المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل [فضل وفضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر] - القول المحرر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

[حمود بن عبد الله التويجري]

فهرس الكتاب

- ‌فصل [التهاون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم أسباب ضياع الدين]

- ‌فصل [في بيان أن أغلب الأقطار تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]

- ‌فصل [في بيان أن من أشراط الساعة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]

- ‌فصل [أسباب التهاون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]

- ‌فصل [في بيان معنى المعروف]

- ‌فصل [في بيان منزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]

- ‌فصل [فضل وفضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]

- ‌فصل [في بيان أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب على كل مسلم بحسب قدرته]

- ‌فصل [في بيان أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم قادر]

- ‌فصل

- ‌فصل [في بيان أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة من الكبائر]

- ‌فصل في تفنيد الاحتجاج بقوله تعالى: {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌فصل [في التحذير أن يخالف قول الآمر والناهي فعله]

- ‌فصل [في أن على ولاة الأمور الاهتمام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنه من آكد الفرائض عليهم]

الفصل: ‌فصل [فضل وفضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]

والحاكم في مستدركه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنكم منصورون ومصيبون ومفتوح لكم فمن أدرك ذلك منكم فليتق الله وليأمر بالمعروف ولينهَ عن المنكر» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وسيأتي حديث أبي سعيد وحديث ابن مسعود رضي الله عنهما في بيان وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب القدرة.

ويأتي أيضًا الحث على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في غير ما آية وحديث، والله الموفق.

‌فصل [فضل وفضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]

وفي القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الفضائل الكثيرة، وتحصيل المصالح العامة والخاصة، ودرء المفاسد العامة والخاصة ما يدعو كل عاقل إلى الاهتمام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإعانة القائمين بذلك.

فمن أعظم فضائل القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه وظيفة الرسل وأتباعهم إلى يوم القيامة.

فإن الله تعالى إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب للأمر بالمعروف الذي أساسه وأصله التوحيد ومتابعة الرسل، وفروعه الأقوال والأعمال الصالحة.

والنهي عن المنكر للذي أساسه وأصله الشرك والبدع، وفروعه أنواع الفسوق والعصيان،

ص: 32

فبالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تعلو كلمة الله، ويظهر دينه، وبترك ذلك يضعف الإسلام وأهله ويظهر الباطل وحزبه.

قال ابن عقيل في الفنون من أعظم منافع الإسلام وآكد قواعد الأديان الأمر بالمعروف والنهي والتناصح؛ فهذا أشق ما يحمله المكلف؛ لأنه مقام الرسل، حيث يثقل صاحبه على الطباع، وتنفر منه نفوس أهل اللذات، ويمقته أهل الخلاعة، وهو إحياء السنن وإماتة البدع.

إلى أن قال لو سكت المحقون ونطق المبطلون لتعود النشء ما شاهدوا، وأنكروا ما لم يشاهدوا، فمتى رام المتدين إحياء سنة أنكرها الناس وظنوها بدعة.

وقد رأينا ذلك؛ فالقائم بها يعد مبتدعًا ومبدعًا. انتهى المقصود من كلامه رحمه الله تعالى.

وإذا كان الإمام ابن عقيل قد رأى في القرن الخامس ما ذكره من الإنكار على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وعدهم لذلك مبتدعة، فكيف لو رأى ما آل إليه الأمر في زماننا في آخر القرن الرابع عشر من الهجرة النبوية، حين ابتلي أكثر المسلمين بمخالطة أعداء الله، والأخذ عنهم، واتباع سننهم حذوا القذة بالقذة، حتى عاد بسبب ذلك المعروف عند الأكثرين منكرًا والمنكر معروفًا، والسنة بدعة والبدعة سنة، نشأ على ذلك صغيرهم، وهرم عليه كبيرهم، وكان الأمر كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير، ويربو فيها الصغير،

ص: 33

ويتخذها الناس سنة، فإذا غيرت قالوا: غيرت السنة، قيل: ومتى ذلك يا أبا عبد الرحمن قال: إذا كثرت قراؤكم، وقلت فقهاؤكم، وكثرت أمراؤكم وقلت أمناؤكم، والتمست الدنيا بعمل الآخرة، وتفقه لغير الدين. رواه عبد الرزاق والدارمي والحاكم في مستدركه، قال الذهبي: وهو على شرط البخاري ومسلم.

وفي رواية الحاكم: وكثرت أموالكم، وقلت أمناؤكم.

وقد رأينا في زماننا كثيرًا من المنتسبين إلى العلم، فضلا عن غيرهم ينكرون على الأمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ويعدونهم لذلك أهل شذوذ وتشديد ومشاغبة وتنفير إلى غير ذلك مما ينبزونهم به ظلمًا وعدوانًا، فالله المستعان.

والدليل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو وظيفة الرسل وأتباعهم قول الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَامُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} الآية.

والنبي صلى الله عليه وسلم مأمور باتباع هدي الأنبياء قبله، كما قال الله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .

وقد روي ابن جرير وأبو نعيم في الحلية عن وهيب بن الورد، قال: لقي رجل عالم رجلا عالمًا هو فوقه في العلم، فقال له: يرحمك الله، ما الذي أعلن من عملي؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنه دين الله الذي بعث به أنبياءه صلوات الله عليهم إلى عباده،

ص: 34

وقد قيل في قول الله عز وجل {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} قيل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أينما كان.

وقد أمر الله تبارك وتعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يأمر بالمعروف، ويصبر على ما يصيبه في ذات الله فقال تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَامُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} .

والعرف هو المعروف قاله غير واحد من أئمة السلف منهم عروة بن الزبير والسدي وقتادة والبخاري وابن جرير.

قال ابن جرير رحمه الله تعالى أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباده بالمعروف، ويدخل في ذلك جميع الطاعات، وبالإعراض عن الجاهلين، وذلك وإن كان أمرًا لنبيه صلى الله عليه وسلم فإنه تأديب لخلقه باحتمال من ظلمهم واعتدى عليهم، لا بالإعراض عمن جهل الحق الواجب من حق الله، ولا بالصفح عمن كفر بالله، وجهل وحدانيته، وهو للمسلمين حرب. انتهى.

والأمر بالمعروف إذا افرد دخل فيه النهي عن المنكر ضمنًا ونظير هذه الآية ما أخبر الله به عن لقمان أنه قال لابنه (يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور).

وعن عمير بن حبيب الخطمي رضي الله عنه أنه قال لبنيه: إذا أراد أحدكم أن يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر، فليوطن نفسه على الصبر على الأذى، وليوقن بالثواب من الله؛ فإنه من يثق بالثواب من الله لا يجد مس الأذى. رواه الإمام أحمد في الزهد.

