٌ
أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وُجُوبَ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا قَالَ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ [20 \ 117] ، بِخِطَابٍ شَامِلٍ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ، ثُمَّ خَصَّ آدَمَ بِالشَّقَاءِ دُونَهَا فِي قَوْلِهِ فَتَشْقَى دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُكَلَّفُ بِالْكَدِّ عَلَيْهَا وَتَحْصِيلِ لَوَازِمِ الْحَيَاةِ الضَّرُورِيَّةِ لَهَا: مِنْ مَطْعَمٍ، وَمَشْرَبٍ، وَمَلْبَسٍ، وَمَسْكَنٍ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَا نَصُّهُ: وَإِنَّمَا خَصَّهُ بِذِكْرِ الشَّقَاءِ وَلَمْ يَقُلْ فَتَشْقَيَا يُعَلِّمُنَا أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ عَلَى الزَّوْجِ، فَمِنْ يَوْمئِذٍ جَرَتْ نَفَقَةُ النِّسَاءِ عَلَى الْأَزْوَاجِ. فَلَمَّا كَانَتْ نَفَقَةُ حَوَّاءَ عَلَى آدَمَ كَذَلِكَ نَفَقَاتُ بَنَاتِهَا عَلَى بَنِي آدَمَ بِحَقِّ الزَّوْجِيَّةِ. وَأَعْلَمَنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ النَّفَقَةَ الَّتِي تَجِبُ لِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ: الطَّعَامُ، وَالشَّرَابُ، وَالْكُسْوَةُ، وَالْمَسْكَنُ. فَإِذَا أَعْطَاهَا هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ فَقَدْ خَرَجَ إِلَيْهَا مِنْ نَفَقَتِهَا، فَإِنْ تَفَضَّلَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ مَأْجُورٌ. فَأَمَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ فَلَا بُدَّ مِنْهَا. لِأَنَّ بِهَا إِقَامَةَ الْمُهْجَةِ اهـ مِنْهُ.
وَذَكَرَ فِي قِصَّةِ آدَمَ: أَنَّهُ لَمَّا أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ أُهْبِطَ إِلَيْهِ ثَوْرٌ أَحْمَرُ وَحَبَّاتٌ مِنَ الْجَنَّةِ، فَكَانَ يَحْرُثُ عَلَى ذَلِكَ الثَّوْرِ وَيَمْسَحُ الْعَرَقَ عَنْ جَبِينِهِ وَذَلِكَ مِنَ الشَّقَاءِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنَ الْبَدِيعِ الْمَعْنَوِيِّ فِي اصْطِلَاحِ الْبَلَاغِيِّينَ، هُوَ مَا يُسَمَّى «مُرَاعَاةَ النَّظِيرِ» ، وَيُسَمَّى «التَّنَاسُبَ، وَالِائْتِلَافَ. وَالتَّوْفِيقَ، وَالتَّلْفِيقَ» . فَهَذِهِ كُلُّهَا أَسْمَاءٌ لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْبَدِيعِ الْمَعْنَوِيِّ. وَضَابِطُهُ: أَنَّهُ جَمْعُ أَمْرٍ وَمَا يُنَاسِبُهُ لَا بِالتَّضَادِّ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ [55 \ 5] ، فَإِنَّ الشَّمْسَ، وَالْقَمَرَ مُتَنَاسِبَانِ
لَا بِالتَّضَادِّ. وَكَقَوْلِ الْبُحْتُرِيَّ يَصِفُ الْإِبِلَ الْأَنْضَاءَ الْمَهَازِيلَ، أَوِ الرِّمَاحَ:
كَالْقِسِيِّ الْمُعَطَّفَاتِ بَلِ
…
الْأَسْهُمِ مَبْرِيَّةٍ بَلِ الْأَوْتَارِ
وَبَيْنَ الْأَسْهُمِ، وَالْقِسِيِّ الْمُعَطَّفَاتِ، وَالْأَوْتَارِ مُنَاسَبَةٌ فِي الرِّقَّةِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَرَقَّ مِنْ بَعْضٍ، وَهِيَ مُنَاسِبَةٌ لَا بِالتَّضَادِّ. وَكَقَوْلِ ابْنِ رَشِيقٍ:
