الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
روى أبو نعيم في الحلية عن علي بن الحسين زين العابدين رحمه الله تعالى أنه قال: التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كنابذ كتاب الله وراء ظهره، إلا أن يتقي تقاة. قيل: ما تقاته؟ قال: يخاف جبارًا عنيدًا أن يفرط عليه، أو أن يطغى.
فصل [في بيان أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة من الكبائر]
وقد عد ابن حجر الهيثمي ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة من الكبائر، ونقل ذلك عن بعض الشافعية.
ونقله الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره عن بعض الشافعية أيضًا وهو متجه، والدليل على ذلك ما جاء من الوعيد الشديد على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة، وقد تقدم ذكر الآيات والأحاديث في ذلك، ولله الحمد والمنة.
فصل في تفنيد الاحتجاج بقوله تعالى: {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وقد يحتج بعض المداهنين على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ، ولا حجة لهم فيها، لما رواه أهل السنن إلا النسائي عن أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني رضي الله عنه فقلت له: كيف تصنع في هذه الآية، قال:
أية آية قلت: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} قال أما والله، لقد سألت خبيرًا، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعًا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام من ورائكم أيامًا الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم» قيل: يا رسول الله، أجر خمسين رجلا منا، أو منهم قال:«لا، بل خمسين رجلا منكم» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وزاد ابن ماجة بعد قوله: وإعجاب «كل ذي رأي برأيه» «ورأيت أمرًا لا يدان لك به فعليك بخاصة نفسك» .
وقد رواه ابن جرير وابن أبي حاتم والبغوي في تفاسيرهم ورواه الحاكم في مستدركه، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
قوله: «ورأيت أمرًا لا يدان لك به» يعني: لا قدرة لك، ولا طاقة بتغييره.
قال الجوهري: ما لي بفلان يدان، أي: طاقة.
وقال ابن الأثير: يقال: ما لي بهذا الأمر يد، ولا يدان؛ لأن المباشرة والدفاع إنما يكون باليد، فكان يديه معدومتان لعجزه عن دفعه، وكذا قال ابن منظور في لسان العرب. وفي هذا الحديث فوائد جليلة.
إحداها: أن آية المائدة دالة على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على المؤمنين مهما أمكنهم ذلك.
ويدل على ذلك أيضًا ما رواه الإمام أحمد وأهل السنن وغيرهم عن قيس بن أبي حازم قال: قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} إلى آخر الآية، وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«إن الناس إذا رأوا المنكر، ولا يغيرونه أوشك الله أن يعمهم بعقابه» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه أيضًا ابن حبان.
وفي رواية لابن جرير عن قيس بن أبي حازم، قال: صعد أبو بكر رضي الله عنه المنبر منبر رسول صلى الله عليه وسلم ، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنكم لتتلون آية من كتاب الله، وتعدونها رخصة، والله ما أنزل الله في كتابه أشد منها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليعمنكم الله منه بعقاب.
وروى ابن جرير أيضًا عن السدي في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} يقول مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر. قال أبو بكر رضي الله عنه: يا أيها الناس، لا تغتروا بقول الله عليكم أنفسكم، فيقول أحدكم: على نفسي، والله لتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم.
فليسوا منكم سوء العذاب، ثم ليدعو الله خياركم، فلا يستجيب لهم.
وأكثر الآيات والأحاديث التي تقدمت في فضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تدل على مثل ما دل عليه حديث أبي بكر وحديث أبي ثعلبة رضي الله عنهما.
الثانية: الرد على من زعم أن آية المائدة تدل على الترخيص في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد أوضح ذلك الصديق رضي الله عنه في حديثه، فانقطع بذلك ما يتعلق به المداهنون في الآية الكريمة.
الثالثة: أن المؤمن إذا قام بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلم يقبل منه، ولم يكن له قدرة على الإلزام بالمأمور وإزالة المحظور، فعليه حينئذ بخاصة نفسه، ولا يضره من ضل.
وقد روى ابن عدي والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي إمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الأمر لا تستطيعون تغييره، فاصبروا حتى يكون الله هو الذي يغيره» في إسناده مقال، ولمتنه شاهد من حديث أبي ثعلبة الذي تقدم ذكره قريبًا.
