الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني عشر الميزان
المطلب الأول
تعريفه
في ختام ذلك اليوم ينصب الميزان لوزن أعمال العباد، يقول القرطبي:" وإذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال، لأن الوزن للجزاء، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة، فإن المحاسبة لتقدير الأعمال، والوزن لإظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها "(1) .
وقد دلت النصوص على أن الميزان ميزان حقيقي، لا يقدر قدره إلا الله تعالى، فقد روى الحاكم عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" يوضع الميزان يوم القيامة، فلو وزن فيه السماوات والأرض لوسعت. فتقول الملائكة: يا رب لمن يزن هذا؟ فيقول الله تعالى: لمن شئت من خلقي. فتقول الملائكة: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك "(2) .
وهو ميزان دقيق لا يزيد ولا ينقص (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)[الأنبياء: 47] .
(1) تذكرة القرطبي: 309.
(2)
سلسلة الأحاديث الصحيحة: (2/656) . ورقم الحديث: 941.
وقد اختلف أهل العلم في وحدة الميزان وتعدده، فذهب بعضهم إلى أن لكل شخص ميزاناً، خاصاً، أو لكل عمل ميزاناً لقوله تعالى:(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ)[الأنبياء: 47] .
وذهب آخرون إلى أن الميزان واحد، وأن الجمع في الآية إنما هو باعتبار تعدد الأعمال أو الأشخاص.
وقد رجح ابن حجر بعد حكايته للخلاف أن الميزان واحد، قال:" ولا يشكل بكثرة من يوزن عمله، لأن أحوال القيامة لا تكيف بأحوال الدنيا "(1) .
وقال السافريني: " قال الحسن البصري: لكل واحد من المكلفين ميزان. قال بعضهم: الأظهر إثبات موازين يوم القيامة لا ميزان واحد، لقوله تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ) ، وقوله: (فمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) [الأعراف: 8] . قال: وعلى هذا فلا يبعد أن يكون لأفعال القلوب ميزان، ولأفعال الجوارح ميزان، ولما يتعلق بالقول ميزان. أورد هذا ابن عطية وقال: الناس على خلافه، وإنما لكل واحد وزن مختص به، والميزان واحد. وقال بعضهم إنما جمع الموازين في الآية الكريمة لكثرة من توزن أعمالهم. وهو حسن "(2) .
المطلب الثاني
الميزان عند أهل السنة
الميزان عند أهل السنة ميزان حقيقي توزن به أعمال العباد وخالف في هذا المعتزلة، وقلة قليلة من أهل السنة.
(1) فتح الباري: (3/537) .
(2)
لوامع الأنوار البهية: (2/186) .
قال ابن حجر: " قال أبو إسحاق الزجاج: أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان، وأن أعمال العباد توزن به يوم القيامة، وأن الميزان له لسان وكفتان ويميل بالأعمال، وأنكرت المعتزلة الميزان، وقالوا: هو عبارة عن العدل فخالفوا الكتاب والسنة، لأن الله أخبر أنه يضع الموازين لوزن الأعمال، ليرى العباد أعمالهم ممثلة ليكونوا على أنفسهم شاهدين.
وقال ابن فورك: أنكرت المعتزلة الميزان، بناء منهم على أن الأعراض يستحيل وزنها إذ لا تقوم بأنفسها.
قال: وقد روى بعض المتكلمين عن ابن عباس أن الله تعالى يقلب الأعراض أجساماً فيزنها. انتهى.
وقد ذهب بعض السلف إلى أن الميزان بمعنى العدل والقضاء، وعزا الطبري القول بذلك إلى مجاهد.
والراجح ما ذهب إليه الجمهور.
وذكر الميزان عند الحسن فقال: له لسان وكفتان " (1) .
وعزا القرطبي تفسير الميزان بالعدل إلى مجاهد والضحاك والأعمش (2) .
ولعل هؤلاء العلماء فسروا الميزان بالعدل في مثل قوله تعالى: (وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ - أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ - وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ)[الرحمن: 7-9] ، فالميزان في هذه الآية العدل، أمر الله عباده أن يتعاملوا به فيما بينهم، أما الميزان الذي ينصب في يوم القيامة فقد تواترت بذكره الأحاديث، وأنه ميزان حقيقي، وهو ظاهر القرآن (3) .
(1) فتح الباري: (13/538) بتصرف يسير.
(2)
تذكرة القرطبي: 313.
(3)
النهاية لابن كثير: (2/34) .
وقد رد الإمام أحمد على من أنكر الميزان بأن الله تعالى ذكر الميزان في قوله: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة)[الأنبياء: 47] . والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر الميزان يوم القيامة، فمن رد على النبي صلى الله عليه وسلم فقد رد على الله عز وجل (1) .
وقد استدل شيخ الإسلام على أن الميزان غير العدل، وأنه ميزان حقيقي توزن به الأعمال بالكتاب والسنة، فقال:
" الميزان: هو ما يوزن به الأعمال، وهو غير العدل كما دلَّ على ذلك الكتاب والسنة، مثل قوله تعالى:(فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ)[الأعراف: 8]، (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ) [المؤمنون: 103] ، وقوله:(ونضع الموازين القسط ليوم القيامة)[الأنبياء: 47] .
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم ". وقال عن ساقي عبد الله بن مسعود: " لهما في الميزان أثقل من أحد ".
وفي الترمذي وغيره حديث البطاقة، وصححه الترمذي والحاكم وغيرهما في الرجل الذي يؤتى به، فينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، فيوضع في كفة، ويؤتى ببطاقة فيها شهادة أن لا إله إلا الله. قال النبي صلى الله عليه وسلم:" فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ". وهذا وأمثاله مما يبين أن الأعمال توزن بموازين تبين بها رجحان الحسنات على السيئات وبالعكس، فهو ما به تبين العدل، والمقصود بالوزن العدل، كموازين الدنيا.
(1) فتح الباري: (13/538) .
وأما كيفية تلك الموازين فهو بمنزلة كيفية سائر ما أخبرنا به من الغيب " (1) .
وقد رد القرطبي على الذين أنكروا الميزان وأولوا النصوص الواردة فيه وحملوها على غير محملها قائلاً: " قال علماؤنا ولو جاز حمل الميزان على ما ذكروه، لجاز حمل الصراط على الدين الحق، والجنة والنار على ما يرد على الأرواح دون الأجساد من الأحزان والأفراح، والشياطين والجن على الأخلاق المذمومة، والملائكة على القوى المحمودة، وهذا كله فاسد، لأنه رد لما جاء به الصادق، وفي الصحيحين فيعطى صحيفة حسناته، وقوله: فيخرج له بطاقة، وذلك يدل على الميزان الحقيقي، وأن الموزون صحف الأعمال كما بينا وبالله التوفيق "(2) .
المطلب الثالث
ما الذي يوزن في الميزان
اختلف أهل العلم في الموزون في ذلك اليوم على أقوال:
الأول: أن الذي يوزن في ذلك اليوم الأعمال نفسها، وأنها تجسم فتوضع في الميزان، ويدل لذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم "(3) .
وقد دلت نصوص كثيرة على أن الأعمال تأتي في يوم القيامة في صورة الله
(1) مجموع فتاوي شيخ الإسلام: (4/302) .
(2)
التذكرة: 314.
(3)
صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة)، فتح الباري:(13/537)
أعلم بها، فمن ذلك مجيء القرآن شافعاً لأصحابه في يوم القيامة، وأن البقرة وآل عمران تأتيان كأنهما غمامتان أو غيابتان، أو فرقان من طير صواف تحاجّان عن أصحابهما. ففي صحيح مسلم عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه. اقرؤوا الزاهروين: البقرة وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو غيابتان (1) ، أو فرقان (2) من طير صواف تحاجان عن أصحابهما "(3) .
وروى مسلم أيضاً عن النواس بن سمعان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة وآل عمران، كأنهما غمامتان، أو ظلتان بينهما شرق (4) ، أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما "(5) .
وهذا القول رجَّحه ابن حجر العسقلاني ونصره، فقال:" والصحيح أن الأعمال هي التي توزن، وقد أخرج أبو داود والترمذي، وصححه ابن حبان عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما يوضع في الميزان يوم القيامة أثقل من حسن الخلق ".
الثاني: أن الذي يوزن هو العامل نفسه، فقد دلَّت النصوص على أن العباد يوزنون في يوم القيامة، فيثقلون في الميزان أو يخفون بمقدار إيمانهم، لا بضخامة
(1) الغيابة: أقل كثافة من الغمامة، وأقرب إلى رأس صحبها.
(2)
فرقان: طائفتان.
(3)
مشكاة المصابيح: (1/656) ورقم الحديث: 2120.
(4)
شرق، أي: ضوء ونور.
(5)
مشكاة المصابيح: (1/656) . ورقم الحديث: 2121.
أجسامهم، وكثرة ما عليهم من لحم ودهن، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال: اقرؤوا: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) [الكهف: 105] "(1) .
ويؤتى بالرجل النحيف الضعيف دقيق الساقين فإذا به يزن الجبال، روى أحمد في مسنده، عن زر بن حبيش عن ابن مسعود، أنه كان رقيق الساقين، فجعلت الريح تلقيه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" مم تضحكون؟ " قالوا: يا نبي الله من رقة ساقيه ".