ص: 35

قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: الصبر على أذى الخلق عند لأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن لم يستعمل لزم أحد أمرين: إما تعطيل الأمر والنهي، وإما حصول فتنة ومفسدة أعظم من مفسدة ترك الأمر والنهي، أو مثلها أو قريب منها، وكلاهما معصية وفساد قال الله تعالى:{وَامُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} فمن أمر ولم يصبر، أو صبر ولم يأمر، أو لم يأمر ولم يصبر حصل من هذه الأقسام الثلاثة مفسدة، وإنما الصلاح في أن يأمر، ويصبر. انتهى.

وقوله: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} قال البغوي: من حق الأمور وخيرها.

وقال في موضع آخر: من حقها وحزمها.

قال: وقال عطاء: من حقيقة الإيمان.

وقال مقاتل: من الأمور التي أمر الله بها.

وقال سعيد بن جبير: من حق الأمور التي أمر الله بها.

وقال صديق بن حسن في تفسيره: من عزم الأمور، أي: مما جعله الله عزيمة، وأوجبه على عباده، وحتمه على المكلفين، ولم يرخص في تركه.

قال: وهذا دليل على أن هذه الطاعات كان مأمورًا بها في سائر الأمم. انتهى.

وقال تعالى مخبرًا عن بني إسرائيل: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} .

ص: 36

الثانية: من فضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنهما سهمان من سهام الإسلام وضياءان من نوره، وعلامتان من مناره.

وقد روي البزار في مسنده عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الإسلام ثمانية أسهم الإسلام سهم» يعني الشهادتين «والصلاة سهم، والزكاة سهم، والصوم سهم، وحج البيت سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، والجهاد في سبيل الله سهم، وقد خاب من لا سهم له» .

قال المنذري: ورواه أبو يعلي من حديث علي رضي الله عنه مرفوعًا أيضًا.

وروي موقوفًا على حذيفة رضي الله عنه، وهو أصح قاله الدارقطني وغيره.

قلت: وقد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت صلة بن زفر يحدث عن حذيفة رضي الله عنه قال: الإسلام ثمانية أسهم فذكره، ثم قال أبو داود الطيالسي: وذكروا أن غير شعبة يرفعه.

وروى محمد بن نصر المروزي من حديث خالد بن معدان عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن للإسلام ضوءا ومنارًا كمنار الطريق من ذلك أن تعبد الله لا نشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» . الحديث.

ص: 37

ورواه الحاكم في مستدركه مختصرًا، وقال: صحيح على شرط البخاري. قال: وأما سماع خالد بن معدان عن أبي هريرة رضي الله عنه، فغير مستبعد؛ فقد حكى الوليد بن مسلم عن ثور بن يزيد عنه قال: لقيت سبعة عشر رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال الحافظ الذهبي قال: ابن أبي حاتم خالد عن أبي هريرة رضي الله عنه متصل، وقال أدرك أبا هريرة، ولم يذكر له سماع. انتهى.

وقال الحاكم في موضع آخر من المستدرك: خالد بن معدان من خيار التابعين، صحب معاذ بن جبل، فمن بعده من الصحابة، فإذا أسند حديثًا إلى الصحابة، فإنه صحيح الإسناد، وإن لم يخرجاه. وأقره الذهبي على هذا القول في تلخيصه.

وقد جاء في بعض ألفاظ هذا الحديث أن للإسلام صوى بالصاد المهملة.

ورواه أبو نعيم بهذا اللفظ في كتاب الحلية من حديث روح بن عبادة حدثنا ثور بن يزيد عن خالد بن معدان، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن للإسلام صوى بينا كمنار الطريق، فمن ذلك أن يعبد الله لا يشرك به شيء، وتقام الصلاة، وتؤتى الزكاة، ويحج البيت، ويصام رمضان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتسليم على بني آدم، فإن ردوا عليك ردت عليك وعليهم الملائكة، وإن لم يردوا عليك ردت عليك الملائكة، ولعنتهم أو سكتت عنهم، وتسليمك على أهل بيتك إذا دخلت، ومن انتقض منهن شيئًا، فهو سهم من سهام الإسلام تركه، ومن تركهن كلهن فقد

ص: 38

ترك الإسلام» قال أبو نعيم غريب من حديث خالد، تفرد به ثور حدث به أحمد بن حنبل والكبار عن روح. انتهى.

وقال ابن الأثير الصوى الأعلام المنصوبة من الحجارة في المفازة المجهولة: يستدل بها على الطريق واحدتها صوة كقوة أراد أن للإسلام طرائق وأعلامًا يهتدى بها. انتهى.

الثالثة: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نوعان من أنواع الجهاد في سبيل الله عز وجل.

وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} .

وقال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} .

وقد جاء في حديث مرفوع: الجهاد أربع أمر بالمعروف، ونهي عن المنكر والصدق في مواطن الصبر وشنآن الفاسقين، فمن أمر بالمعروف شد عضد المؤمنين. ومن نهى عن المنكر أرغم أنف الفاسقين، ومن صدق في مواطن الصبر، فقد قضي ما عليه. رواه أبو نعيم في الحلية من حديث محمد بن سوقة عن الحارث عن علي رضي الله عنه، وفي إسناده ضعف.

وفي السنن إلا النسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر» هذا لفظ ابن ماجة.

ولفظ أبي داود: عند سلطان جائر أو أمير.

ص: 39

ولفظ الترمذي: إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر. ورواه الحاكم في مستدركه، ولفظه: ألا وإن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب قال: وفي الباب عن أبي إمامة رضي الله عنه.

قلت: هو ما رواه الإمام أحمد وابن ماجة بإسناد صحيح عن أبي إمامة رضي الله عنه قال: عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجل عند الجمرة الأولى، فقال: يا رسول الله، أي الجهاد أفضل؟ فسكت عنه، فلما رمي الجمرة الثانية سأله فسكت عنه، فلما رمي جمرة العقبة وضع رجله في الغرز ليركب، قال:«أين السائل» قال: أنا يا رسول الله. قال: «كلمة حق عند ذي سلطان جائر» .

وروى الإمام أحمد أيضًا والنسائي بإسناد صحيح عن طارق بن شهاب رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الجهاد أفضل؟ قال: «كلمة حق عند سلطان جائر» .

وروي أبو نعيم في الحلية من حديث عبد الله بن عبيد بن عمير عن أبيه، عن جده رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، أي الجهاد أفضل؟ قال:«كلمة عدل عند إمام جائر» .

قال الخطابي: إنما صار ذلك أفضل الجهاد؛ لأن من جاهد العدو كان مترددًا بين رجاء وخوف لا يدري هل يغلب أو يغلب، وصاحب السلطان مقهور في يده؛ فهو إذا قال الحق وأمره بالمعروف فقد تعرض للتلف وأهدف نفسه للهلاك، فصار ذلك أفضل أنواع الجهاد من أجل غلبة الخوف. انتهى.