ومعنى قوله «لا تستطيعون تغييره» أي: باليد أو اللسان.
فأما التغيير بالقلب، فكل أحد يستطيعه، ومن لم يغير بقلبه بأن يبغض المعاصي ويكرهها ويمقت أصحابها فليس بمؤمن.
وقد روى ابن أبي حاتم وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: أن من بقي منكم سيرى منكرًا، وبحسب امرئ يرى منكرًا لا يستطيع أن يغيره أن يعلم الله من قلبه إنه له كاره.
ورواه البخاري في التاريخ الكبير مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم -
ثم قال: رواه غير واحد، ولا يرفعونه.
وروى عبد الرزاق عن معمر عن الحسن أن رجلا سأل ابن مسعود رضي الله عنه عن قول الله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} فقال: إن هذا ليس بزمانها، إنها اليوم مقبولة، ولكنه قد يوشك أن يأتي زمانها تأمرون بالمعروف، فيصنع بكم كذا وكذا، أو قال: فلا يقبل منكم، فحينئذ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل.
ورواه ابن جرير حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق فذكره.
وروى ابن جرير أيضًا عن الحسن أن هذه الآية قرئت على ابن مسعود رضي الله عنه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} فقال ابن مسعود رضي الله عنه: ليس هذا بزمانها قولها ما قبلت منكم، فإذا ردت عليكم، فعليكم أنفسكم.
وروى ابن جرير أيضًا عن أبي العالية قال: كانوا عند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه جلوسًا، فكان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه، فقال رجل من جلساء عبد الله: ألا أقوم، فآمرهما بالمعروف، وأنهاهما عن المنكر. فقال آخر إلى جنبه: عليك بنفسك؛ فإن الله تعالى يقول: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} .
قال: فسمعها ابن مسعود رضي الله عنه فقال: من لم يجئ تأويل هذه بعد. إن القرآن أنزل، حيث أنزل، ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن، ومنه ما وقع تأويلهن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنه
آي وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بيسير، ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم، ومنه آي يقع عند الساعة على ما ذكر من الساعة، ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب على ما ذكر من الحساب والجنة والنار، فما دامت قلوبكم واحدة وأهواؤكم واحدة لم تلبسوا شيعًا، ولم يذق بعضكم بأس بعض، فأمروا، وانهوا، فإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعًا ذاق بعضكم بأس بعض، فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية.
وذكر البغوي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في هذه الآية: مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر ما قبل منكم، فإن رد عليكم، فعليكم أنفسكم، ثم قال: إن القرآن نزل منه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن، وذكر تمامه بنحو قول ابن مسعود رضي الله عنه.
وروى ابن جرير عن سفيان بن عقال قال: قيل لابن عمر رضي الله عنهما: لو جلست في هذه الأيام، فلم تأمر ولم تنه، فإن الله تعالى يقول:{عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} فقال ابن عمر رضي الله عنهما: إنها ليست لي، ولا لأصحابي؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ألا، فليبلغ الشاهد الغائب» فكنا نحن الشهود وأنت الغيب، ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم.
وروى ابن جرير أيضًا عن سوار بن شيب، قال: كنت عند ابن عمر رضي الله عنهما إذا تاه رجل جليد في العين شديد اللسان،
فقال: يا أبا عبد الرحمن، نحن ستة كلهم قد قرأ القرآن، فأسرع فيه، وكلهم مجتهد لا يألو، وكلهم بغيض إليه أن يأتي دناءة، وهم في ذلك يشهد بعضهم على بعض بالشرك، فقال رجل من القوم: وأي دناءة تريد أكثر من أن يشهد بعضهم على بعض بالشرك؟ قال: فقال الرجل: إني لست إياك أسأل، أنا أسأل الشيخ، فأعاد على عبد الله الحديث، فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: لعلك ترى لا أبا لك أني سآمرك أن تذهب فتقتلهم، عظهم وانههم؛ فإن عصوك، فعليك بنفسك، فإن الله تعالى يقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
وروى ابن جرير أيضًا عن قتادة عن رجل قال: كنت في خلافة عثمان رضي الله عنه بالمدينة في حلقة فيهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا فيهم شيخ يسندون إليه فقرأ رجل {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} فقال الشيخ: إنما تأويلها آخر الزمان.
ثم رواه ابن جرير من وجه آخر عن قتادة قال: حدثنا أبو مازن رجل من صالحي الأزد قال: انطلقت في حياة عثمان رضي الله عنه إلى المدينة، فقعدت إلى حلقة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأ رجل من القوم هذه الآية {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} قال: فقال رجل من أسن القوم: دع هذه الآية، فإنما تأويلها في آخر الزمان.
وروى ابن جرير أيضًا عن جبير بن تفير قال: كنت في حلقة فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإني لأصغر القوم، فتذاكروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقلت أنا: أليس الله يقول في كتابه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} فاقبلوا علي بلسان واحد، وقالوا: اتنتزع آية من القرآن لا تعرفها، ولا تدري ما تأويلها، حتى تمنيت أني لم أكن تكلمت، ثم أقبلوا يتحدثون، فلما حضر قيامهم، قالوا: إنك غلام حدث السن، وإنك نزعت بآية لا تدري ما هي، وعسى أن تدرك ذلك الزمان إذا رأيت شحًا قطاعًا، وهوى متبعًا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت.
وروي أبو نعيم في الحلية عن مكحول قال: أتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله، قوله عزك وجل {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} قال: يا ابن أخي، لم يأت تأويل هذه بعد إذا هاب الواعظ، وأنكر الموعوظ، فعليك حينئذ نفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت يا ابن أخي الآن نعظ، ويسمع منا.
وروى ابن جرير عن حذيفة رضي الله عنه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} قال: إذا أمرتم ونهيتم.
وروى ابن جرير أيضًا عن سعيد بن المسيب {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} قال: إذا أمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر لا يضرك من ضل إذا اهتديت.
قال ابن كثير: وكذا قال غير واحد من السلف،
وروى ابن جرير عن ضمرة بن ربيعة قال: تلا الحسن هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} فقال الحسن: الحمد لله بها، والحمد لله عليها؛ ما كان مؤمن فيما مضى ولا مؤمن فيما بقي إلا وإلى جانبه منافق يكره عمله.
الرابعة: كثرة ثواب العاملين في أيام الصبر، وذلك حين يكون الصبر على الدين ومتابعة السنة، كالقبض على الجمر.
الخامسة أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أفضل الأعمال في أيام الصبر، وكذلك نشر السنة وإصلاح ما أفسد الناس منها، وقد تقدم في أول الكتاب حديث أبي أمامة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إن من أدبار هذا الدين أن تجفو القبيلة كلها من عند آخرها، حتى لا يبقى فيها إلا الفقيه أو الفقيهان، فهما مقهوران مقموعان ذليلان إن تكلما أو نطقا قمعًا وقهرًا واضطهدا وقيل: لهما أتطعنان علينا، حتى يشرب الخمر في ناديهم ومجالسهم وأسواقهم، وتنحل الخمر غير اسمها حتى يلعن آخر هذه الأمة أولها إلا حلت عليهم اللعنة» . الحديث، وفي آخره «فمن أدرك ذلك الزمان، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فله أجر خمسين ممن صحبني، وآمن بي، وصدقني أبدًا» رواه الإمام أحمد وغيره.
وتقدم أيضًا حديث عبد الرحمن بن العلاء الحضرمي قال: حدثني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنه سيكون في آخر هذه الأمة قوم لهم مثل أجر أولهم، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقاتلون أهل الفتن» . رواه البيهقي في دلائل النبوة.
وروى الإمام أحمد والطبراني عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ونحن عنده «طوبى للغرباء» فقيل: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: «ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم» .
ورواه محمد بن وضاح بلفظ: «من يبغضهم أكثر ممن يحبهم» وفي هذا إشارة إلى أنهم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر.
وروى الترمذي وأبو نعيم في الحلية من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه، عن جده رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إن الدين بدأ غريبًا، ويرجع غريبًا، فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسده الناس من بعدي من سنتي» قال الترمذي: هذا حديث حسن.
ورواه إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الدين بدأ غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء» قيل: يا رسول الله، ومن الغرباء؟ قال:«الذين يحيون سنتي من بعدي، ويعلمونها عباد الله» .
وروى محمد بن وضاح عن المعافري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طوبى للغرباء الذين يتمسكون بالكتاب حين يترك، ويعملون بالسنة حين تطفأ» .