قال: " والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد ".
قال ابن كثير: تفرد به أحمد وإسناده جيد قوي (2) .
وما أحسن ما قال الشاعر:
ترى الرجل النحيف فتزدريه ××× وفي أثوابه أسد هرير
ويعجبك الطرير فتبتليه ××× فيخلف ظنك الرجل الطرير
الثالث: أن الذي يوزن إنما هو صحائف الأعمال. فقد روى الترمذي في ((سننه)) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاًَ؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: ألك عذر؟ فيقول: لا يا رب.
(1) صحيح البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة الكهف، فتح الباري:(8/426) .
(2)
النهاية لابن كثير: (2/29) .
فيقول الله تعالى: بلى، إن لك عندنا حسنة، فإنه لا ظلم اليوم، فتخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول: احضر وزنك فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: فإنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله شيء " (1) .
وقد مال القرطبي إلى هذا القول، فقال:" والصحيح أن الموازين تثقل بالكتب فيها الأعمال مكتوبة، وبها تخف،.. قال ابن عمر: توزن صحائف الأعمال، وإذا ثبت هذا فالصحف أجسام، فيجعل الله تعالى رجحان إحدى الكفتين على الأخرى دليلاً على كثرة أعماله بإدخاله الجنة أو النار "(2) .
وقال السافريني: " والحق أن الموزون صحائف الأعمال، وصححه ابن عبد البر والقرطبي وغيرهما، وصوبه الشيخ مرعي في (بهجته) ، وذهب إليه جمهور من المفسرين، وحكاه ابن عطية عن أبي المعالي.. "(3) .
ولعل الحق أن الذي يوزن هو العامل وعمله وصحف أعماله، فقد دلت النصوص التي سقناها على أن كل واحد من هذه الثلاثة يوزن، ولم تنف النصوص المثبتة لوزن الواحد منها أن غيره لا يوزن، فيكون مقتضى الجمع بين النصوص إثبات الوزن للثلاثة المذكورة جميعها.
وهذا ما رجحه الشيخ حافظ الحكمي فقال: " والذي استظهر من
(1) جامع الأصول: (10/459)، ورقمه: 7981، قال محقق الجامع: إسناده صحيح، ورواه ابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، والحاكم والبيهقي وغيرهم.
(2)
تذكرة القرطبي: 313.
(3)
لوامع الأنوار البهية: (2/187) .
النصوص - والله أعلم - أن العامل وعمله وصحيفة عمله - كل ذلك يوزن، لأن الأحاديث التي في بيان القرآن، قد وردت بكل ذلك، ولا منافاة بينها، ويدل كذلك ما رواه أحمد - رحمه الله تعالى - عن عبد الله بن عمرو في قصة صاحب البطاقة بلفظ: قال: قال رسول الله: " توضع الموازين يوم القيامة، فيؤتى بالرجل، فيوضع في كفة، ويوضع ما أحصى عليه، فيمايل به الميزان. قال: فيبعث به إلى النار.
قال: فإذا أدبر، إذا صائح من عند الرحمن عز وجل يقول: لا تعجلوا، فإنه قد بقي له، فيؤتى ببطاقة فيها لا إله إلا الله، فتوضع مع الرجل في كفة، حتى يميل به الميزان ".
فهذا يدل على أن العبد يوضع هو وحسناته وصحيفتها في كفة وسيئاته مع صحيفتها في الكفة الأخرى، وهذا غاية الجمع بين ما تفرق ذكره في سائر أحاديث الوزن، ولله الحمد والمنة " (1) .
المطلب الرابع
الأعمال التي تثقل في الميزان
أثقل ما يوضع في ميزان العبد حسن الخلق، فعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إن أثقل شيء يوضع في ميزان العبد يوم القيامة خلق حسن، وإن الله يبغض الفاحش البذيء ". رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح، وروى أبو داود الفصل الأول (2) .
(1) معارج القبول: (2/272) .
(2)
مشكاة المصابيح: (2/630)، ورقم الحديث:5081.
وفي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم "(1) .
وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن (أو تملأ) . ما بين السماء والأرض "(2) .
وروى البخاري والنسائي وأحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من احتبس فرساً في سبيل الله، إيماناً بالله، وتصديقاً بوعده، كان شبعه وريه، وروثه، وبوله، حسنات في ميزانه يوم القيامة "(3) .
(1) صحيح البخاري: 6682. وصحيح مسلم: 2694.
(2)
صحيح مسلم: (1/203)، ورقم الحديث:223.
(3)
صحيح الجامع الصغير: (5/229)، ورقم الحديث:5843. وانظره في صحيح البخاري برقم: 2853.