المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

مال أو جاه، ولا منع زكاة ماله؛ بل أدى حق - القناعة مفهومها منافعها الطريق إليها

[إبراهيم الحقيل]

الفصل: مال أو جاه، ولا منع زكاة ماله؛ بل أدى حق

مال أو جاه، ولا منع زكاة ماله؛ بل أدى حق الله فيه فرضًا وندبًا، مع محافظةٍ على الفرائض، واجتناب للمحرمات. إن ربح شكر، وإن خسر رضي؛ فهذا قنوع وإن ملك مال قارون. وكم من مستور يجد كفافًا؛ ملأ الطمع قلبه حتى لم يرضه ما قُسِم له! فجزع من رزقه، وغضب على رازقه، وبث شكواه للناس، وارتكب كل طريق محرم حتى يغني نفسه؛ فهذا منزوع القناعة وإن كان لا بملك درهمًا ولا فلسًا.

[فوائد القناعة]

فوائد القناعة إن للقناعة فوائد كثيرة تعود على المرء بالسعادة والراحة والأمن والطمأنينة في الدنيا، ومن تلك الفوائد:

1 -

امتلاء القلب بالإيمان بالله- سبحانه تعالى- والثقة به، والرضى بما قدر وقَسَم، وقوة اليقين بما عنده- سبحانه وتعالى ذلك أن من قنع برزقه فإنما هو مؤمن ومتيقن بأن الله- تعالى- قد ضمن أرزاق العباد وقسمها بينهم حتى ولو كان ذلك القانع لا يملك شيئًا.

يقول ابن مسعود رضي الله عنه "إن أرجى ما أكون للرزق إذا قالوا: ليس في البيت دقيق ".

وقال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى-: "أسرُّ أيامي إليَّ يوم أصبح وليس عندي شيء ".

وقال الفضيل بن عياض - رحمه الله تعالى-: "أصل الزهد

ص: 7

الرضى من الله- عز وجل".

وقال أيضًا: "القُنُوع هو الزهد وهو الغنى".

وقال الحسن - رحمه الله تعالى-: "إن من ضعف يقينك أن تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله- عز وجل"(1) .

2 -

الحياة الطيبة: قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] فَسر الحياة الطيبة علي وابن عباس والحسن رضي الله عنهم فقالوا: "الحياة الطيبة هي القناعة"(2) وفي هذا المعنى قال ابن الجوزي - رحمه الله تعالى-: "من قنع طاب عيشه، ومن طمع طال طيشه "(3) .

3 -

تحقيق شكر المنعم- سبحانه وتعالى ذلك أن من قنع برزقه شكر الله- تعالى- عليه، ومن تقالّه قصَّر في الشكر، وربما جزع وتسخط- والعياذ بالله- ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كن ورعا تكن

(1) انظر هذه الآثار في جامع العلوم والحكم (2 / 147) شرح حديث رقم (31) .

(2)

أخرجه عن علي والحسن الطبري في تفسيره (14 / 17) عند تفسير الآية (97) من سورة النحل، وأخرجه الحاكم عن ابن عباس وصححه ووافقه الذهبي (2 / 356) .

(3)

نزهة الفضلاء ترتيب سير أعلام النبلاء (1504) .

ص: 8

أعبد الناس، وكن قنعًا تكن أشكر الناس» (1) .

ومن تسخط من رزقه فإنما هو يسخط على من رزقه، ومن شكا قلّته للخلق فإنما هو يشكو خالقه- سبحانه وتعالى للخلق. وقد شكا رجل إلى قوم ضيقًا في رزقه فقال له بعضهم:"شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك"(2) .

4 -

الفلاح والبشرى لمن قنع: فعن فضالة بن عبيد- رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "طوبى لمن هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافًا، وقنع"(3) وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا، وقنعه الله بما آتاه» (4) .

5 -

الوقاية من الذنوب التي تفتك بالقلب وتذهب الحسنات:

كالحسد، والغيبة، والنميمة، والكذب، وغيرها من الخصال الذميمة والآثام العظيمة؛ ذلك أن الحامل على الوقوع في كثير من

(1) أخرجه ابن ماجه (4217) ، والبيهقي في الزهد الكبير (818) ، وأبو نعيم في الحلية (10 / 365) ، وحسنه البوصيري في الزوائد (3 / 300) .

(2)

عيون الأخبار لابن قتيبة (3 / 206) .

(3)

أخرجه أحمد (6 / 19)، والترمذي (2249) وقال: حسن صحيح والحاكم وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي (1 / 34) .

(4)

أخرجه مسلم (1054) ، والترمذي (2349) .

ص: 9

تلك الكبائر غالبًا ما يكون استجلاب دنيا أو دفع نقصها. فمن قنع برزقه لا يحتاج إلى ذلك الإثم، ولا يداخل قلبه حسد لإخوانه على ما أوتوا؛ لأنه رضي بما قسم له.

قال ابن مسعود رضي الله عنه "اليقين ألا ترضي الناس بسخط الله؛ ولا تحسد أحدًا على رزق الله، ولا تلم أحدًا على ما لم يؤتك الله؛ فإن الرزق لا يسوقه حرص حريص، ولا يرده كراهة كاره؛ فإن الله تبارك وتعالى بقسطه وعلمه وحكمته جعل الرَّوْح (1) والفرح في اليقين والرضى، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط"(2) .