قال النوذي: اختلف المفسرون في معنى قوله تعالى {طُوبَى لَهُمْ} . فروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن معناه فرح وقرة عين. وقال عكرمة: نعم ما لهم.
وقال الضحاك: غبطة لهم.
وقال قتادة: حسنى لهم.
وعن قتادة أيضًا: معناه أصابوا خيرًا.
وقال إبراهيم: خير لهم وكرامة.
وقال ابن عجلان: دوام الخير.
وقيل: الجنة.
وقيل: شجرة في الجنة.
وكل هذه الأقوال محتملة في الحديث.
قلت: والمعنى فيها متقارب، وكلها حاصلة لمن أدخله الله الجنة، والله أعلم.
وروى محمد بن وضاح عن سعيد أخي الحسن يرفعه، قال:«إنكم اليوم على بينة من ربكم؛ تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتجاهدون في سبيل الله، ولم يظهر فيكم السكران: سكر الجهل، وسكر حب العيش، وستحولون عن ذلك، فالمتمسك يومئذ بالكتاب والسنة له أجر خمسين. قيل: منهم؟ قال: بل منكم» .
ورواه أبو نعيم في الحلية في ترجمة إبراهيم بن أدهم من حديث سفيان بن عينية عن أسلم أنه سمع سعيد بن أبي الحسن يذكر عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنتم اليوم على بينة من ربكم؛ تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتجاهدون في سبيل الله، ثم تظهر فيكم السكرتان: سكرة الجهل، وسكرة حب العيش، وستحولون عن ذلك، فلا تأمرون بمعروف،
ولا تنهون عن منكر، ولا تجاهدون في سبيل الله، القائمون يومئذ بالكتاب والسنة لهم أجر خمسين صديقًا» قالوا: يا رسول الله، منا أو منهم؟ قال:«لا، بل منكم» .
قال أبو نعيم: ورواه محمد بن قيس عن عبادة بن نسي عن الأسود بن ثعلبة عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
وروى أبو نعيم أيضًا من حديث إبراهيم بن أدهم عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: غشيتكم السكرتان: سكرة حب العيش، وحب الجهل، فعند ذلك لا تأمرون بالمعروف، ولا تنهون عن المنكر، والقائمون بالكتاب وبالسنة كالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.
وروى الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «للمتمسك بسنتي عند فساد أمتي له أجر شهيد» .
وروى الترمذي في جامعة والطبراني في الصغير عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحيا سنتي، فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وروي الترمذي أيضًا وابن ماجة والدارمي عن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي كان له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا» الحديث. قال الترمذي: هذا حديث حسن.
السادسة: فيه علم من أعلام النبوة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر عما سيقع في أمته من مخالفة العصاة للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، طاعة من العصاة للشح، واتباعًا للهوى، وإيثارًا للدنيا، وإعجابًا بالرأي فوقع الأمر طبق ما أخبر به صلوات الله وسلامه عليه.
ورأينا ذلك من كثير من المنتسبين إلى العلم، فضلا عن غيرهم، ولهم في معاندة الحق حجج من الباطل.
فأما العوام، فحجتهم فعل العامة، وسكوت بعض المشايخ من ذوي القدرة عن الإنكار عليهم.
وبعضهم يحتجون بأفعال ولاة الأمر وإقرارهم للمنكرات.
وأما المنتسبون إلى العلم، فحجتهم ما يجدونه من أخطاء العلماء وزلاتهم، وإذا قيل لهم: قال الله تعالى، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلتفتوا إلى ذلك وأجابوا بأنه قد قال العالم الفلاني كذا وكذا، وأنه قد أفتى الشيخ الفلاني بكذا وكذا، وإن في المذهب الفلاني رواية أو قولا أو وجهًا بكذا وكذا مما هو مخالف للنص أو للظاهر من الآيات والأحاديث الصحيحة.
وهؤلاء فيهم شبه من الذين قال الله تعالى فيهم {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} .
وربما رد بعضهم الآيات والأحاديث مراعاة لأهواء الرؤساء والأكابر.
وكثيرًا منهم إذا قيل لهم قال الله تعالى، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
أذعنوا لذلك بألسنتهم، وخالفوه بأفعالهم، وهؤلاء فيهم شبه من الذين أخبر الله عنهم أنهم قالوا: سمعنا وعصينا.