أَصَحُّ وَأَقْوَى مَا سَمِعْنَاهُ فِي النَّدَى
…
مِنَ الْخَبَرِ الْمَأْثُورِ مُنْذُ قَدِيمِ
أَحَادِيثُ تَرْوِيهَا السُّيُولُ عَنِ الْحَيَا
…
عَنِ الْبَحْرِ عَنْ كَفِّ الْأَمِيرِ تَمِيمِ
فَقَدْ نَاسَبَ بَيْنَ الصِّحَّةِ، وَالْقُوَّةِ، وَالسَّمَاعِ، وَالْخَبَرِ الْمَأْثُورِ، وَالْأَحَادِيثِ، وَالرِّوَايَةِ، وَكَذَا نَاسَبَ بَيْنَ السَّيْلِ، وَالْحَيَا وَهُوَ الْمَطَرُ، وَالْبَحْرِ وَكَفِّ الْأَمِيرِ تَمِيمٍ، وَكَقَوْلِ أُسَيْدِ بْنِ عَنْقَاءَ الْفَزَارِيِّ:
كَأَنَّ الثُّرَيَّا عُلِّقَتْ فِي جَبِينِهِ
…
وَفِي خَدِّهِ الشِّعْرَى وَفِي وَجْهِهِ الْبَدْرُ
فَقَدْ نَاسَبَ بَيْنَ الثُّرَيَّا، وَالشِّعْرَى، وَالْبَدْرِ، كَمَا نَاسَبَ بَيْنَ الْجَبِينِ، وَالْوَجْنَةِ، وَالْوَجْهِ. وَأَمْثِلَةُ هَذَا النَّوْعِ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي فَنِّ الْبَلَاغَةِ.
وَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَاسَبَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي قَوْلِهِ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى بَيْنَ نَفْيِ الْجُوعِ الْمُتَضَمِّنِ لِنَفْيِ الْحَرَارَةِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَالْأَلَمِ الْبَاطِنِيِّ الْوِجْدَانِيِّ، وَبَيْنَ نَفْيِ الْعُرْيِ الْمُتَضَمِّنِ لِنَفْيِ الْأَلَمِ الظَّاهِرِيِّ مِنْ أَذَى الْحَرِّ، وَالْبَرْدِ، وَهِيَ مُنَاسِبَةٌ لَا بِالتَّضَادِّ. كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى نَاسَبَ فِي قَوْلِهِ وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى بَيْنَ نَفْيِ الظَّمَأِ الْمُتَضَمِّنِ لِنَفْيِ الْأَلَمِ الْبَاطِنِيِّ الْوِجْدَانِيِّ الَّذِي يُسَبِّبُهُ الظَّمَأُ. وَبَيْنَ نَفْيِ الضُّحَى الْمُتَضَمِّنِ لِنَفْيِ الْأَلَمِ الظَّاهِرِيِّ الَّذِي يُسَبِّبُهُ حَرُّ الشَّمْسِ وَنَحْوُهُ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ.
بِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ مَا يُسَمَّى قَطْعَ النَّظِيرِ عَنِ النَّظِيرِ، وَأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ قَطْعِ النَّظِيرِ عَنِ النَّظِيرِ الْمَزْعُومِ تَحْقِيقُ تَعْدَادِ هَذِهِ النِّعَمِ وَتَكْثِيرِهَا. لِأَنَّهُ لَوْ قَرَنَ النَّظِيرَ بِنَظِيرِهِ لَأَوْهَمَ أَنَّ الْمَعْدُودَاتِ نِعْمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلِهَذَا قَطَعَ الظَّمَأَ عَنِ الْجُوعِ، وَالضَّحْوَ عَنِ الْكُسْوَةِ، مَعَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنَ التَّنَاسُبِ. وَقَالُوا: وَمِنْ قَطْعِ النَّظِيرِ عَنِ النَّظِيرِ الْمَذْكُورِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
كَأَنِّيَ لَمْ أَرْكَبْ جَوَادًا لِلَذَّةٍ
…
وَلَمْ أَتَبَطَّنْ كَاعِبًا ذَاتَ خَلْخَالِ
وَلَمْ أَسْبَأِ الزِّقَ الرَّوِيَّ وَلَمْ أَقُلْ
…
لِخَيْلٍ كُرِّي كَرَّةً بَعْدَ إِجْفَالِ
فَقَطَعَ رُكُوبَ الْجَوَادِ مِنْ قَوْلِهِ «لِخَيْلٍ كُرِّي كَرَّةً» وَقَطَعَ «تَبَطُّنَ الْكَاعِبِ» عَنْ