الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَسَرك اللحاق به ".
4 -
أن يجمع المال ويطلب المكاثرة استحلاء لجمعه، وشغفا باحتجانه، فهذا أسوأ الناس حالا فيه، وأشدهم حرمانا له، قد توجهت إليه سائر الملاوم، وفي مثله قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34](1) .
[السبيل إلى القناعة]
السبيل إلى القناعة التزام القناعة عسير على بني آدم- إلا من وفقه الله للهدى وكفاه شر نفسه وشحها وطمعها- لأن بني آدم مفطورون على محبة التملك والتمون؛ ولكن مجاهدة النفس مطلوبة لتخفيف طمعها وتقريبها من الزهد والقناعة ولذلك طرق إذا سلكها العبد مع إخلاصه تحققت له القناعة بإذن الله تعالى، فمن ذلك
1 -
تقوية الإيمان بالله تعالى، وترويض القلب على القناعة والغنى؛ فإن حقيقة الفقر والغنى تكون في القلب؛ فمن كان غني القلب نعم بالسعادة وتحلى بالرضى، وإن كان لا يجد قوت يومه، ومن كان فقير القلب؛ فإنه لو ملك الأرض ومن عليها إلا درهما
(1) مختصرا من أدب الدنيا والدين (317- 324) .
واحدا لرأى أن غناه في ذلك الدرهم؛ فلا يزال فقيرًا حتى يناله
2 -
اليقين بأن الرزق مكتوب والإنسان في رحم أمه، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه وفيه ثم يبعث إليه الملك فيؤذن بأربع كلمات، فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد (1) فالعبد مأمور بالسعي والاكتساب مع اليقين بأن الله هو الرازق وأن رزقه مكتوب
3 -
تدبر آيات القرآن العظيم ولا سيما الآيات التي تتحدث عن قضية الرزق والاكتساب يقول عامر بن عبد قيس أربع آيات من كتاب الله إذا قرأتهن مساء لم أبال على ما أمسي، وإذا تلوتهن صباحًا لم أبال على ما أصبح {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2] وقوله تعالى {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [يونس: 107] وقوله تعالي {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6] وقوله تعالى {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7](2)
(1) أخرجه أحمد (1 / 382) ، والبخاري واللفظ له (7454) ، ومسلم (2643) .
(2)
عيون الأخبار (3 / 206) .
4 -
معرفة حكمة الله- سبحانه وتعالى في تفاوت الأرزاق والمراتب بين العباد؛ حتى تحصل عمارة الأرض، ويتبادل الناس المنافع والتجارات، ويخدم بعضهم بعضًا قال الله تعالى {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32] وقال تعالى {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام: 165]
5 -
الإكثار من سؤال الله- سبحانه وتعالى القناعة، والإلحاح بالدعاء في ذلك فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو أكثر الناس قناعة وزهدًا ورضى، وأقواهم إيمانًا ويقينًا؛ كان يسأل ربه القناعة فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو «اللهم قنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف على كل غائبة لي بخير» (1) .
ولأجل قناعته صلى الله عليه وسلم فإنه ما كان يسأل ربه إلا الكفاف من العيش، والقليل من الدنيا كما قال- عليه الصلاة والسلام «اللهم اجعل
(1) أخرجه السهمي في تاريخ جرجان برقم (50) والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (2 / 356) .
رزق آل محمد قوتًا» (1) .
6 -
العلم بأن الرزق لا يخضع لمقاييس البشر من قوة الذكاء، وكثرة الحركة، وسعة المعارف، وإن كان بعضها أسبابًا؛ إلا أن الرزق ليس معلقًا بها بالضرورة وهذا يجعل العبد أكثر قناعة خاصة عندما يرى من هو أقل منه خبرة وذكاء أو غير ذلك وأكثر منه رزقا فلا يحسده ولا يتبرم من رزقه
7 -
النظر إلى حال من هو أقل منك في أمور الدنيا، وعدم النظر إلى من هو فوقك فيها؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم «انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله» (2) وفي لفظ آخر قال- عليه الصلاة والسلام «إذا رأى أحدكم من فوقه في المال والحسب فلينظر إلى من هو دونه في المال والحسب» (3) .
