الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل [في التحذير أن يخالف قول الآمر والناهي فعله]
وليحذر الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يخالف قولَه فعلُه، فإن الله تعالى يمقت على ذلك أشد المقت مع ما يدخره لصاحبه من العذاب المهين في الآخرة.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} .
وقال تعالى: {أَتَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} .
وروى البخاري في صحيحه عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات، فأنسيتها غير أني حفظت منها:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} فتكتب شهادة في أعناقكم فتسئلون عنها يوم القيامة.
وروى ابن أبي الدنيا والبيهقي بإسناد جيد عن الحسن مرسلا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من عبد يخطب خطبة إلا الله سائله عنها يوم القيامة ما أردت بها» قال: فكان مالك - يعني ابن دينار - إذا حدث بهذا الحديث بكى، ثم يقول: أتحسبون أن عيني تقر بكلامي عليكم، وأنا أعلم أن الله سائلي عنه يوم القيامة يقول: ما أردت به؟.
وروى الأصبهاني عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل لا يكون مؤمنًا حتى يكون قلبه مع لسانه سواء، ويكون لسانه مع قلبه سواء، ولا يخالف قوله عمله، ويأمن جاره بوائقه» .
وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى: {تَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} قال: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه، ويخالفون فعيرهم الله عز وجل.
قال ابن كثير: وكذا قال السدي.
وقال ابن جريج: {أَتَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة، ويدعون العمل بما يأمرون به الناس، فعيرهم الله بذلك، فمن أمر بخير، فليكن أشد الناس فيه مسارعة.
وروى أبو نعيم في الحلية عن الأوزاعي، أنه قال: إن المؤمن يقول قليلا، ويعمل كثيرًا، وإن المنافق يقول كثيرًا، ويعمل قليلا.
وروى ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه جاءه رجل فقال: يا ابن عباس، إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر. قال: أبلغت ذلك؟ قال: أرجو. قال: إن لم تخش أن تفتضح بثلاث آيات من كتاب الله، فافعل. قال: وما هن؟ قال: قول الله تعالى: {أَتَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} أحكمت هذه؟ قال: لا. قال: فالحرف الثاني قال قوله تعالى {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} أحكمت هذه؟ قال: لا. قال: فالحرف الثالث، قال: قول العبد الصالح شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ} أحكمت هذه؟ قال: لا. قال: فابدأ بنفسك.
وذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى عن إبراهيم النخعي أنه قال: إني لأكره القصص لثلاث آيات قوله تعالى: {أَتَامُرُونَ النَّاسَ
بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} .
وقوله إخبارًا عن شعيب: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ} .
وروى الإمام أحمد في الزهد وأبو نعيم في الحلية عن مالك بن دينار، قال: أوحى الله إلى عيسى عليه الصلاة والسلام أن يا عيسى، عظ نفسك، فإن اتعظت، فعظ الناس، وإلا فاستحي مني.
وروى الطبراني وأبو نعيم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في سخط الله حتى يكف أو يعمل بما قال، أو دعا إليه» .
وروى الطبراني أيضًا والحافظ الضياء المقدسي عن جند بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مثل العالم الذي يعلم الناس الخير، ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس، ويحرق نفسه» .
وروى الطبراني أيضًا والبزار عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مثل الذي يعلم الناس الخير، وينسى نفسه مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها» .
وروى الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي وعبد بن حميد، وابن حبان في صحيحه، وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي والبغوي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: الخطباء من أمتك الذين يأمرون الناس بالبر، وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب، أفلا يعقلون» .
وفي رواية لابن مردويه: «تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار» .
ورواه أبو نعيم في الحلية بنحوه.
وفي رواية له عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتيت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار، كلما قرضت وفت، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون، ولا يفعلون، ويقرءون كتاب الله، ولا يعملون به» ورواه ابن أبي الدنيا والبيهقي بنحوه.
وروي أبو نعيم أيضًا عن مالك بن دينار قال: ما من خطيب يخطب إلا عرضت خطبه على عمله، فإن كان صادقًا صدق، وإن كان كاذبًا قرضت شفتاه بمقراض من نار، كلما قرضتا نبتتا.
وفي الصحيحين وغيرهما عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار فندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان، ما لك ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، قد كنت آمر بالمعروف، ولا أتيه، وأنهي عن المنكر، وآتيه» .
الأقتاب: الأمعاء، واحدها قِتْب بكسر القاف وسكون المثناة، واندلاقها: خروجها من الجوف بسرعة. قاله غير واحد من أئمة اللغة، وروى ابن جرير والطبراني عن الوليد بن عقبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن إناسًا من أهل الجنة يطلعون على أناس من
أهل النار، فيقولون: بم دخلتم النار؟ فوالله ما دخلنا الجنة إلا بما تعلمنا منكم. فيقولون: إنا كنا نقول، ولا نفعل».
وروى الإمام أحمد في الزهد عن الشعبي قال: يشرف أهل الجنة في الجنة على قوم في النار، فيقولون: ما لكم في النار، وإنما نعمل بما تعلمونا، فيقولون: إنا كنا نعلمكم، ولا نعمل به.
وروى أبو نعيم في الحلية عن قتادة قال: إن في الجنة كوى إلى النار، فيطلع أهل الجنة من تلك الكوى إلى النار، فيقولون: ما بال الأشقياء، وإنما دخلنا الجنة بفضل تأديبكم؟ قالوا: إنا كنا نأمركم، ولا نأتمر، وننهاكم، ولا ننتهي.
وروى عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد الزهد عن الحسن قال: إذا كنت آمرًا بالمعروف، فكن من آخذ الناس به، وإلا هلكت، وإذا كنت ممن ينهى عن المنكر، فكن من أنكر الناس له، وإلا هلكت.
وروى الطبراني عن الأغر أبي مالك أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: من أمر بالحق وعمل بالباطل، وأمر بالمعروف وعمل بالمنكر يوشك أن تنقطع أمنيته، وأن يحبط عمله.
ومن حكم الشعر قول أبي الأسود الدؤلي:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى
…
طبيب يداوي الناس وهو سقيم
يا أيها الرجل المعلم غيره
…
هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى
…
كيما يصح به وأنت سقيم
وأراك تصلح بالرشاد عقولنا
…
أبدا وأنت من الرشاد عديم