الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل [في بيان أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم قادر]
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم قادر، وهو فرض على الكفاية، ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره.
والقدرة هي السلطان والولاية، فذووا السلطان أقدر من غيرهم، وعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم، فإن مناط الوجوب القدرة، فيجب على كل إنسان بحسب قدرته.
قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} .
وجميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو من أوجب الأعمال وأفضلها وأحسنها، ولا يتم إلا بالعقوبات الشرعية؛ فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. انتهى.
فبين رحمه الله تعالى أن ذوي السلطان والولاية هم أهل القدرة، وأن عليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم، وأنه يصير فرض عين عليهم إذا لم يقم به غيرهم.
ويشهد لصحة هذا أن الله تعالى وبخ علماء بني إسرائيل، وذمهم على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولولا أنه متعين عليهم لما خصهم بالذم والتوبيخ.
قال الله تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: الربانيون: هم العلماء العمال أرباب الولايات عليهم. والأحبار: هم العلماء فقط.
وقد تقدم هذا التفسير مع الكلام على الآية قريبًا.
وقد تقدم أيضًا قول علي رضي الله عنه: إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي، ولم ينههم الربانيون والأحبار
…
إلى آخره.
ومن هذه الأدلة العامة يعلم أن المسئولية أمام الله واقعة على عاتق جميع الطبقات من المسلمين.
وأول مسئولية وأعظمها تقع على عاتق الإمام الأعظم؛ لأن له السلطة الكاملة، وهو المنفذ لأحكام الله، والحامي لحدود الله.
وعلى كل من حوله مساعدته ومؤازرته في ذلك بكافة الوسائل، وبالتنبيه والمناصحة، وبذلك تبرأ ذمتهم، وإلا فهم آثمون، ومسئولون عما أضاعوه من هذا الواجب العظيم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» لا سيما من وضع ثقته فيهم، ووكل إليهم الأمر والنهي، وجعلكم واسطة بينه وبين رعيته.
ثم يليه في عظم المسئولية أشراف الناس على اختلاف طبقاتهم في الشرف، سواء كان بعلم أو بنسب أو بجاه، أو بمال أو بعشيرة، أو بشجاعة، أو بقلم، أو بغير ذلك مما عده الناس شرفًا يحمي صاحبه من أن يستخف به، أو يستهان بكرامته.
وإذا علم هذا فكل شخص له شرف يحميه من أهل الباطل وأنصارهم يرى منكرًا، أو يعلم به، ثم لا يعمل على تغييره، فهو آثم ومسئول مسئولية كبيرة، وخاصة أهل المقامات الذين لا يخشون سوطًا، ولا سجنًا، ولا غير ذلك.
فهؤلاء واجبهم التغيير باليد والإنكار باللسان، وبذلك تبرأ ذمتهم، ويقتدى بهم في استقامتهم وسلوكهم.
وكل شرف لم تكن نتيجته نصرة الحق، فهو نقمة على صاحبه، وذلك لأن الساكت عن نصرة الحق مع القدرة مضعف لصف أهل الحق، ومكثر لأهل الباطل، وشريك لهم في الإثم والعقوبة، ولا بد. وعليه بذلك الوعيد الشديد، كما في سورة المائدة والأعراف، وغيرها من أدلة الكتاب والسنة.
وهو بهذا السكوت لم يقم بتأدية شكر نعمة الله عليه، بهذا الشرف الخاص علاوة على شرفه بالإسلام، والله يقول:{وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} وقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} وقال تعالى: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} .
والمصيبة العظمى والآفة كل الآفة على الدين ترك كثير من القادرين ما هو متعين عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مداهنة للناس، وطلبًا لرضاهم، وإيثارًا للوظائف والرياسات، وتحصيل الأغراض الدنيوية والحظوظ النفسانية على طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن كان هذا شأنه يوشك أن يعاجل بالعقوبة مع عكس مراده.
كما في صحيح ابن حبان عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه، وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس»
ورواه الترمذي في جامعه عن رجل من أهل المدينة، قال: كتب معاوية إلى عائشة رضي الله عنها أن اكتبي إلي كتابًا توصيني فيه، ولا تكثري علي، قال: فكتبت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية رضي الله عنه: (سلام عليك، أما بعد، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، وكله الله إلى الناس» والسلام عليك) ثم رواه من وجه آخر عن عائشة رضي الله عنها موقوفًا.
ورواه الإمام أحمد موقوفًا على عائشة رضي الله عنها أنها قالت: من أسخط الناس برضاء الله عز وجل كفاه الله الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله وكله إلى الناس.