وليس في الدنيا أحد لا يجد من هو أفضل منه في شيء، ومن هو أقل منه في أشياء؛ فإن كنت فقيرا ففي الناس من هو أفقر منك! وإن كنت مريضًا أو معذبا ففيهم من هو أشد منك مرضا وأكثر
(1) أخرجه البخاري (6460) ، ومسلم (1055) ، والترمذي (2362) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (6490) ، ومسلم واللفظ له (2963) .
(3)
هذه الرواية لابن حبان في صحيحه (714) .
تعذيبًا، فلماذا ترتفع رأسك لتنظر من هو فوقك، ولا تخفضه لتبصر من هو تحتك؟!
إن كنت تعرف من نال من المال والجاه ما لم تنله أنت وهو دونك ذكاءً ومعرفة وخلقًا، فلم لا تذكر من أنت دونه أو مثله في ذلك كله وهو لم ينل بعض ما نلت؟! (1) .
8 -
قراءة سير السلف الصالح وأحوالهم مع الدنيا، وزهدهم فيها، وقناعتهم بالقليل منها، وهم قد أدركوا الكثير منها فرفضوه إيثارا للباقية على العاجلة وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم، وإخوانه من الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- ثم الصحابة الكرام- رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان؛ فإن معرفة أحوالهم، وكيف كانت حياتهم ومعيشتهم تحفز العبد إلى التأسي بهم، وترغبه في الآخرة، وتقلل عنده زخرف الحياة الدنيا ومُتَعِها الزائلة
9 -
العلم بأن عاقبة الغنى شر ووبال على صاحبه إذا لم يكن الاكتساب والصرف منه بالطرق المشروعة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لا «تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه» (2) فمشكلة المال أن الحساب عليه من جهتين جهة
(1) مع الناس للشيخ علي الطنطاوي (58) .
(2)
أخرجه الترمذي، وقال: حسن صحيح (2419) .
الاكتساب ثم جهة الإنفاق، وهذا ما يجعل تبعته عظيمة، وعاقبته وخيمة إلا من اتقى الله فيه وراعى حدود الله اكتسابًا وإنفاقًا
ثم ليتفكر في أنه كلما تَخفف من هذا المال وكان أقل كان حسابه أيسر، وأسرع، وذلك كمن سافر في الطائرة وحمل متاعا كثيرًا؛ فإنه إذا بلغ مقصده احتاج وقتًا طويلًا لاستلامه وتفتيشه بخلاف من كان خفيفًا ليس معه شيء، وحساب الآخرة أعسر، والوقوف فيها أطول
ولينظر أيضا إلى من كان المال والجاه سبب شقائه وأمراضه وهمومه وغمومه؛ فهو يشقى ويتعب في جمع المال ونيل المناصب، ثم يحمل هم الحفاظ على المال والمنصب فيقضي عمره مهتمًا مغتما
ثم انظر ماذا يحدث له إذا خسر ماله أو أقيل من منصبه! وكم من شخص كان ذلك سببا في هلاكه وعطبه! نسأل الله العافية
10 -
النظر في التفاوت البسيط بين الغني والفقير على وجه التحقيق؛ فالغني لا ينتفع إلا بالقليل من ماله، وهو ما يسد حاجته وما فَضَلَ عن ذلك فليس له، وإن كان يملكه فلو نظرنا إلى أغنى رجل في العالم لا نجد أنه يستطيع أن يأكل من الطعام أكثر مما يأكل متوسط الحال أو الفقير؛ بل ربما كان الفقير أكثر منه!!
وبعبارة أخرى هل يستطيع الغني أن يشتري مائة وجبة فيأكلها في آن واحد، أو مائة ثوب فيلبسها في آن واحد؛ أو ألف مركبة فيركبها
في آن واحد؛ أو مائة دار فيسكنها في وقت واحد؟! كلا؛ بل له من الطعام في اليوم ثلاث وجبات تزيد قليلًا أو تنقص، وللمستور كذلك مثله، وله من اللباس ثلاث قطع تزيد قليلًا أو تنقص، ولا يستهلك من الأرض في وقت واحد إلا مترا في مترين سواء كان قائما أم قاعدا أم مضطجعًا، فعلامَ يحسد وهو سيحاسب على كل ما يملك؟!
