الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني إفنَاء الأحيَاء
المَبحَث الأول
النفخ في الصّور
هذا الكون العجيب الغريب الذي نعيش فيه، يعجُّ بالحياة والأحياء الذين نشاهدهم والذين لا نشاهدهم، وهم فيه في حركة دائبة لا تهدأ ولا تتوقف، وسيبقى حاله كذلك إلى أن يأتي اليوم الذي يُهلك الله فيه جميع الأحياء إلا من يشاء، (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) [الرحمن: 26] ، (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص: 88] .
وعندما يأتي ذلك اليوم ينفخ في الصور، فتُنهي هذه النفخة الحياةَ في الأرض والسماء (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ) [الزمر: 68] .
وهي نفخة هائلة مدمرة، يسمعها المرء فلا يستطيع أن يوصي بشيء، ولا يقدر على العودة إلى أهله وخلانه (مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ - فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) [يس: 49-50] .
وفي الحديث: " ثم ينفخ في الصور، فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً، ورفع ليتاً (1) ، قال: وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله. قال: فيصعق ويصعق الناس "(2) .
وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن سرعة هلاك العباد حين تقوم الساعة، فقال:" ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه، ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة، وهو يليط حوضه، فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها "(3) .
(1) أصغى: أمال: والليت: صفحة العنق.
(2)
صحيح مسلم، كتاب الفتن: باب خروج الدجال: (4/2295) ورقمه: 2940.
(3)
صحيح البخاري، كتاب الفتن، رقم (7120)، فتح الباري:(13/82) عن أبي هريرة. ورواه في كتاب الرقاق، فتح الباري:(11/352) .
الصّور الذي ينفخ فيه
الصور في لغة العرب القَرْن، وقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الصور، ففسره بما تعرفه العرب من كلامها، ففي سنن الترمذي وسنن أبي داود، وسنن ابن حبان، ومسند أحمد، ومستدرك الحاكم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ما الصور؟ قال: الصور قرن ينفخ فيه "(1) قال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي فيه: حديث حسن صحيح.
وذكر عن الحسن البصري أنه قرأ (الصُوَر) ، جمع صورة، وتأوله على أن المراد النفخ في الأجساد لتعاد إليها الأرواح.
ونقل عن أبي عبيدة والكلبي أن (الصُّوْر) بسكون الواو جمع صورة، كما يقال: سور المدينة جمع سورة، والصوف جمع صوفة، وبسر جمع بسرة.
وقالوا: المراد النفخ في الصور وهي الأجساد، لتعاد فيها الأرواح، وما ذكروه خطأ من وجوه:
الأول: أن القراءة التي نسبت إلى الحسن البصري لا تصح نسبتها إلى الأئمة الذين يحتج بقراءتهم.
الثاني: أن (صورة) تجمع على (صُوَر) ، ولا تجمع على (صُوْر) كما ادعى
(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (3/68)، ورقمه:1080.
أبو عبيدة والكلبي، قال تعالى:(وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)[غافر: 64]، ولم يعرف عن أحد من القراء أنه قرأها: فَأَحْسَنَ صُوْركُمْ.
الثالث: أن الكلمات التي ذكروها ليست بجموع، وإنما هي أسماء جموع، يفرق بينها وبين واحدتها بالتاء.
الرابع: أن هذا القول خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة، فالذي عليه أهل السنة والجماعة أن الصور بوق ينفخ فيه.
الخامس: أن هذا القول مخالف لتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث فسره بالبوق، ومخالف للأحاديث الكثيرة الدالة على هذا المعنى.
السادس: أن الله تعالى قال: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ)[الزمر: 68] ، فقد أخبر الحق أنه ينفخ في الصور مرتين، ولو كان المراد بالصور النفخ في الصُّوَر التي هي الأبدان لما صح أن يقال:(ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى) ، لأن الأجساد تنفخ فيها الأرواح عند البعث مرة واحدة (1) .
وما ذكره بعض أهل العلم من أن الصور من ياقوتة أو من نور فلا نعلم في ذلك حديثاً صحيحاً، والله أعلم.
(1) راجع في هذه المسألة: تذكرة القرطبي: 182، 185. فتح الباري (11/367) . لسان العرب:(2/493) .
النَافخ في الصُّور
قال ابن حجر العسقلاني: " اشتهر أن صاحب الصور إسرافيل عليه السلام، ونقل فيه الحليمي الإجماع، ووقع التصريح به في حديث وهب ابن منبه، وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي، وفي حديث أبي هريرة عند ابن مردويه، وكذا في حديث الصور الطويل "(1) .
وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن صاحب الصور مستعد دائماً للنفخ فيه منذ أن خلقه الله تعالى، ففي مستدرك الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن طَرْف صاحب الصور منذ وُكِّل به مستعد ينظر نحو العرش، مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طَرْفه، كأن عينيه كوكبان دُرِّيان " قال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي (2) .
وفي هذا الزمان الذي اقتربت فيه الساعة، أصبح إسرافيل أكثر استعداداً وتهيؤاً للنفخ في الصور، فقد روى ابن المبارك في الزهد، والترمذي في سننه، وأبو نعيم في الحلية، وأبو يعلى في مسنده، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كيف أنعم، وقد التقم صاحب القرنِ القرنَ، وحنى جبهته، وأصغى سمعه، ينتظر أن يؤمر أن
(1) فتح الباري: (11/368) .
(2)
سلسلة الأحاديث الصحيحة: (3/65)، ورقمه:1078.
ينفخ، فينفخ. قال المسلمون: فكيف نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، توكلنا على الله ربنا " وقال الترمذي: حديث حسن، وقد ذكر الشيخ ناصر رواته من الصحابة وطرقه ومتابعاته وشواهده في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) بما يدلُّ على صحته (1) .
(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (3/66)، ورقمه:1079.
اليَوم الذي يكون فيه النفخة
تقوم الساعة في يوم الجمعة، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلِق آدم، وفيه أُدخل الجنة، وفيه أُخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة "(1) .
وفي حديث آخر أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الساعة تقوم في يوم الجمعة، وفيها يُبعث العباد أيضاً، فعن أوس بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصَّعْقَة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليَّ " رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة، والدارمي، والبيهقي في ((الدعوات الكبير)) (2) . وفي ((مسند الطبراني الأوسط)) ، و ((الحلية)) لأبي نعيم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عُرِضَت عليَّ الأيام، فعُرض عليَّ فيها يوم الجمعة، فإذا هي كمرآة بيضاء في وسطها نكتة سوداء، فقلت: ما هذه؟ قيل: الساعة "(3) .
(1) صحيح مسلم: 854.
(2)
مشكاة المصابيح: (1/430)، ورقمه:(1361)، وقال - محقق المشكاة: إسناده عند أبي داود صحيح، وصححه جماعة.
(3)
رمز الشيخ ناصر للحديث بالصحة في صحيح الجامع: (4/31)، ورقمه (3895) وأورد طرقه في سلسلة الأحاديث الصحيحة:(4/568)، ورقمه:(1930) .
ولما كانت الساعة تقع في هذا اليوم فإن المخلوقات في كل يوم جمعة تكون مشفقةً خائفةً إلا الإنس والجن، ففي موطأ الإمام مالك، وسنن أبي داود، وسنن الترمذي والنسائي، ومسند أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه هبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مصيخة (1) ، يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس، شفقاً من الساعة، إلا الجن والإنس "(2) .
(1) منتظرة قيام الساعة.
(2)
مشكاة المصابيح: (1/428)، ورقمه (1359) وعزاه محقق المشكاة إلى الموطأ والترمذي. وقال الترمذي فيه: حسن صحيح.
كم مَرَّة ينفخ في الصُّور؟
الذي يظهر أن إسرافيل ينفخ في الصور مرتين، الأولى يحصل بها الصعق، والثانية يحصل بها البعث، قال تعالى:(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ)[الزمر: 68] .
وقد سمى القرآن النفخة الأولى بالراجفة، والنفخة الثانية بالرادفة، قال تعالى:(يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ - تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ)[النازعات: 6-7] .
وفي موضع آخر سمى الأولى بالصيحة، وصرح بالنفخ بالصور في الثانية، قال تعالى:(مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ - فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ - وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ)[يس: 49-51] .
وقد جاءت الأحاديث النبوية مصرحة بالنفختين، ففي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ما بين النفختين أربعون ". قالوا: يا أبا هريرة، أربعون يوماً؟ قال: أبيت. قالوا: أربعون شهراً؟ قال: أبيت، قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت " (1) .
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) رواه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، تفسير سورة الزمر، فتح الباري:(11/551) ورواه مسلم في صحيحه: (4/2270) ، ورقمه 2955.
يقول: " ثم ينفخ في الصور، فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً، ورفع ليتاً (1) ، فأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله، قال: فيصعق، ويصعق الناس، ثم يرسل الله - أو قال: ينزل الله مطراً، كأنه الطَّلُّ، أو الظِّلُّ، (نعمان (2) الشاك) فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون "(3) .
وأخرج البيهقي بسند قوي عن ابن مسعود موقوفاً: " ثم يقوم ملك الصور بين السماء والأرض، فينفخ فيه، والصور قرن، فلا يبقى خلق في السماوات ولا في الأرض إلا مات إلا من شاء ربك، ثم يكون بين النفختين ما شاء الله أن يكون "(4) .
وروى أوس بن أوس الثقفي عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " إن أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه الصعقة وفيه النفخة "(5) ، وقد أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم (6) .
وقد رجح هذا الذي دلت عليه هذه الآيات والأحاديث التي سقناها جمع من أهل العلم، منهم القرطبي (7) ، وابن حجر العسقلاني (8) .
وذهب جمع من أهل العلم إلى أنها ثلاث نفخات، وهي نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة البعث.
(1) الليت: صفحة العنق، وإصغاؤه: إمالته.
(2)
هو نعمان بن سالم أحد رواة هذا الحديث.
(3)
رواه مسلم: (4/2258)، ورقمه:2940.
(4)
فتح الباري: (11/370) .
(5)
فتح الباري: (11/370) .
(6)
فتح الباري: (11/370) .
(7)
التذكرة للقرطبي: 183، 184.
(8)
فتح الباري: (11/369) .
وممن ذهب هذا المذهب ابن العربي (1) ، وابن تيمية (2) ، وابن كثير (3) ، والسفاريني (4)، وحجة من ذهب هذا المذهب أن الله ذكر نفخة الفزع في قوله:(وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ)[النمل: 87] .
كما احتجوا ببعض الأحاديث التي نصت على أن النفخات ثلاث، كحديث الصور، وهو حديث طويل، أخرجه الطبري، وفيه:" ثم ينفخ في الصور ثلاث نفخات: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة القيام لرب العالمين "(5) .
أما استدلالهم بالآية التي تذكر نفخة الفزع فليست صريحة على أن هذه نفخة ثالثة، إذ لا يلزم من ذكر الحق تبارك وتعالى للفزع الذي يصيب من في السماوات والأرض عند النفخ في الصور أن تجعل هذه نفخة مستقلة، فالنفخة الأولى تفزع الأحياء قبل صعقهم، والنفخة الثانية تفزع الناس عند بعثهم.
يقول ابن حجر رحمه الله تعالى: " ولا يلزم من مغايرة الصعق الفزع أن لا يحصلا معاً من النفخة الأولى "(6)، وجاء في تذكرة القرطبي:" ونفخة الفزع هي نفخة الصعق، لأن الأمرين لازمين لها، أي: فزعوا فزعاً ماتوا منه "(7) .
أما حديث الصور فهو حديث ضعيف مضطرب كما يقول الحجة في علم
(1) فتاوي شيخ الإسلام: (4/260) .
(2)
فتح الباري: (11/369) تذكرة القرطبي: ص 184.
(3)
النهاية لابن كثير: (1/253) .
(4)
لوامع الأنوار البهية: (2/161) .