وقال بعض الحكماء: "وجدت أطول الناس غما الحسود، وأهنأهم عيشًا القنوع "(3) .

6 -

حقيقة الغنى في القناعة: ولذا رزقها الله- تعالى- نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وامتن عليه بها فقال- تعالى- {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] فقد نزلها بعض العلماء على غنى النفس؛ لأن الآية مكية، ولا يخفى ما كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تفتح عليه خيبر

(1) أي: الراحة. انظر: القاموس (282) مادة (روح) .

(2)

أخرجه ابن أبي الدنيا في اليقين (118) .

(3)

القناعة لابن السني (58) عن موسوعة نضرة النعيم (3173) .

ص: 10

وغيرها من قلة المال (1) .

وذهب بعض المفسرين إلى أن الله- تعالى- جمع له الغنائين: غنى القلب، وغنى المال بما يسر له من تجارة خديجة.

وقد بين- عليه الصلاة والسلام أن حقيقة الغنى غنى القلب فقال صلى الله عليه وسلم: «ليس الغنى عن كثرة العَرَض ولكن الغنى غنى النفس» (2) .

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر، أترى كثرة المال هو الغنى؟ " قلت: نعم يا رسول الله، قال: "فترى قلة المال هو الفقر؟ " قلت: نعم يا رسول الله. قال: "إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب» . الحديث (3) .

وتلك حقيقة لا مرية فيها؛ فكم من غني عنده من المال ما يكفيه وولدَه، ولو عُمِّر ألف سنة؛ يخاطر بدينه وصحته، ويضحي بوقته يريد المزيد! وكم من فقير يرى أنه أغنى الناس؛ وهو لا يجد قوت غدِه! فالعلة في القلوب: رضًى وجزعًا، واتساعًا وضيقًا، وليست في الفقر والغنى.

ولأهمية غنى القلب في صلاح العبد قام عمر بن الخطاب -

(1) انظر: فتح الباري لابن حجر العسقلاني (11 / 277) .

(2)

أخرجه البخاري (6446) ، ومسلم (1051) .

(3)

أخرجه ابن حبان في صحيحه (685) .

ص: 11

رضي الله عنه خطيبًا في الناس على المنبر يقول: "إن الطمع فقر، لان اليأس غنى، وإن الإنسان إذا أيس من الشيء استغنى عنه "(1) .

وأوصى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ابنه فقال: "يا بني، إذا طلبت الغنى فاطلبه بالقناعة؛ فإنها مال لا ينفد"(2) .

وسئل أبو حازم فقيل له: "ما مالك؟ " قال: "لي مالان لا أخشى معهما الفقر: الثقة بالله، واليأس مما في أيدي الناس"(3) .

وقيل لبعض الحكماء: "ما الغنى؟ " قال: "قلة تمنيك، ورضاك بما يكفيك"(4) .

7 -

العز في القناعة، والذل في الطمع: ذلك أن القانع لا يحتاج إلى الناس فلا يزال عزيزًا بينهم، والطماع يذل نفسه من أجل المزيد؛ ولذا جاء في حديث سهل بن سعد مرفوعًا:«شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس» (5) .

وكان محمد بن واسع - رحمه الله تعالى- يبل الخبز اليابس

(1) أخرجه أحمد في الزهد (117) ، وأبو نعيم في الحلية (1 / 50) .

(2)

عيون الأخبار (3 / 207) .

(3)

الحلية لأبي نعيم (3 / 231) .

(4)

إحياء علوم الدين (4 / 212) عن: نضرة النعيم (3174) .

(5)

أخرجه أبو نعيم في الحلية (3 / 253) والقضاعي في مسند الشهاب (151) والحاكم وصححه (4 / 324) .

ص: 12

بالماء ويأكله ويقول: "من قنع بهذا لم يحتج إلى أحد"(1) .

وقال الحسن - رحمه الله تعالى-: "لا تزال كريمًا على الناس، ولا يزال الناس يكرمونك ما لم تَعَاطَ ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك استخفوا بك وكرهوا حديثك وأبغضوك "(2) .

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "وقد تكاثرت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بالاستعفاف عن مسألة الناس، والاستغناء عنهم؛ فمن سأل الناس ما بأيدهم كرهوه وأبغضوه؛ لأن المال محبوب لنفوس بني آم، فمن طلب منهم ما يحبونه كرهوه لذلك "(3) .

والإمامة في الدين، والسيادة والرفعة لا يحصلها المرء إلا إذا استغنى عن الناس، واحتاج الناس إليه في العلم والفتوى والوعظ.

قال أعرابي لأهل البصرة: "من سيد أهل هذه القرية؟ " قالوا: " الحسن "، قال:"بم سادهم؟ " قالوا: "احتاج الناس إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم"(4) .

(1) إحياء علوم الدين (3 / 293) .

(2)

الحلية (3 / 20) .

(3)

جامع العلوم والحكم (2 / 168) .

(4)

جامع العلوم والحكم (2 / 169) .

ص: 13