الرابعة: أن القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر علامة على الإيمان، وترك ذلك علامة على النفاق.

ص: 40

وقال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} الآية.

قال الغزالي: أفهمت الآية أن من هجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خرج من المؤمنين.

وقال القرطبي: جعله الله تعالى فرقًا بين المؤمنين والمنافقين.

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} إلى قوله تعالى: {الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} .

وفي الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي ومسلم، وأهل السنن، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وفي رواية للنسائي «من رأى منكرًا فغيره بيده فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بيده فغيره بلسانه فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بلسانه فغيره بقلبه فقد برئ وذلك أضعف الإيمان» .

وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن

ص: 41

جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل». ورواه الإمام أحمد في مسنده مختصرًا.

الخامسة: أن الله تعالى أثنى على القائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووصفهم بالخيرية، فقال تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} .

وقد وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية أيضًا كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والطبراني عن درة بنت أبي لهب رضي الله عنها قالت: قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر، فقال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال:«خير الناس أقراهم، وأفقههم في دين الله، وأتقاهم لله، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأوصلهم للرحم» .

السادسة: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سببان من أسباب الرحمة والرضوان والفوز بالسعادة الأبدية.

قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} إلى قوله تعالى: {الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} .

ص: 42

وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .

والفلاح في اللغة الفوز والنجاة والبقاء في الخير والظفر وإدراك الطلبة، ومعناه هنا الفوز بدخول الجنة والنجاة من النار.

وقال تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} .

وروى الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي والدارقطني والبغوي والحاكم عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، علمني عملاً يدخلني الجنة. فقال:«لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة أعتق النسمة، وفك الرقبة» فقال: يا رسول الله، أو ليستا بواحدة، قال:«لا؛ إن عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في عتقها، والمنحة الوكوف والفيء على ذي الرحم الظالم، فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع، واسق الظمآن، وأمر بالمعروف، وانهَ عن المنكر، فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من الخير» قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وروى الطبراني في الكبير عن أبي كثير السحيمي عن أبيه قال: سألت أبا ذر، قلت: دلني على عمل إذا عمل العبد به دخل الجنة. قال: سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «تؤمن بالله واليوم الآخر» قلت: يا رسول الله، إن مع الإيمان عملا قال:«يرضح مما رزقه الله» قلت:

ص: 43

يا رسول الله، أرأيت إن كان فقيرًا لا يجد ما يرضح به، قال:«يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر» قال: قلت يا رسول الله، أرأيت إن كان عييًا لا يستطيع أن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر. قال:«يصنع لأخرق» قلت: أرأيت إن كان أخرق أن يصنع شيئًا، قال:«يعين مغلوبًا» قلت: أرأيت إن كان ضعيفًا لا يستطيع أن يعين مغلوبًا، قال:«ما تريد أن يكون في صاحبك من خير، يمسك عن أذى الناس» فقلت: يا رسول الله، إذا فعل ذلك دخل الجنة؟ قال:«ما من مسلم يفعل خصلة من هؤلاء إلا أخذت بيده حتى تدخله الجنة» . قال المنذري: رواته ثقات، ورواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وقال: صحيح الإسناد.

السابعة: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سببان من أسباب النصر والتأييد، وتركهما من أعظم أسباب الذل والخذلان.

قال الله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} .

وفي المسند وصحيح ابن حبان عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد حفزه النفس فعرفت في وجهه أنه قد حضره شيء فتوضأ، وما كلم أحدًا، فلصقت بالحجرة استمع ما يقول، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «يا أيها الناس، إن الله يقول لكم: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوا فلا استجيب لكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم» فما زاد عليهن حتى نزل).

ص: 44

الثامنة: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سببان من أسباب قبول الأعمال ورفعها إلى الله تعالى، وتركهما سبب لرد الأعمال وعدم قبولها.

وقد روى ابن أبي الدنيا والطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما طفف قوم كيلا، ولا بخسوا ميزانًا إلا منعهم الله عز وجل القطر، وما ظهر في قوم الزنى إلا ظهر فيهم الموت، وما ظهر في قوم الربا إلا سلط الله عليهم الجنون، ولا ظهر في قوم القتل يقتل بعضهم بعضًا إلا سلط الله عليهم عدوهم، ولا يظهر في قوم عمل قوم لوط إلا ظهر فيهم الخسف، وما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا لم ترفع أعمالهم، ولم يسمع دعاؤهم» .

التاسعة: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سببان من أسباب استجابة الدعاء وتركهما سبب للرد والحرمان.

والدليل على ذلك ما تقدم في حديث عائشة، وحديث ابن عباس رضي الله عنهم، ومثل ذلك ما يأتي إن شاء الله تعالى في أحاديث حذيفة، وحديث أبي هريرة، وحديث ابن عمر رضي الله عنهم.

وفي سنن ابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم» .

العاشرة: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أفضل أعمال الخير التي يحبها الله، ويرضاها، ويجزل المثوبة لفاعليها.

ص: 45

قال الله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} .

وروى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة والبخاري في تاريخه والحاكم في مستدركه والبيهقي في شعب الإيمان عن أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«كل كلام ابن آدم عليه، لا له، إلا أمرًا بمعروف أو نهيًا عن منكر أو ذكر لله عز وجل» . قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

وروى البزار في مسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا أمرًا بمعروف أو نهيًا عن منكر أو ذكر الله» .

وروى البيهقي في دلائل النبوة من حديث عبد الرحمن بن العلاء الحضرمي قال: حدثني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنه سيكون في آخر هذه الأمة قوم لهم مثل أجر أولهم؛ يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويقاتلون أهل الفتن» .

الحادية عشرة: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مكفرات الذنوب والخطايا، كما في الحديث الصحيح عن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي والشيخان والترمذي وابن ماجة.

ص: 46

الثانية عشرة: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نوعان من أنواع الصدقة؛ لما في الحديث الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزي من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى» رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود.

قال ابن الأثير: السلامي جمع سلامية، وهي الأنملة، من أنامل الأصابع، ويجمع على سلاميات، وهي التي بين كل مفصلين من أصابع الإنسان.

وقيل: السلامي كل عظم مجوف من صغار العظام.

والمعنى: على كل عظم من عظام ابن آدم صدقة.

وقال النووي: في قوله: «وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة» فيه إشارة إلى ثبوت حكم الصدقة في كل فرد من أفراد الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولهذا نكره والثواب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أكثر منه في التسبيح والتحميد والتهليل؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، وقد يتعين، ولا يتصور وقوعه نفلا، والتسبيح والتحميد والتهليل نوافل.

ومعلوم أن أجر الفرض أكثر من أجر النفل لقوله عز وجل: «وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي من أداء ما افترضت عليه» . رواه البخاري من رواية أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 47

وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري استشكل الحديث مع ما تقدم من ذكر الأمر بالمعروف، وهو من فروض الكفاية، فكيف تجزي عنه صلاة الضحى، وهي من التطوعات.

وأجيب بحمل الأمر هنا على ما إذا حصل من غيره، فسقط به الفرض، فلو تركه أجزأت عنه صلاة الضحى.

قال: وفيه نظر، ثم قال: والذي يظهر أن المراد أن صلاة الضحى تقوم مقام الثلاث مائة وستين حسنة التي يستحب للمرء أن يسعى في تحصيلها كل يوم ليعتق مفاصله التي هي بعددها، لا أن المراد أن صلاة الضحى تغني عن الأمر بالمعروف، وما ذكر معه.

وإنما كان كذلك؛ لأن الصلاة عمل بجميع الجسد، فتتحرك المفاصل كلها فيها بالعبادة. انتهى.

وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاث مائة مفصل، فمن كبر الله وحمد الله وهلل الله وسبح الله واستغفر الله وعزل حجرًا عن طريق الناس أو شوكة أو عظمًا عن طريق الناس، وأمر بمعروف أو نهي عن منكر عدد تلك الستين والثلاث مائة السلامي، فإنه يمشي يومئذ، وقد زحزح نفسه عن النار» . وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «على كل مسلم صدقة» قيل: أرأيت إن لم يجد قال: «يعتمل بيديه، فينفع نفسه ويتصدق» قال: قيل: «أرأيت إن لم يستطع» قال: «يعين ذا الحاجة الملهوف» قال: قيل: أرأيت إن لم

ص: 48

يستطع. قال: «يأمر بالمعروف أو الخير» قال: أرأيت إن لم يفعل. قال: «يمسك عن الشر، فإنها صدقة» .

وقد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده، وزاد بعد قوله يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

وفي جامع الترمذي وصحيح ابن حبان عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة» . قال الترمذي: هذا الحديث حسن غريب.

وروى البزار والطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن تبسمك في وجه أخيك يكتب لك به صدقة، وإماطتك الأذى عن الطريق يكتب لك به صدقة، وإن أمرك بالمعروف صدقة، وإرشادك الضال يكتب لك به صدقة» .

الثالثة عشرة: من فضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما رواه ابن خزيمة في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على كل ميسم من الإنسان صلاة كل يوم» فقال رجل من القوم: هذا من أشد ما أنبأتنا به. قال: «أمرك بالمعروف، ونهيك عنه المنكر صلاة، وحملك عن الضعيف صلاة، وانحاؤك القذى عن الطريق صلاة، وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صلاة» .

ص: 49

قوله: «على كل ميسم من الإنسان صلاة» .

قال ابن الأثير: هكذا جاء في رواية فإن كان محفوظًا، فالمراد به إن على كل عضو موسوم بصنع الله صدقة، هكذا فسر. انتهى.

وقد تقدم حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاث مائة مفصل» الحديث.

فهذا يوضح معنى قوله على كل ميسم من الإنسان صلاة كل يوم، والله أعلم.

الرابعة عشرة: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم أسباب النجاة من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم أسباب الهلاك وعموم العقوبات قال الله تعالى:{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} .

وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} .

وروى الدارقطني في سننه عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دلني على عمل يقربني من الجنة، ويباعدني من النار قال:«لئن اقصرت الخطبة لقد اعرضت المسألة اعتق النسمة وفك الرقبة» وذكر تمام الحديث، وزاد في رواية:«فاطعم الجائع واسق الظمآن وأمر بالمعروف وانه عن المنكر» .

ص: 50

وقد رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي والبغوي، وتقدم ذكره في الفائدة السادسة.

وروى الإمام أحمد أيضًا والبخاري والترمذي عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها والمدهن فيها كمثل قوم ركبوا سفينة، فأصاب بعضهم أسفلها وأوعرها وشرها، وأصاب بعضهم أعلاها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم فآذوهم فقالوا: لو خرقنا في نصيبنا خرقًا فاسقينا منه، ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وأمرهم هلكوا جميعًا وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعا» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

قال النووي: القائم في حدود الله تعالى معناه المنكر لها القائم في دفعها وإزالتها، والمراد بالحدود ما نهى عنه. انتهى.

وقد تقدم الكلام في معنى المدهن في أول الكتاب.

وفي الصحيحين والمسند وجامع الترمذي وسنن ابن ماجة عن زينب بنت جحش رضي الله عنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فزعًا محمرًا وجهه يقول: «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بأصبعه الإبهام والتي تليها» قالت: فقلت يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون قال:«نعم، إذا كثر الخبث» .

وروي مالك في الموطأ بلاغًا إن أم سلمة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم -

ص: 51

رضي الله عنها قالت: يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم، إذا كثر الخبث» .

وفي جامع الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يكون في آخر هذه الأمة خسف ومسخ وقذف» وقالت: قلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم، إذا ظهر الخبث» قال الترمذي: هذا حديث غريب.

وروي الطبراني في معجمه الصغير عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ذكر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم خسف قبل المشرق، فقال بعض الناس: يا رسول الله، يخسف بأرض فيها المسلمون فقال:«نعم، إذا كان أكثر أهلها الخبث» .

قال النووي: الخبث بفتح الخاء والباء، وفسره الجمهور بالفسوق والفجور.

وقيل: المراد الزنى خاصة، وقيل أولاد الزنى.

والظاهر أنه المعاصي مطلقًا.

قال: ومعنى الحديث أن الخبث إذا كثر يحصل الهلاك العام، وإن كان هناك صالحون. انتهى.

وفي المسند عن أم سلمة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله بعذاب من عنده» فقلت: يا رسول الله، أما فيهم يومئذ أناس صالحون؟ قال:«بلى» قالت: فكيف يصنع بأولئك؟ قال: «يصيبهم ما أصاب الناس، ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان» .

ص: 52

وفي المسند أيضًا عن عائشة رضي الله عنها تبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ظهر السوء في الأرض أنزل الله بأهل الأرض بأسه» فقالت: وفيهم أهل طاعة الله قال: «نعم، ثم يصيرون إلى رحمة الله» .

وفي مستدرك الحاكم عن الحسن بن محمد بن علي عن مولاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة، أو على بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنا عنده فقال:«إذا ظهر السوء فلم ينهوا عنه أنزل الله بهم بأسه» فقال إنسان: يا نبي الله، وإن كان فيهم الصالحون؟ قال:«نعم، يصيبهم ما أصابهم، ثم يصيرون إلى مغفرة الله ورحمته» .

وروى الإمام أحمد وأبو داود عن أبي البختري قال: حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لن يهلك الناس حتى يعذروا أو يعذروا من أنفسهم» .

قال الخطابي: فسره أبو عبيد في كتابه.