(5)
فتح الباري: (11/369) .
(6)
فتح الباري: (11/369) .
(7)
تذكرة القرطبي: 184.
الحديث ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى، ونقل تضعيفه عن البيهقي (1) .
وذهب ابن حزم رحمه الله تعالى إلى: " أن نفخات يوم القيامة أربع: الأولى نفخة إماتة، والثانية نفخة إحياء، يقوم بها كل ميت، وينشرون من القبور، ويجمعون للحساب.
والثالثة: نفخة فزع وصعق، يفيقون منها كالمغشي عليه، لا يموت منها أحد.
والرابعة: نفخة إفاقة من ذلك الغشى " (2) .
قال ابن حجر بعد أن حكى مقالة ابن حزم: " هذا الذي ذكره من كون الثنتين أربعاً ليس بواضح، بل هما نفختان فقط، ووقع التغاير في كل واحد منهما باعتبار من يستمعهما، فالأولى يموت فيها كل من كان حياً، ويُغشى على من لم يمت ممن استثنى الله. والثانية: يعيش بها من مات، ويفيق بها من غشي عليه، والله أعلم "(3) .
(1) فتح الباري: (11/369) .
(2)
فتح الباري: (6/446) .
(3)
فتح الباري: (6/446) .
الذين لا يُصعقون عند النفخ في الصّور
أخبرنا الباري جلَّ وعلا أن بعض من في السماوات ومن في الأرض لا يُصعقون عندما يُصعق من في السماوات ومن في الأرض (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ)[الزمر: 68] .
وقد اختلف العلماء في تعيين الذين عناهم الحق بالاستثناء في قوله: (إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ) .
1-
فذهب ابن حزم إلى أنهم جميع الملائكة، لأن الملائكة في اعتقاده أرواح لا أرواح فيها، فلا يموتون أصلاً (1) .
وهذا الذي ذهب إليه من أن الملائكة لا يموتون لا يُسلم له، فالملائكة خلق من خلق الله تبارك وتعالى، وهم عبيد مربوبون مقهورون، خلقهم، وهو قادر على إماتتهم وإحيائهم، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، وعن غير واحد من الصحابة أنه قال:" إن الله إذا تكلم بالوحي أخذ الملائكة منه مثل الغشى "، وفي رواية:" إذا سمعت الملائكة كلامه صعقوا " فأخبر في هذا الحديث أنهم يصعقون صعق الغشي، فإذا جاز عليهم صعق الغشي، جاز عليهم صعق الموت " (2) .
(1) فتح الباري: (6/371) .
(2)
راجع مجموع فتاوي شيخ الإسلام: (4/260) .
2-
وذهب مقاتل وغيره إلى أنهم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت (1) .
وأضاف إليه بعض أهل العلم حملة العرش (2) .
وصحة هذا متوقف على أحاديث رووها، وأهل العلم بالحديث لا يصححون مثلها (3) .
3-
وذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إلى أن المراد بهم الذين في الجنة من الحور العين والولدان، وأضاف إليهم أبو إسحاق بن شاقلا من الحنابلة، والضحاك بن مزاحم: خزان الجنة والنار، وما فيها من الحيات والعقارب (4) .
يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: " وأما الاستثناء فهو متناول لما في الجنة من الحور العين، فإن الجنة ليس فيها موت "(5) .
4-
وقد جنح أبو العباس القرطبي صاحب ((المفهم إلى شرح مسلم)) إلى أن المراد بهم الأموات كلهم، لكونهم لا إحساس لهم، فلا يصعقون (6) .
وما ذهب إليه أبو العباس صحيح إذا فسرنا الصعق بالموت، فإن الإنسان يموت مرة واحدة، قال تعالى:(لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى)[الدخان: 56] .
وقد عقد ابن القيم في كتابه: ((الروح)) فصلاً بيَّن فيه أن أهل العلم قد اختلفوا في موت الأرواح عند النفخ في الصور.
(1) الروح لابن القيم: ص 50، وفتح الباري:(6/371) .
(2)
فتح الباري: (6/371) .
(3)
راجع فتح الباري: (6/371) .
(4)
الروح لابن القيم: ص 50، وفتح الباري:(6/371) .
(5)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام: (4/261) .
(6)
فتح الباري: (6/370) .
والذي رجحه ابن القيم أن موت الأرواح هو مفارقتها للأجساد، وخروجها منها، وردَّ قول الذين قالوا بفناء الأرواح وزوالها، لأن النصوص دلت على أن الأرواح تبقى في البرزخ معذبة أو منعمة (1) .
أما إذا فسرنا الصعق بالغشى، فإن الأرواح تصعق بهذا المعنى ولا تكون داخلة فيمن استثنى الله تبارك وتعالى، فإن الإنسان قد يسمع أو يرى ما يفزعه، فيصعق، كما وقع لموسى عندما رأى الجبل قد زال من مكانه (وَخَرَّ موسَى صَعِقًا) [الأعراف: 143] .
وقد جاء هذا المعنى صريحاً في بعض النصوص، ففي حديث أبي هريرة، عند البخاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله "(2) .
ورواه البخاري أيضاً عن أبي هريرة بلفط: " إني أول من يرفع رأسه بعد النفخة الآخرة، فإذا أنا بموسى متعلق بالعرش، فلا أدري، أكذلك كان، أم بعد النفخة "(3) .
ورواه في موضع ثالث بلفظ: " فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أكان فيمن أفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله "(4) .
(1) الروح، لابن القيم: ص 49.
(2)
صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب وفاة موسى، فتح الباري:(6/441) .
(3)
صحيح البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة الزمر، فتح الباري:(8/551) .
(4)
صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب النفخ في الصور، فتح الباري:(11/367) .
وهذا الحديث صريح في أن الموتى يصعقون، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد المرسلين يصعق، فغيره أولى بالصعق.
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الذي يصعق صعق غشى هم الشهداء دون غيرهم من الأموات، وأضاف إليهم آخرون من الأنبياء.
والسر في قَصْر هذا على الشهداء والأنبياء - كما يقول شيخ القرطبي: أحمد بن عمر -: " أن الشهداء بعد قتلهم وموتهم أحياء عند ربهم يرزقون فرحين مستبشرين، وهذه صفة الأحياء في الدنيا، وإذا كان هذا حال الشهداء كان الأنبياء بذلك أحق وأولى، مع أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس، وفي السماء، وخصوصاً بموسى، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تبارك وتعالى يردُّ عليه روحه، حتى يرد السلام على كل من يسلم عليه، إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أن غيبوا عنا بحيث لا ندركهم، وإن كانوا موجودين أحياء.. وإذا تقرر أنهم أحياء، فإذا نفخ في الصور نفخة الصعق، صعق كل من في السماوات ومن في الأرض، إلا من شاء الله "(1) .
وذهب إلى أن الشهداء والأنبياء يصعقون صعق غشي البيهقي فقال في صعق الأنبياء: " ووجهه عندي أنهم أحياء عند ربهم كالشهداء، فإذا نفخ في الصور النفخة الأولى صعقوا، ثم لا يكون ذلك موتاً في جميع معانيه، إلا في ذهاب الاستشعار، وقد جوز النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون موسى ممن استثنى الله، فإن كان منهم فإنه لا يذهب استشعاره في تلك الحالة بسبب ما وقع في صعقة الطور "(2) .
(1) تذكرة القرطبي: 169.
(2)
فتح الباري: (11/371) .
وبناء على هذا الفقه يكون الأنبياء والشهداء من الذين يصعقون، ولا يكونون داخلين في الاستثناء، وقد نقل عن ابن عباس وأبي هريرة وسعيد ابن جبير أن الأنبياء والشهداء من الذين استثناهم الله (1) ، وعزاه ابن حجر إلى البيهقي (2) ، فإن كان المراد استثناؤهم من الموت فإن هذا حق، وإن كان المراد استثناؤهم من الصعق الذي يصيب الأموات كما دل عليه حديث موسى فالأمر ليس كذلك.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الأولى بالمسلم التوقف في تعيين الذين استثناهم الله، لأنه لم يصح في ذلك نص يدل على المراد.
قال القرطبي صاحب التذكرة: " قال شيخنا أبو العباس: والصحيح أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح، والكل محتمل "(3) .
وقال ابن تيمية: " وأما الاستثناء فهو متناول لمن في الجنة من الحور العين، فإن الجنة ليس فيها موت، ومتناول لغيرهم، ولا يمكن الجزم بكل ما استثناه الله، فإن الله أطلق في كتابه.. والنبي صلى الله عليه وسلم قد توقف في موسى، وهل هو داخل في الاستثناء فيمن استثناه الله أم لا؟
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يُخْبَر بكل من استثنى الله، لم يمكننا نحن أن نجزم بذلك، وصار هذا مثل العلم بوقت الساعة وأعيان الأنبياء، وأمثال ذلك مما لم يخبر الله به، وهذا العلم لا ينال إلا بالخبر، والله أعلم " (4) .
(1) الروح لابن القيم: 50.
(2)
فتح الباري: (11/371) .
(3)
التذكرة: ص 167.
(4)
مجموع فتاوي شيخ الإسلام: (4/261) .
ونقل القرطبي عن الحليمي أنه أبى أن يكون المستثنون هم حملة العرش أو جبرائيل وميكائيل وملك الموت، أو الولدان والحور العين في الجنة، أو موسى، ثم بيَّن سر إنكاره لهذا فقال: " أما الأول، فإن حملة العرش ليسوا من سكان السماوات ولا الأرض، لأن العرش فوق السماوات كلها، فكيف يكون حملته في السماوات.
وأما جبرائيل وميكائيل وملك الموت فمن الصافين المسبحين حول العرش، وإذا كان العرش فوق السماوات، لم يكن الاصطفاف حوله في السماوات. وكذلك القول الثاني لأن الولدان والحور العين في الجنان، والجنان وإن كان بعضها أرفع من بعض، فإن جميعها فوق السماوات ودون العرش، وهي بانفرادها عالم مخلوق للبقاء، فلا شك أنها بمعزل عما خلق الله تعالى للفناء، وصَرْفُه إلى موسى لا وجه له، لأنه قد مات بالحقيقة، فلا يموت عند نفخ الصور ثانية " (1) .
ورد قول الذين قالوا المستثنون هم الأموات: " لأن الاستثناء إنما يكون لمن يمكن دخوله في الجملة، فأما من لا يمكن دخوله في الجملة فيها، فلا معنى لاستثنائه منها، والذين ماتوا قبل نفخ الصور ليسوا بفرض أن يصعقوا فلا وجه لاستثنائهم "(2) .
والذي اختاره أن الغشية التي تصيب موسى ليست هي الصعقة التي تهلك الناس وتميتهم، وإنما هي صعقة تصيب الناس في الموقف بعد البعث، على أحد الاحتمالين عنده.
ونقل القرطبي عن شيخه أحمد بن عمر أنه ذهب هذا المذهب، قال
(1) التذكرة للقرطبي: ص 168.
(2)
التذكرة: ص168.
القرطبي: " قال شيخنا أحمد بن عمر: وظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن ذلك إنما هو بعد النفخة الثانية نفخة البعث، ونص القرآن يقتضي أن ذلك الاستثناء إنما هو بعد نفخة الصعق، ولما كان هذا قال بعض العلماء: يحتمل أن يكون موسى عليه السلام ممن لم يمت من الأنبياء، وهذا باطل، بما تقدم من ذكر موته.
وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون المراد بهذه صعقة فزع بعد النشر، حين تنشق السماوات والأرض فتستقل الأحاديث والآيات والله أعلم " (1) .
وقد جزم ابن القيم رحمه الله تعالى بأن الصعقة التي تحدّث عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، هي صعقة تكون بعد البعث، وهي المراد بقوله تعالى:(فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ)(2)[الطور: 45] . والله أعلم بالصواب.
(1) التذكرة: ص168.
(2)
الروح: ص 52.