وقد فهم هذا المعنى حكيم هذه الأمة أبو الدرداء رضي الله عنه حينما قال أهل الأموال يأكلون ونأكل، ويشربون ونشرب، ويلبسون ونلبس، ويركبون ونركب، ولهم فضول أموال ينظرون إليها وننظر إليها معهم، وحسابهم عليها ونحن منها برَاء وقال أيضًا الحمد لله الذي جعل الأغنياء يتمنون أنهم مثلنا عند الموت، ولا نتمنى أننا مثلهم حينئذ، ما أنصفنا إخواننا الأغنياء يحبوننا على الدين، ويعادوننا على الدنيا (1) .
بل جاء هذا المعنى في السنة النبوية، قال عبد الله بن الشخير رضي الله عنه «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1] يقول: "يقول ابن آدم: مالي مالي! وهل لك يا ابن آم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟» (2) .
(1) سير أعلام النبلاء (2 / 350- 351) .
(2)
أخرجه مسلم (2958) .
إن القانع قد لا ينال من الطعام أطيبه، ولا من اللباس أحسنه، ولا من العيش أرغده؛ ولكنه ينعم بالرضى أكثر من الطماع وإن كان الطماع أرغد عيشا منه؛ لأن القانع ينظر إلى الموسر وما يملك، فيراه لا ينتفع إلا بقليل مما يملك؛ لكنه سيحاسب عن كل ما يملك.
ثم ليعلم العاقل أن كل حال إلى زوال، فلا يفرح غني حتى يطغى ويبطر، ولا ييأس فقير حتى يعصي ويكفر، فإنه لا فقر يدوم ولا غنى يدوم!! وكم من رجال نشؤوا على فرش حرير وشربوا بكؤوس الذهب، وورثوا كنوز المال، وأذلوا أعناق الرجال، وتعبدَوا الأحرار! فما ماتوا حتى اشتهوا فراشًا خشنا يقي الجنب عض الأرض، ورغيفًا من خبز يحمي البطن من قرص الجوع!! وآخرون قاسوا المحن البلايا، وذاقوا الألم والحرمان، وطووا الليالي بلا طعام! فما ماتوا حتى ازدحمت عليهم النعم، وتكاثرت الخيرات، وصاروا من سراة الناس!! وسيسوي الموت بين الأحياء جميعا: الغني والفقير؛ فدود الأرض لا يفرق بين المالك والأجير، ولا بين الصعلوك والأمير ولا بين الكبير والصغير، فلا يجزع فقير بفقره، ولا يبطر غني بغناه (1) وما أجمل القناعة! من التزمها نال السعادة، وما أحوج أهل العلم والدعوة للتحلي بها؛ حتى يكونوا أعلام هدى ومصابيح دجى. ولو تحلى بها العامة
(1) باختصار وتصرف يسير من: مع الناس (61) .
لزالت منهم الضغائن. والأحقاد، وحفت بينهم الألفة والمودة؛ إذ أكثر أسباب الخلاف والشقاق بين الناس بسبب الدنيا والتنافس عليها، وما ضعف الدين في القلوب إلا من مزاحمة الدنيا له، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال:«والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم؛ كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم» (1) فهل من مدّكر؟ وهل من معتبر يجعل ما يملك من دنيا في يديه، ويحاذر أن تقترب إلى قلبه فتفسده؟
«ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» (2) .
أسأل الله تعالى أن يرزقنا القناعة بما رزقنا، وأن يجعل حسابنا يسيرا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا ونياتنا، إنه سميع مجيب. والحمد لله رب العالمين (3) .
(1) أخرجه البخاري (6425) ، ومسلم (2961) .
(2)
جزء من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أخرجه البخاري (2051) ، ومسلم (1599) .
(3)
أصل هذه الرسالة مقالتان نشرتا في مجلة البيان في العددين (141-142) .