وحكي عن أبي عبيدة أنه قال: معنى يعذروا، أي: تكثر ذنوبهم وعيوبهم. قال: وفيه لغتان: يقال: اعذر الرجل أعذارًا إذا صار ذا عيب وفساد، قال: وكان بعضهم يقول: عذر يعذر بمعناه، ولم يعرفه الأصمعي.

قال أبو عبيد: وقد يكون يَعذروا بفتح الياء بمعنى يكون لمن بعدهم العذر في ذلك، والله أعلم.

وقال ابن الأثير يقال: اعذر فلان من نفسه إذا أمكن منها، يعني أنهم لا يهلكون حتى تكثر ذنوبهم وعيوبهم، فيستوجبون العقوبة، ويكون لمن يعذبهم عذر، كأنهم قاموا بعذره في ذلك.

ويروي بفتح الياء من عذرته، وهو بمعناه. انتهى.

ص: 53

وفي المسند والسنن عن قيس بن أبي حازم قال: قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} إلى آخر الآية. وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«إن الناس إذا رأوا المنكر، ولا يغيرونه أوشك الله أن يعمهم بعقابه» . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه أيضًا ابن حبان.

وروى الإمام أحمد أيضًا وأبو داود الطيالسي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه عن عبيد الله بن جرير عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز وأكثر ممن يعملون، ثم لم يغيروه إلا عمهم الله بعقاب» .

ورواه الإمام أحمد أيضًا من حديث المنذر بن جرير عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من قوم يعملون بالمعاصي، وفيهم رجل أعز منهم وأمنع لا يغيره إلا عمهم الله بعقاب، أو أصابهم العقاب» .

وقد رواه أبو داود في سننه عن ابن جرير عن جرير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه، فلا يغيرون إلا أصابهم الله بعقاب من قبل أن يموتوا» .

ص: 54

وروي أبو نعيم في الحلية من حديث الحارث بن سويد أنه سمع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من رجل في قوم يعمل فيهم بمعاصي الله هم أكثر منه وأعز، فيدهنون في شأنه إلا عاقبهم الله» .

وفي المسند وجامع الترمذي عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا من عنده، ثم لتدعنه فلا يستحب لكم» . قال الترمذي: هذا حديث حسن.

وروى الإمام أحمد أيضًا وأبو نعيم في الحلية من طريقه عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: «لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتحاضن على الخير أو ليستحكم الله جميعًا بعذاب أو ليؤمرن عليكم شراركم، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم» .

وروى أبو نعيم أيضًا عن عبد الله بن سيدان عن حذيفة رضي الله عنه قال: «لعن الله من ليس منا، والله، لتأمرن بالمعروف، ولتناهون عن المنكر أو لتقتلن بينكم، فليظهرن شراركم على خياركم، فليقتلهم حتى لا يبقى أحد يأمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر، ثم تدعون الله عز وجل فلا يجيبكم بمقتكم» .

وروى البزار والطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم» .

وروى ابن أبي الدنيا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن

ص: 55

النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فليسومونكم سوء العذاب، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليبعثن الله عليكم من لا يرحم صغيركم، ولا يوقر كبيركم» .

وروى الأصبهاني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر قبل أن تدعو الله فلا يستجيب لكم، وقبل أن تستغفروه فلا يغفر لكم، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يدفع رزقًا، ولا يقرب أجلا، وإن الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى لما تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعنهم الله على لسان أنبيائهم، ثم عموا بالبلاء» .

وروى الأصبهاني أيضًا عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال لا إله إلا الله تنفع من قالها، وترد عنهم العذاب، والنقمة ما لم يستخفوا بحقها» قالوا: يا رسول الله، وما الاستخفاف بحقها؟ قال:«يظهر العمل بمعاصي الله، فلا ينكر، ولا يغير» .

وفي مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تزال هذه الأمة تحت يد الله، وفي كنفه ما لم يمالئ قراؤها امراؤها، وما لم يزك صلحاؤها فجارها، وما لم يهن شرارها خيارها، فإذا هم فعلوا ذلك رفع الله يده عنهم، ثم سلط عليهم جبابرتهم، فساموهم سوء العذاب، ثم ضربهم الله بالفقر والفاقة» .

وروى الإمام أحمد والبغوي عن عدي بن عميرة الكندي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله عز وجل لا

ص: 56

يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم، وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرون، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة».

وروى مالك في الموطأ عن إسماعيل بن أبي حكيم أنه سمع عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى يقول: كان يقال: إن الله تبارك وتعالى لا يعذب العامة بذنب الخاصة، ولكن إذا عمل المنكر جهارًا استحقوا العقوبة كلهم.

وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب الصلاة جاء الحديث عن بلال بن سعد أنه قال: الخطيئة إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا ظهرت فلم تغير ضرت العامة.

ورواه أبو نعيم في الحلية من حديث الأوزاعي عن بلال بن سعد أنه قال: إن الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا أهلها، وإذا أظهرت فلم تغير ضرت العامة.

قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وإنما تضر العامة لتركهم لما يجب عليهم من الإنكار والتغيير على الذي ظهرت منه الخطيئة.

وروى الحاكم في مستدركه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في قول عز وجل: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ} قال: إذا لم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا عن المنكر.

وروى ابن ماجة والبزار والحاكم والبيهقي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن لم تظهر الفاحشة

ص: 57

في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم» قال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وقال في الزوائد: هذا حديث صالح للعمل به.

السنين: جمع سنة، وهي العام المقحط.

وروى الطبراني في الكبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خمس بخمس» قيل: يا رسول الله، ما خمس بخمس، قال:«ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله فشا فيهم الفقر، ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر، ولا طففوا المكيال إلا منعوا النبات، وأخذوا بالسنين» قال المنذري: سنده قريب من الحسن، وله شواهد، وصححه السيوطي في الجامع الصغير.

وروى مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أنه بلغه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما ظهر الغلول في قوم قط إلا ألقي في قلوبهم الرعب، وإلا فشا الزنى في قوم قط إلا كثر فيهم الموت،

ص: 58

ولا نقص قوم المكيال والميزان، إلا قطع عنهم الرزق، ولا حكم قوم بغير الحق إلا فشا فيهم الدم، ولا ختر قوم بالعهد إلا سلط الله عليهم العدو.

الختر: هو الغدر ونقض العهد.

وروى الطبراني في الأوسط والحاكم والبيهقي عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما نقض قوم العهد قط، إلا كان القتل بينهم، ولا ظهرت الفاحشة في قوم قط، إلا سلط الله عليهم الموت، ولا منع قوم الزكاة، إلا حبس الله عنهم القطر» قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وقال ميمون بن مهران: ما أتي قوم في ناديهم المنكر، إلا عند هلاكهم. رواه أبو نعيم في الحلية.