وكل هؤلاء العصاة المعرضين عن اتباع الحق المقدمين لطاعة الشح، واتباع الهوى، وإيثار الدنيا وشهواتها والإعجاب بالرأي على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم متعرضون للسخط من الله والعقوبة قال الله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} .
وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} .
وقال تعالى: {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ، فيهلك، ثم جعل يتلو هذه الآية {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به» ولا يزيغ عنه رواه الحافظ أبو نعيم في كتاب الأربعين التي شرط فيها أن تكون من صحيح الأخبار، ذكر ذلك عنه الحافظ ابن رجب في شرح الأربعين النووية، وقال النووي: حديث صحيح، رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح.
إذا عرف هذا، فالواجب على كل مؤمن أن يقدم طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم على ما سواهما، وإذا أمر بمعروف، أو نهى عن منكر وجب عليه أن يذعن لذلك، ويقابله بالرضا والتسليم والمبادرة إلى فعل المأمور، وترك المحظور؛ فإن ذلك من أسباب الهداية والفوز بالجنة والنجاة من النار. قال الله تعالى:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} .
وليحذر المؤمن الناصح لنفسه من طاعة الشح واتباع الهوى وإيثار الدنيا والإعجاب بالرأي، فإن ذلك ضلال عن الصراط المستقيم.
وليحذر المؤمن أيضًا من تتبع أخطاء العلماء وزلاتهم، فإنها من هوادم الإسلام، ومن تتبعها أوقعه في المهالك ولا بد، إلا أن ينقذه الله تعالى، ويمن عليه بالتوبة والإنابة.
وقد روى الطبراني في الكبير عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أخاف على أمتي ثلاث: زلة عالم وجدال منافق بالقرآن والتكذيب بالقدر»
وروى أبو نعيم في الحلية عن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«إني أخاف على أمتي من بعدي ثلاثة أعمال» قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: «زلة عالم وحكم جائر وهوى متبع» .
وروى البيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أشد ما أتخوف على أمتي ثلاث: زلة عالم وجدال منافق بالقرآن ودنيا تقطع أعناقكم» .
وروى الطبراني في الصغير عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني أخاف عليكم ثلاثًا، وهي كائنات: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تفتح عليكم» .
وروى الدارمي وأبو نعيم في الحلية عن زياد بن حدير قال: قال لي عمر رضي الله عنه: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال: قلت لا. قال: يهدمه زلة عالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين.
وروى الإمام أحمد في الزهد عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: إنما أخشي عليكم زلة عالم، وجدال المنافق بالقرآن.
وليحذر المؤمن أيضًا من الاغترار بالقراء الفسقة، والاقتداء بهم في أفعالهم السيئة؛ فإن ذلك ضلال عن الحق.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوف على أمته من كل منافق عليم اللسان.
كما في المسند بإسناد صحيح عن أبي عثمان النهدي قال: إني لجالس تحت منبر عمر رضي الله عنه، وهو يخطب الناس، فقال في خطبته: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة كل منافق عليم اللسان» .
وفي رواية في غير المسند يتكلم بالحكمة، ويعمل بالجور.
وروي الإمام أحمد في الزهد عن الأحنف بن قيس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كنت عنده جالسًا، فقال: إن هلكة هذه الأمة على يدي كل منافق عليم.
وروى الطبراني في الكبير البزار عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي كل منافق عليم باللسان» .
قال المنذري: رواته محتج بهم في الصحيح.
وروي الطبراني أيضًا في الصغير عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني لا أتخوف على أمتي مؤمنًا، ولا مشركًا، أما المؤمن، فيحجزه إيمانه، وإما المشرك، فيقمعه كفره، ولكن أتخوف عليكم منافقًا عالم اللسان، يقول ما تعرفون، ويعمل ما تنكرون» .
وروى الإمام أحمد في الزهد والدارمي في سننه عن هرم بن حيان أنه قال: إياكم والعالم الفاسق، فبلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكتب إليه وأشفق منها: ما العالم الفاسق؟ فكتب إليه هرم: والله يا أمير المؤمنين، ما أردت به إلا الخير يكون إماما يتكلم بالعلم، ويعمل بالفسق، فيشتبه على الناس فيضلون.