وروى البزار في مسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من طلب محامد الناس بمعاصي الله عاد حامده له ذامًا» .
ورواه ابن حبان في صحيحه، ولفظه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله، ومن أسخط الله برضا الناس وكله الله إلى الناس» .
وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أسخط الله في رضا الناس سخط الله عليه وأسخط عليه من أرضاه في سخطه، ومن أرضى الله في سخط الناس رضي عنه وأرضى عنه من أسخطه في رضاه، حتى يزينه ويزين قوله وعمله في عينه» قال المنذري: إسناده جيد قوي.
وروى الحاكم في مستدركه عن جابر بن عبد الله رضي الله
عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أرضى سلطانًا بسخط ربه عز وجل خرج من دين الله تبارك وتعالى» .
وروى ابن سعد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن الرجل ليدخل على السلطان ومعه دينه، فيخرج وما معه دينه. قيل: كيف؟ قال: يرضيه بما يسخط الله.
ورواه الحاكم في مستدركه من حديث طارق بن شهاب عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنه ذكر الفتنة فقال: إن الرجل ليخرج من بيته ومعه دينه، فيرجع وما معه شيء منه، يأتي الرجل لا يملك له ولا لنفسه ضرًا ولا نفعًا، فيقسم له بالله أنك لذيت وذيت، فيرجع ما خلى من حاجته بشيء، وقد أسخط الله عليه، قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: ومما يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أو غيره: ارجُ الله في الناس، ولا ترجُ الناس في الله، ولا تخف الناس في الله، وكما كتبت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية رضي الله عنه، إما بعد فإنه من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه، وجعل حامده من الناس له ذامًا، ومن أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه، وجعل ذامه من الناس حامدًا.
وقال خالد بن معدان: من اجترأ على الملاوم في مراد الحق رد الله ترك الملاوم له محامد، ومن ترك قول الحق في مراد الخلق خوف ملاوم الخلق، ورجاء محامدهم قلب الله تلك المحامد عليه ملاوم وذمًا.
قال الشيخ رحمه الله تعالى: وهذا تحقيق قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} وقوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} .
وإنما يؤتى الإنسان من نقص متابعته للرسول.
وقال الشيخ أيضًا في موضع آخر: وأما كون حامده ينقلب له ذامًا، فهذا يقع كثيرًا، ويحصل في العاقبة.
قلت: والعيان من ذلك يغني عن البرهان، فلا تجد أحقر، ولا أصغر قدرًا من الذين استهانوا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مداهنةً للخلق، وخوفًا من سخطهم حتى عند الذين يداهنونهم في أمر الله تعالى، ويقدمون رضاهم على رضا الله.
وكثيرًا من الناس، وإن تملقوا للمداهنين، وأظهروا لهم المودة، وسارعوا إلى قضاء حوائجهم؛ ليسكتوا عنهم، ويتركوهم وما هم عليه، أو لينالوا من دنياهم، أو لينالوا بسببهم من أمور الدنيا وحظوظها فهم في الباطن مستخفون بهم محتقرون لهم، وكثيرًا ما يظهرون عيبهم وذمهم عند من يثقون به من الناس، وإذا زلت النعل بأحد المداهنين رأيت العجب العجاب من إظهار الشماتة به والذم له.
فينبغي للمؤمن أن يقدم رضا الله تعالى على كل شيء، وإن سخط عليه الناس كلهم؛ فإن من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه، وأرضى عنه الناس، كما في حديث عائشة رضي الله عنها. وهذا هو العقل النافع.
وأما المداهنة، فإنها نقص في العقل والدين، وربما كانت سببًا لفتنة القلب وموته ، كما تقدم في حديث حذيفة والأثرين عنه وعن ابن مسعود رضي الله عنهما.
وإذا مات القلب فارقه نور الإيمان، وفارقته الغيرة على محارم الله، وصار الحاكم عليه الشيطان والهوى، فلا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه، وهذا هو المنافق الذي لا خير فيه.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ، وبما كان عليه هو وأصحابه رأى أن أكثر من يشار إليهم بالدين هم أقل الناس دينًا. وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك وحدوده تضاع ودينه يترك وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها، وهو بارد القلب، وساكت اللسان شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق، وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم، فلا مبالاة بما جرى على الدين، وخيارهم المتحزن المتلفظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل، وتبذل وجد، واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه، وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله، ومقت الله لهم قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب؛ فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل.