المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل السابع أهوال يوم القيامة - القيامة الكبرى

[عمر سليمان الأشقر]

الفصل: ‌الفصل السابع أهوال يوم القيامة

‌الفصل السابع أهَوال يوم القيَامَة

المَبحَث الأول

الدلائل عَلى عظَم أهوال ذلك اليَوم

يوم القيامة يوم عظيم أمره، شديد هوله، لا يلاقي العباد مثله، ويدل على عظم هوله أمور:

الأول: وصفُ الله لذلك اليوم بالعظم، وحسبنا أن ربنا وصفه بذلك، ليكون أعظم مما نتصور، وأكبر مما نتخيل (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ - لِيَوْمٍ عَظِيمٍ - يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين: 4-6] ، ووصفه في موضع آخر بالثقل، وفي موضع ثالث بالعسر، (إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا) [الدهر: 27] ، (فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ - عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) [المدثر: 9-10] .

الثاني: الرعب والفزع الذي يصيب العباد في ذلك اليوم، فالمرضع التي تفدي وليدها بنفسها تذهل عنه في ذلك اليوم، والحامل تسقط حملها، والناس يكون حالهم كحال السكارى الذين فقدوا عقولهم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ - يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ

ص: 95

شَدِيدٌ) [الحج: 1-2] .

ولشدة الهول تشخص أبصار الظلمة في ذلك اليوم، فلا تطرف لشدة الرعب، ولا يلتفتون يميناً ولا شمالاً، ولشدة الخوف تصبح أفئدتهم خالية لا تعي شيئاً ولا تعقل شيئاً (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ - مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء) [إبراهيم: 42-43] .

وترتفع قلوب الظالمين لشدة الهول إلى حناجرهم، فلا تخرج، ولا تستقر في مكانها (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ) [غافر: 18] . ومعنى كاظمين، أي: ساكتين لا يتكلمون.

ووصف في موضع آخر ما يصيب القلوب والأبصار في ذلك اليوم فقال: (يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ)[النور: 37]، وقال:(قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ - أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ)[النازعات: 8-9] .

وحسبك أن تعلم أن الوليد الذي لم يرتكب جرماً يشيب شعر رأسه لشدة ما يرى من أهوال (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا - السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا)[المزمل: 17-18] .

الثالث: انقطاع علائق الأنساب في يوم القيامة، كما قال تعالى:(فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ)[المؤمنون: 101] ، فكل إنسان في ذلك

ص: 96

اليوم يهتم بنفسه، ولا يلتفت إلى غيره، بل إن الإنسان يفر من أحب الناس إليه، يفر من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبَنيه، كما قال تعالى:(فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ - يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ - وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ - وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ - لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)[عبس: 33-37] .

وقال في موضع آخر: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)[لقمان: 33]، وقال:(وَاتَّقُواْ يَوْماً لَاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ)[البقرة: 48] .

الرابع: استعداد الكفار في يوم الدين لبذل كل شيء في سبيل الخلاص من العذاب، فلو كانوا يملكون ما في الأرض لافتدوا به (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ) [يونس: 54] . بل لو كان للكافر ضعف ما في الأرض لافتدى به (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ)[الرعد: 18] ، بل هو على استعداد أن يبذل ما عنده ولو كان ملء الأرض ذهباً، وعلى احتمال أن كان الأمر كذلك، فإن الله لا يقبل منه (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ) [آل عمران: 91] .

وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان

ص: 97

يقول: " يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم. فيقال له: قد كنت سألتك ما هو أيسر من ذلك "(1) .

ويصل الحال بالكافر في ذلك اليوم أن يتمنى لو دفع بأعز الناس عنده في النار لينجو هو من العذاب (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ - وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ - وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ - وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ - كَلَّا إِنَّهَا لَظَى)[المعارج: 11-15] .

الخامس: ويدلك على هول ذلك اليوم وشدته: طوله، قال تعالى:(تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ - فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا - إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا - وَنَرَاهُ قَرِيبًا)[المعارج: 4-7] .

وسياق الآيات دلالة واضحة على أن المراد به يوم القيامة، وقد ثبت بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه يوم القيامة، وبذلك قال الحسن، والضحاك، وابن زيد (2) . ولطول ذلك اليوم يظن الناس في يوم المعاد أنهم لم يلبثوا في الحياة الدنيا إلا ساعة من نهار، كما قال تعالى:(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلَاّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ)[يونس: 45]، قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: " يقول تعالى مذكراً للناس قيام الساعة ويحشرهم من أجداثهم إلى عرصات القيامة: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ..) .

(1) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب من نوقش الحساب عذب، فتح الباري:(11/400) .

(2)

النهاية لابن كثير: (1/323) .

ص: 98

كقوله: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا)[النازعات: 46] . وقال تعالى: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا)[طه: 104]، وقال تعالى:(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ)[الروم: 55] ، وهذا دليل على استقصار الحياة الدنيا في الدار الآخرة، كقوله:(قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ - قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ - قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)[المؤمنون: 112-114](1) .

(1) تفسير ابن كثير: (3/505) .

ص: 99

بَعض معَالم أهَوال القيَامَة (الجزء الأول)

يحدثنا القرآن عن أهوال ذلك اليوم التي تَشْدَه الناس، وتشدُّ أبصارهم، وتملك عليهم نفوسهم، وتزلزل قلوبهم.

ومن أعظم تلك الأهوال ذلك الدمار الكوني الشامل الرهيب الذي يصيب الأرض وجبالها، والسماء ونجومها وشمسها وقمرها.

يحدثنا ربنا أن الأرض تزلزل وتدكُّ، وأن الجبال تُسَيَّر وتنسف، والبحار تُفجّر وتُسجَّر، والسماء تتشقق وتمور، والشمس تُكوَّر وتذهب، والقمر يخسف، والنجوم تنكدر ويذهب ضوؤها، وينفرط عقدها.

وسأذكر بعض النصوص التي تصور وقائع تلك الأهوال ثم أذكر ما يحدث لكل واحد من العوالم العظيمة في ذلك اليوم.

المطلب الأول

قبض الأرض وطي السماء

يقبض الحق تبارك وتعالى الأرض بيده في يوم القيامة، ويطوي السماوات بيمينه، كما قال تبارك وتعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ

ص: 100

يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر: 67] .

وقد أخبرنا في موضع آخر عن كيفية طيه للسماوات فقال: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ)[الأنبياء: 104] .

قال ابن كثير: " والصحيح عن ابن عباس أن السجل هي الصحيفة، قاله علي بن أبي طلحة، والعوفي عنه، ونص على ذلك مجاهد وقتادة وغير واحد، واختاره ابن جرير، لأنه المعروف في اللغة، فعلى هذا فيكون معنى الكلام يوم تطوى السماء كطي السجل للكتاب، أي على الكتاب، بمعنى المكتوب "(1) .

وقد جاءت الأحاديث الصحيحة دالة على مثل ما دلت عليه النصوص القرآنية، وهي ما يقوله الحق تبارك وتعالى بعد قبضه الأرض، وطيه السماء، ففي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض "(2) .

وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرض بشماله - وفي رواية: يأخذهن بيده الأخرى - ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون، أين المتكبرون؟ "(3) .

(1) تفسير ابن كثير: (4/602) .

(2)

مشكاة المصابيح: (3/53)، ورقمه:5522.

(3)

مشكاة المصابيح: (3/53)، ورقمه:5523.

ص: 101

وروى البخاري عن عبد الله بن مسعود أن يهودياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إن الله يمسك السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، والخلائق على إصبع ثم يقول: أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قرأ:(وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)[الزمر: 67](1) .

وهذا القبض للأرض والطي للسماوات يقع بعد أن يفني الله خلقه، وقيل: إن المنادي ينادي بعد حشر الخلق على أرض بيضاء مثل الفضة، لم يعص الله عليها، واختاره أبو جعفر النحاس، قال: والقول الصحيح عن ابن مسعود، وليس هو مما يؤخذ بالقياس، ولا بتأويل.

وقال القرطبي: " والقول الأول أظهر، لأن المقصود إظهار انفراده بالملك، عند انقطاع دعوى المدعين، وانتساب المنتسبين، إذ قد ذهب كل ملك وملكه، وكل جبار ومتكبر وملكه، وانقطعت نسبهم ودعاويهم، وهذا أظهر "(2) .

المطلب الثاني

دك الأرض ونسف الجبال

يخبرنا ربنا تبارك وتعالى أن أرضنا الثابتة، وما عليها من جبال صم راسية تحمل في يوم القيامة عندما ينفخ في الصور فتدك دكة واحدة: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ

(1) صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قوله الله تعالى:(لما خلقت بيديَّ)[ص: 75]، فتح الباري:(13/393) .

(2)

تذكرة القرطبي: 172.

ص: 102

نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ - وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً - فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ) [الحاقة: 13-15]، (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) [الفجر: 21] ، وعند ذلك تتحول هذه الجبال الصلبة القاسية إلى رمل ناعم، كما قال تعالى:(يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا)[المزمل: 14] ، أي تصبح ككثبان الرمل بعد أن كانت حجارة صماء، والرمل المهيل: هو الذي إذا أخذت منه شيئاً تبعك ما بعده، يقال: أهلت الرمل أهيله هيلاً، إذا حركت أسفله حتى انهال من أعلاه.

وأخبر في موضع آخر أن الجبال تصبح كالعهن، والعهن هو الصوف، كما قال تعالى:(وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ)[المعارج: 9]، وفي نص آخر مثلّها بالصوف المنفوش:(وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ)[القارعة: 5] .

ثم إن الحق تبارك وتعالى يزيل هذه الجبال عن مواضعها، ويسوّي الأرض حتى لا يكون فيها موضع مرتفع، ولا منخفض، وعبّر القرآن عن إزالة الجبال بتسييرها مرة، وبنسفها أخرى (وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ) [التكوير: 3] ، (وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا) [النبأ: 20] . وقال في نَسْفِه لها: (وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ)[المرسلات: 10] . ثم بين الحق حال الأرض بعد تسيير الجبال ونسفها (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً)[الكهف: 47] ، أي ظاهرة لا ارتفاع فيها ولا انخفاض، كما قال تعالى:(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا - فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا - لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا)[طه: 105-107] .

ص: 103

المطلب الثالث

تفجير البحار وتسجيرها

أما هذه البحار التي تغطي الجزء الأعظم من أرضنا، وتعيش في باطنها عوالم هائلة من الأحياء، وتتهادى فوقها السفن ذاهبة آيبة، فإنها تفجر في ذلك اليوم، وقد علمنا في هذا العصر الهول العظيم الذي يحدثه انفجار الذرات الصغيرة التي هي أصغر من ذرات الماء، فكيف إذا فجرت ذرات المياه في هذه البحار العظيمة، عند ذلك تسجر البحار، وتشتعل ناراً، ولك أن تتصور هذه البحار العظيمة الهائلة وقد أصبحت مادة قابلة للاشتعال، كيف يكون منظرها، واللهب يرتفع منها إلى أجواز الفضاء، قال تعالى:(وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ)[الإنفطار: 3]، وقال:(وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ)[التكوير: 6] .

وقد ذهب المفسرون قديماً إلى أن المراد بتفجير البحار، تشقق جوانبها وزوال ما بينها من الحواجز، واختلاط الماء العذب بالماء المالح، حتى تصير بحراً واحداً (1) ، وما ذكرناه أوضح وأقرب، فإن التفجير بالمعنى الذي ذكرناه مناسب للتسجير، والله أعلم بالصواب.

المطلب الرابع

موران السماء وانفطارها

أما سماؤنا الجميلة الزرقاء التي ننظر إليها فتنشرح صدورنا، وتسر قلوبنا، فإنها تمور موراناً، وتضطرب اضطراباً عظيماً (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْرًا) [الطور: 9] .

(1) تفسير الألوسي: (30/63) .

ص: 104

ثم تنفطر، وتتشقق (إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ) [الانفطار: 1] ، (إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ - وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ) [الانشقاق: 1-2] .

وعند ذلك تصبح ضعيفة واهية، كالقصر العظيم، المتين البنيان، الراسخ الأركان، عندما تصيبه الزلازل، تراه بعد القوة أصبح واهياً ضعيفاً متشققاً، (وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ) [الحاقة: 16] .

أما لون السماء الأزرق الجميل فإنه يزول ويذهب، وتأخذ السماء في التلون في ذلك اليوم كما تتلون الأصباغ التي يدهن بها، فتارة حمراء، وتارة صفراء، وأخرى خضراء، ورابعة زرقاء، كما قال تعالى:(فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ)[الرحمن: 37] ، وقد نقل عن ابن عباس أن السماء تكون في ذلك اليوم كالفرس الورد، والفرس الورد - كما يقول البغوي: تكون في الربيع صفراء، وفي الشتاء حمراء، فإذا اشتد البرد تغير لونها، وقال الحسن البصري في قوله:(وردةً كالدهان) أي تكون ألواناً (1) .

بَعض معَالم أهَوال القيَامَة (الجزء الثاني)

المطب الخامس

تكوين الشمس وخسوف القمر وتناثر النجوم

أما هذه الشمس التي نراها تشرق كل صباح، فتغمر أرضنا بالضياء، وتمدنا بالنور والطاقة التي لا غنى عنها لأبصارنا وأبداننا، وما يدب على الأرض من

(1) تفسير ابن كثير: (6/494) .

ص: 105

أحياء، وما ينمو فيها من نبات، فإنها تجمع وتكوَّر، ويذهب ضوؤها، كما قال تعالى:(إذا الشمس كورت)[التكوير: 1]، والتكوير عند العرب: جمع الشيء بعضه على بعض، ومنه تكوير العمامة، وجمع الثياب بعضها على بعض، وإذا جمع بعض الشمس على بعض، ذهب ضوؤها ورمى بها.

أما القمر الذي نراه في أول كل شهر هلالاً، ثم يتكامل ويتنامى، حتى يصبح بدراً جميلاً بديعاً، يتغنى بجماله الشعراء، ويؤنس المسافرين حين يسيرون في الليل، فإنه يخسف ويذهب ضوؤه (فإذا برق البصر - وخسف القمر) [القيامة: 7-8] .

أما تلك النجوم المتناثرة في القبة السماوية الزرقاء، فإن عقدها ينفرط، فتتناثر وتنكدر (وإذا الكواكب انتثرت) [الانفطار: 2] ، (وإذا النجوم انكدرت) [التكوير: 2] ، والانكدار، الانتثار، وأصله في لغة العرب: الانصباب (1) .

المطلب السادس

تفسير القرطبي للنصوص الواصفة لأهوال يوم القيامة

قال القرطبي: " روى الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سره أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ: (إذا الشمس كورت)[التكوير: 1]، (إذا السماء انفطرت) [الانفطار: 1] ، (إذا السماء انشقت) [الانشقاق: 1] .

(1) تفسير ابن كثير: (7/221) .

ص: 106

قال: هذا حديث حسن (1) .

وإنما كانت هذه السور الثلاث أخص بالقيامة، لما فيها من انشقاق السماء وانفطارها، وتكور شمسها وانكدار نجومها، وتناثر كواكبها، إلى غير ذلك من أفزاعها وأهوالها، وخروج الخلق من قبورهم إلى سجونهم أو قصورهم، بعد نشر صحفهم، وقراءة كتبهم، وأخذها بأيمانهم وشمائلهم، أو من وراء ظهورهم في موقفهم على ما يأتي بيانه.

قال الله تعالى: (إذا السماء انشقت)[الانشقاق: 1] . وقال (إذا السماء انفطرت)[الانفطار: 1]، وقال:(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ)[الفرقان: 25] ، فتراها واهية منفطرة متشققة، كقوله تعالى:(وفتحت أبواب السماء فكانت أبواباً)[النبأ: 19] ، ويكون الغمام سترة بين السماء والأرض، وقيل إن الباء بمعنى عن، أي: تشقق عن سحاب أبيض، ويقال: انشقاقها لما يخلص إليها من حر جهنم، وذلك إذا بطلت المياه، وبرزت النيران، فأول ذلك أنها تصير حمراء صافية كالدهن، وتتشقق لما يريد الله من نقض هذا العالم، ورفعه. وقد قيل: إن السماء تتلون، فتصفر، ثم تحمر، أو تحمر، ثم تصفر، كالمهرة تميل في الربيع إلى الصفرة، فإذا اشتد الحر مالت إلى الحمرة، ثم إلى الغبرة، قاله الحليمي.

وقوله تعالى: (إذا الشمس كورت)[التكوير: 1]، قال ابن عباس رضي الله عنه:

(1) حديث صحيح رواه الترمذي والحاكم وأحمد، انظر صحيح الجامع:(3/301) ورقم الحديث: 6191.

ص: 107

تكويرها إدخالها في العرش. وقيل: ذهاب صفوها، قاله الحسن وقتادة، وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد. وقال أبو عبيدة: كورت مثل تكوير العمامة، تلف فتمحى. وقال الربيع بن خثيم: كورت رمي بها، ومنه: كورته، فتكور،. أي: سقط. قلت: وأصل التكوير الجمع، مأخوذ من كار العمامة على رأسه يكورها، أي: لاثها، وجمعها، فهي تكور، ثم يمحو ضوءها ثم يرمى بها، والله أعلم.

وقوله تعالى: (وإذا النجوم انكدرت)[التكوير: 2]، أي: انتشرت، قيل: تتناثر من أيدي الملائكة، لأنهم يموتون، وفي الخبر أنها معلقة بين السماء والأرض بسلاسل بأيدي الملائكة. وقال ابن عباس رضي الله عنه: انكدرت تغيرت، وأصل الانكدار الانصباب، فتسقط في البحار، فتصير معها نيراناً، إذا ذهبت المياه.

وقوله: (وإذا الجبال سيرت)[التكوير: 3]، هو مثل قوله:(ويوم نسير الجبال)[الكهف: 47]، أي: تحول عن منزلة الحجارة، فتكون كثيباً مهيلاً، أي: رملاً سائلاً، وتكون كالعهن، وتكون هباء منبثاً، وتكون سراباً، مثل السراب الذي ليس بشيء. وقيل: إن الجبال بعد اندكاكها أنها تصير كالعهن من حر جهنم، كما تصير السماء من حرها كالمهل.

قال الحليمي: وهذا والله أعلم لأن مياه الأرض كانت حاجزة بين السماء والأرض، فإذا ارتفعت، وزيد مع ذلك في إحماء جهنم أثر في كل واحد من السماء والأرض ما ذكر.

وقوله: (وإذا العشار عطلت)[التكوير: 4] أي: عطلها أهلها، فلم تحلب من

ص: 108

الشغل بأنفسهم. والعشار: الإبل الحوامل، واحدها عشر، وهي التي أتى عليها في الحمل عشرة أشهر، ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع، وبعدما تضع، وإنما خص العشار بالذكر، لأنها أعز ما يكون على العرب، فأخبر أنها تعطل يوم القيامة. ومعناه أنهم إذا قاموا من قبورهم، وشاهد بعضهم بعضاً ورأوا الوحوش والدواب محشورة، وفيها عشارهم التي كانت أنفس أموالهم، لم يعبؤوا بها، ولم يهمهم أمرها، ويحتمل تعطل العشار إبطال الله تعالى أملاك الناس عما كان ملَّكهم إياها في الدنيا، وأهل العشار يرونها، فلا يجدون إليها سبيلاً. وقيل: العشار: السحاب، يعطل مما يكون فيه، وهو الماء، فلا يمطر. وقيل: العشار الديار، تعطل فلا تسكن. وقيل: الأرض التي يعشر زرعها تعطل فلا تزرع، والقول الأول أشهر وعليه من الناس الأكثر.

وقوله: (وإذا الوحوش حشرت)[التكوير: 5] أي: جمعت، والحشر الجمع، وقد تقدم.

وقوله (وإذا البحار سجرت)[التكوير: 6] أي: أوقدت، وصارت ناراً. رواه الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنه. وقال قتادة: غار ماؤها، فذهب. وقال الحسن والضحاك: فاضت. قال ابن أبي زمنين: سجرت حقيقته ملئت، فيفضي بعضها إلى بعض، فتصير شيئاً واحداً. وهو معنى قول الحسن. ويقال: إن الشمس تلف، ثم تلقى في البحار، فمنها تحمى، وتنقلب ناراً. قال الحليمي: ويحتمل إن كان هذا هكذا أن البحار في قول من فسر التسجير بالامتلاء هو أن النار حينئذ تكون أكثرها، لأن الشمس أعظم من الأرض مرات كثيرة، فإذا كورت، وألقيت في البحر، فصارت ناراً، ازدادت امتلاءً.

ص: 109

وقوله: (وإذا النفوس زوجت)[التكوير: 7] تفسير الحسن أن تلحق كل شيعة شيعتها: اليهود باليهود، والنصارى بالنصارى، والمجوس بالمجوس، وكل من كان يعبد من دون الله شيئاً يلحق بعضهم ببعض، والمنافقون بالمنافقين، والمؤمنون بالمؤمنين. وقال عكرمة: المعنى تقرن بأجسادها، أي: ترد إليها، وقيل: يقرن الغاوي بمن أغواه من شيطان أو إنسان. يقرن المؤمنون بالحور العين، والكافرون بالشياطين.

وقوله: (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ)[التكوير: 8] يعني بنات الجاهلية، كانوا يدفنوهن أحياء، لخصلتين: إحداهما: كانوا يقولون: إن الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات به. الثانية: مخافة الحاجة والإملاق، وسؤال الموءودة على وجه التوبيخ لقاتلها، كما يقال للطفل إذا ضرب: لم ضربت؟ وما ذنبك؟ وقال الحسن: أراد الله أن يوبخ قاتلها، لأنها قتلت بغير ذنب. وبعضهم يقرأ: وإذا الموءودة سألت، تعلق الجارية بأبيها، فتقول: بأي ذنب قتلتني؟ وقيل: معنى سئلت، يسأل عنها كما قال:(إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً)[الإسراء: 34] .

وقوله: (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ)[التكوير: 10] أي: للحساب وسيأتي.

وقوله: (وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ)[التكوير: 11] قيل: معناه طويت، كما قال الله تعالى:(يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ)[الأنبياء: 104]، أي: كطي الصحيفة على ما فيها، فاللام بمعنى (على)، يقال: كشطت السقف، أي: قلعته، فكان

ص: 110

المعنى: قلعت، فطويت والله أعلم، والكشط والقشط سواء، وهو القلع، وقيل: السجل كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرف في الصحابة من اسمه سجل.

وقوله: (وإذا الجحيم سعرت)[التكوير: 12]، أي: أوقدت. وقوله: (وإذا الجنة أزلفت)[التكوير: 13] أي: قربت لأهلها، وأدنيت.

(علمت نفس ما أحضرت)[التكوير: 14] أي: من عملها، وهو مثل قوله:(علمت نفس ما قدمت وأخرت)[الانفطار: 5] .

ومما قيل في وصف أهوال ذلك اليوم شعراً (1) :

مثِّل لنفسك أيها المغرور ××× يوم القيامة والسماء تمور

إذ كورت شمس النهار وأدنيت ××× حتى على رأس العباد تسير

وإذا النجوم تساقطت وتناثرت ××× وتبدلت بعد الضياء كدور

وإذا البحار تفجرت من خوفها ××× ورأيتها مثل الجحيم تفور

وإذا الجبال تقلعت بأصولها ××× فرأيتها مثل السحاب تسير

وإذا العشار تعطلت وتخربت ××× خلت الديار فما بها معمور

وإذا الوحوش لدى القيامة أحشرت ××× وتقول للأملاك أين تسير

وإذا تقاة المسلمين تزوجت ××× من حور عين زانهن شعور

وإذا الموءودة سئلت عن شأنها ××× وبأي ذنب قتلها ميسور

وإذا الجليل طوى السماء بيمينه ××× طي السجل كتابه المنشور

(1) التذكرة للقرطبي: 214.

ص: 111

وإذا الصحائف نشرت فتطايرت ××× وتهتكت للمؤمنين ستور

وإذا السماء تكشطت عن أهلها ××× ورأيت أفلاك السماء تدور

وإذا الجحيم تسعرت نيرانها ××× فلها على أهل الذنوب زفير

وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت ××× لفتى على طول البلاء صبور

وإذا الجنين بأمه متعلق ××× يخشى القصاص وقلبه مذعور

هذا بلا ذنب يخاف جنينه ××× كيف المصر على الذنوب دهور

المطلب السابع

المحاسبي يصور أهوال ذلك اليوم

يقول الحارث المحاسبي رحمه الله واصفاً ما يقع في ذلك اليوم من أهوال: " حتى إذا تكاملت عدة الموتى، وخلت من سكانها الأرض والسماء، فصاروا خامدين بعد حركاتهم، فلا حس يسع، ولا شخص يُرى، وقد بقي الجبار الأعلى كما لم يزل أزلياً واحداً منفرداً بعظمته وجلاله، ثم لم يفجأ روحك إلا بنداء المنادي لكل الخلائق معك للعرض على الله عز وجل بالذل والصغار منك ومنهم. فتوهم كيف وقوع الصوت في مسامعك وعقلك، وتفهم بعقلك بأنك تدعى إلى العرض على الملك الأعلى، فطار فؤادك، وشاب رأسك للنداء، لأنها صيحة واحدة للعرض على ذي الجلال والإكرام والعظمة والكبرياء - فبينما أنت فزع للصوت إذ سمعت بانفراج الأرض عن رأسك، فوثبت مغبراً من قرنك إلى قدمك بغبار قبرك، قائماً على قدميك، شاخصاً ببصرك نحو النداء، وقد ثار الخلائق كلهم معك ثورة واحدة، وهم مغبرون من غبار الأرض التي طال فيها بلاؤهم.

فتوهم ثورتهم بأجمعهم بالرعب والفزع منك ومنهم، فتوهم نفسك بعريك ومذلتك وانفرادك بخوفك وأحزانك وغمومك وهمومك في زحمة الخلائق، عراة

ص: 112

حفاة صموت أجمعون بالذلة والمسكنة والمخافة والرهبة، فلا تسمع إلا همس أقدامهم والصوت لمدة المنادي، والخلائق مقبلون نحوه، وأنت فيهم مقبل نحو الصوت، ساعٍ بالخشوع والذلة، حتى إذا وافيت الموقف ازدحمت الأمم كلها من الجن والإنس عراة حفاة، قد نزع الملك من ملوك الأرض، ولزمتهم الذلة والصغار، فهم أذل أهل الجمع وأصغرهم خلقة وقدراً بعد عتوهم وتجبرهم على عباد الله عز وجل في أرضه.

ثم أقبلت الوحوش من البراري وذرى الجبال منكسة رؤوسها لذل يوم القيامة بعد توحشها وانفرادها من الخلائق ذليلة ليوم النشور لغير بلية نابتها ولا خطيئة أصابتها، فتوهم إقبالها بذلها في اليوم العظيم ليوم العرض والنشور.

وأقبلت السباع بعد ضراوتها وشهامتها منكّسة رؤوسها ذليلة ليوم القيامة حتى وقفت من وراء الخلائق بالذل والمسكنة والانكسار للملك الجبار، وأقبلت الشياطين بعد عتوها وتمردها خاشعة لذل العرض على الله سبحانه فسبحان الذي جمعهم بعد طول البلاء، واختلاف خلقهم وطبائعهم وتوحش بعضهم من بعض، قد أذلهم البعث وجمع بينهم النشور.

حتى إذا تكاملت عدة أهل الأرض من إنسها وجنها وشياطينها ووحوشها وسباعها وأنعامها وهوامها، واستووا جميعاً في موقف العرض والحساب تناثرت نجوم السماء من فوقهم، وطمست الشمس والقمر، وأظلمت الأرض بخمود سراجها وإطفاء نورها. فبينما أنت والخلائق على ذلك إذ صارت السماء الدنيا من فوقهم، فدارت بعظمها من فوق رؤوسهم، وذلك بعينك تنظر إلى هول ذلك، ثم انشقت بغلظها خمسمائة عام، فيا هول صوت انشقاقها في سمعك، ثم تمزقت

ص: 113

وانفطرت بعظيم هول يوم القيامة والملائكة قيام على أرجائها وهي حافات ما يتشقق ويتفطر، فما ظنك بهول تنشق فيه السماء بعظمها، فأذابها ربها حتى صارت كالفضة المذابة تخالطها صفرة لفزع يوم القيامة كما قال الجليل الكبير:(فكانت وردةً كالدهان)[الرحمن: 37]، (يوم تكون السماء كالمهل - وتكون الجبال كالعهن) [المعارج: 8-9] .

فبينا ملائكة السماء الدنيا على حافتها إذ انحدروا محشورين إلى الأرض للعرض والحساب، وانحدروا من حافتيها بعظم أجسامهم وأخطارهم وعلو أصواتهم بتقديس الملك الأعلى الذي أنزلهم محشورين إلى الأرض بالذلة والمسكنة للعرض عليه والسؤال بين يديه.

فتوهم تحدرهم من السحاب بعظيم أخطارهم وكبير أجسامهم وهول أصواتهم وشدة فرقهم منكسين لذل العرض على الله عز وجل. فيا فزعك وقد فزع الخلائق مخافة أن يكونوا أمروا بهم، ومسألتهم إياهم: أفيكم ربنا؟ ففزع الملائكة من سؤالهم إجلالاً لمليكهم أن يكون فيهم، فنادوا بأصواتهم تنزيهاً لما توهمه أهل الأرض: سبحان ربنا، ليس هو بيننا، ولكنه آتٍ من بعد، حتى أخذوا مصافهم محدقين بالخلائق منكسين رؤوسهم لذل يومهم. فتوهمهم، وقد تسربلوا بأجنحتهم، ونكسوا رؤوسهم في عظم خلقهم بالذل والمسكنة والخشوع لربهم، ثم كل شيء على ذلك وكذلك إلى السماء السابعة، كل أهل سماء مضعفين بالعدد، وعظم الأجسام، وكل أهل سماء محدقين بالخلائق صفاً واحداً.

حتى إذا وافى الموقف أهل السماوات السبع والأرضين السبع كسيت الشمس حر عشر سنين وأدنيت من رؤوس الخلائق قاب قوس أو قوسين، ولا

ص: 114

ظِلَّ لأحد إلا ظل عرش رب العالمين، فمن بين مستظل بظل العرش، وبين مضحو بحر الشمس، قد صهرته بحرها، واشتد كربه وقلقه من وهجها، ثم ازدحمت الأمم وتدافعت، فدفع بعضهم بعضاً، وتضايقت فاختلفت الأقدام وانقطعت الأعناق من العطش، واجتمع حر الشمس ووهج أنفاس الخلائق وتزاحم أجسامهم، ففاض العرق منهم سائلاً حتى استنقع على وجه الأرض ثم على الأبدان على قدر مراتبهم ومنازلهم عند الله عز وجل بالسعادة والشقاء ، حتى إذا بلغ من بعضهم العرق كعبيه، وبعضهم حقويه، وبعضهم إلى شحمه أذنيه، ومنهم من كاد أن يغيب في عرقه، ومن قد توسط العرق من دون ذلك منه.

عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الرجل (وقال مرة: إن الكافر) ليقوم يوم القيامة في بحر رشحه إلى أنصاف أذنيه من طول القيام "[متفق عليه] .

وعن عبد الله رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الكافر يلجم بعرقه يوم القيامة من طول ذلك اليوم، (وقال علي: من طول القيام. قالا جميعاً) حتى يقول: رب أرحني ولو إلى النار. وأنت لا محالة أحدهم، فتوهم نفسك راجعة لكربك وقد علاك العرق، وأطبق عليك الغم، وضاقت نفسك في صدرك من شدة العرق والفزع والرعب، والناس معك منتظرون لفصل القضاء إلى دار السعادة أو إلى دار الشقاء، حتى إذا بلغ المجهود منك ومن الخلائق منتهاه، وطال وقوفهم لا يكلمون ولا ينظرون في أمورهم.

عن قتادة أو كعب، قال:(يوم يقوم الناس لرب العالمين)[المطففين: 6] . قال: " يقومون مقدار ثلاثمائة عام، وقال سمعت الحسن يقول: ما ظنك بأقوام قاموا لله عز وجل على أقدامهم مقدار خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكلة، ولم يشربوا فيها شربة،

ص: 115

حتى إذا انقطعت أعناقهم من العطش، واحترقت أجوافهم من الجوع انصرف بهم إلى النار، فسقوا من عين آنية قد آن حرها، واشتد نفحها.

فلما بلغ المجهود منهم ما لا طاقة لهم به، كلَّم بعضهم بعضاً في طلب من يكرم على مولاه أن يشفع لهم في الراحة من مقامهم ووقفهم لينصرفوا إلى الجنة أو إلى النار من وقوفهم، ففزعوا إلى آدم ونوح ومن بعده إبراهيم، وموسى وعيسى من بعد إبراهيم، كلهم يقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله، فكلهم يذكر شدة غضب ربه عز وجل، وينادي بالشغل بنفسه فيقول: نفسي نفسي، فيشتغل بنفسه عن الشفاعة لهم إلى ربهم لاهتمامه بنفسه وخلاصها، وكذلك يقول الله عز وجل (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها) [النحل: 111] .

فتوهم أصوات الخلائق وهم ينادون بأجمعهم، منفرد كل واحد منهم بنفسه، ينادي نفسي نفسي، فلا تسمع إلا قول نفسي نفسي. فيا هول ذلك وأنت تنادي معهم بالشغل بنفسك والاهتمام بخلاصها من عذاب ربك وعقابه، فما ظنك بيوم ينادي فيه المصطفى آدم، والخليل إبراهيم، والكليم موسى، والروح والكلمة عيسى مع كرامتهم على الله عز وجل وعظم قدر منازلهم عند الله عز وجل، كل ينادي: نفسي نفسي، شفقاً من شدة غضب ربه، فأين أنت منهم في إشفاقك في ذلك اليوم واشتغالك، وبحزنك وبخوفك؟ حتى إذا أيس الخلائق من شفاعتهم لما رأوا من اشتغالهم لأنفسهم، أتوا النبي محمداً صلى الله عليه وسلم فسألوه الشفاعة إلى ربهم فأجابهم إليها، ثم قام إلى ربه عز وجل واستأذن عليه، فأذن له، ثم خر لربه

ص: 116

ساجداً، ثم فتح عليه من محامده والثناء عليه لما هو أهله، وذلك كله بسمعك وأسماع الخلائق، حتى أجابه ربه عز وجل إلى تعجيل عرضهم والنظر في أمورهم (1) .

(1) كتاب التوهم والأهوال للحارث بن أسد المحاسبي: ص5.

ص: 117