الخامسة عشرة: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستنقذان صاحبهما من ملائكة العذاب، كما في حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في منامه الطويل:«ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته الزبانية، فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، فاستنقذه من أيديهم، وأدخله في ملائكة الرحمة» . رواه الطبراني وغيره.

وقال أبو موسى المديني: هذا حديث حسن جدا، ذكر ذلك عنه ابن القيم رحمه الله تعالى.

وقال ابن القيم: هو حديث عظيم شريف القدر، ينبغي لكل مسلم أن يحفظه. قال: وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يعظم شأن هذا الحديث، وبلغني عنه أنه كان يقول: شواهد الصحة عليه.

ص: 59

وقال المناوي في شرح الجامع الصغير: قال ابن تيمية: أصول السنة تشهد له.

قال المناوي: وإذا تتبعت متفرقات شواهده رأيت منها كثيرًا.

السادسة عشرة: إن في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسمًا لمواد الشر والفساد، وبإهمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ على أيدي السفهاء تغلب الفوضى على الناس، وتنفتح عليهم أبواب الفتن، ويكثر بينهم الشر والفساد والتوثب على ولاة الأمور ومنازعتهم في الولاية، كما وقع ذلك كثيرًا في الأزمان الماضية، وكما هو واقع الآن في كثير من أنحاء العالم، وذلك من نتائج تهاونهم بالدين، وتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقد قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} .

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين ظهرانيهم، فيعمهم الله بالعذاب.

قال ابن كثير: وهذا تفسير حسن جدًا.

السابعة عشرة: إن في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمانًا من لعنة الله تعالى وسخطه ومقته، وفي ترك القيام بهما تعرض لذلك كله.

قال الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} .

ص: 60

وفي المسند والسنن إلا النسائي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم، فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم، وواكلوهم، وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم، ذلك بما عصوا، وكانوا يعتدون» وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئًا فجلس فقال: «لا والذي نفسي بيده، حتى تَاطُرُوهُمْ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا» هذا لفظ أحمد والترمذي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

ولفظ أبي داود: «أن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، كان الرجل يلقى الرجل فيقول له: اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعل ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض» ثم قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} إلى قوله: {فَاسِقُونَ} ثم قال: «كلا والله، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدي الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو لتقصرنه على الحق قصرًا» .

زاد في رواية أخرى: «أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم» .

وقد تقدم ما رواه الأصبهاني عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى

ص: 61

لما تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعنهم الله على لسان أنبيائهم، ثم عموا بالبلاء».

وروي ابن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه أنه خطب، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي، ولم ينههم الربانيون والأحبار، فلما تمادوا في المعاصي أخذتهم العقوبات، فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم، واعملوا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقًا، ولا يقرب أجلا.

وفي حديث ابن مسعود وحديث ابن عمر رضي الله عنهم وعيد شديد للمداهنين التاركين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة.

وكذلك في الآيات قبلهما وعيد شديد وذم عظيم للمداهنين التاركين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة.

وأي وعيد أعظم من الوعيد بالطرد والإبعاد من رحمة الله التي وسعت كل شيء عياذًا بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه؟!

ومن الوعيد للمداهنين أيضًا ما رواه الإمام أحمد وابنه عبد الله والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من لم يوقر الكبير، ويرحم الصغير، ويأمر بالمعروف، وينه عن المنكر» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وصححه ابن حبان.

ص: 62

الثامنة عشرة: إن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمانًا من الذم والتوبيخ في الدنيا والآخرة، ومن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قدرته على ذلك، فله نصيب من الذم والتوبيخ بقدر ما ترك.

قال الله تعالى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} .

وقال تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} .

قال ابن كثير رحمه الله تعالى: الربانيون هم العلماء العمال أرباب الولايات عليهم، والأحبار هم العلماء فقط.

ثم ذكر ما رواه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما في القرآن آية أشد توبيخًا من هذه الآية {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} الآية.

وكذا قال الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها أَنَّا لا ننهى. رواه ابن جرير.

قال ابن جرير: وكان العلماء يقولون: ما في القرآن آية أشد توبيخًا للعلماء من هذه الآية، ولا أخوف عليهم منها.

وروى ابن جرير أيضًا عن سلمة بن نبيط عن الضحاك أنه قال: الربانيون والأحبار فقهاؤهم وقراؤهم وعلماؤهم قال: ثم يقول الضحاك: وما أخوفني من هذه الآية.

قلت: وفي الذم لبني إسرائيل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتوبيخ لعلمائهم على المداهنة تحذير لهذه الأمة عمومًا.

ص: 63

ولعلمائهم خصوصًا، ولا سيما أرباب الولايات منهم أن يفعلوا كفعل بني إسرائيل، فيصيبهم ما أصابهم.

قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: كل ما ذم الله به اليهود والنصارى في القرآن، فإنه لنا.

وروى الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي وابن ماجة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحقر أحدكم نفسه» قالوا: يا رسول الله، كيف يحقر أحدنا نفسه قال:«يرى أمرًا لله عليه فيه مقال، ثم لا يقول فيه، فيقول الله عز وجل له يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا؟ فيقول: خشية الناس. فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى» .

وفي رواية لهم أيضًا وللترمذي والحاكم عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطيبًا، فكان فيما قال:«ألا لا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه» .

زاد الترمذي وابن ماجة: فبكى أبو سعيد، وقال: قد - والله - رأينا أشياء فهبنا. قال الترمذي: هذا حديث حسن.

وروى الإمام أحمد وابن ماجة أيضًا وابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله ليسأل العبد يوم القيامة، حتى يقول: ما منعك إذ رأيت المنكر إن تنكره؟ فإذا لقن الله عبدًا حجته قال: يا رب، رجوتك، وفرقت من الناس» .

وفي رواية لأحمد عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول

ص: 64

الله صلى الله عليه وسلم: «ألا لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه، أو شهده أنه لا يقرب من أجل، ولا يباعد من رزق أن يقول بحق، أو أن يذكر بعظيم» .

وروي أبو نعيم في الحلية عن إسماعيل بن عمر سمعت أبا عبد الرحمن العمري الزاهد يقول: إن من غفلتك عن نفسك إعراضك عن الله بأن ترى ما يسخطه فتجاوزه، ولا تأمر بالمعروف، ولا تنهى عن المنكر خوفًا ممن لا يملك لك ضرًا، ولا نفعًا.

قال: وسمعته يقول: من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مخافة المخلوقين نزعت منه الطاعة، فلو أمر ولده أو بعض مواليه لاستخف به.

التاسعة عشرة: إن في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمانًا من مشاركة العاصين في وزر المعصية وعارها.

ومن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قدرته على القيام بهما، فهو شريك للعصاة في العار والعقوبة.

وقد روى أبو داود في سننه عن العرس بن عميرة الكندي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها» وقال مرة أنكرها، كان كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها، كان كمن شهدها.

وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب الزهد: حدثنا سيار حدثنا جعفر حدثنا مالك بن دينار قال: مكتوب في التوراة من كان له جار يعمل بالمعاصي، فلم ينهه فهو شريكه.

ص: 65

وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى أيضًا في كتاب الصلاة: جاء الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه قال: من رأى من يسيء في صلاته، فلم ينهه شاركه في وزرها وعارها.

وجاء الحديث عن بلال بن سعد أنه قال: الخطيئة إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، فإذا ظهر ولم تغير ضرت العامة.

قال أحمد رحمه الله تعالى: وإنما تضر العامة؛ لتركهم لما يجب عليهم من الإنكار، والتغيير على الذي ظهرت منه الخطيئة.

وروي البيهقي في شعب الإيمان عن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أوحى الله عز وجل إلى جبرائيل عليه السلام أن اقلب مدينة كذا وكذا بأهلها. فقال: يا رب، إن فيهم عبدك فلانًا لم يعصك طرفة عين. قال: فقال: اقلبها عليه وعليهم، فإن وجهه لم يتمعر في ساعة قط» .

وذكر ابن أبي الدنيا عن إبراهيم بن عمرو الصنعاني قال: أوحى الله إلى يوشع بن نون أني مهلك من قومك أربعين ألفًا من خيارهم وستين ألفًا من شرارهم قال: يا رب، هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي، وكانوا يواكلونهم ويشاربونهم.

وذكر أبو عمر بن عبد البر عن أبي هزان قال: بعث الله عز وجل ملكين إلى قرية أن دمراها بمن فيها، فوجدا فيها رجلا قائمًا يصلي في مسجد، فقالا: يا رب، إن فيها عبدك فلانًا يصلي. فقال عز وجل: دمراها، ودمراه معهم؛ فإنه ما تمعر وجهه فيَّ قط.

ص: 66

وذكر الحميدي عن سفيان بن عيينة قال: حدثني سفيان بن سعيد عن مسعر، أن ملكًا أمر أن يخسف بقرية، فقال: يا رب، إن فيها فلانًا العابد، فأوحى الله عز وجل إليه أن به فابدأ؛ فإنه لم يتمعر وجهه في ساعة قط.

وذكر ابن أبي الدنيا عن وهب بن منبه قال: لما أصاب داود الخطيئة قال: يا رب، اغفر لي. قال: قد غفرتها لك، وألزمت عارها بني إسرائيل قال: يا رب، كيف وأنت الحكم العدل لا تظلم أحدًا، أعمل أنا الخطيئة، وتلزم عارها غيري؟! فأوحى الله إليه أنك لما عملت الخطيئة لم يعجلوا عليك بالإنكار.

قلت: ويشهد لهذه الآثار قول الله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} .

ويشهد لها أيضًا ما أخبر الله به عن ثمود أنهم عقروا الناقة، وأنه دمدم عليهم بذنبهم فسواها، وإنما كان الذي عقرها واحد منهم، والباقون أقروه، ولم ينكروا عليه، فصاروا شركاءه في العار والعقوبة.

قال عبد الواحد بن زيد: قلت للحسن: يا أبا سعيد، أخبرني عن رجل لم يشهد فتنة ابن المهلب إلا أنه رضي بقلبه؟ قال: يا ابن أخي، كم يد عقرت الناقة؟ قال: قلت: يد واحدة. قال: أليس قد هلك القوم جميعا برضاهم وتماليهم. رواه الإمام أحمد في الزهد.

ويشهد لها أيضًا حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض

ص: 67

يخسف بأولهم وآخرهم» قالت: قلت: يا رسول الله، كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم، ومن ليس منهم؟ قال:«يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم» . متفق عليه، وهذا لفظ البخاري.

قال المهلب في هذا الحديث: إن من كثر سواد قوم في المعصية مختارًا أن العقوبة تلزمه معهم. قال: واستنبط منه مالك عقوبة من يجالس شربة الخمر، وإن لم يشرب.

وقال النووي في هذا الحديث: من الفقه والتباعد من أهل الظلم والتحذير من مجالسهم، ومجالسة البغاة، ونحوهم من المبطلين؛ لئلا يناله ما يعاقبون به، وفيه أن من كثر سواد قوم جرى عليه حكمهم في ظاهر عقوبات الدنيا. انتهى.

العشرون: إن في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمانًا من تعلق العصاة بالعبد يوم القيامة، وتارك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متعرض لتعلق العصاة به في موقف الحساب، ومخاصمتهم له بين يدي الجبار تبارك وتعالى.

قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتاب الصلاة: وقد جاء الحديث قال: يجيء الرجل يوم القيامة متعلقًا بجاره، فيقول: يا رب، هذا خانني. فيقول: يا رب، وعزتك ما خنته في أهل، ولا مال. فيقول: صدق يا رب، ولكنه رآني على معصية، فلم ينهني عنها.

وروى رزين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا نسمع أن الرجل يتعلق بالرجل يوم القيامة، وهو لا يعرفه، فيقول له: ما لك إلي، وما بيني وبينك معرفة، فيقول: كنت تراني على الخطأ وعلى المنكر، ولا تنهاني.

ص: 68

الحادية والعشرون: إن في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إعزازًا لدين الإسلام، وحراسة له ولأهله، وقمعًا للسفهاء والظالمين، وبذلك تكون العزة للمسلمين، ويثبت ملكهم، فإذا تهاونوا بإعزاز دينهم وحراسته وقمع سفهائهم والظالمين منهم سلبوا النعمة، وبدلوا بالعز ذلا وبالأمن خوفًا.

قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} .

وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} .

وروى ابن أبي حاتم بسنده عن إبراهيم قال: أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل أن قل لقومك: إنه ليس من أهل قرية، ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله، فيتحولون منها إلى معصية الله إلا حول الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون قال: إن تصديق ذلك في كتاب الله.

{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} .

وروى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: الملك والدين إخوان لا غنى لأحدهما عن الآخر؛ فالدين أساس والملك حارس فما لم يكن له أساس فمهدوم، وما لم يكن له حارس فضائع.

ويشهد لهذا حديث معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله في النار على وجهه ما أقاموا الدين» رواه البخاري.

ص: 69

وفي تقييده صلى الله عليه وسلم بقاء ملك قريش بإقامة الدين دليل على نهم إذا لم يقيموا الدين، فإن الأمر يخرج عنهم إلى غيرهم، وهكذا وقع الأمر، كما لا يخفى على من له أدنى إلمام بالأخبار.

ويستفاد من هذا الحديث أن ملك ملوك المسلمين مرتبط بإقامة دين الإسلام، فمن أقامه منهم ثبت ملكه، ومن ضيعه خرج الأمر من يده، ولا بد.

وقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن شهاب حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن عبد الله بن مسعود رضي عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في قريب من ثمانين رجلا من قريش، فذكر الحديث، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تشهد ثم قال:«أما بعد يا معشر قريش، فإنكم أهل هذا الأمر ما لم تعصوا الله، فإذا عصيتموه بعث إليكم من يلحاكم، كما يلحى هذا القضيب لقضيب في يده ثم لحا قضيبه، فإذا هو أبيض يصلد» . قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.

ورواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط، قال الهيثمي: ورجال أبي يعلى ثقات.

قال الجوهري: اللحاء ممدود قشر الشجر، ولحوت العصا ألحوها لحوا إذا قشرتها. انتهى.

ويصلد معناه: يبرق ويبص. قاله ابن الأثير وابن منظور في لسان العرب.

ص: 70

وروى الحاكم في مستدركه من حديث حبيب بن أبي القاسم بن الحارث عن عبد الله بن عتبة عن أبي مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يزال هذا وأنتم ولاته ما لم تحدثوا أعمالا تنزعه منكم، فإذا فعلتم ذلك سلط الله عليكم شرار خلقه، فألحوكم، كما يلتحى القضيب» قال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وقال الشافعي في مسنده حدثنا ابن أبي فديك عن ابن ذئب عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقريش: «أنتم أولى الناس بهذا الأمر ما كنتم مع الحق إلا أن تعدلوا عنه فتلحون كما تلحى هذه الجريدة يشير إلى جريدة في يده» وهذا مرسل صحيح.

وقد وقع الأمر طبق ما في هذه الأحاديث الثلاثة، فبعث الله على قريش لما عصوه من لحاهم، كما يلحى القضيب، وهكذا وقع لكثير سواهم من ولاة الأمور الذين تركوا بعض الأوامر، وارتكبوا بعض النواهي، فسلط الله عليهم من لحاهم، كما يلحى القضيب.

فليعتبر ولاة الأمور الآن بمن خلا قبلهم من ولاة الأمور الذين سلبوا ملكهم، وبدلوا من العزة والكرامة بالذلة والإهانة جزاء على تركهم لأوامر الله وانتهاكهم لمحارمه.

فالعاقل من اعتبر بالماضين، والسعيد من وعظ بغيره.

ص: 71

وقد قال الله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَانَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ} .

وقال تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَاسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَاتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} الآية.

وقد روى الإمام أحمد في الزهد، وأبو نعيم في الحلية من طريقه عن جبير بن نفير قال: لما فتحت قبرص، وفرق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، رأيت أبا الدرداء رضي الله عنه جالسًا وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء، ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ قال: ويحك يا جبير، ما أهون الخلق على الله إذا هم تركوا أمره، بينا هي أمة قاهرة ظاهرة، لهم الملك، وتركوا أمر الله عز وجل، فصاروا إلى ما ترين.

وقال ابن قتيبة الدينوري في كتاب مختلف الحديث: حدثني رجل من أصحاب الأخبار أن المنصور سمر ذات ليلة، فذكر خلفاء

ص: 72

بني أمية وسيرتهم، وأنهم لم يزالوا على استقامة حتى أفضي أمرهم إلى أبنائهم المترفين، فكان همهم من عظيم شأن الملك وجلالة قدره قصد الشهوات، وإيثار اللذات، والدخول في معاصي الله عز وجل، ومساخطه، جهلا منهم باستدراج الله تعالى، وأمنا من مكره تعالى، فسلبهم الله تعالى الملك والعز، ونقل عنهم النعمة.

فقال له صالح بن علي: يا أمير المؤمنين، إن عبيد الله بن مروان لما دخل أرض النوبة هاربًا فيمن اتبعه، سأل ملك النوبة عنهم، فأخبر، فركب إلى عبيد الله، فكلمه بكلام عجيب في هذا النحو لا أحفظه، وأزعجه عن بلده، فإن رأى أمير المؤمنين أن يدعو به من الحبس بحضرتنا في هذه الليلة، ويسأله عن ذلك؟ فأمر المنصور بإحضاره، وسأله عن القصة. فقال: يا أمير المؤمنين، قدمت أرض النوبة بأثاث سلم لي، فافترشته بها، وأقمت ثلاثًا، فأتاني ملك النوبة وقد خبر أمرنا، فدخل على رجل طوال أقنى حسن الوجه، فقعد على الأرض، ولم يقرب الثياب، فقلت: ما يمنعك أن تقعد على ثيابنا؟ فقال: إني ملك، وحق على كل ملك أن يتواضع لعظمة الله إذا رفعه الله ثم أقبل علي فقال لي: لِمَ تشربون الخمور وهي محرمة عليكم في كتابكم؟ فقلت: اجترأ على ذلك عبيدنا وسفهاؤنا. قال: فلِمَ تطئون الزروع بدوابكم والفساد محرم عليكم في كتابكم؟ قلت: يفعل ذلك جهالنا، قال: فلم تلبسون الديباج والحرير وتستعملون الذهب والفضة وهو محرم عليكم؟ فقلت: زال عنا الملك، وقل أنصارنا، فانتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا، فلبسوا ذلك على الكره منا. فأطرق مليا، وجعل يقلب يده، وينكت في الأرض،

ص: 73

ثم قال: ليس ذلك كما ذكرت، بل أنتم قوم استحللتم ما حرم عليكم، وركبتم ما عنه نهيتم، وظلمتم فيما ملكتم، فسلبكم الله العز، وألبسكم الذل بذنوبكم، ولله فيكم نقمة لم تبلغ نهايتها، وأخاف أن يحل بكم العذاب وأنتم ببلدي، فيصيبني معكم، وإنما الضيافة ثلاث، فتزودا ما احتجتم إليه، وارتحلوا عن بلدي، ففعلت ذلك.

قلت: وفيما جرى على بني العباس من غلمانهم الأتراك وملوك الديلك والتتار عبرة عظيمة وعظة لمن بعدهم من ملوك المسلمين؛ فإن بني العباس كانوا أقوى سلطانًا، وأكثر أموالا ورجالا، وأوسع ممالك ممن جاء بعدهم من الملوك، وما نفعهم ذلك شيئًا، بل سلبهم الله العز، وألبسهم الذل، وسلط عليهم الأعداء من كل جانب يسومونهم سوء العذاب، ويأخذون ما بأيديهم من المماليك والأموال، وكان خاتمة ذلك زوال الملك والنعمة عنهم على أيدي التتار الكفار الفجار جزاء على تضييعهم لأوامر الله تعالى، وارتكابهم لنواهيه، وتهاونهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ على أيدي السفهاء والظالمين.

فاعتبروا أيها المسلمون بمن خلا قبلكم من العاصين. واحذروا أن يصيبكم ما أصابهم، فما العقوبات من الظالمين منكم ببعيد.

قال الله تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَاتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَاخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَاخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} .

ص: 74